خارطة وحياة
قفص الشعاع
حين استجبت النفير
وثبة نحو الضياء
في أول مارس ولد الذي بعث الأمة
أريد أن أنشق فوح دمي ...!
حين تروكب العدالة
هذا مذهبي
نحن نخاف التاريخ يا سمو الأمير
السيد فهد المارك
رفة جناح
ما لك وللأحزاب؟
زحزح الصخر
نقاط السطور
اكتشاف ...!
در المعرفة وبلوطها!
مدرستان ...!
برسم الأجانب
ثورة في التفكير ...!
الجندي قائد
إخبارية ...؟
رفات تنتقل
هذا النادي
الجاهل الثاني ...!
هذه دغدغة ...!
نكتة مستمرة
البوابة ...!
صقيع يحرق ...!
لو أني صاحب الجلالة!
الفرق ...!
عجين البغضاء
العيش والحياة
انهيار وترميم
طريق ضهر البيدر وطريق مرجعيون
تبلغوا وبلغوا
لو أننا نؤمن بالاغتيال لتدحرجت رءوس كثيرة
حكاية دخولي الحزب السوري القومي الاجتماعي
جورج عبد المسيح هو الذي منع الاغتيالات
اليد التي توقع الصلح مع إسرائيل ... تقطع من العنق
أمام الحزب سبع سنوات لينتصر أو يتلاشى
مواطن الضعف في الحزب القومي
علاقة الرئيس شمعون بالحزب القومي
الجزيرة الغرقى
خارطة وحياة
قفص الشعاع
حين استجبت النفير
وثبة نحو الضياء
في أول مارس ولد الذي بعث الأمة
أريد أن أنشق فوح دمي ...!
حين تروكب العدالة
هذا مذهبي
نحن نخاف التاريخ يا سمو الأمير
السيد فهد المارك
رفة جناح
ما لك وللأحزاب؟
زحزح الصخر
نقاط السطور
اكتشاف ...!
در المعرفة وبلوطها!
مدرستان ...!
برسم الأجانب
ثورة في التفكير ...!
الجندي قائد
إخبارية ...؟
رفات تنتقل
هذا النادي
الجاهل الثاني ...!
هذه دغدغة ...!
نكتة مستمرة
البوابة ...!
صقيع يحرق ...!
لو أني صاحب الجلالة!
الفرق ...!
عجين البغضاء
العيش والحياة
انهيار وترميم
طريق ضهر البيدر وطريق مرجعيون
تبلغوا وبلغوا
لو أننا نؤمن بالاغتيال لتدحرجت رءوس كثيرة
حكاية دخولي الحزب السوري القومي الاجتماعي
جورج عبد المسيح هو الذي منع الاغتيالات
اليد التي توقع الصلح مع إسرائيل ... تقطع من العنق
أمام الحزب سبع سنوات لينتصر أو يتلاشى
مواطن الضعف في الحزب القومي
علاقة الرئيس شمعون بالحزب القومي
الجزيرة الغرقى
تبلغوا وبلغوا
تبلغوا وبلغوا
تأليف
سعيد تقي الدين
إذا لم أكن في بلادي منارا
ودفقة دم وانتصارا
فماذا أكون؟
إذا لم أكن دربها الصاعده
وشعلتها الخالده
وموعدها وهي لا تشعر
ووثبتها وهي لا تشعر
فماذا أكون؟
إذا لم أفجر حياتي حبا
وأحمل على مهجتي بلادي
وأرصف وجودي دربا
لغزو الذرى، للجهاد
فما أنا إلا خيال وحلم
ولمع سراب ووهم
وما أنا إلا فراغ وطن
أدونيس (في أسره)
خارطة وحياة
هذه سورية - بلادنا.
غيرنا يطلق عليها اسم «الهلال الخصيب».
نحن نؤمن بها وحدة قومية اجتماعية، لها ولاؤنا المطلق النهائي الأول والأخير.
إنها إحدى وحدات العالم العربي الأربع، الثلاث الباقيات هي: وادي النيل، الجزيرة العربية، والمغرب.
هذه الوحدات الأربع تؤلف الجبهة العربية، التي يجب أن نتعسكر فيها قوة تسحق أعداءها، وإن استطاعت هذه الجبهة، في مستقبل الأيام، أن تنصهر في وحدة سياسية - نحن نرى أنها مستحيلة التحقيق لانعدام مقوماتها - فليس منا من يسعى لهذه الوحدة أن لا تكون.
وهذه الجبهة العربية، لبلادنا - لا لسواها - مسئولية قيادتها، إذن وقد انتدبتنا الحياة، بما عتقت فينا من مواهب وركزت من قوى متفوقة بهذه المسئولية؛ فأولى واجباتنا في قيادة العالم العربي أن نفهم العروبة نقية صافية، فقد أثبتت الحروب أن أفعل المقاتلين هم من يفهمون ما من أجله يقاتلون، والعروبة هي شيء نقاتل من أجله.
بلادنا مزقها ضعفنا، ومزقها الاستعمار، علينا بالقوة أن نطرد الاستعمار ونتغلب على الضعف. والاستعمار هو صهيونية اغتصبت أرضنا، ودول أجنبية احتلت أو بسطت نفوذا، ومن هذه الدول الأجنبية المستعمرة دولة تحاول السيطرة علينا بالتسلل إلى نفوس مواطنينا، شيوعية تفسدها.
كانت بلادنا عبر أجيال طويلة ضعيفة، ولكن القدرة الجبارة هي أبدا كامنة فيها، تثور مبعثرة هنا وهناك براكين من عبقريات وبطولات، غير أن بلادنا عبر تاريخها الطويل ما كانت على الضعف الذي هي عليه اليوم، بعد أن تمزقت. مهمة الحزب السوري القومي الاجتماعي أن ينقذ هذه الأمة بأن يبعث قواها فتستعيد وحدتها؛ والقوة في جوهرها هي إيجابية بناءة.
هذه الخارطة تسمي وتحدد بلادنا؛ فهي إذن تسمي وتحدد حياتنا، فحياة أي منا، وبلاده، هما لفظتان لمدلول واحد؛ لهذا كانت هتفتنا، وستبقى - تحيا سورية.
قفص الشعاع
بعد مائة سنة، أو خمسين، سيطبق تلميذ التاريخ كتابه ويقهقه، ثم يستعيد رصانته، ويتساءل بألم: «أكانت بلادنا من الجهل والضعف بحيث وجدت في الحركة القومية الاجتماعية شيئا غريبا؟»
ثم يتأمل رجاء أن يهتدي إلى سر بقاء هذا الحزب، وانتشاره وثبوته للصدمات وتغلبه عليها، ويبحر ليستقري سبب تهاوي غيره من المنظمات والهيئات والتشكيلات، ثم يعجب أن كيف يعقل، وكل هذه، كالحزب السوري القومي الاجتماعي، تعبئ قواها من خزان الأمة الواحد؛ فتندثر هي ويبقى هذا الحزب، لا ليركد بل ليثور ويتفولذ ويقهر.
وقد يرتد دارس التاريخ إلى تحليل غير هذه الحركة من الحركات المنقذة في حياة سوانا من الأمم؛ فيكتشف أنها محاولة وثوب من هوة إلى قمة، ويلمس في جميعها العناصر الأساسية المشتركة الواحدة، ويجد في قادتها ومؤسسيها، كما يجد في أنطون سعادة الصفات الغلابة، التي تسم كل من بحق دعي زعيما، ويجد في تلامذته من الصفات ما ميزت تلامذة سواه من أصحاب الدعوات. فيهم البطل، وفيهم الجاهل المهووس، وفيهم من سئم طول الطريق، وفيهم الخائن، وفيهم المرتد، وفيهم من يحاول أن يشرد ليتزعم فئة أخرى. ولكنه لن يكتشف - تلميذ التاريخ - واحدا اعتنق عقيدة صاحب هذه الدعوة ولم تفعل في نفسه هذه الدعوة، فتسمها بطابع لا يمحى.
وسيجد تلميذ التاريخ أن جموع هؤلاء التلامذة هم أسمى أخلاقا، وأرهف إحساسا، وأشجع قلبا، وأقل أنانية وفوضى منهم قبل أن يدخلوا هذه المدرسة، وسيجدهم فريقا منظما، تسودهم روح الفريق لا جمهرة أشخاص، وسيتعلم إذ يواكبهم في طريق الصراع أن لا يستفهم عن عددهم ونسبته إلى عدد سائر المواطنين؛ فدارس التاريخ لا يطول به الأمر حتى يفقه أن العدد هو ضعف سلبي إن كان خلايا ميتة، ولا يصبح العدد من عناصر القوة حتى يكون كهارب حياة، اذكروا فلسطين.
فأحزاب بلادنا، إن استثنيت منها الحزب الشيوعي ساقت عددا من المواطنين، وأكثرهم مخلصون بانفعالية مستعجلة نحو أهداف قريبة ومطالب ملحة، فتراكضوا وتفرقوا؛ ذلك لأن هذه الأحزاب - بقطع النظر عن خطأ حوافز بعضها، وجهل قادة البعض، وخداع متزعمي البعض - أهملت؛ لاستعجالها ترويض أفرادها قبل أن أدخلتهم في السباق. فالحزب السوري القومي الاجتماعي ثبت في الميدان؛ لأن أفراده مروضون، ولأنه في جوهره حركة تربوية ثقافية، تفعل في الذات أولا قبل أن تحاول الذات أن تفعل فيما عداها؛ لذلك أبطأت انتصاراتها، وإن لم يكن لسعادة مؤسسها، من فضل يخلده، لكفاه أنه لم يخدع نفسه؛ فلم يرتض بنصر قريب فرعي عن النصر الكبير الشامل، والقرائن في كل يوم تتوفر على أنه كان موقنا في نفسه على أنه سيكون وقود مرجل الحركة، فجاء موته شرطا لانتصار قضيته.
وليس أدل على أن هذه الحركة الثقافية، قد روضت نفوس معتنقيها، وتوجهت تستهوي فضائلهم - ومن أبرز الفضائل المثابرة والاستمرار - من الظاهرة التي تثبت أن فاعلية الحزب هي على أشدها في الأزمات؛ فالتبرعات لا تكون ضخمة، والتضحيات لا تكون كبرى، ولا التوتر النفسي على ذروته إلا حين يواجه الحزب، كما هو يواجه اليوم، محنة كبرى. فلو أن الحزب طغت عليه الملعنة المشرقية - ما شاع أنه ذكاء وسياسة - لانهزم أعضاؤه إلى ملاجئ التستر والحيل، وجنحوا عن القتال العلني في ساحات التحدي.
وهذه الحركة - ككل حركة سواها - تشكو وتنعم، وتضعف وتقوى بأن بين المبشر بها وتلامذته هذا الأوقيانوس الواسع من الفرق في عمق الإيمان، واتساع آفاق النظرة الشاملة، والمناقبية، والثقافة؛ فقوتها أن دستورها، وأقوال زعيمها هي المرجع الذي يضبط ويحفز، وضعفها أنها ما انبثقت من ذاتية جنودها؛ فأمست في خطر عبودية التقليد، والتردد والاتكالية، على ما قال معلمها وفعل وارتأى. ولكن من الواضح أنها نجت من هذا الخطر، ومن خطر تعبد البطولة، وتجاوزت بنجاح أدق مراحلها؛ إذ إنها بعد مصرع زعيمها، وخلال نقاهة من جراح خالها المجرمون مميتة، لملمت قواها وانبثقت فيها، فيما كانت تستشفي، قوة الإبداع متجسدة في كلمة خطابية ألقيت، أو عبارة نثرية كتبت، أو أغنية من قصيدة نظمت، أو لحن جديد أنشد؛ فتقلصت آفاق أبعدت بين المعلم والتلميذ وضاق ذلك الأوقيانوس؛ ففي مجال البطولة الجسدية مثلا، وهو أقصر أشواط الحياة وأصعبها، تساوى بعض التلامذة بمعلمهم؛ هكذا نرى أن الإيمان بنجاح هذه الحركة ليس مصدره طبيعة التفاؤل، بل إنه حقيقة، يراها كل من راقب زحف الصفوف جبهة متحدة نحو الأفق، الذي يبدو في كل يوم أقرب فأقرب.
كنت ذات يوم أتنزه وصديقي الدكتور فؤاد صروف ونحن نتحدث، وفجأة وقف صروف وبلهجة فيها هلع، وبقلق من يطلب تأكيدا من صديق، يعكس ما به هو مقتنع، باح لي: «إنني أشعر بخيبة في الحياة؛ لأنني لم أبدع شيئا؛ فأنا لم أنظم قصيدة، ولا خلقت قصة، وما اخترعت آلة.»
أجبت، وما كنت أحاول التعزية ولا الموعظة المنفوقية: «إنك لم تستنبط شيئا، وقد لا تكون مواهبك قمة أو قمما، غير أن في مجموعة كفاءاتك، وقد لا تبدو غير عادية، ما يجب أن يطمئنك إلى أنها بنت لك عشا في السقف.»
في مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي وضوح وبساطة، ورتابة تستهوي الرجل العادي مثلي، الذي ليس له ولع بالنظريات والآراء المعقدة، والذي يرى أن ليس لبلاده أن تنغمس اليوم في هذا الترف العقلي، والذي كل همه أن يصح ويتوفر تطبيق هذه المبادئ حتى تمسي فعالية في الحياة، وجهاز نهضة تحررية. وفي هذه الجمهرة من المبادئ، وهي في ظاهرها عادية عظمة، غير أن فيها كذلك من العمق، والفلسفة، وعلوم السياسة، والاقتصاد، والاجتماع ما يتحدى المفتونين بهذه المواضيع، ولكن هؤلاء المفتونين هم بعض نكبات أمتنا؛ إذ إنهم يختارون من نظريات العقيدة القومية الاجتماعية أهدافا، يصوبون إليها مدفعية الكلام، ويتخذون من سفسطات المنطق ذريعة لتخلفهم عن موكب الحياة الفاعلة. «إنا فوق الأحزاب»، وإن بلادنا وهي على ما هي عليه من الضعف تقول لمن ليس هو في حزب «ما أنت فوق الأحزاب - تحتها بكيلو مترات». •••
تاريخ هذه الحركة ما كتب ولن يكتب، قد يدون البعض أحداثها وحوادثها، ولكن هذه الحركة تزوبع في صميم نفس المواطن؛ فيأتي تفاعلها بقدر عدد معتنقيها وأمزجتهم وأجهزتهم العقلية والجسدية والروحية، ويتجسد هذا التفاعل بمليون أثر وصورة وانفعال وعمل. فكيف لأي أن يسجل هذا أو يرويه. وإن اعتبرت كيف تحدت هذه القوة، بالإقناع والتبشير، تحجرنا وضعفنا وخوفنا ، وأوهامنا سلبا وإيجابا، هدما وبناء؛ تحققت أن المواطن حين ينضم إلى هذه الحركة يجترح عجيبة.
الصفحات التي تقرأ تدون بطريقة عابرة تجاوب نفسي بعد أن تجندت، وإني لأشعر أنني أجني على الحقيقة؛ إذ أدون ما فعل الإيمان في نفسي، إذ أقفص هذا التجاوب بين دفتي كتاب أو ألف كتاب.
حين استجبت النفير
ما أنا بالمتمرد على القوانين، ولا بالذي يعصاها.
ما دامت السلطات لا تعترف بالحزب السوري القومي الاجتماعي؛ فما أنا من أعضائه.
غير أن الحكومة أصدرت مرسوما يحل الحزب، ولا يحل العقيدة - وهذا هو الإيمان الذي لا يسجن ولا يسحق.
لقد أنفقت، بعد عودتي من المهجر، ما يقرب من سنوات أربع أدرس الناس - أعمالهم لا أقوالهم. وظفرت بصداقات حميمة مع قادة أحزاب وجماعات، ورجال عاديين وغير عاديين، ورسميين وغير رسميين، من مختلف الثقافات، والغباوات، والادعاءات، والطبقات والطوائف.
وحدقت بهذه المواكب السائرة على الدروب ببصر جهدت أن يكون متجردا.
فرأيت المواطنين وقد صاروا يكالون أحمال بوسطات، ويستعملون كطوائف النور - للرقص، للحدا، للقواص، للفرجة.
وأصغيت إلى المصلحين يحركون ألسنة تنطلق بالحلاوة، فيما تبطنها السموم.
ولمست الرجعية في معسكرين تعاهدا في ميثاق، هو في جوهره خيانة في التفكير؛ إذ إنه اعتراف بأننا أمتان لا أمة واحدة.
وتطلعت إلى هذا الكرنفال يمثل فيه الحواة والمشعوذون والمهرجون، وتحلق في هوته الخفافيش، وتروج فيه البضائع المغشوشة من مخلفات الاستعمار، ومن مصانع الزيف التي شيدت أخيرا.
واعتبرت كيف نعمت الحياة وترهلت العقائد! وكيف صبغ الجهل - الطائفية من عناصره - والجشع (الترف من أسبابه) كل عمل وكل تفكير!
واستعرضت المنظمات والأحزاب:
فإذا هنالك عروبة هي، حين تنقى، طقطقة مسبحة، وفناجين قهوة، وتندر بطرائف بالية، ونكات هرمة، ومحاولة لعصر قنينة فارغة، وشيزوفرنيا، ذلك النوع من الجنون الهادئ اللذيذ، إذ ينطوي المصاب على شخصيته، ويبايع نفسه ملكا في مملكة الأحلام والأوهام.
وهي، أي العروبة، في فريق ثان، كبريت من التعصب الأكال.
وإذا هنالك لبنانية، حين تصفو، تتلاشى أغنية في موال عتابا، وتذوب نشوة في كأس عرق، وقد تتصلب بطولة معكوسة في ضربة عصا، أو تتجسد خنوعا في وفد ينحدر لتهنئة وزير، وتشرئب ثورة كاسحة في تلغراف احتجاج على شاويش المخفر. هؤلاء هم قرويو ضيعة يدعون أنهم مواطنو أمة.
وهي هذه اللبنانية، إذ تعكر وتموج، تمسي بطولة في معارك ما حدثت، وكركرة الماء في أركيلة ليس فيها تنباك، وشوكة تصوب إلى عين الجار، فيما يقال: إنها سيف في وجه الغريب.
ثم هنالك عقائد أجنبية، إحداها الشيوعية، وهي الظل الأسود للغيمة الحمراء العالقة في سمائنا، مترقبة اللحظة الحاسمة كي تنفجر وتنهمر نارا ودمارا وكفرا وجرائم. يمرح في عتمة هذا الظل الأسود جماعة من المهووسين، والمأجورين، والناقمين، وفئة مخلصة جربت ما توهمته مليحا فوجدته قبيحا، فجاءت تجرب هذا القبيح أملا بأن تجده مليحا، فتعلقت بهذا القطار المسرع نحو الهاوية.
وفي الزمن الأخير، قيل لفتى: إنه نبي، فراح يفتش عن رسالة، ويلملم بخرقة مرقعة من مختلف الأنسجة والأمزجة، تمتص ما تسرب من براميل العقائد، ما تفسخ منها وما تكسر، سائلا عديم اللون والطعم والفعالية، ولكان عديم الرائحة لولا أن رشت عليه حفنة من بهارات الهند وفلافلها؛ هذا الخليط من السوائل صبه فتانا في قالب إقطاعية وبلبلة تفكير، ونادى به على الناس أنه اشتراكية تقدمية، تكفل الشفاء من الأمراض جميعها، وقد يكون أقرب الأشياء التي تشابها كيس الخيش الذي نستورده من الهند، والذي لا يقف إلا حين يمتلئ بمحصول غريب عن وعائه، على أن في أعلاه من الشيوعية زيحا أحمر.
وفي هذا البلد منظمات كصواني المعابد يطاف بها لاستجداء المال، وغيرها لاستجداء النفوذ، وتشكيلات رجعية جديدة، كلها ثقوب مستحدثة في غربال متهرئ عتيق.
هذا والشعب في نقمته، متفرق في ركدته وجهوده؛ فمنهم من يرفه عن نفسه إذ يتثاءب في مقالة واعظة، أو من يفرج عن كربته بشتيمة، ومنهم من يبرئ ذمته بالدعوة إلى مساعدة الفقراء والمظلومين، فيما هو ينتعش من تخمة لينغمس في تخمة، ويفرغ من عد أرباح صفقة، ليرتب أرباح صفقة.
ومنهم من يهمهمون ويهمون، ولا يعزمون ولا يفعلون.
ومنهم المسرف في العويل والصهيل ، يحسبهما للجهاد نفيرا.
ومنهم من تطلع إلى ما تحت سريره، فلما أمن أن ليس هنالك ما يخيفه؛ أوصد الباب ونام قريرا.
ومنهم جماعات لم تتحرر بعد من غريزة البهائم؛ فهي تسير خلف كل من ارتفعت أذناه عن القطيع وعوى أمامه.
وربة باخرة دوى صوت ربانها، وازدهى ملاحوها، وشعت نوافذها، وضخمت مداخنها، وغاصت في وحول المفوضيات والجاسوسية مراسيها.
غير أن جمهور هذه الأمة نبيل، يتوق إلى الكبر، والنظام، والحرية، والحق، والقوة، والعدالة الاجتماعية.
ولقد استجاب الله لصلوات هذه الأمة؛ فظهرت في الشرق - وقد اقتصرت رسائل الشرق حتى اليوم على الروحانيات - لأول مرة عقيدة مادية روحية، قومية اجتماعية، واضحة الهدف، والموحيات، والوسائل، ساذجة ككل شيء عظيم نبيل، تقول بفصل الدين عن الدولة، وبهدم الحيطان التي سورت الطوائف، وبتنظيم الاقتصاد على أساس الإنتاج، وبإنصاف العامل والفلاح؛ فاعتنق هذا الإيمان فتيان وفتيات، كبروا في عيون أنفسهم حين تحققوا أنه يجب أن تكون لهم كرامة المواطنين، وفولذت العقيدة أرواحهم، فلم يعودوا رمالا تذريها الرياح، ولا حصى تتطاير تحت الأقدام، بل قطعة من باطون تحطم ولا تحطمها الرءوس.
تدافعوا على طريق الحياة نحو المصلحة العامة؛ إذ إنهم لا يعرفون أن هم مصلحة خاصة.
ما تبجحوا بالأرواح على ما وقفوها، ولكنهم وهبوها.
ما تغنوا باللاطائفية؛ لأنهم يحيون الإخاء الصحيح، هدفهم وجغرافيتهم وشخصيتهم واضحة بينة الخطوط، لا بالمعقدة ولا بالمزدوجة.
أحيا الفرد منهم نفسه على أتمها وأجملها وأقواها، حين أفنى نفسه في مجتمعه.
في صلب دستورهم وتعاليمهم أن المرأة والرجل متساويان في الحقوق، ومن عناصر إيمانهم أن ليس في الأمة طبقات.
وهذه الحركة رميت بالتهم، ورشقت بالوحول، وفي كل مرة ارتدت التهم والوحول خزيا في وجوه الرامين والراشقين.
هذه الموجة يجب أن تنطلق لتغسل أدران هذا المجتمع، ولتشد قوتها إلى عجلة حيويتنا؛ فنصبح الأمة التي نستحق أن نكونها، إن مئات الألوف من المواطنين يتلمسون في نفوسهم الشوق إلى الإصلاح، والتقدم، والمساهمة القومية، ويجدون في هذه العقيدة مدرسة تربية عالية للرجولة الحقة.
إن التجدد والإصلاح والنهضة، تختصر بعمل واحد ، وهو أن تفسح السلطات المجال لهذه العقيدة؛ فتحتكم إلى الشعب، وتضع بين يديه سفرها، وللشعب أن يتقبلها أو يرفضها.
لا أدري من يبسم لي في غد ومن يعبس، فللباسم أقول: «أعود إلى تفكيري وكتابتي، فأجدك يا أخي رفيقا لي منذ عهد الصبا والتلمذة، ولكننا اليوم تعارفنا.» وللعابس، من قريب أو غريب، أصيح: «لقد بلغت أنا في حياتي وتسياري نقطة اللارجوع، فإن كان هذا يغيظك يا أخي، فهنا نفترق.»
كنت أحسب أن الكبر، كل الكبر، في الخلق والسيادة، ولأول مرة في حياتي أشعر أن في الخضوع كبرا إذ انحنيت واعتنقت عقيدة من خلق وساد، ثم اختصر البطولة إذ ركع، وقال لجلاديه: «شكرا.»
وثبة نحو الضياء
بعد أن ثارت علي عاصفة صحفية كان أكثر الذين زوبعوها من أصفى أصدقائي وعشرائي. ***
أكثر الدروب في لبنان تؤدي إلى الهاوية.
وقبل أن تنزلق الأقلام التي تصدت للرد على بياني إلى صعيد من الجدل لا أريده، ولن أهوي إليه، أريد أن أعترف فورا بكل نقيصة رميت بها؛ فأقر أني رجل لا شأن له في الحياة، وأن حافزي إلى هذه الخطوة طموح جامح؛ لكي أظفر بعضوية في بلدية بعقلين، وإني مدفوع ومأجور، وأعلن سلفا أن كل ما ساتهم به صحيح؛ فأختصر الطريق على المهاجمين بالاعتراف عن جرائم سوداء في ماضي وحاضري.
وأعتذر إلى بعض الصحافيين الأصدقاء الذين عتبوا علي؛ لأن البيان لم يصلهم، بالقول إن جريدة «الأحد» هي التي تولت توزيعه، ويؤكد لي مديرها أنه أرسل البيان إلى الصحف جميعها في وقت واحد.
وفي هذا الإيضاح ما يجب أن يقنع أصدقاء من الصحافيين آخرين ذكروا أنني توجت البيان بمديح عن نفسي؛ إذ إنه ليس من المعقول لو أني أنا الذي مهدت للبيان بمقدمة أن أقول عن نفسي «صاحب المؤلفات الشهيرة»، بل كنت قلت أكثر من هذا بكثير!
ولو أن ذلك الصديق الحبيب يحسن القراءة بقدر ما هو يبدع في الكتابة؛ لما اتخذ من أقوالي موضوعا لافتتاحية، بل لكان هو أول المهتدين.
أما أصحاب «البيرق» فأهنئ فيهم التهذيب الرفيع، والأمانة لأخوة لنا شرف وراثتها أكثر مما لنا فضل خلقها، وأنهم وسواهم من أشراف الناس لو أعملوا البصيرة، وتحرروا، فحاولوا أن يحملوا الماضي الجميل إلى الحاضر، بدلا من أن يشدوا هذا الحاضر إلى الماضي، لاكتشفوا أنهم في صفوفنا «صفوف النهضة»، وأن الأحباء من أحياء وغائبين، تروقهم هذه القفزة إلى الأمام.
غير أني أود أن أذكر هؤلاء الإخوان، وغير الإخوان، أنني لست أنا رهن المحاكمة.
إنني راض بما يعرفه الناس عني، وبما يلهجون به وبما كان يجيء على ألسنة ناقدي اليوم، المغدقين المديح علي في أمسي.
ما أنا بالشخص الذي يعنيني هذا البحث، نحن أمام حاضر أمة ومستقبلها ووسائل النهوض بها.
يعيبون على عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي أنها تناهض العروبة، هذه مغالطة وتشويش، نحن نقول بالعالم العربي وبالجبهة العربية - جبهة تصطف فيها القوميات كما يقررها التاريخ، القديم والحديث والمعاصر، وكما تتطلبها مقتضيات اليوم. لا نريد عروبة يكون الدين من عناصرها؛ لأنها هكذا تحمل في نفسها أسباب هلاكها.
لا نريد عروبة البكاء على الأندلس، وحفظ أقوال الزمخشري، وما حدث به ابن المعتز عن ابن المهتز.
لغيرنا العزة القعساء، نريد عزة هي موديل 1951-1952.
ويتهمون أصحاب عقيدتنا بالتنكير للبنان، أي منطق هذا! من يزعم أن من يريد خدمة أمته هو بحكم الطبيعة متنكر لأمه؟
نريد لبنان فكرا شاملا وقوة منطلقة ساحقة. لقد نشرت لي مجلة «الصياد» كلمة منذ سنوات خمس، قبل أن عدت من المهجر جاء فيها: «أريد الوحدة السورية بعد أن تقرع لها أجراس الكنائس في بشراي، وبكفيا، ودير القمر»، هذا ما تبشر به عقيدتنا اليوم، وما بشرت به أمس، وهذا ما تبتغيه الفئة الصافية الذهن المتطلعة إلى المستقبل.
لقد بشر «هربرت هوفر» ب «عالم واحد»، فما سمي خائنا ولا نصبوا له مشنقة، نحن لا نؤمن بلبنانية تفجر الديناميت في المآتم وتقتصر على التسبيح للأرز، وتلهو بذكرى أمجاد غابرة، ووصف الحنين إلى المغتربين.
لقد قلت لهم في حفلة «الكتائب» في السنة الماضية: إن فخر الدين مات والمير بشير مات، وصلاح الدين الأيوبي مات؛ وأقول الآن للذين يتهمونني بأني غيرت عقيدتي: إن أكثر ما ناديت به قبل اليوم نشر في الصحف، فهاتوا لي عبارة واحدة مجدت بها حزبا، أو دعوت بها لعقيدة، ارجعوا إلى ما طبعتموه أنتم، وأروني كلمة واحدة قلتها تشرد عن موقفي اليوم.
ثم اتركوا النظريات التي تبدأ بجدل لا ينتهي، وقولوا لي أي داء كان أفتك بنا من الطائفية؟ وأي شخص محا عمليا الطائفية من نفوس المواطنين؟ وأي إيمان غير إيمان القوميين الاجتماعيين اجترح هذه المعجزة حتى أعتنقه؟
حين أعلنت الحرية في زمن السلاطين العثمانيين تعانق رجال الدين في بيروت، وفي سنوات فيصل هتف الشباب المحمدي للشباب المسيحي، ومنذ سنتين تجسد الوئام والود في وليمة تاريخية بين «الجناحين»، تمثلهما النجادة والكتائب. وبعد أن تجسد الوئام وزال التعصب تفجر الود في العيدين على ساحة البرج في العام الفائت، رصاصا من رشاشات ومسدسات ودويا من قنابل.
صار لنا عشرات السنين والهلال يعانقه الصليب والجناحان يرفان، والقوافي تؤلف بين الأهلة والصلبان؛ والأمة سائرة القهقرى، حتى جاء إيمان الوطنية الحق الذي شفى الأمة من أفتك أوبئتها.
لا أحتاج إلى تسمية هذا الإيمان، بل أحور قولا للرفيق أسد الأشقر: «كوم التبن لن تبدد الزوبعة.»
