أدخلني ويده على كتفي «الحق بقى بقية العصابة قبل ما يخلصوا التموين» ضاحكا قالها. سلمت على عماد قائلا: «إزيك يا ابن السعاتي؟» ضحك قائلا: «يا واطي، انس بقى ...» ابتسمت: «العيال الصيع دول عاملين إيه معاك يا شاعر؟» محدثا صديقي أحمد شنن الشاعر: «صيع، هانعمل إيه يا هندسة!» هكذا رد. فقلت مشيرا لكوفيته الحمراء الشهيرة: «وحياة امك طول ما انت لابسلي كوفية الشيوعيين دي ما انت فالح.»
تلفت حولي باحثا عن الضلع الأعوج الذي يكمل العصابة؛ محمد شعراني، مهندس العمليات القذرة كما نسميه: «أومال فين أبو شعرة؟ بيعمل شاي ولا زانق الشغالة في المطبخ؟» ضحك الجميع ورد جوفيال: «لا طلعة شاي، الشغالة روحت؛ كانت مطبقة ورديتين ...» وتقريبا خرج شعراني من المطبخ حاملا صينية عليها أكواب الشاي: «سمعت صوتك يا وسخ من جوه. شغالة مين يا رمرام ...»
ضحكت بصوت عال ناظرا لجوفيال: «الكلام إلك يا جارة، حقك عليا يا أبو شعرة، هاتفرجونا على إيه في ليلتكم السودا دي؟ ما تحط يا عم دلع الكلب ولا هشك الكلب اللي قرفتونا بيه ده؟» جلسنا جميعا، وقام شعراني بإغلاق النور، بينما جوفيال يدير أسطوانة الفيلم.
ارتحت قليلا في جلستي وتأملت وجوه أصدقائي، وعلى وجهي ابتسامة شجن رقيقة؛ فبرغم طول علاقتنا، ورغم اختلاف مجالات الدراسة؛ فعماد طبيب جراح لم يمارس الجراحة بعد الامتحان العملي للدكتوراه، وحسن خريج زراعة قسم محاصيل، وأحمد الذي نعتبره «اللي فلح فينا» خريج آداب قسم إنجليزي، وشعراني خريج حقوق، وأخيرا أنا مهندس معماري وانتهى بي الأمر كمهندس مناظر ومدير إنتاج، وسر ابتسامتي هو أنني تذكرت كما جمعتنا الدكتان الأخيرتان في المدرسة الإعدادية غربتنا السنون وحملتنا وحطتنا، لنلتقي جميعا في فيلم جوفيال القومي «بلح زغلول»، كانت فكرة شعراني أن نعمل جميعا سويا أو نجرب أو أي شيء «المهم نكون مع بعض.»
بدأت مقدمة الفيلم الذي لم أدرك حينها أن هذا الفيلم المأخوذ عن رواية (البطل الأمريكي) ستشكل جانبا كبيرا من مستقبلي، بل مستقبلنا جميعا أنتم ونحن.
بدأ الفيلم وسط سحابة دخان؛ فجميعنا من المدخنين، والجميع مترقب؛ فكلنا سمعنا عن الفيلم ولم يقرأ أحد منا الرواية الأصلية، فلم نكن ندرك بعد أن تلك الرواية ستكون الكتاب الأسود للفترة المقبلة، ورغم أن الفيلم مصنف كفيلم كوميدي فإننا لم نتعامل معه على هذا الأساس رغم ضحكاتنا المتناثرة بين الحين والآخر، فكل منا تناول القصة من منظوره الخاص، وغاص في أحلام يقظة، أو هكذا بدا علينا.
انتهى الفيلم وأضيئت الأنوار، ونظرنا جميعا لشعراني وعلى وجوهنا ابتسامة بلهاء، وبدأ شنن محدثا شعراني: «ماتقوم تشوف البت الشغالة جت ولا لأ يا معلم.» ضحك الجميع واستمر الضغط على شعراني حتى استسلم لمصيره وذهب لعمل المزيد من الشاي.
تلاقت نظراتنا أنا وعماد وحسن وكأننا التقطنا شيئا ما من الفيلم، «الفيلم جامد أوي.» هذا ما قاله عماد رافعا حاجبه، ليرد حسن بسرعة: «لأ سافل بعيد عنك.» كالعادة ضحكنا، وكلما حاول شنن الحديث صددناه بقولنا: «بس يا شيوعي.» حتى جاء شعراني بالشاي مسمما أبداننا بعبارات التقطيم، وكيف أنه الشمعة التي دوما تحترق لتضيء لنا الطريق.
ودار بيننا حديث مطول حول فكرة الفيلم وكيفية التناسق بين الدور الاستراتيجي ل «دي نيرو»، ودور المبدع ل «هوفمان»؛ بالفعل أبرز هوفمان مساحة جديدة من الدور الإبداعي للمنتج فأغلب - حتى - العاملين في المجال ينظرون للإنتاج «كزكيبة الفلوس»، ولا يمكن تجاهل أنه أيضا بخيل.
ثم انتقلنا للحديث في العمل كالعادة، وبدأ عماد بتلقيني التعليمات وأخذ يستحلفني بأمهات المسلمين وأمهات الكتب ألا أتأخر غدا عن التصوير، وكلما سألني: «هي المناظر جاهزة؟» أجيبه: «ما تقلقش.» وطبعا على وجهي الابتسامة «اياها»، ولم أفصح لعماد بأي شيء عما قمت به للوصول لتلك المناظر والمجسمات. «بتوع الملابس بيشتكوا منك يا هندسة.» رفعت حاجبي لعماد: «دول شوية صيع، إحنا متفقين على ملابس للجيش البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، لما يجيبوا هدوم بتوع الفايكنج ويقولولي: عايزين فلوس، ابقى راجل لا مؤاخذة لو اديتهم مليم، ولا انت شايف إيه يا فنان؟!» واستمرت المناكفات حتى انتهينا من الشاي، وكل من ينتهي من كوبه يشكر عماد، ويصرخ شعراني: «يا ابن الكلب، هو عماد كان هو اللي عمل الشاي؟» ونضحك كثيرا ونكررها الواحد تلو الآخر، حتى انتهت الأمسية ومشينا جميعا.
Unknown page