نعم؛ وقعت في "التبصرة" اختيارات خرجت عن المذهب، وأيُّ غضاضة في ذلك ما دام المصدرُ كتابَ الله وسنَّةَ رسوله، واللخمي مجتهد يميز الصحيح من السقيم، ويستنبط الأحكام من غير تعصب ولا هوًى ذميم.
ومع ما في "التبصرة" من اختيارات من خارج المذهب فقد تلقاها العلماء بالقبول، ولم يعتَرض عليها بشيء سوى ما قيل من أنَّه لا يفتى بها في المذهب.
وقد رأيتُ من انبرى للدفاع عن التبصرة بإثبات أنَّها من كتب الفتوى عند المالكية، مستدلًا باعتمادها مصدرًا من مصادر الشيخ خليل في مختصره، وضرب آخرون يمنةً ويسرةً وهم يُنَقِّبُون في بطون الكتب ليستدلوا بما وجدوه على مكانة التبصرة وتبرئتها مما رُميَت -في نظرهم- به.
قلتُ: وأيُّ عيبٍ في أن لا تكون "التبصرة" من كتب الفتوى؟ وهل تغمز قناة اللخمي بأنَّ المفتين -على التنزل بإثبات ما نسب إلى بعضهم- لم يكونوا يجيزون الفتوى بما فيها؟
لا، والله، ولكن كثيرًا من القوم أوتوا من قِبَل فهمهم؛ ففهموا الأمور على غير وجهها، ولذلك استحسنتُ أن أتناول هذا المسألة من أكثر من جانب:
الجانب الأول: في تقرير أن قيمة الكتاب عند السادة المالكية ليست منوطة بكونه من كتب الفتوى أو من غيرها، بل بما يحويه من فقهٍ ورواية؛ وها هنا أمران:
الأمر الأول: أن المالكية أكثروا من جمع الفتاوى والتأليف في النوازل الفقهية، وهذه المصنفات تحتوي على فتاوى العالِم الواحد -سواء صنَّفها بنفسه أو جمعها غيره مما أفتى به- أو على فتاوى مجموعة لعدد -قلَّ أو كثُر- من العلماء يضمُّها كتابٌ واحدٌ، ومثل هذا الكتاب يحط من مكانته التحذير
مقدمة / 21