مقدمة
البداية
الحلم الأول
الست توحة
الرحلة
الرواية
انقلاب
رحيل الملك
الكواليس
الحلم الثاني
الرئيس
ابنة القمر
البشرى
قبل النهاية بقليل
وصرت إلها
القرار
التتويج
مقدمة
البداية
الحلم الأول
الست توحة
الرحلة
الرواية
انقلاب
رحيل الملك
الكواليس
الحلم الثاني
الرئيس
ابنة القمر
البشرى
قبل النهاية بقليل
وصرت إلها
القرار
التتويج
وصرت إلها بعد التاسعة
وصرت إلها بعد التاسعة
تأليف
محمد السباعي
إهداء
إلى كل ساكن، حتى الموتى يتحركون.
مقدمة
إن كان من الصعب أن نكون ما نريد، فيجب أن يكون من المستحيل أن نصبح ما يريده الآخرون، ما بين المسموح والممنوع، ما بين الصعب والمتاح، نرتحل سويا بين عبرات الزمان ورغبات المكان، لا تبحث عن الحقيقة بين السطور، فقد تكون الحقيقة في الصفحة الأخيرة، أو في الكلمة الأخيرة، أو في الحرف الأخير.
البداية
رغم عدم رغبتي للذهاب كالعادة فإنني نزلت، وضغطت زرا صغيرا بسلسلة مفاتيحي؛ لتضيء أنوار المدرعة مرتين، مصدرة صفارة تحذيرية قبل أن تفتح أبوابها، ليست حقا أبوابا؛ فلم يكن لها أكثر من بابين، يطلق عليها الأصدقاء العديد من الأسماء: المقاتلة «فلة» أو «فراولة»، ولكن أعتقد أنها تفضل أكثر «فراولة»؛ فكانت سيارتي الألمانية الفولكس المشهورة بلقب الخنفساء، لم تكن تصغرني عمرا سوى بعامين؛ هي من إنتاج عام 1967، ربما لهذا السبب أحبها.
ربطت الحزام، رددت الأدعية المعتادة: «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون.» وأيضا لم أنس قول: «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.» ثلاث مرات وتوكلت عليه.
أدرت السيارة لأسمع صوت «الزقزقة» فتتهلل أساريري، أدير الصوت، وطبعا لهوسي التكنولوجي فلدي قارئ أسطوانات وقارئ للذاكرة الومضية، وأخذت أقلب بين الأغنيات حتى توقفت على صوت فيروز وبدأت أردد معها أثناء التحرك: «يا لووووور حبك قد لوع الفؤاد، وقد وهبتك الحب والوداد، ألا تذكري ملاعب ال...»
ألا تذكري، أحب هذه الكلمة! تذكرت سبب خروجي اليوم، سنتقابل عند «جوفيال» لنشاهد فيلما يقول إنه عبقري «واج ذا دوج ؟» عقدت حاجبي محاولا التذكر، هل نطقت الاسم بشكل صحيح أم لا: «واج، باج، تاج، ماذا قال لي؟ دلل الكلب؟ قلع الكلب؟ هشك الكلب! نعم هشك أمه ...» ضحكت.
مع اقترابي من بيت «جوفيال» أخذت أراجع كل ما أذكر من المعلومات حول الفيلم، إنتاج 1997 «روبرت دي نيرو» و«داستين هوفمان»، المخرج «بيري ليفنسون»، إنتاج «ليفنسون» و«دي نيرو»، تضايقت قليلا فلم أتذكر اسم مهندس المناظر رغم أن الطبيعي ألا أتذكر سواه! لم أهتم بمعرفة قصة الفيلم؛ فسأشاهده، ولكن أهتم دوما بالتفاصيل والتوثيق.
اقتربت من بيت صديقي، وأنا أعد نفسي بألا أتأخر؛ فالغد سيكون يوما طويلا، لا أريد التفكير فيه الآن (هكذا تمتمت لنفسي). صعدت للطابق الأول، ابتسمت ليافطة نحاسية مكتوب عليها باللون الأسود: «عماد السيد»، وبالأحمر «مخرج»، وتذكرت أول مرة علقها على باب شقته، بعد عرض فيلمه الأول؛ وأقصد الأول للعرض وليس الأول في الإخراج، تذكرت الفيلم «بلح زغلول» عن ثورة 1919، والذي اعتبره النقاد فيلما «قوميا»، وقيل فيه «رؤية جديدة»، رغم أننا نعتبره بما فينا عماد جوفيال نفسه فيلما تجاريا أو «أكل عيش».
ابتسمت مرة أخرى وطرقت الباب ثلاث مرات، مرتين، مرتين، مرة، فتح الباب، العصابة كلها هنا؟ هكذا صحت عندما فتح الباب «أبو علي»، صافحته بحرارة قائلا: «وحشتني يا بقبق، بقالي ييجي 3 ساعات ماشفتكش ...» ضحك حسن عبد العال الكاتب والسيناريت قائلا: «إنت جيت يا سحلف! قلنا هاتعمل فيها ميت كالعادة ...»
أدخلني ويده على كتفي «الحق بقى بقية العصابة قبل ما يخلصوا التموين» ضاحكا قالها. سلمت على عماد قائلا: «إزيك يا ابن السعاتي؟» ضحك قائلا: «يا واطي، انس بقى ...» ابتسمت: «العيال الصيع دول عاملين إيه معاك يا شاعر؟» محدثا صديقي أحمد شنن الشاعر: «صيع، هانعمل إيه يا هندسة!» هكذا رد. فقلت مشيرا لكوفيته الحمراء الشهيرة: «وحياة امك طول ما انت لابسلي كوفية الشيوعيين دي ما انت فالح.»
تلفت حولي باحثا عن الضلع الأعوج الذي يكمل العصابة؛ محمد شعراني، مهندس العمليات القذرة كما نسميه: «أومال فين أبو شعرة؟ بيعمل شاي ولا زانق الشغالة في المطبخ؟» ضحك الجميع ورد جوفيال: «لا طلعة شاي، الشغالة روحت؛ كانت مطبقة ورديتين ...» وتقريبا خرج شعراني من المطبخ حاملا صينية عليها أكواب الشاي: «سمعت صوتك يا وسخ من جوه. شغالة مين يا رمرام ...»
ضحكت بصوت عال ناظرا لجوفيال: «الكلام إلك يا جارة، حقك عليا يا أبو شعرة، هاتفرجونا على إيه في ليلتكم السودا دي؟ ما تحط يا عم دلع الكلب ولا هشك الكلب اللي قرفتونا بيه ده؟» جلسنا جميعا، وقام شعراني بإغلاق النور، بينما جوفيال يدير أسطوانة الفيلم.
ارتحت قليلا في جلستي وتأملت وجوه أصدقائي، وعلى وجهي ابتسامة شجن رقيقة؛ فبرغم طول علاقتنا، ورغم اختلاف مجالات الدراسة؛ فعماد طبيب جراح لم يمارس الجراحة بعد الامتحان العملي للدكتوراه، وحسن خريج زراعة قسم محاصيل، وأحمد الذي نعتبره «اللي فلح فينا» خريج آداب قسم إنجليزي، وشعراني خريج حقوق، وأخيرا أنا مهندس معماري وانتهى بي الأمر كمهندس مناظر ومدير إنتاج، وسر ابتسامتي هو أنني تذكرت كما جمعتنا الدكتان الأخيرتان في المدرسة الإعدادية غربتنا السنون وحملتنا وحطتنا، لنلتقي جميعا في فيلم جوفيال القومي «بلح زغلول»، كانت فكرة شعراني أن نعمل جميعا سويا أو نجرب أو أي شيء «المهم نكون مع بعض.»
بدأت مقدمة الفيلم الذي لم أدرك حينها أن هذا الفيلم المأخوذ عن رواية (البطل الأمريكي) ستشكل جانبا كبيرا من مستقبلي، بل مستقبلنا جميعا أنتم ونحن.
بدأ الفيلم وسط سحابة دخان؛ فجميعنا من المدخنين، والجميع مترقب؛ فكلنا سمعنا عن الفيلم ولم يقرأ أحد منا الرواية الأصلية، فلم نكن ندرك بعد أن تلك الرواية ستكون الكتاب الأسود للفترة المقبلة، ورغم أن الفيلم مصنف كفيلم كوميدي فإننا لم نتعامل معه على هذا الأساس رغم ضحكاتنا المتناثرة بين الحين والآخر، فكل منا تناول القصة من منظوره الخاص، وغاص في أحلام يقظة، أو هكذا بدا علينا.
انتهى الفيلم وأضيئت الأنوار، ونظرنا جميعا لشعراني وعلى وجوهنا ابتسامة بلهاء، وبدأ شنن محدثا شعراني: «ماتقوم تشوف البت الشغالة جت ولا لأ يا معلم.» ضحك الجميع واستمر الضغط على شعراني حتى استسلم لمصيره وذهب لعمل المزيد من الشاي.
تلاقت نظراتنا أنا وعماد وحسن وكأننا التقطنا شيئا ما من الفيلم، «الفيلم جامد أوي.» هذا ما قاله عماد رافعا حاجبه، ليرد حسن بسرعة: «لأ سافل بعيد عنك.» كالعادة ضحكنا، وكلما حاول شنن الحديث صددناه بقولنا: «بس يا شيوعي.» حتى جاء شعراني بالشاي مسمما أبداننا بعبارات التقطيم، وكيف أنه الشمعة التي دوما تحترق لتضيء لنا الطريق.
ودار بيننا حديث مطول حول فكرة الفيلم وكيفية التناسق بين الدور الاستراتيجي ل «دي نيرو»، ودور المبدع ل «هوفمان»؛ بالفعل أبرز هوفمان مساحة جديدة من الدور الإبداعي للمنتج فأغلب - حتى - العاملين في المجال ينظرون للإنتاج «كزكيبة الفلوس»، ولا يمكن تجاهل أنه أيضا بخيل.
ثم انتقلنا للحديث في العمل كالعادة، وبدأ عماد بتلقيني التعليمات وأخذ يستحلفني بأمهات المسلمين وأمهات الكتب ألا أتأخر غدا عن التصوير، وكلما سألني: «هي المناظر جاهزة؟» أجيبه: «ما تقلقش.» وطبعا على وجهي الابتسامة «اياها»، ولم أفصح لعماد بأي شيء عما قمت به للوصول لتلك المناظر والمجسمات. «بتوع الملابس بيشتكوا منك يا هندسة.» رفعت حاجبي لعماد: «دول شوية صيع، إحنا متفقين على ملابس للجيش البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، لما يجيبوا هدوم بتوع الفايكنج ويقولولي: عايزين فلوس، ابقى راجل لا مؤاخذة لو اديتهم مليم، ولا انت شايف إيه يا فنان؟!» واستمرت المناكفات حتى انتهينا من الشاي، وكل من ينتهي من كوبه يشكر عماد، ويصرخ شعراني: «يا ابن الكلب، هو عماد كان هو اللي عمل الشاي؟» ونضحك كثيرا ونكررها الواحد تلو الآخر، حتى انتهت الأمسية ومشينا جميعا.
عدت لسيارتي الحبيبة، أدرت صوت فيروز مرة أخرى وانطلقت، كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بفترة كافية لتناثر اللجان بالقاهرة، ومررت بلجنة مبتسما فطلب مني شخص «ما» الرخص، فقمت بإبرازها ليأخذها بعصبية، ينظر بها كمن يتعلم القراءة، سألته: «خير فيه مشكلة؟» فرد بعنجهية: «اركن وانزل من العربية.» لم تعجبني المعاملة فأجبت مبتسما: «لا مش هاقدر انزل؛ أصلي قالع البنطلون.» نظر لي بغضب شديد قائلا: «على فين إن شاء الله يا باشمهندس ؟» أجبت: «على حزب الريح، هو يفرق مع حضرتك ايه أنا رايح فين؟» فرد متظاهرا بالبرود: «لما اسألك تجاوب طوالي، مش ناقص غير تقول لي انت ماتعرفش بتكلم مين؟» فقلت: «لا مش لازم أقول، بكرة إن شاء الله زي دلوقتي كده هاتعرف أنا مين، ويا ريت الرخص عشان مش ناوي اكمل السهرة هنا.» ربما حدة لهجتي وترته بعض الشيء لأنني وجدت الرخصتين في يدي الممدودة، شكرته ومضيت مرة أخرى في طريقي.
خففت من سرعتي مع اقترابي من الكوربة حيث أسكن، لم يكن سكني الأصلي؛ فبعد وفاة والدي تركت بيت العائلة لأختي الصغرى لعدم حاجتي إليه، أو لاقتناعي بأنها أولى به مني؛ فهي متزوجة ولديها محمد ومريم. أعتقد أني تركته لها بسبب مريم؛ فلم أتعلق بطفلة مثلما تعلقت بتلك الطفلة، لم يكن بيت العائلة بعيدا؛ فكل أحداث حياتي كانت تدور حول الكوربة. ابتسمت حين تذكرت السمسار الذي مكنني من شقتي الحالية؛ فقد طلبت منه في البداية غرفة بأي سطح من أسطح «بواكي» الكوربة، وحين طلب بطاقتي ووجدني مهندسا ارتاب وظن أنني هارب من حكم قضائي، وحاول أن يزيحني عن فكرة غرفة السطح لثلاثة أشهر تقريبا، وأعتقد أنه نجح؛ فقد شعرت أنه من العلاقات التي يجب قطعها.
دخلت شارع البوستة حيث أسكن فوق مكتب بريد مصر الجديدة، تعجبني التجديدات التي حدثت لمكاتب البريد، وحتى العاملين بالبريد أشعر أنهم تجددوا أيضا؛ فلم تكن تلك الابتسامة الودودة موجودة قبل اللونين الأخضر والأصفر اللذين أصبحا سمة مكاتب البريد الآن. لم أرهق نفسي بالبحث عن مكان لترك سيارتي، لكني مسحت الشارع الضيق بعيني سريعا؛ فربما أضطر لمليون قسم في الصباح للأستاذ منير مدير المكتب. توقفت بجوار مدخل المكتب ونزلت أزيح الأقماع المخططة بالأبيض والأحمر، وحرصت على وضعها أمام باب المكتب، وتركت سيارتي مكانهم وصعدت السلم بتكاسل حتى وصلت لشقتي.
فتحت الباب على صالتي الصغيرة، وشعرت بالراحة حين طالعت أريكة أمي التي احتفظت بها، لم تطل ابتسامتي ودلفت لحجرة نومي، وهي الحجرة الوحيدة بالبيت، ونقلت فيها حجرتي كاملة من بيت أمي كي لا أشعر بأي غربة، حين وصلت لسريري كنت قد رسمت مسارا لحركتي من حذائي المخلوع والجاكت، وتهاويت على السرير.
زارني رجل المباحث باللجنة في نومي عدة مرات بابتسامته الخبيثة ومعطفه الصوفي الأسود بلا داع، لم أدرك أن لعب دور الكهنة وأنصاف الآلهة هو جزء من تركيبة المؤسسة، لم أكن أعرف شيئا عن المؤسسة. •••
دقات متوالية وصوت «عم رمضان» يدوي بلكنته الصعيدية الجميلة: «يا باش امهندز، يا باش امهندز ...»
قمت كالرجل الآلي؛ فقد تعودت على «فزعة» الثامنة صباحا منذ انتقلت لهذا البيت، خطفت مفاتيح السيارة بدم بارد وعين شبه مغلقة. - صباح الفل يا عم رمضان. - يا باش امهندز، الأستاذ منير أرمانيوس بيجول إني ماعشوفش شغلي وعايجيب بواب تاني، يرضيك اكده؟ - صباح الفل يا عم رمضان، لا هو هايجيب بواب ولا انت هاتمشي، اديله المفاتيح وقله كلمتين وأنا هابصله من البلكونة، انزل يا راجل يا عجوز دا انت تاكل دماغ بلد، خليه يقفل العربية كويس.
لم أر ابتسامة «عم رمضان» الشقية والبريق الذي يطل من عينيه لإطرائي، لكني أعرف جيدا حين يتحول هذا الوجه العجوز العبوس الدائم الشكوى لوجه طفل صبوح تفوق في مدرسته ويبتسم بخجل لإطراء أهل البلد عليه، لم أره مرتديا سوى الجلباب الأبيض وتعتلي رأسه عمامة ضخمة، وسمار لونه من سمار أهل أسوان أو النوبة، ولكنته ما بين سوهاج وأسيوط، وقدرته التآمرية تميل لما بين بني سويف والفيوم، وقدراته الإجرامية لا حدود لها، كلما أسأله: «إنت منين يا عم رمضان؟» يرد: «من بلاد الله يا باش امنهدز عاتناسبني ولا إيه؟!» وتتكرر تلك الجملة الحوارية كلما ناديته ليشرب معي الشاي في تلك الشرفة الواسعة، فيعد الشاي ويفرش سجادتي المصنوعة من صوف الخراف (كليم) ويجلس متكئا على إحدى رجليه وساندا كوعه على ركبة الأخرى، لنبدأ بتلك الجملة وننتهي بها، ولم أكن أعرف وقتها أيضا أن «عم رمضان» لم يكن من الصعيد أصلا. - أنا آسف يا أستاذ منير، والله ما كان في مكان اركن، قلتها صائحا ورافعا يدي معتذرا. - يا باشمهندس مايصحش؛ حضرتك عارف عربية الطرود بتيجي بدري، واحنا مش عايزين مشاكل مع حد. - معلش يا أستاذ منير، لو مش هاندلع عليك هاندلع على مين بس! جملتي الختامية المعتادة لأستاذ منير. - اتدلع يا سيدي اتدلع.
أغلقت باب الشرفة وتسللت للسرير مرة أخرى ورميت نفسي كالأطفال، وقدماي في الهواء، رافعا ذراعي بجوار رأسي، وأكملت نومي مرددا: أنا مش هنام؛ ربع ساعة واقوم اكلم الورشة واشرب شاي وانزل، أنا مش هنام، أنا مش هنام ... وسقطت في نوم عميق.
الحلم الأول
كنت أحلم بسيدة وابنتها، كلتاهما آية في الجمال، كنا في منزل، لا أعرف أي منزل، في البداية لم أتعرف على ملامح السيدة ولا ابنتها، كنا نتحدث، وكانت هناك طاقة غريبة تحيط بغرفة الجلوس الإنجليزية الوثيرة، المكسوة حوائطها بالمكتبات من الأرض للسقف، لا يقطعها سوى باب الغرفة وشباك يقابله؛ مكتبة مليئة بعجائب الكتب، لا أذكر منها شيئا، لكني أذكر دهشتي كلما لمحت عنوانا منها.
كانت السيدة برغم أناقتها وعذوبتها، تشعرني بأنها عرافة غجرية تقرأ الطالع، وبرغم هذا الشعور لم أقاوم ابتسامتها وهي تقدم لي فنجان الشاي، ناولتني إياه وعيناها مثبتتان في عيني تمسمرني في مقعدي الجلدي، كنت أراني وأندهش مني في الحلم، فقد كنت مسلوب الإرادة تماما، مددت يدي لتناول فنجان الشاي فلامست أصابعي طبقا صينيا مزججا باردا تشع من مركزه حرارة من قاع الفنجان، ولامست شيئا آخر ربما أصابعها، فسرت رعشة في جسدي تشبه تنميلة الكهرباء الخفيفة، ولم يطرف جفني، شعرت بأن هناك قوة شريرة تسيطر علي، وكدت أجزم بأن الشاي مسموم.
ظهرت ابنتها من خلفها مستندة على باب الغرفة، فزعت من تقارب الشبه وتقارب العمر أيضا، توقف الزمن على تلك الصورة، كل شيء توقف حتى الأنفاس، والفتاة تتحرك وحدها في الصورة بجسدها الذهبي الممشوق والمسدل عليه ما يشبه الدثار أو الشال من الكتان الأبيض الشفاف، لم تكن ترتدي أي شيء غيره، مفتوح من الجانبين، فكلما تحركت ظهرت ساقها بردفها، كانت تتمايل وتنظر لي بإغواء لم أر مثله من قبل ؛ فكانت عيناها تمد سلاسل الفولاذ لتحيطني وتطرحني أرضا، كنت أحدق بها وما زالت يداي ممتدة ممسكة بفنجان الشاي وملامسة لأصابع أمها، وأمها محدقة في نظرات الجوع بعيني بمنتهى الرضا.
لماذا تحاولان إغوائي؟ فأنا لا أملك شيئا يذكر، صعقت؛ فقد كانت أفكاري تتردد في الغرفة بدوي مذهل، أشعر بوجهي يحترق من الخجل، خفضت نظري بعيدا عن تلك الحورية، لتتلقفني نظرات أمها التي زادت إشراقا وتوهجا قائلة دون أن ينفرج ثغرها: «بل تملك.» وضحكت الفتاة بتقطع مبتذل. أربكني صوت المرأة، بل قطعني لنصفين يملؤهما الارتباك، لتتلاعب بهما تلك الضحكات المتقطعة، وددت لو يحدث أي شيء يلملم ما تبعثر مني، وانتفضت على انهيار جدران الغرفة وظهور كائنين يشبهان المسخ الشيطاني من وسط أدخنة ملونة كالتي نستعملها في المؤثرات، الغريب أن شكلهما كان كرتونيا مضحكا إلا أنه أصابني بفزع رهيب، انتفضت من مقعدي برجفة، فعلوت عن المقعد وسقطت مرة أخرى على سريري فاتحا عيني كفم ذئب يعوي.
وجدتني أتنفس سريعا فقمت من السرير بعصبية وغضب وخوف، هرعت للثلاجة، وفتحتها بعصبية، لا أعرف ماذا أوقعت وأنا أسحب زجاجة الماء، لم أفق من فزعي حتى أفرغت الزجاجة بالكامل بجوفي.
الست توحة
وقفت مستندا لباب المطبخ موجها نظري للأرض حتى تبينت ملامح البلاط الموزاييك المزركش، وأنا أتصبب عرقا، وكلما ركزت أكثر أرى تلك المخلوقات الكرتونية المضحكة، وابتسمت عندما تذكرت كم الفزع، عدت لغرفة نومي، الساعة التاسعة والنصف وقد ظننت أنني نمت لعدة أيام.
عدت مرة أخرى للمطبخ وأشعلت الموقد، وضعت بعض الماء ليغلي بينما جررت كوبا زجاجيا ووضعت فيه ملعقة ممسوحة من الشاي وثلاث ملاعق من السكر البني، وأخذت أقلب في الأرقام بهاتفي المحمول بحثا عن رقم الحاج إبراهيم عبد الرحيم، واتصلت به. - أيوه، سلام عليكم يا حاج إبراهيم. - أهلا يا كبير. - الله يخليك يا حاج، طمني أخبارنا إيه؟ التصوير النهارده. - عيب يا كبير، هو أنا عمري قصرت رقبتك في أيها شغل قبل كده؟ - قوللي طيب ابعتلك العربية إمتى؟ - هاقولك يا كبير، اديني ساعتين كمان وابعتها، فاضل بس مدرعتين ودبابة اترشوا ولسه ماعضموش. - ساعتين وهاكلمك يا حاج، سلام عليكم.
صببت الشاي وخرجت من المطبخ لغرفة النوم مرة أخرى، لا أعرف متى فتحت الشباك لكن الضوء ضايقني، شعرت بوخزة في عيني من الضوء، وضعت كوب الشاي على طاولة صغيرة لأقفل الشباك، فوجدت جارتي «توتي» بملابسها الثورية المتفجرة، والمتحررة أيضا، فلملمت الشيش قليلا كي أراقبها، وكعادتها لمحتني، وابتسمت مرسلة نظرة دلال مع كل حركة، أعرف أنها تراني، ولم ألملم الشيش كي لا تراني؛ بل لأراقبها دون أن ترى عيني وأنا أتفحصها، كانت تغير ل «هاني» ملابسه، وهاني هو ابنها الأوسط، كما لديها ثلاثة صبية، لديها ثلاثة أسماء، وحين أراقب أبناءها أشعر أن كل اسم هو الأم الشرعية لهذا الصبي؛ فعبد العزيز هو ابن الحاجة فتحية ومعروف في الشارع ب «زيزو»، وهو مراهق مشاغب دائم العراك، أراه طفلا كبيرا «مدهول» لكنه طيب القلب، ومصطفى هو ابن الست «توحة» وما أحبه في هذا المصطفى أنه «عايق» بغض النظر عن ألوان ثيابه والتركيبات القوية التي تختارها الست «توحة»، إلا أنه دائما نظيف، لامع الشعر، تفوح منه رائحة زيت الزيتون، وهو الوحيد الذي أراه ينام بملابس نوم عكس أخويه، أما الأستاذ هاني أو «ننوسة عين أمه» كما تناديه أمه «توتي» فهو نواة جيدة لصبي مدلل دلال البنات، لكنه الوحيد الذي يحمل ملامح أمه، أما أنا فأراها بشخصياتها الثلاثة أنثى، وأسميتها «نواعم».
لم أقابل زوجها؛ فقد رحل عنها قبل أن أسكن هنا، يقال إنه هجرها منذ ولادة هاني؛ أي منذ أربعة أعوام وعدة أشهر هم عمر هذا الصغير المدلل.
كانت تلتفت كل حين لتمنحني ابتسامة دلال، تذكرت أول يوم لي في هذا البيت وكنت و«عم رمضان» نقوم بتوزيع ما حملته معي من قطع أثاث في نهار يوم حار من أيام أغسطس، وكان الشباك مفتوحا وجميع شبابيك الشقة المقابلة مفتوحة، ولمحت امرأة مكتملة النضج، وأقصد النضج الأنثوي، كانت ترتدي قميص بيت عاري الصدر والظهر، وقصيرا، وضيقا، ولامعا، وأحمر، وكانت بداخله تشبه التينة الغضة الناصعة البياض، كان شعرها ثقيلا وكالح السواد، تشبه أو تحاول أن تشبه «هنومة» في باب الحديد؛ الأنثى التي لم تستوقفها المدنية ولا تعرف عن أنوثتها سوى إظهار مفاتن جسدها المرمري، لم تكن رفيعة ولا ممتلئة، كانت يونانية القوام مكتملة التفاصيل دون إسراف، منذ اللحظة الأولى امتدت الجسور بيننا، ربما شعرت بنظرة التفحص الأولى وأعجبتها النظرة وصاحبها كما أعجبته، حتى «عم رمضان»، وكانت بداية علاقتي به والتي حاول جاهدا فرض سيطرته بها، لاحظ تلك الجسور الممتدة بين الشباكين فقال لي وقتها: «لا يا باش امنهدز؛ دي الست «توحة» جارتنا، والبيوت أسرار يا بيه.» ولما سألته عما يعنيه تهرب مني، فشعرت أنه فقط يستعرض عضلاته، ومنذ ذلك اليوم ونحن نتبادل النظرات والابتسامات، وتمارس هي كل فنون الإغواء عن بعد، فتفتح كل النوافذ وتمسح بلاط شقتها نصف عارية، أو تبدأ في تغيير ملابسها والنافذة مفتوحة، وتدعي أنها انتبهت فتأتي شبه عارية لتغلقها بإغواء يفوق الآفاق، وتمنحني ابتسامتها ونصف الغمزة، أعتقد أنها تستمتع بمراقبتي لها وبلعبي الكرة مع زيزو وفض اشتباكاته مع أبناء الشارع كلما صادفته.
