Taammulat Fi Din
تأملات في الدين والحياة
Genres
والإنسان يحار فى موقف عبد الله الذى كان أشد القوم حماسة واندفاعا، بل لقد كان السبب فى إثارة الجيش بشعره وكلامه، كيف لم يكن إقباله على الموت سباقا يحسم من نفسه أسباب التردد والهيبة. على أنه مات شهيدا وفاز بالنعمة الكبرى. وعندى أنه من الخير للمرء أن يدفن نيته فى قلبه، وأن يلتمس لتحقيقها الفرص، فذلك أقرب إلى الصواب من كثرة التصريح بها والترجمة عنها، فقد سبق زيد بصمته ابن رواحة بشعره وخطبه.. رضى الله عنهم جميعا. * * * * أبناء الشهيد.. كان جعفر رجلا سمحا بماله، كما كان سمحا بنفسه، وكان مثال المؤمن القوى اليقين، ترك زوجته وأولاده وذهب إلى ربه بتلك الخطا الراسخة الجريئة، فلم تجش نفسه بحب الحياة لحظة بين بوارق السيوف التى تخطف الأبصار والألباب. قال النبى صلى الله عليه وسلم: "مر بى جعفر البارحة فى نفر من الملائكة له جناحان يطير بهما فى الجنة مخضب القوادم بالدم ". ولما نعى جعفر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيته، وكانت امرأته قد انتهت من أشغالها، ومن تنظيف أولادها وتطييبهم، فأخذهم الرسول صلى الله عليه وسلم واحتضنهم، ثم غلبه التأثر فدمعت عيناه. فقالت زوجة جعفر فى ارتياع: هل جرى لجعفر شىء ؟ قال: "نعم... أصيب هذا اليوم " ودعا أهله يأمرهم أن يصنعوا طعاما لآل جعفر، فقد شغلوا بمأتمهم. وعاد أخيرا الجيش المنسحب.. فى معركة لابد فيها من الانسحاب فماذا كان موقف الناس منه، لقد حثوا عليه التراب، وتبعوه بهتافات السخرية: يا فرار.. يا فرار... فررتم من سبيل الله، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: بل هم الكرار إن شاء الله ". *** ص _209 ختام فى هذا الكتاب أفكار وعواطف شتى، صفا عرضها حينا، وغام حينا آخر، وإن اصطبغت فى جملتها بحدة الشعور وحماسة العرض... والأحوال التى عانتها بلادنا، وذاق جمهور المسلمين نكدها، كانت هى المداد الفذ لهذه المقالات، والباعث على إرسالها هكذا، خواطر مهتاجة، لا يراد بها التحقيق العلمى أو التمحيص التاريخى، بل يراد بها إنقاذ الهلكى وإحياء الموتى، من أمتنا!! وإن لم تجاف فى سردها أو سوقها حقائق العلم والتاريخ... لقد كتبت جملة كبيرة من هذه المقالات وأنا طالب بكلية أصول الدين. وجملة أخرى وأنا أحارب أوضاعا معينة فى بلادنا، فهى فى جملتها ثورة روح يتوثب، وإيمان يجيش. وأعنى أننى لم أحاول تقديم دراسات جديدة تبدو للقراء فى ألبسة علمية ممتازة. وإنما حاولت أن أمزج بعض حقائق الدين والتاريخ بلون من الأدب التوجيهى يعين على خلق وعى حر، وجيل حى، وأمة تفقه دينها ودنياها على سواء.
Page 212