Tabica Wa Ma Bacda Tabica
الطبيعة وما بعد الطبيعة: المادة . الحياة . الله
Genres
والمحقق - مهما يقل ديكارت وأتباعه - أن النفس لا تعرف وجودها إلا في أفعالها، ولا تعرف ماهيتها إلا بالاستدلال من هذه الأفعال، وأنها لا تشعر بما فيها من ميول واستعدادات وملكات، ولا بالصور المحفوظة في المخيلة والذاكرة، ولا بالمعاني المحفوظة في العقل، إلا بالتي تحضر صراحة في الذهن، مع أن هذه المكنونات حالات لها حقيقية. كذلك لا تشعر بالكثير من طرق أفعالنا، كطرق الإحساس والإدراك الظاهري، وتداعي الصور والمعاني، وتكوين المعاني المجردة، فتلجأ في تعرفها إلى التفكير والتحليل، وإذن فقوانا وقسم كبير من أفعالنا غير داخلة ابتداء في نطاق الشعور، وقسم آخر لا يدخل في هذا النطاق إلا بعد أن يختمر ويتضح في اللا شعور، على ما يبدو في هذا القول من تناقض: فكم من موضوع نكف عن التفكير فيه ثم يظهر معدلا مزيدا، والشواهد كثيرة جدا في الحياة العادية، وعلى الخصوص في المسائل العلمية والفنية؛ وكم من محبة أو كراهية لأشخاص وأشياء تتولد من أسباب لا شعورية تؤثر فينا ونحن لا ندري.
والذي يهمنا من مسألة اللاشعور هذه أنها تعرض علينا فكرة القوة المقابلة للفعل على أجلى ما تكون؛ فإن المكنونات الخافيات التي أشرنا إليها وأمثالها محفوظة في النفس بالقوة، وما بالقوة غير مشعور به في ذاته، ولا يعرف إلا بأثره حال خروجه من القوة إلى الفعل؛ وهذا حال النفس الإنسانية، فإنها كما قلنا لا تعرف وجودها إلا إن عملت وأدركت ذاتها عاملة، ولا تعرف طبيعتها ، أي إنها عاقلة بسيطة روحية خالدة إلا بتحليل أفعالها. فليست فكرة القوة فكرة خيالية من اختراع أرسطو والمدرسيين، كما يدعي ديكارت وكثير غيره؛ إنها واضحة كل الوضوح في التغيرات الطبيعية، وأوضح ما تكون في تغيرات النفس؛ فما إنكارها إلا مكابرة في الواقع المعروض للمشاهدة ظاهرة وباطنة، وفي حكم العقل على التغير بالإجمال.
وجملة القول: إن المعرفة والنزوع والنقلة والشعور، أربع خصائص كبرى لا نظير لها في الحياة البدنية، بل لا أصل بالغا ما بلغ من الصغر والدقة، ومنها تتبين أصالة الحياة الوجدانية، وتهافت المذهب المادي بمختلف صوره. (4) الإحساس
هو أول عناصر الحياة الوجدانية، أعني أن أول معرفة تدخل إلى النفس هي معرفة حسية، وأول انفعال تتأثر به صادر عن مثل هذه المعرفة. فالإحساس هو الفعل الذي به يدرك الحس الظاهر موضوعه؛ وهو أيضا التأثر اللاذ أو المؤلم المصاحب لذلك الإدراك، والناشئ من تأثير الموضوع على الحاسة. ولكن الأفضل الدلالة على كل من المعنيين بلفظ خاص، فنقول: «انفعال» للمعنى الثاني. وكثير من الألفاظ يطلق هكذا على معنيين أو جملة معان، فينزلق الفكر إلى أغلاط قد تجر وراءها أحيانا أغلاطا جسيمة؛ مثلما يقال «الإدراك والتخيل والتذكر والعلم والمعرفة» ويراد بها فعل الشخص أو موضوع هذا الفعل، ويظن التصوريون أن الفعل ما دام ظاهرة وجدانية صادرة عن الشخص ومستقرة فيه، فالموضوع ظاهرة وجدانية كذلك لا حقيقة له في الواقع.
والواقع بالنسبة إلى الإحساس، أن للحواس موضوعا مشتركا هو الشيء المادي البادي لها بجميع مشخصاته، وأن لكل حاسة وجها معينا من أوجه الشيء المادي، تدركه بعضو مادي يصل بينها وبين الشيء، ولا تدركه حاسة أخرى بهذا الاعتبار؛ لأن العضو جهاز خاص معد لقبول الموضوع يمتد منه عصب إلى مركز دماغي، قال ابن سينا: «المحسوسات كلها تتأدى صورها إلى آلات الحس، فتنطبع فيها، فتدركها القوة الحاسة.»