في أول مارس ولد الذي بعث الأمة
في سنة 1946 وجه سعيد تقي الدين - وكان عامئذ في الفلبين - رسالة إلى صديقه محيي الدين النصولي، قال فيها: «سينقذ الأمة من أسميه «رجل رأس بيروت»، ولقد أطلقت عليه هذا الاسم؛ لأن كتفيه ستكونان أعرض من صخور الروشة، ورأسه أرفع من المنارة.» ومن الغريب أن الكاتب سنة 1946 لم يكن قد سمع بعد بمن هو اليوم موضوع مقاله هذا. ***
لم أعش بعد أن انجلى عني ظل أبوي إلا مرات ثلاثا في ظل إنسان، استمرت أولاها شهورا ستة حين لجأت - هكذا تبدو الحقيقة اليوم - إلى مكتب كامل حمادة في «مانيلا»، فعقدت معه شراكة أقاسمه فيها أرباحا مرجوة، وبينما نحن ننتظر الأرباح، كثيرا ما فصلت بيني وبين الجوع إشارة بقلم رصاص يدونها كامل حمادة أمرا لأمين صندوقه بدفع ريالات خمسة، وفيما كان الامتنان يغمر قلبي، ولا أفوه به إذ ذاك، وأنتشي بإذاعته اليوم، كنت كثيرا ما يتأكلني البغض - بغض كامل حمادة - وأسائل نفسي: أي حظ، أي نظام، أي قدر حكم ظلما؛ فجعل من هذا الرجل محسنا، وجعل مني محسنا إليه؟
وفي حزيران الماضي عشت ساعات أربعا في ظل رجل آخر هو شارل مالك، حين خلوت به في «النادي الدولي» أتحدث إليه لأحدث الناس عنه، وإني على شغفي به لم أملك نفسي خلال تلك الساعات من كبح موجات من النار، تثور في نفسي وأنا أسائلها: لم أحدث الناس عن هذا الرجل بدلا من أن يتولى هو التحدث إلى الناس عني؟ إن كان في الدنيا من لا ينقم على نفسه؛ لأنها ليست في الذروة فهو إله يعبد أو صعلوك لا شأن له.
وأن مقياس كبر النفس ليس في انعدام هذا الشعور بالنقمة، وهي من حوافز الطموح، بل في أن تتهرأ هذه النقمة على نفسك؛ فتصبح حسدا لسواك، أو في أن تتصلب وتخشن؛ فتنطلق عدوانا لئيما يتنقص من قيمة من يتفوق عليك.
واليوم - وهذه هي المرة الثالثة التي أحيا خلالها في ظل إنسان - إذ أصبحت القومية الاجتماعية دفة حياتي - أسائل نفسي: هل انعدم في نفسي شعور النقمة على خالق هذه العقيدة بسبب أن جسده دفين؟ أتراني كنت انضممت إلى صفوف القوميين الاجتماعيين لو أن مبدعها لم يضم رفاته التراب؟ أكانت أنانيتي وكان اعتدادي يردعانني عن الاعتراف بتفوق مخلوق؟ وقد يكون من السهل الكذب والجواب «نعم»، أو من مجاورة الحقيقة أن أقول: «لا أدري»، ولكن الذي يعنيك من هذا الأمر ويعنيني هو أني اليوم أشد احتراما لنفسي؛ إذ أقررت بفضل كامل حمادة وأحببته، وحين وجدت لذة بأن أتحدث عن شارل مالك.
وهذه النون المتقعرة بين ألفين، صميم ال «أنا» هذه الذات التي عبدتها وطالما ازدهيت بها، والتي من صلب العقيدة القومية الاجتماعية، وأول شروطها أن تذوب وأن تفنى، أحقا أنها امحت؟ أليس من العبث أن يقوى الإنسان على أن يفني نفسه وأن يذوب؟
الجواب بسيط ليس فيه اضطراب ولا تناقض، بل إن فيه حقيقة وعمقا؛ إن الواحد منا يحيي نفسه ويذكيها إذ ينكرها. إن أشهى لقمة تأكلها هي لقمة تطعمها لسواك، إن الأمومة التي جوهرت نفس أمك وأمي ورفعتهما ووسمتهما بطابع الألوهية، إن هي إلا إنكار الذات وتذويبها وإفناؤها، وبالتالي إحياؤها.
يسألونني: هل عرفت ذاك الذي نفذ عقيدته فناء بخلود؟ أقول: لقد اجتمعت إليه مرتين خلت ثانيتهما طويلة؛ واليوم أرى أنهما جاءتا تمهيدا لاجتماعات مقبلة، وها أنا أجتمع إليه كل يوم من جديد وأتعرف إليه كل ساعة.
لعل أرخص أنواع البوح عن النفس هو الكلام، قد يكون المهندس أشد إفصاحا عن عبقريته حين يصمت، مشيرا إلى الطريق التي اشتقها، والجسر الذي بناه، والقصور التي شادها. هذه الطريق التي أسير ويسير عليها الألوف من الرفقاء اشتقتها يداه، وهذا الجسر الذي وصل ماضيا بعيدا مجيدا بمستقبل قريب مجيد هو الذي بناه، وهذه القصور التي شادها صاحب العرزال في نفوس المواطنين، كلها تحدث بالتصاميم والخرائط والبناء التي صنعتها يدا رجل الجيل الجديد.
في تاريخنا الحديث ظهر في بلادنا من أوحى البطولات نقمة على شيء، واستثار الناس إلى هدمه. لأول مرة في تاريخنا الحديث ظهر من استثار البطولات استنفارا لصنع شيء، وكانت النقمة في هذه البطولات عنصرا جزئيا لا الحافز الطاغي.
إن البطولة تمجد كيفما ظهرت، ولكن البطولة التي تحدوها بهيمية البغضاء فحسب، لا تبني ولا تحيا، بل هي تنتحر حين تفترس، هو ذا تاريخنا في كلمتين بعد عهد الاستعمار: افتراس فانتحار، أما القومية الاجتماعية فهي أبعد ما تكون عن الحقد والعداء والبغضاء، فهي تسمو كلما انتصرت؛ لأن الافتراس والتهديم ليسا من حوافزها، وهذه العقيدة ليس لها حد تقف عنده؛ إذ إن الانتصار المتجسد بتحقيق هدف جغرافي، حدده العلم والتاريخ والمنطق والمصلحة - هذا الانتصار ما هو بالغاية النهائية الكبرى التي نهدف إليها، بل إن هذا الانتصار هو نتيجة جزئية محتمة لانتفاض النفس القومية الاجتماعية، التي لا حدود لإمكانياتها. إذن فحركتنا هي بطبيعتها أبدا متجددة منطلقة تأبى الوقوف عند حد أو الجمود أو الركود؛ فنحن لن نصل إلى يوم نهلل فيه: قد وصلنا.
ولقد سبق أن قام في هذه الأرض من جمهر الناس إغراء أو تخويفا أو تملقا ووعودا، ولكن من معجزات رجل الجيل الجديد - وأعماله لا توصف بأقل من أنها معجزات - بل إن من معجزات رجل الجيل الجديد أنه استهوى بالحقيقة وبالعلم المجرد، فجاء الإيمان بعقيدته أقوى الإيمان؛ لأنه استهوى من النفس البشرية اسمى عواطفها، وأعمق مداركها، لا بهيميتها ولا أثرتها؛ ولأنه دلها على الاقتدار الكامن فيها - في الروح التي يحيا بها جسدها، وفي الجسد الذي هو جهاز روحها؛ ولأنه عرف أرضها جبهة يقاتل من أجلها مواطنون وفيها ينتجون.
إن الذي ولد في أول مارس، وارتفع رأسه إلى أعلى من منارة رأس بيروت، وعرضت كتفاه؛ فهما أقوى من الروشة وأضخم، هذا الرجل يمد فيئه في هذه البلاد يوما بعد يوم، وأن الألوف من الرجال والنساء هم أشد احتراما لأنفسهم وثقة بها وبمستقبل الأمة؛ لأنهم يعيشون في ظل عقيدته.
أريد أن أنشق فوح دمي ...!
مقدمة المقدمة: مهدت للمقال بالمقدمة؛ إذ إن القانون منع التحدث عن جورج عبد المسيح، وهو المحكوم بالإعدام مرات كثيرة.
كان مطعم مطار بيروت مكتظا حين فتشت عن كرسي فلم أجد، وهممت الخروج، فإذا بفتى منفرد إلى طاولة يدعوني، ويقدم لي الكرسي الوحيد قبالته، وتعارفنا وسهرنا؛ فقرأ علي الكثير من كتاباته، وحدثني عن أسفاره، وأخبرني أنه مسافر إلى البرازيل، ورجاني أن أنشر له الحديث الذي تذيعه اليوم «صدى لبنان»، حديث أشرف عليه - كالعادة - رفيقي محمد يوسف حمود، ولا أدري كيف نسيت اسم محدثي ذاك.
ولكنه وعد أن يكتب لي ثانية. *** «بلى، بلى، إني أعرف هذا الرجل، لقد اجتمعت به فيما سبق، أين ...؟ أين ...؟ مدينة بومباي ...!»
بهذه الكلمات كنت أحدث نفسي حين واجهني جورج عبد المسيح لأول مرة.
وكدت لا أسمع الكلمات القصيرة التي تعارفنا بها. وظلت مدينة بومباي ماثلة أمام عيني حتى دخلنا غرفة صغيرة كأنها قفص، وراح جورج عبد المسيح يقدم كرسيا حاملا غلاية قهوة، عرفت فيما بعد أنه أعدها بيديه، ونظف مرمدة سكاير، ثم نقل طاولة إلى حيث جلست، وكان يقوم بهذه الأعمال لا بتأدب من يتعمد الكياسة الاجتماعية، بل شأن من ألفت يداه تولي أموره.
وكنت متأكدا من أنني لم أشاهد لهذا الرجل صورة من قبل، ترى كيف خيل لناظري أنني اجتمعت به فيما سبق؟! «بومباي بومباي ... ما علاقة جورج عبد المسيح بمدينة في الهند؟!»
وبعد أن نظف وأصلح وهندس، دار بظهره إلي في طريقه إلى كرسيه خلف طاولته، فإذا الشعر الكثيف يبدو كلبدة، وإذا بصخرين يموران فوق عضلات، في زندين وساعدين، تكاد تمزق الكمين، وإذا هو يخطو على مهل، كأنه يمشي على وقع موسيقى هادئة.
وحدقت به فإذا هو أقصر مما ظننت وأضمر مما توقعت.
وتطلع بي من غير أن يعبس ومن غير أن يبتسم؛ فشخصت بي لمحة عينان فيهما حذر وفيهما يقين، تتألق بهما الشجاعة لا شرسة مبتذلة، بل صافية سامية هادئة.
وشعرت بشيء من الرهبة حين خلوت به في تلك الغرفة التي تشبه القفص، وتكلم جورج عبد المسيح؛ فإذا في صوته بحة وفيه هدير، ولاحت مدينة بومباي من جديد، وفجأة أدركت كيف يتآمر الشعور مع العقل اللاواعي؛ ففي مدينة بومباي رأيت الأسد لأول مرة وسمعت تهداره، وكان الأسد في قفص.
واستأذنني دقيقة ليكتب مقالا، وما إن ذكر كلمة «أكتب» حتى شعرت بتيار يصخب في عروقي، ويثب موجة عارمة تنصب في فراغ كان هناك. وإذا بنفسي نقمة محرقة على هذا الجالس قبالتي - هي ثورة الرجولة على تأنث الخضوع، الذي تملكني لمحة، وإذا بي بركان من البغض والمقت والكراهية والازدراء يجيش على هذا الذي استحال عدوا في لحظة واحدة، وكأنما هو أراد أن يسهل مهمة الكراهية علي حين انبرى «يكتب» في «حضرتي».
وأنست بهذا الهزء يطفو على تحرق العداء، ورحت أنظر إلى تلك اليد الضخمة، وطابة من عضلات تكومت هضبة بين الإبهام والسبابة.
إنه «يكتب».
إنه لمشهد مضحك - جورج عبد المسيح «يكتب». هذه يد خلقت لتلتف حول معول لا قلم، أو لتغرف قنبلة.
إنه «يكتب» هذا الجورج عبد المسيح.
وأسرعت الصفحات أمامه تمتلئ، كيف يكتب هذا «الكاتب»؟ أهذا القلم حنفية تنفتح عن برميل؟ وشارة «الزوبعة» أمامه وخلفه وعلى الحيطان!
وسألته أن يطلعني على ما سطره بلهجة المعلم يطلب من التلميذ أن يقدم له «الفرض» الذي كتبه.
وقرأت ما كتبه جورج عبد المسيح، فكان ذلك بدء الطريق التي لا تنتهي.
منذ تلك اللحظة أيقنت أن من يصيب القليل من الشهرة، يستقطر غروره من أثرته خمرة تنفخ أوداجه؛ فتثمل عيناه، ويسفنكس هناك متعبدا في صومعة ذاته. •••
وكثر ترددي عليه بعد الزيارة الأولى، وتأرجحت عواطفي حياله من مقت وكراهية، إلى ود ومصافاة، وإني لأذكر ساعات كان أشهى ما لدي أن يغيب هذا الرجل عن فكري ونظري إلى الأبد، وها أنا اليوم - بعد ما يقرب من السنتين - أجدني أشغف ما أكون به أخوة وإعجابا.
في يقيني أن لهذا الشعور سببين: أولهما أن قد ترفعت نفسي عن تلك الأثرة التي تستثير العداء لكل متفوق في السلطة أو القوة - أي مناحيها - من عقلي وجسدي، واتحدت في ولاء لإيمان صهر الجهود؛ فأصبح الواحد يجد في انتصارات رفيقه وكبره كبرا لنفسه وانتصارات لها، والسبب الثاني أن سنتين من معاملة ومباحثة كشفت لي عن هذا الرجل، كل مناحي نفسه؛ فتمادى إعجابي به وودي له حين وضح قطعة إنسانية كاملة.
ولغير مناسبة، ولغير سبب، قصدت إليه أستنطقه هذا الحديث، وقد لا يكون لهذا الحديث من حافز إلا أني صرت أفهم هذا المواطن بعد أن اختبرته غاضبا، راضيا، ثائرا، ساكنا، واعظا، متعظا. وصار من الواجب أن تتعرف الأمة من جديد إلى هذا المواطن، وهو بعض ثروتها الوطنية الموارة في حناياها.
سألته السؤال التقليدي فأجابني: ولدت في زاوية البيت، وبيتنا اليوم خربة فوق «عين المشرع» قرب «بيت مري». - أبوك؟ - مات أبي إبان هربي في 2 آذار 1943. - ممن هربت؟ - من سلطات الحلفاء التي تمركزت في حلب، حكموا علي بالإعدام بتهمة التجسس للألمان، وكنا، نحن القوميين الاجتماعيين، معتقلين عند الألمان الذين اتهمونا بالتجسس لهم . الحقيقة أن الإنكليز قبل زحفهم نحونا من فلسطين نفثوا قطيعا من اليهود، الذين يتكلمون العربية، فجاءت تقاريرهم تقول: إننا نحن القوميين الاجتماعيين نؤلف قوة مقاتلة؛ فبادروا إلى شطبنا من هذه المنطقة الحساسة. - وأمك؟ - هي في بيت مري، عمرها 83 سنة، إنها لن تراني؛ فهي قد فقدت نظرها، أمي عمياء، لا تسلني عنها، لا أقدر أن أتكلم عن أمي، سل سواي يخبرك، عبد الله قبرصي مثلا، أو أسد الأشقر، أو جورج مصروعة. - قل لي شيئا عن طفولتك، عن ثقافتك. - أول محاضرة سمعتها كانت من أبي، كنا نحرث في الحقل، أي إن أبي كان يسوق الفدان، وأنا أضرب بالمعول خلفه، اقتلعت الكثير من جذور قاسية عميقة - جذور التيول - وحملتها إلى حقل جارنا العدو، ورميتها لكي تنشب في أرضه، ورجعت أخبر أبي فخورا بما فعلت؛ فخلع أبي النير عن الفدان ومشى بي إلى فيئ شجرة، وهنالك جلسنا أستمع إلى أول محاضرة في حياتي. إن أبي لم يأمرني بأن أفعل شيئا، ولكني بعد سماع محاضرته رحت إلى حقل جارنا وأحرقت جذور التيول. هذه أول معركة انتصرت فيها على نفسي. - وغيرها من المعارك؟ - كثيرة، أذكر منها معركة الخوف في الحرب العالمية الأولى، وكان عمري 6-7 سنوات، وكان لي عم، اسمه جورج عبد المسيح أيضا، حكم عليه الأتراك بالإعدام لانضمامه للحركة اللامركزية، وكان مختبئا في الحرش قرب بيت مري، وكنت أذهب إليه في الليل، مارا بالثكنات العسكرية حاملا الزوادة، وكثيرا ما رأيت الوحوش تنهش جثث موتى الجوع، وصرت أستلذ الأخطار، وأتمهل في سفراتي الليلية. لي عم آخر اسمه يوسف عقل عبد المسيح مات في نيوزيلند متحرقا، لقد قصر عمره عبيد الأتراك، وعبيد الإنكليز، وعبيد فرنسا. - حدثني عن أنباء قتالك. - كثيرة، فلسطين مثلا، حاربنا سنة 36 وسنة 38، فرقة الزوبعة، قتل هناك سعيد العاص. - أكان سعيد العاص قوميا اجتماعيا؟ - بالطبع كان قوميا اجتماعيا، أنا الذي كرسته، كنا في فرقة واحدة، ولكننا لم نكن معا في المعركة التي قتل فيها. مات وشارة «الزوبعة» على صدره، وقد انتزعها ضابط بريطاني حملها إلى بيروت يفتخر بها، وقد هنأه يومئذ مواطنون أفاضل، اتهمونا فيما بعد أننا تحالفنا مع اليهود. بعض هؤلاء الأفاضل هم اليوم في بيروت، في مراكز السلطة والمال تحفل الجرائد بصورهم وأخبارهم ومواعظهم الوطنية. كان قائد فصيلي في فلسطين عبد الرحيم الحاج محمد. أذكر من الأبطال رفيقي بشير فلاحة «دمشقي»، وبشير الزعيم هو رئيس الأمن العام في اللاذقية اليوم، استشهد بعضنا في تلك المعارك - عشرة، اثنا عشر، لا أذكر، نحن لا نعد قتلانا. وبعد وقوف المعارك أردنا أن نقيم لشهدائنا حفلة في بيروت؛ فاعتقلنا الفرنساويون وحاكمونا وسجنوننا. - حدثني عن سرحمول سنة 1949. - كنا في سرحمول ثمانية. - قتل أحدكم - محمد ملاعب في تلك المعركة؟ - لا، لا، محمد ملاعب لم يقتل، إنه جرح في المعركة، ونقلوه إلى السجن مكبلا ودمه ينزف، وأحذية ثقيلة ضخمة تدوسه في الشاحنة وفي باحة الأسر.
وهنا خرس لسان جورج عبد المسيح؛ فسمعت صرير أضراسه تجرش الذكريات، ورأيت قذائف الكلام تطلقها عيناه لا شفتاه، ثم أردف متحرقا على محمد: في ساحة الأسر ضربوه وشتموه، وهناك رفع محمد ملاعب رأسه وضرب به الأرض، إن العشرات من مواطنينا رجال الدرك ما يزالون يروون المشهد الصارخ، كما يردده العشرات من رفقائنا، الذين كانوا يطلون آنذاك من وراء قضبان الحبس، إن القوميين الاجتماعيين كلهم يحسون في جباههم اليوم وإلى الأبد عزة جراح محمد ملاعب، وفي قلوبهم رجفة أرض بلاده حين هزها هذا الشهيد برأسه. - ما هي أكبر حسرة في حياتك؟ - هي أنني لم استشهد حتى اليوم، أريد أن أموت بالرصاص، متخبطا متضرجا بدمي، أريد أن أنشق فوح دمي، أريد أن أراها تشخب متفجرة من عروقي، وأن تطول ساعة احتضاري، وأن لا يغيب وعيي لأتمتع برؤية نفسي كيف تموت لتحيا سوريا.
وسألته: كنت أتوهم أن مقتل سعادة كان لك أكبر صدمة عاطفية؟ - عن أية صدمة عاطفية تتكلم؟
لم أفجع بالزعيم إلا كما يفجع الجندي بقائده، صرعته الخيانة في أوج المعركة، كنا - ولا نزال - في ذروة معركة إنقاذ هذه الأمة من مشعوذيها، من خونتها ولصوصها وطواغيتها، من مستغلي عمالها وفلاحيها وفقرائها وجهالها وضعفائها، من الذين اخترعوا المثالية وسيلة للأنانية؛ فتردوا بمسوح الأنبياء. أراد الزعيم ونريد، إنقاذ هذه الأمة من النظام، الذي صنف المواطنين طبقات، وطوائف، ووسم الشعب بميسم العبودية للأجنبي، ولعميل الأجنبي ولتجار الدين والوطنية. - من هم أعداؤك؟ - ليس لي عدو، وأنا فرد لا أهمية له إلا بمقدار ما ينتج، في سبيل حركة تعبر عن الحياة وعن عظمة هذه الأمة. والحركة أعداؤها أعداء هذه الأمة، ونحن نعتقد أن في كل مواطن خيرا أعتقته فيه حياة أمتنا، وأن حركتنا من مهماتها أن تكشف عن القوة والخير والجمال الكامنة في نفوس المواطنين. ليس لنا عدو، وكل من نفذ مبادينا فهو صديقنا، على أن يستحيل على فرد أن ينفذ كل مبادينا، ويفصح عن كل إيماننا إلا إذا انتظم وفعل. - أصحيح أن في نفسك حسرة لابتعادك ورفقائك عن لبنان، ولبقاء المساجين القوميين في الحبوس؟ - نحن لا نعرف من الحسرة إلا الحسد، حسد الرفيق للرفيق يسرت الحوادث لأحدهما شرف التضحية واستثنت الآخرز أما الابتعاد والسجن والموت والفقر والاضطهاد فكلها مخاطر توقعناها وتحديناها، عندما تجندنا لخدمة الأمة، وما لم نفطن له نبهنا الزعيم إليه بقوله: «إن آلاما عظيمة، آلاما لم يسبق لها مثيل في التاريخ تنتظر كل ذي نفس كبيرة منا.» يتوهم البعيدون عنا أن أيام صراعنا ولت، أقول لك: إن أيام الكفاح أمامنا لا خلفنا. اختبرنا الخونة والكذابين والدساسين، وعرفنا المغاور والسجون وميادين القتال. المبتعدون؟ أي مبتعدين؟ أما الذين منا عن لبنان مبتعدون، فمن هو في الكويت أو الموصل أو القامشلي؛ فهو في وطنه لا مغترب عنه، ومن هو عبر الحدود فهو معنا في الحركة، وأما الأسرى - أقول الأسرى - فلا نحن نلتاع عليهم، ولا هم يلتاعون، إنهم ينفذون واجبا عاديا؛ وليس أسفنا إلا بقدر حرمان هذه الأمة من إنتاجهم الكامل، غير أنهم هم ينتجون لحد ما، والإنتاج من تبشير، وتثقيف، وتقوية نفس، هو من فروض القومية الاجتماعية. - ما حالة الحركة القومية الاجتماعية في هذه الأيام - انتشارها وحيويتها وفعاليتها؟ - الحركة مثل كل حياة هي تنمو وهي تنتصر، وهي أبدا تمر في أزمات خلال صراعها. ولكننا منتصرون، ولقد فعلنا حتى في نفوس أعداء أمتنا؛ إذ أصبحت أساليبهم في مقاومتنا أقل خساسة، وفي بعض القطاعات اقتصرت المقاومة على الصراع الفكري، وهذا ما نحترمه ونريده.
ولسبب ما تراءى في خاطري جان جلخ، يحاضر في مطعم العجمي، وفيليب ضرغام خلف مذياعه تحت شجرة العدلية، وتصورتهما يقرأان هذا الحديث ويعلقان عليه؛ فهرعت أنتقل إلى موضوع سياسي مثير.
قلت: ما موقفكم من العداء القائم بين المعسكرين الروسي والغربي؟ وهذا الحديث عن تفاهم مع تركيا؟
أجاب: إن تركيا التي استعمرتنا يشوقها أن تستعمرنا من جديد، وعبيد الاستعمار من الذين تستلذ رقابهم النير لذة «فرودية» بدءوا يرحبون بهذه الفكرة. يهمنا من النزاع العالمي مصلحة أمتنا؛ ولن نضحي بهذا من أجل شرق ولا غرب، نحن أعداء الاستعمار ونقاوم الشيوعية؛ لأنها وسيلة استعمار روسي؛ ولأنها عقيدة مضللة باطلة، ولكننا لن نسمح للغربيين أن يستغلوا عداءنا هذا للشيوعية ليبيعونا بيعا مصالح هي من حقنا، ولا تنس أن المواطن يبقى مواطنا لنا حتى ولو ضللته الشيوعية، يدعي الغربيون أنهم يشتغلون من أجل عالم حر، ونحن لم نر من أعمالهم إلا اضطهادا للحرية.
قلت: حدثني ماذا فعلت هذه الحركة؟
أجاب: إنها انتصرت فينا.
وكأنه لمح صورة جان جلخ وفيليب ضرغام تتخايل أمام عيني، فأوضح: اسمع، كل من اعتنق عقيدة النهضة طهرت نفسه، فلم يعد طائفيا ولا قبائليا ولا أنانيا يسخر المصلحة العامة لمصالحه الخاصة، وشعر بمسئولية نحو بلاده تحفزه للعمل من أجلها، واحترم نفسه؛ فانتفض مطرحا عبوديته للأجنبي، وللإقطاعي ولتجار الوطنية والدين، وتعاون مع رفقائه ومواطنيه و... و...
فقاطعته: وهذا الصيت الذي انتشر من أنكم جماعة إرهابية؟ - نحن لا نؤمن بالعنف، ولكن قطار الحياة يمحق معترضه، نحن جنود لا قبضايات. إن القائمين على الأمر في لبنان اليوم يفهموننا، وإن كانوا يتجاهلون، هم يعرفون عنا بالاختبار والتجربة متى نعلن التعبئة ولماذا. نحن ننفذ إرادة أمتنا ومصالحها وميعادها مع العظمة، ليس منا من يبغي شيئا لنفسه، ومن طلب شيئا لنفسه فما هو بالقومي الاجتماعي. نحن أبدا مستعدون للتضحية عن وعي في سبيل المصلحة العامة ولا نأبه للتوافه والحقارة.
الحياة صراع، والموت من شروط استمرار الحياة وتغذيتها. الحياة تفرض النمو وتنتدب للموت سلبا وإيجابا، من صفوفنا أو من خارج صفوفنا، من يفنى ليحيا فيزول، أو يزيل حاجزا يعرقل الحياة. هذه نظرتنا للواجب، والقومي الاجتماعي ليس له من حقوق بأكثر من أي مواطن آخر، غير أن حركتنا تقسو عليه بأكثر من قسوتها على سواه؛ لأنه أشد وعيا، فهو إذن أكثر مسئولية، تلك المرأة العمياء في بيت مري - أمي - لن أقوم بواجب البنوة نحوها؛ فأفي حق الأمومة إلا إذا كنت متفانيا مع أبناء بلادي من أجلها، ومن أجل كل أم ووالد وولد في بلادي، في نابلس، في النبطية، في أهدن، أو في بغداد. أرملة الشهيد - شهيدنا عساف كرم وأيتامه - ليس لهم علينا أكثر مما لسائر أرامل وشهداء الأمة وأيتامهم في ذمتنا.
ودوى في الغرفة سكون، فإذا بشارات الزوبعة التي من حوله تهم أن تعصف، فتداركتها بسؤال عادي: وكيف تقضي أيامك؟ - أكتب نحوا من عشر ساعات، وأطالع خمس ساعات، وأحاضر ويأخذني التنظيم ساعات، وفي بعض الليالي أنام.
ودفعت إليه بورقة بيضاء وقلت له: اكتب عليها أسماء من تعتقد أنهم أفضل القوميين الاجتماعيين.
قال: ليس بيننا مفاضلة؛ مبادئنا وإيماننا وتعاليمنا ووسائلنا معروفة، من فعلت به صيرت منه المواطن الأمثل، لا يفضل أحدنا الآخر إلا بقدر ما فعلت فيه العقيدة.
قلت: اكتب لي أسماء من جعلت منهم العقيدة المواطن الأمثل.
فتناول الورقة، وكتب على صفحتيها: «أنطون سعادة». - وأنت؟
فأجاب مهمدرا: لا، لا أنا ولا سواي، أنت تعرف مئات، وأنا أعرف ألوفا من رفقائنا قد تحسب أيا منهم المواطن الأمثل، ولكن هذه الورقة بيضاء إلا من اسم الزعيم، وستبقى بيضاء حتى تبلغ هذه الأمة هدفها، وهدفها يتصاعد ويسمو أبدا كلما اقتربت منه. صاحب هذا الاسم مات راكعا على رمل بيروت، ويداه مربوطتان بحبل - بهذا الحبل (وأراني قطعة منه راحت تلاعبها أصابعه).
قال ذلك من غير انفعال !
وسألته عن ثقافته، فأجاب أنه تخرج من الجامعة الأميركية سنة 1933 شبه متخصص بالاقتصاد، وأنه تعلم الفرنسية في المدرسة وأتقنها في السجن، وأنه أسس وترأس «الجمعية الحورانية» في مدرسة بيت مري أو برمانا سنة 1925، انتصارا للثورة الحورانية ضد الفرنسيين، وأن أحد شعراء لبنان أعجب شديد الإعجاب بشعر منثور قرأه عليه جورج عبد المسيح، على أنه ترجمة عن الصينية، ولكنه كان من تأليفه. والأدب؟ «لن يبرز حتى يتركز الأساس الاقتصادي، والأديب يجب أن يشق أثلاما ويبذر. وفي هذه الخمسين سنة قام أديب واحد في سوريا اسمه جبران خليل جبران، وفي لبنان اليوم شاعر واحد حي، وآخر هم بأن يكون شاعرا. والنهضة القومية الاجتماعية؟ «إن أدبها بدأ بالظهور.»