اقتربت من النافذة المقابلة لي ووقفت بمواجهتي ودفعت بالشيش لتفتحه على مصراعيه، لم أشعر أنها تقوم بما اعتدنا عليه دوما، شعرت أنها تريد المواجهة ففتحت الشيش على مصراعيه بدوري، ورجعت خطوتين للخلف كي لا يراني سواها، وأشعلت سيجارة محدقا فيها وكوب الشاي بيدي، كنا نشبه صنايعي في ورشة يوم القبض يغازل بنتا في دبلوم التجارة أثناء مرورها بالورشة التي يعمل بها، ابتسمت حين نظرت لملابسي لأتأكد أنني لا أرتدي قميصا من المربعات الصغيرة، ولست مشمرا عن ذراعي فاتحا أزرار القميص لأريها شعرات صدري الكثيفة، لا أدري لم شعرت أنها انتابها نفس الشعور، ولأول مرة منذ عرفتها بدأت في الإشارات.
أخذت تشير على يدها مكان الساعة، ثم تشير بسبابتها بحركة نصف دائرية، ثم تشير بسبابة على نصف السبابة الأخرى، ثم تشير للشارع، حاولت لعب دور من لم يفهم فرمقتني بحدة، وأعادت تأكيد الموعد في الشارع بعد نصف ساعة، وتظاهرت بالسعادة والموافقة، لم أتظاهر في الواقع بل كنت فعلا سعيدا بهذا الموعد وغرابته؛ فأخيرا قد أتمكن من معرفة رائحة شعر «نواعم».
ابتسمت مرة أخرى وأغلقت النافذة، أغلقت نافذتي بدوري، ونظرت في الساعة، وجلست على السرير أنفث الدخان لأعلى في الهواء مراقبا تشتت خيوطه، تحولت جلستي للتمدد وأطفأت السيجارة، بل ألقيتها في كوب الشاي الفارغ، وشبكت يدي خلف رأسي مستندا على ظهر السرير ومحدقا في سقف الغرفة، وأكاد أكون اخترقته فلم أعد أراه.
انتبهت على صوت جلبة عالية في الشارع، فقمت مفزوعا، وكأنه يوم الفزع بالنسبة لي، نظرت للساعة أثناء ذهابي للشرفة، فوجدت أنني تأخرت بالفعل عن الموعد ربع ساعة، فتحت الشرفة بسرعة لأجد «توتي» قد تحولت «لفتحية» وهي تصرخ في رجل يشبه المجذوب بالشارع، وأغلب الجيران يحاولون تهدئتها وهي تستحلفه وتتوعده صارخة ومكررة: «وديني لاعرفك مقامك ...» لا أعرف لماذا شعرت أنها توجه صريخها لي، وانفلتت من وسط الزحام مكررة جملتها التهديدية، واختفت بسرعة داخل عمارتها.
وبدأت الناس تنفض، والمجذوب يقف مذهولا مثلي تماما، فقد عرفت أني قد ضيعت فرصة ذهبية للاقتراب منها، لم يستمر ذهولي كثيرا؛ فقد خرجت «فتحية» من شرفتها، وهي تكرر نفس الجملة ولكن تلك المرة لي، وعيناها في عيني، وبيدها أنبوبة غاز صغيرة من التي تستعمل في تشغيل المصباح الغازي (الكلوب)، ورفعت يديها بالأنبوبة، وكدت أصرخ من جنونها، فستحدث انفجارا في الشارع، وقد تقتل الرجل، رفعت يدي في الهواء في محاولة لا شعورية لإيقافها، لكنها كانت أسرع من حركتي اللاشعورية وألقتها.
تابعت الأنبوبة بعيني لكنها لم تكن موجهة ناحية الرجل، فحمدت الله، فسوف تسقط في الشارع مدوية وينتهي الأمر، ثم فزعت؛ فقد كانت موجهة لسيارتي الصغيرة، حطمت الزجاج وانفجرت داخل السيارة، وأنا رافع حاجبي للسماء من الذهول، والتفت إليها بكل الذهول والغضب، فتلاقت أعيننا، واستشاط غضبي حين رأيت نظرة النشوة في عينيها، نشوة المنتصر، وهي تحاول إخفاء ابتسامتها صارخة: «يا لهوي!» وهرعت مفزوعة من الشرفة.
لم أتبين ما ارتديته، سحبت هاتفي، ومفاتيح السيارة، نزلت قافزا بين السلالم، وخرجت للشارع، وكانت السيارة بين العمارتين، خرجت هي في اللحظة نفسها، والجيران يحاولون إطفاء الصالون المشتعل، والأستاذ «منير» يصيح بهم أن يبتعدوا ممسكا بطفاية الحريق الخاصة بسيارته، محاولا فتحها أثناء صريخه، وفتحها ورش تقريبا كل المجتمعين حول السيارة حتى وصل إليها، وأخمد نيرانها لكنه لم يتمكن من إخماد نيراني.
وصلت معها للسيارة، الجميع يحاول تهدئتي، وهي تحولت من قمة الغضب والتوعد لقمة التوسل والاعتذار، وأنا ما زلت مذهولا من فعلتها، أصرت أن تذهب معي لتغيير الزجاج، وإصلاح صالون السيارة، وأنا كنت أريد الابتعاد عن الزحام بأي شكل وسط العبارات المهدئة لي، واللائمة لها، وبدا علي الانصياع لرغبتها تحت ضغط الجمع الغفير، نظرت للأستاذ «منير» شاكرا دون أن أنطق، وفتحت السيارة وجلست وجلست هي بجواري، وانطلقت دون أن أنطق أيضا.
خرجت من الشارع، وصلت للمترو وانحرفت يمينا، ولم ينطق أي منا حتى وصلت لجوار سينما نورماندي، وبازليك الكوربة في مواجهتي، لم أنطق أنا بل ازداد ذهولي حين وضعت يدها على يدي فوق عصا السرعات، فنظرت إليها فوجدتها تنظر إلي مائلة بجسدها حتى كدت أسمع دقات قلبها، وسمعت صوتا عذبا، يختلف عن الصريخ المعتاد في الأطفال، وفي «عم رمضان»، وفي المجذوب، لا أعرف إن كانت تهمس، أم تتأوه قائلة: «حقك عليا، ماتزعلش مني، لما ماجيتش خفت ماتجيش، وكنت ممكن أولع في الشارع كله عشان أقابلك النهارده.»
لا أعرف أين هرب غضبي من سماع تلك الهمهمة، وأين هربت دمائي من لمسة يدها ليدي، وجدت كلمات تتساقط من فمي تشبه الفحيح. - إنتي مجنونة؟ - هو انت شفت جنان لسه! (قالتها وهي تعتدل فكدت أرى ركبتها.)
مررت بعيني على جسدها بالكامل، وأنا أنحرف بالسيارة بعد البازليك، ولمحت مكانا شاغرا فتوقفت بالسيارة ونظرت إليها، كانت ترتدي فستانا من المخمل الأسود والبني، كان ذوقها شعبيا إلى حد كبير، خاصة المشغولات المرسومة على الفستان، الذي كان قبل جلوسها بجواري تحت ركبتها بقليل، وشال أسود منسوج تغطي به صدرها، وحين وصلت عيناي لرقبتها، رفعت الشال لتظهر خصوبة نهديها ببياضهما الرخامي، ببروزهما خارج فتحة الفستان، لم أر هذا الجزء من الفستان شعبيا على الإطلاق.
انفرجت شفتاها عن ابتسامة ماكرة، وهي تراني أتفحصها، نزلت بعيني أكثر، مررت ببطنها ونزلت لطرف الفستان، الذي ارتفع فوق ركبتها بقليل، كان بياض لونها أخاذا، وسيقانها تلمع نعومتها، واستمرت عيناي في النزول، لصندلها الأسود اللامع ذي الكعب العالي، والشريطة الحمراء اللامعة بفراشة برتقالية، لتظهر أصابع قدميها بأظافرها المطلية بلون أحمر قان بعناية شديدة، ومقلمة بعناية أشد.
لم تستغرق تلك النظرة أكثر من جزء من الثانية، لكن كل التفاصيل قد حفظتها في ذاكرتي، رفعت عيني لوجهها وكأني أراها لأول مرة، كان جمالها ريفيا؛ العيون الواسعة، السوداء، المكحلة، الأنف الدقيق المرتفع بعض الشيء، والشفتان الممتلئتان قليلا والملونتان بالأحمر، وذقنها الدقيق، الذي يذكرني بالنقطة في نهاية السطر.
كان شعرها منسدلا بسواده، وثقله، ويلوح فوقه طيف أحمر، استمرت نظرتي مدة أطول، لم يفقني من تأملاتي سوى وخز في جسمي كله، فانتبهت أننا جلسنا فوق الزجاج المكسور، والكراسي المحترقة، فنظرت بشكل تلقائي لنفسي، فوجدتني بالجينز، وحذائي الخفيف بلا جوارب، وقميص أبيض مقلم بأقلام رفيعة، أزرق وبني، شعرت بالبرد؛ فما زلنا في نهاية شهر يناير، ولا يصلح قميصي أبدا لمثل هذا الجو، سحبت يدي من أسفل يدها، وشعرت بأنني استرددت عافيتي من تأثير الصدمات المتوالية. «بقولك إيه، تعالي ننزل بس ننفض القزاز المكسر ده.» قلتها ونزلت، وبدأت في تفحص السيارة للمرة الأولى، أو هكذا كنت أحاول أن أبدو، لكن في الحقيقة كنت أريد رؤيتها واقفة. - حاضر، أنا آسفة والله (قالتها ونزلت).
حاولت إزالة الزجاج بسرعة بلا فائدة من كرسي، ودرت حول السيارة لأذهب ناحيتها.
وقفت فكانت محاصرة بيني وبين السيارة، ويمنعها من الهرب الباب المفتوح، لم تحاول الهرب في الحقيقة، بل وقفت مبتسمة في توسل، وأخذت تردد الاعتذارات، ولم أكن أسمع ما تقول، بل كنت مستمرا في معاينة المجنونة التي أشعلت سيارتي، وأشعلت معها رغبتي.
كانت فارعة الطول، وممشوقة بتناسب مثير، كانت تظهر عليها كل علامات العناية بمظهرها، ملت بجسدي قليلا لأنظف الزجاج من الداخل، فكدت ألمسها أو بالأحرى أن أسند رأسي على صدرها الذي لفح وجهي لهيبه، اعتدلت وانسحبت بعيدا قائلا بأننا لن نتمكن من تنظيف الزجاج، فابتسمت لي بخيلاء، ومالت بجسدها للداخل وكأنها تقرأ ما يدور بذهني فقد كنت أتشوق لرؤية مؤخرتها في الوضع مائلة، أقلقتني فكرة أنها تقرأ ما يدور بذهني، وتذكرت الحلم بالأم وابنتها، شعرت بالخوف لوهلة بينما كانت تضرب الكرسي بيدها ذات الأصابع الطويلة المنحوتة بدقة عالية، فيطير الزجاج فتزيحه بعيدا، امتزجت صورتها برغبتي التي كانت مشتعلة في الحلم، فبدأت بتفحص مؤخرتها البيضاوية المشدودة وكان المخمل الداكن يزيدها إثارة، وكاد التقاء مؤخرتها بردفيها أن يفلت زمام رغبتي، ومنعت نفسي للحظة من ضرب مؤخرتها بيدي، فاكتفيت بوضعها على وسطها لتخرج من السيارة، وتقف تقريبا بين ذراعي ويلامس كل جسمها كل جسمي، كان جسدها مزيجا غريبا من القوة والليونة، نظرت في عينها: تعرفي نظرية التوتر السطحي؟ - طبعا، يبان عليك التوتر من برة وانت راسي وتقيل من جوه، يعني عكس نظرية «من برة هلا هلا ومن جوه يعلم الله» (قالتها وبعينها نظرة انتصار رافعة حاجبها الأيسر). - (ضاحكا بصوت مرتفع) لا مش دي؛ التوتر السطحي نظرية على الموائع بيكون سطحها غشاء مرن مشدود يقاوم الاختراق ويعمل على تقليل مساحة السطح.
تحولت نظرتها من الاستنكار، للغضب، للوم، وكادت تصيح وهي تدفعني عنها، «إوعى» وركبت السيارة مرة أخرى ودفعتني ثانية لتغلق الباب، وكأنها ستنطلق بالسيارة، رجعت لمقعدي ناظرا لها مبتسما؛ فقد أثارتني أكثر بسذاجتها، ومحاولتها التنصح بطريقة «الفلاح لما يتنور»، أغلقت بابي. - مالك بس، حصل إيه؟ - إيه يعني غشاء ومش غشاء؟ انت مش عارف إني كنت متجوزة وعندي تلات عيال؟
لم أضحك هذه المرة، بل ابتسمت لها بدفء قائلا: «لا يا ستي، انتي فهمتيني غلط، أو انا ماعرفتش أقول.» - هاتقول إيه تاني؟ ما بلاش ... - لا أنا كان قصدي إن جسمك حلو ومشدود ولين في نفس الوقت (قلتها ووضعت يدي على فخذها، وشعرت بيدي تحترق وبجسدها يذوب). - ما تقول لي جسمك حلو يا توحة وخلاص، إيه بقى لازمتها النظريات! ما تخليك دوغري كده واتعلمها من واحدة زيي مش متعلمة. - إنتي هاتعلميني الجنان. - وهو الجنان وحش يا أستاذ محمد؟ - لا يا ست توحة، لو منك يبقى مش وحش، أعمل فيكي إيه دلوقتي؟ نزلتيني في البرد دا بمنظري كده! - أدفيك، ووضعت يدها مرة أخرى فوق يدي. - وولعتي في عربيتي. - أطفيها. وأشعلت نيران الجحيم بنظرتها. - أعمل فيكي إيه؟ - بوسني.
تمنيت ألا تدرك ما أصابني به طلبها من ذهول، حاولت التظاهر بالثبات والتماسك، حاولت الرد أو التعليق، بلا جدوى، كم هي جريئة تلك المرأة! أتراها تعبث بي أو تتلذذ في رؤية تأثير ما تفعله في عيني؟ فهي لم تفلتهما من شباك عينيها ... لم تتركني كثيرا لحيرتي، وربما تعمدت إفهامي أنها تقرؤني.
ماتخافش، قالتها وهي تضع يدها فوق يدي المرتاحة المنسية فوق فخذها، شعرت بأنها أيقظتها من سبات عميق لتغطيها بلحاف وثير لا يقل نعومة ولا ليونة عن باقي جسدها. - هو باين عليا أوي إني خايف؟
بابتسامة عذبة ونظرة توسل: لا يا سي محمد، مش قصدي؛ دانا بتمنى اليوم دا من زمان. - اليوم اللي هنا ولا اللي مش هنا؟ (مبتسما بخبث.) - هانتفق، وهالبسلك اللي عمري ما لبسته، وهاطبخلك اللي عمرك ما أكلته، واسمعك اللي عمرك ما سمعته، وأوريك اللي عمرك ما شفته، بس انت مش هاتيجي (قالتها بنفس النظرة المتوسلة). - مين قال مش هاجي؟! (سحبت يدي من مرقدها معترضا.) - مش هاتيجي، أنا عارفة، أنا حلمت إنك مش هاتيجي. - حلمتي؟ خير اللهم اجعله خير (بتهكم لم أقصده). - هاستناك كل يوم تلات الساعة 11 الضهر لحد آخر تلات في عمري. - بعيد الشر، بس ليه التلات مش الأربع؟ - عمة «هاني» ابني بتيجي تاخده يشوف سته. - والنهارده الولاد فين؟ النهارده الجمعة. - عند ستهم كلهم (مسكت يدي وجذبتها لصدرها).
شعرت أنها تغويني بوضعها على نهدها القابل للانفجار بما لذ وطاب من فنون الهوى، لكنها وضعتها أعلى صدرها وركزتها على دقات قلبها هامسة لي: «اسمع، دا اللي مستنيك يا سي محمد».
لا أعرف كيف انتهى ذلك الموقف، أو كيف سحبت يدي، أو كيف تركتها تقبل يدي وتودعني خارجة من سيارتي المحترقة وكأنها تودع شهيدا في حرب القناة، وكيف اختفت ...
الرحلة
أسندت رأسي على المقود، وأنا أشعر بوخزة متقطعة في صدري، متعجب من تلك المرأة (توحة)، حاولت أن أغمض عيني، فانهالت على رأسي أشباح الأم وابنتها، حاولت تثبيت أي صورة لأقارنها ب «توحة» لكن الفارق صار أبعد بين الثلاثة، لماذا لم أسألها عن الحلم؟ لماذا لم أرجع معها ما دام أولادها ليسوا بالبيت؟ شعرت بألفة غريبة وقتها، لم أعد أراها كما اعتدت؛ فقد غمرتني بفيض آخر من المشاعر، شعرت بها تحتضن روحي بهدوء، لكن هناك شعور آخر يجتاحني الآن؛ الغيظ، نعم، الغيظ، فقد أشعرتني بأنني طفل تروضه، تقرؤني طول الوقت؛ بينما ظننتها تمارس فنون الإيقاع بابن الجيران كانت تقوم بتسويتي على نار هادئة، تمنح، وتمنع.
هل تملك حقا؟ وأين كنت أنا من كل هذا؟ هل كنت فقط المثقف المنحرف الباحث عن الخصوبة بين الطوائف الثقافية والاجتماعية المختلفة؟ وكيف تشعل سيارتي، فقط لأنزل لها؟ ما سر الحلم؟ هل كانت تحلم معي في الوقت نفسه؟ وبدأ الصداع يعربد برأسي.
محير هو الشعور بأن أكون صيادا وفريسة لطريدتي، رفعت رأسي وكانت الساعة جاوزت الحادية عشرة عندما رن جرس الهاتف. - أهلا يا عماد. - لا بقولك إيه، صوتك حزايني وبتقول لي عماد يبقى فيه مصيبة، الشغل باظ يا هندسة؟ - لا يا حبيبي كله بخير الحمد لله، إبراهيم مستني ابعتله عربية تنقل الشغل، انت عايزني الساعة كام؟ - لا انت مش طبيعي أكيد؛ «حبيبي!» و«انت عايزني الساعة كام؟!» انت اتربيت يا واد انت في سواد الليل؟! - هاكلم إبراهيم وأجيلك، سلام.
لا أعرف ماذا أصابني، قلة النوم والأحلام الغريبة، وحريق السيارة، وأخيرا «توحة»، والآن لا أطيق كلمة من أحد، لولا تعب «عماد» في استخراج التصاريح اللازمة للتصوير أمام قصر عابدين لكنت الآن ممددا في سريري و«توحة» ممددة لجواري. - سلام عليكم يا حاج إبراهيم، أخبارنا إيه؟ - جاهز يا باشمهندس، تبعت عربية ولا أجيب لك من عندي ؟ - هات من عندك، وادي السواق نمرتي يكلمني لما يقرب من منزل الدائري من الكورنيش عشان أقابله بالتصاريح عشان اللجان، قدامك قد إيه تقريبا؟ - نص ساعة تحميل ونص طريق؛ يعني ساعة يا باشمهندس. - على خيرة الله، سلام عليكم.
ما زال أمامي ساعة كاملة للوصول لكورنيش المعادي، تلفت حولي لأعرف الاتجاهات مرة أخرى، سأعود مرة أخرى وأمر بجوار نادي هليوبوليس، ثم بيت الرئاسة، وأنحرف لليمين، وأصعد كوبري السادس من أكتوبر ... أدرت السيارة وانطلقت بهدوء أبحث عن صوت فيروز؛ فهو أكثر ما أحتاج إليه الآن، «بعدك على بالي، يا قمر الحلوين، يا سهرة تشرين، يا دهب الغالي.»
أزاحت حجرا جاثيا من على صدري تلك الفيروز، وأخذت أغني معها وأنا أتحرك بالسيارة ببطء، أعبر بين بيت الرئاسة والقصر الجمهوري، ابتسمت لنظرات الحرس الرئاسي المرتابة في منظر السيارة ولم أتوقف عن الغناء، لكني عند المنحنى شعرت أن كل لجان المرور بالعاصمة ستلاحقني، سيارة قديمة مهشمة الزجاج الأمامي، يقودها رجل في أول الأربعينيات في شهر فبراير بقميص مفتوح ... كدت أنفجر من الضحك.
رغم الزحام الشديد من مخرج نفق العروبة، ومرورا بالصالة المكشوفة، وبانوراما حرب أكتوبر، وأرض المعارض، «نفسي اتفرج على بانوراما أكتوبر دي»، هكذا همست لنفسي؛ مهندس معماري ويعمل بالسينما، ولم يزر بانوراما حرب أكتوبر من قبل! عقدت حاجبي قليلا وأنا أعتلي كوبري السادس من أكتوبر الذي لا يعني الكثير، حتى رؤية مئذنتي مسجد النور بالعباسية لتبدأ سلسلة بانورامية لشارع رمسيس، وكلما اقتربت من غمرة أنظر لليسار، لأستمتع بمدرسة القلب المقدس، أحب جميع تفاصيلها، حتى المباني المستحدثة بها رائعة، وفتياتها بالتنورة المربعات الكحلية في الأزرق في الأبيض والقميص السماوي، أتذكر «سعاد حسني» وفيلم صغيرة على الحب، أستمر في متعتي الوحيدة أثناء الزحام.
الهواء البارد يضايقني؛ يشعرني بمقدمة احتقان لجيوبي الأنفية، «منك لله يا توحة ...» نفثتها مبتسما، مجنونة هي، لكنها جميلة، حاولت إغلاق قميصي قدر الإمكان «الله عليكي يا فيروز»، جااااااءت معذبتي، بغيهب الغسق.
تشاء الحتمية القدرية اليومية التوقف التام بين مسجد الفتح ومحطة مصر التي تفتقر تماما لتمثال رمسيس الثاني، الذي تم نقله للمتحف المصري الكبير، وكأن تلك البقعة من الكوبري هي بوابة العبور أو الانتقال من قاهرة لقاهرة أخرى، ونقف الآن على الحدود لتهب بي نسمة باردة رطبة بعض الشيء، لألتفت يميني على سيارة إنجليزية فارهة بغطاء مكشوف، عقدت حاجبي لفكرة كشف سقف السيارة في هذا الجو، حتى وقعت عيناي على مقودها الممسك بأصابع لم تتعرض أظافرها سوى للتقليم والرعاية طوال حياتها، لا أعتقد أن هذه الأيادي قد غسلت أي أطباق قط، أو حتى غسلت نفسها؛ فتلك الأيادي يبدو أنها تغتسل بحليب الماعز، ابتسمت لطلاء الأظافر الأحمر القاني، ورغم أنني لم ألتفت بعد لصاحبة الأصابع الحليبية، فإن الفارق واضح بينها وبين «توحة»، حاولت اختلاس النظر دون أن أحرك رأسي لتفاجئني ابتسامة جعلتني ألتفت برأسي ورقبتي ناحية هاتين الشفتين، لا أعرف كيف هبت رياح برية مشبعة برائحة التوت البري، والفراولة، والكرز، فأكاد أغمض عيني. لم أر عينيها، أميرة الغابات تلك، فكانت ترتدي نظارة شمسية تغطي نصف وجهها، لكن ما ظهر منه يبشر بالكثير، شعرت بأني في عجلة من أمري، وكأنني لص تلاحقه الشرطة، أحاول سرقة كل ما تصله عيناي دون تدقيق لأقوم بفرز السرقة في وكري السري، فرمقتها بنظرة فوتوغرافية سريعة، لم أبتسم حتى لابتسامتها المربكة، فلم أعرف أكانت لي، أم مجرد استهزاء بسيارتي المضحكة، أو ربما شفقة بكلينا، رفعت صوت فيروز قليلا متظاهرا بالاستغراق في الحالة الفيروزية، محركا شفتي دون أن أسمع أي شيء، فرأيت حورية الغابات تضحك، واضعة أناملها الدقيقة على ثغرها، فلم أفهم السبب حتى تحركت السيارات بالفعل، تحركنا جميعا سويا لكن قدرتها على الإفلات من الزحام كانت مميزة، ربما لا تقف تلك السيارات في الزحام، أجد عذرا شرعيا لكل من يلمحها في مرآة سيارته ويفسح لها الطريق، مهما كلفه الأمر من قطع طريق على سيارة مجاورة، أو التسبب في حوادث مريعة؛ فكل ما يتلبسه هو الإفساح لملائكة الرحمة بالمرور، فربما ستنقذ تلك الحورية ملايين الأرواح، أو ربما ستحصدها.
انفجرت في الضحك؛ فقد عرفت لماذا ضحكت الحورية؛ فقد كانت فيروز تردد «نادي لك يا حبيبي ما بتسمع لي ندا ...» وددت لو ارتديت قبعة لأرفعها للست فيروز، منقذتي دائما.
مررت بمستشفى السكة الحديد، ومبنى الأهرام، ونقابة المهندسين، وجمعية المهندسين بمبناها العريق، الذي يشبه من الأمام الطراز المملوكي، ومن الخلف عمارة المنمنمات الكنسية، ومع اقترابي من منزل ميدان التحرير، حاولت اختلاس النظر لغنيمتي التي ظفرت بها عند الحدود؛ امرأة في أواخر الثلاثينيات أو أوائل الأربعينيات؛ فنضارتها قد تخدع أعظم خبراء الجواهر؛ شعرها أسود قاتم تتخلله خصلات فضية اللون، كخيوط من النجوم الفضية تلمع في سواد الليل، شعرها كان طويلا؛ فما ارتاح منه على كتفها الأيسر كان يصل لفخذها، بشرتها بيضاء رخامية بلون الحليب الرائق، لمحت أيضا بنطالا جلديا أسود ضيقا؛ تبدو ممشوقة القوام طويلة العظام، يغطي صدرها قميص مجسم أبيض اللون، يظهر فقط ترقوتها، وسترة جلدية سوداء، تشبه السيدة القطة في الرجل الخفاش، جعلتني أتمنى لو كنت خفاشا، وتساءلت كم يكلفني قيادتها، لم أحاول أن أفصح لنفسي أكنت أقصد السيارة الفارهة أم الحورية الفارهة أيضا ... ابتسمت.
حمدت الله أنني لم أتجاوز المنزل، نزلت متدحرجا بسيارتي الحجرية، المهشمة، المحترقة، الجميلة، لأبتسم تحية للمتحف المصري، البديع مبناه الكولوني العريق، يعجبني كثيرا ثقته بنفسه، واسترخاؤه بقوة جاعلا حداثة مبنى هيلتون النيل، وأندلسية جامعة الدول العربية، مجرد خلفية متعادلة لعضلاته القوية الممسكة بميدان التحرير، حتى مبنى المجمع الأرت ديكو الفريد، الذي أشعره قد بلع مبنى وزارة الخارجية القديم، وزخارفه الباروكية الرائعة، استمر زحفي بجوار المجمع متخطيا مسجد عمر مكرم مجاهدا للوصول للكورنيش، وأخيرا اعتدلت موازيا لكورنيش النيل متجها لمطلع الكوبري الدائري باتجاه المعادي.
