Tabica Wa Ma Bacda Tabica
الطبيعة وما بعد الطبيعة: المادة . الحياة . الله
Genres
وقد وجه هنري برجسون إلى هذا البرهان هجوما لم يخطر لأحد من قبل، قال: إن النظام على نوعين، أحدهما آلي، والآخر إرادي، والنظام ضروري دائما على إحدى هاتين الصورتين، وما يسمى عدم نظام تعبير منا عن حالة لم نكن نتوقعها أو لا نريدها، كما إذا قلنا عن غرفة: إنها غير منظمة، فمعنى هذا أننا كنا نتوقع أن نرى فيها نظاما إراديا، وإذا بنا أمام نظام آلي، ومن هنا نرى أن فكرة عدم النظام فكرة زائفة، وأن من العبث التساؤل عن سبب النظام، فهذه مسألة يجب محوها.
2
وجوابنا أن التسليم بهذين النظامين لا يمنع من تصور عدمهما جميعا. فمن الضروري التساؤل عن سبب النظام متى وجد؛ لأن كل نظام فهو معلول، وليست الآلية مصدر نظام، وعلى ذلك فليس يوجد نظام آلي إلا بافتراض منظم للعلل الفاعلية، فيرجع النظام الآلي إلى الإرادي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن انتظام الموجودات كل في ذاته وكلها فيما بينها، يوجدان في نفس الوقت، فإن النظام العام يعني أن الموجودات مختارة لهذا الغرض من بين الممكنات. وأخيرا إن النظام نسبة الوسائل إلى الغاية، والنسبة أثر من آثار العقل، وعدم النظام أثر عدم العقل، والعلل الفاعلية لا تشرع في العمل إلا إذا كانت موجهة إلى غاية؛ لذا كانت الغاية علة العلل. فمتى وجد النظام وجدت له علة ، وهي علة عاقلة أو مرتبة من عاقل.
ومن الطبيعي أن يخطر اعتراض آخر ، فيقال: كيف يمكن أن تؤثر الغاية غير الموجودة بعد، وأن يؤثر المستقبل في الحاضر، وما ليس موجودا فيما هو موجود؟ وجوابه: أن الغاية علة حقة بما هي متصورة ومرادة، فيسبق لها وجود في فكر الفاعل، وإما بما هي مرتسمة في طبيعة الفاعل، دافعة به إلى العمل، كما نشاهد في تطور الجنين، إذ تنبت أعضاء مخصصة في تتال مخصص، دون أن يكون لها شأن بحاضره، وإنما هي تهيئة لمستقبله. وجميع الطبائع الجمادية والنباتية والحيوانية فاعلة على هذا النسق، موجهة إلى بقاء الموجود وخيره بكليته. وليس يمكن أن ينتج مثل هذا الانسجام آلي، ولكن ينتج من سبق تدبير طبيعي. قد نخطئ إذا ظننا أن غاية الخراف توفير حاجتنا من الصوف، وغاية البنجر توفير حاجتنا من السكر، والغاية من صياح الديك منعنا من الاسترسال في النوم، وأن الشمام رسمت فيه الطبيعة قطعا كي يؤكل في الأسرة. هذه غايات ظاهرة تجيز لخصوم الغائية أن يتندروا بها وبأمثالها. ولكنا لا نخطئ إذا توخينا الغايات الباطنية، واعتقدنا أن الغاية من صوف الخراف إمدادها بالحرارة اللازمة لحياتها، وأن الطبيعة وفرت وسائل أخرى للمحرومين من الصوف.
