ذخائر العرب
٥٠
طبقات النحويين
واللغويين
لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي
تحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة الثانية
دار المعارف
مقدمة المحقق
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
قال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي -رحمة الله عليه-:
الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلَقه وبدأ خلقَ الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، وفضَّله على سائر الحيوان، بما آتاه من حاسة العقل وبيان اللسان، ثم جبل كل أمة من الأمم على لغة أنطقهم بها، ويسرهم لها، وجعل اللسان العربيَّ أعذب الألسنة مخرجًا، وأعدلها منهجًا، وأوضحها بيانًا، وأوسعها افتنانًا، وجعل الإعراب حَلْيًا للسان، وزمامًا وفصلًا لما اختُلف فيه من معانيه.
ولم تزل العرب تنطق على سجيَّتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها؛ حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان، فدخل الناس فيه أفواجًا، وأقبلوا إليه أرسالًا، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة، واللغات المختلفة، ففشا الفساد في اللغة والعربية، واستبان منه في الإعراب الذي هو حَلْيها، والموضِّح لمعانيها؛ فتفطَّن لذلك مَن نافر بطباعه سوء أفهام الناطقين من دخلاء الأمم بغير المتعارَف من كلام العرب، فعظم الإشفاق من فُشُوِّ ذلك وغلَبته؛ حتى دعاهم الحذرُ من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم، إلى أن سبَّبوا الأسباب في تقييدها لمن ضاعت عليه، وتثقيفها لمن زاغت عنه.
فكان أولَ مَن أصَّل ذلك وأعمل فكره فيه، أبو الأسود ظالم بن عمرو الدُّؤليُّ، ونصر بن عاصم، وعبد الرحمن بن هُرْمز. فوضعوا للنحو أبوابًا، وأصَّلوا له أصولًا؛ فذكروا عوامل الرَّفْع والنصب والخفض والجزم، ووضعوا باب الفاعل
1 / 11
والمفعول والتعجب والمضاف. وكان لأبي الأسود في ذلك فضل السبق وشرف التقدم. ثم وصل ما أصَّلوه من ذلك التَّالون لهم، والآخذون عنهم؛ فكان لكل واحد منهم من الفضل بحسب ما بسط من القول، ومدَّ من القياس، وفتَق من المعاني، وأوضح من الدلائل، وبيَّن من العلل.
ولم تزل الأئمة من الصحابة الراشدين ومَن تلاهم من التابعين، يحضُّون على تعلُّم العربية وحفظها، والرعاية لمعانيها؛ إذ هي من الدين بالمكان المعلوم، فبها أنزل الله كتابه المهيمن على سائر كتبه، وبها بلَّغ رسولُه ﵇ وظائفَ طاعته، وشرائع أمره ونهيه.
وكذلك كانوا يحضُّون على رواية الشعر الذي هو حكمة العرب في جاهليَّتها وإسلامها، وديوانها الذي أقامته مقام الكتاب لما تقدَّم من مآثرها وأيامها، فكانوا يتناشدونه في مجالسهم، ويتذاكرونه عند محافلهم.
ومصداق ذلك ما حدثنا به قاسمُ بن أَصْبَغَ، قال: حدثنا عبد الله بن رَوْحٍ قال: قال المدائنيُّ: حدثنا شَبَابةُ بن سَوَّارٍ قال: حدثنا شعبةُ، عن عاصمٍ، عن أبي عثمان النَّهديِّ؛ سمعته يقول: إن كتاب عمر بن الخطاب أتاهم وهم بأَذْرَبِيجان يأمرهم بأشياء، وذكر فيه: (تعلَّموا العربية).
1 / 12
حدثنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا أبو عثمان العناقي، عن الخُشَنيِّ قال: حدثنا الرِّياشيُّ، حدثنا أبو مَعْمَر، عن عبد الوارث التَّنُّوريِّ، عن أبي مسلم قال: قال عمر بن الخطاب: (تعلَّموا العربية؛ فإنها تُشبِّب العقل، وتزيد في المروءة).
ورُوي عن عمر أيضًا أنه قال: (تعلموا الفرائض والسنة واللحن، كما تتعلمون القرآن).