رغم ما أشعر به من برودة حادة داخل أنفي، فإنني لم أستطع مقاومة طقسي التقليدي بملء رئتي من هواء النيل، وابتسمت أثناء مروري بفندق جراند حياة، وبسفارة إيطاليا، وتذكرت كيف أعجبني ظهورها في مسلسل فارس بلا جواد. اقتربت الآن كثيرا من المكان المنشود، والآن يجب أن أطيل قليلا وأعاود أدراجي لأتوقف بجوار منزل الكوبري باتجاه ميدان التحرير مرة أخرى، وبالفعل وقفت قبل المنزل وأطفأت السيارة.
اقترب من السيارة مندوب شرطة، أو أمين شرطة، فلم أكن أعرف الفرق، جاء مبتسما، لافتا نظري أن الانتظار ممنوع في تلك البقعة، فبادلته ابتسامة مماثلة قائلا: إن ذلك ممنوع على السيارات، وما أقوده أبعد ما يكون عن كونه سيارة، فضحك قائلا إنني أستحق سحب السيارة، بسبب مخالفة الأمن والمتانة و... و... فقاطعته أن الرخصة أيضا منتهية منذ زمن غير معلوم، ونزلت من السيارة، وأعطيته سيجارة وأخذنا ندخن سويا، ونتجاذب أطراف الحديث، وأعتقد أننا صرنا أصدقاء إلى حد بعيد، وحكيت له أنني في انتظار السيارة المحملة بالمناظر الخشبية، والشيء الوحيد السليم معي هو تصريح مرور تلك السيارة في وسط العاصمة، موقعا من حكمدار مرور القاهرة، فشعر أنني شخصية مهمة رغما عنه، فلم يكن يبدو علي أي أهمية، فنصحني بعدم السير بسيارتي في وسط البلد؛ فحتما سيتم سحب السيارة. بدا لي كلامه مقنعا فطرأت لي فكرة، سألته عن اسمه فأجاب: «محسوبك عصام.» فسألته عن انتهاء ورديته، فأفهمني أن الموضوع يمكن تنسيقه لو: «سعادتي محتاج أي خدمة»، فعرضت عليه أن يحضر التصوير معنا، ثم نتعشى سويا بعدها، تهللت أساريره من فكرة حضور التصوير أمام قصر عابدين، لكنه حاول إخفاء سعادته باعتذارات همهمة غير مفهومة، فأصررت أن يكون ضيف التصوير اليوم، وهكذا صرت محميا بصديقي الجديد «عصام» من أنياب رجال المرور.
استأذن «عصام» أن يقوم بدورة في مكان خدمته للاطمئنان على استتباب الأمن على أن يعود إلي سريعا، فابتسمت واعدا بانتظاره، انكمشت بردا ملتفا حولي و«عصام» يبتعد.
اتصلت مرة أخرى بالحاج إبراهيم وأخبرته بمكان انتظاري، وطلبت منه أن يتصل بي السائق لأتابعه، تحسنت حالتي كثيرا، وشعرت بالبرد أكثر، فكنت أتحدث بالهاتف وأنا أتحرك بخطوة رياضية ممدودة، متابعا مجموعة من المحال التجارية المتنوعة جيئا وذهابا، مستمتعا بهوايتي في تسوق النوافذ.
قمت بمجموعة من الاتصالات لفريق العمل بالكامل، وتوقفت أمام نافذة لمتجر ملابس، ولمعت في رأسي فكرة شراء جاكت يقيني من البرد، ويستر قميصي المقلم قليلا ، لم أتردد كثيرا دخلت وعيني على جاكت من الجلد المقلوب بلون وبر الجمل، وجذبت معه كوفية من الكشمير الخفيف بلون يختلف فيه الأئمة من الزيتوني المطيف بسحابة زرقاء، قمت بقياس ما اخترته ولم أخلعه بل أعطيت البائع بطاقة ائتمانية، فخصم حسابه ووقعت له على الإيصال، وانصرفت في دهشة من البائع دفعته للخروج خلفي ومراقبتي وأنا أتحرك مرة أخرى ناحية السيارة.
كان «عصام» بانتظاري وبيده كوبان من الشاي المغلي قدم أحدهما لي، شكرته بحرارة؛ فهذا ما كنت فعلا أحتاجه، بدأت في الحديث مع عصام في أمور عامة، وسألته عن أحوال الدنيا، وبدأ عصام وكأنه ينتظر أي فرصة ليشكو أحوال الكون، فجميع الأحوال متردية، والراتب لا يكفي، ولولا «ولاد الحلال» و«الحسنات» التي يرزقه الله بها من هنا ومن هناك لكان مات جوعا من زمن، والضباط لا يرحمون ولا يدعون رحمة الله تحل بأحد، وكثير منهم يقاسمه «الرزق» الذي يتحصل عليه، وأنه يتمنى لو يتم نقله للمباحث؛ فبرغم أن العمل أكثر فإن الرزق أيضا أكثر وأكثر، كنت أبتسم من وقت لآخر متظاهرا بالتعجب تارة، وبالتأثر تارة أخرى، لكن في الحقيقة شعرت بالأسى لا لحال «عصام» بل لحال البلاد؛ فكيف أطلب ممن هو مثل «عصام» أن يوفر لي الأمان الذي يفتقده هو تماما، ليتحول زيه الرسمي بكل الهيبة النظامية «لعدة الشغل» التي يسترزق منها، فلا فرق فعليا بينه وبين أي مواطن يتحايل على الظروف ليلتقط فتات الرزق من هنا أو من هناك.
اتصل السائق «أبو ميار» ليخبرني أنه اقترب من منزل المعادي فأخبرته أن ينزل في اتجاه التحرير، وما هي إلا لحظات وهبطت سيارة نقل من الشاسيه الطويل بيضاء اللون، مكدسة بالمناظر الخشبية الملونة، دبابات ومدرعات ومدافع، كانت مصنوعة بمهارة، تخيلتها في موقع التصوير وأنا أراجع الإضاءة، بحيث تظهر مجسمة وطبيعية كالأبقار في فيلم الراقص مع الذئاب، وابتسمت ببعض الإطراء على نفسي «يعني هو كيفن كوستنر أجدع مننا في الإنتاج في إيه!» هكذا حدثت نفسي وأنا أتفحص المناظر، حييت «أبو ميار» وركبت السيارة وبجواري عصام الذي وضع كوبي الشاي على حافة الرصيف معللا أن صاحبهما سيجدهما، وانطلقنا في اتجاه ميدان التحرير.
أعطيت عصام التصريح وورقة بخمسين جنيها ليتعامل مع أي معوقات أمنية في الطريق. - إنت بتشتمني كده يا باشمهندس. - العفو يا عم عصام، هو فيه فرق بينا؟ بس عشان لو حد سخف تتصرف على طول. - لا معلش خلي الفلوس معاك ولما ماعرفش اتصرف هابقى اقولك.
ورفض تماما أن يأخذ النقود، ووضعها في منفضة الدخان وأغلقها عليها ومنتصفها في الخارج، كنت أعرف قدر حاجته للنقود لكنه أحرجني برفضه الحاد الغير قابل للتفاوض، فاعتذرت له بلطف مرة أخرى، وتولى «عصام» أعمال الملاحة فأمرنا بالانحراف في تفريعات جانبية وصولا لشارع قصر العيني، وعند إشارة مجلس الشعب بدأت المضايقات، فأوقف الركب رائد شرطة، فقفز «عصام» من السيارة وطلب مني عدم التحرك، وذهب للتحدث مع الضابط، وتصورت ما يقوله وهو عائد مبتسما بزهوة النصر، وركب جواري ثانية. - خيرا؟ (سألته مبتسما.) - خير إن شاء الله يا باشمهندس، الباشا بس هايطلع معانا بوكس، وهاييجي يوصيك على خدمة عند إسماعيل باشا - حكمدار المرور - هو فاهم إنك قريبه، الموضوع دا يهمه شخصيا.
رفعت حاجبي بتعجب ولم أنطق حتى رأيت الضابط يقترب مبتسما، فأظهرت الجدية الممزوجة بالغضب، فمد يده مصافحا: مساء الخير يا باشمهندس، ثواني بس هاطلع معاك عربية عشان التأمين لحد عابدين، وهاتفضل معاكم لحد ما ترجعوا إن شاء الله. - ربنا يخليك، أنا شاكر ذوقك الحقيقة، بس مش عايز أسبب أي إزعاج. - لا يا باشمهندس العفو، دا خط إسماعيل بيه أوامر، هو قريبك؟ - إسماعيل بيه ولا خطه؟ (ضاحكا.) - (ضحك بدوره) لينا عندك خدمة يا باشمهندس بس لما تخلص شغلك بالسلامة، أنا الرائد «عمر عبد السلام». - مهندس محمد أحمد، أهلا بحضرتك، ما تيجي تحضر التصوير معانا طيب، هاتنبسط جدا (وكأنه كان مترقبا لعرضي، تظاهر بالتفكير لأقل من ثانية واحدة، رفع جهاز اللاسلكي لفمه). - ألو عمليات، ألو عمليات، رائد عمر! - ابدأ الإشارة يا باشا (هكذا جاء الرد من الجهاز).
تحرك مبتعدا وهو يتحدث في الجهاز مشيرا لسيارتي حينا وللسيارة النقل حينا، وبدا عليه التوتر قليلا ثم تهللت أساريره وقفز بجوار السائق في سيارة الشرطة «البوكس»، ورجعت السيارة للخلف حتى أصبحت بجواري، وتعجبت من اختلاف نظرة الرائد «عمر»، فقد تبددت نظرة الود، وحلت محلها نظرة ميرية صارمة، «اديني رقمك يا باشمهندس» هكذا قال بصوت ثابت النبرة، أمليته رقم الهاتف بنبرة ثابته مماثلة، فأردف: «هارنلك، اطلبني، ولا مامعاكش رصيد ...» وضحك بصوت مرتفع وأنا مبتسم؛ فكنت أراه كمن مسه جنون العظمة بمجرد ركوبه سيارة الشرطة، وأجبته بابتسامة خبيثة: «من عينيا.» وانطلق الموكب مرة أخرى باتجاه ميدان التحرير، ولكن بترتيب مختلف: الرائد «عمر» يتصدر الموكب بصوت بوق الشرطة المميز، والأضواء الزرقاء أعلى مقصورة القيادة، يليه «أبو ميار» منتشيا، ثم سيارتي المحترقة وبها جلست أنا و«عصام» ندخن السجائر، سألته عن هذا الرائد. - دا مجنون يا باشمهندس. - مجنون ازاي يعني؟ - فاكر نفسه جيمس بندق (ضاحكا). - إنت قلت له إيه يا صايع؟
لمعت عيناه وكأنما أعجبته كلمة «صايع»: ليه بس كده يا «باشا»! مافيش والله، قلت له إني واخد التعليمات من إسماعيل بيه طوالي. - وهو كان بيكلم مين على اللاسلكي، هاتودينا في داهية يا أبو عصام! - (ضحك مقهقها متفاخرا) يا باشمهندس دا شغل رسم؛ عشان يبقى عمل واجب مع «إسماعيل» بيه، ماتشغلش نفسك يا باشمهندس، من دلوقتي الرائد «عمر» هو اللي سايق.
ابتسمت؛ فقد أعجبتني الفكرة ونحن نخترق وسط البلد، فلم نتوجه من باب اللوق بل من قصر النيل، موكب مهيب، سيارة الشرطة في المقدمة، يليها عربة «أبو ميار» المحملة بالمناظر الملونة، وتليها عربتي و«عصام» حامل التصريح، كانت يد الرائد «عمر» المرسلة خارج سيارته بجهاز اللاسلكي وكأنها عصا موسى التي تشق البحر، وتحيله أرضا ممهدة، لكننا لم نكن نعبر سيناء، ولم نكن بني إسرائيل.
كان الانتقال بين رحاب قاهرة الخديوي ممتعا، فلم يسبق لي التحرك في ركاب مذللة خطاه بهذا الشكل، عجبت من الفوضى التي يحدثها موكبنا، وعجبت لحد استخدام السلطة، ولا أنكر استمتاعي بها قدر استيائي منها. التصريح سليم؛ فبالطبع «شعراني» هو من أحضر التصريح كما يحضر كل ما نتمناه من أوراق رسمية، ابتسمت عندما تذكرته، وكيف كنت متشككا في التصريح يوم أخذته منه: «شكلك هاتسجنا يا أبو شعرة بالورق اللي بتجيبه ده!» كان هذا تعليقي وأنا أتفحص التصريح، فرد ضاحكا: «اتسجن انت بس وماتحملش هم.» ولكن التصريح لم يكن السبب الوحيد لتلك الرعاية المركزة لموكب «المحمل» الذي يختلف كثيرا عن كسوة الكعبة؛ فمحمل «أبو ميار» لم يكن سوى مناظر خشبية ملونة، كان وجود «عصام» ورغبته في التقرب لي بنحو إنساني هو العامل الثاني، لم يراودني شك وقتها أن القصة التي اختلقها «عصام» للرائد «عمر» هي العامل الثالث، أما أغراض الرائد «عمر» الغامضة فكانت العامل الرابع، لتأتي القصة التي يجب أن يكون اختلقها لتلعب دور عصا موسى في رحلتنا لاختراق الزحام، كانت العامل الخامس، لا أعتقد بأن أي مريض يحتضر في سيارة إسعاف قد يحظى بكل تلك العوامل، قد يفقد المريض حياته لكن لا يصح أن تتأخر المناظر الخشبية على الأستاذ «عماد».
لا أدري كيف وصلنا لميدان الأوبرا بتلك السرعة، وبدا تمثال إبراهيم باشا شامخا مستحوذا على الميدان بالكامل بحصانه الذي قضى به على الحركة الوهابية، وحمى إمارة الحجاز، وكاد يدخل الآستانة لولا تدخل سفراء أوروبا، وإقناع الآستانة بإبرام اتفاقية كوتاهية عام 1833م، والتي قضت بتثبيت ولاية محمد علي على مصر وكريت وسوريا، وتجديد ولاية إبراهيم باشا على جدة وإمارة الحجاز، مقابل تراجع الجيش المصري عن باقي الأراضي التابعة للأناضول؛ فصارت حدود مصر الشمالية تصل إلى مضيق كولك بجبال طوروس، ثم معاهدة لندن عام 1840م والتي صارت مصر بعدها حكرا على أسرة محمد علي، لكنها وضعت مصر تحت الوصاية الأوروبية أيضا، عظيما وقويا كان محمد علي.
لم أنتبه لمسجد الكخيا أو «عثمان كتخدا» بسلمه الحجري، دائما أشعر بأن هذا المسجد ما زال غير مكتمل التشطيب والدهان، وأني في يوم سأجد سقالات «المقاولون العرب» منصوبة، ويقومون ببياض جدران المسجد بالمصيص الرديء أو الجير.
اقترب الموكب من ساحة قصر عابدين ، وكانت الساحة مليئة بجموع لم أرها سوى في مظاهرات حركة «كفاية»، الفارق الوحيد أن جموع مظاهرات حركة «كفاية» مكونها الأساسي رجال الأمن، فكلما أرى مظاهرة أو تجمعا، أتذكر يوم أن رأيت بجوار مبنى وزارة الداخلية مشروع مظاهرة، لم أر المتظاهرين بالفعل، فقد رأيت لافتات، ويخفيهم آلاف مؤلفة من رجال مكافحة الشغب، فكانت النسبة تقريبا ألف جندي لكل متظاهر، وكان تعليقي يومها أنها: «مظاهرة رجال مكافحة الشغب ضد حركة «كفاية»»، أما التجمع الذي أراه كان كله من المدنيين ومجموعات الكومبارس بالزي الحربي البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، لمحت بعض الجنود الكومبارس يرتدون ملابس الجيش الألماني، فطلبت من «عصام» أن يذكرني بالجنود الألمان، فاندهش قائلا: «ألمان؟» فقلت له: «ماتشغلش بالك بس قوللي ماتنساش العساكر الألمان»، فوافق مضطرا ومستاء.
اقتحم الموكب الساحة ببوق الشرطة، بعض الهرج والمرج، توقف الموكب وجرى بعض الجنود النظاميين، وتحرك نقيب شرطة مقتربا من سيارة الرائد «عمر»، الذي قفز من سيارته، ومشيرا بحركة بيده بحدة ناحية «عصام»، فقفز «عصام» بدوره من سيارتي وهرع للرائد «عمر» معطيا إياه التصريح السحري رافعا إياه في وجه النقيب، نزلت من السيارة في محاولة لمعرفة ما يحدث فلم أكن قريبا بدرجة كافية لمعرفة ما يجري.
اعترضت طريقي يد ممتدة فعرفت تلك الساعة الرقمية العتيقة، والتي يملكها «أبو علي» منذ الدراسة الثانوية من الساعات «الكاسيو»، التي كانت هدية المدرسين العاملين في الخليج لأقاربهم في الثمانينيات. - خير يا هندسة إيه الزفة دي؟ - موضوع كبير، بس تعالى نشوف بيقولوا إيه.
تأبطت ذراعه وأنا أقترب من الحوار الذي عرفت أن سيادة الرائد «عمر» قد تولى قيادة قوات الشرطة المسئولة عن تأمين الموقع أثناء التصوير، وأصبح النقيب الذي لم أعرف اسمه، وسيارته المحملة بقوات مكافحة الشغب أو الأمن المركزي تحت إمرته، و«عصام» أصبح ساعده الأيمن؛ فقد اختفى للحظة وعاد وفي يده كرسي للباشا قائد القوات. - ما تقلقش يا باشمهندس، الرجالة هايفضوا المكان حالا عشان تنزلوا الماكاتيات بتاعتكم، مش بتقولوا عليها ماكيتات برضو؟ (ضحك الضحكة نفسها البلهاء.) - ربنا يخليك ، إنت أنقذتنا فعلا، كان مستحيل نوصل في الميعاد ده. - ماتنساش بقى تقول «لإسماعيل باشا» (مقهقها مرة أخرى). - من عينيا، دا هايقدر جدا اللي سعادتك عملته معانا.
جذبت «أبو علي» وهو على وجهه كل علامات الذهول؛ فعادة كان يقوم بهذا الدور وتلك الاتصالات «شعراني»، وكأنه سمع اسمه في خاطرنا - وأقصد «شعراني» - كان بالفعل قفز بيننا وسألني عما يحدث، فحكيت لهما فيما بعد مقابلة «عصام»، وأرجأت قصة «توحة» لوقت الرواق، وحين أتممت قصة الرائد «عمر» ومعاونه الجديد «عصام»، حتى انفجر «شعراني» في الضحك قائلا: «كدة اليوم اتظبط ...» قاطعته: «يوم إيه اللي اتظبط؟ وإيه سر «إسماعيل» باشا؟ دا ولا الخديوي إسماعيل في زمانه.» - تفتكر الخديوي إسماعيل يعرف يعمل ربع اللي يعرف يعمله «إسماعيل منسي»؛ دا حكمدار مرور العاصمة، انت بتهزر؟ - والتصريح إيه اللي فيه عشان عم «عمر» يحول النقلة لمشروع قومي يعني؟ - ماتفهمش انت يا هندسة المواضيع دي، اعتبرها بروتوكولات مصالح. - المهم ماتوديناش في داهية يا أبو شعرة. - لا ما تقلقش، المهم نفطم «عماد» يكبرك بس قدام الراجل عشان الدور يتسبك.
كان عماد يجلس على كرسي الرحلات، بقماش الخيام المشدودة على القوائم الخشبية، والمكتوب على مسنده من الخلف «المخرج»، وبيده مكبر الصوت، وفي رقبته معلق تليفونه المحمول وساعة رقمية، لم يكن واضحا مكانه في البداية، لكن مع تحركات أكثر من مائة جندي بملابسهم السوداء، وإخلاء الساحة تقريبا، لم يبق سوانا، ومجموعات الكومبارس، وفتح الطريق «لأبو ميار» الذي كان مذهولا مما يراه، وشعر أن الحاج «إبراهيم» يعرف عظام القوم ممن تفتح لهم الطرق، ويصطف لهم رجال الشرطة.
كان يحاول الإشارة لي وهو يفك الحبل السميك (سلبة) الذي يربط حمولة السيارة، ففهم الرائد «عمر» من إشارته أنه يسأل من سيقوم بإفراغ الحمولة، وبحركة أخرى من يده - أقصد الرائد «عمر» - للنقيب الذي لا أعرف اسمه، ويبدو أن تلك الإشارات يتم تدريسها في وزارة الداخلية؛ فقد فهم النقيب الإشارة وقام بإشارة أخرى تختلف عن الأولى لجنوده، فهجم مجموعة على السيارة، واستوقفت مجموعة أخرى إشارة صارمة فهمناها جميعا ، أسرعت بالتحرك ناحية السيارة لكن الرائد «عمر» أوقفني قبل الوصول إليها، طالبا مني ألا أقلق، وأنهم سينزلون كل شيء، ويرصونه مكان السيارة، ليتم ركن السيارة بجوار سيارات الجنود؛ «عشان نروق المكان» على حد قوله.
جاء «عماد» قاطعا المسافة بصراخه التقليدي، ومكبر الصوت في يده اليمنى، وملف تحت إبطه الأيسر، ويبدو أن «شعراني» قد أفهمه الوضع؛ فبدلا من تذمره المعتاد في مواقع التصوير فاجأني بابتسامة خبيثة ما بين الاحترام والحنق، مد يده مصافحا. - نورت يا باشمهندس محمد. - أهلا أستاذ عماد. أستاذ عماد المخرج (موجها حديثي للرائد «عمر»). - أهلا أستاذ عمر (ومد يده مصافحا ونظر إلي). - عمر بيه ضيفنا النهارده يا أستاذ عماد، يا ريت بقى تبيضوا وشنا معاه. - يا باشمهندس ضيوفك ينورونا. دي التصاريح بتاعة التصوير ودخول القصر وكل الورق (مد يده اليسرى بالملف الذي كان يحمله). - تمام، تمام (هكذا رددت بلكنة متعجرفة وأخذت الملف).
مرة أخرى شعر الرائد «عمر» بهيبتي، واستأذنته لمباشرة توزيع المناظر، وانصرفت مع عماد الذي كان يتوعدني همسا، مكررا أن الدنيا يومين، أكثر من مرة، فتركته وأخذت «حسن» وبدأت في ترتيب المناظر في أماكنها في ذهني أولا، جميع المناظر خارج سور القصر فقط ستدخل سيارة المندوب السامي البريطاني والذي سيلعب دوره «حسام فوزي»، انتبهت فلم تقع عيني على السيارة، أسرعت «لعماد» مرة أخرى عند كرسيه، وسألته عن السيارة فرد بأنها في الطريق وأنني المسئول وليس هو، بضحكة مستفزة. فقلت: «بلاش السواد دا يا ابن السعاتي.» فضحك قائلا: «صبرك عليا يا هندسة لما نخلص، ربنا يستر واليوم يعدي على خير.» - أنت قلقان يا عماد ليه؟ إن شاء الله خير لا أول ولا آخر فيلم يا فنان. - مش عارف، مش متعود على الزحمة دي، والمكان حساس أوي، والمعدات كلها متأجرة. - ما هو كل شغلنا بمعدات متأجرة، هانمثل بقى ولا إيه؟
ضحكنا مرة أخرى، وأخذت منه كل التعليمات الخاصة بوضع المناظر، وانصرفت وطلبت من «حسن» أن يلازمه، ويزيل حدة توتره، وبينما أبحث بعيني عن شعراني، جاءت السيارة «الأوستن» السوداء موديل 1942، برغم أنني تمنيت سيارة «رولز رويس» لكن ما باليد حيلة.
الرواية
لم أستغرق الكثير من الوقت في نشر المناظر في أماكنها، بينما كان «حسن» يقوم بدور مساعد المخرج؛ فنحن عادة نقوم بكافة الأدوار سويا، ولا نلتزم بهيكلة الأمور، فقط توزع المسئوليات الرئيسية ثم ينطلق الجميع، عدت لأجلس بجوار «عماد» و«حسن»، وثوان وانضم إلينا «شعراني»، كان «حسن» قد رتب المجموعات، ولاحظ العساكر التي ترتدي الزي الألماني، واستبعدهم من التشكيل، وبدا موقع التصوير كموقعة حربية على وشك اندلاع نيرانها.
لم يأت «شنن» التصوير بحجة وهمية؛ أن صديقته في فترة «التبويض» وفرصتهما للإنجاب تحين وقت التصوير، في الحقيقة ليس له صديقة من الأساس، ولكنها الحجة التي نعتاد أن نطلقها للاعتذار عن حضور أي حدث، وكل مرة يختلف الطرف الآخر «صديقة، زوجة ...» حتى إن «شعراني» مرة قال: «معلش يا جماعة، مش هاقدر آجي؛ خالتي في فترة التبويض ...» فقاطعناه تقريبا جميعا «وانت بتخلص الورق لجوز خالتك؟» وصارت من قفشاتنا أو لعناتنا الحقيقة، ورغم أن «شنن» له العديد من الأشعار الغنائية في هذا الفيلم إلا أنه لا يحضر التصوير أبدا؛ والسبب أنه لا يشعر بالراحة في الزحام ولا يتحمل الضوضاء.
جلسنا جميعا نراقب الموقع، كل شيء في مكانه، حتى قوات مكافحة الشغب والرائد «عمر» قائد القوات يشرب القهوة وبجواره «عصام» بكوب الشاي، ويبدو أنه يروي له مغامراته في أدغال مكافحة الجريمة المنظمة، و«عصام» يلعب دور المندهش ببراعة، والجميع في انتظار اختفاء قرص الشمس وحلول الظلام.
جذبت نص الرواية الأصلية للفيلم والذي لم ينشر؛ فقد كتبه «حسن» خصيصا للفيلم «عابدين 4 فبراير - رواية فيلم لحسن عبد السلام»، هكذا قرأت ما كتب على الغلاف الكرتوني الذي يشبه ملفات الرخص بإدارات المرور، ولا ألاحظ أي اختلاف في خط الكتابة ذاته، أخذت أقلب في الرواية رغم أني قرأتها عدة مرات، لكني من المعجبين - بل أشدهم إعجابا - بأسلوب «حسن» في فرض وجهة نظره، وإثباتها ببراهين لا تقبل الشك، وأيضا والأدهى هي وجهة نظره ذاتها، الرواية مقتبسة من مذكرات سير «مايلز لامبسون» للأيام الأربعة الأولى من شهر فبراير عام 1942، في البداية تعجبت من فكرة أن مذكرات أربعة أيام قد تكون كافية لأحداث فيلم، لكن حين قرأت المذكرات الأصلية، عرفت أنها قد تحتاج لعدة أجزاء؛ فسير «لامبسون» أو اللورد «كيلرن» كما أطلق عليه بعد حصوله على لقب فارس من الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، كان رجلا لا يستهان به، ويعد من أفضل من خدموا الإمبراطورية، ومن أول من أدركوا أن الإمبراطورية لها مصالح، وليس لها أصدقاء.
كان يشير للملك «فاروق» دوما في مذكراته بلفظ «الولد»، بينما كان الملك «فاروق» يذكر «لامبسون» في أحاديثه بلفظ «جاموس باشا»؛ ربما بسبب ضخامته؛ فكان طوله 192 سنتيمترا وليس نحيفا على الإطلاق، فاستحق وعن جدارة لقب «جاموس باشا».
