ثم نتلوه بذكر ترجمة الإمام الأعظم، والحبر البحر المُكرم، أحد أفراد الزمان، وإنسان عين الأعيان، الذي سارت بفضله الركبان، وعمت فواضله سائر البلدان، واعترف بمعروفه الشامل كل قاص ودان، وأجمعت الأمة، أنه قدوة الأئمة، وهو أبو حنيفة النعمان، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، وفي ذلك المحل المقدس جمعنا وإياه.
فإنه صاحب المذهب الذي به يأخذون، وعليه يعتمدون، وله يقلدون، ومن بحر علمه يغترفون، تغمده الله برحمته ورضوانه، وأباحه بحبوحة جنانه، ونفعنا ببركات عُلومه في الدنيا والآخرة، أنه جواد كريم، رؤوف رحيم.
واعْلم أيها الواقف على كتابي هذا أني ربما أكثرت في بعض التراجم، من إيراد نفائس الأشعار، ومحاسن الأخبار، ولطائف النوادر، ونوادر اللطائف، وربما ذكرت في الأنساب شيئًا من أوصاف البُلدان، وخصائصها، وما قيل فيها من الأشعار، وورد في حقها من الأخبار والآثار، ومقصودي بذلك أن يكون مُطالعه متنزهًا في رياض من الآداب، لا يذوى زهرها، ولا يمنع ثمرها، حتى لا يمل مطالعه، ولا يصادف الضجر سامعه. وهذا أوان الشروع في المقصود، بعون الملك المعبود، فنقول وبالله التوفيق، ومنه التيسير.
سيرته
ﷺ مُحمَّدٌ رسول الله ﷺ، وحبيبه وصفيه وخيرته من خلقه، وأفضل الأولين والآخرين، أبو القاسم بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الذي قيل فيه:
وكم أبٍ قد عَلا بابنٍ ذُرَى شرَفٍ ... كما عَلاَ برَسولِ الله عَدْنانُ
هذا هو المتفق على صحته. ومن هنا إلى آدم ﵊ مختلف فيه، ومذكور في كتب السيرة المطولة، فمن أراد الوقوف عليه فليراجعها.
ولد ﷺ يوم الاثنين، في شهر ربيع الأول من عام الفيل، قيل: ثانيه، وقيل: ثالثه، وقيل ثاني عشره، وقيل غير ذلك.
يَوْمٌ أضاء به الزمانُ وفتَّحتْ ... فيه الهدَايةُ زَهْرةَ الآمالِ
ومات أبوه وله من العمر ثمانيةٌ وعشرون شهرًا، وقيل شهران، وقيل: سبع، وقيل: وهو حَمْل، وكفله جَدُّه عبد المطلب، ثم توفي عبد المطلب وله ﷺ من العمر إذ ذاك ثمان سنين وشهران وعشرة أيام، فكفله عمُّه أَبو طالب.
وماتت أمه آمنة، وهو ابن أربع سنين، وقيل: ست.
وأرضعته حَليمة السعدية، وثويبة الأسلمية، وحضنته أم أيمن.
ولما بلغ اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام، خرج مع عمِّه أَبي طالب إلى الشام، فلما بلغ بُصرى رآه بحيرى الراهب، فعرفه، بصفته، فجاءهُ وأخذ بيده، وقال: هذا رسول ربِّ العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، إنكم حين أقبلتم من العقبة لم يبق حجرٌ ولا شجر إلا خَرَّ ساجدًا، ولا يسجد إلا لنبي، وإنا نجده في كُتبنا.
وقال لأبي طالب: لئن قدمت به إلى الشام لتقتله اليهود. فرده خوفًا عليه منهم.
ثم خرج مرة ثانية إلى الشام، مع ميسرة غلام خديجة بنت خويلد، في تجارة لها قبل أن يتزوجها، فلما قدم الشام، نزل تحت ظل شجرة قريبًا من صومعة راهب، فقال الراهب: ما نزل تحت ظل هذه الشجرة إلا نبي.
وكان ميسرة يقول: إذا كان الهاجرة، واشتد الحر، نزل ملكان يُظلانه.
ولما رجع من سفره تزوج خديجة بنت خويلد، وعمره خمس وعشرون سنة وشهران وعشرة أيام، وقيل غير ذلك.
ولما بَلغ خمسًا وثلاثين سنة شهد بنيان الكعبة، ووضع الحجر الأسود بيده.
ونشأ رسول الله ﷺ في قومه، وقد طهره الله تعالى من دنس الجاهلية ومن كل عيب، ومنحه كل خُلُق جميل، حتى لم يكن يُعرف من بينهم إلا بالأمين؛ لما رأوه من أمانته، وصدق لسانه، وطهارته.
ولما بلغ أربعين سنة ويمًا بعثه الله بشيرًا ونذيرًا، وأتاه جبريل ﵇ بغار حراء، فقال: اقرأ.
فقال: ما أنا بقارئ.
قال رسول الله ﷺ: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ.
فقلت: ما أنا بقارئ.
فقال في الثالثة: (اقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ) إلى قوله تعالى: (عَلّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) .
1 / 14