ويُروى عن أبانَ بن عثمان أنه قال: اللحن في الرجل السَّريِّ، كالتغيير في الثوب الجديد.
وقال مالك بن أنس: الإعراب حَلْي اللسان؛ فلا تمنعوا ألسنتكم حَلْيَها.
وقال ابن شُبْرمة: إن الرجل ليلحن وعليه الخز الأدكن، فكأن عليه أخلاقا؛ ويعرب وعليه أخلاق، فكأن عليه الخز الأدكن.
1 / 13
وحدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا القاضي إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني أخي، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن مَرْوان بن الحكم أخبره: أن عبد الرحمن بن الأسود أخبره: أن أُبيَّ بن كعب أخبره: أن رسول الله ﷺ قال: "إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً".
حدثنا سعيد بن فَحْلونٍ أبو عثمان قال: حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن
1 / 14
ابنُ عبيدٍ البصريُّ بالقيروان، قال: سألت النضر بن طاهر -راوية مالك عندنا بالبصرة- فقلتُ له: حدثكم عبد الله بن وهب، عن أبي الزِّناد؟ فقال: يابن أخي، ما تحتاج إلى ابن وهب! حدثنا ابن أبي الزناد، عن هشام بن عُرْوة، عن عائشة، أن النبي ﷺ بنى لحسان بن ثابت منبرًا في المسجد ينشد عليه الشعر. وحدثناه أبو بكر القرشي، عن أبي عبد الرحمن النسائي، في إسنادٍ ذكره.
حدثنا قاسمٌ قال: حدثنا ابن أبي خيثمة قال: حدثنا أبو نُعَيم قال: حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيِّب قال: بينما حسان بن ثابت ينشد الشعر في مسجد
1 / 15
رسول الله ﷺ، فجاء عمر فقال: يا حسان، تنشد الشعر في مسجد رسول الله ﷺ! فقال: أنشدتُ فيه وفيه مَن هو خيرٌ منك.
وجدتُ بخطِّ أبي ﵀: حدثنا العباس بن موسى المكِّيُّ بالمسجد الحرام، قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا ابن فُضَيل، عن الوليد بن جميع، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله ﷺ بمتماوتين ولا متحزقين؛ كانوا يتجالسون في مجالسهم، ويتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد واحد منهم عن شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون.
حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا الأعناقيُّ قال: حدثنا الخُشَني قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا الأصمعي، عن أبي الزِّناد قال: قيل لسعيد بن المسيب: إن أناسًا يكرهون إنشاد الشعر. فقال: نَسَكُوا نُسُكًا أعجميًّا.
وحدثنا قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا مَرْوان الفَخَّار قال: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفرٍ ويحيى قالا:
1 / 16
حدثنا شُعبةُ قال: سمعت قَتَادة يحدث عن مُطرِّف بن الشِّخِّير قال: صحبت عمران بن الحُصَين من الكوفة إلى البَصْرة، فما أتى علينا يومٌ إلا أنشدَنا فيه شعرًا.
قال محمد: وإنَّ أمير المؤمنين الحَكَم المستنصر بالله ﵁ لما اختصه الله به، ومنحه الفضيلة فيه؛ من العناية بضروب العلوم، والإحاطة بصنوف الفنون، أمرني بتأليف كتاب يشتمل على ذكر من سلف مَن النحويين واللغويين في صدر الإسلام، ثم مَن تلاهم مِن بعدُ إلى هَلُمَّ جَرًّا، إلى زماننا هذا، وأن أُطبِّقهم على أزمانهم وبلادهم؛ بحسب مذاهبهم في العلم ومراتبهم، وأذكر مع ذلك موالدهم وأسنانهم ومدد أعمارهم وتاريخ وفاتهم على قدر الإمكان في ذلك، وبحسب الإدراك له، وأجلُب جملة من نتف أخبارهم، وتاريخ وفاتهم، والحكايات المتضمنة لفضائلهم، المشتملة على محاسنهم؛ ليكون ذلك شكرًا لجميل سعيهم، وحميد مقامهم؛ إذ كان ذلك من حقِّهم على مَن أَدَّوْا إليه علمَهم، وأعملوا في صلاحه جُهْدهم. وكان في تقييد أخبارهم، وتخليد مآثرهم، ما يُبقِي لهم لسانَ الصدق الذي هو بدل البقاء والخُلْد؛ وقد قال ﷿ حكاية عن إبراهيم ﷺ: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾.