كانت معاهدة 36 هي جذور حادث الرابع من فبراير، والتي أصر الإنجليز أن يحضر مباحثاتها كافة الأحزاب، عدا الحزب الوطني، الذي أطلق شعار «لا مفاوضات قبل الجلاء»، ووقع المعاهدة عن الجانب المصري «النحاس باشا»، وكان رئيسا للوزارة وقتها، وعن الجانب البريطاني سير «مايلز لامبسون» بوصفه المندوب السامي البريطاني، وبعد إقالة وزارة «النحاس» بعد عام واحد من المعاهدة، وتكليف «محمد محمود باشا» بتشكيل الوزارة، وهو أول تكليف يقوم به الملك «فاروق»؛ فتكليف «النحاس» جاء من الملك «فؤاد»، أزعج الإنجليز قليلا إقالة وزارة النحاس في البداية، لكنهم استحسنوا الفكرة حتى لا تقوى شوكته على حد تعبير «لامبسون»، وتوالت الوزارات من عام 1937م وحتى عام 1942م، فجاءت بعد وزارة «محمد محمود» وزارة «علي ماهر باشا»، ثم وزارة «حسن صبري باشا»، تليها وزارة «حسين سري باشا»، والتي تعتبرها إنجلترا من الوزارات المتفهمة لمصالح الإمبراطورية، وحين تم إقالتها، واستدعاء «علي ماهر» مرة أخرى لتشكيل وزارة لم يعجب «لامبسون» الأمر، وشعر بتهديد لمصالح الإمبراطورية؛ لكون «علي ماهر» على اتصال بدول المحور، مما يعد خرقا لاتفاقية 36، وأن «النحاس» هو أفضل من يتفهم تلك البنود في الوقت الراهن.
وكانت مذكرات «لامبسون» تضع وصفا دقيقا لما فعله خلال الأيام الأربعة من شهر فبراير، واستلهم «حسن» تلك الرواية منها، ومن بعض التقارير الأسبوعية التي كان يرسلها «لامبسون» للإمبراطورية، والتي كانت لها تركيبة ثابتة، تبدأ بما فعله بملاحظاته طوال الأسبوع، بما في ذلك الإشاعات التي سمعها، ثم تقرير «والتر سمارت»، المستشار الشرقي للإمبراطورية، ثم تقرير السير «كين بويد»، وهو آخر مستشار إنجليزي لوزارة الداخلية المصرية، وفي كثير من الأحيان كان يرفق تقرير «روبرت فيرنس»، وهو المشرف على الإذاعة، والجرائد، والبريد، والمكالمات الهاتفية التي يتم التنصت عليها من غرفة خاصة بمصلحة التليفونات المصرية بشارع «الملكة ناظلي»، والمعروف بشارع «رمسيس» حاليا.
لم تكن قراءة «حسن» للمذكرات هي المبدعة، بقدر ما أظهره من قدرة لا يستهان بها على إظهار مواطن الضعف والقوة في الشخصيات المشتركة في ذلك الحدث، ولم يغفر للنحاس قبوله تشكيل الوزارة بالدبابات والمدرعات الحربية البريطانية.
صاغ حسن الرواية من خلال رحلة لصائد سمك من بورسعيد، جاء ليطلب من الملك أن يبعد عنه وقريته أذى الجنود البريطانيين، فيأتي «سيد دنيس» وهو اسم بطل الرواية، وأسماه «دنيس» لكون هذا النوع من السمك يمكن اصطياده بدون وضع أي طعم في السنارة، ورغم حلاوة طعمه إلا أنه معروف بالغباء، وقلة البخت.
فيأتي بطلنا هذا إلى القصر، فيجد الملك نفسه يتعرض لمضايقات الإنجليز، فيعود أدراجه، كنت أقلب في الرواية حتى وصلت لأغنية الختام التي صاغها «شنن» بروعة يحسد عليها.
حبيبتي تعبت من تعبك
ومش قادر أجافيكي
وأقول يا رب يشفيكي
يا ريت العلة جت فيا
ومش فيكي
يا ريت الروح بتتخصخص
وريش القلب يتقصقص
ولا يعلا علم غيرك في أراضيكي
يا ريت يا حبيبتي كان ليا
من بعد الحب والنية
مليون شراع على شراعي
مليون دراع على دراعي
واهد الذل من دارك وأبنيكي
قال الزمان عني
إني ماليش فيكي
حاير ماليني الخوف
من غير نسب معروف
لا صيف قادر أكون ضلك
ولا في البرد ادفيكي
قولي يا مصر إني ابنك
لحم كتافي من تمرك
ودم عروقي من نيلك
ولو ماقدرش على حبك
كفاية أموت، أموت فيكي.
كنت أقرؤها، ويتردد في أذني صوت الشيخ «عبد الكريم» المنشد الذي عثر عليه «عماد » في أحد الموالد وأعجبه صوته، وأصبح ملازما لأفلامه، ورددت بصوت عال باللحن «كفاية أموت، كفاية أمووت، أموت فيكي» أفقت من حالتي حين سمعت صوتي فنظرت حولي فوجدتهم ينظرون مبتسمين جميعا، واختفت الشمس.
انقلاب
تولى «عماد» من هنا زمام الأمور، وبدأ بالصياح بمكبر الصوت الذي وددت دوما معرفة من أين ابتلانا به. «مكيااااج! ملاااابس ...» والجميع يجيب: «تمام»، جميع الممثلين في أماكنهم، «حسام فوزي» في السيارة (سير مايلز لامبسون)، «أحمد بيومي» بملابس الصيد البورسعيدي (سيد دنيس)، كان المشهد بسيطا جدا؛ السيارة تصل لباب القصر الخارجي وتقف، وينزل منها سير «مايلز لامبسون» من زاوية رؤية «سيد دنيس» والباقي حركة الكاميرا بين جموع المناظر الخشبية للدبابات والمدرعات والمجنزرات البريطانية وسط عسكرهم، «إضاءة ...»
وحبس الجميع أنفاسهم «أكشن».
صار كل شيء حسب المخطط له، ونزل سير «لامبسون» ووقف أمام الباب الحديدي، وبدأت الكاميرا في التحرك واستعد «دنيس» للدخول في المشهد، وحدث ما لم يكن مخططا له.
فتح الباب الداخلي للقصر، وخرج منه مجموعة من الجنود بملابس الحرس الجمهوري، وهرعوا للباب الحديدي، قطعوا المسافة تقريبا في «لا وقت»، حاملين بنادقهم، تسمرنا جميعا، و«عماد» رافع يده للكاميرا كي لا يتوقف المصورون عن التصوير، وصل الجنود سريعا للباب الخارجي وفتحوه أمام ذهول الجميع، وذعر «حسام فوزي»؛ فهو حقا لم يكن المندوب السامي البريطاني، فنظر «لعماد» وأخذ يتلفت بين الجنود و«عماد» تحركنا أنا و«شعراني» سريعا، ونظرت للرائد «عمر» أملا أن يتحرك بدوره فينقذنا مما وقعنا فيه، ولم ندركه بعد.
يبدو أن نظرتي متعارف عليها في علوم الاستغاثة الأمنية، فتحرك الرائد «عمر» سريعا أيضا، وتحدث أحد الجنود ويبدو أنه قائد تلك المجموعة: «مين صاحب الحاجات دي؟» وهو يشير للمناظر الخشبية، حاول «شعراني» إخباره بأننا نحمل جميع التصاريح، وتم تسليم نسخة منها للديوان الرئاسي، لكن يبدو أن قائد المجموعة يفقد القدرة على السمع بشكل متعمد، فلم يصغ له ولا للرائد «عمر» حتى صاح الأخير في قائد المجموعة، ويبدو أنه يعلوه رتبة: «الباشمهندس صاحبها، خير يا حضرة الظابط فيه إيه ؟» وأشار إلي.
تماسكت منتظرا رده لنعرف حدود جريمتنا، لكنه لم يجب بل أشار لجنوده، والتفت وأشار مباشرة نحوي، فهرعوا جميعهم في اتجاهي مزيحين «شعراني» والرائد «عمر» نفسه، وأحاطوني بصفين وقائدهم يتوسطهم ويقف أمامي، وأشار لهم مرة أخرى فألقوا ببنادقهم على الأرض.
صاح الرجل بشكل مسرحي: «قيادة سرية حراسة القصر الجمهوري تعلن استسلامها وتسلم سلاحها»، وختم عبارته بوقفة عسكرية منضبطة، وأدى التحية العسكرية، وأنا متحجر الملامح من الذهول والذعر، وتبدلت رغبتي العارمة في الضحك من تلك الحركة المسرحية التي أظنها بالفعل «حركة» قام بها «شعراني» إلى التجمد أمام صرامة ذلك الرجل، ويبدو أنني لم أكن المتجمد الوحيد، بل كانت سحابة من عدم الفهم ألقت ثقلها على المكان، ولا أعرف كم مضى من الوقت منذ تم ضغط زر إيقاف الصورة؛ فالجميع ثابتون بالفعل كما تتوقف صورة على شاشة العرض.
لمحت الحركة الوحيدة في المشهد عند الباب الداخلي للقصر، الذي خرج منه رجل متأنق وتحرك بعكس الجنود بخطوة منتظمة، غاية في الرسمية، تتناسب مع حلته السوداء وحذائه اللامع، وحين تعلقت عيني به تحولت كل الأنظار إليه، كما لو كان «شمبليون» الذي سيقوم بفك طلاسم الموقف لنا، مضى الوقت بطيئا جدا حتى وصل إلينا، تنحى الجنود قليلا في احترام لهذا السيد المبجل، والتفت له قائدهم، ومال عليه، لا أعرف ماذا قال له، لكن بدا على السيد المبجل علامات الفهم فتقدم نحوي ومد يده مصافحا: «محسن رضوان، رئيس ديوان رئيس الجمهورية.» فمددت يدي بتلقائية: «محمد عبد الفتاح، مهندس معماري.» ابتسم الرجل ابتسامة خبيثة، كما لو كان يريد إخباري بأنه يعرف أنني كاذب، فرفعت حاجبي وأومأت برأسي منصتا لما سوف يقوله، فشعر الرجل بالحرج. - أنا باستأذن من معاليك إن الريس يتحرك لبيته في عربية الرياسة لحين النظر في موضوع نقل السلطات ...
علت بعض الهمهمات من حولي، وكدت أفقد الوعي من شدة غبائي، فلم أفهم أي كلمة مما قال؛ من هو ذلك ال «معاليك» الذي يقصده؟ ولماذا يحتاج الرئيس إلى إذن؟ وماذا يقصد بنقل السلطات؟ أي سلطات ؟
بدأت أشعر بالدوار، فتلفت حولي لأرى أنني أقف في مركز دائرة من جنود الحرس الجمهوري، تكبرها دائرة أخرى من قوات مكافحة الشغب، وبينهما يقف الرائد «عمر»، وبجواره «عصام» و«شعراني» و«حسام فوزي» و«عماد»، ثم دائرة أكبر من الكومبارس بملابس الجيش البريطاني، فدائرة أكبر من قوات مكافحة الشغب مرة أخرى، بينهما النقيب الذي لا أعرف اسمه، و«حسن» و«أحمد بيومي»، ثم جموع من العامة الذين كانوا يشاهدون التصوير، كانت إحدى اللوحات المرسوم عليها دبابة قد سقطت من تلك التحركات محدثة دويا بدا مريعا في ظل الصمت المطبق على المكان.
التفتنا جميعا بلا استثناء إليها، فإذا «بأبو ميار» يقفز لينقذها، وتسارعت كافة الأحداث، السيد المبجل يقول: «أنا منتظر رد معاليك»، الرائد «عمر» يشير للنقيب، النقيب يشير لجنوده، يهجم الجميع على «أبو ميار» ويوسعوه ضربا مبرحا، وهو يصيح: «الحقني يا ريس، الحقني يا ريس!» وكأنه أطلق الكلمة السحرية.
الرائد «عمر» يقتحم المسافة بيني وبين السيد المبجل، بينما السيد المبجل ينسحب قائلا: «الرسالة وصلت.» يستوقفه الرائد «عمر» قائلا: «الريس (مشيرا إلي) هايديكم ساعتين تسلموا القصر، وممكن تتحركوا بعربيات الرياسة، وعربيتي هاتطلع معاكم، و...» لم أتمالك نفسي فسقطت مغشيا علي وأنا أسمع همهمة تحولت لصراخ: «الريس وقع، الريس وقع.» وشعرت بمن يحملني وفقدت الوعي.
رحيل الملك
كانت السماء صافية جدا، وصبغت الشمس بأشعتها كل شيء بهالة ذهبية، تمتد خيوطها لتستقبل الملك في رحلته الأخيرة، ما زال الكهنة في غرفة التحنيط بالمعبد الكبير يلفون الكتان المعطر والخيش الناعم، يضعون اللمسات الأخيرة بعد أربعين يوما من الانتظار، آلاف «الأوشباتية» تملأ بيت الأبدية حيث سيرقد جسد الملك، هذا سيعد الخبز، وهذا سينقي العسل، وهذا خادم النبيذ، تلك من ستقوم بالعزف، فالملك يرق قلبه كثيرا لعزفها، أما تلك فهي راقصته المفضلة.
الكاهنات ما زلن يلعبن بأوتار قيثاراتهن، وكبيرتهن ترثي ملكها برقصة وداع، تتضرع فيها لآمون أن يحفظ جسد ملكها، وألا تضل الروح طريقها، سترشدها بإيقاع خطواتها إلى حيث يرقد الملك، تسجد ل «أنوبيس» وتعده بأن تهبه نفسها، لو أنار قبر الملك وحماه من «ست»؛ ذلك الإله المظلم القلب الذي قتل «أوزوريس»، وفقأ عين ابنه «حورس»، تقدم ابتهالاتها لتاسوع هليوبوليس المقدسة، ثم تتمدد على الأرض بجسد مشدود، يغطيه الكتان الأبيض الناعم، ليدخل ثمانية من الكهنة يتقدمهم الكاهن الأعظم، يرتدون أقنعة ذهبية للتاسوع المقدس، ويسكبون على الكاهنة الممدة الماء، والعسل، والنبيذ، والدم، والحليب.
تأتي مجموعة أخرى من الكهنة بأقنعة أنوبيس، لتلعق جسدها، والمعازف تصدح أوتارها، والأبخرة المقدسة تملأ القاعة الأخيرة، أمام قدس الأقداس، وبجوار غرفة التحنيط، ويستمر الطقس ليتحول من الابتهال لصرخات الاستغاثة، وينتهي بقربان للإله «ست»؛ فتاة عذراء، لا تكاد تبلغ التسعة أعوام، يتم نحرها على مذبح صغير، ويتقدم الجميع ووجوههم مغطاة بالأقنعة، ليتذوقوا دماءها، طقس غريب، أثار هلعي، مما أثار بعض الشكوك، فلم أتحرك نحو المذبح مع الباقين، وتوجه بعض الأنظار من خلف الأقنعة نحوي، وبرغم كوني محتميا بقناع ذهبي أيضا، إلا أنني شعرت بالنظرات تنهشني، وفكرت في الهرب من القاعة، بالفعل بدأت في التحرك ببطء شديد للخلف، إلا أن دقة قوية من صولجان الكاهن الأعظم بالأرض قد سمرتني بمكاني.
اقترب مني قليلا وقرع بصولجانه الأرض مرة أخرى حتى أتبعه، فتحركت خلفه في الجهة المقابلة لغرفة التحنيط بشكل عمودي على المحور الرئيسي للمعبد، وما إن قطعنا بهوا صغيرا للأعمدة حتى دلفنا يسارا، وعبرنا أحد الأبواب السرية التي فتحها بعدة قرعات على الأرض بصولجانه، فانزلق الباب يمينا مفسحا لأحدور صغير تظهر في نهايته المشاعل، وسمعت صرير الباب وهو يغلق من خلفي، وصلنا لبهو صغير، تتوسطه مصطبة مرتفعة تشبه مصطبة التحنيط، وأشار لي أن أجلس في مقابلة المحراب الذي يقابل المحور الطولي للمصطبة، جلست على مصطبة حيث أشار، وأعطاني ظهره متوجها صوب المحراب.
ألقى ببعض عيدان الصندل على مبخرة ضخمة أسفل المحراب، وبدأ في تلاوة صلوات يبتهل فيها للعفو عن المخطئ، وبأنه سيعود لطاعة «آمون»، فما زال الصراع الأبدي بداخل المخطئ بين «الكا» و«البا» - أي القرين والروح الحرة بين العوالم - وعلت نبرته قليلا وهو يسأل «آمون» أن ينير ل «البا» طريق العودة، ثم التفت ليواجهني وأشار لي أن أرفع قناعي فرفعته دون تردد، أخبرني بأن الملك سيرحل اليوم ويجب أن أستعد للتتويج، أظهرت تعجبي؛ فوريث الملك وزوج ابنته هو من يجب أن يتوج على عرش البلاد، لكن الكاهن الأعظم كان له رأي مختلف، فابن الملك ووريثه يريد أن ينقل العاصمة من طيبة لمنف ويرحل معها الذهب، والجيش، وتهجر معابد «آمون» وتحل اللعنة بالبلاد كما حلت كلما ابتعد العرش عن طيبة.
لم أفهم لماذا اختارني أنا؛ فأنا لست أكثر من مهندس صغير بالبلاط، ولم أصمم سوى معبد صغير للملكة الأم، وضعت فيه كل ما تعلمته من فنون العمارة، والفلك، لكن لا أدعي بأني الأفضل؛ فهناك من هم أبرع مني بكثير، كما أنني لم أكن من المخلصين ل «آمون»، أو غيره من الآلهة، فكنت كثيرا ما أخالف المتون بيني وبين نفسي، ولم أشارك في أي من الطقوس الجنزية، أو صلوات تقديم القرابين كالتي كدت أهرب منها اليوم؛ بالطبع لم أكن الشخص المناسب لما يريده كبير الكهنة، ولا أعرف كيف سيتم الأمر في اعتقاده، لم يتركني كثيرا لصمتي بل أشار في الجهة المقابلة للمدخل، بأنني سأقيم هنا حتى تحل بي بركة «آمون» أو لعنته، وستكفلني بالرعاية كبيرة الكهنة وخادمة آمون، وأنني غير مسموح لي بالمغادرة قبل حلول «خنسو» - القمر - مرة أخرى؛ أي بعد ثمانية وعشرين يوما من الآن، أطلق كل أوامره كما لو كانت لعنات يلقيها إلي ثم انصرف.
ظللت أراقب سحابات الأبخرة قليلا ثم قمت لأتفقد مقر إقامتي، فوجدت أحدورا آخر عند مخرج البهو حيث أشار لي، يفضي إلى غرفة يحيطها ثلاثة أروقة، بأحدها سرير من الخشب المذهب على اليمين، ويقابله مغطس من الحجر مليء بالمياه المعطرة، وتسبح فوقها أزهار البردي، وورد النيل، وبأحد جدرانه يوجد باب آخر، يفضي إلى حمام بقاعدة حجرية، وبجواره قوارير المياه، وفي الجهة الثالثة المواجهة لمحور الدخول، يوجد رواق به مجلس من مصطبتين متقابلتين، وفي المنتصف يوجد باب، حاولت فتحه ولكن لم أتمكن فعدت حيث السرير الخشبي، ضربته بكف يدي مرتين لأشعر بالأحبال الكتانية المشدودة، ثم جلست عليه لتتحول جلستي لتمدد.
وضعت كفي أسفل رأسي، وواجهت السقف البديع المزين بقرص الشمس الذهبي وأجنحة «إيزيس»، ابتسمت مليا عند ذكر «إيزيس»؛ فدوما أتذكر كبيرة الكهنة «ابنة تحوت» أو ابنة القمر.
لا أعرف إن كانت نظرتي لها قد تغيرت بعد ما شاهدته اليوم من طقس جنزي لتقديم القرابين، ورؤيتي كل هؤلاء الرجال والنساء يلعقون جسدها المقدس، ويرشفون الحليب، والنبيذ، والدم من فوق جسدها، وهي ثابتة لم يرتعش جسدها، ولم تطرف عينها، لا أعرف شيئا عن بقية الطقوس، لكنني أحبها منذ كانت ترافق الملكة الأم لزيارتها للمعبد وأنا أقوم بمتابعة الأعمال به، وحين كنت أنحني للملكة الأم كنت أختلس النظر دوما ل «ابنة القمر»، لا أعرف كم عمرها، سمعت أنها من عمر الآلهة، لكنها تجمع جمال «حتحور» ونعومة الأفعى، وعذوبة السماء، وخصوبة الأرض، الآن ستصبح معلمتي، لا أكترث بأمر الدولة، ولا ما يريده مني كبير الكهنة، كل ما أفكر فيه هي «ابنة القمر»، وبدأت الأسئلة تمطرني بويلاتها، وأنا مستسلم لها في انتظار ما سيحل بي من قدر بعد اكتمال دورة القمر، وأنا برفقة «ابنة القمر».
الكواليس
- يبدو أن الأيام القادمة ستشهد بعض التوتر بين القصر ومجموعة من ضباط الجيش. - ماذا لدينا عن هؤلاء الضباط؟ - مجموعة من الضباط الشباب يتوسطهم بكباشي يدعى جمال عبد الناصر. - وماذا نعرف عنه؟ - شارك في مفاوضات حصار الفالوجة، فهو يعرف بعض الإنجليزية، وله تأثير في رفقته، ويقوم بتدريس الاستراتيجية العسكرية بكلية أركان الحرب، وعلى علاقة بجميع التيارات السياسية. - هل نحن بصدد مولد فرعون جديد؟ - لا يمكن الجزم بعد سيدي، لكن الأمور تشير إلى رغبته وزملائه لتغيير قادة الجيش. - ألا يمكنهم التطرق لما هو أبعد من قيادة الجيش؟ - تقصد القصر سيدي؟ - نعم أقصد القصر، وفاروق بالتحديد؛ فليس هو رجل تلك المرحلة، ومصر في حالة من الاستعداد لولادة نظام جديد تحتاجه الولايات المتحدة في المرحلة القادمة. - صدقت سيدي، آن الأوان لجنود المملكة المتحدة بالتراجع قليلا من المنطقة، وترك مساحة كافية لنفوذنا، ولكن كيف نساعدهم ليساعدونا في تبني ولادة إمبراطورية أمريكية بمفهوم جديد في المنطقة؟ - ما هو موقف القصر من هؤلاء الضباط؟ - تم استصدار أمر اعتقال لهم، ويقوم البوليس الحربي بتتبعهم الآن. - وما موقف نجيب الهلالي، هل يشعر بالتهديد بعد؟ - لا أعتقد سيدي بأن نجيب باشا يدرك أبعد من أن هناك بعض التوتر في صفوف الجيش. - الملك رضخ لصديقنا مايلز لاميسون منذ عشر سنوات حين حاصر قصره بالدبابات، وأعتقد أنه سيوقع وثيقة التنازل هذه المرة لو أعيد الحصار بقوات مصرية، ويجب أن يدرك هؤلاء الضباط أن الوقت قد سنح لتلك الخطوة، فقط عليهم التحلي بالشجاعة والتطلع لهدف أعلى من إمكانياتهم. - هل تقترح الاتصال بهم؟ - لا ليس بعد؛ فهم سيتصلون بنا لو يملكون الذكاء الكافي للتغيير، وسيتصلون أيضا بأصدقائنا بسفارة المملكة المتحدة، وسيتصل فاروق أيضا؛ فهو متردد ضعيف لكنه ليس غبيا. - ما تقترحه حين يتصل كل من الضباط والملك؟ - نتعامل مع الأمر كشأن داخلي، بشرط حماية الأجانب ومصالحهم في مصر، لن نطلب من الضباط ما يخيفهم في تلك المرحلة، ولن نساند فاروق في الحفاظ على هيبته وربما عرشه، فإن لم يكن قادرا على فرض هيبته، فهو لا يستحق عرش مصر. - ماذا عن أصدقائنا البريطانيين؟ - ماذا عنهم؟ - هل تعتقد سيدي بأنهم قد يتدخلون في الأمر؟ - لا تكن مضحكا، الإنجليز يتوقون لاختفاء فاروق وحكومات الأقلية من جهة وحكومة الأغلبية بعد خيانة النحاس لهم وإلغائه معاهدة 36 العام الماضي مما كلفهم الكثير في حركات المقاومة المسلحة، هم بحاجة لهدنة طويلة الآن، وسيساندون هؤلاء الضباط وربما يدفعونهم لما هو أبعد من كوبري القبة (يقصد قيادة الجيش). - ولكن إلغاء النحاس لمعاهدة 36 ألا يضع الإنجليز بمثابة العدو الأول لهؤلاء الضباط سيدي؟ - وظننتك قد تعلمت منا! سيتوقف الأمر كله على هؤلاء الضباط وطموحهم؛ فلو وصل تطلعهم للقصر فإنهم سيحتاجون حيادنا وحياد الإنجليز، وفي هذه الحالة سنكون حلفاء بعدم التدخل، ولو اقتصر طموحهم كمعظم المصريين على أهداف لا تبتعد عن أنوفهم، فسيقوم الإنجليز بخطوة التحالف لدفعهم للمزيد . - هل تعتقد باحتمالات صدامات مسلحة بين صفوف الجيش؟ - لا أعتقد ذلك؛ فالجيش ناقم على فاروق منذ حرب 48، ربما يتعاطف رجال البحرية قليلا معه وخصوصا لأنه بينهم الآن في الإسكندرية، لكن لا تنس موقفه الذي لا يحسد عليه، ما هي معلوماتنا عن موقف الإنجليز؟ - لا شيء بعد سيدي، نحن في الانتظار لنرى. (يرن الهاتف.) - نعم، حسنا، نعم، هل هناك أي صدامات؟ حسنا، شكرا (يغلق الهاتف ويستطرد) قام الضباط بالاستيلاء على مقر قيادة الجيش بدون صدامات، ويبدو أنهم ألقوا القبض على قيادات الجيش. - لقد بدءوا مبكرا، أتمنى بأن يكونوا بالذكاء الكافي لعدم التوقف. - هل أتصل بالسفير البريطاني الآن؟ - لا، هم سيتصلون بنا، فقط أرسل تقريرا كاملا الآن للشئون الخارجية بالعاصمة واطلب منهم النصيحة.
أغلق السيد «كمال الراعي» رئيس هيئة الدفاع الوطني (المخابرات العامة) ملفا بيده، ووضعه على طاولة بجوار كرسيه، وقال مخاطبا السيد «محسن رضوان»: لا أريد أحدا في الغرفة عندما يستيقظ. وأجابه: «مفهوم كمال بك.»
سمعت آخر جملتين، ميزت صوت «محسن رضوان»؛ فما زالت كلمة «معاليك» تصدي بأذني، لكن لم أكن أعرف الصوت الآخر، لكن تصورته شخصا ذا أهمية بسبب لهجة «محسن رضوان» المستسلمة هذه المرة، حاولت القيام من سرير لا أعرف كيف وصلت إليه، وما إن فعلت حتى توقفت الأصوات تماما.