والسياسة؟ إن القومي الاجتماعي يجب أن لا يهتم بها، والحركة القومية تعتبر السياسة لأجل السياسة ليست عملا قوميا، وهي آخر ما تهتم به، ومبعث الاهتمام هو أن المقاليد في أيدي رجال عقيدتنا أقرب إلى التنفيذ لمصلحة الأمة منا في أيدي سواهم، مشتغلون بالسياسة أراخنة ينافسون الكوكا كولا والبيبسي كولا بالإعلان عن أنفسهم، نحن نعرفهم كلهم، وخبرناهم كلهم، وعاملناهم كلهم - كل أرخون منهم، لكل واحد رداء يزين ويضخم، ويخبئ شخصا واحدا اسمه «أنا». والشعب في تشوفه إلى الإصلاح والتقدم يرى الواحة في سراب الأراخين؛ فيكثر في فترات من الغفلة المنبهرون المعجبون المهللون - المخدوعون، وما هي إلا يقظة وعي حتى يعودوا لا منبهرين ولا معجبين ولا مهللين - لا مخدوعين.
والموسيقى؟ يعرف عنها، والفلسفة ... ها ... هنا لا تفتح كتابا بل مكتبة، هو يعتقد أن أنطوان سعادة أعظم فيلسوف، ويتلوه زينون الروائي، ولكنه يناقش في عشرات آخرين من الفلاسفة إن كنت من تلامذتها وطاب لك التحدث عنها من غير أن تخاف جان جلخ أو فيليب ضرغام. •••
وعدت أسائل نفسي ما الذي يميز هذا الرجل عن سواه؟ فكان الجواب سؤالا ثانيا «هل في هذا الرجل ما يميزه عن سواه؟»
لقد استمعت إلى جورج عبد المسيح يقصف نقدا مدمرا، ورأيته يتلقى قنابل النقد، وإنك لتقرأه بشوق وإمعان، وتستفيد منه معجبا بعمق تفكيره وواقعيته، أصغيت إليه يروي بخيلاء صبيانية، كيف كسب في أربعة أشهر - أربعة أشهر فقط - مبلغا صخما 1200 ليرا (ألف ومائتي ليرا، لا أقل) متجرا بالحطب، وكيف تطلع إلى شجرة فرازها بعينيه، وحكم: «إنها تزن أربعة قناطير»، وجاء الوزن - ويا للعبقرية - أربعة قناطير، وأصغيت إليه يشرح لي عبارة عمقت عن فهمي، وسمعت منه ألف «رفة جناح»: «هربوا وهم قاعدون» «لبخ خبيزة على وجع الرأس». «حاملة الجرة لا ترى الجرة»، وتطلعت إليه يستمع إلى جمع من الطلبة عادوا من سجن في مصر أيام فاروق (يا نديم دمشقية، يا ابن خال محمد البعلبكي، يا من كنت يومئذ في المفوضية اللبنانية في مصر، يسرني أنك ابن خال محمد البعبكي لا ابن خالي) يقصون أنباء سجنهم، ويشيرون إلى رفيق لهم خاط شفتيه بإبرة وخيط احتجاجا على سجنهم، رأيته يستمع إلى الحديث من غير أن يلتفت إلى الطالب القومي الاجتماعي أو يظهر إعجابه، ورأيت وجهه يشرق حين لبس بدلة جديدة (بدلته الوحيدة عمرها خمس سنوات) أرسلها له هدية جورج حداد، من تقول؟ أي جورج حداد؟ نعم هو بذاته، ذلك الذي اقتلع أذني بأسنانه، نحن لا نحقد؛ على كل حال أذن واحدة تكفيني.
جورج عبد المسيح يصلح أن يكون موضوعا لكتب لا لمقال.
ما الذي يميزه عن سواه؟ والجواب هو سؤال: هل في هذا الرجل ما يميزه عن سواه؟
من السخف أن نشبهه بالأسد. من السخف تشبيه الإنسان بالحيوان. الشجاعة؟ متى تخلص الإنسان من الخوف «وباعها»، يتساوى مع الذين باعوها. القوة الجسدية؟ أنت وأنا نعرف من هو أشد عضلات منه. الفكر؟ هو تلميذ فلسفة عميق التفكير، ولكنني أعرف من يضاهونه. الأدب؟ في بيروت عشرات من هم أعلى منه أدبا بالمعنى الشائع. الإيمان؟ كلنا يؤمن بشيء، المرتشي يؤمن بالرشوة، وتاجر الوطنية يؤمن بالتدجيل.
إذن ما الذي يميزه؟
لا شيء، إلا أنه آمن بعقيدة نظمت تفكيره، ونسقت أعماله، عقيدة ارتكزت على العلم والقيم الإنسانية - أو بعبارة ثانية عقيدة صحيحة.
قالت له هذه العقيدة: اطلب القوة في نفسك وانتظم مع رفقائك. قالت له: أعط. وقالت له: ولاؤك الأول والأخير لأمتك ومصالحها. قالت له: أنت لا شيء وحدك، والمجتمع كل شيء معك؛ فشعر أنه كل شيء لأنه المجتمع. قالت له: كن شجاعا ولا تكن أزعر بهوارا، واغسل نفسك من أدران التفكير الحقير، وأوهام الطائفية، والإقطاعية، وعلم الغيب. ما استهوته بالخبز، ولا بممتلكات سواه، ولا أوغرت صدره على جيرانه فلم تغر بهيميته. بل قالت له: كلكم مواطنون متساوون - رجالا ونساء - حقا في الكسب، وواجبا في الإنتاج. لم تحتقر المادة ولم تؤلمه الروح؛ لأن الحياة كما نفهمها وكما هي، هي مادة وهي روح (هذه هي المدرحية).
لم تعده العقيدة بالحل الرخيص، ولا الطريق المختصر، ولم تقلده رقية من نشوة مبهمة، بل استهاجت القوى التي تؤمن أنها كامنة فيه؛ فهبت فيه الرجولة الواعية، الرجولة التي جاءت لتعطي وتصارع، لا الحقارة التي هرعت تحدوها الغريزة العمياء، لتنهب وتتمتع، فحين اشرأب الكبر في نفسه صار جورج عبد المسيح.
لا، لا، جورج عبد المسيح هو رجل عادي، آمن بشيء يؤيده العلم؛ فانتفضت عناصر نفسه، وانتظمت، بطولة فكر، وجرأة.
في يقيني أن في وسع أي واحد من مواطني هذه الأمة أن يصبح كجورج عبد المسيح، أو أفضل منه. تلك الورقة التي خط عليها الأمين عبد المسيح اسم أنطون سعادة ... لن تبقى بيضاء. إن السطر الأول، والاسم الأول، والقومي الاجتماعي الأول لن يكون السطر الأخير ولا الاسم الأخير.
قطعة الحبل التي تقلبها جورج عبد المسيح، خيوطها أبدا تتكاثر وتتفولذ، ذلك الحبل الذي التف على معصمي من آمن أن موته شرط لانتصار قضيته، سينشل الغرقى كلهم من مهاوي وادي أبو جميل إلى مشارف ضهور الشوير.
حين تروكب العدالة
أطلق مجهول على الأستاذ يوسف شربل رئيس مجلس الشورى ثلاث رصاصات، وروت الصحف أن مطلق الرصاص روكب (تعطل) مسدسه، وقيل يومئذ: إن مطلق النار فتى اسمه حسين الشيخ، من أعضاء الحزب القومي الاجتماعي. ***
الحضارة - إن شئت وصفها اختصارا - وجدتها صراعا مع الشر.
ما اطمأن الإنسان الأول إلى ملجأه في كهفه إلا بعد أن سحق أفاعي الكهف، وطرد منه الخفافيش، ونور فيه العتمة.
وما أمن الإنسان إلى حراثة الأرض إلا بعد أن بطش بكواسرها، وأبعد عن مساكنه وحوشها، والحضارة - شئنا وصفها اختصارا بأنها صراع مع الشر - لا تقاس إلا بمقدار ظفرها في هذا القتال؛ فالطب ينجح حين يفني مكروب المرض، والمعلم ينجح حين يطرد الجهل بالعلم من نفس تلميذه، والطائرة تنجح حين تبطش بالمسافة.
ولقد ابتكر الإنسان، في سياق صراعه مع شر الفوضى، نظام الحكومة وضبطها بالقوانين.
وجاء القانون، ككل ما اخترعه الإنسان، أداة طيعة تصلح للخير أو تستخدم لعكسه؛ فليس من جريمة في الدنيا أفظع من جريمة يقترفها من يغتال باسم القانون، ويسجن الأبرياء باسم العدالة.
ويا طالما صاح خطباء بلادنا، واصطفت مقالات كتابنا تنادي أن أزمة الحكم في بلادنا هي أزمة تنفيذ القوانين، أو إساءة تنفيذها، أو الإعراض عن تنفيذها، أو تنفيذها معكوسة.
والحضارة - وهي لا تزال موضوع حديثنا - نشأت في بلادنا وفيها ازدهرت. وحضارتنا، وقد تكون القوة مقياسها، تصابت أو هرمت على مقدار ما تغلبنا على الشر أو تغلب الشر علينا.
وتاريخ بلادنا الحديث حفل بالبطولات وبالمصلحين وبالمبشرين، الذين حاولوا القضاء على الشر، وبالتالي دفع هذه الأمة في سيرها الحضاري، ولكن هؤلاء المصلحين والمبشرين والأبطال ما تناولوا من مناحي الحياة إلا بعضها، وما توجهوا إلى الشعب بكامله، وما استثاروا متسلحين بالواقع وبالعلم؛ فهدرت بطولات الحركات في تموجات ضعيفة على سطح المجتمع.
وجاء أنطون سعادة.
إن من يحيا حركته يجد كتبه - وكلها عظيم - في ما تنص، وفي ما توحي ثروة من مناقبية ثقافة لا تحصر في دفتي كتبها العديدة.
وتجد أنها في جوهرها تعبير شامل عن حياة وعن مجتمع، فهي حين تماوجت واشرأبت انطلقت لتملأ كل فراغ، ولتغسل كل درن، ولتغرق فيها كل بارجة يرفرف عليها علم مستعمر.
لذلك حكموا بالإعدام على أنطون سعادة منذ أن رفع علم الزوبعة في وجه المستعمر الأجنبي، والمستعمر الداخلي.
هذه الحركة القومية الاجتماعية - أنطون سعادة - ماذا تريد؟
جريمتها الأولى أنها قالت لمواطني هذه الأمة: لا تصدقوا الغربان أنكم زرازير، فأنتم أنتم الشواهين.
ومن جرائمها أن جعلت المواطن مسئولا عن بلاده لا متفرجا ولا مستغلا لها، وأن صرعت الطائفية في نفوس معتنقيها، وأنها استثارت فيهم البطولة والإيمان بنفوسهم وبلادهم، وأنها ثقبت بالونات التزعمات، وتهجأت أسماء الخائنين، وسرحت بلبلة التفكير في من يبغي وضوح التفكير.
كانت الحركة، وستبقى، حركة عنفوانية.
تحدت الشر لتصرعه. إن أنطون سعادة ما ثار حتى يصبح نائبا أو وزيرا، إنه استنهض وعي الأمة، وعبأه وجنده لظفر نهائي حاسم، فما هادنت نهضته الشر، ولا هادنها الشر؛ فالمستعمرون الفرنسيون سجنوا القوميين الاجتماعيين، ونكلوا بهم وخربوا بيوتهم، وعهد بشارة الخوري قبل أن ينطوي - هل انطوى؟ - قتل واغتال وشرد.
تحدثت فيما مضى إلى الرئيس السابق الأستاذ بشارة الخوري في أواسط حزيران عام 1951، فقلت: يا فخامة الرئيس، إني منذ أن انضممت إلى الحزب القومي الاجتماعي بدأ اختلاطي معهم تفهمي لمبادئهم. ليس من الممكن يا فخامة الرئيس أن يلقي البوليس، أو أن يشنق القضاة مبادئ صحيحة، كل ما يريده القوميون الاجتماعيون رخصة حزبية، ليس من منطق ولا بلد متمدن أن يحجبها عن جماعة، ويريدون إطلاق سراح هؤلاء السجناء، والكل يعرف حكاية محاكمتهم. إن هؤلاء القوميين - وهم مواطنوك - بعد أن أعدم زعيم حركتهم، والكثير من رفقائهم، وهدم بيوتهم وسد الاضطهاد باب الرزق في وجوههم، في مزاج مخيف؛ يا ويل المعتدي من مؤمن مضطهد. في رأيي إن انتظام القوميين في حزب مرخص له مسئول هو أقل خطرا على أعدائهم من أن يبقوا ثائرين ناقمين، لا يضبطهم مسئول حزبي، يشاركني بهذا الرأي كل عالم اجتماعي أو قائد عسكري أو موجه إنساني.
إن هم البارزين اليوم في هذه الجماعة هو أن يكبحوا القمة لا أن يستثيروها!
ولقد قال بيار أده لأحدنا جبران حايك: إن أباه المرحوم أميل أده، وما كان قط بالزعيم سعادة مغرما، قال: «إن إعدام سعادة اغتيال»
c’est un assassinat .
وذكرت جريدة «الهدف» في عدد 7 تموز 1949 أن الزعيم سعادة قال للسيد فريد شهاب مدير الأمن العام، وهما صاعدان على درج مركز الدرك السيار: «إني أعتبر قضيتي اغتيالا سياسيا»
Je considère mon cas comme une liquidation politique .
واليوم يتحدثون عن اغتيال جديد، يقولون: إن حسين الشيخ حاول اغتيال يوسف شربل، ويلغطون بأن حسين الشيخ قومي اجتماعي؛ إن صح هذا، فما هو سبب إطلاق الرصاص، ومن المسئول عنه؟ من روايات الجرائد أن حسين الشيخ لم يعرف يوسف شربل، ولم يكن له معه أي علاقة، وليس حسين الشيخ بالمجرم المحترف ليحاول قتل أحد من الناس لقاء رشوة.
ترى ما هو الحافز؟
نحن نتكهن، ونستنتج، ونحكم العقل، نلجأ إلى كل هذا؛ لأنه ليس لدينا معلومات قبل الحادثة، أو بعدها يصح الاستناد إليها.
منذ أن أنشأ الحزب القومي الاجتماعي صراعا مع الشر المتمترس خلف القوى المسلحة، والتعصب الطائفي، والضعف الذي أشاعه الخوف والاستعمار والفساد في نفوس جمهور المواطنين، جند الشر كل قواه في معركته مع الوعي والمثالية.
لقد لبست الخيانة روبا، ووضعت المثالية في قفص الاتهام.
الذين خدموا الاستعمار، ونهبوا الشعب، وجعلوا من الحدود مع إسرائيل بوابة كبرى، يسلكها الخونة والجواسيس، لا يريدون أن نأخذ رخصة لعمل حزبي هو في جوهره حركة ثقافة، تفهم المواطن مسئوليته وحقوقه.
والذين نبشوا وينبشون شوارعنا، وعتموا ويعتمون بيوتنا، يقولون: إن مبادئنا تنشر الظلام.
والذين توسطوا للمجرمين فاستصدروا العفو عنهم، يستبقون أحرارنا في السجون وفي الإبعاد.
والذين صادروا «المحاضرات العشر» لسعادة، وأحرقوها غير مستندين إلى قانون، ولا دستور، يتهموننا أننا جماعة خلقت لخرق القوانين.
وأساتذة التطبيق والصفقات وعمال الأجانب لا يريدوننا فئة قوية؛ لأن في قوتنا نهاية لأعمال التجسس والانصياع للسفارات.
القوادون الذين يريدون بيروت «شانهاي» الشرق، أو «طنجة» المغرب، لا يريدون أن نوجه الشعب إلى جعل بيروت عاصمة ثقافة للبلاد السورية كلها.
إن في القوميين الاجتماعيين جراحا لا تزال تنبض آلامها، ورائحة دماء لا يزالون ينشقونها.
أمن أجل هذا أطلق حسين الشيخ رصاصاته - إن صح أنه المطلق؟
تراه شعر الأرض تهتز حين ضرب محمد ملاعب رأسه بالأرض بعد معركة سرحمول؟
تراه تحدث إلى جورج حداد، وتحسس طعنة حربة الدركي في رئته؟
تراه استمع إلى أم سيمون بهنا تروي كيف عاد سيمون إلى البيت، وكلماته تنضح بالدم المتدفق من تحت أظافر رجليه؟
أتراه رأى امرأة إلياس متى، وأم فؤاد متى تسير كل سبت بالزوادة إلى حبس القلعة، والله أعلم كيف تجمعت الزوادة؟
أتراه ذكر ألوف القوميين الذين تشردوا، والألوف الذين سجنوا، والمئات الذين فصلوا عن موارد رزقهم، والمئات الذين احتلت بيوتهم، وفقدوا أموالهم؛ كل ذلك لأنهم مثاليون، انتدبوا نفوسهم «لتحقيق أمر خطير يساوي وجودهم؟»
أتراه وعى أن الاضطهاد والتهم والملاحقة عايشت الحزب منذ نشأته، وأن هذا الاضطهاد بلغ ذروته قبل ثورة 1949 ثم بعدها؟
أم تراه - ترى حسين الشيخ - تطلع فيما حوله، فوجد أن موكب الفساد لم يتغير فيه إلا بعض الوجوه، وأن الشياطين يقرءون علينا من كتاب الواعظين، وأن الذين شمخت قصورهم، وعلا أمرهم، وضخمت أموالهم وزخرت مواردهم - جاءتهم النعم على حساب البلاد، والمواطن.
تراه فقه أن المثالية صارت جريمة، وأن الخيانة أصبحت فضيلة؟
من يدري؟ لعل حسين الشيخ نفسه لا يدري، لعله قرأ أن خمسين ألف ليرا دفعت أو ستدفع للأستاذ محسن سليم؛ فأعياه الحساب، حساب كم يجب أن يدفع تعويضا للحزب القومي الاجتماعي؟
لعله تحدث إلى أحد معارفه أو أقاربه العائدين من الغرب فتحقق أن الدول لا تبنى إلا على مبادئ القومية الاجتماعية.
لعله ذكر الاغتيالات، فأراد أن يسجل احتجاجا عليه، ويقطع الطريق على اغتيالات جديدة، ويفسح مجال التكفير للذين يريدون أن يكفروا!
لعله أراد أن يوقظ سواه، ولم توقظهم القنبلة التي شحنت إلينا من إسرائيل؟
من يدري؟ نحن لا ندري!
ولعل حسين الشيخ نفسه - إن صح أنه مطلق النار - لا يدري!
لعل العهد الجديد يدري، ويقدر أن يوضح لنا، لنفسه، للأمة كلها.
لا يطيب الغناء في الخراب إلا للبوم.
والدم الذي سال على رصيف شارع يؤلمنا منظره؛ لأنه بعض دمنا، دم هذه الأمة.
لقد روكبت العدالة فيما مضى، وعلى هذا العهد أن يساهم في صراع الشر، وأن يزيل آثام الماضي لا أن يرسخها.
وكل ما نبغي حياة إنتاج وإشعاع وحق.
حياة لا تعزل أحرار الأمة في السجون، ولا تحرق كتب فيلسوف، ولا تمنع إجازة عمل تجود بها حتى على «شهود يهوه».
من مهماتنا أن نغسل الأحقاد، وأن نحول دون تفكير يستفز حسين الشيخ أو سواه، وكلما أردنا التعاون مع العهد الجديد - ونحن لا نزال نحسبه عهدنا - وجدنا أن العدالة روكبت من جديد.
هذا مذهبي
هل لي مذهب؟ ما هو المذهب؟ أمن الضرورة أن يكون للرجل مذهب؟ وأهم من كل هذا أصادق أنا بالجواب؟ أهي الحقيقة عارية أظهرها للناس، أم أنا أصيح بها: هيا البسي ثوبك أنيقا، وتبرجي واخرجي؛ ففي الصالون زائرون يبغون التعرف إليك؟
إن أهل القلم أكبر مزوري الدنيا، وإني ما دونت سطرا، وما حاضرت في جمع، وما خطبت في حفلة إلا واشرأبت في نفسي موجة عارمة حارقة، يطلقها الضمير؛ فأحاسب نفسي أصادق أنا فيما أقول وفيما أكتب؟
فالقانون يعاقب الطبيب، والصيدلي، وسائق السيارة، إن أخطأ أو تعمد الجريمة، أما مطلق الآراء - كتابة أو خطابة - فله أن يكذب ويضلل، وليس من يحاسبه، بل إن جمهور الناس قد نسجوا حول الأديب هالة تروعهم؛ فهم يقبلون على القراءة مأخوذين بسحر الكلمة المطبوعة، ويصغون بخشوع لأي متكلم ترسخت شهرته.
إذن فكان الأصح أن يحور هذا السؤال؛ فيمسي: «ما يجب أن يكون مذهبك؟» فقليلون يحيون مذهبا. إنه ثوب نتزين به في الأعياد والحفلات وأيام العطلة، وإن اتفق أن لقيت من يؤمن أن أجمل ما في الفن هو الصدق، وأرخم ما في الحياة هي الحقيقة؛ فقلما يكون هذا الذي تلتقيه من الفنانين، أو من القادرين على الإفصاح عن الحقيقة كتابة أو خطابة.
أما أنا فقد اعتنقت في حياتي مذاهب ثلاثة: فلقد كنت حتى السادسة عشرة أدين بقرويتي الضيقة، فأنا ابن الضيعة في لبنان، أؤمن بعائلتي، بتفوقها، بأحقادها وصراعها مع جيراننا من أجل سؤددها، وهذه العائلية القروية ارتدت الطائفية، وامتشقت سيفا، واعتمرت خوذة؛ فأنا درزي، والدروز أشجع أهل الأرض، وأنبلهم، وكل من عداهم لا بأس أن يعيش على وجه الأرض، ولكنه يجب أن يكون خانعا ذليلا مطيعا للدروز، بل لعاصمة الدروز، بلدة اسمها «بعقلين »، هناك حيث تتبوأ عرش الآلهة - عائلة تقي الدين - يزبطر بينهم ذلك الجبار العبقري سعيد، مصوبا إلى الدنيا طربوشه الأحمر فوق حاجب، قوسه أفق العالم.
وراحت الحياة تفكك عقدا في النفس وتصوغ سواها، فأنا متحرر من قرويتي، وعنصريتي، كافر بهما، ولكني بدأت أعبد - صدقت فمن سواه أعبد ذلك الجبار العبقري سعيد؟ صليت له، ومجدته طوال ثلاثين سنة، كانت لتعظيمه مؤلفاتي، وفي سبيل عزه الأموال التي جنيت، ولإذاعة صيته الإحسان الذي بذلت، ولتخليد اسمه النادي الفخم - نادي متخرجي الجامعة الأمريكية - الذي بنيت، كان مغرما بنفسه حين عشق الفتاة التي تزوج، وبعد أن صارت ابنتهما صبية، كانت الجماهير تصفق لظفره، حين تصفق لموسيقى تعزفها ابنته على «البيانو».
واستفقت، لا، إن الإفاقة لا تكون عفوية ولا فجائية، تبدأ أولا بشعور وعي يرافقه خدر، يتلاشى ببطء مؤلم لذيذ. كنت في بلادي حين انفتحت عيناي، في مغتربي، في الشرق الأقصى، «الفلبين»، كنت أصيح بالناس أخبرهم من أنا، ومن هي أمتي. حين استفقت في بلادي لم أسأل نفسي من أنا؟ وكدت أسمرهما هناك بين قدمي، ولكن يدا امتدت إلى ذراعي وشدت عليها، وإذا هنالك كتاب ضخم كبير بعضه كلمات مطبوعة، وبعضه دماء، وبعضه صفحات لا يحل رموزها إلا ذلك الذي يستثيره الإيمان، وبين وريقات ذلك السفر صفحات بيضاء تدعوك أن تملأها أنت؛ لأن هذا لكتاب الكبير الضخم - سفر مذهبي - يبشر أن فينا قوة لو فعلت؛ لغيرت وجه التاريخ، فافعل واملأ ما تريد من الصفحات على قدر عزمك ومواهبك.
كاذب من يقول لك: إنه اعتنق مذهبا، لسبب واحد من الأسباب، أكثرنا يرث المذهب الذي يعتنق، مذهبي ما جاءني وراثة، وكاذب أنا إن قلت: إنه يمثل، مائة بالمائة، كل ما أصبو إليه، ولكنه - هذا المذهب - يجيب السؤال الكبير، الذي تمتمته حين استيقظ وعيي «من نحن؟» لا «من أنا؟» وما يجب أن نكون؟ ويخط الطريق إلى الوصول إلى ما يبتعد عنا كلما سرنا إليه؛ لأننا كلما علونا امتد أفقنا وابتعد، ذلك القوس تحت الطربوش الأحمر، هو أبدا في اتساع وابتعاد .
وهذا المخطط لا يرسم لك الطريق فحسب، إنه لا يعطيك الخارطة، بل هو يقول لك: إن الخارطة والطريق وعزمك على السير والسير عليها، هي كلها عملية موحدة لا تتجزأ، فما أنت بصاحب مذهب إن لم تسر، وتختط، وتحمل خارطة وتسير على الدرب، الدرب الوعرة التي لا يقصرها إلا سرعة سيرك.
مذهبي هو إذن قوميتي أعمل لها في جهاز اسمه حزب.
لم الحزب؟ الحزب هو الإيمان؛ فليكن إيمانك في نفسك، واعمل له منفردا مستقلا، لم الحزب؟ لم النظام يقولبك ويشل نشاطك، ويفرض عليك قيودا ليست من صنعك؟
لم الحزب؟
لم الجيش للدولة؟ لم الملاحون للمركب والطائرة؟ كل مذهب ليس له جهاز تنفيذ ما هو بمذهب؛ إنه رأي لا قيمة له، قد يتبادر إلى الذهن أن الفرد يصح أن يكون جهاز المذهب، قد يصح هذا على بعض المذاهب: الوجودية تقدر أن تمارسها وحدك، الرمزية في الشعر يكتبها قلم واحد تحركه يد واحدة، أما القومية، وهي تهدف إلى تقوية مجتمع؛ فلن يكون الفرد فيها فعالا كل الفاعلية إلا إذا انصهر في جهاز يفولذه، النظام يبقي القوة - بعض هذه القوة هي الحرية - بتنفيذ الواجب.
ولفظة «انصهر» هنا ما هي بخمسة أحرف: إنها التخلي عن الكثير، واحتمال الكثير، والتعود على أشياء غير مألوفة قد تكرهها، والتسلط على الكثير، ومحق الكثير، مصاعب فكرية، وجسدية، ومناقبية، تقحمها، وكلما غلبت واحدة منها استشعرت بالقوة؛ فلا تتحقق أن هذا المذهب قد فعل في نفسك إلا بقدر ما هو يعبأ فيها من قوى، فتأتيك - أو تترسخ فيك - الشجاعة الجسدية والأدبية، وتستقيم مقاييسك حتى لتمشي حافيا، وتحس أنك منتعل جزمة عسكرية؛ وينتهي بك الأمر إلى الاكتشاف أن هذا المذهب الذي صهرك فردا في فريق مقاتل، وسحق أنانيتك من أجل خير مجتمع وأمة وشعب ووطن، قد عززك فردا؛ فتشع تلك النون القابعة بين سروتي الألف؛ فإذا أنت حين تسمع سؤال «من نحن؟» لا تغض الطرف؛ لأن «أنا» هي جزء من «نحن»، وإذن أنت إنسان أقرب إلى الله، وأحب إلى الجيران والمواطنين، وإذا أنت إنسان أرفع؛ لأنك مواطن أفضل.
يقول علماء الذرة: إن ذرات جسد الإنسان تتغير، أو يتغير منها 98 بالمائة كل سنة، فهل يتغير الإنسان مرة كل سنة؟
مذهبي فتى يبقى دائما في ريعان الشباب، إنه ربيع الحياة الدائم؛ لأنه حركة حياة، إنها حركة توحي بأكثر مما هي تنص، إن ذراتها تستبدل ليتجدد جسدها، ويفعل عقلها.
مذهبي هو الحركة السورية القومية الاجتماعية، التي تعلي شأن الفرد حين تجنده نفرا في جيش، وتسير بنا نحو الحلم الكبير لتحقيق الإنسانية الشاملة، حين تعد إحدى وحدات هذه الإنسانية - أمتنا - فتجعل منها مجتمع حرية وقوة وواجب ونظام.
نحن نخاف التاريخ يا سمو الأمير
يوم جاء جلالة الملك سعود - وكان إذ ذاك لا يزال ولي العهد - إلى بيروت تفجرت أنهار المديح وطوفانات التملق التقليدية.
فكان المقال التالي والرسالة التي تليه. ***
منذ أيام والعمال يرفعون أقواس النصر لاستقبالك، والخدم يعدون القصر لإقامتك. ومتسولون بعضهم في مرتفعات السلطان، وبعضهم في شرفات الفصاحة، يعملون الفكر في سبيل تصيد لفتة من سموك - لفتة تترجم إلى درهم من مال، أو درهم من جاه.
إنهم لا يمثلون أمتنا، هؤلاء المتهافتون، ولئن انبرى أحد أبناء هذه الأمة لمخاطبتك؛ فلأنك ما أنت بالغريب البعيد عنا، إنك من حراء اللغة التي تكتب بالقلم
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم .
أنت من أمة كانت لها عزتها، وما هانت سيادتها، يوم قالت الدنيا في رسولها:
وراودته الجبال الشم من ذهب
عن نفسه، فأراها أيما شمم
وأنت يا سعود، مواطن دولة عربية، هي إحدى دول العالم العربي الذي نشيد، والذي من أجله شئنا جبهة عربية نتجند في متاريسها.
وإن شرد من هذه الرسالة قول ما هو من مألوف من عبارات الترحيب؛ فعذرنا أننا من أبناء الحياة، الذين جعلوا أقصر المسافات تلك التي لا تفصل قلوبهم عن شفاههم، وأن هذا الكلام الذي يصاغ من أجلك، يخط وأطياف الشهداء ماثلة توحي، وصراخات المتشردين تدوي، وعيون أحرارنا من الأسرى والمبتعدين تحملق بكم وبنا، وأعداء لأمتكم وأمتنا - مغتصبو أرضنا - رابضون بينكم وبيننا - أعداء كواسر جاعت موائدهم، وشبعت معاقلهم؛ فهم متحفزون للوثوب عليكم وعلينا.
كل هؤلاء، وكل هذا، يجعل من واجبكم الإصغاء، كما يجعل من واجبنا إرسال النداء.
نحن لا نذكر الكارثة لنستدر دمعة، نحن لا نؤمن بالتحسر، ولا بالعتاب.
فذكر إن نفعت الذكرى
فنحن نذكر لننتفع لا لنتحرق، نذكر أن العدو ما كان سيفه عند أعناقكم وأعناقنا، لو لم ينهزم أكثرنا يوم جبن البعض عن بطولة الفعال، وخرس آخرون عن بطولة المقال، وها هي الحياة، وما بخلت عليكم، تسخو من جديد؛ إذ تفسح أمامنا مرة ثانية - وقد تكون الأخيرة - فرصة البطولات.