ثم قال الأول:
فَأَثنُوا علينا لا أبا لأَبيكمُ ... بإحساننا إنَّ الثَّناءَ هو الخلدُ
1 / 17
وإن كان قد جرى فيما جلبْناه حكايات يسيرة، فيما نُسِب إلى بعضِهم من مذهب نُيِزَ به، أو خُلُقٍ عيب عليه.
قال محمد: فألَّفتُ هذا الكتاب على الوجه الذي أمرني به أمير المؤمنين أعزه الله، وأقمته على الشكل الذي حده، وأمدني -أبقاه الله- في ذلك بعنايته وعلمه، وأوسعني من روايته وحفظه، إذ هو البحر الذي لا تُعبَر أواذيه، ولا تُدرَك سواحله، ولا يُنزَح غَمْره، ولا تنضِب مادَّته.
ونسأل الله بألطف الوسائل الزاكية لديه أن يُوزِعنا -معشر أهل العلم والنظر خاصة، وجماعة المسلمين عامة- شكر ما أنعم به علينا، وأعظم فيه المنَّة لدينا، من بركة أيامه، وسعد خلافته، ويمن دولته التي هي نظام الدنيا والدين، وعصمة الإسلام والمسلمين، وحياة العلم وشرف أهله، وزينة الأدب ونفاق سوقه، وأن يطيل فيها عمره، ويزيد نصره؛ ويظهر فَلْجَه، ويزيده من أفضل عوائده عنده؛ إنه سميع قريب.
وصلى الله على محمد خاتم النبيين خاصة، وعلى جماعة النبيين والمرسلين عامة.
* * *
قال محمد: نبدأ بذكر النحويين على طبقاتهم، واللغويين بعدهم، ونُقدِّم البصريين من كلتا الطبقتين؛ لتقدمهم في علم العربية، وسبقهم إلى التاليف فيها.
1 / 18
النحويون البصريون
1 / 19
الطبقة الأولى
من النحويين البصريين
١ - أَبُو الأَسودِ الدُّؤَلِيُّ
هو أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يَعمر بن حُلَيْس بن نُفاثة بن عدي بن الدِّيل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. وكان علَوِيَّ الرأي، وكان رجل أهل البصرة.
وهو أول من اسس العربية، ونهج سُبُلَها، ووضع قياسها؛ وذلك حين اضطرب كلام العرب، وصار سَراة الناس ووجوههم يلحنون، فوضع باب الفاعل، والمفعول به، والمضاف، وحروف النصب والرفع والجر والجزم.
قال أبو علي إسماعيل بن القاسم بن عَيْذون بن هارون القالي، ثم البغدادي: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن السَّري الزَّجَّاج النحوي قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي قال: أوَّلُ مَن وضع العربية ونقط المصاحف أبو الأسود ظالم بن عمرو.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد: سئل أبو الأسود الدؤلي عمن فتح له الطريق إلى الوضع في النحو وأرشده إليه، فقال: تلقيتُه من عليِّ بن أبي طالبٍ ﵀. وفي حديث آخر قال: ألقى إليَّ عليٌّ أصولًا احتذيتُ عليها.
ورُوي أن الذي أوجب عليه الوضعَ في النحو ابنته قعدت معه في يوم قائظٍ شديد الحرِّ، فأرادت التعجب من شدة الحر فقالت: (ما أشدُّ الحرِّ)! فقال أبوها: القيظ، وهو ما نحن فيه يا بنية. جوابًا عن كلامها لأنه استفهام. فتحيَّرت وظهر لها خطؤها، فعلم أبو الأسود أنها أرادت التعجب، فقال لها: قولي يا بنية: ما أشدَّ الحرَّ! فعمل باب التعجب، وباب الفاعل، والمفعول به
1 / 21
وغيرها من الأبواب.
