فنقول: أصلها وَفَيَة، بتحريك الواو والفاء والياء، على وزن بقرة، ولما كانت الياء حرف علة سكنوها فصارت وَفَيْة، فلما سُكنت الياء وانفتح ما قبلها قُلبت ألفا، فقالوا: وَفَاة، ولهذا لما جمعوه رجعوا إلى أصله، فقالوا: وَفَيات، بفتح الواو والفاء والياء، كما قالوا شجرة وشجرات. وقالوا في الفعل منه: تُوفِّي زيد، بضم التاء والواو وكسر الفاء وفتح الياء، فبنوه على مال يُسم فاعله؛ لأن الإنسان لا يتوفى نفسه، فعلى هذا المتوفى، بكسر الفاء هو الله، أو أحد الملائكة بأمره تعالى، وزيد المتوفى، بفتح الفاء.
وقد حُكي أن بعضهم حضر جنازة فسأل بعض الفضلاء، وقال من المتوفِّي؟ بكسر الفاء. فقال: الله تعالى. فأنكر ذلك. إلى أن بين لع الغلط، فقال: قُل المُتوفَّى بفتح الفاء. ذكر ذلك الصفدي في مقدمة تاريخه " الوَافي بالوفيات ".
وذكر فيه أيضًا فوائد للتاريخ، وقال: منها واقعة رئيس الرؤساء مع اليهودي الذي أظهر كتابًا فيه أن رسول الله ﷺ أمر بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، منهم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فحمل الكتاب إلى رئيس الرؤساء، ووقع الناس منه في حيرة، فعرضه على الحافظ أبي بكر، خطيب بغداد، فتأمله، وقال: إن هذا مزور. فقيل له: من أين لك ذلك؟. فقال: فيه شهادة معاوية رضي الله تعالى عنه، وهو أسلم عام الفتح، وفتوح خيبر سنة سبع، وفيه سعد ابن معاذ رضي الله تعالى عنه، ومات سعد يوم بني قريظة قبل خيبر بسنتين. ففرج ذلك على المسلمين غمًا.
قال الصلاح الصفدي: وروي عن إسماعيل بن عياش، أنه قال: كنت بالعراق، فأتاني أهل الحديث، فقالوا ها هنا رجل يحدث عن خالد بن معدان، فأتيته، فقلت: أي سنة كتبت عن خالد بن معدان؟.
فقال: سنة ثلاثة عشرة، يعني: ومائة.
فقلت: أنت تزعم أنك سمعت منه بعد موته بسبع سنين، لأن خالدًا مات سنة ست ومائة.
وروي عن الحاكم أبي عبد الله، أنه قال: لما قدم أبو جعفر محمد بن حاتم الكشي - بالشين والسين معًا - وحدث عن عبد الله بن حميد، سألته عن مولده، فذكر أنه ولد سنة ستين ومائتين. فقلت لأصحابنا: هذا سمع من عبد بن حميد بعد موته بثلاث عشرة سنة.
وفوائد تاريخ الوفاة لا تنحصر، وهذا القدر كافٍ منها، والله أعلم.
باب
في تعريف التاريخ
بيان معناه وفضيلته، في أدب المؤرخ أقول وبالله التوفيق: قد كثرت الأقوال في تعريف التاريخ، وبيان فضيلته، وأحسن ما وقفت عليه من ذلك، ما نقله صاحب كتاب " غرر المحاضرة، ودُرر المكاثرة "، وهو الشيخ الإمام المؤرخ تاج الدين علي بن أنجب المعروف بابن الخازن، فإنه قال في كتابه المذكور: قال العلماء: التاريخ مَعادٌ معنوي؛ لأنه يعيد الأعصار وقد سلفت، وينشر أهلها وقد ذهبت آثارهم وعفت، وبه يستفيد عقول التجارب من كان غرًا، ويلقى آدم ومن بعده من الأمم وهلم جرا، فهم لديه أحياء وقد تظمنهم بطون القبور، وغياب وهم عنده في عداد الحضور، ولولا التاريخ لجُهلت الأنساب، ونسيت الأحساب، ولم يعلم الإنسان أن أصله من تُراب، وكذلك لولاه لماتت الدول بموت زعمائها، وعمي على الأواخر حال قُدمائها.
ولمكان العناية به لم يخل منه كتاب من كتب الله المُنزلة، فمنهم ما أتى بأخباره المُجملة، ومنا ما أتى بأخباره المفصلة. وقد ورد في التوراة سفر من أسفارها، يتضمن أحوال الأمم السالفة ومُدد أعمارها.
وكانت العرب على جهلها بالقلم وخطه، والكتاب وضبطه، تصرف إلى التواريخ جُل دواعيها، وتجعل لها أوفر حظ من مساعيها، وتستغني بحفظ قلوبها عن حفظ مَكتوبها، وتعتاض برقم صدورها، عن رقم مسطورها، كل ذلك عناية بأخبار أوائلها، وأيام فضائلها، فهل للإنسان إلا ما أسسه وبناه، وهل البقاء لصورة لحمه ودمه لولا بقاء معناه. انتهى.
وأما أدب المؤرخ، فقد ذكر أبن السُبكي في " طبقاته الكبرى " له قاعدة حسنة، فقال: قاعدة في المؤرخين نافعة جدًا، فإن أهل التاريخ ربما وضعوا من أناس، أو رفعوا أتاسًا، إما لتعصب، أو لجهل، أو لمجرد اعتماد على نقل من لا يوثق به، أو غير ذلك من الأسباب، والجهل في المؤرخين أكثر منه في أه الجرح والتعديل، وكذلك التعصب، قل أن رأيت تاريخًا خاليًا من ذلك.
1 / 9