فتحت عيني على إضاءة معتدلة، وسقف يعلوني بستة أمتار على الأقل، إن لم يكن أكثر، بلون كريمة الحليب بالشاي، ومذهب بزخارف بارزة من القرن التاسع عشر من طراز الباروك، يتدلى منه ثريا تبدو من الذهب الخالص، تحمل إضاءة متوسطة ومريحة، لم يضايقني النظر لنورها الذي يرتفع حوالي أربعة أمتار تقريبا من مكاني، تحركت عيناي من السقف للكرانيش المذهبة، فورق الحائط الفرنسي، النقوش باللونين الكريمي والأبيض، وخيوط الذهب داخل إطارات خشبية مذهبة أيضا، لم أحتج لكثير من الوقت لأدرك أنني في إحدى غرف النوم بقصر عابدين، أعتقد لو عرف الفرنسي «دي كوريل روسو» مصمم القصر أنني سأنام في إحدى غرف نومه، لما صممه «للخديوي إسماعيل» في المقام الأول.
اعتدلت بصعوبة ، وسندت ظهري على مراية السرير الخلفية، بالفعل لا أنكر إحساسي بالمكان، إحساس بالفخامة غير عادي، رأيت تلك التصميمات كثيرا، لكن شعور استعمالها مختلف تمام الاختلاف، اقترب من السرير رجل وسيم لم أستطع معرفة عمره الحقيقي من كم تأنقه وعنايته بمظهره، لم يكن غيره بالغرفة، فعرفت أنه من أعطى أوامره «لمحسن رضوان» بالخروج من الغرفة، اقترب من السرير وأومأ برأسه محييا بابتسامة واثقة، وعين يكاد بريقها يفوق الثريا المتدلية وتعبر عن ذكاء حاد، اقترب أكثر من السرير وكنت شبه جالس، وبدأ الحديث دون أن يحول عينه من عيني. - حمدا لله على سلامتك سيادة الرئيس، محمد كمال الراعي، رئيس هيئة الدفاع الوطني.
عقدت حاجبي فاستطرد مبتسما «المخابرات العامة»، حاولت تقييم الموقف بسرعة، أنا في إحدى غرف النوم بقصر عابدين، ورئيس المخابرات العامة يدعوني «بسيادة الرئيس»؛ أول ما خطر لي أنها إحدى طرق الاستجواب، ربما يظنونني رئيس أحد التنظيمات السرية لذلك يدعونني سيادة الرئيس، استرجعت بسرعة ما تذكرته من أحداث عن يوم التصوير، وجنود الحرس الجمهوري ورئيس الديوان وسقوطي، قررت أن أحاول معرفة ما يحدث فسألت بصوت متشكك. - رئيس ماذا؟
أجابني ولم تفارق وجهه تلك الابتسامة الواثقة، وازدادت عينه في البريق كما لو كان يبلغني أنه استشعر قلقي وخوفي مما يحدث: «رئيس الجمهورية»، وبدأنا في حوار طويل تبادلنا فيه الأدوار عدة مرات؛ فكنت ألعب دور الفأر المذعور حينا ودور الفأر المذعور جدا أحيانا. - أي جمهورية؟ - جمهورية مصر العربية (قالها بحزم قاطع) نحن نتابع حركتكم منذ فترة، لكننا لم نكن واثقين من قدرتكم على تغيير نظام الحكم، لكن يبدو أن سيادتك والسادة أعوانك بالحركة قد استعملتم حيلة غاية في الذكاء للاستيلاء على القصر وعزل الرئيس السابق. - لا أعرف عم تتحدث!
مقاطعا: بل تعرف جيدا سيادة الرئيس، ولا وقت لدينا للمناقشة. السادة وزير الدفاع، والداخلية، ورئيس جهاز مباحث أمن الدولة خارج هذه الغرفة، في انتظار مقابلتك، ولديك حل من اثنين: أن أخرج وآمرهم بالقبض عليك، وستتمنى بعدها الإعدام رميا بالرصاص، أو أن أخرج مبتسما وأدعوهم لمقابلة الرئيس الجديد، ولا أعتقد أن لديك الوقت الكافي للتفكير، سيادة الرئيس. - هل لي بكوب من الماء؟ - بالطبع سيادة الرئيس.
تحرك «الراعي» نحو أحد الأبواب الأربعة بالغرفة وفتحه نصف فتحة وأخرج رأسه فقط ثم عاد مغلقا الباب مرة أخرى، وخفت نبرة الحدة من صوته وعاد مجددا للحديث. - لا تقلق سيادة الرئيس، لا تسمح لهم بالأسئلة، واستمع لهم، امنحهم فرصة إظهار الولاء لسيادتك، وبعد رحيل الجميع، سآتي مرة أخرى. - أين تذهب؟ ألا تريد إظهار ولائك بالمكوث معي حتى ينصرف الجميع؟
ابتسم موافقا، وتبدلت صرامة وجهه وأظهر وجها مريحا جعلني أتساءل: كم وجه لهذا الرجل؟! قمت من السرير، وجلست على كرسي فرنسي مذهب بجوار طاولة صغيرة عليها ملف ليس سميكا يشبه ملفات البريد اليومي، عليه خرطوشة فرعونية بها عين حورس، وتحته نسر قوي ينقض على ثعبان، وكتب في المنتصف (تقرير 22 يوليو 1952م، سفارة الولايات المتحدة) وأسفلها عبارة «سري للغاية»، لمحت الراعي ونظره متعلق بالملف فشعرت بأهميته، فأسندت يدي على الملف متظاهرا بالعفوية، فابتسم ابتسامته الشيطانية مرة أخرى. - اسمح لي بإدخال السادة الوزراء، سيادة الرئيس.
أومأت موافقا بتردد خف قليلا بإيماءة منه مغمضا عينيه؛ أي «لا تقلق»، وفتح الباب وخرج تاركا الباب مفتوحا، ثم عاد مرة أخرى ووقف بجوار الباب من الداخل فدخل «محسن رضوان» متمتما: «حمدا لله على سلامتك سيادة الرئيس»، ووقف بالجانب الآخر من الباب، ثم دخل وزير الدفاع بحلته العسكرية المميزة، كدت أقف حين اقترب مني لمصافحتي، لكن غمزة من عين «كمال الراعي» أجلستني مرة أخرى، وتظاهرت بأني أغير وضع جلستي طمعا في راحة أكبر، تحدث «محسن رضوان». - سيادة المشير «محمد سليم بركات» وزير الدفاع، سيادة اللواء «مصطفى نصر» وزير الداخلية، اللواء «منتصر الحفناوي» رئيس مباحث أمن الدولة.
تبادلنا التحية، وعملت بنصيحة «الراعي» وتقمصت دور «آل باتشينو» في فيلم «الأب الروحي»، وضعت ساقا على ساق، وملت قليلا وسندت رأسي على ثلاثة أصابع إبهامي وسبابتي ووسطاي، ولم أقل شيئا بل اكتفيت بالإيماءات، وعقد الحاجبين، أو بسط الوجه ، كان جمهوري الوحيد هو «محمد كمال الراعي» ويبدو من اللحظات الأولى أنه يستمتع بالعرض، نسيت وجوده ونظراته المشجعة حينا والمتشككة أحيانا وتلبستني روح «آل باتشينو» بثقته التي تجتاح ثقة الآخرين، وتوحي بقوة وقدرة تفوق حدود جسده الضئيل، حتى تحول الضيوف الكرام من ذئاب تتفقد فريستها لقطط تحاول إرضاء مربيها وتتمسح بقدميه طمعا في بعض الدلال، نسيت من هم وماذا يقولون، في الحقيقة لم أسمع أيا مما قيل، فقط كنت أتنقل بين أعينهم وأشعر بما في نفوسهم دون أن أسمع ما تنبث به أفواههم.
نظرت في ساعتي بحركة مسرحية أصابت الجميع بالتوتر، كان وزير الداخلية هو من يتحدث وقتها، أومأت له برأسي أن يتابع، فتابع في توتر، حقيقة لم أسمعه، كانت الساعة تقترب من العاشرة مساء، فما كان يسيطر على ذهني هو تناقض الأحداث العجيب، منذ عدة ساعات كنت أتوق لصداقة «عصام» مندوب الشرطة ليقيني شر لجان المرور بسيارتي المحترقة، والآن يتلعثم وزير الداخلية في كلماته معلق العينين بنظراتي وانفراجات ثغري استحسانا أو استياء، لا أعتقد بأنني وجدت خاتم سليمان، أو مصباح علاء الدين، ولو كنت وجدت أيهما لما طرأ ببالي أن أطلب رئاسة الجمهورية! ما زال الأمر غامضا، أتوقع في أي لحظة أن يدخل الرئيس من أحد تلك الأبواب الأربعة مبتسما حانيا، يصافحني ويشكرني على قيامي بدور البديل، وقد يطري أيضا على أدائي الذي طالما حاول «عماد» إقناعي به، بالتأكيد سيأتي الرئيس قريبا جدا، وقد يمنحني وسام الجمهورية أو وسام العلوم والفنون، لن أقبل بأقل من الطبقة الأولى، كلا سأقبل بأي طبقة بل بأي شيء مقابل فهم ما يحدث، لا، بل مقابل الخروج من هنا سالما، وسأعد الرئيس ألا أحاول فهم ما حدث، بل سأعده أنني سأنساه تماما.
أين أصدقائي الآن؟ تذكرت «أبو ميار» وهو يبرح ضربا، بالطبع لم يكن تمثيلا، برغم صعوبة الموقف لم أتمالك نفسي من ابتسامة فلتت مني عندما تذكرت الصوت الجهوري والحركات المسرحية للرائد «عمر» وهو يشير للنقيب الذي لا أعرف اسمه لينقض هو ورجاله على «أبو ميار»، ويبدو أن ابتسامتي لم تكن في محلها أو كانت ... لا أدري؛ فقد عقد «الحفناوي» حاجبيه وبدا عليه القلق الذي ساور الجميع، تدخل «الراعي» طالبا من الجميع الانصراف، وحفظ الأمن لحين إعلان الخطاب الرئاسي وتجديد الثقة في الحكومة لحين إشعار آخر، تحرك الجميع بلطف شديد للخارج ورافقهم «محسن رضوان»، وقبل أن ألتقط أنفاسي عاد مرة أخرى فأومأ إليه «الراعي» بأن يغلق الباب من خلفه.
مرة أخرى جلست مع «محمد كمال الراعي»، جلس على الكرسي المجاور للطاولة الصغيرة التي سندت عليها يدي فوق ملفاته، كان يليق حقا بهذا الكرسي الفرنسي المذهب، تساءلت بيني وبين نفسي: أكان يشبهني أول يوم له بالقصر؟ لم يتركني كثيرا لتساؤلاتي وابتسم معلنا إعجابه الشديد بما بدر مني مع الوزراء وأنني رئيس بحق وأنه يشرف بخدمتي في الرئاسة. - حسنا سيد «رفاعي»، متى سنبدأ الحديث بجدية؟ - إن كل ما يحدث هو منتهى الجدية، سيادة الرئيس، لقد قمت وزملاؤك بانقلاب فريد من نوعه، واستخدمتم بعض عناصر الشرطة وسيارتين من الأمن المركزي، وتمكنتم من محاصرة القصر، وإرغام قوات الحرس الجمهوري على الاستسلام، وتم نقل الرئيس السابق لمنزله تحت الحراسة لحين مناقشة البدائل المقترحة، والآن قدم لسيادتك وزراء السيادة ولاءهم، وبقية السادة الوزراء بالانتظار في الصالون الأخضر لمقابلة سيادة الرئيس وتقديم الولاء له. - لكنك تعرف أن شيئا من هذا لم يحدث.
ابتسم وسألني: «هل تظنني نسيت تلك الملفات هنا؟» فأبديت امتعاضا؛ فلا يمكن فعلا أن يكون نسيها وأنا أسند يدي عليها كمن وجد كنزا ثمينا بينما تركهم لي لأقرأهم.
سحبت الملفات جميعها عليها نفس الشعار، ويشترك بينها أيضا عبارة سري للغاية، استطرد قائلا: «سنقوم بإكمال الفراغات الناقصة خلال (نظر في ساعته) أقل من نصف ساعة من الآن؛ فالرجال يقومون بذلك منذ غروب الشمس ...» لم أعر جملته أي اهتمام، وفتحت الملف الأول فوجدته يشبه «سيناريو» أو محضر جلسة في السفارة الأمريكية، وعجبت من التاريخ المدون عليه «22 يوليو 1952»، وتعجبت أكثر من ذلك الحوار، تذكرت مذكرات «مايلز لامبسون» وكيف كان للإنجليز مكتب للتصنت على المكالمات الهاتفية داخل سنترال رمسيس، فلماذا لا يكون هناك مكتب آخر للأمريكيين؟ - هل ساعد الأمريكيون ضباط الثورة فعلا؟ - سيادة الرئيس في أحيان كثيرة تكون المساعدة في الصمت أو التغافل أو عدم إثارة المشاكل؛ وقت قيام الثورة كانت الولايات المتحدة تبدأ في الانتشار والتوسع الإمبراطوري، وكانت تحتاج لتقليص دور صديقتها المملكة المتحدة من المنطقة، كما لم يكن جلالة الملك بالحنكة الكافية لإدارة مثل هذا الموقع الاستراتيجي. نعم ساعدت الولايات المتحدة ضباط الثورة، وراهنت عليهم أيضا، وكان النظام المصري الجديد وقتها هو المرشح ليكون الابن المدلل للسياسة الأمريكية لولا فطن أبناء العمة لذلك، وقام «بنحاس لافون» بسلسلة عمليات «سوزانا» التي أدت لتوتر كبير في العلاقات مع الولايات المتحدة، وفي الوقت الذي احتاجت فيه لضمانات من الحكومة المصرية كانت الأمور تغيرت بالفعل، وصدقنا وقتها بأننا لا نحتاج لتقديم ضمانات لأحد.
كان الرجل يتحدث بمرار، لا أعتقد أنه قد عاش تلك الفترة بعقل يعي كل تلك الأمور، لفت نظري ذكره لفظ «جلالة الملك» بينما تحدث عن حكومة الثورة كنظام «جديد»، فازدادت رغبتي في معرفة ما يدور بعقله، لكني كنت مدركا تماما وقتها أنه يقول فقط ما يجب علي سماعه، على الأقل في تلك المرحلة، أخذت أقلب في الملف حتى وضعته على الطاولة مكانه وانتقلت لملف آخر مكتوب عليه «تنظيم (...)» ومتروك مسافة بين القوسين بعد كلمة تنظيم لا أدري لماذا شعرت بأنني أمام إحدى روايات «حسن عبد السلام»؛ فهو يكتب على جميع مسودات رواياته كلمة رواية ويترك بجوارها نفس القوسين بمسافة بينهما، لحين الاستقرار على اسم الرواية فيضيفه بيده بين القوسين. حسنا، همست لنفسي أنني بصدد مسودة سيناريو، ولكن ليس من أعمال «حسن عبد السلام» ولكن من أعمال المخابرات العامة.
عجبا، إنه سيناريو كامل بتنظيم لا تشوبه شائبة، أحداث وتقارير أمنية عن التنظيم السري الذي دوما يترك اسمه مكانا شاغرا بين القوسين، حتى محاضر المكالمات الهاتفية ترك أماكن الاسماء شاغرة، بالفعل إنني أمام سيناريو كامل لا ينقصه إلا تسكين الأبطال في القصة، التنظيم يديره «شاب» ويعاونه مجموعة من أصدقائه وزملاء العمل، استطاع بذكائه أن يجند مجموعة من ضباط الشرطة لما لهم من حرية في الحركة داخل العاصمة، كما تمكن التنظيم من تجنيد ضابط رفيع المستوى في الحرس الجمهوري. - ألا ترى سيد «رفاعي» أن هذا التنظيم، أو اسمح لي أن أسميه سيناريو، لا يرتقي لعمل جهاز مثل الدفاع الوطني؟ بل لا يرتقي لعمل كاتب سيناريو هاو. - سيادة الرئيس (ينظر لساعته مرة أخرى) لقد فضلت أن ترى بنفسك كيف تملأ الخانات الناقصة في التقارير بمثل تلك الأهمية، اسمح لي بأن أدعو الرجال للدخول؛ فهم يعملون على هذا التقرير منذ ساعات وبمساعدة كافة الأجهزة الأمنية.
عقدت حاجبي مستنكرا بسخرية واضحة قائلا: «هذا التقرير؟ هل أنت متأكد أن البلاد لن تكون في حالة استخباراتية أفضل لو كتب تقاريرها الأمنية «نجيب محفوظ»؟ (ضحكت) دع رجالك يدخلون، ولو لديكم مشكلة في اختيار الأبطال فلا تقلق، أعرف من يمكنه تسوية الأمر.»
كنت زاهيا بقدر سخريتي منه، بينما توجه للباب بابتسامة أقلقتني كثيرا، وخطر بذهني للحظة خاطر أرعبني، وأطلقت لرعبي العنان وأنا أعيد التصفح في تقرير التنظيم السري الذي بيدي، بينما أدخل «كمال الراعي» أربعة رجال لا يقلون وسامة ولا تأنقا عنه، وإن كانوا بلا شك يقلون هيبة، أشار لهم أن يتوقفوا في أماكنهم، رفعت عيني سريعا فوجدتهم يدفعون أمامهم «تروليين» صغيرين عليهما صناديق متفاوتة الأحجام، عدت مرة أخرى لتفحص التقرير، ولكن صاغ لي رعبي تصورا جديدا أكدته ابتسامة «كمال الراعي» الشيطانية، فإن ما رأيته هذه المرة هو سيناريو متكامل مترابط لا ينقصه سوى تسكين الشخصيات الرئيسية، وإضافة ملامحها على الأحداث المدونة بالفعل، ترددت كلمات «الراعي» مرة أخرى في عقلي عن قيامنا - أنا وأصدقائي - بانقلاب على القصر الرئاسي، واتضحت لي الرؤيا جلية مرة واحدة، فرفعت عيني بمزيج من الغضب والدهشة، ورمقته بنظرة تكفي لإشعال براكين الأرض، لكنه قابلها بابتسامة إطراء أربكتني وزداتني غضبا. - هل تسمح سيادة الرئيس أن ينهي الرجال عملهم (مشيرا للتقرير بيدي).
مددت يدي بالتقرير، ووقفت لألتف حول المقعد ساندا يدي على ظهره لأتابع كيف ينهي الرجال عملهم، وبإشارة من يده تحول الرجال الأربعة لخلية من النحل، بعد أن خلعوا ستراتهم، وشمروا عن سواعدهم، وأفرغوا حمولة صناديقهم، وتحول هذا الجزء من الغرفة معهم إلى غرفة عمليات، أجهزة كمبيوتر، ماكينة تصوير مستندات صغيرة الحجم، كاميرا تشبه المستعملة في المرور وفي إصدار البطاقات الشخصية، والعديد من الأجهزة الأخرى التي رغم ولعي التكنولوجي لم أعرفها.
قاموا بفتح الملف واستخراج الأوراق جميعها من الداخل، وبدأ كل واحد منهم بالاحتفاظ بمجموعة من الأوراق وتمرير الباقي لمن يليه، حتى قسموا الأوراق عليهم بالكامل، ثم توجه كل منهم إلى صناديق الملفات التي معهم، وبدأت عملية تسكين للأبطال من أروع ما رأيت، لكن الأبطال هذه المرة كانوا «نحن»؛ فصورنا مبعثرة بالغرفة تتعرض لكافة أنواع المونتاج، وتدخل في أجهزة وتخرج بهيئة أخرى.
استمر عمل الرجال حوالي نصف الساعة أو يزيد، لم يتحدث أي منهم، لم أعرف حتى كيف تبدو أصواتهم، وبعد ذلك اختفت آثار العدوان في لا وقت، وعاد كل شيء للصناديق المغلقة، وارتدى الرجال ستراتهم مرة أخرى، واصطفوا بجوار الباب تاركين للسيد «كمال الراعي» ملفا يشبه الأول ولكن أكثر امتلاء، وأشار لهم بالخروج وعاد ليطلب مني الجلوس مرة أخرى، وجلسنا يفصلنا تلك الطاولة الصغيرة ليمد لي يده بالملف مرة أخرى.
شعار المخابرات في الأعلى، وفي المنتصف «التنظيم صقر الجمهورية» وأسفلها سري للغاية، وفتحت الملف؛ فهرس كامل لكافة محتويات الملف بداية من نشأة التنظيم وأهدافه وأفكاره وهياكله التنظيمية المتعددة، وأجنحته المختلفة، وبعد الفهرس بدأت في التعرف على التنظيم «صقر الجمهورية» والذي يتضح من تقرير المخابرات أنه تنظيم إصلاحي، لا يميل لاستخدام العنف أو ترويع المدنيين، وله برامج تنموية، وخطة للقضاء على الفساد بأنواعه دون اللجوء للعنف أيضا، ولكن بمراقبة الفساد وتضييق الخناق حوله ثم الإبلاغ عنه متلبسا، ويعود للتنظيم الفضل في الكشف عن الكثير من قضايا الفساد بين رجال الأعمال وتجاوزات بعض الوزراء! أسماء لامعة سمعت فضائحها بالجرائد وظننتها إشاعات، وأسماء أخرى عاصرت البعض من فضائحها، وأسماء لم أسمع عنها قط.
القائمة طويلة، شعرت بأن التنظيم «صقر الجمهورية» هو أحد أجهزة الدولة المسئولة عن كشف الفساد ومحاصرته، كنت في حالة من التأثر بقدرة هذا الجهاز وبحجم الفساد أنستنى أنني في مأزق كبير لا أعرف ملامحه الحقيقية حتى الآن، الغريب أنني رأيت السيناريو قبل أن يمتلئ، وبعد استيفاء كل بيانته، ولكن تصفحه وحجم المعلومات الموجودة به وأسلوب التقارير أنساني تماما كيف رأيته في المرة الأولى.
كانت الصفحة التالية هي قنبلة أخرى؛ صورتي في طالعة الصفحة بحلة أنيقة ورابطة عنق عالية الذوق لا أظن بأني رأيتهما من قبل، لكن ذوقهما يناسبني تماما، وبجوار الصورة كتب: «رئيس التنظيم»، وأسفلها بحروف صغيرة «المهندس محمد الكيال» رفعت حاجبي مستنكرا الاسم ونظرت للسيد «كمال الراعي». - من «محمد الكيال»؟ - هذا اسم معاليك، سيادة الرئيس. - كيف؟ اسمي هو محمد أحمد عبد الفتاح محمد. - الصفحة التالية ستجد فيها شجرة العائلة كاملة، واسم الكيال ستجده من أجدادك، وكل ما حدث هو اختصار للاسم «الرئيس محمد الكيال».
قلبت الصفحة بسرعة لأرى شجرة العائلة التي حلمت دوما بالحصول عليها، وتعجبت من تتبعهم لأصول العائلة، وعرفت أن أصولها تعود لعصر المماليك. - كيف عرفت أن شجرة العائلة بالصفحة التالية وأنت لم تفتح التقرير بعد التعديلات؟ (سألته بلمحة من الخبث.) - سيادة الرئيس، هذا ليس التقرير الأول الذي يتم إعداده بتلك السرعة (قالها منتشيا).
لم أكترث كثيرا بما قال، لكن أعجبني اسم «الكيال»، عدت مرة أخرى للصفحة التي بها صورتي، وجدت تفاصيل لا أعتقد أنه يمكن الحصول عليها حتى بالمراقبة المباشرة لأعوام، تفاصيل التفاصيل تبدأ من ذوقي المفضل في النساء، وحتى طريقة شربي للقهوة.
برغم كل ما كنت أتظاهر به من ثبات ومحاولة لفتح الحوار، إلا أن حالتي العامة كانت تحت الصفر بما لا نهاية من الأعداد، كانت سحابة الذهول مخيمة على عقلي، وأخذت أقلب فوجدت الجميع (عماد، حسن، شنن، شعراني، عم رمضان، أستاذ منير، عصام، الرائد عمر ...) تقريبا كل طاقم العمل مضافا إليهم بعض الجيران، ورجال النقيب الذي عرفت أن اسمه النقيب «رائد القيسوني » من رجال مكافحة الشغب، والحاج «إبراهيم»، والسائق «أبو ميار»، الجميع، الجميع، ولا تقل التفاصيل المذكورة عند كل اسم عن التفاصيل التي وجدتها في صفحتي.
وبعد استعراض أعضاء التنظيم، وجدت تفريغا لمكالمات تليفونية كثيرة، والغريب أن المكالمات السابقة لواقعة التصوير دونت وكأنها كانت مشفرة، وأسفلها النص غير مشفر، ويليها صور التصاريح الخاصة بالتصوير والمرور، شعرت بفوران شديد برأسي وكأنه سينفجر من كم المعلومات التي قرأتها، فرفعت عيني بصعوبة شديدة وطلبت من «كمال الراعي» بعض القهوة والسجائر، وطلبت منه أن يتكرم ويحضرها بنفسه، لا ترفعا مني ولكن خفت أن أنهار باكيا أمامه، كنت أحتاج بعض اللحظات بمفردي.
ماذا يريد هذا الرجل مني؟ ولماذا لم يقم بالقبض علينا جميعا؟ أين بقية المجموعة؟ وأمطرت سحابات الخوف بملايين الأسئلة التي تتوالى، فإجابة كل سؤال تكون بمائة سؤال آخر، وكأنني دخلت في متوالية لن تنتهي، هل ما يحدث حقيقة؟ أم سأفيق بعد قليل قائلا بأنني قد رأيت حلما غريبا؟ هل سأردد «خير اللهم اجعله خير؟» حاولت لم أشلاء ذهني واستجماع طاقتي لأفكر ... نعم، نعم، يجب أن أفكر، لا بل يجب أن أعرف بالتحديد ما يريده «كمال الراعي» مني وبعدها أقبل أو أرفض، ارتحت قليلا لتلك الفكرة التي ركنت إليها مؤكدا لنفسي أنني يمكنني القبول أو الرفض، لكني كنت أدعو الله متضرعا في أعماقي أن يكون هذا الحق من نصيبي.
عاد «كمال الراعي» يدفع بيديه عربة شاي من القرن السادس عشر، قوطية التفاصيل، مرصعة بما لا يمكن وصفه من أحجار كريمة، وخيوط مذهبة خالصة، على منحوتة خشبية مذهبة بأوراق الذهب الفرنسي الخالص، «هل أدرك هذا الرجل ولعي بالتفاصيل وبطرز العاديات ويتعمد العبث بأفكاري؟ يبدو ذلك جليا.»