وذكر ابن أبي سعد، عن عمر بن شبَّة، عن أبي بكر بن عيَّاش، عن عاصم بن أبي النَّجود قال: أولُ مَن وضع العربية أبو الأسود الدؤلي، جاء إلى زياد بالبصرة، فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلامًا يقيمون به كلامهم؟ قال: لا. فجاء رجل إلى زياد، فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنون. فقال زياد: تُوفي أبانا وترك بنون!! ادع لي أبا الأسود. فقال: ضع للناس الذي كنتُ نهيتُك أن تضع لهم.
وقال أبو الأسود: إني أجد للحن غَمَرًا كغَمَر اللحم.
ابن أبي سعد قال: حدثنا علي بن محمد الهاشمي قال: سمعت أبي يذكر، قال: كان بدء ما وضع أبو الأسود الدؤلي النحو أنه مر به سعد -وكان رجلًا فارسيًّا قدم البصرة مع أهله، وهو يقود فرسه- فقال: مالك يا سعد؟ ألا تركب؟ فقال: (فرسي ضالع)، فضحك من حضره. قال أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه، وصاروا لنا إخوة، فلو علمناهم الكلام! فوضع باب الفاعل والمفعول، لم يزد عليه. قال أبي: فزاد في ذلك الكتاب رجل من بني ليث أبوابًا، ثم نظر فإذا في كلام العرب ما لا يدخل فيه فأقصر عنه، فلما كان عيسى بن عمر قال: أرى أن اضع الكتاب على الأكثر، وأسمِّي الأخرى لغات. فهو أول من بلغ غايته في كتاب النحو.
1 / 22
ويقال: وضع عيسى بن عمر في النحو كتابين: سمى أحدهما "الجامع"، والآخر "المكمل"، فقال الخليل بن أحمد:
بطل النحو جميعا كلُّه ... غيرَ ما أحدث عيسى بن عمرْ
ذاك "إكمال" وهذا "جامع" ... فهما للناس شمس وقمرْ
ورُوي أن أبا الأسود كتب إلى علي بن أبي طالب ﵀: أما بعد؛ فإن الله جعلك مُؤتَمَنًا وراعيًا مسؤولًا، وقد بلوتُك -رحمك الله- فوجدتُك عظيمَ الأمانة، ناصحًا للرعية، توفِّر فيئَهم، وتُنزِّه نفسك عن دنياهم، فلا تأكل أموالهم، ولا ترتشي في أحكامهم. وإن ابن عمك ابن عباس قد أكل ما تحت يديه بغير علمك، فلم يسعني كتمانك ذلك، فانظر -رحمك الله- فيما هناك، وتقدَّم إليَّ فيما أحببتَ أتبعْه إن شاء الله.
فكتب إليه عليٌّ ﵀: أما بعد؛ فإنك ناصح للإمام والأمة، وأنت ممن وَالَى أهل الحق، وبارز أهل الباطل والجوْر. وقد كتبتُ إلى صاحبك فيما كتبتَ فيه إليَّ من أمره، ولم أعلِمْه كتابَك إليَّ، فلا تَدَعْ إعلامي بما يكون بحضرتك مما النظر فيه للأمة صلاح، فإنك بذلك جدير، وهو حق واجب عليك إن شاء الله.
وقعد إلى أبي الأسود غلام، فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك؟ فقال: أخذته الحمَّى، ففضختْه فضخًا، وطبخته طبخًا، وفنخته فنخًا، فتركته فرخًا. قال: فما فعلت امرأته التي كانت تُشارُّه، وتُجارُّه، وتُهارُّه، وتُضارُّه، وتُزارُّه؟
1 / 23
قال: طلَّقها، فتزوجت غيره، فرضِيَت وحَظِيَت وبَظِيَتْ. قال أبو الأسود: وما "بَظِيَتْ" يا بني؟ قال الغلام: حرف من اللغة لم يبلغك. قال: يا بني، ما لم يبلغ عمَّك؛ فاستره كما تستر الهرة خُرأها.
حدثنا أحمد، حدثنا ابن خالد، حدثنا مروان، حدثنا أبو حاتم، حدثنا الأصمعي، حدثنا عيسى بن عمر قال: قال رجل لأبي الأسود الدؤلي ومعه بعير يبيعه: هلمَّ أقاربْك. فقال: إن لم تقاربْني باعدتك. فقال: أعطِيتُ به كذا وكذا، وهو لك بكذا وكذا. فقال: ما تزال تحدِّث عن خيرٍ قد فات!