3
ويسمى موضوع الحاسة بالكيفية. ولنا من الحواس بقدر ما ندرك من كيفيات محسوسة متمايزة بالنوع، ومعلوم أنها اللون والصوت والرائحة والطعم والصلابة والحرارة والبرودة. وللإحساس ثلاث مراحل: مرحلة فيزيقية كيميائية، وهي التأثير الخارجي والتغير الناتج منه في العضو؛ ومرحلة فسيولوجية، وهي مجاوبة العضو وتأثر الجهاز العصبي؛ ومرحلة وجدانية، وهي الإحساس بمعنى المعرفة والإدراك، وبين المعرفة أو الإدراك، والتأثر أو الانفعال، نسبة عكسية: فإذا كان الانفعال قويا أضر بالإدراك؛ فلكي يكون الإدراك تاما ينبغي أن يكون التأثير الواقع على الحاسة متناسبا، وأن يكون الانفعال معتدلا.
وتثير مسألة الإحساس مسائل علمية وفلسفية تضاربت فيها الآراء. لا نستقصيها جميعا، بل نقتصر على أهمها، وبخاصة من الوجهة الفلسفية.
فنعرض أولا لتشكيك التصوريين على اختلافهم في وجود موضوعاته، أي الكيفيات المحسوسة، فإنهم يقولون: لا يوجد في الخارج مقابلات لها شبيهة بها، وكل ما يمكن التسليم به، جدلا إن لم يكن اعتقادا، فهو أن في الخارج حركات، أو على الأكثر أسبابا غير شبيهة بالكيفيات، ولكنها تترجم بها فينا. نقول: نعم إن وجود الكيفيات مرتبط بالحركة، ولكن الحركة حاملة لها فقط، وليست وإياها شيئا واحدا؛ بل إن الحركات المقابلة لها تختلف اتجاها وسرعة، ولا يفسر هذا الاختلاف إلا بوجود الكيفيات وتمايزها فيما بينها كما تبدو في الوجدان، فالحركة مسبوقة بالكيفية معلولة لها، وهم يعكسون الآية. ولنا عليهم ردود قاطعة نجملها فيما يلي:
لكل ظاهرة وجدانية مضمون لولاه ما حدثت. هذا المضمون مستفاد من شيء حقيقي مغاير للوجدان وللظاهرة الوجدانية، وهو الذي يثير الوجدان إلى الفعل. إن انتباه الإنسان يتجه أولا إلى الخارج ولا يتجه إلى الوجدان إلا بعد ذلك؛ وسبق الخارج شرط تأثيث الذهن، وإلا فمهما انعكسنا على نفسنا فلن نجد في الذهن شيئا. فمن التعسف المحض أن يراد بنا الاحتباس في الوجدان وقطع كل صلة بالواقع. فإن المعطي لنا منذ أول الأمر هو الإنسان كله، لا الذهن من ناحية، والبدن وانفعالاته من ناحية أخرى؛ فتسمية الذهن أو الوجدان وحده بالأنا، وتسمية البدن باللاأنا، انقياد للتصورية لا سند له. واعتبار الظواهر الوجدانية وحدات قائمة بأنفسها، ثم التساؤل: كيف تركب فكرة الشيء أو الموضوع، هذه مسألة زائفة، وهذه فلسفة تصورية. كيف لا يعلمون أن مذهبهم هذا يجعل مدار العلوم على الصور الذهنية فقط، لا على أشياء واقعية ، فتسقط قيمة العلوم، فتصبح تطبيقاتها في صوالحنا لغزا من أغمض الألغاز، وكيف لا يعلمون أن مذهبهم يستتبع أن كل ما يعلم فهو حق عند الذي يعلمه، وأن المتناقضات صادقة معا، من حيث إنه إذا كان الذهن لا يدرك سوى تصوراته، فهو يدركها كما يستطيع، غير عابئ برأي الغير، غير معتمد على أصول يرجع إليها، فيصبح كل من الأذهان المختلفة عمدة نفسه. فلا مناص من الإقرار بأن الشيء ذاته هو المعقول أولا، وأن صورته معقولة ثانيا بالانعكاس على تعقله الأول.
Unknown page