ناولني القهوة، وفتح علبة كبيرة من خشب الأبانوس المطعم بالعاج، والمرصع بالمجوهرات أيضا، لتنفرج كصناديق الحلي على أدراج متعددة بها العديد من أصناف وألوان الدخان، من السيجار الكوبي الفاخر، ومرورا بالسيجار السويسري والألماني المصنع من أفخر الأنواع، ووصولا للسجائر الألمانية والفرنسية والإنجليزية والأمريكية التي جربتها، أو سمعت بها من قبل ولم يلفت نظري من كل تلك الأنواع غير مجموعة من السجائر الرفيعة جدا، والتي يصل طولها لحوالي خمسة عشر سنتيمترا، وألوانها مبهجة من الزهري الفاتح والسماوي والفستقي والكناري، سحبت واحدة فوجدتها مفرغ منها ما يقرب من نصفها يستعمل كمبسم، سحبتها أسفل فمي لأشم دخانها، فشممت رائحة شرقية دسمة، فرفعت عيني إليه فابتسم قائلا بأن هذه السجائر مخلوطة بالعنبر، وكانت تنتجها شركة الإسكندرية للدخان (قبل إفلاسها) تحت اسم تجاري «سبسيال»، وبعد شراء الشركة الشرقية للدخان لشركة الإسكندرية للدخان تم تخصيص إنتاج هذا النوع لصالونات رئاسة الجمهورية فقط، أبديت إعجابي بمعلوماته وبنوعية الدخان، وسحبت نفسا عميقا بعد قيامه بإشعالها لي، وهدأت في جلستي. - ما المطلوب مني بالضبط؟ (هكذا سألته.) - العفو سيادة الرئيس، ليس مطلوب من معاليك شيء سوى الاستمرار في حملتك الموسعة ضد الفساد وقيادة الإصلاح بالبلاد. - دعك من قصة الحملة الموسعة والمضيقة، أنت من لفقت هذا التقرير فلماذا تحتاجني؟ لماذا لا يتضح أنك كنت رئيس التنظيم «صقر الجمهورية» وأننا جميعا كنا أصحاب الأدوار الثانوية؟ هل تريد توقيعي وجميع أعضاء التنظيم على ذلك؟
يبدو أنني أغظته، أو يبدو أنه يجيد تمثيل ما أود أن أراه كي لا أتطلع لمناورات أكثر، فأشار مستأذنا كي يشعل سيجارا كوبيا «لانسيروز»، وهو المقاس المتوسط للماركة الكوبية الشهيرة «كوهيبا» والتي لم يسمح بتصديرها من كوبا إلا بعد توقف «فيدل كاسترو» عن التدخين بأمر طبيبه (هكذا أخبرني)، أومأت إليه أن يتفضل، فسحب مقصا من درج أسفل صفوف السيجار، قضم به كعب السيجار وأعاده مكانه، وأخرج أعوادا خشبية من المستخدمة في تغليف السيجار داخل الصناديق والتي تشبه قشرة الخشب، مقطعة كأعواد الثقاب الطويلة، وأشعل بقداحة من نفس الدرج النار، فأشعل عودين من خشب السيجار، وانتظر عدة ثوان كي لا يبقى بالنار سوى رائحة خشب السيجار، ثم أشعل سيجاره وأطفأ الأعواد، ونفث بعض الدخان في الهواء كمن يعشق طقوسه، ظل محدقا في دخانه لحظات، ثم قام من مقعده بهدوء وسار إلى طاولة صغيرة في ركن الغرفة، رص عليها ثلاثة أهرامات من المرمر، أحضر واحدا منهم وعاد أدراجه بخطوات مسرحية بعض الشيء، وجلس مرة أخرى واضعا الهرم بيننا. - سيادة الرئيس، الهرم الأكبر، ذلك البناء الضخم الذي يعد رمزا لمصر، ربما لأنه أضخم مبانيها، ربما لأنه من عجائب العالم القديم والحديث أيضا، وربما أنه حقا يعبر عن مصر، بداية من قاعدته العريضة وحتى قمته التي تشق السماء، ملايين الأحجار المتراصة في سكون، في صمت، في نظام، منتهى النظام، تنوع بسيط لكنه في غاية الدقة في اختيار المواد ما بين الحجر الجيري، الجرانيت، والهريم النفيس، سواء كان من الذهب أو الفضة، ولا يمكن تجاهل طبقة الملاص الدقيقة التي تخفي هذا البدن الضخم والتي تتلألأ في الفضاء كنهر من الفضة، مؤسسات الدولة سيادة الرئيس، هي القلب الجرانيتي، ولا يمكن للجرانيت أن يصير ذهبا، ربما كان جزءا من مهمتنا أن نكتشف المعادن النفيسة من بين الأحجار الجيرية وانتقاء الصالح منها ورفعه لرأس السلطة، سيادة الرئيس، يحتاج هذا الهرم لتغير طبقة الملاص التي تغطي أحجاره من وقت لآخر، وقد يتبع ذلك تغيير رأس السلطة، لكن الهرم لا يتغير ولا القلب الجرانيتي يتغير، وما قمت به من انقلاب على السلطة كان هو التسلق والارتقاء من القاعدة الحجرية لرأس الهرم، تحتاج البلاد لهذا النوع من التغيير، تحتاج للانتقال لحكم مدني يتناسب مع التغيرات العالمية، ويجب أن يتم التغيير من خارج النظام وليس من داخله فيظل قلب النظام متوحدا لحمايته.
لم أشعر بمنطقية ما يقول بقدر ما شعرت أنا بحزمه، وشعر هو بقلقي الذي لم يكن يشبه الخوف من التغيير بقدر ما يشبه التشبث بالحياة، لم أجادله كثيرا، بل فضلت الإنصات حتى أبلغني بضرورة الانتقال لأحد القصور الرئاسية المخصصة لإعداد الرئيس، فخرجنا لساحة القصر وقفزنا في مروحية صغيرة نقلتنا لقاعدة ألماظة الجوية، وركبنا طائرة صغيرة، كانت المرة الأولى التي أصعد فيها لطائرة صغيرة، ولم تكن كما ظننت؛ فهي أقل استقرارا في الهواء من الطائرات العملاقة، ذكرتني قفزاتها في الجو بطيران العصافير، واحترمت حينها النسور كثيرا، لم أكن أعرف وجهتنا بالتحديد حتى أبلغني «كمال الراعي» بأن القصر المنشود سيكون بمحافظة الأقصر، لم أزر الأقصر منذ أصبحت محافظة، لكني أحبها حين كانت مدينة، أحب البحيرة المقدسة بمعبد الكرنك، وبهو أساطينه، كما أعشق معبد الأقصر بأعمدته الرشيقة، ولا يضاهى شيء عندي كمعبد تحتمس الثالث بمعبد الأقصر بأعمدته البديعة من اللوتس المقفل والمفتوح، كان الوقت متأخرا، واختفت أضواء العاصمة تدريجيا لتحيط نوافذنا ظلمة مخيفة حاولت معها التمدد والاستسلام للنوم.
الحلم الثاني
رائحة البخور تملأ المكان وتضفي على خشونته أنوثة مستترة، لم يكن بخورا حقا؛ فلا أرى الأبخرة بل رائحة المكان الذي يحتفظ برائحة كل زواره ويعيد بثها مع أسرارهم على لسان العرافة الغجرية. - لا تخف مرة أخرى منهم (وأشارت بيدها للشياطين الكرتونية).
فوجدتهم في غرفة تشبه غرفة الحجز في أقسام الشرطة؛ ثلاثة حوائط حجرية، والحائط المشترك مع الغرفة التي نجلس فيها من القضبان الحديدية، وبه باب من الحديد أيضا وعليه قفل كبير.
شعرت بعدم الراحة بشكل خفي خلف شغف لمعرفة ما يجري لا يختلف عن رائحة الأنوثة المستترة بالمكان، نظرت إليها بشكل مباشر وحاولت استجماع كل الأدرينالين وإطلاق كل فرموناتي الجاذبة للفراشات مستنفدا آخر ما لدي للتأثير عليها، فردت بابتسامة من يذوب عشقا مغمضة عينيها وفاتحة إياهما مرة أخرى ببطء شديد، كانت حركتها تدل على تأثرها ولكن بريق عينيها يعلن قلب الطاولة تماما، التفتت ليمينها بعينيها قبل رأسها، فنظرت لأرى ابنتها أو النسخة الأصغر سنا منها تعتلي رجلا ممددا على ظهره في جماع كامل، وترقص بنصفها العلوي مطلقة شعرها المسترسل في الهواء، تعلق نظري بها لحظة، بل لحظات، فاتنة بحق هي، شعرت بحرارة في جبهتي وأذني، اكتشفت إضاءة المكان من المشاعل والشموع، من انعكاس النيران المتراقصة على جسدها المرمري، وكأن النيران تتراقص بنفس إيقاع رقصاتها، ازدادت حرارتي في الارتفاع، قفزت من مكاني كمن مسه الجان؛ فقد كنت أنا من تعتليه الفاتنة الصغيرة، نعم إنه أنا من أنظر إليه وهو في قمة نشوته أو نشوتي لا أدري، كنت مرتاعا، حاولت التحرك بلا أي فائدة، فقد تسمرت في وقفتي كتمثال يكمل تفاصيل المكان، لم يكن قادرا على الحركة مني سوى عيني فبدأت تدور في أنحاء المكان بشكل عصبي وسريع، المكان يشبه القصور القوطية بنوافذها الرمحية وزخارفها الماسونية وعقودها المدببة، شعرت بأنني في وكر لمصاصي الدماء، ويبدو أن الفكرة قد أطلقت التسمر لدمي فشعرت بأن الدماء تتصلب في عروقي من قدمي صاعدة لأعلى، فيتحجر كل ما تتصلب فيه الدماء بألم رهيب مع تزايد إيقاع الابنة واستسلامي لها، وأقصد «أنا» الذي تعتليه وليس «أنا» المتحجر في مكاني، كنت أعرف أن تصلب الدماء في قلبي سيودي بحياتي مما لا شك فيه، تملكتني قشعريرة تشبه الشحنة الكهربية؛ لا أعرف من تصلب شراييني أم من تسارع الإيقاع الهيستيري وامتلاء فراغ المكان بأنات وآهات الألم والنشوة، يد أمسكت برسغي فسالت الدماء مرة أخرى في عروقي، وشعرت مرة أخرى بجسدي، نظرت لمن أمسكني، كانت العرافة الغجرية، فأعدت النظر للابنة ولي، فوجدتهما تحولا لتمثال من المرمر في نفس وضعيهما، ينظران إلينا وعلى وجهيهما كل ملامح النشوة، زاد خوفي، ونظرت للعرافة مرة أخرى فأجلستني على مقعد مجاور لها غير المقابل الذي كنت أجلس عليه، لم أشعر بقبضتها سوى بأمان يسري أسفل جلدي، فجلست ونظرت إليها خائفا مرتعدا، فوجدت في عينيها صفحة بئر من حنان، وكأنني ألقيت بدلوي لأجترع من عينيها التي أزالت من قلبي كل الخوف، وتوقف ارتعاد جسدي، وانحنيت أقبل يدها فربتت على رأسي، وهمست في أذني بتمتمات لم أفهمها تشبه الترانيم، لكنها أراحتني كثيرا وتبدل هلعي بنعاس الرضيع بعد تناوله وجبته الأولى.
الرئيس
توالت الاهتزازات والاصطدامات فأفقت مذعورا، كان وجه السيد «رفاعي» مبتسما مطمئنا فزاد فزعي، أعرفه هذا الرجل، «كمال الراعي» رئيس المخابرات، نعم، نعم، لكني أعرفه من مكان آخر، لا أستطيع التذكر. - عفوا سيادة الرئيس، إنها صدمات هبوط الطائرة؛ فقد وصلنا، وأعد بتغيير الطيار أثناء العودة (قالها الراعي بنبرة مفتعلة).
لم أكن أعيره أي اهتمام، كنت أريد بعض الماء، كان حلما غريبا، لكن برغم غرابته أعاد لي بعض الطمأنينة، فما زلت أنا نفس الشخص، لا أشتاق الآن إلا لكوب من الشاي ومراقبة «توحة» وهي تمارس فنون الإغواء قبل أن أتمدد على سريري، لم أهنأ حتى بالتفكير في توحة؛ فقد اقتحم «الراعي» أفكاري لينبهني بأن الموكب سيتحرك الآن.
جلس «الراعي» بجواري في سيارة الرئاسة الفارهة، وجلس بجوار السائق رئيس طاقم الحراسة الرئاسية، هكذا قال «الراعي»، كانت تتقدمنا سيارتان ودراجة بخارية، وخلفنا عدد لا بأس به من السيارات، وانطلق الموكب في هدوء وسرعة تتناسب مع هيبته ومع الساعة المتأخرة من الليل، حتى وصلنا الكورنيش في لا وقت، ابتسمت كعادتي للنيل وأنزلت زجاج السيارة بجواري لأملأ رئتي من هواء النيل، وأغلقت الزجاج قبل أن يعلق «الراعي»، لم نتبادل أي كلمات أخرى حتى لاح معبد الأقصر.
بدأت الألفة تسري لنفسي بالقرب من رائعة الأسرتين الثامنة والتاسعة عشرة بالدولة الحديثة، لا أعرف لم تذكرت وقتها حديث «كمال الراعي» عن السلطة المهيمنة على الدولة أو القلب الجرانيتي كما ذكر، كنت أفكر في أخناتون، ولماذا تمرد سياسيا على سلطات الكهنة في طيبة، وأعلن أخيتاتون عاصمة البلاد، وأعلن رفضه كل الآلهة عدا أتون أو قرص الشمس، ولم يتمكن في نفس الوقت من القضاء على سلطات كهنة طيبة؛ مما أوجد معضلة ازدواج الشرعية الذي تسبب بانهيار اقتصاد الدولة، وتدهورت الأمور أكثر في عصر «سمنخ كا رع» الذي لا يعرف التاريخ عنه الكثير غير فرضية أنه بالمقبرة رقم 55 بوادي الملوك، ثم تدهورت أكثر في عصر ولده المشكوك في شرعية نسبه «الملك توت»، وقسمت السلطة بين الوزير «آي» وقائد الجيش «حور محب»، وبرغم نقل الملك «توت» العاصمة مرة أخرى لطيبة ومحاولة تقربه لكهنة طيبة ببعض الإضافات بمعابدها، إلا أنه لم يمكث في الحكم طويلا، وتولى شئون الحكم الوزير «آي» الذي تزوج من أخته وأيضا لم يمكث طويلا لتنتهي فترة الانهيار وازدواج الشرعية بحكم قائد الجيش «حور محب» والذي أصدر العديد من القوانين لتنظيم العلاقات داخل الدولة، شعرت أن مجيئنا لمعبد الأقصر هو تأكيد لرسالة «كمال الراعي» عن الدولة والمؤسسة المهيمنة، ازدواجية الشرعية تؤدي للانهيار، وقد ينتهي الأمر بالخروج من فكرة الملك الإله التي هي من أعمدة وأركان العقيدة المصرية القديمة حين يكون المخرج من الأزمة هو تولى قائد الجيش ملك مصر.
مررنا عبر البايلون الرئيسي (الصرح) بين تمثالي رمسيس الثاني ومسلة واحدة، بعد نقل الأخرى لميدان الكونكورد بفرنسا في القرن التاسع عشر، نظرت ناحية مقصورات الثالوث المقدس على اليمين والتي بناها تحتمس الثالث لثالوث طيبة المقدس: «آمون» إله الشمس ورب الأرباب، «نوت» إلهة السماء والخصوبة، و«خنسو» إله القمر، ورغم كون المقصورات تقع في توسعات رمسيس الثاني إلا أنه حافظ عليها، حتى حول الرومان هذا الجزء من المعبد لثكنة عسكرية!
وصلنا دون تبادل أية إشارات لمنتصف بهو رمسيس الثاني، فكانت هناك كنيسة بطلمية يسار البهو، ويعلوها مسجد الحجاج بمئذنته التي تشبه المبخرة، والتي تميز العصر الأيوبي، وكأنه مجمع للأديان الوثنية والسماوية في صورة معمارية مشوهة إلى حد كبير، «لماذا لا يتم نقل مسجد الحجاج والكنيسة من المعبد، سيد كمال؟» سألته بتعجب وأجاب وكأنه يتوقع السؤال: «لم يكن من المناسب وقتها نقله سيدي.» لم أحاول أن أعرف ماذا يقصد «بوقتها»؛ فقد قررت ألا أفسد متعتي بالسير بمحور معبد الأقصر الرئيسي متجاهلا أساطين رمسيس الثاني التي تعد من أقبح النسب المعمارية في تاريخ مصر القديمة لأعبر أعمدة أمنحتب الثالث، ونصل للبهو الثاني للمعبد والمعروف بقاعة الشمس، وتغازل عيني أروع ما رأيت من أعمدة مصرية قديمة؛ تلك التي بناها تحتمس الثالث وحتشبسوت، أعمدة اللوتس المقفلة والمفتوحة وهي تقابل أعمدة البردي دليل وحدة الشمال والجنوب، لم يبق كثير في المعبد؛ فالتالي هو مذبح الإسكندر الأكبر، وقاعة الميلاد لأمنحتب الثالث، وقاعة التتويج ثم قدس الأقداس.
هبت رياح باردة من قلب المعبد، تحولت لنسمات صحوة، وانسحبت بهدوء، لكنها لم تنسحب بمفردها؛ فقد سحبت معها البعض من ألفتي بالمكان، وتركت خلفها الكثير من التوتر والخوف، عادت كل مخاوفي لتحاصرني مرة أخرى، فهل حقا صدقت ما يحدث؟ هل تصورت بأنني رئيس مصر؟ بالطبع سيأخذني الآن لأحد المعتقلات السرية، راجعت ما حدث بقصر عابدين، إنها كانت خطة للخروج من القصر دون مقاومة، وحتما سينتهي الأمر قريبا بالتخلص مني، لم أعد أقوى على السير، بالطبع هو في قمة سعادته الآن وأنا أسير بكل هذا الزهو لمقصلة إعدامي، أو ربما لا يعنيه الأمر بأكثر من مكافأة سيحصل عليها من الرئيس الحقيقي فور التخلص مني، شعرت بأنني مجرد شحنة يتم التخلص منها.
تخطينا بهو «تحتمس الثالث» واقتربنا من قاعة الميلاد، فأشار «الراعي» لأحد مساعديه فأعطاه عصا معدنية، وتوقفنا جميعا بجوار مدخل القاعة، ليدق الراعي دقات متتابعة بتلك العصا لينفرج الجدار عن باب سري يليه أحدور شبه مظلم يليه إضاءة ساطعة، وأشار لي بالدخول، حاولت إخفاء ذعري، حاولت ابتكار جملة ساخرة، لكنني لم أستطع إلا الدخول، لينغلق الباب من خلفنا، كان الأحدور لا يزيد عن المترين، ولا أعرف كيف نزلته، أو كم من الوقت استغرقت حتى غمرني الضوء بعدها.
كانت الغرفة صغيرة، جدرانها مكسوة برقائق معدنية تعكس الإضاءة، وكانت التجهيزات بداخلها تشبه ما اعتدت رؤيته في أفلام الخيال العلمي، وكأننا انتقلنا من معبد الأقصر إلى قاعدة فضائية بكوكب المريخ، كانت للغرفة ثلاثة فتحات تفضي لحجرات مجاورة، في كل جدار فتحة، والجدار الرابع كان الأحدور الذي هبط بنا للغرفة، لم تعد الإضاءة مبهرة، واستطعت تبين بعض ملامح الحجرات الملحقة، كانت هناك حجرتان مكسوتان بالرقائق المعدنية وبها حركة كثيفة، أما الثالثة بالجدار الأيمن فكانت حجرية وبإضاءة خافتة، تخيلتها غرفة التعذيب.
أشار لي «الراعي» بأن أتقدم للغرفة المواجهة للأحدور، ولأنني لم يعد لدي ما أخسره دلفت للحجرة التي لا تختلف عن الأولى كثيرا، إلا أن جدارها الأيمن كان مصمتا بلا فتحات، وكانت أكبر حجما أيضا، كان هناك منضدة بيضاوية في منتصف الحجرة، وفي كل ركن صالون صغير الحجم، أشار لي بالجلوس، فجلست وظهري للحائط المصمت، متوقعا أن يخلع ساعته ويفك رباط عنقه ثم يبدأ في التعذيب، أو ربما سيحاول نزع الاعترافات مني بشكل ودي في البداية، لم يقطع ترقبي سوى دقات كعب حذاء نسائي تتحرك برشاقة، فتوجهت بنظري بشكل تلقائي ناحية الصوت، وكان عطرها يسبقها، عطر بري يشبه رائحة الغابات الممطرة، فازداد ترقبي لصاحبة الخطوة الرشيقة والعطر البري، لكنها لم تأت، بل استأذن «كمال الراعي» وغادر للحجرة التي هبت منها رائحة الغابات، وتوقفت كل الأصوات ولم يبق لي سوى الانتظار لمصير لا أعرفه، ورائحة تزيدني تشبثا بالحياة.
كان من المهم تذكر «الحياة»؛ فربما أفارقها قريبا، تخيلت عناوين الصحف، والتي حتما ستتحدث عن القبض على تنظيم «إرهابي» يحاول قلب نظام الحكم. بقدر مأساوية الموقف، رأيته مشهدا ساخرا، لقطات سريعة من حياتي، أصدقائي، حاولت تثبيت الصورة قليلا عند «توحة»، وجنونها العفوي، ابتسمت حين تذكرتها تلقي بأنبوبة الغاز على سيارتي، لم أتمالك نفسي، فابتسمت قائلا لنفسي: «هو كان يوم أسود من أوله.» وكعادة «الراعي» قطع حبل الذكريات مرة أخرى، لكن هذه المرة لم يكن بمفرده.
كان بصحبته سيدة رائعة الجمال تتناسب مع روعة معبد الأقصر، نسيت كل شيء بمجرد رؤيتها، وتمنيت لوهلة أن يكون عقابي البقاء بصحبتها للأبد، أعتقد أن الأمنية استغرقت أكثر بكثير من «الوهلة»، كانت أميرة من الدولة الحديثة بثياب عصرية، عظامها طويلة، حادة الملامح، واسعة العينين، قصيرة الشعر المنسدل كشعر الملكات المستعار في مصر القديمة، وبنظرة سريعة على أردافها البيضاوية المشدودة تأكدت أن أصولها مصرية خالصة، لم تكن سمراء بل كانت ذهبية، نعم ذهبية.
قدمها «الراعي» لي «نرمين خليل قمر» سفيرة مصر في كندا، وكانت تعمل أصلا في المراسم، وبأنها ستساعدني في كل ما يتعلق بالتقاليد الرئاسية، مرة أخرى يلقيني في بئر التخبط، وما زلت أنا غير مقتنع بالفكرة برمتها. - لماذا أحتاج لتعلم التقاليد الرئاسية؟ - من المفترض أنك ستكون الرئيس. - سأكون؟ (ابتسم «الراعي».) - لقد قمت بالدور الأكبر بالفعل، لكن رئاسة دولة كمصر ليست نزهة نيلية، سيدي؛ فهناك العديد من العلاقات داخل المؤسسة يجب التعامل معها بتقاليد متبعة، وإلا تسقط المؤسسة ككل. - هل أنا رهن الاعتقال؟ هل يمكنني فقط الذهاب؟ - يؤسفني القول إنه لا يمكن السماح بذهابك الآن، ببساطة يجب معرفة كيفية إدارة العلاقات بين المؤسسات المفصلية في الدولة، نحن لا نريد رئيسا يدير الدولة ارتجالا. - وإذا فشلت في تعلم ما تريد مني تعلمه؟ - يؤسفني أيضا حينذاك أنني سأضطر للإعلان عن محاولة فاشلة للإطاحة بنظام الحكم في مصر، ووفاة القائمين بها إثر مقاومة رجال الحرس الجمهوري. - فهمت.
عرفت وقتها أنني قد انتهيت بالفعل؛ فالفرصة الوحيدة لخروجي من هنا حيا هي إعلان وفاة «محمد أحمد» ومولد «محمد الكيال»؛ فرصة واحدة باقية، لا تتعدى بضع خطوات تكفي للانتقال من قاعة الميلاد لقاعة التتويج، لم يساعدني كثيرا وجود تلك الحورية المصرية في تخطي ما أشعر به، لم أفهم حقا شعوري وقتها، لكنني كنت واثقا بأنه ليس شعورا جيدا.
تحول «كمال الراعي» من ادعاء تملق الرئيس لوظيفته الأم، رئاسة جهاز المخابرات، وطلب مني الخروج بصحبته من تلك الغرفة فتبعته وخلفي السيدة «نيرمين»، وانتقلنا من غرفة لغرفة وشعرت بأننا ندور في دوائر، وكانت كلها حجرات مربعة حجرية، حتى وقفنا أمام جدار مصمت، فاستعمل إحدى خدعه السحرية بوضع يده على الجدار، فانفرج عن فتحة سرية، لم أشعر بفرق كبير بين جهاز كالمخابرات العامة وبين كهنة آمون منذ أكثر من أربعة وثلاثين قرنا من الزمان.
بدا لي أن هذه الحجرة هي مكان احتجازي أو تدريبي على حد قوله، ولم يخب ظني، لم تكن غرفة في الحقيقة، بل جناحا يتكون من ثلاث غرف محيطة بالغرفة الرئيسية؛ غرفة نوم مهندمة، ملحق بها حمام، غرفة اجتماعات صغيرة، وصالون، وكانت هناك حفرة مستطيلة في منتصف الغرفة الرئيسية تبدو وكأنها كانت مغطسا، ربما كان هذا الجناح ملاذا أو مخبأ للملك أو كبير الكهنة، لم أتأمل الأمر كثيرا؛ فحين سأكون بمفردي سأعرف من مستوى النقوش المدقوقة بالأحجار والزخارف التي تملأ السقف مرتبة هذا الجناح.
كان «الراعي» ودودا للغاية، لكنه حازم، أراني أماكن كل شيء بالجناح، كما يفعل مسئول الغرف بالفنادق، ولكنه أعطاني أيضا مجموعة من التعليمات المصحوبة ببعض التحذيرات، ثم استأذن في الانصراف طالبا أن نتعرف أنا والسيدة نيرمين قليلا قبل وقت الراحة.
بقيت أنا وهي، وعاد المدخل حائطا مصمتا، مدت يدها لمصافحتي ، فلم نتصافح حين قدمها «الراعي ». - نيرمين خليل (قالتها مبتسمة). - قمر.
قلتها بتلقائية أربكتني بعدها ابتسامتها فاستطردت: «السيد كمال قال نيرمين خليل قمر ...» فزادت ابتسامتها وسحبت يدها تاركة يدي ممتدة تشعر بالعراء، وتحركت مشيرة للصالون فأشرت للصالون أيضا أدعوها للتفضل قبلي، كنت أريد الاختلاء بنبرة صوتها للحظة، ومراقبتها تتحرك، ولم أتحرك خلفها حتى قمت بعمل مسح تلقائي بعيني من حذائها الأنيق مارا بكل جسمها وحتى شعرها المنسدل وبالكاد يلمس كتفيها.
لحقتها وجلسنا في الصالون، وبدأت مرة أخرى في التعريف بنفسها كخبيرة في التقاليد الرسمية والعلاقات الدبلوماسية، وكيف أنها ستبذل كل الجهد لمساعدتي في معرفة كافة الأمور، لم أكن منصتا لها، كنت أنظر مباشرة في عينيها، وتسللت بعقلي وبها للبحيرة المقدسة بالكرنك، ألبستها ملابس كاهنة ملكية، ولبست ملابس ملك، ودعوتها للرقص، لا بل للاستحمام في البحيرة المقدسة، وراقبتها وهي تسقط ردائها، لكنها قاطعتني بلهجة حادة: «سيد كيال، لم تجبني ...»