قال الأصمعي: قال أبو الأسود: ليس للسائل الملحف خيرٌ من المنع الجامس.
قال أبو حاتم: يريد الجامد. يقال: أصبح الماء جامسًا، وكذلك السمن.
وروى حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود، أن ابن عباس استخلف أبا الأسود على البصرة، والرواة والنُّسَّاب وأصحاب السِّيَر والتاريخ على هذا.
وقيل: إنه خرج مع أصحابه إلى الصيد، فلما جلسوا للطعام، جاء أعرابي فقال: السلام عليكم. فقال أبو الاسود: كلمة مقولة! قال الأعرابي: أدخلُ؟ فقال أبو الأسود: وراءَك أوسعُ لك! فقال الأعرابي: إن الرَّمضاء قد أحرقت
1 / 24
رجليَّ. فقال أبو الأسود: بُلْ عليهما. فقال: هل عندك شيء تطعمنيه؟ فقال أبو الأسود: نأكل ونُطعم العيال، فإن فضل شيء فأنت أحقُّ به من الكلب! قال: ما رأيتُ ألأمَ منك. قال أبو الأسود: بلى! ولكنَّك نسيتَ.
وبلغني أن أبا الأسود انتبه ليلة ودابَّته تقضم شعيرها. فقال: لا أراكِ تسْرين وأنا نائم. فلما أصبح باعها.
حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا الطحاوي قال: حدثنا يونس قال: حدثنا أحمد بن الغمر الدمشقي قال: دخل أبو الأسود الدؤلي على الجارود في أخلاق له، فقال له: ما هذا؟ قال: أصلح الله الأمير! رُبَّ مملولٍ لا يُستطاع فراقه! ففطن له الجارود، فبعث إليه بثياب ونفقة، فأنشأ أبو الأسود يقول:
كَسَاك ولم نَسْتكسِه فحمِدتَه ... أَخ لك يُعطيك الجزيل وناصرُ
وإنَّ أحقَّ الناس -إن كنتَ حامدًا- ... بحمدك مَن أعطاك والعِرض وافرُ
حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا مروان الفخار قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا الأصمعي قال: سمعت عيسى بن عمر ينشد قول أبي الاسود:
ذكرتُ ابنَ عبَّاسٍ بباب ابنِ عامرٍ ... وما مرَّ من عيشي ذكرت وما فَضَلْ
1 / 25
أميريْن كانا آخيًا لي كلاهما ... فكلًّا جزاه الله عنِّي بما فَعَلْ
فإن كان خيرًا كان خيرًا جزاؤه ... وإن كان شرًّا كان شرًّا بما عَمِلْ
وتُوفِّي أبو الأسود سنة تسع وستين في طاعون الجارف، وهو ابن خمس وثمانين سنة.
٢ - عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزٍ
ابن أبي سعد قال: حدثنا أحمد بن سعد بن إبراهيم الزهري قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن أبي النضر قال: كان عبد الرحمن بن هرمز من أول من وضع العربية، وكان من أعلم الناس بالنحو وأنساب قريش.
قال محمد: وابنُ هُرْمز مدنيٌّ، فذكرناه هاهنا لتقدمه. ويُروى أن مالكًا اختلف إلى ابن هرمز عدة سنين في علم ما لم يبثّه في الناس، يَرَوْن أن ذلك من علم أصول الدين، وما يردُّ به مقالة أهل الزيغ والضلالة.
1 / 26
الطبقة الثانية
٣ - نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ اللَّيْثِيُّ
ابن أبي سعد: حدثنا خَلَف بن هشام البزَّاز قال: حدثنا محبوب البصري، عن خالد الحذاء قال: سألت نصر بن عاصم -وهو أول من وضع العربية-: كيف تقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾؟ فلم يُنوِّن. فأخبرتُه أن عروة ينوِّن، فقال: بئسما قال، وهو للبئس أهل. فأخبرتُ عبدَ الله بن أبي إسحاق بقول نصر بن عاصمٍ، فما زال يقرأ بها حتى مات.
