الدولة، تلك هي الدولة كما رأيتها (مشيرا للهرم المرسوم).
وشرحت لها كيف تكون الهرم من تلاقي الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب، والهريم النفيس، وكلما لمعت عيناها زادتني حماسا وتألقا، أعربت عن نظرتي عن التكوين العام للدولة، وأنهيت خطابي الحماسي بسؤالها عن مكان آمون في تلك الدولة؟ لم يثرها سؤالي بل رمقتني كما لو أنني كنت أهذي وردت ببرود: «لم يكن آمون نفسه ليشرح لي الحقيقة كما فعلت الآن، أما زلت تسأل؟» - إنني أحاول أن أفهم. - لقد فهمت بالفعل.
بدأت أشعر بالدوار مرة أخرى، أصدقها في أنني فهمت لكنني لم أفهم، كم هو صعب أن تعرف وتعرف أنك عرفت لكنك لا تستطيع أن تصوغ ما عرفته ليتحول من أفكار لمعارف، بدت حيرتي واضحة في عبوس وجهي، ظننت أنها قد تبوح ببعض ما تخفيه لكنها كانت كالجرانيت الصلد الذي ينفجر بالنار، لكنه يقطع بالماء، لم لا أجرب الماء؟ - لقد تعبت حقا، لماذا كل شيء ملك لآمون؟ وبأي طريقة يختار الأمراء ليمن عليهم بما يملكون؟ رغم أن الفلاحين هم من يزرعون الأرض ويرعون غنمها وبهائمها وثيرانها؟ - هل تظن أن الفلاح لو ملك ما يزرعه سيزرع مرة أخرى؟ كلا أيها الملك، سيتحول من فلاح لأمير وستنعم يده ولن يقوى على حمل الفأس، وستنضر بشرته فلا يقوى على تحمل الشمس الحارقة. - لكنه من يزرع. - الأدوات يملكها آمون، آمون يملك المعول والإزميل والمطرقة، يأتي البناؤن مع شروق الشمس يتسلمون الأدوات ويعملون، هل فكرت ما قد يحدث لو عادوا لبيوتهم وهم يملكون الأدوات؟ لن يأتي أحد منهم في اليوم التالي، بل ستنعم أيديهم ويطمعون في امتلاك العبيد، بل سيذهبون لما هو أبعد فيحلمون بمقبرة وبأوشباتية يخدمونهم في بيت الأبدية، سيتحولون لأمراء فيزيد العاطلون واحدا وتقل الأيادي البناءة اثنتين، آمون يملك الثور والشادوف والأرض والنهر، تلك هي العقيدة أيها الملك الإله، آمون يملك كل شيء، وكل شيء يعمل طمعا في بركة آمون أو خوفا من بطشه .
تنبهت قليلا لقولها «الملك الإله »، لكن لم يتوقف ذهني عند هذا القول كثيرا، فحتى الملك والإله ملك لآمون، انفرج ثغري عن ابتسامة رأيت جمالها في عين «ابنة القمر» حين لمعت بإطلالة الفارس المقدام، لم يضايقني كثيرا ما قالته؛ فأراه لحد كبير يتوافق مع عقلي، تذكرت ما حدث في معبد الملكة الأم حين أثنيت على أحد النحاتين، فتكاسل في اليوم التالي وصار يعامل رفقاءه كما لو كان كبير البنائين، تذكرت أنني أبعدته من العمل ولم أصرف أجره ثلاثة أيام، فعاد بحماس أكبر وبمهارة أعلى، محقة هي «ابنة القمر»، ربما ما كان يزعجني هو أنني أراهم بشرا مثلهم مثلي، ربما كنت محقا؛ فهم بشر ولكنهم ليسوا مثلي، كلنا متشابهون وكلنا يملؤنا الاختلاف.