وعلى أي حال فليس احتجاج خصوم الغائية بحاسم، فقد تكون الغاية هدفا يقصد إليه، كما ندعي نحن، وفي نفس الوقت نهاية أفعال آلية دون قصد كما يقولون. أجل إن الطير يطير؛ لأن له جناحين، وإن الساعة تسجل الوقت؛ لأن أجزاءها متناسقة؛ ولكن أجزاء الطير وأجزاء الساعة اتسقت للطيران ولتسجيل الوقت، لا لشيء آخر، ولولا هذا الاتساق لتعطل الطير وتعطلت الساعة حتما، فإنكار وجود صانع صنع الساعة عن قصد وعقل غلط ليس له أدنى مسوغ. كذلك الطيران هو العلة الغائية للجناحين، وهو الملحوظ في تركيب الطير هذا التركيب المعين. وإنما يبدو القصد والعقل من النسب المتناسقة والوسائل الكفيلة بإنتاج نتائج جميلة نافعة. والعالم مصنوع تسطع فيه أعجب الأنظمة وأدق الوسائل للغايات المنشودة. فهو إذن صنع علة عاقلة. ثم إن للإنسان عقلا، وليس هو صانع نفسه، فكيف لا يكون صانعه عاقلا؟
وقد كان خليقا بالمتندرين أن يحذوا حذو أصحاب الغائية، ويمتحنوا شواهدها التي لا تحصى كي يروا إن كانت متفقة مع المنهج العلمي، ذلك ما فعله ابن رشد في صفحة نريد أن نثبتها هنا مثالا للاستدلال السليم، قال: إن الشمس لو كانت أعظم جرما وأقرب مكانا لهلكت أنواع النبات والحيوان من شدة الحر. وكذلك لو كانت أصغر أو أبعد لهلكت من شدة البرد. وتظهر العناية في أنه لولا فلكها المايل لما كان هنا صيف ولا شتاء ولا ربيع ولا خريف.
وهذه الأزمان ضرورية في وجود أنواع النبات والحيوان. ولولا الحركة اليومية لم يكن ليل ولا نهار، وكانت تكون نصف السنة نهارا، والنصف الأخير ليلا، وكانت الأشياء تهلك من الحر في النهار، ومن البرد في الليل. وأما القمر فأثره بين في تكون الأمطار، وإنضاج الفواكه؛ ولو كان أعظم أو أصغر أو أبعد أو أقرب، أو لم يكن نوره مستفادا من الشمس، لما كان هذا الفعل، وأيضا لو لم يكن له فلك مايل، لما كان يفعل أفعالا مختلفة في أزمان مختلفة؛ ولذلك تسخن به الليالي في زمن البرد، وتبرد في زمن الحر: أما سخونتها في زمن البرد فلأن وضعه منا يكون كوضع الشمس في زمن الحر بأن يكون أقرب إلى سمت رءوسنا إذ كان فلكه أكثر ميلا. وأما في زمان الحر فيكون الأمر بالعكس إذ كان أبدا إنما يظهر في الجهة المقابلة للشمس ... وليس ينبغي أن يتوهم أن ذلك لغير العناية بما هاهنا. وعلى مثال ما قلنا في الشمس والقمر ينبغي أن يعتقد الأمر في سائر الكواكب.
3 (4) برهان من الممكن الوجود إلى الواجب الوجود
الكائنات المختلفة تتكون وتفسد، تظهر وتزول، فهي قبل التكون والظهور ممكنة، قد توجد وقد لا توجد، وليست معينة بذاتها وطبيعتها لأحد هذين الطرفين، فلا توجد إلا لأمر مرجح، بعكس الممتنع لذاته وطبيعته، فإنه لا يوجد أصلا، كالدائرة المربعة؛ وبعكس الواجب لذاته وطبيعته، فإنه موجود ضرورة، كالله، على ما سنذكر بعد، فلو لم يكن هناك موجود واجب، وكانت جميع الكائنات ممكنة وقتا ما ، لما كان يوجد شيء الآن، ولن يوجد شيء أبدا. والممكنات الموجودة كثيرة جدا، وإذن يوجد موجود واجب.
وليس يمكن أن يكون هذا الموجود مجموع الكائنات، فإنها متغيرة، والمجموع متغير مثلها: إنه مزاج من فعل وقوة، ومن ثمة غير موجود بذاته، والتغير في عمومه يقتضي علة منزهة عن التغير، كما بينا في برهان الحركة.
Unknown page