لقد تركت يا ولي العهد الدولة، دولة تشيعك فيها أقواس النصر، ونزلت دولة تستقبلك فيها أقواس النصر، على من انتصرنا؟ على ماذا انتصرنا؟ سل جلالة أبيك كيف يكون النصر ينبئك أنه إيمان تسلح، وأن أعداءكم وأعداءنا، يا طويل العمر، آمنوا وتسلحوا؛ فكثرت مصفحاتهم وقلت سياراتهم، لقد انتصروا حين آمنوا بذلك النوع من العطاء، الذي لا يشجع الاستعطاء؛ فألبوا الجند لا المتسولين، واصغوا إلى الصادقين لا المتملقين، وفهموا السيادة قوة حق فاعلة قادرة، لا أغنية تبدأ بطرب وتنتهي بنواح.
نرحب بك، يا سمو الأمير، لا كضيف جاءنا في زيارة ملوكية، بل كمواطن كبير الشأن في دنيا عربية، فجرت ينابيع قوة عالمية، وطاقة بشرية، تسنم عرشها أبوك حين آمن، وتسلح فانتصر - دنيا ما غلبت يوما على أمرها، كما غلبت يوم كفرنا نحن بالحق فلم نعد له، وآمن اليهود بالباطل فتسلحوا له.
هي أيام قليلة ستقضيها في بيروت ودمشق، يا سعود. نحن نخاف التاريخ - ذلك الشيخ القاسي، الذي لا يستعرض الحقائق إلا عارية؛ ليكن لك في كل لحظة عمل. كل ما تفعله في سبيل لبنان هو في سبيل السعودية، وغدا ستستعرض في الشام قوى مسلحة، هي تصون الرياض، حين تدافع عن دمشق؛ فإن الذين استباحوا القدس الشريف يشوقهم أن يستبيحوا مكة المكرمة.
إن العلم والحق والحقيقة خطباؤنا وشعراؤنا، حين نصارحك أن ما تبذله لمصلحة أمتنا هو في مصلحة أمتك؛ فأخطاركم أخطارنا، وقد يكون في مكاننا من الخارطة ما يجعلنا أفعل في تلقي الضربة، وإرسالها، عن العالم العربي، ومن العالم العربي.
معذرة يا ضيفنا الكبير، فالتاريخ يحمل ساعة لا يسمع دقاتها المسرعة، إلا من أرهف التاريخ سمعه.
السيد فهد المارك
مندوب مقاطعة إسرائيل في السفارة السعودية، بيروت
سيدي
لسبب يتضح بعد سطور ستدرك، يا سيدي، لماذا أبطأت بالجواب على رسالتك تاريخ 6 أيار.
غير أني أود أن أشكرك شكرا حارا، لا يمليه أدب المراسلة فحسب على توجهك إلي بكتابك المذكور.
وإنني واثق أنك لا تبغي تصيد المديح ولا شراءه، فمن الواضح أن هذه القمة التي أحيا في ذروتها، ويحيا فيها رفقائي، حرم فيها القنص على مدار السنة؛ وما كانت فيها الكلمة، ولن تكون سلعة برسم البيع، بل إن الكلمة كانت فيها، وستبقى، إفصاحا عن فكر وعاطفة كثيرا ما يتزين بها نبيل فقير، ويعرى عن ارتدائها ثري أمير.
لذلك أبتهج بسؤالك عن الأثر، الذي تركته زيارة سمو الأمير سعود، موقنا أن غايتك التعرف الطاهر إلى المنافع، التي جناها العالم العربي لقاء ما بذل سموه وبذلناه من وقت ومن مال.
وأخالك على معرفة تامة أن الفريق الذي يشرفني أن أكون في معسكره، يؤمن بالعروبة الصحيحة، ويهمه أن تأتي زيارة أمير عربي توظيفا نافعا لجهد ومال، لا هدرا لهما ولا دعسة مغلوطة على محرك سيارة العروبة، يقذف بها إلى الوراء بدلا من دفعها إلى الأمام.
كذلك لا أجد تصادما بين نشاطك في المفوضية كمندوب لمقاطعة إسرائيل، وبين اهتمامك بنشر كتاب عن الانطباعات الخاصة، التي تركتها زيارة سمو الأمير؛ فنحن الذين نؤمن بمدرحية الحياة، نفهم مظاهرها التي تبدو للجاهل أو الساذج، متضاربة.
ننطلق يا سيدي، من قاعدة رئيسية واحدة، هي أننا نحن هنا، وأنتم في المملكة العربية السعودية، نعيش في لذاذات الأعزل المترف، وفي ظلال حراب جائع مسلح، اغتصب بعض دارنا، ويتحفز لاغتصاب دارنا وداركم، وهو في رأي الكثيرين قادر على الظفر ساعة يريد.
إذن فسؤالك يجب أن يصاغ في كلمات ثانية، قد تصبح قراءتها هكذا : «ما الذي فعلته هذه الزيارة في سبيل إقصاء ظلال حراب العدو، الذي يهددكم ويهددنا؟»، والجواب يتناثر في أجوبة كثيرة؛ فإنه من الجميل أن يكون سمو الأمير قد تعرف إلينا وإلى بلادنا، ونحن قد تعرفنا إليه، وأنه من المسر أن يكون سموه قد تحدث إلى جلالة أبيه في الليلة الثانية من إقامته بيننا؛ فسمعناه على الراديو الخاص يهتز صوته قائلا: «إن لبنان زحف لملاقاتنا حريما ورجاجيل.»
كانت في صوته غنة بدوية تستحب، وحمية عاطفة، سرنا أن أوحيناها، ومن المعروف يا سيدي، أن سموه وهب الكثير من الأموال، بعضها كانت دعسات مغلوطة، وبعضها كان خطوات في السبيل السوي.
ولو أن سفارتكم تنشر ما ظهر في ذلك الكتاب، حيث وقع عليه القابضون إيصالاتهم، فعرفنا كل الأسماء، لاتقينا خطر حكم يبنى على معلومات ناقصة، لا يعززها إلا الحدس والتخمين، ولكن مبدأ الهبة هو مبدأ مغلوط، وقد ينتهي العالم النفسي، الذي يتحرى الحوافز إلى تصنيف الكريم والشحيح في مقعد واحد هو الأثرة؛ فتنقبض كف البخيل مدافعة عن أنانية، وتبسط كف الكريم ناشرة أنانيته؛ لذلك نراهم نظموا الإحسان في الغرب، ومن أجل هذا علقت الكاتبة الأميركية «دروثي طمسن» بشيء من الهزء على ما رأته في «جدة» من كرم بقولها:
والعطاء عند هؤلاء الناس يعد فضيلة.
هذا تعليق امرأة فاضلة عرفت بصداقتها لنا، وعرفت أنها تنتمي إلى أكرم شعب عرفه التاريخ، وهي بقولها هذا تعني أن الهبات للأشخاص هي عادة شرقية تشبه الرذيلة، وقد تهدم خلق الواهب والموهوب، وأنه في العصر الذي يجب فيه علينا أن نبني دولة، ونكشف عن قوى أمة يجب أن يأتي البذل لهذه الدولة، وفي سبيل هذه الأمة لا بخشيشا يرمى في كف متسول، لكانت هذه الزيارة أكثر نفعا، لو أن ما بذله سمو الأمير جاء قرضا لدولة أو إعانات لمؤسسات عامة؛ ولكان أجدى لنا ولكم أن يبذل هذا المال لا للمداحين والمستجدين، بل ثمنا لقاذفة أو لبعثة عسكرية أو لتشييد مستشفى خيري.
أما إذا تعدينا المال والهبات، فإني لأذكر أن في بيروت اليوم سياسيين ثلاثة، كنت أتصل باثنين منهم تلغرافيا وتلفونيا في كل ليلة من مانيلا (الفلبين)، حيث كنت مقيما، وكان هؤلاء الثلاثة في نيويورك أعضاء لوفدين من وفود الدول العربية، وإني أذكر بحرقة وبألم ما سمعته من أحدهم ذات ليلة على التلفون، وفي إبان معركة التصويت، على تقسيم فلسطين أن الكارثة تحجبها كلمة تصدر عن المملكة العربية السعودية، تلك الكلمة التي لم تنطق بها مملكتكم يا سيدي سنة 1947. وإنه ليؤلمني أن أقرأ اليوم عدد 20 مايو من جريدة «الهرلد تربيون» أنباء مقابلة فوستر دالز مع سمو الأمير فيصل وزير خارجيتكم؛ فأجد أنهما تحدثا في الرياض عن العلاقة الودية التي تربط مملكتكم بأميركا، فأستمع وزير خارجيتكم إلى دالز يقول:
إنه سيسعى إلى تحسين العلاقة الأميركية والدول العربية، وأنهما بحثا ببعثات أميركية تأتي إلى السعودية، وأنهما تحدثا عن مشكلة البريمي مع بريطانيا، وأنهما جاءا على ذكر آبار الزيت وآبار الماء.
يؤلمني يا سيدي، أن لا تنطق السعودية اليوم بالكلمة، التي كان يجب عليها أن تنطق بها عام 1947، وأنه من الظلم أن نتجنى على المسئولين في المملكة السعودية؛ فنقول: إن الذنب ذنبهم وحدهم. الذنب ذنبك يا سيدي، وذنبي أنا وجريمتك وجريمتي وجريمة هؤلاء المتعاظمين، المحيطين بالمسئولين في بلادك، تستثيرهم نفسية الفراشين والحجاب والخصيان و«الكورتزان»؛ فلا يسعفون الأمراء وسواهم على تفهم الأمور، وهؤلاء لم تترسخ فيهم بعد عقلية الدولة، وما تحرروا من فضائل البداوة التي ما عرفت الدولة، وعرفت القبيلة.
هل اغتنمنا من وجود سمو الأمير بيننا فرصة لإيضاح المسئولية الكبرى، ولاستثارته لتجنيد قواه الهائلة من مالية واستراتيجية؟ أم إننا اقتصرنا في حفلاتنا وضيافتنا على التملق والترفيه؟ قد يكون من الظلم أن نصدر حكما باكرا، ومن العدل والروية أن ننتظر الأسابيع المقبلة لنتثبت من أن هذه الزيارة عوضت عن موقف السعودية عام 1947، أو أنها أيقظت ضميرها.
أما من الناحية الاقتصادية، فمن الواضح أن إنفاق مليون ونصف ليرة أو مليوني ليرة، وهو المبلغ الذي أنفقه سموه هنا، لا تضر بلبنان، ولكنه كان أنفع للبنان أن يصدر تشريع في جدة يبيح أسواقها للفاكهة اللبنانية، ويمنع عن السعودية الفاكهة الإيطالية التي تكاد تحتكر أسواقكم.
أما في ما يتعلق بشركات النفط وعلاقاتكم معها معروفة، فهل اغتنم أحدهم أو اغتنم سموه هذه الزيارة ليتفهم أن الذين سرقوا حكومتهم، لا يأنفون من سرقة حكومتكم، وأن الذين تحاكمهم محاكم العدل في بلادهم يستحقون أن تحاكمهم محاكم العدل في بلادكم؟ وهل تقصى في بيروت خلال هذه الزيارة، لماذا عقد مجلس الأمن الأميركي جلستين في عهد ترومن، وفي عهد أيزنهاور، وتقدم إلى النيابة العامة في وشنطن سائلا أن تمنع التحقيق الجنائي عن شركات النفط صونا لأسماء أميركية وغير أميركية، تشتغل في دوائر الاستخبارات؟ وهل تساءل سموه، وهو يهز الأيدي ويتقبل الترحاب في بيروت من مواطنين لنا وغير مواطنين، وممن يتمتعون بثقة سموه، وينعمون بعطفه وعطف أسرته عن الحلف الشرير، الذي يؤلف بين أفراد هذه العصابة؟ وهل تقصى سموه وتقصيتم - بحكم مهمتكم كمندوب لمقاطعة إسرائيل - وبيروت قاعدة الجاسوسية والتهريب لإسرائيل - في أي وخم ازدهرت بواسق بعض الأشجار في هذه الغابة، وفي أعماق أي ظلمة غابت هذه الجذور، ومن يدفع ومن يقبض ليرش على هذه القاذورات أغلى العطور؟!
هل اخترقت الأصوات الصادقة هذا الكوردون الذي سور سموه؛ فسمع أن ليس له في دمشق وبغداد وعمان إلا كل صديق وكل حليف، أم إن مسمعه لم يصغ إلا إلى تجار الوشاية ومستغلي التفرقة؟
أية انطباعات أحدثتها زيارة صاحب السمو؟ استمع إلى الجواب من تل أبيب تعلنه إذاعتها - أنهم أقاموا معرضا للأسلحة بعضها الرشاش، الذي أطلقوا عليه اسم «هوزي»، وأنت يا سيدي تريد أن تصدر كتابا ملؤه مديح وثناء أكثره مشترى بمال.
هلا قرأت أسرار سقوط فرنسا المفاجئ في الحرب الأخيرة، وهي الدولة التي لعبت أدوارا رئيسية في تاريخ الدنيا؟ رجوتك أن تطالعها لتتعرف إلى من سبب سقوطها، حتى لو اطرحنا المثالية جانبا؛ لوجدنا في الخطر الذي ينقض عليك وعلي وعلى سموه ما يجعل هذه الصراحة واجبا بسيطا، ويسم التمويه بطابع الخيانة.
لك ودي، ولك رجائي أن تجعل من نفسك في وظيفتك وحياتك ونشاطك جنديا، يطيب له الحرمان وتطيب التضحية.
نحن أقرب إلى النار مما تظن. إنهم يربون في «تل أبيب» البزاة والصقور والعقبان، ونحن هنا نتلف أعشاشها.
رجوتكم يا سيدي أن لا تصدر هذا الكتاب.
رفة جناح
خفق الأجنحة
كنت قبل انضمامي للحركة القومية الاجتماعية أنشر عبارات قصيرة تحت عنوان «رفة جناح»، وصرت أنشر مقالات تحت عنوان «خفق الأجنحة» هذا بعضها:
ما لك وللأحزاب؟
ما لك وللأحزاب؟
نصيحة في سؤال يلقيه عليك حكماء هذا البلد، الذين يتطوعون لوصف كل الأدوية، ويعرفون كل داء.
وهؤلاء هم المثقفون الواعظون الناضحون بالمعرفة، المصرعزون
1
بأن مجتمعنا لن يستقيم إلا بالحزبية المنظمة.
أما كيف يوفقون بين التبشير بالحزبية والنهي عن الاشتغال بها؛ فأمر يدق عن أفهام الناس، إلا الذين يدركون أن فلسفة بعض القادة في هذا البلد مخنثة، تريد أن تربح المعارك من غير أن تخوضها، ويفهمون النهضة رواغا وسياسة، ومساومة وشانتاجا، ويجهلون أنها تربية شعبية تنطلق عملا وتصارع.
لا يليق بأن يعتنق عقيدتنا القومية الاجتماعية من يؤثر البقاء في ملجأ - من مركز سياسي أو مالي.
ولن ينال شرف مرافقتنا من همه اكتساب الحصانة في الحياة.
ويسألونك لماذا لا تتروى؟
الشلل، هو نشاط يتروى.
الانحطاط، هو تقدم يتروى.
بقيت تركيا مئات السنين تتروى، وتحتضر: ثم أفاقت ووثبت.
ونحن في زمن وجب أن يصبح الإسراع فيه بعض عناصر الروية.
زحزح الصخر
كنت أشعر بزهو حين يرن التلفون، فأسمع صوتا يداعبني، بل يستعطفني سائلا مقالا - أي مقال؟
كنت أرتجف خوفا حين أسمع أزيز الطائرة؛ فأذكر شهور الغارات الجوية في المهجر.
كنت لا أستطيع الكتابة إلا في الصباح بعد أن تمتلئ عروقي بالقهوة، وينتشي سمعي بالموسيقى.
كنت أهلع حين أسمع انتقادا أو إشاعة مؤذية.
كنت أسكر بالمديح.
كنت ألتذ بتصدر مجلس، ورئاسة جمعية، وإدارة مكتب، وبإصدار أمر، وبالاستمتاع بمظاهر الطاعة.
واليوم يرفض رفة أجنحتنا من كان بالأمس، يتحرق لنشر جناحي، فأزهو.
وفي وسعي أن أركب الطائرة التي كنت أخافها؛ فأدور حول الدنيا ولا آبه.
وينطلق قلمي على الورق في الليل والنهار من غير قهوة ولا موسيقى.
ولا يهمني الهزء ولا النقد، ولا التجريح، ويطيب لي أن أصغي وأأتمر؛ فأشعر بالقوة وبالجرأة في الروح وفي الجسد.
نشوة لا يتحسسها، ويهزأ بها القابع في كهف الرخاء، والحذر والحيرة، من يقنع نفسه بأن ليس خارج الكهف لا شمس، ولا هواء نقي، ولا رفقاء.
زحزح الصخر عن باب كهفك أيها الخائف الحائر، واطفر إلى الشمس؛ فتكتشف أنك كنت تعيش وحدك في العتمة، وأصبحت تحيا مع أبناء النور - أبناء الحياة.
نقاط السطور
أود أن أذيع عليك سرا قد أحاكم نفسي من أجله: رأت «النهار - كل شيء - الأحد - صدى لبنان - الأجيال - البيدر» وكبرى جرائد سوريا، أن لا تنشر أي إطراء يوجه إلي.
هذا الخبر الصغير يحمل في طيه سر العقيدة القومية الاجتماعية ومعدن قوتها - وهو أنها إيمان يحياه معتنقوه إذ يعلنونه، فما دام بعض مبادئنا أن يذوب الفرد في المجتمع؛ فمن الضروري إذن أن لا تنصرف جرائدنا إلى تمجيد أحد من كتابها، هكذا يمارس أبناء العقيدة ما به يبشرون.
هل استمعت إلى بائع يذرع لك القماش، فيما هو يقسم، ويكذب، وينافق، ويغلظ الأيمان، وخلفه رقعة كتب عليها «شعارنا الصدق»؟ هذا شأن باعة المبادئ وتجار الوطنية. إن قوة القومية الاجتماعية، وما يميزها عن سواها هي أنها بضاعة أصيلة، وإني أصارحك فورا بأن الذي استهواني هو ما قدرت هذه العقيدة على تنفيذه في نفوس أبنائها، فلو أن الحياة كانت جدلا، وكلاما وخطبا، ونظريات، وتصاميم؛ لحار العاقل في أي طريق يمشي. أكثر من تلقاه يفيض مواعظ ومبادئ، في الكثير من مناهج الأحزاب ما يستفز التصفيق. الكريم واللئيم كلاهما يجهران بحبهما للحق، مزية الكريم أنه يضمر ويحيا ما الذي به يجهر.
وإني في هذه الرسائل متوجه إلى غير القوميين الاجتماعيين، أنا أحاول أن أجيب على السؤال البسيط، الذي يفوه به المواطن الصادق الحائر الذي أهمل دراسة هذه العقيدة، أو الذي فاته أن يلاحظ حيويتها في أبنائها، أو الذي اختلطت عليه صحتها من الأنباء الكاذبة، والإشاعات وغوغاء الأحاديث من عنف وثورة وعصيان، ومن محاولة أعدائها تجريح صيتها وتهديم قلاعها.
لقد كنت مثلك يا مواطني، أجهل ما هي القومية الاجتماعية، فلما باحثت القليلين من أبنائها؛ اكتشفت أنها هي إيماني ومبادئي، وستكتشف أنت أيها المواطن، أن هذه العقيدة هي إيمانك ومبادؤك، غير أن إرادتك اليوم مشلولة، وكذلك جهودك مشتتة. الإيمان يشدها وينظمها وينضدها. في كفك الحبات، وفي وسعك أن تجعل من هذه الحبات نفسها قلادة - حين تنضم إلى النادي. وإن أنت لم تفعل، فستبقى مساعيك مشوشة، وعلى الأكثر ضائعة، ولن تقوى على إقناع نفسك بأنك أديت واجبك نحو مجتمعك، بل تظل أعمالك المشكورة دفعات على الحساب صغيرة، وتبقى أنت غير مسدد الحساب الكبير.
لقد مرت بي أيام - بعضها سنوات - كنت أعجز فيها عن شراء ثوب لجسدي، أو كرسي لبيتي، ولكنه لم يمر بي يوم عجزت فيه عن شراء صحيفة أو مجلة أو كتاب. منذ 32 سنة أقرأ الكلمة المطبوعة في أمهات الصحف والمجلات وفي كتاب، أو كتابين كل شهر؛ ولقد خلصت إلى الاعتقاد أن أشد أنواع الغباوات، هي غباوة الثقافة، فإن كنت يا مواطني، تريد أن تتفهم عقيدتنا عن طريق عينيك وأذنيك، وعقلك ما اختزن به من منطق، ومعلومات، وقوة ملاحظة مرهفة، منعتقة من الخضوع لإقطاعية التفكير؛ فأنت وأنا رفيقان منذ هذه اللحظة. وأما إن آثرت أن تأتي بالشواهد من بهروز بهرام المولود في بومباي، أو المؤرخ قرقحفوش المستكي المتوفى في القرن التاسع؛ فيؤسفني أن نفترق الآن وهنا، فإننا نحن رفقاء العقيدة، نحيا هذا اليوم، ونستعد للحياة في الغد، ولا نفهم من الماضي إلا ما نستطيع أن نشده قوة إلى حاضرنا ومستقبلنا.
تعال إذن، واذكر أننا في سنة 1000 و900 و2 و50، وأنك تريد أن تتجند لخدمة أمة؛ لذلك تعوزك الشجاعة، وأول خطواتك الجريئة هي أن تحاول تفهمنا وتفهم تعاليمنا بتجرد تام.
وإننا لنصارح الذين يهمون بهذه القفزة إلينا، أننا لا نفتح الباب لزبائن سينما، يدخلون القاعة ليجلسوا فيها على الكراسي متفرجين، نحن جبهة صراع وتضحية، وأيام الجهاد أمامنا، لن نأمل من غدنا أن يكون أشد رفقا بنا من أمسنا، كلما اعترضت سطورنا نقطة حمراء، نعلم أن عبارة انتهت، وعبارة بدأت.
اكتشاف ...!
من الناس من لا يتذوق الطعام إلا وهو لابس الردنكوت، جالس إلى مأدبة، تبدأ بتقديم الشوربا، وتنتهي بجبن الركفورت، هؤلاء لا يفهمون الحروف الأبجدية إلا إذا عرضتها عليهم بالترتيب من الهمزة إلى الياء، غير فاطنين إلى أن ليس للحروف من أهمية إلا متى تنسقت كلمات لها معنى.
لم يكن الغرض من هذه السلسلة معالجة العقيدة القومية الاجتماعية بالأساليب المألوفة؛ فنردد ما قيل فيها، ونعيد نشر تعاليمها، ففي المقال الأول ذكرنا أن ما يعنينا من المجتمع هو كيف يجب أن نحيا فيه؟ وفي ما تلاه أثبتنا كيف نفذت العقيدة الإيمان لشعب؛ فأيقظت فيه الكرامة الإنسانية، وجعلته يستشعر القوة لنفسه وأمته وثقته بهما.
وفي المقال السابق شرحنا كيف نشأ النظام، وهو من مقومات الحياة وعناصر الاقتدار، واليوم نجيء على ذكر «الولاء»، وحين نفرغ من ذكر هذه الفضائل التي نمارسها - وأهمية الفضيلة ممارستها - عدنا إلى الحذر، وقلنا: كيف جاءت الأثمار. عدنا إلى النصوص؛ ففهمنا مبعث القوة.
نحن شعب عاطفي؛ لذلك جاءت فضائلنا ونقائصنا حادة، نسرف في الود كما نسرف في العداء؛ إذن فليس بمستغرب أن يأتي ولاؤنا عنيفا صارخا وهاجا، هي فضيلة كبرى لو ضبطناها، ولو أنها توجهت إلى الغاية المشروعة النافعة لكنا دولة عظمى، الولاء للطائفة هو بطبيعته عداء لطائفة أو طوائف، والطائفة وليدة الدين؛ ففي قصر الجهود على خير أي طائفة كفر بالدين، وتهديم للمجتمع الذي نسميه أمة. الولاء لدولة أجنبية هو الخيانة، الولاء للمير والبيك والشيخ هو من أنواع العبودية التي تتنافى مع الكرامة الإنسانية، الولاء لكل من ولي الحكم هو خنوع وسخ تعطر بالكولونيا، وتجارة من نوع حديد بقضامي.
لأول مرة في تاريخنا الحديث ينطلق الولاء مهدما الحيطان التي سورت جهودنا؛ فيعلن جهاده في سبيل فكرة وأمة. ولقد أثبت هذا الولاء أنه جوهر صاف وأنه معدن، لا مصنوع سنتاتيكي بدليل أنه لم يفن حين تبعثر، ولم ينعدم حين سحق، وأنه ينظم نفسه ويتألف أبدا في سبيل عمل إيجابي. لقد سما أبناء العقيدة إلى ذروة الوعي القومي، حين استشعروا الولاء المطلق لأمتهم. الولاء الصافي الصلب للفكرة وللأمة لم يستشعره وينقذه إلا أبناء هذا الإيمان.
إن أولى واجباتك يا مواطني، إن كنت في حقيقة الأمر متوثبا إلى المساهمة بحركة الإنقاذ، أن تعتنق هذه العقيدة، وستجد أنك قد أحسنت إلى نفسك كثيرا حين تخطو؛ فمن قصد إلى النور اكتشف، لأول مرة، من مباهج الحياة أن عينيه تبصران.
در المعرفة وبلوطها!
هذا المقال كتب ردا على مغالطات شاعر. ***
كثيرا ما يجدب الفكر حين يخصب اللفظ، ورب أديب أحسن إلى نفسه لو اقتصرت جهوده على الإنتاج في نطاق مواهبه؛ فراح ينظم الشعر، ويترسل في الإنشاء الفخم، فلا يتوهم إذ ذاك، ولا يوهم قراءه أن في جزالة اللفظ بديلا عن وضوح التفكير، وفي تصيد النقاش معذرة عن الإنتاج في حقل، يتحتم على المشتغلين به مجابهة الحرمان والتضحية والصلابة - وهذه الفضائل ما هي من مرادفات الشاعرية، والبلاغة والترسل.
في «نهار» سابق ظهر مقال وقعه «ثعلبة» - مقال يلاطم أوله آخره، ووسطه حائر يتلفت بين طرفيه - يتساءل فيه كاتبه - بين مد الإنشاء وجزر التفكير - عن العقيدة والطقوس، ثم هو يذكر شيئا عن بعض العقاقير. أما الطقوس، فنحن لم نتحدث عنها لسبب بسيط، وهو أنه ليس عندنا طقوس، فلماذا جاء صاحبنا على ذكرها؟ وأما الأدوية فكل ما أعرف عنها أن بعض البرشانات السامة تطلوها حلاوة ملونة، وأما العقيدة التي يريد شرحها، فقد شرحها مبدعها في اثني عشر كتابا، وشرحها معتنقوها في ألوف من الصفحات، خلال عشرين سنة من جهاد وتضحية ودروس ونقاش وبحوث، فهل يريدني المستفهم أن أقضي العمر مرددا: «يا ليل»؟ وهل هو حقا يتوخى البحث في جوهر العقيدة؟ إذن فلماذا لا يمد يده، ويتناول مجلدا يقرأ فيه الأصل والشرح؟ بل لماذا لا يمعن النظر في القطع، التي نشرتها «النهار» و«كل شيء» و«الأحد»؛ فيجد أني أوضحت الواضح في عبارات، لا تسبح في «مياه البحيرة»، ولا تتزين «بالدر والياقوت : در المعرفة، وياقوت المحبة»، ثم هو ينكر علي أن أبحث «في أعمال هؤلاء الذين ساروا على هذه الطرق، واجتازوا تلك المسالك»، ويرجو «أن لا نتعب الأقلام في التحدث عن المؤمنين بالعقيدة»، يا جميل، يا حلو، يا لطيف، الله يخزي العين! يعني أن كل ما في الأمة هو دستور الأمة، أما تنفيذه والقائمون على تنفيذه فليس لهم أهمية، يا لسمو التفكير! يعني أنه يجب على المزارع أن يفني السنين، متحدثا عن كتاب «زراعة التفاح»، أما جنينة ريشار عبد النور في «المديرج» فلا تستحق الالتفات.
هذا هو المميز الأساسي للعقيدة الاجتماعية؛ إذ إنها إيمان يمارسه معتنقوه، وغيرها من العقائد إيمان يتغنى به من ينادون عليه، وقد سطعت هذه الحقيقة في 22 الشهر الماضي - يوم الاستقلال - إذ إنه في الساعة التي كان فيها الذين يفهمون العقيدة طقوسا من أغان، ومشاعل، وخطب، واستعراضات، وإذاعات، وافتتاحيات، يملئون بها شوارع بيروت، كان فتيان من القوميين الاجتماعيين يتفقدون قبرا منسيا، لرفيق لهم استشهد وحده في معركة الاستقلال (عين عنوب - بشامون)، واسمه سعيد فخر الدين، كان يبحث في ذلك اليوم كبير أولاد الشهيد عن عمل يرتزق منه، وفي اليوم الذي ابتعد به سائر أولاد الشهيد سعيد فخر الدين عن المدرسة؛ لأن حكومة هذا المجتمع قطعت عنهم المنح، كان المؤمنون بنظرية «ثعلبة» يبحثون في مغزى الاستقلال، ويمجدون أبطاله، أما القوميون الاجتماعيون فما تغنوا، بل مارسوا إيمانهم؛ فاتخذوا الخطوات العملية لتأمين عيش أولاد الشهيد، وتجسيد العزة الوطنية في بناء ضريح لمن فهم «جوهر العقيدة» ومارسها استشهادا.
هذا هو الفرق بين «در المعرفة» وبلوطها، ولك مني «ياقوت المحبة» يا «ثعلبة».
مدرستان ...!
الملاحظ في هذا المقال أنه كتب من غير أن يعطي النائب العام سلاح الاتهام القانوني، وظهر على أثر وشاية تقدم بها أحدهم ضد رفقائنا، الذين ما زالوا في السجون. ***
السفر مدرسة، الجندية مدرسة، الحياة مدرسة، ولقد سمعتني أقول إن القومية الاجتماعية مدرسة.