وقال عمرو بن دينار: اجتمعتُ أنا والزهري ونصر بن عاصم، فتكلَّم نصرٌ، فقال الزهري: إنه لَيُفلِّق بالعربية تفليقًا.
وذكر ابن سلَّام أن نصر بن عاصم أخذ عن يحيى بن يَعْمَر.
٤ - يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ
هو يحيى بن يَعمُر، رجل من عَدْوان، وكان عِداده في بني ليث، وقد تَدَّعي هُذَيل أن يحيى بن يعمر حليفهم -وكان مأمونًا عالمًا- يُروَى عنه الفقه.
1 / 27
ورَوَى عن ابن عمر، وابن عباس -رحمهما الله-، وغيرِهما. ورَوَى عنه قتادةُ، وإسحاق بن سويد العَدَوي، وغيرُهما من العلماء.
وأخذ النحو يحيى بن يعمر عن أبي الأسود.
وذكر يونس بن حبيب قال: قال الحجاج لابن يعمر: أَتَسْمَعُنِي ألحنُ على المنبر؟ قال: الأمير أفصح من ذلك. فألحَّ عليه، فقال: حرفًا. قال: أيًّا؟ قال: في القرآن. قال الحجاج: ذلك أشنع له، فما هو؟! قال: تقول: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ إلى قوله ﷿: ﴿أَحَبَّ﴾، فتقرؤها: "أَحَبُّ" بالرفع، والوجه أن تُقرأ بالنصب على خبر كان. قال: لا جرم! لا تسمع لي لحنًا أبدًا. فألحقه بخراسان وعليها يزيد بن المهلب. قال: فكتب يزيد إلى الحجاج: "إنَّا لقينا العدوَّ، فمنحَنا اللهُ أكتافهم، فأسرْنا طائفةً، وقتلْنا طائفةً، واضطررناهم إلى عُرْعُرة الجبل، ونحن بحَضِيضه وأثناء الأنهار". فلما قرأ الحجاج الكتابَ قال: ما لابنِ المهلَّب ولهذا الكلام! حسدًا له. قيل له: إنَّ ابنَ يعمرَ هناك. قال: فذاك إذًا.
وقال يحيى بن يعمر لرجل خاصمته امرأته: أأنْ سألتْك ثمنَ شَكْرِها وشَبْرِك، أنشأتَ تَطُلُّها وتَضْهَلُها!
حدثنا أحمد، حدثنا أحمد قال: قال مروان بن عبد الملك الفخار:
1 / 28
سمعت أبا حاتم يقول: يحيى بن يعمر العدواني حليف لبني ليث، وكان فصيحًا عالمًا بالغريب، وهو من التابعين، من القراء من أهل البصرة.
وحكى ابن دريد: أن يحيى بن يعمر اشترى جارية خُراسانية ضخمة، فدخل عليه أصحابه، فسألوه عنها، فقال: نعم المِطَخَّة.
حدثنا الأصمعي قال: حدثنا عيسى بن عمر قال: خاصم رجل رجلًا إلى ابن يعمر، فقال: أصلحك الله، إنه باعني غلامًا بَيَّاقًا. فقال يحيى: لو قلتَ: أَبُوقًا! قال أبو حاتم: كذا الصواب، رجلٌ أَبُوقٌ، وأَبَّاقٌ، وآبِقٌ. يقال: أَبَقَ يَأْبِقُ. والعامَّة تقول: يأبَق، وهو خطأ.
وروى خالد الحذاء قال: كان لابن سيرين مصحف منقوط، نقطه يحيى بن يعمر. وتوفي سنة تسع وعشرين ومئة.
٥ - عَنْبَسَةُ الْفِيلُ
هو عنبسة بن مَعْدان مولى مَهْرَة، وهو المعروف بالفيل. أخذ عن أبي الأسود. وهجاه الفرزدق فقال:
1 / 29
لقد كان في مَعْدَانَ والفيلِ شاغلٌ ... لِعَنْبَسَةَ الرَّاوي عَلَيَّ القصائدا
٦ - مَيْمُونٌ الأَقرنُ
هو ميمون الأقرن. أخذ أيضًا عن أبي الأسود، ويقال: عن عنبسة الفيل.
1 / 30