وماذا لو أدرك هذا الشعب حقيقة دوره في خدمة المعبد والعمل لمصلحة الدولة كأدوات جامدة لا تختلف عن المعول والإزميل، أو كمخلوقات أقل لا تختلف عن الثور؟ (قلت بنبرة متشككة.) - أي شعب أيها الملك الرقيق القلب؟ الشعب يدرك ما تدركه ويعرف؛ لكنه أيضا يعرف مكانه الصحيح في هذا الهرم الذي رسمته هنا (وأشارت لرسومي على أرض القاعة) فيطمع في المزيد في مكانه، لكنه لا يطمح للارتقاء لمرتبة أعلى، الشعب أفراد تجمعهم الطاعة، وتفرقهم الأطماع، هل تظن أن بإمكانك المراهنة على هذا الشعب؟ - ولم لا؟ - وكيف تصدق أنت شعبا يمجد من يكرهه، ويلعق نعل من يدوسه، يخالف الرب باسم الرب، لا يعمل من أجل القمح؛ فهو يسرقه من سيده، ولا يعمل من أجل مجد طيبة؛ فطيبة ملك لآمون، وفي النهاية يقدم الجميع قرابينهم لآمون من نصف ما يسرقونه. - ماذا لو حاول الشعب التحرر من سلطة آمون للأبد؟ - الحرية؟ حسنا، من الممكن أن تحارب من أجل حرية كاملة، ويمكن أن تتفاوض على حرية مشروطة، ويمكن أن تعيش على فتات حرية مفتعلة، ويمكن أن تعيش حلم الحرية في سجن، والغباء دوما أحد البدائل. - أين تعلمت كل تلك الأشياء؟ (قلتها بنبرة إعجاب غير مستترة.) - تسأل عن عمرى مرة أخرى أيها الملك! أعتقد أنه الأوان المناسب لتعرف، أنا من علمت الهوى لأول الرجال وآخر الملوك، وتعلمت الحكمة من كبير الكهان والبنائين والأطباء، أبي هو القمر وأمي هي النجوم (ثم تغيرت نبرتها للإغواء) ما رأيك في مضاجعتي الآن لتعرف أكثر؟ - وما الذي سأعرفه من ذلك؟ (قلتها وأخفي بداخلي آلاف الأجراس التي تدق فرحا؛ فقد خلت ألا تتاح لي تلك النشوة المقدسة أبدا.) - ها قد بدأت تتصرف كالملوك، صدق كبير الكهنة، سأعطيك كل ما أعرفه وآخذ كل ما تعرفه، كل شيء مقابل كل شيء. - ها قد بدأت تتصرفين كرجال المال ... ويا لي من ساذج أحمق! ظننت أن التمتع بالعشق والهوى هو المبتغى. - لا شيء في الكون أمتع من المعرفة أيها الملك الحكيم.
قالتها وهي تزحف بجسدها لتغطيني طاوية الجدران والمكان والزمان، لا أذكر شيئا مما حدث؛ فقد غمرني النور، لا أعرف أملأتها بي أم امتلأت بها، فقط أسبح ببحر من ضياء والبرق يصعقني، آلاف الصور تمرق كسيل المطر، رأيت ملوك الأرض يحاربون، يموتون، يحكمون، رأيت الكهنة بملابس غريبة تشبه المهرجين يربطون في رقابهم قطعا من القماش المزركش الغريب، رأيت المعابد تقام وتنهار، رأيت السماء تبيض، زرقتها يملؤها ضياء ينطلق بقوة داخل جسدي يطرد كل شيء، لم أعد أقوى على تحمله، ينهار جسدي وأنهار.
لم تعد «ابنة القمر» تلك المرأة الفاتنة التي دوما حلمت بمجرد ملامستها، بل صارت كبرديات الكون نهلت منها العلم لا الهوى، شربت من ثغرها «الماعت»، ومن ثديها الصبر، ومن فرجها الحقيقة، لا أعرف كم مرة توحدنا سويا، ولا أعرف ما أعطيتها، لكن في كل مرة كانت الصور البارقة تتحرك بسرعة أقل فأميزها أكثر، حتى حانت لحظات التشبع، وللمرة الأولى شعرت بها عارية على صدري تهمس بأعذب كلمات العشق وتموء كهرة مدللة، لم يكن هناك أي ضياء أو صور أو أحداث، غابت شمس الملوك، والبلاط، والمعبد، والكهنة، ولم يبق لي سوى «ابنة القمر» عارية تعتليني وتعتصرني فأصير نبيذ المعبد بداخلها، وتمطرني برحيق غاباتها المقدسة، كانت المرة الأولى التي شعرت بأنني أتذوقها حقا، وكانت أيضا مرتي الأخيرة، تمنيت أن يقف الزمن للأبد أو يمرق كضوء الشمس، لا أعرف لماذا وددت مروق الزمن والانتهاء منها، فقط شعرت بأن هناك ما هو أهم من «ابنة القمر» يا لي من أحمق تعيس، أعيش عمري لتلك اللحظة وحين أنالها أحاول تخطيها والمضي لما هو أهم! لكن حقا لم أكن أدري ما هو ذلك «الأهم».
انتهت مني، أو انتهيت منها، أو هكذا فقط انتهينا.
لم أعد أهاب طرقات كبير الكهنة أو أتجنب عينيه؛ فقد صرت أراه من داخله لا ما يظهره، تحولت العلاقة كثيرا واختفت نبرة التعجرف والتهديد وحلت محلها نبرة الطاعة والإصغاء، لم أعد أتحدث كثيرا، وصرت أنصت أكثر، لا أعرف ما حدث لملامحي؛ فقد صارت أكثر حدة أو ربما وضوحا، تحولت إشراقة عيني لبريق متفاوت الضياء والحدة أيضا، حتى «ابنة القمر» لم نعد نتحدث كثيرا بل صرنا نتشاطر الفراش أكثر، فأعرف كل ما يحدث خارج مقصورتي التي لم أعد أراها مقبرة.
سارت الأمور على ما يرام حتى شعرت ببعض الغلظة في القلب، ونبتت بعض الشعيرات الذهبية تحت إبطي، انتابني الخوف، وبدأت أهذي فظننتها الحمى، حتى جاء كبير الكهنة ومعه طبيب القصر، فقال الأخير: «مبروك، لقد صرت إلها.»
Unknown page