عفوا، لم أفهم السؤال جيدا، هل يمكنك التوضيح أكثر؟ (لم أجد مخرجا آخر؛ فلم أكن أسمع ما تقول.) - كنت أسأل في أي ساعة يمكننا البدء؟ (ابتسمت بدهاء أو بدلال، لا أدري) ولمزيد من التوضيح: كم يلزم سيادتك من النوم لترتاح قبل أن نبدأ؟ - ألا يمكننا البدء الآن؟ (قلتها بحماسة طفل يريد اللعب، فأطلقت ضحكة قصيرة.) - لا سيدي، يجب أن ترتاح قليلا.
ثم قامت لتنصرف فقمت خلفها، حتى وصلت للباب قائلة: «هنا سنفترق حتى الصباح.» خرجت، وانغلق الباب خلفها.
لم أشعر بالوحدة، لم أشعر أيضا بالغربة، لم أشعر بالراحة، أعتقد أنني لم أشعر بأي شيء، خواء ينمو بداخلي، لا مبالاة تتنافى مع كل ما مر بي حتى الآن ومع سرعته، ربما كنت في انتظار النهاية حتى أقوم بتحليلها، ربما في تلك اللحظة، وظهري مسند للباب السري، كنت أفكر فيمن يبتسم بسخرية، ومن يبتسم بشفقة، لم أكن أتصور أن أكون يوما مصدرا لأي منهما.
لم أقرر شيئا، حتى الاستحمام قمت به بحكم العادة، تناولت أيضا بعض العصير من ثلاجة صغيرة بحجرة النوم، مررت بالجدران أراقب النقوش، لمحت فتحات دقيقة جدا للتهوية، لكنني كنت مندهشا من الإضاءة؛ فلم تكن هناك أية أسلاك لتوصيل التيار الكهربي ولم يكن هناك أية إصلاحات للنقوش والرسومات بالحوائط والأسقف، كان أمرا مثيرا للحيرة، على الأقل بالنسبة لي.
عرفت من النقوش أنها تخص ملكا بعينه؛ فالخرطوش الملكي لم يتغير في جميع النقوش، لكن بالطبع لم أتمكن من معرفه هويته، تبدو فعلا كغرفة إعداد للملك، بعض النقوش تظهره واقفا أو جالسا لمراقبة الصيد أو التحنيط أو محاكمة أحد، والبعض الآخر تظهره مشاركا في أحداث مصورة، وفي التقرب لآمون، حاولت تتبع تزامن الحدث في النقوش، فأخذت أبحث حتى وجدت الملك صغيرا، وافترضت أنها البداية، ربما، ثم نقوش ممارسة الرياضة والصيد والتدريبات العسكرية، ثم الطب والتحنيط، ثم المحاكمات والاحتفالات، كنت أبحث عن نقش معين لم أجده، كنت أبحث عن تتويج هذا الملك، هل خرج من هنا ملكا؟ أم لم يخرج أبدا؟
كان كل شيء في مكانه، ملابس، كتب، أسطوانات أفلام، شاشة عرض، سجائر، سيجار، كل شيء، لم أبحث عن السيجار الكوبي تلك المرة، لم أبحث أيضا عن سجائر العنبر، فقط سحبت علبة من سجائري المفضلة، ومنفضة دخان فضية لخادمتين تحملان قدرا مستديرا، توقعت صناعته بهذا الشكل في مطلع القرن العشرين؛ فخطوطه تعلن بدايات الانتقال من عصر «الأرت نوفو» إلى عصر «الأرت ديكو» ولو كانت القطعة أصيلة فستكون مدموغة بسنة صنعها، قلبتها في يدي، وبالفعل كان أسفلها دمغة الفضة وبجوارها 1917، لا أشعر بارتياح كبير لتلك الفترة؛ اتفاقية سايكس-بيكو، نهاية الحرب العالمية الأولى، معاهدة فيرساي، ثورة صناعية، عصبة أمم، حتى خروج مصر من الولاية العثمانية تماما لم يذكره التاريخ بأكثر من تغيير العملة وإصدارها باسم السلطنة المصرية، حتى أصبحت الأمور «آخر سلطنة».
تمددت بالسرير ساندا ظهري، أنفث الدخان في الهواء وأراقب تلك النقوش من حولي والدخان ينسحب، لم أكن أفكر فيما سأفعله، أو ما يجب علي فعله، بل كنت أتساءل وقتها عما أريده حقا، ليس من الصعب علي تعلم التقاليد الرئاسية، ليس من الصعب تعلم أي شيء، كادت النقوش تختفي من كثرة الدخان، وما زلت عند نفس السؤال، هل هي الفرصة؟ أم هي الورطة؟
أخذني التفكير مرة أخرى للملك «توت» هل حقا كان ابنا «لأخناتون»؟ أم أن «المعبد» و«الجيش» قررا وقتها أنه الحل الآمن لعودة السلطة لطيبة؟ كيف مات أخوه؟ أو الملكة تي المنتحلة صفة أخيه؟ لماذا تولى الوزير «آي» الحكم بعده وهو ليس من ذوي الدم الملكي؟ وكيف مات أيضا؟ ما دور «حور محب» قائد جيش «أمنحتب الثالث» وصديق «أخناتون»؟ كيف أصبح هو أيضا ملكا لمصر؟ وبدأت في السقوط في النوم، أو في الماضي، كنت أراه، مجموعة من الصور المهزوزة وكأنني جزء منه، حتى تملك مني، إعلان رحيل الملك، رحيل الملك.
ابنة القمر
انساب عطرها يطرد بقوة أبخرة الصندل الممزوج بالأزهار البرية من الغرفة، ويتربع الهواء معلنا حضورها، «ابنة القمر»، ومن خلفها أربع خادمات، أقلهن جمالا تستحق أن تكون إلهة الجمال، لكنهن بجانبها مجرد خادمات، دخلت من الباب الذي لم أتمكن من فتحه، وغلق من خلف موكبها.
تقدمت نحوي بخطوات واثقة، تتهادى فوق أجنحة النسيم، وقفت لترمقني بنظرة جعلتني أعتدل على فراشي، جلست، وحين حاولت الوقوف، أشارت ببنانها الذي رأيته مضيئا كالصولجان، وأعطتني ظهرها، وتحركت بموكبها نحو المغطس، وعند منتصف البهو، أسقطت رداءها، وظلت في التهادي عارية، حتى وصلت للمغطس لينساب جسدها كما انساب عطرها بعذوبة تفوق عذوبة الماء، وجلست الخادمات على ركباتهن، وفتحن الصناديق التي يحملنها، وأخرجن الزيوت، والدهون العطرية التي لم أعرف أن امرأة تستعملها سوى «ابنة القمر»، حتى الملكة الأم لم تملك مثل تلك الرائحة يوما.
لا أعرف ما كان يجب علي فعله، فقط تسمرت، جالسا أراقبها، وخادماتها يعبثن بجسدها بالزيوت، والدهون، ويعبثن بعقلي معهن، وهي يبدو عليها الاستمتاع، وكان الجميع يتحرك بنظرة آمرة مستكينة من عينها، كأنها تقود معزوفة بتلك النظرات، الواثقة، الحالمة، القاطعة، لم أكن أدري ما علي فعله، هل يجب أن أتحدث؟ أم أترك لها شرف البداية؟ هل يجب علي الاستمرار في البحلقة بعدما تجاوزت مرحلة اختلاس النظرات ؟ رنت ضحكتها الساخرة كأنها تقرأ حيرتي، فأشعرتني بالخجل، تملكني الخوف من أنها قد تكون بالفعل قادرة على قراءة أفكاري، فبدأت أردد بعقلي: «ابنة القمر سيدة عظيمة، ابنة القمر سيدة عظيمة ...» لكن يبدو أن حيلتي لم تنجح عندما سمعتها تقول: «أنا أكبر من كامي، وأصغر من طفلة لا تقوى على عصر ثدي أمها.» (ورنت ضحكتها الساخرة مرة أخرى)؛ فقد كنت أفكر كم عمر تلك المرأة المخيفة.
تملكني الرعب، ولا أدري فيم كنت أفكر، أو كيف انصرف الخادمات، ومتى توشحت بذلك الرداء الحريري الناعم، وتحلت بتلك الثعابين الذهبية، فقط وجدتها تجلس على الأرض أمامي في دلال لم أر مثله من قبل، كنت صغيرا حينها أو هكذا كنت أظن. - هل تعرف لماذا أنت هنا؟ (قالتها مبتسمة.) - لا أعرف، بل أعرف، أو أعرف ما قاله لي كبير الكهنة (قلتها مرتبكا). - دورة قمر واحدة وقد تصبح الملك، ابن الإله، أو الإله ذاته، أو تصبح قربانا تذبح على المذبح الحجري تعبيرا عن أسف الكاهن الأعظم لخطأ ظنه فيك.
شعرت بكل مياه النهر تهدر بعروقي، وكأن القلب يفيض غضبا، لم أعرف كيف أبوح بما في داخلي، فقد أذبح قبل انتهاء الدورة، أي ظلم هذا! أي عبث بي الذي يفعله الكاهن الأعظم وعشيقته! كيف أذبح إن أخطأ هو؟! كيف ...؟ كيف ...؟ كيف أخرج من هذا المكان؟ أخرجني من ثورتي المكبوتة صوتها الساخر مرة أخرى: «لا يمكنك الخروج يا صغيري.» - لست صغيرك (قلتها صارخا). - اهدأ، لقد أعجبني ما فعلته بمعبد الملكة الأم، تلك العاهرة لا تستحق كل هذا الجمال.
استمر صياحي وأنا أجوب تلك المقبرة اللعينة التي حبست بها. - ليست عاهرة، أراك تتحدثين عن العهر كما لو كنت إيزيس العفيفة، أنت العاهرة، نعم أنت، وهذا المعتوه هو قوادك، نعم هو قواد ولص، وأنت العاهرة.
لا أعرف كم كررت هذا الكلام، فلم أشعر بغير أناملها تمر بثغري، وأنا أجهش بالبكاء بجوار الباب السري الذي أتى منه كل شيء، انتفض جسدي من لمستها فصرخت فيها ألا تلمسني، فاحتضنتني وربتت على رأسي، وحين لمس خدي صدرها، أظن بأني انتقلت لعالم النيام، أو الأموات، فلم أعرف أي شيء حين استيقظت على سريري.
لم يكن في مقدوري معرفة الليل من النهار إلا من حرارة الأحجار، فتحت عيني في تثاقل لأطالع المغطس، حاولت القيام، لكن ألم رهيب برأسي كاد يقتلني، كان بجواري فطور من الخبز، والعسل، لا بد أننا بالنهار الآن، غمست إصبعي بقدر العسل ولعقته، كان عسلا شهيا، أو مقدسا؛ فقد زال ألم رأسي بسرعة، فقمت ولم أجد أحدا بالغرفة، ولا بالبهو، فسرت نحو المغطس، وألقيت ثيابي في طريقي كما فعلت «ابنة القمر»، وسرت عاريا حتى غمرت جسدي بالمياه المعطرة، حاولت أن أتذكر ما حدث الليلة السابقة، ولم أستطع، فقط، تذكرت صورا متقطعة، وكلمات متفرقة كما سردتها، تألمت لما قلته لها، هل حقا أراها عاهرة؟ كيف تفوهت بمثل هذا اللغو؟ ابنة القمر؟ إنها مقدسة.
مقدسة! كيف تكون مقدسة وتشترك في مثل تلك المؤامرة؟! تعجبت مني؛ فبالأمس كنت على أتم الاستعداد للموت مقابل التقرب منها، وبعد لحظات من مشاهدتها تستحم أمامي وصفتها بالعاهرة، وصرت على استعداد للموت في سبيل الخروج من تلك المقبرة، عجيب أمر الإنسان وسريع هو ما يغير قلبه من حال لحال.
تذكرت كيف كانت تقرأ عقلي دون أن أنطق، وانتابني الرعب مرة أخرى، ماذا لو عرفت ما أخفيه؟ أو أخبرت كبير الكهنة؟ هل يعرف كبير الكهنة أيضا لغة العقول من دون النطق؟ حتما سيكون فيها هلاكي، لكن لو كان يعرف تلك اللغة لما اختارني لتلك المهمة، أو ربما اختارني لها ليذبحني دون أن يحتاج لمبرر؛ فستكون حينئذ إرادة «آمون»، نعم لا بد أنه عرف أني لا أومن بآمون، ولا بكل تلك الآلهة، يا لها من مصيبة! وكنت أظن أنني استطعت خداع الجميع كل تلك الفترة، طوال حياتي وأنا أبدو الفتى المثالي لعبادة آمون، وكما يقولون تجلت بركة آمون وحلت بي في عملي كمهندس، لا أقدس سوى عملي، ماذا لو عرف أن عملي بالمعابد لم يكن لتمجيد آمون وعبادته؟ لم أفكر يوما أن أمجده في عملي، بل كنت أصنع بيوتا تخلد الحب والخير، بيوتا تقدس سلام الروح، وكنت أحب عطور النساء، ابنة القمر، هل تقبل أن تمنحني شرف لعقها كما لعقها كل بلاط آمون؟ يا له من مطلب وضيع؛ أقصد أن تمنحني شرف مضاجعتها كما يضاجع النهر الأرض السمراء! هذا المطلب أفضل بكثير.
ويبدو أن الحظ الذي حالفني طوال حياتي قد قرر الهرب مني، ربما ليعبد آمون، ويتركني أسيرا لتلك اللعبة التي ستنتهي حتما بهلاكي؛ فقد قطع صوتها كل شيء مرة أخرى. - يبدو أن كبير الكهنة لم يخطئ ظنه؛ فأنت بك بركة آمون؛ بالأمس نمت كطفل وديع.
رغم أنني لم أشعر بالسخرية من صوتها، إلا أنني كنت على يقين من أنها تسخر مني، لم أتمكن مما هو أكثر من الابتسام، متطلعا صوب صوتها.
مزيج عجيب؛ فبرغم كل الرعب الذي أشعر به، وبرغم خطورة تلك المرأة، إلا أنني أشعر بسعادة الأطفال في مولد إيزيس، حين تقترب مني، نسيت أني عار بالمغطس حتى اقتربت هي برداء من الكتان الملكي الناعم، والكحل يحيط عينيها، وشعرها ينساب كليل فضي بلون القمر، بدأت تتفحصني، فنظرت بعفوية صبيانية صوب أعضائي، لأرى إن كان قضيبي يظهر بحجم مناسب، فشعرت بالخجل أكثر؛ فقد بدا لي أنه قد رحل عني خوفا، أعطتني وشاحا قطنيا وعلى وجهها ابتسامة أربكتني أكثر، ولم ترحمني بل قالت: «لا تخف؛ عادة ما يحدث هذا في الماء البارد.» وأطلقت ضحكتها الساخرة، فخطفت الوشاح ولففته حول وسطي وأنا أقوم من المغطس. - ماذا حدث بالأمس؟ (سألتها.) - وصفتني بالعاهرة (أجابت مبتسمة). - عذرا لم أقصد أن ... - (مقاطعة) بل تقصد وتقصد. - أنا كنت فقط مرتاعا من فكرة هذا القبر الذي ... - قبر؟ وهل كنت سأزورك وأنت تستحم في القبر؟ - ربما بركة آمون قد حلت بي في القبر فأرسل من أحب ليؤنس وحدتي. - أراك تتحدث عن بركة آمون الآن (رافعة حاجبها الأيسر بخبث) فأدركت أنها تعرف كل شيء؛ ففكرت في مناورة أخيرة. - نعم، فكل ما نصادفه من خير هو فعل بركة آمون.
بدا بوضوح أني كاذب ؛ فأنا نفسي لم أصدق نبرة صوتي حينها، لكنها لم تقس علي تلك المرة، بل جلست قرب السرير على الأرض كما كانت تجلس أمس، «تجلس الوصيفات والخادمات بجوار أسرة أسيادهن.» قالتها وأومأت بعينها أن أجلس على السرير كسيد، ربما كانت تحقق لي حلمي قبل أن أذبح ببهو المعبد، اقتربت لأجلس بجوارها فأشارت إلى السرير فأطعتها، جلست متظاهرا بالهدوء والاسترخاء، لكنها لم تصدق أيا منهما، فقررت التخلص من كل خوفي بهجوم مباغت فسألتها: كيف تجلس معلمتي على الأرض بجوار سريري؟ - أنا أجلس بقرب قدم الملك (وسمرتني بمكاني بنظرتها المشتعلة ما بين الثقة والإغواء، ما بين القوة والاستسلام). - وهل يقبل كبير كهنة آمون أن يكون الملك القادم ممن يقولون غير ما يؤمنون به؟
ابتسمت ابتسامة الاسترخاء قائلة: وبماذا تؤمن أنت ولا تقوله؟
تملكتني الحيرة، فلم أعرف أأتكلم وأصرح بما أومن به، أم أستمر في التظاهر، الأمر مرعب، رغم أن النتيجة قد تتساوى بالذبح ببهو المعبد، فلو صرحت سيتم ذبحي، ولو أخفيت فلن تحل بركة آمون، فكيف تحل بركة من لا وجود له؟! كيف يمنح اللاوجود وجودا؟! فقررت خوض اللعبة حتى النفس الأخير. - ما أومن به أنا، حسنا أنا لا أومن بكبير الكهنة، وأراه مجرد وسيط ما بين اللاشيء، وكل شيء، يتربح السلطة التي يمنحها له الملوك والرعاع، أومن بأنه لا يعرف آمون ولا آمون يعرفه، وأن كل الطقوس الغريبة التي يمارسها ليقنع الجميع بأنه يتلقى الأوامر من آمون لهي مجرد لعبة وضيعة تبقيه في سلطاته، وأومن أيضا بعلمه؛ فهو من تعلمت منه البناء وتعلم منه أصدقائي الطب، وأتعجب؛ فهو يملك العلم والحكمة، ما الذي يدفعه لأن يكون وضيعا لتلك الدرجة؟
توقعت أن تنهال علي بالصفعات، أو تنادي حراس المعبد لقتلي أو إلقائي بالسجن، لكن ردة فعلها جاءت عكس أي منطق. - هذا عن كبير الكهنة، فماذا عني؟ (أربكتني مرة أخرى.) - ماذا عنك؟ - إن كنت تراه بتلك الوضاعة فلا بد أنك تراني وضيعة أيضا، أو ربما عشيقته، أو كما قلت بالأمس أنني عاهرة. - لقد قلت عذرا عما قلته بالأمس. - لسنا بالأمس الآن (قالتها مقاطعة). - لا أستطيع أن أفهم من أنت في الحقيقة، فلست كأي امرأة رأيتها؛ تملكين أيضا ما يجعل ملوك العالم يركعون عند قدميك، ولست في حاجة لأن تستلقي فيلعقك الكهنة والأمراء من الرجال والنساء. (بدأت في الحشرجة فخرجت كلماتي الأخيرة كالفحيح، وأشحت بوجهي لأفادي عينيها.) - هل تعرف كيف يدار الأربعون إقليما؟ - يوجد أمراء يعينهم الملك ويباركهم كبير الكهنة يديرون الأقاليم. - فقط؟ - لا أفهم ما تقصدين؟ وما علاقة ذلك بما كنت أقوله؟ - بل تفهم ما أقصد جيدا، وأما عن علاقة ذلك بما قلته فهذا هو سر وجودك هنا الآن.
جذبت كامل اهتمامي بطريقة تحدثها وبثقتها وعدت بوجهي لمواجهة تلك الأعين الساحرة والإنصات لما تقول، استرسلت. - إن ما تفهمه وما ترفض أن تفهمه، إن ما تؤمن به وما ترفض أن تؤمن به، ولكنك تظهره هو سر إدارة الدولة، إن من يحكم الأقاليم هو آمون الذي لا وجود له، وينوب عنه الملك بإعلان كبير الكهنة أنه ابن آمون، وممثله في الأرض، وينوب عن الملك الأمراء، لو اختلف الملك والأمراء والكهنة على أمر فمن يفصل فيه؟ - آمون؟ - بالضبط، ومن يبلغه بأمره؟ - كبير الكهنة. - ولو كان آمون لا وجود له كما تقول، فمن هو مطلق السلطة في الدولة؟ - كبير الكهنة. - الآن بدأت تفهم. - الدولة تدار من المعبد وليس من القصر، فما هي أهمية القصر والملك؟ وما هو دورك إن كان كبير الكهنة هو الملك الحقيقي؟ - لقد جاء وقت الراحة، سأرسل إليك الخادمات الآن لمساعدتك على الراحة (غمزت بعينها بخبث) وقامت بوثبة واحدة وانصرفت قبل أن أرد.
البشرى
لم أنتبه كثيرا للخادمات الحسان اللائي قدمن لي بملابس نظيفة وزيوت عطرية وسلة فاكهة كبيرة وآنية نبيذ، كنت مستسلما لهن حتى فرغن من طقوس تغيير الملابس والدهان، واتكأت بجوار المغطس ممسكا بكأس من الذهب كلما فرغ ملأنه لي من طيب النبيذ.
آمون، رب الأرباب، إله الشمس، كيف يصدقون ذلك؟ ولماذا لم ينقذهم حين جاء الغزاة من الشرق؟ أين كان ومعابده تهدم في طيبة ومنف؟ لم أكن أفكر بشكل منتظم أو بترتيب معقول بل تقفز صور من هنا وهناك لرأسي الدائر من النبيذ ومن كلام «ابنة القمر» هل حقا أراها عاهرة؟ بل هل حقا هي عاهرة؟ وذلك الكبير المتسلط الذي سيذبحني قريبا، تعبت من التفكير وبدأ رأسي بالتثاقل، بالكاد أحافظ عليه فوق أكتافي، كان الخادمات يداعبنني وأنا مستسلم، لا أعرف كم منهن ضاجعت؛ فلم أكن أرى في وجه أي منهن سوى وجه ابنة القمر، أهكذا يعيش الملوك؛ منعمين بما لذ وطاب من العسل والخمر واللبن والحسان في سجن مذهب وتحت إمرة كبير الكهنة؟ أتعجب من تلك العلاقة؛ فملك يجيء بكبير الكهنة وينصبه في المعبد، وكبير الكهنة يجيء بالملك وينصبه بالمعبد. الناس ترى الملك الرجل الأول وكبير الكهنة هو الرجل الثاني، وكلاهما يعرف أن كبير الكهنة هو الرجل الأول. يزيد الدوار كلما حاولت الفهم، الجميع يمتثل للملك لأنه ابن الإله، والملك يمتثل للكاهن الأعظم لأنه متحدث الإله ... لكن هناك ملوك ذبحوا كاهنهم الأعظم الذي ورثوه مع العرش؛ فلماذا لم يأت وقتها بكلام من آمون ينفي فيه نسب الملك ويقلب الجميع ضد الملك؟
طلبت صندوقا من الرمل وعصا صغيرة، وجاء طلبي بسرعة.
رسمت نهرا بطول الصندوق فقسمه نصفين، ورسمت شمسا في الشرق وشمسا في الغرب، وأخذت أفكر أين آمون؟ نصبت عيني على النهر فرأيت الشمس تتحرك من الشرق للغرب، شعرت ببعض الدوار، النهر يتحرك والشمس تتحرك، بدت لي الخطوط مضيئة بلون فضي يشبه صورة القمر على المياه، تزداد سرعة الحركة، أحاول إيقافها، فلملمت الشرق والغرب والشمال والجنوب فرأيت مربعا مضيئا، حاولت إزاحته فلم أتمكن، حاولت ضغطه على نفسه فصار يقاوم وأنا أدفعه بقوة فيصغر شيئا فشيئا أضغط بقوة أكثر حتى صار نقطة.
إنه الهرم، بقاعدته المربعة، ورأسه المدبب حيث يتلاقى منبع النهر بمصبه، ومشرق الشمس بمغربها، حاولت تثبيت الصورة أكثر فأكثر فتحولت الأضواء الفضية لكتلة حجرية بقلب من الجرانيت الصلب، وتبدلت قمته بهريم من الذهب، ثم غطى بدنه طبقة من الملاص أخفت حجارته وقلبه وأخذت الطبقة في الصعود حتى وصلت لقاعدة الهريم، فبرقت وتحول الهريم لكتلة من الضياء، وكأنه ابتلع طاقة الهرم بأكمله وظهر من قمته شعاع من الضوء شعرت به يخترق السقف الملون وينطلق لعنان السماء، ثم اختفى كل شيء وبقي ما رسمته بصندوق الرمال.
لا أعرف كيف وصلت للمغطس وكيف نزلت في الماء بملابسي ونعلي، فلم أشعر سوى بضيق أنفاسي فرفعت رأسي بقوة قبل أن أختنق.
عادت صورة الهرم برأسي ولكن بشكل هندسي كما نرسمه على صحف البردي، لكني أراه الآن بشكل مختلف، فما عدت أرى الخطوط، بل أرى ما يخفيه من طاقة الشمس بحركتها والنهر بسريانه، رأيت طاقة الشعاع المنبعث من قمة الهرم تخترقه كمحور يصل لقاعه ويمتد مرة أخرى، أخذت أفكر في الأحجار وتخيلت لو كل حجر كان حطبا ورصصناهم لحصلنا على نار تكفي لحرق الأرض والسماء، لم الحرق؟ لما لا يكون الضياء؟ نحصل على ضوء يضيء الأرض والسماء.
خرجت من المغطس ورأسي يكاد ينصهر، وطلبت أصابع الفحم والجير، وأيضا لم تتأخر تلبية طلبي، حركت كل الأثاث جانبا في القاعة الرئيسية فحصلت على لوحة كبيرة من الحجر، ورسمت هرما كبيرا بالفحم على أرضية القاعة ورسمت القلب والهريم بالفحم أيضا، ثم رسمت الشمس تتحرك لقمة الهرم بالجير والنهر أيضا، كتبت على الهريم: «الملك»، وعلى القلب كتبت: «المعبد»، وكتبت على البدن: «الشعب»، ورسمت محور الضياء واستلقيت بجوار ما رسمت، وسبحت في مملكة من الضياء.
قبل النهاية بقليل
أفقت متكاسلا وعيني للسقف الحجري، «تحوت» إله الحكمة والكتابة والإبداع يمنح البركة للملك الذي لا أعرفه، ربما كان «تحتمس الثالث» أو «أمنحتب الثالث» ونقش آخر «لإيزيس» تمنحه «عنخ» أو مفتاح الحياة، الحكمة والحياة، لم ألاحظها بالأمس رغم تحديقي المستمر بالسقف، لم أتوقف كثيرا عند الحياة، لكن الحكمة استوقفتني، الحكمة، الحكمة في الصبر؟ الحكمة في التغافل؟ في الصمت؟ هل من الحكمة قبولي عرض «الراعي»؟ أم أنها في رفضي له؟ ما يراه القوي مصلحة ويراه الضعيف مؤامرة، للأسف لم أكن القوي في تلك الجولة، ربما كان من «الحكمة» الاعتراف على الأقل لنفسي .
هل ستأتي «نيرمين قمر» لتكون لعنتي في قبول عرض «الراعي»؟ بالطبع ستأتي، كنت أتقافز بين الأسئلة والأجوبة حتى توقفت على دقات كعب رشيقة بالقاعة المجاورة، وتسللت رائحة الغابات لسريري، فادعيت النوم لربما تأتي إلى هنا.