غير أنه ليس للحرف المطبوع، مهما شع، أن يسطع بمثل روعة الوقائع؛ لذلك أريد أن أحدثك عن مدرستين وهما في سجن، ولكني أرجوك أن تذكر أننا لا نتحدث عن القوميين الاجتماعيين، ولا عن سجن القلعة، ولا عن بيروت - هذا أمر مهم يجب أن تذكره أنت، وأن تذكره - النيابة العامة - لو فرضنا أنه، مثلا. فإنها رسالة تلقيتها من «الفلبين»، تحدثني عن حركة «الهو كبلاهب» في إحدى الجزر، التي تدعى «مامباهو»، وانتهى الأمر - مؤقتا - بأن دخل السجن بأحكام مختلفة مؤبدة وغير مؤبدة فتيان آمنوا بعقيدة، غير أن مدرسة الحركة التي أنجبتهم غرست فيهم تقوية النفس والجسد والذهن؛ فانكبوا في ساعات النهار على الدرس والمطالعة، فصار أميهم متعلما، والذي يحسن القراءة منهم مطالعا متفهما، فعلوا ذلك - كفتيان - نظام ودربة - ضمن القوانين، روحها وحروفها، التي تسود السجن.
وكان على الحاكمين، وقد صفوا الحساب معهم يوم عزلوهم عن الناس أن يوفروا لهم هذه الثقافة التي وفرها المساجين لنفوسهم.
وارتجفت الأرض مرة، وكثيرا ما تهتز الأرض في الفلبين، ويؤكد علماء الجيولوجيا أنها معرضة للزلزال؛ فاغتنم السجانون هذه الفرصة، ووشوا بالمساجين أنهم جماعة شغب وقلاقل، وأنهم هم الذين يزلزلون الأرض.
والسجانون مثل سواهم من الناس هم خريجو مدرسة أيضا، ولكن هذه المدرسة تبشر بهدف واحد هو الوصول إلى مراكز النفوذ، ولا بأس أن تسلك إليها أسباب الوشاية والرشوة والكذب على حساب النفوس البشرية؛ فاتخذت الإجراءات الزجرية بحق المساجين.
أنت يا سيدي القارئ، تجد في هذا السجن مدرستين: واحدة تنشر النور في ظلمة الحبس، وثانية تنشر الظلمة خارج الحبس، أناس ينامون على مضجع الخوف والأسلحة في أيديهم، ومضطهدون يضطجعون على فراش الطمأنينة والحراب مصوبة إليهم، في السجن مدرسة إيمان ومدرسة سلطان، وإذا كانت المدارس تشكر أو ترذل بسبب تلامذتها أو خريجيها فلك أن تختار بين اثنتين، ولك أن تخبرني من هو السجين ومن هو السجان.
ولا تنس يا سيدي القارئ، أننا لا نتحدث عن القوميين الاجتماعيين، ولا عن سجن القلعة ولا عن بيروت، هذا أمر مهم يجب أن تذكره أنت، وأن تذكره النيابة العامة - لو فرضنا أنه مثلا.
برسم الأجانب
كثيرا ما تلتقي بأجنبي ما، فيسحب من تحت إبطه عبارات، تلفها حلاوة الفصاحة، مغلفة بأوراق ملونة من جمال المنطق؛ فيبادرك بقوله: «ماذا نستطيع أن نفعل من أجلكم؟ ليس من حقنا التدخل بشئونكم، معضلاتكم الداخلية هي آلام في رءوسكم لا رءوسنا، ثم إنه علينا أن نتعامل مع الحكومات والسلطات الشرعية فاسدة كانت أو صالحة.»
ليفهم الفرنجة أن المواطن، الذي يحترم نفسه، ويفهم استقلاله لا يهرع مستنجدا بالغريب. نحن لا نطلب تدخل الأجنبي، بل نحتقر من يطلب تدخله، وإننا ليخجلنا أن نسمع أن المفوضيات الأجنبية تعنى بشئوننا الداخلية أو الخارجية، ولولا خنوع أرباب السلطة وتهرؤ ضمائرهم، وتلاشي قواهم الشعبية؛ لما أذنوا للأجنبي أن يبحث معهم الموقف الداخلي أو الخارجي. كذلك لا تمثل هذا الشعب فئة وسمها طابع العبودية، يشوقها أن تتمرغ على أعتاب الأغراب، مستجدية حمايته وأشوته وإحسانه.
نحن نقول للأجنبي: «ليس من حقك، ولن نرضى لأنفسنا أن تساهم أنت في حملة التطهير، التي ما فتئ شعبنا يتطلبها، ولكن من واجبك أن تطهر صفوفك، قبل أن تذم اللصوص من أبناء قومنا، فتش على اللصوص من أبناء قومك، وقبل أن تشمخ علينا، وتهزأ بمؤسساتنا وأنظمتنا، تطلع إلى مؤسساتك هنا كيف تنهب هذا الشعب، وكيف يحالف أشرارها أشرارنا؟ ثم دلني على بادرة صداقة واحدة قامت بها الدول الغربية نحو دولنا منذ جريمة فلسطين حتى هذا اليوم.
إن الغربيين الذين يهمهم جدا أن تستقر هذه البقعة من الدنيا، وتصبح شعوبها حليفتهم؛ يجب أن يفهموا أن التهويل علينا بأخطار الشيوعية لا يكفي لكسب رضانا، ولسنا نحن من الذين يعتقدون أن المعسكر الغربي غير مساهم في إفساد الحكومات في أقطارنا.
إن إنكلترا في سياستها الخارجية منذ الحرب الأخيرة لم تكن أشد نجاحا منها يوم عكست تفكيرها التقليدي، وخرجت من الهند، ولم تكن بأشد فشلا منها يوم استمرت بسياستها التقليدية في إيران، متبعة سياستها القديمة.
والغربيون بوجه عام لن ينفذوا إلى قلوب الشعب، ولن يظفروا بوده إلا حين يبدءون صفحة جديدة؛ فيعكسون موقفهم من كل شخص، وحكومة، وشعب، ومعضلة ويرمون بالمنظار الملون ، الذي ما برحوا يضعونه على عيونهم هنا.
منذ أسبوعين مشى في شوارع طهران الشيوعيون والوطنيون متضافرين في مظاهرة دامية.
ليفهم الغربيون الذين يريدون مكافحة الشيوعيين أن جمهور هذا الشعب يهم أن يتخذ موقفا هو: علي وعلى أعدائك يا غريب!
وما داموا هم يتدخلون بشئوننا؛ فأقل واجباتهم نحو نفوسهم، وسلامة مصالحهم أن يوجهوا نفوذهم هذا، غير المشروع، في السبيل القويم المشروع.
ثورة في التفكير ...!
تأتي جهود الفرد كبيرة أو صغيرة، على قدر الأحداث التي تجابهه، حتى لقد يقفز الكسيح من سريره حين تهدده النار.
وللأمم مثل هذه الوثبات؛ فتركيا التي كانت رجل أوروبا المريض، انتفضت بعد الحرب العالمية الأولى انتفاضة، نعتها يومئذ الرجعيون بأنها ستؤدي بها إلى العدم، وإنكلترا بعد ويلات الحرب العالمية الثانية اهتزت، واعتنقت نظاما قال فيه كبار المفكرين التقليديين من لابسي المونوكل إن عنفه سيذهب بها إلى الخراب في عامين أو أقل.
أما هنا بعد كارثة فلسطين، فإن تفكيرنا الكسيح لم يقفز من فراشه، بل ازداد العويل ونتف الشعر وقرع الصدور، وسادت فكرة واعظة تقول بتغيير الأشخاص والحكومات.
وما كانت ولن تكون الحكومات والأشخاص إلا من بعض مظاهر عافية الشعب أو مرضه.
نحن أشد ما نكون حاجة اليوم إلى قفزة من السرير، قفزة في التفكير ثورية.
هذه الوثبة المنقذة، قد وفرتها دفعة واحدة، ونظمتها العقيدة القومية الاجتماعية، وسيبقى أمر مستقبل هذه الأمة وحاضرها من نجاح أو فشل، رهن ما ينفذ في المجتمع، ما نفذه ويمارسه القوميون الاجتماعيون في صفوفهم.
الجندي قائد
كثيرا ما تساءلت كم بطشت مفاهيمنا المغلوطة بحيويتنا المنتجة.
في هذا الشطر من الدنيا نتوهم الشراسة رجولة، والغطرسة فروسية.
إن مآسي كثيرة وجرائم كان من الممكن تلافيها، لو أننا ربينا على التفهم الصحيح من أن الكبر في قولك «عفوا» «لا تؤاخذني» «أنا أخطأت»، وأن من الفروسية أن تفسح الطريق لسواك لا أن تسدها عليه.
ولا يقتصر هذا الجهل على الأشخاص، بل يتعداه إلى الجماعات، في التفكير الواعي والباطن.
في هذا البلد فئات كثيرة متذمرة ناقمة، مستعدة أن تعتنق أية عقيدة تصلح لأن تكون أداة إنقاذ، ولكنها في تفكيرها الباطني أو الواعي لم تنعتق بعد من إقطاعية الأجيال المظلمة أو الطائفية المحرقة؛ فهي تأبى أن تسير في جيش عبأه رجل من الشعب اسمه «أنطون»، بل لكانت تتهافت على اعتناق هذه المبادئ نفسها، لو أن الذي بشر بها رجل وقور اسمه بندر بك سيسبان حفيد سيسبان باشا، الذي كان متصرفا على نابلس في زمن الأتراك، والذي جد خاله كان ترجمانا في قنصلية فرنسا سنة 1794.
وفي هذا البلد ألف مخلص يهمه أن يسير في حركة وطنية شرط أن يكون رئيسها أحد أبناء عائلته، أو على الأقل أحد أبناء طائفته أو منطقته.
وتاريخ بلادنا في القرن العشرين يحفل بالأحزاب التي خلقها، ثم قتلها خالقها أو خالقوها.
خل عنك ما يقولون في نابوليون؛ فهو على رغم عبقريته العسكرية، يعرف علماء التاريخ أن سر قوته كمن في أنه كان يقود جيشا مدربا، في حين كانت دول أوروبا تحارب بجماعات مسلحة.
إن سر القوة في أبناء العقيدة القوة الاجتماعية هو أنهم جيش منظم، آمنوا برسالة رجل برز من الشعب؛ فما اشترط عليهم ولا اشترطوا عليه منطقة أو دينا أو طبقة.
وإنهم، حين يسيرون اليوم على طريق الحياة، لا يهمهم أين مكانهم في هذه الجبهة، وما هي رتبهم؛ لذلك بلغوا ذروة القوة، فلفظوا جانبا كل من أراد أن يندس في صفوفهم وحافزه الوحيد أن يتزعمهم.
وسيستمرون في النضال، وسيتكاثرون، وسينتصرون؛ لأن كل واحد منهم هو قائد وطنية.
إخبارية ...؟
اتخذ بعض صغار الموظفين في مختلف الدوائر، خلال العهد الماضي مهنة الدس والوشاية يتملقون بها رؤساءهم؛ فكل يوم أنباء عن الحزب ونشاطه ولوائح سوداء بأسماء من سيغتاله الحزب، هذا المقال ظهر على أثر إشاعة. ***
تقرير سري خطير يرفعه الموظف الأستاذ شمدص جهجاه إلى رئيس دائرته بخصوص نشاط حزب منحل:
سيدي!
حين تحركت شفتاكم الكريمتان بالأمر، أطعته حالا، وانطلقت أعد العدة للتجسس على هؤلاء الأوباش، المهووسين الخونة عمال الألمان والطليان؛ فرأيت أن أقوم بهذا الأمر منفردا ومتخفيا؛ لذلك لبست بنطلوني؛ لأنه لا يخفاكم أنه ليس من أصالة الرأي أن أقوم بأعمال الاستخبار من غير بنطلون، ولم أكتف بلبس البنطلون بل زررته، وحالا توجهت إلى موقف سيارات، فناداني سائق تاكسي عرفت فورا أنه قومي اجتماعي؛ لأنه ناداني بقوله «نعم يا أستاذ»، وفي غفلة منه فتحت خزان السيارة، وغرزت فيه أنفي ونشقت، وركبت الأوتوموبيل، فوضح لي أن هذا الشخص فدائي؛ لأن ما كان في خزان سيارته هو سائل متفجر يدعى بنزين، وعدا عن ذلك فقد كانت دواليب السيارة الأربعة مستديرة، ثم إن الشوفير كان يزمر عند كل كوع مما يدل على أنه كان يعطي إشارات لبعض المتآمرين. وقد لحظت أن أمامه مرآة تمكنه من رؤية ما وراءه، وحين خرجنا من بيروت تفجر السائق بأغنية ثورية حربية، مطلعها «هيهات يا بو الزلف»؛ فحالا أعلنت حالة الطوارئ، وقبعت في مقعدي، أترقب تطورات الموقف بدقة وحذر، وكان من الطبيعي أن أداهم مناطق الشبهة، فتوجهت حالا إلى الشوف، والمتن، والكورة، وطوقت جميع القرى دفعة واحدة، ويؤسفني أننا في الخريف، غير أني تمكنت أخيرا من رؤية ورقة تين واحدة اختبأت وراءها. فما إن جاء المساء حتى بدأت جموع المسلحين تزحف نحو القرى، وكل واحد حامل بارودة حربية من آخر طراز طويلة طويلة، وفي يسراه سلة قذائف جهنمية، وليس يخفى عليكم أنني من البسالة ما تعرفون، ولعلكم تذكرون أنني في السنة الفائتة، ليلة العيد، أطلقت مائتي رصاصة في ساحة البرج، لا أقول هذا على سبيل التبجح، بل لأثبت أن بطولتي أمر معترف به؛ لذلك وثبت على ولد صغير في يمينه البارودة الطويلة، وفي يسراه سلة المتفجرات، وفاجأته بسؤالي: «ماذا تحمل؟» فارتعب الولد وقال: «هذه سلة زيتون، وهذا مفراط.» فتأمل في هذه الجماعة كيف حذق أفرادها فن التضليل والإنكار. حينئذ فككت الحصار عن مناطق الشوف - المتن - الكورة مطمئنا إلى أن الحالة فيها لعنة تنذر بشر مستطير، وتوجهت إلى البقاع متفحصا الأمور في زحلة، بعلبك، الهرمل، راشيا، في وقت واحد؛ لأن الحالة تستدعي العمل السريع.
أما في زحلة فالجو مريب جدا ؛ لأنني ذهبت إلى وادي العرائش، وهو كما تعرفون موضوع التغني، وقد كان في الصيف الماضي يعج بالألوف، أما الآن فهو مهجور، ما هو السبب؟ هذا هو السؤال العظيم، لماذا أقفلت المقاهي، ولماذا انقطع الناس عن ارتياد «وادي العرائش» في زحلة! في الأمر ما يشغل البال. أما في جنوب البقاع فإن النشاط باد للعيان، والمعدات الحربية تنتقل وتهدر، وقد اقتحمت بما عرف عني من جرأة، أحد المعسكرات القومية الاجتماعية، وسألت القائد ماذا يفعل؟ فتظاهر بأنه يجهل العربية - والمعروف عن هذه الجماعة أنها معادية للعروبة - وتكلم بالفرنسية، مدعيا أنه يفتش عن الزيت (نفس المعدن الذي منه تصنع المتفجرات، التي ملأت خزان سيارة الشوفير القومي)، وأن بيده مأذونية من الحكومة اللبنانية؛ ففورا ونهائيا اعتقدت أنه كاذب، مثل ذلك الغلام الذي أراد أن يوهمني أن القنابل في السلة هي زيتون، والبارودة الحربية هي مفراط.
وفي بعلبك الحالة خطرة جدا، فقد بنى القوميون الاجتماعيون حصنا ضخما يعرف باسم «قلعة بعلبك» يا سيدي، أنا لا أبالغ إذا قلت لكم إن العواميد علوها 18 مترا، وعرض الحائط أربعة أمتار، حيطان هائلة، ودهاليز لها أول وليس لها آخر، والناس تأتي للفرجة على عينك يا تاجر. الصحيح أن الحكومة أسرفت في تدليل هؤلاء الخونة المهووسين عمال الألمان والطليان، ولأسباب لا تخفى لم أذهب إلى الهرمل، أنا شجاع إنما غيري أشجع مني، وأكثر مني، ولم يذهب إلى الهرمل، وأعتقد أنكم تعذرونني يا سيدي، ولكني فهمت شيئا يثير الشك، وهو أنه لم يقع خلال ال 24 ساعة الماضية ولا قتيل في الهرمل! هذا سؤال كبير يحرك الظنون، لماذا لم يقع قتيل واحد خلال 24 ساعة في الهرمل؟ وفيما أنا في هذه المناطق، كنت كذلك في طرابلس، حيث أتوقع انفجارا في أية لحظة كانت، والسبب هو أبيات شعر ألقاها شاعر حموي في حفلة تأبين، جاء فيها على ذكر الوحدة السورية، والرأي العام ساخط على الحكومة؛ لأن بدر الدين الحامد ذكر الوحدة السورية، ولم تثب السلطات لسحق القوميين الاجتماعيين، مع أن بعض الصحف الوطنية المخلصة حرضتها على مثل هذا العمل. ولا تعتقدوا يا سيدي أنني أهملت أمر بيروت؛ فإني قمت بهذه الجولة التفتيشية من غير أن أبرح العاصمة اللبنانية، وقد أوافيكم بتقرير مفصل، غير أنني أبشركم أنني توصلت بوسائلي البوليسية الخاصة إلى الحصول على بعض أعداد: «النهار» «كل شيء» «الأحد»، وأرجو أن تلاحظوا اللون الأحمر في هذه الجرائد، مما يثبت أن حلفا بين القوميين الاجتماعيين وبين الشيوعيين قد أعلن في الخفاء (عبارة سأشرحها فيما بعد)، والمهم أن تنقلوا إلى المسئولين أن الحالة خطرة وخطيرة؛ فليأخذوا التحفظات الضرورية، وأهمها البطش بهؤلاء الجماعة.
خادمكم المطيع: شمدص جهجاه
حاشية: واصلكم 12 سمنة ودجاجة أرض، مأكول الهنا. وفي هذه المناسبة أذكركم بضرورة تعيين ابن خالنا، محسوبكم بندر علوش، كأحد أساتذة الجامعة اللبنانية العتيدة، فهو فقير ذو عائلة، ولا يستطيع كسب الرزق بسبب أنه يجهل القراءة والكتابة.
رفات تنتقل
يتولى عني اليوم تحرير هذا الحقل رجل لم أسمع به من قبل أن قرأت رسالته إلى جريدة التيمز النيويوركية مؤرخة في 30 أكتوبر سنة 1951، واسم هذا المراسل «جاد تلر»
Gudd l.Teller
يرد بها على مراسل آخر سماه ممتازا، ويدعى هنسن بولدون
Hanson W.Baldwin
وقد كان هذا سبق فنشر مقالا ينذر به الغربيين من حرب العصابات التي قد يقوم بها العرب، فرد عليه بقوله: لا تخافوا؛ فالعرب لن يقاتلوا.
ولقد استلفت نظري هذا المقطع الذي جاء في مقال المراسل «جاد تلر»:
إن العربي لا يزال مقاتلا باسلا خطرا، غير أنه من الظاهر أن ليس في وسع قادته أن يثيروه، وليس له من ثقة فيهم ولا في قضيتهم. أما قادة صفوفه الثانية والثالثة، فأكثرهم انتهازيون، متنعمون، مثقفون على يد الغرب، محجمون عن المخاطرة بأعناقهم فيما هم يحرضون العامة كي يقاتلوا من أجلهم.
إن العقيدة القومية الاجتماعية ما هي بعقيدة تحريض، وأبناؤها لا يكلون إلى سواهم أمر القتال، بل هم يتولون بأرواحهم الدفاع عن إيمانهم.
وفي مقابر بيروت رفات، تحركت وانتقلت، لتنبئ الناس عن الإيمان الذي ليس بين معتنقيه خاصة وعامة، وعن الأبطال الذين لا يحرضون بل يبدءون بنفوسهم، بدلا من أن يقصروا همهم على التحريض والتغني الخامل بذلك الذي قال منذ أكثر من ألف عام: «أبدأ بنفسي.»
هذا النادي
هل لك في هذه الدنيا صديق؟ إن كان جوابك نفيا فالذنب ذنبك؛ إذ إنه ليس من المعقول أن لا يكون بين ملايين البشر من يستحق إخاءك، ولعل أدق موازين النجاح في الحياة كثرة الأصدقاء أو قلتهم، وإن من مظاهر العفن في التفكير، والمرض في النفوس، شيوع هذه الأمثال عن استحالة وجود الصديق.
غير أن الميدان الضيق الذي يحبس نشاط المرء من: جوار، ومهنة، وعائلة، وجبهة عمل - لا ييسر له أن يظفر إلا بعدد من الأصدقاء هو، مهما كثر، يبقى ضئيلا إذا قيس بعدد مواطني الأمة.
وتولد العقيدة القومية الاجتماعية، وليس لها اليوم في لبنان سقف يظللها؛ فتوفر فورا لمعتنقيها ألوفا وألوفا من الأصدقاء، رجالا ونساء، من كل الطوائف، ومن كل المدن والقرى، ومن كل الطبقات؛ فيشعر المؤمن بها وقد صار رفيقا، أن القلوب فتحت له، وأنه حين أذاب نفسه في هذه الموجة ارتفع معها في قوة وكبر.
وفي بيروت بعض أندية، كثيرا ما شمخ روادها بأنهم من أعضائها، وفي لبنان ناد ليس له رسوم للدخول فيه، وليس له من طقوس، هو بدون ريب أقوى الأندية، وأشرفها وأكثرها عدا، وأنبلها روحية. ناد يسهل لك إخاء الألوف والألوف، كل ما تحتاج إلى الانضمام إليه، أن توسع آفاقك؛ فتدرس منهاجه، وتعتبر بالخدمة التي أداها ويؤديها للوطن، هذا النادي - نادي القومية الاجتماعية - لن يفتح لأحد أبوابه؛ لأن ليس له أبواب، هذا النادي يصبح ملكك حين تصبح ملكه، وأن نشاط الحياة العادي، الذي يقصر خطواتك على الشوط القصير، وصداقتك على الأشخاص القليلين، يفتح أمامك جبهة لا حدود لها، ويشد يدك إلى أيد غفيرة العد، حين تشرفك الحياة بأن تمسي من رفقاء أبناء الحياة.
وإن كنت تحسب أنك من العلو بأنك تنخفض حين تواكب بائع الجرائد وماسح الأحذية، فاذكر إن خفق الأجنحة التي تسمو بالطير عن صعيد البسيطة هي حركة عنف تصل مرتفعا بمنخفض ؛ فإذا هنالك لا انخفاض ولا ارتفاع.
الجاهل الثاني ...!
يريدون نقاشا علميا.
ويفهمون بالعلم عبارات ضخمة، وكلمات تعددت مقاطعها، واستشهادات تتبرج بأسماء فلاسفة وشعراء وقادة نهضة.
ولقد ترددت لفظة «العلم» حتى خدعت الناطقين بها.
إن كان هذا علما، فإني لأظهر في غد بأوراقي المدرسية، ألوح بها أني كنت من علماء هذا البلد.
الكيمياء علم، الحساب علم، ولكن من الثابت أن ليس في الاجتماع «علم».
ولعل أسطع مظاهر الجهل التبجح بالعلم.
للثقافة رسالة واحدة، وهي أن تزودك بمعلومات، وتثير في نفسك حب الاستطلاع؛ فتوسع آفاق تفكيرك، وترهف بصرك، وتضع بين يديك رصيد العبرة التي استللتها من تجاربك؛ كل هذا تمهيد لقرار تمليه عليك يقظة النفس وسلطة العقل وهزة الضمير.
أما علماء هذه الأيام، فينعتون بالعلم سطورا تتدحرج من الكتب، لا فكرا يعي ويثور، يتشوفون بنظارات تطمس الأبصار، ولا تعكس إلا الكتب التي تقع اتفاقا تحت هذا المنظار.
إن كان العلم نقلا وسرقة واستشهادا، وبسط معلومات، لا تفكيرا ودرسا وملاحظة وتفاعلا ذهنيا يتجسد إنتاجا؛ فتاريخنا المعاصر قد نكبنا بغبيين اثنين طواهما الردى، يجهلان العلم: أحدهما جبران خليل جبران.
هذه دغدغة ...!
أحقا أن للألم لذة؟ إذن فنحن اليوم، وفي هذه الزاوية، ننعم بلذة كبرى، لا أطيقها - وهي لذة الجدل، يسوقنا إليها أقوال بعض الصحف في صدد حفلة تأبينية.
درج البعض على عادة شعراء العرب الأقدمين، فمن الغزل إلى الفخر إلى التفجع على الطلول، حتى يخلصوا أخيرا إلى الهجوم على من كانوا من أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي.
لذلك لم يكن من الغريب أن يأتي بيت شعر قاله بدر الدين حامد، في حفلة رثاء عبد الحميد كرامة في طرابلس سببا منطقيا إلى الانتهاء بالتحريض على الحزب، وقد كان الحزب غريبا عن الحفلة، وهو في لبنان غير موجود - وإلصاق التهمة بأنه «يدغدغ دلاله المتنفذون». أما الترويج ضد الكيان اللبناني، فإن أبناء العقيدة القومية الاجتماعية لا يريدون وحدة تفرض فرضا، بل كل همهم أن يبشروا وبالأساليب المشروعة؛ فيولدوا وعيا شاملا حتى إذا بلغ التطور والتفهم درجة الاقتناع في مجموع الشعب ، وزالت عوامل الحذر؛ إذ يغمر النور والإيمان والثقة نفوس أفراد الشعب، اتخذت الأمة آنئذ خطوات قانونية مشروعة، تتجسد فيها إرادتها. وهذا التطور والتفهم هما رهن الزمن، وفي كندا وفي الولايات المتحدة منظمات وأشخاص بارزون، يقولون بوحدة معجلة أو مؤجلة بين كندا والولايات المتحدة، ولم نسمع بأن أحدا منهم وصم أو مثل أمام المحاكم، أما، «الدلال الذي يدغدغه المتنفذون» والمسيطرون، فمن بعض مظاهره: (1) عدم توظيف أحد من أبناء العقيدة في الحكومة. (2) طرد الكثيرين من الدوائر الرسمية. (3) إذاعة سرية إلى الشركات أن لا تستخدم الشيوعيين ولا أعضاء الحزب السوري القومي السابقين. (4) عرقلة مصالح القوميين الاجتماعيين في كل الدوائر. (5) رقابة شديدة على التلفونات والتجول، وقد تسربت إلى دوائر الأمن بعض أوراق القوميين الخاصة. (6) وأخيرا ومؤخرا اتخاذ بعض التدابير الزجرية ضد بعض المساجين، وهم في مكان لا يستطيعون به أذية أحد.
أما حرية البحث في الإيمان، وهو حق تكفله دساتير الأمم الحرة؛ فهذا حصار ما فك عنهم ولكنه حصار خرقوه، وليس منهم من تراوده نفسه بأعمال العنف، ولكن من مصلحة بعض محترفي السياسة أن يبقوا بعض محترفي السياسة في حالة ذعر مستمر.
نكتة مستمرة
الجاهل يدفع ثمن جهله، دولة كان أم فردا.
إنكلترا فقدت بعض أجزاء إمبراطورية؛ لأنها لم تفهم الشعوب. فرنسا هوت إلى مقام دولي ثانوي للسبب نفسه. وأميركا حرمت أكبر سوق عالمي - الصين - وهي تدفع الدم في كوريا ثمنا لجهلها الشعب.
رجال الحكم المزمنون هنا - من هم اليوم في السراي، ومن كانوا أمس، ومن قد يأتون في الغد القريب، يفهمون من أمور الشعب أنه غير موجود؛ فأحاديثهم وتفكيرهم ومزاحهم وأعمالهم تنطلق من فلسفة خاصة - هذه قاعدتها، بل هذه هي النكتة المستمرة، تستثير القهقهات في الدواوين والحفلات، ورسخ هذه الفلسفة في المخيلات موضة ترداد شرحها كتابة وخطابة.
ولكن من درس النهضات يعلم أن الشعب قد يهفو أو يغفو، ولكنه لا يموت، بل إن حيويته تثبت موجوديتها أبدا - في ثورة، في نقمة، في صحافة، في مظاهرة، أو في انتخاب.
والشعب بطبيعته ، وبسبب النشوء والارتقاء ، جاهد أبدا نحو الأفضل والأكمل.
فإن كانت حقيقة العلم والمنطق والواقع تثبت أن الشعب هو أبدا واثب نحو الإصلاح والرقي؛ فما الغرابة في أن يكون بين الشعب أفراد هذا حافزهم لا سواه؟
حقيقة لا يريد البعض أن يراها فينا، نحن القوميين الاجتماعيين، لغرض في النفس، ولا يراها آخرون؛ لأن شعاع وضوحها يبهر الأبصار.
في كل قطر، وفي كل زمن، أثبتت الحوادث أن أصحاب النكتة المستمرة يستفيقون فجأة ليكتشفوا أنهم كانوا يضحكون بالمقلوب.
البوابة ...!
من احتقر نفسه، لن يحترمه الناس. وعلماء النفس يثبتون أن من عوامل تقوية الشخص لنفسه أن يحدث نفسه أنه قوي، بل من الشروط الأولية في تربية الصغير أن تؤكد له أنه ذو شأن وأن تظهر له الإعجاب.
أما الأكثرية الساحقة - اللفظة مزدوجة المعنى - من شعب هذه البلاد في عشرات السنوات الأخيرة، فقد كانت تنطق بلسان أكثر قادتها ومتزعميها أننا أمة انتهى أمرها؛ فطلبنا القوة من سلاطين بني عثمان، وصحنا «الله وفرنسا»، وتغنينا بأسطول إنكلترا، ورفعنا علما هو من وبر الجمال، وحلفنا يمين الوفاء لموسكو، وللقياصرة، ولويلسون، ولعلم النجوم والخطوط. انتظرنا القوة ترسل إلينا طردا في البريد من مختلف أنحاء الدنيا، وغفلنا عن حقيقة أمر يقره علم النفس، وهو أن القوة كامنة في نفوسنا.
إن العقيدة القومية أيقظت في صدور أبنائها هذه الحقيقة الاجتماعية ورسختها. قالت للناس وبرهنت للناس أن قوانا هي فينا، ولم يكن هذا القول بيانا وكلاما منمقا ولا تملقا يبتغي استهواء الجماهير.
انظر ماذا فعل اليهودي حين حدث نفسه بأنه قوي، اليهودي الذي كان حتى سنوات سلفت رمز الجبن والانهزام، وهدف الاضطهاد، صار شجاعا بطاشا مضطهدا سيدا على نفسه وعلى سواه. واعتبر في الصينيين واقرأ بأي بطولة هم يحاربون في شمال كوريا، ثم اسألني وسل أي شخص عرف الصينيين في الماضي كيف كان يسوقهم الكرباج، ويذعرون من عطسة.
