وعند النُّجباء والأحرار حميّةً، وحبُّ الحياة ممتاز على المجد عند الأُسراء والأذِّلاء طبيعةً، وعند الجبناء والنساء ضرورةً. وعلى هذه القاعدة يكون أئمة آل البيت ﵈ معذورين في إلقاء أنفسهم في تلك المهالك؛ لأنَّهم لمّا كانوا نجباء أحرارًا، فحميّتهم جعلتهم يفضِّلون الموت كرامًا على حياة ذلٍّ مثل حياة ابن خلدون الذي خطّأ أمجاد البشر في إقدامهم على الخطر إذا هدَّد مجدهم، ذاهلًا على أنَّ بعض أنواع الحيوان، ومنها البلبل، وُجِدت فيها طبيعة اختيار الانتحار أحيانًا تخلُّصًا من قيود الذُّلِّ، وأنَّ أكثر سباع الطير والوحوش إذا أُسِرَت كبيرة تأبى الغذاء حتى تموت، وأنَّ الحُرَّة تموت ولا تأكل بعِرضِها، والماجدة تموت ولا تأكل بثدييها!
المجد لا يُنال إلا بنوعٍ من البذل في سبيل الجماعة، وبتعبير الشرقيين في سبيل الله أو سبيل الدّين، وبتعبير الغربيين في سبيل المدنية أو سبيل الإنسانية. والمولى تعالى -المستحقُّ التّعظيم لذاته- ما طالب عبيده بتمجيده إلا وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم.
وهذا البذل إما بذل مال للنفع العام ويسمى مجد الكرم؛ وهو أضعف المجد، أو بذل العلم النّافع المفيد للجماعة؛ ويسمّى مجد الفضيلة، أو بذل النّفس بالتعرُّض للمشاقّ والأخطار في سبيل نصرة الحقِّ وحفظ النِّظام؛ ويُسمى مجد النّبالة، وهذا أعلى المجد؛ وهو المراد عند الإطلاق، وهو المجد الذي تتوق إليه النفوس الكبيرة، وتحنُّ إليه أعناق النبلاء. وكم له من عشاق تلذُّ لهم في حبه المصاعب والمخاطرات، وأكثرهم يكون من مواليد بيوت نادرة حمتها الصُّدف
1 / 58