الإنسان هو بعض الله، والله قوي. وكل ما يحتاجه المرء لأن يستشعر بقوته وأن يمارسها هو أن تهزه، والقومية الاجتماعية هزت نفوس معتنقيها. هذه هي فضيلتها الأولى ، وهذا هو السبب الأول الذي حدا بي إلى اعتناقها، وهذا ما يوجب عليك يا مواطني أن تقبل على تفيؤ علمها.
غير أن المسكنة والخنوع والاستسلام ليست وحدها من مظاهر الحقارة والضعف. إني أذكرك بأن العلم - علم النفس - أثبت أن الاستعلاء هو بعض مظاهر الصغارة والجبن، كل بهوار جبان، كل متعجرف صعلوك؛ لذلك ما هو بكبر ما تسمعه من تبجح بماض وبحاضر، بل هو حقارة انتفخت.
إن التطلع إلى الكراسي هو الدليل الأكبر على أن المتطلعين إليها هم أدنى منها. كانت إحدى سيدات المجتمع حين تدعو العظماء إلى مائدتها لا تهتم بالبروتوكول في توزيع المقاعد بحجة «أن الذين لهم شأن لا يهمهم أين يجلسون، والذين يهمهم أين يجلسون ليس لهم شأن؛ فلا ضير إن استاءوا».
في كل بيت من بيوتات العصور الوسطى بوابة كبرى، في أسفلها باب صغير، يستشعر الداخل فيه منحنيا أنه حقير يدب إلى كبير. لعل الجريمة الكبرى عندنا هي إقفال البوابة الكبرى والباب الصغير؛ فلا يدخل صالون الأمة إلا من ضمر وهزل، فانسل من ثقب الرتاج، أو زحف من تحت الباب والعتبة.
إن القومية الاجتماعية حين فتحت البوابة الكبرى للشعب، على مصراعيها، ليدخل المواطنون رفقاء متساوين مرتفعي الجباه، ردت للمواطن ثقته بنفسه، وردت إليه بالتالي ثقته بأمته كمجتمع يوفر لكل فرد منه كرامته كإنسان.
صقيع يحرق ...!
أبناء هذه العقيدة القومية الاجتماعية، يحاربون بالسذاجة ذكاء من يريد خداعهم أو عداءهم.
حقيقة يصعب على أساطين الهمس والغمز والتطبيق فهمها.
ولا يريد أولئك الحاذقون أن يسلموا بأمر بديهي أثبته تاريخ هذه العقيدة وحاضرها، وهو أنها تغلبت وتتغلب على من يريد أن يلعب بها، أو يستعين بأبنائها ختلا ورياء.
ما هم بشطار فتيان هذا الإيمان. يتساءل المتعاظمون: «من هو فلان من قادة هذا الفكر؟ ومن هو فلان؟ ومن هو فلان؟»
ما هم بجبابرة - فلان وفلان وفلان، هم بعض السابلة على طريق الحياة يسيرون فوقها بنخوة ونظام.
لا تحتقر أمر الجندي، هو شيء لا أهمية له. صحيح، ولكنه الجيش الذي أفنى فيه هذا الجندي ذاتيته هو الشيء المهم.
هذا الجيش القوي الباسل النبيل، يجب أن لا يحتقر ولا يخاصم ولا يستفز. ولا شيء أسهل من صداقة هذا الجيش، أعني أبناء هذه العقيدة؛ إذ إنه ليس فيهم من يبغي كرسيا أو غنيمة، فودهم يكتسب ولا يشرى.
من يعطهم حبة من الإخلاص، ردوها له إهراء من حبوب.
ومن حاول بالدهاء والمناورات استغلالهم أو طمسهم، اكتشف في آخر الأمر أن في سذاجتهم شطارة، وأن في شطارته غباوة.
بعض أنواع الجليد يشتد صقيعه؛ فيمسي نارا محرقة.
لو أني صاحب الجلالة!
هذه الرسالة كانت موجهة إلى الرئيس السابق الأستاذ بشارة الخوري بعد أن هوى فاروق، وقبل أن يعتزل الخوري. «أنا إنسان» كلمتان افتتح بهما الرئيس بشارة الخوري مؤتمر الأونسكو حين عقد في بيروت. ***
كل عاقل ليس به مس من الجنون، فهو بليد الذهن.
وأنت يا قارئي مثلي تدعي الذكاء؛ إذن فيجب أن تعترف بأن فينا شيئا من الجنون، تراك مثلي مصاب بجنون الأحلام؟ يا طالما حدثت نفسي بأني ملك في «غمدان» وأن من زملائي فاروق، واستفقت من حلمي مذعورا أتطلع إلى حرس الفاروق، يصوبون أسلحتهم إلى القصر المحروس، ثم يسيرون به فيركبونه «المحروسة». رجوتك يا قارئي أن لا تسمعني بعد اليوم الدعاء المألوف «الله يحرسك»؛ فإن هذا يذكرني بالحرس والمحروس و«المحروسة».
وتفجرت الأفراح مظاهرات، وأغاني، وشتائم، وحقولا في الصحف سوداء ضخمة العناوين. إن نفسي لتتقزز من هذا الجذل الحيواني؛ فالشماتة إحدى مظاهر البهيمية. أنا إنسان؛ إذن فأنا أتعظ وأعتبر. ليشتم الناس فاروقا ما أرادوا، أنا أشكره، إنه أحسن إلي، إنه أعطاني درسا. أنا إنسان، إذن فأنا في كل يوم أتفهم رسالة جديدة.
لقد نصحني فيما مضى صديق لي، على مسمع من الناس، أن أخلو إلى نفسي فأعرفها. أخال أن ما يجب أن أفعل اليوم هو أن أبتعد عن نفسي حتى أراها، بل سأبتعد عن نفسي، وأكون وحيدا وحيدا، ولن أسمح حتى للخوف أن يرافقني. أنا إنسان؛ إذن فأنا مفكر. الخوف يشل التفكير فيجب أن أطرده عني.
ها أنا مبتعد أنظر إلى مملكتي، فأراها فوضى وغوغاء من نقمة وظلم وفقر وشعوذة وثروات واستغلال. أنا إنسان؛ إذن فالخطأ من معائبي. أنا إنسان؛ إذن فالجرأة يجب أن تكون من فضائلي. هو ذا أول قول جريء أتفوه به، لقد أخطأت.
القول، ما فائدة القول إذا لم يترجم عملا؟ الجائع لا يشبعه القول، ولا البائع ولا المحروم ولا المضطهد. إن مملكتي صغيرة جميلة، وشعبها طيع نبيل، لقد كنت معبوده فيما مضى، لقد أسمعني الهتاف الذي لا يزال يسكر مسمعي، ولكنه كان هتافا غير مأجور. لماذا يرسل اللعنات نحوي اليوم، لعنات لو أنها تشعل النار لأمسى قصر «غمدان» رمادا؟
لقد أخطأت، لقد حقرت شعبي فحقرني. لن أكون ساذجا. إني أعلم أن أكثر الثائرين علي هم من محترفي المشاغبة، يبغضونني مخطئا، ويبغضونني مصلحا، ويبغضونني ملاكا أو إلها. إن صاحب الجلالة له أبدا أعداء؛ لأنه صاحب الجلالة. أنا إنسان وغيري كذلك إنسان، والإنسان يحسد الإنسان.
غير أني لن أقنع نفسي أن هذه النقمة الحادة الجارفة هي ليست من صنيعي.
هؤلاء المتزعمون المستثمرون ما شأنهم في هذه الدولة؟ إنهم لا شيء، الشعب يمقتهم، قوتهم تهويل مستمد من القوة التي سلمتها إياهم الدولة.
أنا إنسان، إذن فأنا تلميذ التجربة. شريت الولاء فانكشف بضاعة مزيفة. جربت البطش ودفنت الحراب؛ فنبت في طريقي ألوف من حراب جديدة. رقعت هذا الثوب فبدا خرقا مضحكة، لا تزين ولا تدفئ.
إن القوى المسلحة هي رهن أمري، ولكنها كانت كذلك رهن أمر القوتلي وفاروق. البوليس إنسان، الدركي إنسان، الجندي إنسان؛ إذن فهو كذلك قد ينقم ويرتد ويثور.
أنا إنسان، ماذا ينقصني في هذه الدنيا؟ أنا صاحب الجلالة في ذروة هذا البلد، المال موفور لي ولمن أحب، ولمن أتوهم أني أحب، كل ما أحتاجه هو الإرادة للإصلاح والعزم على الإصلاح. الإرادة تخلق الكلمة، والكلمة تطاع؛ لأن وسائل التنفيذ لا تزال في يدي، علي أن أنفذ.
فإن عجزت عن التنفيذ؛ فأول واجب نحو نفسي هو أن لا أخدع نفسي؛ فأفسح لها مجال التقوى، إذ ذاك قد أعتزل الدنيا فأترهب. أنا إنسان فلماذا لا أكون واقعيا؛ فأبدأ بحزم حقائبي، وأودع غير مطرود، فأكون الرابع في لعبة بردج مع فاروق والقوتلي وزميلي الإيطالي الملك «أومبرتو». أنا إنسان، قد يشلني «الروتين»، قد لا أفعل شيئا، إن لم أبتعد عن نفسي.
لو أني صاحب الجلالة، لابتعدت عن نفسي فهززت الصولجان أو رميته.
الفرق ...!
«لا، لا، إياك أن تذكر اسمي، قل: إني لبناني صميم.»
وودعت اللبناني الصميم، وهو صديق قديم حميم، حشد في خزان الدهر ثلاثين سنة من حياة مفعمة بالجهود الوطنية، ومن صداقات غالية تخطت حدود المناطق والطوائف، ومن حلقات أدب وفكر وصفاء لم يعرف لبنان لها شبيها، ولعلها لن تبعث، ومن سلوك شخصي يقدر أن يعرضه على الجماهير في شريط سينمائي فخورا بمشاهده وحوادثه.
ودعت اللبناني الصميم بعد جلسة طويلة، هذا ما قال فيها:
يا أخي نحن نحترمكم، نحن لا نتهمكم بالخيانة، نحن معجبون بإخلاصكم واندفاعكم، ولكن تعالوا نشتغل في هذا المجتمع اللبناني، حتى تستقيم الأمور، فإن سيطر الوعي علينا هنا، وعليهم هناك، إلى حيث شئنا وشاءوا، أو أراد أولادهم، وأراد أولادنا أن ننصهر في دولة مثل الولايات المتحدة - فما الضرر؟ نحن لهذه المبادئ، ولهذا الهدف.
قلت لصديقي اللبناني الصميم: «أنت وأنا كلانا قومي اجتماعي، موحد الفكر، والغاية والأساليب.
والفرق بيني وبينك أنك تصر على أن يبقى اسمك مكتوما، وأصر على أن أضع توقيعي في ذيل ما أكتب.»
عجين البغضاء
إن من يقرأ آداب اللغة العربية بعينيه الاثنتين، لا بالعيون التقليدية، والذي درس حركاتنا الوطنية بوعي ما تعود أن ينصاع لموض الكلام، يخلص إلى استنتاج هو أن شعوب هذه البقعة من الدنيا أمست تعتاض بالبغضاء - وهي غريزة بهيمية سلبية - عن الوطنية، وهذه شعور، وتفكير، وإنتاج إيجابي. لقد ساهمنا في طرد الأتراك لكرهنا للأتراك، واشتركنا بالحصول على الاستقلال لحقدنا بالأكثر على الفرنسيين، وأردنا أن ننتصر على اليهود ببغضهم وشتمهم وتحقيرهم.
وأنت إن وقفت يا صديقي، واستعرضت أشخاصا تعرفهم وتذكرهم، تتحقق أنهم برءوا نفوسهم أمام ضمائرهم وأمام قومهم بأنهم وطنيون غيورون بسبب بغضهم للصهاينة، ومنهم من اتجروا وتزعموا وباعوا وشروا، أو من اقتصر إنتاجهم على سلبية البغض.
لعل هذا ما يفسر الإفلاس الذي نزل بعد الاستقلال بمن تسموا قادة حكومات وشعوب؛ إذ وضح عند الفوز بالسيادة الخارجية والداخلية أن كل وطنية عجينها البغضاء هي وطنية مزيفة. من فضائل العقيدة القومية الاجتماعية أنها لم تنشأ نكاية بأحد من الناس، ولا لمناوأة فئة أو طائفة؛ لذلك قدرت هي - وهي وحدها فقط، من سائر كل العقائد والمنظمات، أن تصهر في كيانها أشخاصا من كل الطبقات والطوائف والمناطق، وليست هي في ذلك مثل غيرها من العقائد والأحزاب - التي اقتصرت على عشيرة، أو طائفة أو منطقة من الوطن، واستعملت أسماء أشخاص قلائل غرباء عن تلك العشيرة أو الطائفة أو المنطقة، للزينة ولرد التهم.
إن القومية الاجتماعية تعلم وتمارس أننا كلنا للوطن، وأن الوطن لنا كلنا، وهي استطاعت - هي وحدها استطاعت - أن تغرس في المواطن العادي زهو العزة الوطنية، فلم يعد غريبا عن بلاده، شأن زلم الإقطاعيين، أو عبيد الأجانب، أو السواح المقيمين في هذا الوطن، وليس لهم من إيمان إلا ورقة هوية يحملونها وحملها من قبلهم أجدادهم، ولا شأن من يعتبرون الوطنية بغضا ونقمة وشتيمة.
سيسجل التاريخ الحديث أن أيديولوجية الوطنية، كما تفهمها الثقافة الحديثة وضعت أسسها في بلادنا قوميتنا الاجتماعية.
العيش والحياة
لم يكن مجاملا، صديقي المحامي، حين جلس يشاطرني القهوة في الصباح، ويتكلم بحمية عن نهضتنا. من الكلام ما يفيض ألفاظا تسري عبر الأذن، ومن الكلام ما ينطلق؛ فيلفح السمع بلذعة الصدق، وقد تحققت أن جليسي كان مؤمنا بالعقيدة القومية الاجتماعية، حين قال: «أنتم الوحيدون الذين يستحقون الاحترام، ومبادئكم كما كتبت وشرحت، وكما نفذت هي وحدها، لا سواها، كفيلة بالإنقاذ.»
ودهشت إذ ذكرت أن زائري نشأ في بيئة معادية لهذه الحركة، ولم يكن في سيرته، ولا في حاضره، ما يدل على أنه من المقاتلين، ولا من أبناء الصراع - غير أن نخوته واقتناعه وحماسته واحترامي الشخصي له أهابت بي، فسألت: «إذن فأنت في طريقك إلينا؟» أجاب: معاذ الله! أنا محام، يكاد قصر العدل أن يمسي بيتي، هل تريدني أن أخسر كل دعاوي؟
الفرق بين صديقي المحامي وبين أبناء الحياة، أن هؤلاء لا يهمهم خسارة دعاويهم الخاصة ما داموا يشتغلون في ربح الدعوى الكبرى.
هو يقنص العيش في قصر العدل وهم يبنون الحياة من عرزال يطل على الدنيا، ويقزم قصورها.
انهيار وترميم
من أبشع مشاهد الدنيا الخراب، وإن الذين صفت نفوسهم لا يفسحون لها مدى التلذذ برؤية الانهيار؛ فإن كل مواطن يتهدم هو مواطن خسرناه.
وإنه لمن المؤلم أن نرى بعض الشخصيات المعروفة تنتحر مرارا كل أسبوع، وتنتثر شظايا في مقالات من المغالطات والافتراءات، وليست الكارثة في أن سياسيا تناثر الناس من حوله وانتهى أمره، بل إن الفاجعة بخيبة فئة من الناس عقدت الآمال عليه؛ فإن في ذلك ما يحجر شيئا من حيوية الشعب ويلاشيها. كان علماء الألمان ممن تولوا قيادة الحرب السيكولوجية، في المجزرة البشرية الأخيرة، يثيرون الأنباء المغرضة الكاذبة بين جماهير أعدائهم، ثقة منهم أن خيبة الآمال توقع في معنويات الشعب، وأنت اليوم حين تلمس الريبة في نفوس مواطنينا؛ فلأنهم خلال الثلاثين سنة التي مضت كانوا يوما بعد يوم يتفاءلون بشخص ما، ثم يكتشفون سريرة أمره فيبتسمون بمضض خائبين.
اليوم تكتشف القومية الاجتماعية حقيقة أمر من حالفها يوم كان في حاجة إلى أبنائها، وشن عليها الحرب الكلامية لغير سبب وفي غير مناسبة، وفيما هو يحاول تهديمها هدم نفسه بسرعة وبصورة نهائية.
نحن لا نفرح برؤية هذا الخراب، بل نأمل نحن الذين ساعدنا من أراد خصومتنا أن يكشف عن نفسه، أن يتعظ بمصابه فيجد نفسه - أخيرا.
إذ ذاك نكون قد مددنا له يد المعونة مرتين: مرة حين تهدم فاكتشفت حقيقته، ومرة حين وقف على أطلال أمجاده فلم يشتم، ولم يتهم، ولم يفتر، بل كرجل ثاب إلى رشده وتاب عن ذنب، أنقذ من الدمار شيئا يثير الاحترام.
أضف إلى فضائل القومية الاجتماعية أنها لا تخيب آمال من اعتنقها ولا تخون.
طريق ضهر البيدر وطريق مرجعيون
من عادة أهل الكتابة أن يظفروا بالأكل مجانا، حين يحسب المضيف أن في كرمه حافزا للإعلان عن متجره، وقد يكون من نتائج هذا المقال أن ينقطع أصحاب المطاعم والفنادق عن هذه الحاتمية، أو الرشوة؛ فهذه الأسطر لا تروج للإقامة، في فندق «المسابكي» شتورة، حيث أكلت وشربت مرارا عدة، وكل مرة كنت أدفع بكلمة شكر أوجهها إلى الخواجة، صاحب الفندق بواسطة الجرسون، الذي ينقل إلي الرسالة السخية.
ووصلنا «شتورة» في عاصفة من الثلج، راجعين إلى بيروت، فاستقبلتنا على الطريق بارودة الدركي، وقهقهته وأوامره معلنة أن الطريق مقفلة، وأنه من «الحكمة» أن نبقى في شتورة.
لا أدري لماذا قهقه الدركي، قد يكون ذلك من قبيل فرحه بمصيبتنا، لعل أول تسجيل في نفس الإنسان حين يسمع بموت صديق له هو فرحه، بأن الموت نزل بصديقه لا به، ترى ألهذا السبب ضحك الدركي؟
ودخلنا الفندق، يعني اللوكندة؛ فإذا هو حافل بالضيوف، وحافل باللاجئين، لو سئلت تسمية هذا العصر، لقلت: إنه عصر التندر والطرائف؛ فكل من تلقاه، يمد يده إلى جعبته، فيتناول منها قصصا يرويك بها، وكان من الطبيعي، والدنيا ثلوج وأرياح وأمطار، أن تنحرف الذكريات إلى منحى الطبيعة، وكانت القصة طبعا تنتهي ببطولة راويها. أذكر أن أحد اللاجئين إلى الفندق قص علينا كيف كان يقطع الثلوج في ضهر البيدر ذات شتاء، فهاجمه قطيعان من الذئاب: واحد من اليمين وآخر من اليسار، فراح محدثنا البطل يقبض على ذنب الذئب المهاجم من اليمين، فيرمي به الذئب المهاجم من اليسار فيصرع الاثنين معا.
وقبعنا في الفندق والثلوج والأقاصيص تتراكم، والأرياح تهب، وكذلك دخان الأراكيل، وكان الثلج يتعالى في ضهر البيدر عند دخول كل «لاجئ» جديد، والنكبات تزداد كلما جاء من يطلب الدفء والأمن في قاعات اللوكندة؛ حتى حسبنا أن في الخروج خطوة من الفندق مقامرة وغمارا.
وجاءت «ساعة الوحشة» في المساء الباكر، ونحن في النشوة التي تملك من هو في المكان الأمين، وسط العاصفة المخيفة، وإذا بمسافر تملأ قامته الباب، وتملأ ابتسامته الفندق يدخل ، فيطلب قطعة من اللحم كبرى ابتلعها، ثم راح يغسلها في جوفه بكأس من الوسكي.
ورفع المسافر صوته متغنيا بالطبيعة وبجمال الليل، معلنا أنه سيواصل طريقه إلى بيروت عن طريق مرجعيون، طريق خطرة وطويلة، ولكنها الطريق السالكة غير المسدودة، وأن القمر سيطلع بعد قليل، وأن السير في ذلك المساء سيكون بهيا، وأنه سيبلغ بيروت.
وكانت نبرات صوته، ولهجته الواثقة المتفائلة، وإصراره على الوصول إلى حيث هو قاصد، نفحة من النسيم المنعش النقي، في جو الخوف والدخان، والنوادر التي ملأت غرف اللوكندة.
ووثبت مع المسافر الجريء إلى سيارته؛ فإذا القمر في السماء، وإذا بنا نبلغ بيروت عن طريق مرجعيون، وكان في ذلك شيء من المغامرة خصوصا حين لففنا بعض الأكواع، ولكننا بلغنا بيروت، فيما بقي حتى هذه الساعة - بعد أيام أربعة - رفقاؤنا في «شتورة».
في بلادنا اليوم ذهنية طاغية، تأوي، وحولها العاصفة، إلى «فندق» فيه السلامة والدفء، والأحاديث عن بطولات وهمية وحقيقية سلفت، أناس يحدثون عن استحالة العبور عن طريق ضهر البيدر، حيث تسد الثلوج الطريق، وحيث تتدهور السيارات، وقليلون - مثل ذلك المسافر الجريء - عزموا على الوصول إلى الهدف - بيروت - واثقين أن طريق «مرجعيون» سالكة، ولكنها طويلة وخطرة.
ولكنك لن تصل إلى بيروت إلا حين تعزم وتسير نحو بيروت، ولن تزيل ثلوج ضهر البيدر أحاديث القابعين في فندق «شتورة»، الذين أقنعوا أنفسهم، ويحاولون أن يقنعوك أن الوصول إلى بيروت مستحيل، وحين تعزم على الوصول إلى بيروت في العاصفة، فلا يفاجئنك ظهور دركي يلوح ببارودته، ويأمر، ويقهقه!
تبلغوا وبلغوا
التصريح وما يليه من مقالات ثمانية قد نشرت جميعها متتابعة في مجلة «كل شيء» الأسبوعية.
لو أننا نؤمن بالاغتيال لتدحرجت رءوس كثيرة
الأضواء تتركز في هذه الأيام على الشيخ سعيد تقي الدين، عميد الإذاعة في الحزب القومي الاجتماعي ...
فهو الذي يخوض اليوم مع المسئولين السوريين أعنف معركة في سبيل أن يبقي على كيان الحزب القومي، الذي داهمته عواصف النقمة بعد مقتل العقيد المرحوم عدنان المالكي.
ووضعت «كل شيء» هذه الأسئلة أمام الشيخ سعيد تقي الدين، فأجاب عليها بهذه الصراحة المطلقة. ***
قلنا له: توجه إلى الحزب القومي تهم عديدة، منها: أنه حزب يسلك طريق الاغتيال السياسي لتحقيق مبادئه، وأنه هو الذي قتل رياض الصلح في الماضي، وعدنان المالكي في الحاضر؛ فما هو دفاعكم عن هذه التهمة؟
وأجاب الشيخ القومي: مبدأ «الدفاع» عن التهمة هو مبدأ مغلوط؛ فالمبدأ الذي اعتمد منذ عهد السوريين الأقدمين إلى عهد الإغريق، فالرومان، إلى اليوم هو أنه على المتهم - بكسر الهاء - أن يثبت التهمة. كل ما يريده الحزب هو ممارسة حق المواطن، الذي يكفله كل دستور في الدول، التي تسمى بحق أنها دول ديمقراطية. نريد حق التبشير بالطرق الثقافية الإذاعية المشروعة، ولقد قاوم ممارستنا هذا الحق الرجعيون والأنانيون، وهؤلاء يقاومون كل حركة إصلاحية؛ لقد اضطهدوا كل رسالة دعت إلى الثورة على الضعف المتحجر، سواء أكانت هذه الدعوة سماوية أو سياسية أو اجتماعية. أستعيد ذكرى المقاومة والاتهامات التي لقيتها الدعوة المسيحية والمحمدية، والاضطهادات التي تعرض لها كل من دعا إلى إصلاح؛ لذلك كان من الطبيعي أن يستعمل أعداء الإصلاح كل الأسلحة ضد الحزب القومي الاجتماعي، ولو أن مبدأ الاغتيال يقره الحزب؛ لتدحرجت بعد استشهاد الزعيم ورفقائه الستة رءوس كثيرة، ولكننا نؤمن بممارسة الوسائل المشروعة، وأعداء هذه الأمة هم الذين يحرموننا ممارسة هذه الوسائل.
وسكت الشيخ سعيد قليلا ثم استطرد قائلا: وإنهم، وهم يملكون أدوات التنفيذ في الدولة، يحاربوننا بالحراب، وتسخير القوانين، وبالاغتيالات، وبالتشريد. إن الحالة السائدة في الجمهورية السورية تشبه ما كان عليه العراق في سنوات 1932-1936، وأذكر أن هنالك جرائم كثيرة سبقت مقتل العقيد المالكي، أذكر أن العقيد محمد ناصر، وهو من ألمع ضباط الجيش اغتيل وعرف قاتلوه. لقد كان تدخل الجيش في السياسة. إن إدخال السياسة على الجيش السوري كارثة، والحزب الذي ضبطت سجلاته حيث كانت، واعتقل أعضاؤه بعد أن تلفنت شرطة الجيش لعصام المحايري أنهم قادمون للقبض عليه. هذا الحزب أذاع منذ اللحظة الأولى أن لا علم له بالقتل، ولكن تخطيط أعداء الأمة من: رجعيين، ونفعيين، ويهود، وشيوعيين استهدف القضاء على هذه القوة المؤمنة المقاتلة، وتوهم أن هذه المناسبة سانحة مثلي؛ فراح بعض الضباط يبطشون ويفظعون، إنهم ما وجدوا ولن يجدوا برهانا واحدا يثبت التهمة.
ثم تنهد وقال: لقد اقتلعوا أظافر رفقائنا، ولم يقتلعوا منهم كلمة تدل على أن أحدا له معرفة بالحادثة. أذكر أن إثبات التهمة يقع عبؤها على مطلقها. أذكر أن يونس عبد الرحيم بعد أن فاز بامتحان لدخول سلاح الطيران منعوه، وأنه نجح ثلاث مرات بامتحان ترقية وأنهم حجبوا عنه الترقية، وأن عناصر كثيرة في الجيش متبرمة بكثير من قادته. لقد تعددت تأكيداتهم بأنهم وجدوا وثائق تدين، وفي كل مرة يعكسون موقفهم.
وتركنا الشيخ سعيد تقي الدين يستريح قليلا على المقعد، ثم عدنا نسأله بعد لحظات: يتهمون «الحزب» بأنه «يقبض» من الدول الغربية لقاء مناهضة الشيوعية، وبأنه «يقبض» أيضا من العراق ليؤيد الأحلاف؟
فهز برأسه ساخرا وأجاب: وهذا بعض سلاح الاتهامات، إنه سؤال غير مشروع وغير وارد؛ حزبنا حزب بطولات، والبطولات ما كانت تباع وتشرى. إن أعداء الحزب، أعداء الأمة، يطلقون أبدا هذه الاتهامات الحقيرة، غالبا لا نرد عليها. أذكر أن الزعيم سعادة «ثبت» عليه أنه متآمر مع اليهود. لقد نشرنا رأيا ظهر في جريدة «البناء» ضد الأحلاف، وأخذنا من مقتطفات منشور الحزب مقاطع أعدنا نشرها ولك أن تنشرها. لقد ناهضنا الحلف التركي العراقي؛ لأنه لم يعط بلادنا كلها «الهلال الخصيب» الضمانات القومية التي نريدها، اقرأ المنشور وهو فيما يزيد على الستين صفحة، ودلنا أين قلنا إننا نوافق على الحلف التركي العراقي، ولكن اختراع التهم باب لا ينتهي؛ ولذلك نحن في أكثر الأحيان لا نرد عليه.
وقلنا له: إذن من أين يأتي الحزب بالمال لتسديد نفقاته، وهل صحيح أن أموالا ومساعدات تصل إليكم من أعضاء الحزب في المهجر؟
فأجاب: هذه المئة ليرة التي تراها جاءني بها بائع جرائد، كان قد اذخرها ليستأجر «واجهة» يعرض فيها الكتب، لا تنس أن الحزب هو حزب عطاء، وأن عدده عشرات الألوف، وأن لنا فروعا عبر الحدود في: فنزويلا، والشاطئ الذهبي، وليبيا ، والبرازيل، والأرجنتين، وأميركا الشمالية، والمكسيك، وبلدان أخرى.
وسألناه إذا كان لأرملة الزعيم سعادة نشاط عملي في الحزب، أم إنها زعيمة روحية فقط، فأجاب بحدة: إن حضرة الأمينة الأولى لا تمارس أية مسئولية في الحزب، إنها رفيقة الزعيم؛ ليس لها صلاحيات دستورية، أو في المعنى الشائع ليس لها «وظيفة» في الحزب. إن القوميين وأشراف المواطنين يجدون فيها رمزا لبطولة المرأة في بلادنا. إن الذين سجنوها لوثوا أقدس تقاليد أمتنا. أسباب اعتقالها يعرفها من ارتكب جريمة الاعتقال وجرائم التعذيب، حسبوا أنهم يذلون الحزب بالتجني على هذه الشخصية المقدسة. إنه بطش الجبان.
وسألناه أخيرا: هل كان الحزب في سوريا يطمع في إحداث انقلاب وتسلم الحكم سواء الآن أم بعد سنوات؟
فأجاب وهو ينتقل إلى مكتبه الذي تزينه صورة الزعيم سعادة: إن الانقلاب الذي نعمل له هو الانقلاب الخلاق في نفس المواطن، واستلام الحكم في الشام خلال السنوات الأخيرة كان أبدا في مقدورنا، لو أن غايتنا كانت استلام الحكم بالعنف. إن حركتنا هي في جوهرها حركة تثقيفية هادئة، تكون نتيجتها وعيا يسير الحكم نحو خير البلاد وقوتها، لم نستهدف أبدا ترجمة القوة إلى وظائف ولا منافع. إن عدد أعضاء الحزب وفعاليتهم وأهميتهم تفوق أية قوة سواها منفردة، نحن لم نشغل القوى المسلحة بالسياسة أو بالأغراض المحلية، ما أردنا إلا أن يكون رفقاؤنا في الجيش جنودا ممتازين.
حكاية دخولي الحزب السوري القومي الاجتماعي
اليوم بلغت من العمر الواحدة والخمسين، وإني إذ أتمهل فألقي خلفي نظرة تستعرض الطريق التي مشيت، أجد أن نفسي لا تزال مترسخة في طفولتها وقرويتها.
هذا المقال يسرد بطريقة مستعجلة، مشوشة، حكاية دخولي الحزب السوري القومي الاجتماعي. ***
وتبدأ القصة في طفولتي وقريتي «بعقلين»، ونحن في بعد ظهر كل يوم نجلس أمام بيتنا على البوابة، والناس عند العشية يمرون بنا بالبوابة، عائدين من الحقول يقفون؛ ليدعوا الجالسين إلى مشاركتهم بما يحملون من عنب ومن تين. وإن الجالس المراقب يعرف من طريقة إلقاء السلام من الذين يمرون، أكان المسلم صديقا أو عدوا: فأما الصديق فيلقي التحية بحرارة ويرددها، ويستفهم مرارا عن الصحة وعن أفراد العائلة جميعا.
وأما العدو فيتمتم سلاما مسرعا ويمضي.
وإني لا أزال أذكر من هؤلاء شخصا طويل القامة، عريض الكتفين، يحمل شمسية صفراء من «ستكروزا»؛ فهو حين يمر بالبوابة لا يتمتم السلام، ولا يلقيه حارا، بل يصوب الشمسية نحونا حتى لا نراه ولا يرانا.
ذلك كان عدونا الأول في «بعقلين» - محمود الطويل.
لا أذكر كم كان عمري إذ ذاك، ولكني أذكر أنني مررت يوما أمام بيته؛ فقال لي: «هذه الطريق خصوصية يا بني.» ... وأذكر أنني لم أعلم يومئذ ما معنى كلمة «خصوصية»، واستفهمت أبي عنها. •••
نحن في أواخر سنة 1945، وقد ارتفع عنا في «الفيلبين» ستار الحصار، الذي شطرنا عن الدنيا خلال الحرب ثلاث سنوات ونصف، وإذا بالبريد يحمل إلي من نيويورك نبأ من قريبنا، أمين أبو حمزة يقول فيه: إن عمي الدكتور رشيد تقي الدين فوجئ بشلل، وكان معدما، وأن الدروز في الولايات المتحدة تعاونوا على تطبيبه وإعاشته، وذكر أسماء المتبرعين والمبالغ التي دفعوها، وكان بين الأسماء اسم فرحان الطويل، واقترح أمين أبو حمزة في رسالته أن أوجه كتب شكر إلى المتبرعين.
وأيقظ اسم «الطويل» في مخيلتي الشمسية العدائية، وكبر علي أن أشكر عدوا على إحسان؛ فآثرت - ولم يكن من اللياقة أن أرد المال للمحسنين - أن أستعيد كرامة العائلة بتبرع ضخم لجمعية درزية، ولسواها، وأعتقد أن ما أرسلته إلى نيويورك بلغ نحو الثمانية آلاف دولار، وكان من السهل أن يفتدى هذا المبلغ برسالة شكر.
يقولون لك: إن الإحسان فيض من القلب. لحد ما هذا صحيح، ولحد كبير إنه خيلاء ودعاية، وفي هذه الحادثة أعتقد أنه كان نكاية.
وعدت إلى لبنان سنة 1948، ووجدت قريتي بعقلين تقريبا كما تركتها منذ ثلاث وعشرين سنة، وكان في المعسكر المعادي حسن الطويل بن محمود الطويل، ولكنه لم يكن في «المعسكر» المعادي على الطريقة التقليدية، بل قيل لي: إنه في شيء اسمه «الحزب».
وكنت بعد ذلك أسمع ضجة عن الحزب القومي، ولكني لم أكن أقرأ شيئا من كتابات الزعيم سعادة أو أقرأ عنه، وصحيح القول أني لم أكن أقرأ في الصحف، ما عدا الأخبار، إلا المقالات التي أكتبها أنا.
وفي مستهل سنة 1949 رشحت نفسي لرئاسة جمعية متخرجي الجامعة الأميركية، وقيل لي يومئذ: إن أنطون سعادة أصدر أمرا بتأييدي عن غير معرفة، وكان منافسي الأستاذ إلياس المر، وأخوه كان حينئذ وكيل رئيس الوزارة في يوم الانتخاب، وتوجهت بعد الانتخاب أشكر، في زيارة تقليدية، رئيس الحزب الذي أيدني، ورد لي الزيارة في سهرة طويلة استمع بها إلي، ولم أستمع بها إليه، ولقد أخبروني بعد ذلك أنه كان من عادته أنه يصغي، ويصغي، ويتلقف الكلمات قبل أن يدخل في نقاش.
وأعدم سعادة سنة 1949، وتمكنت أن ألمحه خلال دقائق في قاعة المحكمة العسكرية، في فترة الاستراحة.
وفي اليوم الثاني كتبت مقالا في عشرين سطر نشرته «كل شيء» مهملة، أو أن الرقابة حذفت، ثلاثة سطور منه، عنوان المقال «الرصاصة الثالثة عشر».
وفي صيف 1949 ألفت مسرحية ذات فصل واحد، اسمها «المليون الضائع»، ورحت أقرأ هذه الرواية على بعض أصدقائي الأدباء، وأقرأها على نفسي، وكنت أحس أن فيها نقصا تلمسته فما التقطته؛ فهي تعرض مشكلة ولا تحلها. وبقيت هذه الرواية بين يدي نحوا من سنتين لا أجد لها الخاتمة الفنية الصالحة، ولا أدري إن كانت هي في حقيقة الأمر فصلا أو لا من مسرحية ذات ثلاثة فصول، إلى أن جاءتني يوما رسالة من سجين، وهو من أعضاء الحزب، يقول لي فيها «قرأت مقدمة كتابك «غابة الكافور»، وفيها تقول: «إن أكبر همي في الحياة أن أقنع أمي أني لم أعد طفلا.» وزاد السجين معلقا «ليس من الصعب على المرء أن يقنع أمه أنه لم يعد طفلا، بل إن الصعوبة العظمى هي في أن يقنع أمته أنه صار رجلا.»
وتوهمت حين قرأت هذه الرسالة أن خاتمة مسرحية «المليون الضائع» قد وجدتها، وأنني كذلك أهم بأن أجد حلا يصلح خاتمة لمشكلة حياتي؛ وكأن عنوان المسرحية استحال من «المليون الضائع» إلى «المنبوذ»، وكأن حياتي استحالت من جهود فردية مبعثرة إلى نظامية نشاط في مؤسسة.
ولقد جرى ذلك بعد أن جاءني الأستاذ عبد الله قبرصي، مصطحبا كتب الحزب يقول: «لقد درسنا كتاباتك كلها، ولاحظنا سلوكك؛ فاكتشفنا أنك منا، وأنه لا ينقصك إلا أن تحلف اليمين وتطلع على العقيدة.» وشوقني إلى قراءة الكتب التي يصطحبها، قلت: «ما لك وللمطبوعات؟ تعال أفهمني ما هي مبادئكم»، فلما شرحها صحت: «أهذا كل ما في الأمر؟ لماذا لم تأتوا إلي فور عودتي إلى لبنان؟ لا أرى في هذه المبادئ شيئا جديدا، ولا شيئا مغلوطا، غير أنني قبل أن أنتظم أريد أن أتثبت من أمور ثلاثة: أولها أن الحزب لا يحاول هدم لبنان؛ فإن الذي قال: «إذا قيل: لبنان قل: موطني إلهي، وصل له واسجد» هو عمي أخو أبي، وقد أفصح عن الكثير مما في نفسي نحو لبنان، وأما الأمر الثاني فهو أن لا يكون العنف من بعض أساليبكم، وثالثها: أن لا أؤمر بكتابة شيء أو الكف عن كتابة شيء.» فأجاب: فأما لبنان فهو بعض دمنا، وهو بعض بلادنا، وأما العنف فهي تهمة من التهم التي تصوب إلينا، وأما الكتابة فلك أن تكتب ما تشاء، أو أن تهمل كتابة ما تشاء، غير أنني - كذا قال الأستاذ قبرصي - أتنبأ لك بثروة أدبية تجنيها من تفاعل العقيدة في نفسك.
ولما رفعت يدي باليمين كان حسن الطويل الشاهد الموقع اسمه على بطاقة الانتساب؛ ولقد شعرت إذ ذاك بسبب ما ترسب في نفسي من أحقاد قروية، بشيء من الذل، وأخال حسن الطويل أحس بشيء من خيلاء الظفر؛ لعلنا كلانا إذ وقعنا البطاقة تراءت لنا الشمسية الصفراء.
هذه الطفولة، هذه القروية - وفيها الكثير من الفضائل هي التي في نقائصها، تسور مواطني هذه الأمة عن بعضهم بعضا، وهذا التحجر القروي أو الطائفي أو العائلي هو العقبة الكبرى في سبيل انتشار الأحزاب التي تستحق شرف هذه التسمية.
جورج عبد المسيح هو الذي منع الاغتيالات
خيروني، بعد أن دخلت الحزب السوري القومي الاجتماعي، بين أن أبقى عضوا سريا أو أن أعلن انضمامي، وتواعدنا على أن نلتقي بعد أسبوع؛ لأعطيهم الجواب. وخلال هذا الأسبوع جرت حادثتان قررتا أن أذيع أمر دخولي: فقد كنت أتناول الغداء مع الأستاذ عبد الله قبرصي في مقهى «أبو سليم» على الروشة، إذ مر بنا الأمير فريد شهاب مدير الأمن العام وسلم، وبعد أن مشى خطوات دار نحونا وصوب نحوي نظارتيه، ومن خلفيهما عينان تبرقان بالشك والذكاء، وصاح مبتسما، وسبابته حربة تكاد تمرق من كفه: «أو ... و... عى»؛ فشعرت إذ ذاك بشيء من الخداع اكتشفته لأول مرة في نفسي، إذ أخفيت - هكذا اعتقدت - ما كان يجب أن أجاهر به.
وخلال ذلك الأسبوع أحسست كأنني في بيتي وبين عائلتي وجمهور عشرائي وأصدقائي، كلهم للحزب عدو، كأنني على كل هؤلاء الأحباء طابور خامس. وكنا على أن نلتقي في بيت الأمين أديب قدورة في الساعة الرابعة بعد الظهر، وقبل الموعد حضرت مأدبة غداء في البريستول، تكريما للشاعر جورج صيدح، وكان بين الحاضرين الأستاذ جميل مكاوي، ومعرفتي به إذ ذاك سطحية وحديثة، غير أن صديقي طارق إليافي كان قد اجتمع به مرات كثيرة في باريس وفي سويسرا، وكان طارق شديد الإعجاب بجميل مكاوي، مشيدا بجرأته ووطنيته وبالمواقف المثلى التي وقفها في الميادين القومية، وبأعمال دبلوماسية باهرة من أجل عرب المغرب، ودارت الأحاديث حول المائدة في مختلف المواضيع، وجاء ذكر الحزب القومي الاجتماعي؛ فكالوا له الوزنات المعهودة من شتائم وسخرية واتهامات، ولقد تضايقت جدا في تلك المأدبة.
وبعد الغداء إذ كنا نتناول القهوة، ولسبب لا أدريه، انفردت بجميل مكاوي، وقلت له: «أنت مسافر في غد إلى سويسرا، وستسمع بعد أيام أنني دخلت الحزب السوري القومي الاجتماعي، ما رأيك؟» ولم يكن جواب الأستاذ مكاوي محقرا ولا مسيئا للحزب، بل إني أذكر أنه أثنى على مبادئه وتمنى لي النجاح. وكان مكتبي التجاري يومئذ على محطة الداعوق، وخرجت منه حوالي الساعة الثالثة والنصف قاصدا إلى بيت أديب قدورة، وفي ما أنا أنتظر تكسي، لم أشعر إلا وأتومبيل «كوبيه» يقف، وصوت صديق يدعوني إلى الجلوس معه، فدرنا على البولفار متمهلين متنزهين، وحين وصلنا إلى قرب بيت أديب قدورة شكرت صاحب السيارة الذي أوصلني، وكان الشيخ بيار الجميل.
ذكرني في مستقبل الأيام أن أروي لك، وقد جئنا على ذكر الأمير فريد شهاب - قصة المأدبة التي كدت أن أدعو إليها في أيار سنة 1949 ثم لم أفعل، ذكرني أن أروي لك هذه القصة، وكيف كان مكتبنا الهندسي، يقوم بعملية ترميم قصر الأمير فريد شهاب في الحدث.
شعرت بعد دخولي الحزب في الشهور الأولى بخيبة كبرى أين الدهاليز والأسرار؟ أين القائمة السوداء؟ أين الطلاسم؟ أين العبقريات؟
أهؤلاء الذين أجتمع بهم هم قادة الأمة وأصحاب الكفاءات، والمؤهلون للنهوض بهذه البلاد، والسير بها إلى قمم الحضارة والقوة؟
لقد كثرت التقولات عن أسباب دخولي الحزب القومي الاجتماعي: فالدكتور نمر طوقان مثلا: يجزم أنني ما انضممت إلى الحزب إلا لكي أتخذ حجة لنشر ذلك البيان - عفوا يا قارئي، البيان الشهير - وهنالك عبقري أكد أن حافزي هو تحقيق أمنية حياتي الكبرى بأن أصبح رئيس بلدية «بعقلين».
بل كانت الخيبة هي أولى اختباراتي في الحزب، وكان من أهم أسباب الخيبة ذلك الكره الشديد، الذي في نفسي عند لقائي الأول لجورج عبد المسيح؛ فإن مظاهره الجسدية، وصوته الأبح، وتلك القذائف الكلامية التي قصف بها أذني وهي خليط من: فلسفة، ومواعظ، وذكريات، وتقريع عن تهامل في الميدان الوطني، وتلك الغرفة المعتمة أظلمتها السجف على شباكيها، وعتمها بابان مقفلان؛ كل ذلك هدم في نفسي شيئا، فشعرت أنني قد تركت البولفار الجميل الذي كنت أتنزه عليه، ودخلت أكمة كلها أشواك وحلك، ولم تسعفني وما أعادت الطمأنينة إلى نفسي، حملة صحفية استهدفتني، وما هو بالشيء الهين أن تكتشف الجفاء والبعد حتى والعداء فيمن أحببت وعاشرت طوال حياتك.
عدم المؤاخذة، فاتني أن أخبرك أن الشاعر عمر أبو ريشة، والصديق نقولا خير كانا من القلائل الذين استشرت قبل دخولي الحزب.
لم يطل الأمر حتى نشأت بيني وبين جورج عبد المسيح، عدا العلاقة الحزبية، أخوة، لا أعلم، وأنا منذ طفولتي كثير الأصدقاء، أن بيني وبين سواه مثلها ؛ فهو لي جد وأب، وأخ، وعم، وابن وحفيد، وأعتقد أنني أفهمه أكثر من سواي؛ لأنني مثله، برغم السنين وتنوع التجارب، لا أزال قرويا.
جورج عبد المسيح ما هو بالشخص الذي شاع عنه. إن الصورة الراسخة في ذهن الشعب أن هذا الرجل بطاش يسكر بالدماء، ولقد وجدته بعد أن عاشرته وعاملته على كل السويات الشخصية والحزبية أنه طفل له جسد جبار وعقله، وله ثقافة الجبابرة، ولا أعلم في الألوف الذين عاشرت من الناس أن في أحدهم من يبزه مناقبية ورفعة أخلاق، ولا أعلم أن في الدنيا من يمكن أن يتجاوزه في الانصراف لخدمة بلاده وإعطائها كل ما في نفسه من مقدرة عطاء.
يقولون: إن جورج عبد المسيح يوحي بالاغتيالات، خذها مني أن الذي منع الاغتيالات هو جورج عبد المسيح، ويقولون: إنه شرس يأمر بالهدم. إن الشراسة في جورج عبد المسيح تطفو في بعض أحاديثه، ولكني لا أعلم من كان، سواه، يقدر أن يضبط هذه القوة الناقمة الثائرة، التي قتل زعيمها وستة من أعضائها واضطهد وشرد ألوفها، من كان يقدر أن يضبطها لو لم تمسك بأعنتها يدان قويتان هما يدا جورج عبد المسيح، لقد اتهمه البعض من القوميين الاجتماعيين بالجبن وبالتخاذل وبالحيرة بعد كارثة 1949؛ لأنه لم يرد عليها فورا وبعنف، ولقد سمعته مرات لا عداد لها يعظ بالفتيان الذين كانوا يأتونه يوميا متطوعين لأعمال العنف، قائلا لهم: إن الانتقام حقارة وأننا لن نثأر لسعادة إلا بانتصار مبادئه. ولو لم يكن لجورج عبد المسيح ماض في القتال وشهرة في البأس؛ لما احترم مواعظه المتهوسون من أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي. أذكر أن آخر من يطلب القتال هو الجندي، وجورج عبد المسيح تخرج في الميادين، ويحمل في جسده جرحين اثنين: أحدهما في فلسطين، والثاني ناله في لبنان. •••
ومن الشخصيات الحزبية التي تعرفت إليها المقدم غسان جديد، اجتمعنا لأول مرة بعد أن سرحوه من الجيش، وستثبت الأيام أن هذا الرجل له كفاءات تؤهله؛ لأن يكون من قادة العالم العربي.
إنه صقيل الثقافة عميقها، يتكلم الفرنسية كأحد أبنائها، ويتكلم الإنكليزية بلكنة وتوقف، شأن المثقفين الذين تعلموا لغة على كبر، وهو كاتب يجيد الكتابة في المواضيع العسكرية والفنية، عاش في أميركا نحوا من أربع سنوات، ملحقا عسكريا في الوفد السوري إلى منظمة الأمم، وكان الثقة الذي استشارته الوفود العربية في كل ما يختص بقضايانا مع اليهود؛ لأنه كذلك ترأس اللجنة السورية لأعمال الهدنة، وقد نال تهاني عديدة من الجيش السوري لأعماله في هذا الميدان، أما شأنه كجندي في القتال، فلقد بدأت شهرته سنة 1947؛ إذ تسلل بمائة وعشرين جنديا، تخفوا في ألبسة الجيش الأردني، وهاجموا مخيما بريطانيا في حيفا.
قيدها أمامك: من قادة العالم العربي غدا المقدم غسان جديد. •••
كل كاتب يقنص الأفكار والألفاظ حيث يجدها، «سنلتقي» عنوان مقال ظهر لي أخيرا، اقتبستها لفظة كتبت على صورة أرسلها جورج عبد المسيح إلى الرفيق مشهور دندش، كذلك عنه أخذت «أكثر المنهزمين يهربون وهم قاعدون»، أما عنوان «أخ ... تفه ...» فقد اقتبسته عن الرئيس فضل الله أبو منصور، وكان ذلك بعد أن ترك الشيشكلي البلاد السورية. فضل الله أبو منصور من أبطال الانقلابات، ومن أبطال الجيش السوري، وقد فصله الشيشكلي عن الجيش. في أواخر أيام «أديب» شخص عصام المحايري إلى حمص، حيث كان غسان جديد آمر لوائها، وموقف غسان جديد هو الذي قرر انهيار عهد الشيشكلي، لا تنس أن تذكرني لأقص لك حكاية مؤتمر حمص، عسى «كل شيء» لا يفوتها أن تطلب مني مقالا موضوعه: «قوة الحزب وأخطاؤه». على كل حال توجه فضل الله أبو منصور بمفارز من لواء غسان جديد ورابط خارج دمشق، على أن يهاجمها إن لم يعتزل الشيشكلي الحكم. فضل الله أبو منصور ابن جبل حوران - جبل الدروز، كان في الخامسة عشرة من عمره، حين استهوته ألبسة الجيش الفرنسي وأسلحته وخيوله؛ فجاء إلى قائد الموقع الفرنسي، وقال له: أريد أن أتطوع في الجيش، أجابه القائد: ارجع إلى بيتك يا غلام وكل كثيرا من البرغل، ثم ارجع إلي بعد سنتين. كل ما في حوران حبيب إلى قلب فضل الله أبو منصور، إنه يتحدث عن سلطان الأطرش ككاهن يجيء على ذكر قديس. بعد حوادث الشيشكلي ومذبحة جبل الدروز والدور البطولي المشرف، الذي وقفه الحزب جاءني إلى بيروت في صباح باكر فضل الله أبو منصور، ناولته جريدة أسبوعية كانت بين يدي، فقرأ فيها البرقية المزورة، وقرأ فيها أننا جواسيس الشيشكلي. رمى فضل الله أبو منصور الجريدة من يده، وصاح: «أخ ... تفه» قيل لي، وفضل الله أبو منصور لا يزال في البلاد السورية، إنه قرأ مؤخرا الجريدة الأسبوعية، وصاح ثانية: «أخ ... تفه ...»
ولا يعرف أهمية الانضباط الحزبي والمعجزة التي حققتها الحركة القومية الاجتماعية، إلا الذي تعرف إلى بطولات فضل الله أبو منصور، وكيف اكتنزت الأجيال البطولة في دمه؛ فجاء الحزب فروضها، فإذا بابن حوران كأي قومي اجتماعي آخر يقبل الأمر ويطيعه.
هنا أتمهل بكثير من الخشوع لأتحدث عن زوجة الشهيد ورفيقته التي سجنوها.
سنة 1948 كنت في سجن مع سعد الدين الجارودي وكامل حمادة في مانيلا، ودخل ذلك السجن الرهيب مواطنون لنا منهم: فؤاد جريديني، وعبد الله معصب. حتى ذلك التاريخ كانت الدنيا تحسب أن البشر لم ينتجوا ضواري أشرس وأظلم وأحط من بعض اليابانيين، ولكن هؤلاء اليابانيين أنفسهم، وقد سجنوا سعد الدين الجارودي، وفؤاد جريديني، وعبد الله معصب، وسجنوني، كانوا يمنحوننا «شرف الفروسية»؛ إذ إنهم تعلموا في مدارسهم أن بلادنا اشتهرت بالفروسية، وبذلك الاحترام يوجه للنساء.
يا خجل ضواري اليابانيين ويا خجلنا أمام الدنيا؛ إذ سجل أنذال من شعبنا أحقر جريمة عرفها تاريخنا؛ إذ شدوا بشعر زوجة الشهيد أمام طفلات أنطون سعادة وشتموها!
تعددت اجتماعاتي بحضرة الأمينة الأولى؛ فهي رفيقة كل قومي اجتماعي، وهي أمه وهي أخته، كان كل همي حين أتحدث إليها أن أفجر تلك الدموع الحبيسة التي وقفت خلف عينيها. كنت أخال أنني أعده ظفرا أن أنجح بتفجير خزان الآلام فتنهمر بكاء، كنت أتمنى أن أذكرها بالزعيم وحوادثه وحياته رجاء أن تموع فتبكي، ولكنها لم تفعل، كلما أتمناه اليوم أن تضعف الأمينة الأولى، فتبكي ولو مرة واحدة ولكني أخالها لن تفعل.
ما معنى لفظة «الأمين» أو «الأمينة»؟ إنه لقب يعطي لأي قومي اجتماعي، بعد أن يمر عليه سنوات خمس في الحزب يظهر خلالها في الإنتاج، شيئا من التفوق، ليس للأمين أية مسئولية كانت إلا أن له الحق أن يساهم في انتخاب المجلس الأعلى، وفيما عدا ذلك، إن هو لم يتسلم مسئولية ما؛ فشأنه وشأن أي قومي اجتماعي آخر سواء، والأمينة الأولى بحكم أمومتها وشهادة الزعيم، ما اشتركت في المسئوليات ولا تسلمتها ولا طلبتها وهي بعيدة - في أكثر الأحيان - عن نشاط الحزب.
توهمت فور دخولي الحزب أنني في غابة مظلمة؛ ذلك لأن عيني بهرهما مزيف الشعاع في ذلك الصالون الذي كنت أعيش فيه، واليوم أرى الأشياء في العتمة كما هي؛ لأن عيني استعادتا النظرة الطبيعية الصحيحة للأشياء.
اليد التي توقع الصلح مع إسرائيل ... تقطع من العنق
... وحين شاع أمر دخولي الحزب سرت إشاعة أنني أصبحت زعيمه «خليفة سعادة»؛ ذلك لأن الأكثرين يجهلون أن ما يضبط الحزب هو دستور، والذي يسيره هو شيء فوق الدستور، شيء غير مكتوب - إرادة القوميين الاجتماعيين - وهي لا تفرض عليهم، بل هي شيء يكتسب بالولاء والإنتاج الحزبي.
ذكرت أمر «زعامتي» للحزب بعد شهور من انضمامي للحركة، إذ كنت أقرأ في النظام الجديد، منتظرا إذنا بالدخول على أحد المسئولين، أذكر أنني قرأت نحوا من 82 صفحة، فيما كان المسئول منشغلا عني وأنا خارج الباب، والناس إذ ذاك يتحدثون بأنني «زعيم» الحزب ... وبقيت من غير مسئولية «وظيفة» حتى في الانتخابات النيابية عام 1953، إذ كان بعضهم يفاوضني بتأييد الحزب له - لم يعرف الأكثرون أن كل شأني حينذاك كان تدبير سيارات للدكتور عبد الله سعادة مرشحنا في الكورة، هنا يثور سؤال: لمن الرأي في الحزب؟
فالناس يتوهمون أن أمرا يصدره شخص فيطاع، هذا صحيح وغير صحيح؛ فالأمر يصدره شخص، وفي أكثر الأحيان تصدره هيئة مسئولة، ولكنني لا أعرف خلال ما يقرب من سنوات خمس أن أمرا صدر إلا بعد دراسة وتشاور وتقارير، كان أكثر ما يوحي هذه الأوامر الرأي العام بين القوميين الاجتماعيين؛ لذلك كثيرا ما أضحك حين أسمع، وبالأخص في أيام الانتخابات، أن المرشح الفلاني صرح بأنه صديق لفلان من «أركان» الحزب، وأنه يستطيع أن يستصدر أمرا برفة عين وينتهي الأمر.
لمن الرأي في الحزب؟ لمن الشأن؟
الدستور حدد الصلاحيات والمسئوليات، ولكن الرأي هو للرأي. إن هنالك قرارات هامة أوحى بها اقتراح من عضو في مديرية «القلمون» مثلا قرب طرابلس، والشأن في الحزب - بقطع النظر عن المسئولية - هو للذي يكسب بالقدوة وبالعمل وبالولاء احترام الأعضاء، وهذا الاحترام لا يقترع عليه، بل هو شيء تلمسه وتحس به، لا أعلم أناسا أشد قساوة من القوميين الاجتماعيين على رفقائهم، إنهم يحاسبون بعضهم على كل كلمة يقرءونها أو يسمعونها، وعلى كل عمل؛ وفي المدى البعيد هذا وحده ما يقرر شأن القومي الاجتماعي في حزبه.
وأخيرا تسلمت مسئولية منفذية بيروت، ومول هذه المنفذية، فور نشوئها، من باع حاجيات في بيته ضرورية حتى ركز أمورها المالية. وبعد شهرين تولد موقف في أحد الليالي أوجب ما يسمى «حالة تنبه»، وجلست لأكتب الأمر الأول الذي أخطه، فبدأت الرسالة: «حضرة الرفيق فلان ... أرجو أن تأتوا إلى بيروت»، وكان إلى جانبي مرشد من القدامى في الحزب، فتناول الورقة مني، وكتب سواها هكذا: «حضرة الرفيق فلان ... تبلغوا وبلغوا أن عليكم ...»
وبعد أربعين دقيقة أقبل الرفيق ليلقي التحية ويتلقى التعليمات، طفنا في تلك الليلة على المديريات مرتين: الأولى لنتفقد القوى، والثانية لنذيع انتهاء حالة التنبه. «تبلغوا وبلغوا ...»
كلمتان حفرتا في عقلي وقلبي شيئا لا يمحى. هذا الحزب الذي لا يعد أعضاء إلا بالتضحية والحرمان، أي شيء فيه يوحي الطاعة. «تبلغوا وبلغوا ...»
وفي اجتماع إحدى المديريات انتصب أمامي أحد مشهوري الرياضيين في هذه البلدة، ورحت أعنفه بقساوة عن تقصير، وهو - كما يجب أن يكون - ساكت، وفي ذروة فصاحتي لمع في ذهني هذا التساؤل: أي سلطة لي على هذا الرجل؟ من الواضح أن في عضلاته قوة لو شاءت لرمتني من النافذة، وفجأة أخرستني دمعة؛ في هذا الحزب شيء كبير ضخم لا تقرأه في منشوراته، يجب أن تحياه حتى تفهمه.
غير أن حياة المسئول في الحزب ما هي كلها أوامر يصدرها، جاءني يوما أحد الأعضاء برسالة في مغلف مقفل موجهة إلى عميد الحزب، سألته ما في الرسالة حتى أقفلها عني، أجاب العضو «هذا سؤال ليس من حقك أن تسأله؛ فالدستور كفل لي حق الاتصال بمن هو فوقك بالمسئولية، أما وقد طرحت هذا السؤال، فخذ علما أن في هذا المغلف شكوى عليك.»
وبالطبع فقد وصلت الرسالة إلى المرجع المختص، وكانت من رفيق مهنته الحلاقة.
ومرة ثانية جاءني غيره برسالة مقفلة إلى الرئيس، وغلب علي الفضول؛ فطرحت السؤال، فأجابني العضو «هذه أمور هامة أجد أنها أكبر من أن يعالجها منفذ في الحزب، فوجهت الأمر إلى حضرة الرئيس.»
دستور الحزب كفل حق العضو فيما هو حتم عليه، ممارسة الواجب.
بين الأوراق التي صادرها الجيش السوري في دمشق شكاوى ودعاوي حزبية لا عد لها، أذكر أن الحزب طرد أحد أعضائه فور خروجه من السجن، حين ثبت سلوكه الشائن بين جدران السجن، أذكر أن أحد القوميين تقدم بدعوى ضدي؛ لأنني سمحت لألبر رزق - «عدو الحزب» بتعهد «نادي المتخرجين»، بدلا من أن ألزم النادي لأحد القوميين.
وبعد أن أصبحت «منفذ بيروت» اتصل بي أحد الأجانب يريد بحث أمر سياسي، فاستمهلته وتلفنت المسئول؛ فجاء الجواب «باحثه علنا في ساحة البرج، أو سرا في قاع البحر»، وتعددت بعد ذلك خلال ما يقرب من سنتين اجتماعاتنا بأجانب سياسيين وثقافيين وتجار: بعضهم يتستر بمهن، ولكنهم في حقيقة الأمر رجال استخبارات، وهم ينتمون إلى دول مختلفة؛ وكانت كل اجتماعاتنا تنتهي بعراك فتنقطع ثم تتجدد.
ماذا كانت هذه الأبحاث تتناول؟
كانوا يعظون بأن الشيوعية تهدد العالم - وبالتالي بلادنا - بالإفناء، وكان الجواب أن الحزب أدرك هذا الخطر منذ نشأته، وحارب الشيوعية حربا غير متقطعة، وكافحها في فترات كان الغربيون خلالها يتساقون كئوس الشمبانيا مع سادة الكرملين، كانوا يطلبون معلومات عن الشيوعية، وكنا نجيبهم نحن سادة البلاد وأنتم الأغراب، فإن شئتم مكافحة الشيوعية، فزودونا أنتم بما عندكم من معلومات عالمية ؛ فاستخباراتنا هي لمعلوماتنا نحن، والشيوعيون هم مواطنون لنا وإن كانوا مواطنين مرضى، ولا نسمح لغريب أن يتجسس عليهم، وكانوا يسألون ماذا تريدون؟ وكان الجواب أن ينقطعوا عن التدخل في شئون بلادنا، وأن يمحقوا هذا الحلف الشرير القائم بينهم وبين الضعفاء والفاسدين من حكامنا ومتنفذينا، وكانوا - أكثر ما كانوا يبحثون - بصلح مع «إسرائيل»، وبتعايش سلمي معها؛ وأنهم إذ ذاك يغرقون بلادنا بالإعانات والأموال، وكان الجواب «أن اليد التي توقع الصلح مع إسرائيل نقطعها من العنق».
أمام الحزب سبع سنوات لينتصر أو يتلاشى
حين رجعت إلى بيروت في نيسان 1948 كان بين الأحلام التي حققتها الحياة اجتماعي برفيق في الدراسة، كان ولا يزال من أحب الناس إلي، وكنت كأي مغترب عائد هدفا لنصائح يتطوع بإسدائها كل زائر، غير أن هذا الصديق كانت لكلماته نبرة الود الأصيل، وفيها اختبارات الحياة، قال لي: «البلاد ليست كما تركتها، وأنت عائد من جهنم حرب، اسمع مني وتعال نقضي سائر الحياة مفتشين عن أحسن مقهى وأفخم مطعم وأطيب أركيلة وأجمل امرأة، تعال نضرب هذه الدنيا بصرمة.» أجبت: «إن فعلنا كل ذلك ألا تكون الدنيا قد ضربتنا بصرمة؟»
هذا الصديق أجتمع إليه مرات متقطعة، نعيش خلالها في واحة من الود الطاهر والأخوة الصحيحة، غير أني في الشهرين الأخيرين لم أجتمع إليه، وقد تلفن إلي مساء يقول: إنه قادم لزيارتي، فسألته ألا يفعل؛ إذ إنه في تلك الليلة وفي الليلة التي سبقتها حدثت حول بيتي حوادث عدة، منها: القبض على جاسوس للمكتب الثاني كان يراقب بيتي، ومنها أن «جيب» وفيه بعض رجال المكتب الثاني، كان يدور حول بيتي ويقف بالقرب منه؛ فيستفهم السائق عن محلات الآ. ب. ث. مثلا، ومن هذه الحوادث أن بعض قوى الأمن طاردت شيوعيين كانوا تحت إشراف الأستاذ حسيب نمر مرابطين حول بيتي، وتأتي أنباء المعذبين في دمشق، فإذا بالبرابرة يسألون الكثير عن سعيد تقي الدين وعن بيته والتحصينات التي فيه والحرس المرابط حوله وعن المختبئين في البيت.
أسائل نفسي ما الذي فعلت حتى أستحق كل هذا التكريم؟ ولا أستعمل لفظة «التكريم» بروح العبث أو السخرية أو الدعابة، لقد اجتمعت مؤخرا بمسئول كبير في هذه الدولة، فقال لي في معرض النصح: «كل الناس أصدقاؤك، كلهم يودونك ويحترمونك. لماذا لا تنسحب من الحزب السوري القومي الاجتماعي، فترجع صديقا للجميع؟ إن انسحبت أنت من الحزب، فما الذي يبقى فيه؟» هذا السؤال هو الذي كان يعذبني كثيرا، فإني كثيرا ما أحاسب نفسي أن كتاباتي ضخمت شأني في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأن مساهمتي لا تستحق هذا التكريم لا من الرفقاء ولا من الأعداء. الحزب هو يوسف قائد بيه، وخليل الطويل خلف قضبان السجن، الحزب هو ناظر التدريب في منفذية، النبي عثمان يترك بستانه وينطلق في جرود بعلبك مبشرا، الحزب هو خالدة صالح الفتاة الأديبة تتطوع للمخاطر، الحزب هو «أدونيس» الشاعر تتلوى نفسه من الظلمات، الحزب هو ألف «جميل عريان» يتطوع بمهمة تنتهي به للتعذيب أو للموت، أما الذين تضج بهم الصحف، فهم أقل من في الحزب أهمية، لو أن هذا الحزب كان كتابة وخطابة وفصاحة وبيانا، لكان انتهى أمره من زمن بعيد؛ إذن وقوة الحزب هي غير منظورة وغير ملحوظة وغير ضجاجة، فما هي بعض مواطن الضعف فيه؟ في اللغة الفرنجية لفظة:
Atavism
لا أدري إن كانوا قد نقلوها إلى العربية بلفظة تؤدي المعنى، لعل أقرب الإصلاحات لترجمتها هي: «الردة الوراثية»، وهي التي تظهر بالوليد مزايا من: جسدية ونفسية ترجع إلى جد بعيد بعيد.
في صفوف الحزب القومي الاجتماعي بين أعضائه تظهر هذه الردة، هذه ال
Atavism
في كثير من الحالات؛ لأن الحركة القومية الاجتماعية نهضة تربوية، تثقف المواطن بما كان يجب على المدرسة وعلى البيت وعلى الأبوين أن يثقفوه بها؛ فهذه التربية وقد جاءت أعضاء الحزب على «كبر»، وابتنت على غير أساس متين بنته العائلة أو المدرسة، هي أبدا معرضة لردات في النفس إلى مفاسد وضعف سيطر على هذه النفس قبل اعتناقها القومية الاجتماعية. في صفوف الحزب وبين أعضاء معنيين كثير من الوشوشة والثرثرة، من تحليل لحوادث 1949 أجد أن أكثر الخيانات التي سرى أمرها بين الناس هي غير صحيحة سببها الوشوشة والثرثرة. لقد كان في الحزب خونة، ولكن عددهم كان أقل بكثير مما ينتظر في مؤسسة كذا عدد أعضائها. للحزب شهرة بالنظامية، ولكنني أعتقد أن الإيمان في الأعضاء هو أشد من نظاميتهم، هو هتفة في النفس لا تحتاج إلى ترويض، والنظام هو تدريب أكثر منه عاطفة. منذ أسبوعين دخل علي في البيت أحد الأعضاء، وتاريخه الحزبي ناصع مشرق فوجدني، كما يجدني كل زوار بيتي في الصيف، مرتديا القميص والكلسون؛ فاغتاظ وظن أن استقبالي له في هذه الحالة تحقير له؛ ذلك لأن هذا الرفيق نشأ كما نشأنا جميعا على أن إظهار بعض أجزاء الجسد هو «عيب»؛ لذلك نحن نقول: «رجلي، أنت أكبر قدر»، ونحن لو فقهنا لعرفنا أن القدم، كالأذن وكالقلب والعين، لا تستحق التحقير.
فبعض مواطن الضعف في الحركة القومية الاجتماعية هي هذه الردة إلى خلايا في النفس، محتها هذه النهضة أو خلايا في النفس، تبعث في النفس بعض أو كل ما نشرته في النفس القومية الاجتماعية من فضائل. كانوا في ما مضى يغنون: «نعبد في الدنيا ربين - الله وأنطون سعادة»؛ ذلك لأن المقبلين على حركة أرادت أن تحررهم من عبودية شخص ثارت فيها الردة، فأرادت أن تعبد شخصا آخر، هذه الأغنية بحث المسئولون في الانقطاع عنها بأمر حزبي، ولكن هذه الأغنية خرست إلى الأبد بفضل التربية، التي فعلت في نفوس القوميين ومن غير أمر.
هذه الردة ستظهر في المحاكمات التي ستجري في دمشق؛ فإن أكثر القوميين أظهروا جرأة وشجاعة وبطولة، ولكننا نترقب أن يكون بينهم في يوم المحاكمات من تثور في نفسه الردة - خلايا الضعف والفساد - التي خدرتها النهضة. بين الأمين معروف صعب وبين رئيس الحزب عداء أسبابه كثيرة، منها: أن جورج عبد المسيح قوي الجسد قوي الروح مقاتل، ومنها أن جورج عبد المسيح شديد القساوة في مقاييسه الحزبية، ومنها ذلك الطبع الإنساني الذي يبغض التفوق خصوصا حين يتضح قوة جسدية، بسبب كل هذا كان الأمين معروف صعب قيد المحاكمة الحزبية، وكان عداؤه لرئيس الحزب جورج عبد المسيح سافرا، ولن يكون متحجبا في يوم المحاكمة.
يقول بعض علماء الاجتماع: إن كل نهضة لا تنتصر في الثلاثين سنة الأولى من حياتها تفنى وتتلاشى. والنهضة القومية الاجتماعية عمرها ثلاث وعشرون سنة. الملاحظات الاجتماعية ليست لها دقة العلم، على أننا لو سلمنا بهذه النظرية؛ فأمام الحزب السوري القومي الاجتماعي سبع سنوات ليحقق فيه النصر أو يتلاشى، برغم كل مواطن الضعف التي أوردناها، وبرغم الردة التي شرحناها؛ ففي يقيني أن هذه السنوات السبع المقبلة ستسجل النصر، وأكبر الظن أن لن يأتي في سبع سنوات، بل في سبعة شهور، وأنني أستمر في نشاطي؛ لأن خلايا نفسي لن تخضع للردة، فلن أفتش عن أطيب أركيلة وأفخم مطعم وأجمل امرأة!
مواطن الضعف في الحزب القومي
أتمهل هنيهة طويلة قبل أن أسطر هذا المقال.
ما الضعف؟ ما القوة؟
هل هناك جوهر مجرد اسمه ضعف - أو كله ضعف - أو قوة؟
أم تحمل القوة في نفسها عناصر الضعف، والعكس بالعكس؟
الحزب، مرهق فقير، ودعاوته تتحدى ما يبدو مستحيلا، وتعابيره الحزبية للوهلة الأولى غريبة، وفي أكثر الأحيان مزعجة صافعة.
أفي ذلك ضعف أم قوة، أم كلاهما مجتمعان؟
لك أن تجيب على هذه الأسئلة على لسان بشار بن برد: «خرجت بالصمت عن لا ونعم.»
أتستطيع هذه الحركة أن تنجح، وليس في صندوقها قرش؟
وهذا البراز المستمر إذ تقول لمن نشأ وانتشى على أنه درزي، أو ماروني، أو شيعي، أو سني: «أنت سوري»، وإذ تقول لهذا الجيل الطالع في لبنان: «أنت سوري من لبنان»، ولابن العراق الذي ما عرف إلا أنه عراقي أو عربي، كيف لهذه الحركة أن تقنعه أنه سوري، هذا مستحيل، ولماذا كل هذه الكركبة؟ هنالك أساليب سهلة فلماذا لم يتبعها سعادة؟ وهذه ال «تحيا سورية» لماذا؟ مرحبا، وبونجور، صباح الخير، ونهارك سعيد، كلها أخف على السمع وأقرب إلى القلب.
أما المال فليس أكثر تقديرا له من الذي هو في حاجة إليه.
وفي حياتي الحزبية لم تمر بي أيام، شعرت فيها بحاجة الحزب للمال، وبسهولة تناوله من فترة انتخابات المتن الأخيرة، التي عقبت وفاة الأستاذ أميل لحود. كان المرشحون ثلاثة: سليم لحود، خليل أبو جودة، شاهين شاهين، والثلاثة أغراب عن الحزب، ولا أعتقد أن انتخاب أي واحد منهم يغير في مجرى تاريخ بلادنا، وكلهم أنفق على الانتخابات، وكلهم كان في شوق حار لتأييدنا له، وبدلا من أن نؤيد أحدهم هرعنا إلى حبيب عقل - بعد أن تخلى عنه حزبه - وحملناه أن يرشح نفسه، ولحد ما تكبدنا بعض مصاريف، لماذا؟
ما السبب الذي قرر هذه الخطوة؟ هذا هو السؤال.
ما الذي يجعل القومي الاجتماعي وليا لحزبه مقاتلا من أجله؟
أمليون ليرا مخبأة في مصرف، أم تحرق لتحقيق غاية يناضل فيما هو يناضل، من أجلها، العوز وصعوبة أسباب العيش؟
في تاريخ الأحزماب حركات نجحت حين وجدت من يمولها، وحركات نجحت وهي ضامرة الخصر؛ المال يختصر الطريق، والمال إذ يشيع الرخاوة يقعد بالسائر عن السير في الطريق. الثورة السورية 1925-1927 تلاشت حين تدفقت عليها أموال المغتربين، ودولة «إسرائيل» ما كانت لتنشأ، لو أن أحد المسئولين في دولة عربية وقع شيكا بمئة ألف جنيه ثمن مخيم عتاد حربية، جاء ثلاثة ضباط بريطانيون إلى «سان جورج» ليبيعوه، هو نفس المخيم الذي مشى إليه المقدم غسان جديد على رأس قوة من مائة وعشرين مقاتل، عبر المستعمرات اليهودية، ونال بسبب هذه البطولة أرفع وسام يمنحه الجيش السوري، ولا يتزين بهذا الوسام إلا اثنان أحدهما غسان جديد.
المال يقوي والمال يضعف. «خرجت بالصمت عن لا ونعم».
عقيدة سعادة تؤمن بالمادة وبالروح، كلاهما واحد، هذه هي على ما أفهم، المدرحية.
والمال - عدم وجوده - هو الذي هدم بالحزب منذ نشأته. سعادة كان يركب الترامواي بصحبة من كان يدفع عنه. من الأرجنتين كان يكتب لتلميذ في الولايات المتحدة اسمه غسان تويني، يستعجل تبرع الرفقاء بخمسمائة دولار، وبعد ثلاث وعشرين سنة وتلامذة سعادة، وفيهم اليوم الثري والموسر، لا يزال المال - عدم وجوده - يؤخر في سير الحركة، أو يدفع بها إلى الأمام.
ولكن الاشتراكات والتبرعات - خصوصا في الأزمات - تستمر سيلا شحيحا أو متدفقا، والخدمات المجانية التي يتطوع لها الرفقاء خلال السنة لا تشتريها الملايين، كثيرا ما تفاخر أن الحزب فقير. بعضنا لا يجد في الفقر مدعاة المفاخرة.
أما الدعاوة فالضعف فيها - أو القوة - مردها إلى أمرين: هذه الحدة والقساوة، وكدت أقول: الشراسة في كلام بعضنا أو كتاباتهم كثيرا ما أبعدت عنا الناس. أذكر في سنة 1950 كنت في جريدة «النهار» إذ وثب إلي - خلت أنه واثب إلى عنقي - فتى من خلف جهاز الراديو، وراح يقصفني بكلمات «الزعيم ... الزعيم ... سوريا ... أمة تامة ... الخصوصيات المرتكزات ... المعطيات ... أن فيكم قوة ...» واستمر هذا القصف أكثر من ساعة، لا أذكر من تلك المباحثة إلا أن نظارتين كانتا ترتجفان أمام عيني، وساعدين يدوران في الجو كدولاب الناعورة، وأخيرا سألت الفتى اسم حضرتك؟ أجاب: «أنا القومي الاجتماعي جبران حايك»، من المؤكد أن لهجة جبران العدوانية أبعدتني عن الحزب.
ما سبب هذا؟ وهل هو ضعف أم قوة؟
السبب هو أن الواحد متى تجند في الحزب أصبح يحس حدة مشكلات بلاده؛ فالحدة في نفسه، فهو ناقم على كل مواطن يحسب نفسه سائحا في بلاده، متفرجا على ما يجري، وهو كذلك يوقن أن أمر إنقاذ بلاده هين إن تحسس مشاكلها كل مواطن، فهو عنيف ينحو باللائمة على المتفرجين، ثم إن النظام الحزبي وما توقظ بالرفيق «روح الجماعة» يجعله مقاتلا، هذا العنف في الحديث وفي الكتابة أضعف الحزب بأن أبعد عنه الكثيرين، ولكن ما حيلتك وأكثر رأسمال الحزب - كأكثر رأسمال أي جيش - أن أفراده، يجب أن يكونوا ملتهبين حماسة بالإيمان مستعدين للصراع.
وما دمنا قد جئنا على ذكر جبران حايك، فما قولك أنني اليوم أخاطبه، ويخاطبني، ب «حضرة الرفيق»، ولماذا كل هذه «العجقة» في الاصطلاحات، وفي السلام، وفي الجلوس، وفي افتتاح الجلسات واختتامها؟
الجواب بسيط؛ كل شيء مدروس وله أسباب سيكولوجية، وأكثر ما نمارسه تمارسه سوانا من المؤسسات الراقية. إن مخاطبة سواك ب «يا حضرة الرفيق» يغمركما بلياقة وكياسة تمنع الاصطدام؛ فكم من مرة كاد يتضارب أحدنا مع الآخر لولا حضرة الرفيق، يستحيل أن تقول لأحد مثلا: «حضرة الرفيق يلعن أبوك»؛ فهذه الكياسة المفروضة، وهي تمارس في كل الجيوش - تصون التعامل، فيما تصون وتستبقيه في دائرة الكياسة.
وبعد، فهذه حركة هي إنقاذ، كذا قالت للناس، كذا قالت لنفسها، كذا وعدت وكذا تنفذ.
من يقدر أن يخطط لعظائم الأمور، جالسا إلى كأس عرق أو في جو من الدعاب. في الكنيسة، وفي المسجد، وفي مكاتب العمل طقوس عبادة، وسلوكية عمل، وهذه الحركة تتبع مناقبية سلوك وشكليات تزعج المتفرجين على بلادهم؛ فهي ضعف بأنها لا تستهويهم إلى صفوفها، ولكن هذه النهضة لا تتودد إلى السواح بل إلى المناضلين.
يا حضرة القارئ - حضرة الرفيق - كل تغير، كل تمرد، كل تحول، كل ثورة فيها الغريب، وكل جديد غريب، وحركتنا فيها الغرابة، فيها غير المألوف؛ لأنها في جوهرها تريد أن تغترب عن المألوف الذي حجرنا.
علاقة الرئيس شمعون بالحزب القومي
كثرت كتابة المأجورين في الأسابيع الأخيرة عن صداقات ود، تربطني بفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية، وعن اجتماعات الرئيس بجورج عبد المسيح، بل إن مسئولا كبيرا في دمشق، تعلم أساليب الدعاية المرهفة، راح يوشوش زائريه مستحلفا إياهم بحفظ السر أن بين يدي حضرة المسئول في دمشق صورة رئيس الجمهورية، مجتمعا إلى جورج عبد المسيح، واندفع مأجور آخر يذكر الناس بخطاب ألقيته في حفلة «الكتائب»، وبخطاب آخر في حضرة الرئيس السابق بشارة الخوري، الذي كنت معه كأني من أهل بيته ألاعبه «البردج» في السهرات. ***
من أكبر مواطن الضعف في الحزب القومي أن ليس فيه من يلاعب رؤساء الجمهوريات - البردج، وليس فيه من يدخل قصر الجمهورية كأنه من أهل البيت.
وما دمنا قد جئنا على هذا الموضوع؛ فلا بأس من أن أذكر أن الخطاب الذي ألقيته في حفلة الكتائب، وعنوانه: «خطاب يفتش عن موضوع» كان من جملة الأسباب التي حفزت بعض مسئولي الحزب السوري القومي إلى دعوتي إليه، وأن خطابي «القرميدة المكسورة»، الذي ألقيته في حفلة الرئيس بشارة الخوري كان أعنف انتقاد وجه إلى رئيس جمهورية، ضمن كياسة الأدب، ألقي في حضرته، كلاهما منشوران في كتابي «سيداتي سادتي».
لنتبسط قليلا، من أجل تلمس مواطن الضعف في الحزب، بالحديث عن فخامة الرئيس، وعن وزير الأشغال، الأستاذ مغبغب.
على الصعيد الشخصي كان أبي، محمود تقي الدين، وكان أب الرئيس الحالي نمر شمعون صديقين حميمين، نفيا معا إلى الأناضول في زمن الأتراك، وكنت أراهما مرارا لا عداد لها على بلكوننا في - الحدث - مع سواهما من موظفي حكومة جبل لبنان أيام الحرب العالمية الأولى، يتساقون كئوس العرق، ولقد درست في دير - مار أنطون - في بعبدا مع أميل شمعون وفؤاد شمعون، ومن «الفيليبين» تكلمت على التلفون إلى نيويورك مع رئيس الوفد اللبناني الأستاذ كميل شمعون مرات عديدة، وتبادلت وإياه تلغرافات تعد كلماتها بالألوف، بمناسبة تقسيم فلسطين، وقبل أن أرجع إلى لبنان كتبت مقالا ظهر في «الصياد» عنوانه: «وجهان عربيان»، وكان عن عادل أرسلان وكميل شمعون.
وكان الحزب - منذ سنة 1948 - يساند كميل شمعون المعارض ضد رئيس الجمهورية بشارة الخوري، وإن اعتبرت بكم صوت فاز المعارضون الخمسة في الشوف سنة 1951، وكم للحزب من قوة في هذه المنطقة انتهيت إلى حقيقة، وهو أن عهد بشارة الخوري كان قد طحن المعارضة، على الصعيد الانتخابي، لولا أصوات الحزب.
وقبيل اعتزال بشارة الخوري الحكم كانت علاقة المعارضة بالحزب متوثقة، وكانت اجتماعات الأستاذ كميل شمعون بممثلي الحزب يومية والتعاون على أتمه، وفي أزمة أيلول، وقد سبقها يوم «دير القمر» كان للحزب فضل - ولا نريد أن نقول كل الفضل - في استمرار الإضراب في بيروت، وفي أن السلطة العسكرية أشارت على بشارة الخوري بالاعتزال؛ فالرئيس شمعون وبعض أصدقائه الخلص يعرفون من كان مستعدا، لو لم يعتزل بشارة الخوري الحكم.
أما وزير الأشغال الأستاذ مغبغب، فهو ابن خال لأمين في الحزب، وبين عائلته وبين أعضاء الحزب صداقات عائلية ترجع إلى ما قبل مولد نعيم مغبغب، ولقد سانده الحزب، وكان فوز مغبغب بأصوات ضئيلة في الانتخابات الأخيرة، لسبب واحد هو أن نعيم مغبغب في أزمة لبنان الكبرى - أزمة الصراع من أجل التخلص من المستعمر ونيل الاستقلال - نعيم مغبغب هذا رمى قنابل، وأطلق رصاصا، وحمل بارودة في سبيل الحرية.
وما الذي نلناه في عهد رئاسة شمعون ووزارة نعيم مغبغب؟
لم يرخص الرئيس شمعون للحزب بالعمل، لم يطلق سراح مساجينه - نسميهم «الأسرى» - مئات منا مثلوا أمام القضاء «بتهمة» الاجتماع. كتب الحزب ضبطت وأحرقت، مئات دخلوا السجن يوم الاضطراب الطائفي في بيروت، وزعنا منشورا خطه سعادة ضد التعصب الطائفي، منشورا تفخر بأن تعلقه على حائط صالون بيتك ليحفظه أولادك ويقرأه زائروك، سأمثل أمام القضاء، في محكمة أميل شمعون؛ لأدافع عن نفسي في جريمة توزيع هذا المنشور.
وفي عهد شمعون، ووزير الأشغال نعيم مغبغب، قريب بعضنا، وصديق بعضنا، الوزير الذي انتخبه، لحد بعيد، الحزب نائبا، على ماذا حصلنا؟ في وزارته أعمال المطار، والمرفأ، وأكثر أشغال النقطة الرابعة، والأوتوستراد وأشغال الطرقات وسواها - على ماذا حصلنا؟ أتحدى أيا كان من الناس أن يقول من هو القومي الاجتماعي الذي حاز على وظيفة أو ترقية، أو التزام؟ وحتى أكون صادقا مائة بالمائة؛ فإن المنفعة الوحيدة التي نلناها في هذا العهد أن الوزير مغبغب عين لنا - بعد مراجعة أربعة شهور - الرفيق فايز ملاعب من بيصور رئيس ورشة بمعاش أربع ليرات يوميا.
يا ليت الرئيس شمعون من أصفيائنا، لقد قابلته مرة واحدة طوال عهده، وقابلت رئيس الجمهورية السورية ثلاث مرات، أقول هذا بخجل كثير؛ لأن من أهم مواطن الضعف في الحزب السوري القومي الاجتماعي أنه لم يترجم قوته الشعبية إلى نفوذ في السرايات.
بدون شك أن نقولا بسترس - ولا أقصد أن أحقره أو أسيء إليه، بل هو اسم ورد إلى خاطري - له في السرايات نفوذ أكثر من الحزب السوري القومي الاجتماعي.
هل هذا الضعف يلام عليه الحزب؟ لحد ما نعم. ولحد ما لا؛ فبعض الذين أوصلهم الحزب إلى حفلات الكوكتيل داخوا بكئوسها، وبعض الذين جاءوا إلى الحزب عن طريق الحفلات تركوه، أو أتركوه؛ إذ إن العمل الحزبي ما هو بحفلة. أديب الشيشكلي كان عضوا إلى حين دارت به الكرسي فداخ.
إن الحزب السوري القومي الاجتماعي سيختصر الطريق إلى نجاحه، حين يتمكن أن يصبح قوة في السراي.
ولعل هذا هو السبب الذي من أجله أقفلت بوجهه أبواب السراي.
الجزيرة الغرقى
استلفت نظر بعض العلماء أن أسراب الطيور في هجرتها السنوية، من شمالي أوروبا إلى أميركا الجنوبية، كانت تتمهل فوق نقطة معينة من الأوقيانوس الأطلانتيكي؛ فتحوم وتحوم، ثم تستمر في طيرانها نحو الجنوب.
وبحث العلماء واستقروا، فإذا في تلك النقطة المعينة، تحت المياه، جزيرة غرقى، وإذا بالطيور، بحكم غريزة تحدرت إليها من آبائها، تقف فوق المياه وتهم بأن تحط، ولكن الجزيرة التي كانت تأوى إليها الطيور فيما مضى غاصت في مياه الأوقيانوس منذ مئات السنين.
إن مواطنينا أسراب طيور، يريدون أن يهجروا المسكن القديم، ولكنهم يحومون فوق جزر لن يقدروا أن يلجئوا إليها، ولا أن يجعلوا منها معاقل؛ لأنها جزر غرقى.
فالذي يقول لك: إن الإسلام يوحي الجهاد - اليوم - لا يفقه أن تركيا وإيران والأفغانستان هي دول إسلامية - على التحديد الشائع - وأنها تتعامل مع إسرائيل.
وهو نفسه يتناسى أن الدول التي سلمت لليهود ما اصطلح الناس على تسميته «الأرض المقدسة» هي دول مسيحية.
وهو نفسه الذي يذكر أن دروز لبنان سنة 1925 كانوا يهرعون بالمئات لنصرة ثورة درزية، يوم أحرق سلطان الأطرش داره حين عجزت عن أن تحمي لاجئا، وهو نفسه الذي لا يريد أن يتعرف إلى الحوادث الأخيرة: وإحداها أن رجال المكتب الثاني اقتحموا دار الأمير حسن الأطرش؛ فنكلوا بابنه ونقلوه إلى «الجيب» مغميا عليه، بعد أن أهانوا قريبات السلطان والأمير حسن، هذه الحوادث ما استثارت في لبنان نقمة درزية، فلا تجمعات، ولا تطوعات، حتى ولا تلغرافات.
والذي يريد أن يسير نحو القوة عن طريق «العائلة»، يتناسى أن ليس في بلادنا عائلة واحدة غير منقسمة على نفسها، وأشهى ما عند الواحد منها أن يفنى قريبه، وأن العشيرة كذلك لم تعد موجودة. وأن «القرية» لا تجمع على أمر عظيم، إلا إذا كان هذا الأمر العظيم من منافع العيش كطريق أو إعانة لبلدية؛ فليس في لبنان اليوم ضيعة تثور إذا احتل اليهود جبل عامل مثلا.
والذين لا يزالون يتطلعون نحو الغرب هم كذلك يحومون على جزيرة غرقى؛ ففي الماضي جسدت الدول الغربية أحلامنا للانعتاق من الاستعمار التركي، ولكن الأجانب خدعونا مرتين: الأولى حين استعمرونا بعد تحررنا من الأتراك، والثانية حين سلموا بعض بلادنا لليهود؛ فكل تطلع اليوم نحو أية دولة أجنبية هو - في أبسط مظاهره - تحويم فوق جزيرة غرقى، بعض الروم الأرثوذكس، في بعض المناطق، ينشدون العون الروسي، متوهمين أن روسيا هي حصن الطائفة الأرثوذكسية.
إن بلادنا في سيرها الحضاري انسلخت عن شيء، ولا تزال تفتش عن شيء. هي اليوم في هوة؛ لأنها في فجوة.
إن أنطون سعادة لم يكتشف شيئا جديدا حين بشر بالقومية، كل ما فعل أنه نادى بها عارية عن الأوهام؛ لذلك اصطدمت الحقيقة بالأوهام، والأوهام هي لذة عقلية وخدر لا يريد الضعيف ويصعب عليه، أن يتخلى عنه؛ وإنها لحقيقة علمية أن الإقلاع عن المخدرات يتحدى قوة جبارة في النفس، ويعرض المقلع عنه - في بادئ الأمر - إلى صداع في الرأس شديد.
والمواطنون في بلادنا إن لم يعزموا على التخلص من الأوهام، وينشدوا التعسكر في النظام الجديد؛ فسيستمرون يحومون فوق الجزيرة الغرقى، عصائب طير بعضها يزقزق، وبعضها ينعب، وهي في تجمعها واستعراض أسرابها وألوانها تحسب القوة في مجرد تجمعها وضجيجها، وعددها، وتتوهم الاقتدار في الظل الذي ترميه على المياه.
وضعفنا اليوم هو في أننا ضجة وأظلة على مياه طمرت شيئا إلى الأبد اختفى؛ لأن الحضارة فيما تبني الأشياء هي تطمر الأشياء.
Unknown page