أرسلت صوتها سائلة إن كنت أريد بعض القهوة مع الإفطار، لم أجبها، «بالطبع لن آتي لأساعدك في ارتداء ملابسك ...» قالتها بمكر جعلني ابتسم خارجا من صمتي قائلا: «ولم لا، ظننت أنك ستساعديني في تعلم التقاليد ...» ضحكت قائلة: «وهذا هو الدرس الأول، الرئيس لا يستقبل سيدات وهو بفراشه، وبدون ملابسه.»
حسنا، حسنا لقد انتصرت، ذكية هي بقدر جمالها، لم أعد أخشى الذكاء أو القدرة على قراءة أفكاري، بداية من «توحة» التي علمت أنني لن آتي إليها، ووصولا «لنيرمين قمر»، ابنه القمر التي تعلم رغبتي في تذوق عطرها البري.
ارتديت بنطالا ترابي اللون، وحذاء خفيفا بدون جوارب، وقميصا من الكتان الأبيض، وخرجت إليها، كانت ترتدي حلة نسائية زرقاء داكنة، تعلو تنورتها عن ركبتيها بقليل، وقميص أبيض وحذاء يشد أرجلها ويظهر مفاتنها، تناولت شطيرة وكوبا من القهوة المفلترة، وجلست بمقابلتها، أشعلت سيجارتها ونفثت دخانها لأعلى، ثم وضعت رجلها اليسرى فوق اليمنى ليظهر نصف فخذها ... لم أكن لأختلس النظر وأترك عينيها الواسعة، الداكنة، اللامعة، لكنني فعلت.
وكانت الأيام تمر بيننا، نقضي الوقت سويا في تقاليد الجلوس، والحركة، متى، من، كيف، وكنت دوما أختلس النظرات واقتنص البعض من عفويتها الذكية والمثيرة، لم أقابل امرأة مثلها من قبل، بالطبع لم أكن لأقابلها، كيف ستقابل هذه الكاهنة شابا مثلي؟ في أي عصر؟ وأية ظروف؟
في الحقيقة لم أكن متطلعا لتعلم التقاليد الرئاسية بقدر رغبتي في التقرب من «نيرمين»، كانت تكبرني سنا وعلما بالكثير من أمور الحياة، لم تكن فقط أنثى، بل كانت سيدة؛ قاسية حين تقاتل، ناعمة حين تلين، قطة في دلالها، ولبؤة في رغبتها، وكوبرا في حركتها، كانت تمتزج بنقوش الجدران الحجرية فتتوحد مع صور الملكات، والخادمات، والراقصات، كانت ككاهنة المعبد، تملك الأسرار، تملك القلوب، تملك المعبد.
لم يعد «الراعي» يثير حفيظتي كلما ظهر بلا موعد أو تغيرت ملامح وجهه طبقا لحالة الأداء المسرحي التي يعيشها باقتدار واحتراف، لم أعد أراه غير كبير الكهنة، يصنع فرعونا جديدا، يربيه على يديه، ربما ليضعه على كرسي الحكم لثلاثين عاما قادمة، ربما هو من وضع «الوزير آي» على كرسي الحكم ومن أقنع «حور محب» بتولي زمام الأمور وإعادة الوحدة والأمجاد لطيبة، لن أنسى وزراء السيادة وهم يتحركون بإشارة منه، هو قام بدوره ببراعة مذهلة، أنساني من كنت ومن أين أتيت، نسيت بيتي بشارع البوستة، ونسيت «توحة»، نسيت أصدقائي ومصيرهم بعد هزلية سقوط النظام، نسيت كل شيء، وكأنني ولدت على يده من رحم نيرمين قمر.
حفظت جميع النقوش بالجدران والسقف، رأيت نفسي بينها، يتم إعدادي لمهمة كبرى، خلف قناع ذهبي، رأيت كبيرة الكهنة، والكاهن الأعظم، رأيت الدولة والمعبد، رأيت العوام يقفون بالبهو الرئيسي والخواص بالبهو الأوسط، والصفوة بقاعة التتويج، ورأيتها ترقص، خلف قناعي الذهبي، خلف عظام وجهي، وبين الضلوع، رأيتها تنساب كدماء حارة تعلوها النسمات، رأيتها تحتلني، وتجوب أروقتي، فتنام بقلبي، وتعبث بعقلي، وتلهو كالأطفال بين أوردتي، ورغم كل شيء فقد عقدت عزمي منذ البداية.
كانت ترى وقتها أنني أبليت بلاء حسنا، وأن نظرة «الراعي» دائما ما تصيب، بينما لم أكن أرى أي إصابة فيما يرى هذا «الراعي»، بل كنت أراه ككاهن المعبد، يحكم من دون سلطة، يدير الدولة من معبده، وتتحمل العواقب أنظمة تتصدر المشهد.
كنت أشعر بقرب النهاية كلما اقتربت من «نيرمين»، وكأنها هي نهايتي، تذكرني عذوبتها دوما بأحلامي المتكررة، بالمرأة وابنتها، تعتليني وأعتليها ونتحول لتمثال من الرخام، لحظة الوصول، لحظة الفناء، كل ليلة كانت تغادر هذا السجن الحجري، وتتركني للنقوش الحجرية، أبحث عنها بين الملكات، وأحلم بالنهاية، ولم يكن الحلم أبدا يشبه حكم مصر.
وصرت إلها
دقات متتالية بوقع منتظم، أصوات متداخلة بالكاد أميز صوت كبير الكهنة قبل أن يأتي صوت «ابنة القمر» ليمحو كل ما أعرفه من أصوات، لم أقو على الحركة، فتحت عيني لنصفيهما لأرى نعلها وساقيها المرمريتين، وددت لو يذبحني الآن فيكونا آخر ما أرى فتظل ابنة القمر آخر صورة تتجمد عليها عيناي.
توقفا بجواري وتوقفت معهما الكلمات، لا أدري ما يحدث الآن، أود القيام لكن لا يساعدني جسدي وكأنه تحجر كأحجار القاعة، «ألم أقل لك؟» هكذا قال كبير الكهنة فأجابته «هل هذا يعني إنه مستعد؟» دق بعصاه الأرض مجيبا «ليس بعد؛ فقد وصل للمعرفة ولا يعرف ما تعنيه بعد، لكنه سيكون مستعدا قبل دورة القمر ...»
دق بعصاه مرة أخرى وانصرف، وبقيت هي، «ابنة القمر»، لا أعرف عما كانا يتحدثان وكيف تعاملا مع ما اكتشفته بتلك اللامبالاة، أغاظني الأمر ربما لأني مخلوق يقدر الثناء، جلست بجواري فلم أتمالك نفسي ولم أمنعها من استجماع كل طاقتي لأرفع رأسي لأجد وجهها المضيء أمامي يفصلني عنه مقياس إصبع ونصف، غمرتني رائحتها، حاولت أن أقترب منها لأنهل من هذا الثغر الأشهى من حبات أفخر أنواع العنب، أغمضت عيني ولا أدري إن كانت شفتاي لامست شفتيها أم لا؛ فقد سقطت مرة أخرى. - يفترض أن تفيق الآن (قالتها ابنة القمر). - أفقت قليلا، ماذا حدث؟ (سألتها.) - لا شيء يبدو أنك أسرفت في النبيذ ومداعبة الجاريات (مطلقة ضحكتها الرنانة).
تذكرت اكتشافي فقفزت من السرير بعصبية أنستني وجودها، وأزحت الأثاث مرة أخرى، ولم أهدأ حتى وجدت معظمه لم يمحه تحريك الخادمات للأثاث، جلست بجواره، وبيدي أصابع الفحم والجير، ثم انتبهت لوجودها مرة أخرى حين جلست بجواري قائلة: «يبدو أن الجاريات لم يعجبن الملك فحاول تقبيلي بالأمس.» - وهل نجح؟ (سألتها.)
ضحكت بمنتهى الدلال والإغواء قائلة: «لماذا لا تسأله؟» نظرت للهرم المرسوم وأكملت: «لكن يبدو أنه مشغول بشئون الدولة أكثر من خادمة آمون» ونظرت في عيني بدلال صبية لم تتجاوز التاسعة من العمر، حاولت الرد لكن وقع كلمة الدولة جعلني أكتب بسرعة «الدولة» كعنوان لما رسمت ووقفت أحدق فيه.
الدولة تتكون من هرم قاعدته هي الحدود، وارتفاعه هو قوتها، قلبها هو المعبد، وقوامها هو العمال والفلاحون والبناءون، ورأسها الملك يستمد قوته وقمته من القلب والبدن ، والملاص يخفي كل شيء، تمتد الطاقة بمحوره فتضيء العالم الأعلى والدولة والعالم الأسفل.
الدولة، تلك هي الدولة كما رأيتها (مشيرا للهرم المرسوم).
وشرحت لها كيف تكون الهرم من تلاقي الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب، والهريم النفيس، وكلما لمعت عيناها زادتني حماسا وتألقا، أعربت عن نظرتي عن التكوين العام للدولة، وأنهيت خطابي الحماسي بسؤالها عن مكان آمون في تلك الدولة؟ لم يثرها سؤالي بل رمقتني كما لو أنني كنت أهذي وردت ببرود: «لم يكن آمون نفسه ليشرح لي الحقيقة كما فعلت الآن، أما زلت تسأل؟» - إنني أحاول أن أفهم. - لقد فهمت بالفعل.
بدأت أشعر بالدوار مرة أخرى، أصدقها في أنني فهمت لكنني لم أفهم، كم هو صعب أن تعرف وتعرف أنك عرفت لكنك لا تستطيع أن تصوغ ما عرفته ليتحول من أفكار لمعارف، بدت حيرتي واضحة في عبوس وجهي، ظننت أنها قد تبوح ببعض ما تخفيه لكنها كانت كالجرانيت الصلد الذي ينفجر بالنار، لكنه يقطع بالماء، لم لا أجرب الماء؟ - لقد تعبت حقا، لماذا كل شيء ملك لآمون؟ وبأي طريقة يختار الأمراء ليمن عليهم بما يملكون؟ رغم أن الفلاحين هم من يزرعون الأرض ويرعون غنمها وبهائمها وثيرانها؟ - هل تظن أن الفلاح لو ملك ما يزرعه سيزرع مرة أخرى؟ كلا أيها الملك، سيتحول من فلاح لأمير وستنعم يده ولن يقوى على حمل الفأس، وستنضر بشرته فلا يقوى على تحمل الشمس الحارقة. - لكنه من يزرع. - الأدوات يملكها آمون، آمون يملك المعول والإزميل والمطرقة، يأتي البناؤن مع شروق الشمس يتسلمون الأدوات ويعملون، هل فكرت ما قد يحدث لو عادوا لبيوتهم وهم يملكون الأدوات؟ لن يأتي أحد منهم في اليوم التالي، بل ستنعم أيديهم ويطمعون في امتلاك العبيد، بل سيذهبون لما هو أبعد فيحلمون بمقبرة وبأوشباتية يخدمونهم في بيت الأبدية، سيتحولون لأمراء فيزيد العاطلون واحدا وتقل الأيادي البناءة اثنتين، آمون يملك الثور والشادوف والأرض والنهر، تلك هي العقيدة أيها الملك الإله، آمون يملك كل شيء، وكل شيء يعمل طمعا في بركة آمون أو خوفا من بطشه .
تنبهت قليلا لقولها «الملك الإله »، لكن لم يتوقف ذهني عند هذا القول كثيرا، فحتى الملك والإله ملك لآمون، انفرج ثغري عن ابتسامة رأيت جمالها في عين «ابنة القمر» حين لمعت بإطلالة الفارس المقدام، لم يضايقني كثيرا ما قالته؛ فأراه لحد كبير يتوافق مع عقلي، تذكرت ما حدث في معبد الملكة الأم حين أثنيت على أحد النحاتين، فتكاسل في اليوم التالي وصار يعامل رفقاءه كما لو كان كبير البنائين، تذكرت أنني أبعدته من العمل ولم أصرف أجره ثلاثة أيام، فعاد بحماس أكبر وبمهارة أعلى، محقة هي «ابنة القمر»، ربما ما كان يزعجني هو أنني أراهم بشرا مثلهم مثلي، ربما كنت محقا؛ فهم بشر ولكنهم ليسوا مثلي، كلنا متشابهون وكلنا يملؤنا الاختلاف.
وماذا لو أدرك هذا الشعب حقيقة دوره في خدمة المعبد والعمل لمصلحة الدولة كأدوات جامدة لا تختلف عن المعول والإزميل، أو كمخلوقات أقل لا تختلف عن الثور؟ (قلت بنبرة متشككة.) - أي شعب أيها الملك الرقيق القلب؟ الشعب يدرك ما تدركه ويعرف؛ لكنه أيضا يعرف مكانه الصحيح في هذا الهرم الذي رسمته هنا (وأشارت لرسومي على أرض القاعة) فيطمع في المزيد في مكانه، لكنه لا يطمح للارتقاء لمرتبة أعلى، الشعب أفراد تجمعهم الطاعة، وتفرقهم الأطماع، هل تظن أن بإمكانك المراهنة على هذا الشعب؟ - ولم لا؟ - وكيف تصدق أنت شعبا يمجد من يكرهه، ويلعق نعل من يدوسه، يخالف الرب باسم الرب، لا يعمل من أجل القمح؛ فهو يسرقه من سيده، ولا يعمل من أجل مجد طيبة؛ فطيبة ملك لآمون، وفي النهاية يقدم الجميع قرابينهم لآمون من نصف ما يسرقونه. - ماذا لو حاول الشعب التحرر من سلطة آمون للأبد؟ - الحرية؟ حسنا، من الممكن أن تحارب من أجل حرية كاملة، ويمكن أن تتفاوض على حرية مشروطة، ويمكن أن تعيش على فتات حرية مفتعلة، ويمكن أن تعيش حلم الحرية في سجن، والغباء دوما أحد البدائل. - أين تعلمت كل تلك الأشياء؟ (قلتها بنبرة إعجاب غير مستترة.) - تسأل عن عمرى مرة أخرى أيها الملك! أعتقد أنه الأوان المناسب لتعرف، أنا من علمت الهوى لأول الرجال وآخر الملوك، وتعلمت الحكمة من كبير الكهان والبنائين والأطباء، أبي هو القمر وأمي هي النجوم (ثم تغيرت نبرتها للإغواء) ما رأيك في مضاجعتي الآن لتعرف أكثر؟ - وما الذي سأعرفه من ذلك؟ (قلتها وأخفي بداخلي آلاف الأجراس التي تدق فرحا؛ فقد خلت ألا تتاح لي تلك النشوة المقدسة أبدا.) - ها قد بدأت تتصرف كالملوك، صدق كبير الكهنة، سأعطيك كل ما أعرفه وآخذ كل ما تعرفه، كل شيء مقابل كل شيء. - ها قد بدأت تتصرفين كرجال المال ... ويا لي من ساذج أحمق! ظننت أن التمتع بالعشق والهوى هو المبتغى. - لا شيء في الكون أمتع من المعرفة أيها الملك الحكيم.
قالتها وهي تزحف بجسدها لتغطيني طاوية الجدران والمكان والزمان، لا أذكر شيئا مما حدث؛ فقد غمرني النور، لا أعرف أملأتها بي أم امتلأت بها، فقط أسبح ببحر من ضياء والبرق يصعقني، آلاف الصور تمرق كسيل المطر، رأيت ملوك الأرض يحاربون، يموتون، يحكمون، رأيت الكهنة بملابس غريبة تشبه المهرجين يربطون في رقابهم قطعا من القماش المزركش الغريب، رأيت المعابد تقام وتنهار، رأيت السماء تبيض، زرقتها يملؤها ضياء ينطلق بقوة داخل جسدي يطرد كل شيء، لم أعد أقوى على تحمله، ينهار جسدي وأنهار.
لم تعد «ابنة القمر» تلك المرأة الفاتنة التي دوما حلمت بمجرد ملامستها، بل صارت كبرديات الكون نهلت منها العلم لا الهوى، شربت من ثغرها «الماعت»، ومن ثديها الصبر، ومن فرجها الحقيقة، لا أعرف كم مرة توحدنا سويا، ولا أعرف ما أعطيتها، لكن في كل مرة كانت الصور البارقة تتحرك بسرعة أقل فأميزها أكثر، حتى حانت لحظات التشبع، وللمرة الأولى شعرت بها عارية على صدري تهمس بأعذب كلمات العشق وتموء كهرة مدللة، لم يكن هناك أي ضياء أو صور أو أحداث، غابت شمس الملوك، والبلاط، والمعبد، والكهنة، ولم يبق لي سوى «ابنة القمر» عارية تعتليني وتعتصرني فأصير نبيذ المعبد بداخلها، وتمطرني برحيق غاباتها المقدسة، كانت المرة الأولى التي شعرت بأنني أتذوقها حقا، وكانت أيضا مرتي الأخيرة، تمنيت أن يقف الزمن للأبد أو يمرق كضوء الشمس، لا أعرف لماذا وددت مروق الزمن والانتهاء منها، فقط شعرت بأن هناك ما هو أهم من «ابنة القمر» يا لي من أحمق تعيس، أعيش عمري لتلك اللحظة وحين أنالها أحاول تخطيها والمضي لما هو أهم! لكن حقا لم أكن أدري ما هو ذلك «الأهم».
انتهت مني، أو انتهيت منها، أو هكذا فقط انتهينا.
لم أعد أهاب طرقات كبير الكهنة أو أتجنب عينيه؛ فقد صرت أراه من داخله لا ما يظهره، تحولت العلاقة كثيرا واختفت نبرة التعجرف والتهديد وحلت محلها نبرة الطاعة والإصغاء، لم أعد أتحدث كثيرا، وصرت أنصت أكثر، لا أعرف ما حدث لملامحي؛ فقد صارت أكثر حدة أو ربما وضوحا، تحولت إشراقة عيني لبريق متفاوت الضياء والحدة أيضا، حتى «ابنة القمر» لم نعد نتحدث كثيرا بل صرنا نتشاطر الفراش أكثر، فأعرف كل ما يحدث خارج مقصورتي التي لم أعد أراها مقبرة.
سارت الأمور على ما يرام حتى شعرت ببعض الغلظة في القلب، ونبتت بعض الشعيرات الذهبية تحت إبطي، انتابني الخوف، وبدأت أهذي فظننتها الحمى، حتى جاء كبير الكهنة ومعه طبيب القصر، فقال الأخير: «مبروك، لقد صرت إلها.»
هكذا تم الأمر.
القرار
صباح جديد، كنت أريد رؤية الشمس، أذكر آخر مرة رأيتها يوم حرقت «توحة» سيارتي، كنت أحن اليوم كثيرا لحياتي، استيقظت نشيطا، استحممت سريعا، وارتديت حلة رسمية، وأعددت القهوة، وانتظرت «ابنة القمر» بشطائرها، أعددت كل شيء، أو هكذا ظننت.
لكنها لم تكن بمفردها اليوم، كانت بصحبة «الراعي»، تعجبت، فكلاهما كان يرتدي ملابس رسمية، وكأنه يوم مميز، لم أشعر بارتياح، تبددت كل ترتيباتي لليوم بقدوم الكاهن الأعظم معها، بدوت فاترا أمام ابتسامته العريضة وهو يطالع مشروعه الفني، ولم لا يفخر، قد حول شابا من اللاشيء لرئيس جمهورية.
تعلمت كل شيء عن التقاليد الرئاسية والمراسم؛ كيف أقف؟ متى أبتسم؟ كيف أعبر عن كل شيء بلغة الجسد؟ لم يختلف الأمر عن تجارب الأداء لأي ممثل، تعلمت أن أؤدي دور رئيس الجمهورية، لكنني لم أتعلم أن أكون رئيسا .
ابتسمت له محييا وأنا أقبل يد نيرمين بشكل مسرحي بعض الشيء، أخجلها تصرفي وشعرت بأناملها تحاول الفكاك مني، اعتدلت وصافحته، ودعوتهما للجلوس. - يبدو أنك جاهز الآن سيادة الرئيس (قالها الراعي). - الأمر يعود لرأي السيدة نيرمين، سيد كمال (قلتها ناظرا لها بابتسامة أربكتها).
أشادت «نيرمين» بتميزي وأثنت علي كثيرا، كما أثنت على كبير الكهنة، مرت لحظات من الصمت وكأن الجميع في انتظار إطلاق صفارة الانطلاق لقصر الرئاسة، لكن كعادتي كان لي رأي آخر. - لن أذهب (قلتها بهدوء). - عفوا! (سأل الراعي وبدت على نيرمين الدهشة.) - لن أذهب إلى قصر الرئاسة؛ فلست رئيسا. - هل تظنها لعبة؟! هل تعلم ما تكلفنا حتى نصل بك لهذا؟ - ليست لعبة، ويمكنك اعتبار أنني فشلت. - لكنك تعرف جيدا مصير من يفشل. - لن أفاوضك على حياتي، بينما أنت مستعد لمفاوضتي على الاستمرار، هذا هو الفرق. - هل تترك كل شيء من أجل لا شيء؟! - لا أحد يحصل على كل شيء، ولا أحد سيمنعني عن اللاشيء.
تلاشى سقف الغرفة بسحب الدخان والغضب، كنت أنفث دخان سجائري و«الراعي» ينفث غضبه، و«نيرمين» تحاول تهدئة الموقف أو على الأقل فهمه، فسألت بتودد: «لماذا؟»
لم أكن أريد أن أبدو غريبا فابتسمت لها قائلا: «لم يكن ضمن أحلامي أن أصبح رئيس جمهورية، أو وزيرا، أو محافظا، ولم أجد لدي القدرة على تغيير أحلامي، أنا أحلم بفرصة، أعلم أنها لن تتحقق؛ فحياتي قبل أن آتي هنا والتي قد ترونها لا شيء كانت هي «الكل» شيء بالنسبة لي، لست أنا من يعيش خلف قناع ورهن نظرات كبير الكهنة، ببساطة لو كنت أرغب بالتمثيل لكنت مثلت مع أصدقائي من البداية، سيدتي، السيد «كمال» لا يحتاج لرئيس جمهورية، بل لممثل فشل في مواجهة الكاميرات، يعده، يدربه، ليصل بالكثير لمستوى كومبارس متكلم ...»
لم أكن أدري أنني أثرت غضب «كمال الراعي» للدرجة التي جعلته يصيح في مهددا متوعدا، وبأنني قد انتهيت ولن تشرق الشمس علي مرة أخرى. حاولت «نيرمين» تهدئته، نجحت لحد كبير، همست إليه بأنها ستتولى الأمور، وكل شيء سيكون على ما يرام. - هل تقبلين الزواج بي؟ سألتها. - عفوا؟ قالتها باستنكار وأضافت: «أتزوجك لتصبح رئيسا؟» - لا تتزوجيني قبل أن يقتلني السيد كمال.
كانت جملتي الأخيرة وابتسمت بعدها، لم يبق إلا الكلمة الأخيرة للراعي: «لن يعرف أحد شيئا عنك، لن يعرف أحد مصيرك ...» قالها وقام وأشار لنيرمين لتلحق به، ولأنني كنت حريصا على إفساد متعته، قررت أن تكون الكلمة الأخيرة لي «كلاكما يعرف مصيري ...»
التتويج
كنت أسير، لا بل كان موكبي يسير وأنا بمقصورة محمولة على رقاب أشد العبيد قساوة، وأمام الموكب يسير الكاهن الأعظم بعصاه المعقوف يليه كبار الكهنة، لم ترافقني ابنة القمر بل كانت بانتظار الركب بالمعبد.
كنت أسيرا، هذه المرة كنت فعلا أسيرا للموكب والجميع يسجدون، يسجدون لي أو للموكب، الفلاحون والعمال والأمراء الذين لم يكن لهم شرف مؤخرة الموكب، الجميع يسجدون.
كان وجهي صلبا منحوتا، يعكس صلابة الصوان، والمقصورة الذهبية لا يقارن بريقها ببريق التاج، وكأن قرص الشمس قد تمكن من التاج فسكنه، وجناحا إيزيس يحيطان برقبتي فيضفيان الحماية الأبدية، أو الذعر الأبدي «يا لها من مراسم هزلية ...» هكذا كنت أحدث نفسي، الكل يلعب دورا يراه عامة الناس، طقسا معقدا وأراه عبثا، حضرت مواكب متعددة للفرعون السابق، نفس الطقوس، نفس الوجوه المنزوعة الحياة، نفس الرهبة والخوف، نفس السجود.
كيف قال طبيب القصر بأني قد صرت إلها؟ سألت نفسي. لم تتحرك تقاسيم وجهي المنحوت لأبتسم، فابتسمت بداخلي، تعلمت الكثير من «ابنة القمر»، نعتني الكاهن الأعظم ب «المختار» والجميع يسجدون لي، لم تكن تلك رغبتي في الأساس، فكل ما حلمت به هو البناء للحب، وبالحب، فكنت أخبئ عشقي بالجدران وبين الأساطين، كنت أريد مزيدا من الحب ومزيدا من البناء.
لم أفكر يوما بمنصب بالمعبد أو بالقصر، فقط أردت البناء، ورغبت في «ابنة القمر»، أبتغيتها، كنت أحلم بها كلما اكتمل القمر، لا أذكر كم مرة سحقت ضلوعها أو كم مرة اعتصرتني، ولم تبدأ الشهوة إلا بعد توقف العلم، أخذت منها الكثير، ولا أعرف كم أعطيتها، تقول هي دوما بأنها في كل لقاء تأخذ أكثر مما تعطي، وأظن دوما أن الحقيقة أنني آخذ الكثير وربما لا أعطي.
اليوم سيتم تتويجى ملكا ل «كامي» تلك الأرض السمراء بنهرها الفضي، إلها لشعبها وقائدا لجيشها، ومالكا لأرضها وثيرانها وذهبها وقمحها وعسلها ونبيذها، هل يمكن أن يعارضني المعبد لو أردت العودة للبناء؟ (سألت نفسي) ربما يعارضونني، هل يحق لهم معارضتي؟ كيف وأنا الإله، ابن آمون؟ (ابتسمت.)
بدأ الموكب بالاقتراب من المعبد، الأتباع تزيد، الأطفال تدق الطبول الصغيرة بالحصى.
لمحت طفلا يختلس النظر إلى الموكب، لم يلحظه أحد، وتعلقت عينانا، رأيت ما بداخله، أعجبني ذلك الصبي الذي لا يبدو أنه تجاوز العاشرة من عمره؛ ففيه إصرار الملوك، عرفت أنه سيكون الملك الإله في الغد القريب، كان ينظر مباشرة لعيني، وكأنه يخبرني أنه سيرثني يوما ما، أو ربما يخبرني بأنه يعلم كيف أتيت.
هاتفني الشك بأنه قد يكون أحد أبناء «ابنة القمر»؛ فله بريق عينيها، كم أشتاق إليها، سأراها بعد قليل بقاعة التتويج.
دلف الموكب للممر الأوسط بالمعبد، متوجها لقاعة التتويج، مارا بالبهو الأعظم، حيث تنتهي رحلة العوام، مخترقا البهو الأوسط حيث يتوقف الصفوة، ليصل لبهو قدس الأقداس في صدارة المعبد، وحيث توقف الموكب، نزلت وسرت نحو الكاهن الأعظم، فقادني لكرسي العرش فجلست، وبدأت المراسم.
ارتفعت البيارق، وبدأت الأعلام في الاهتزاز والعصي بالدق على أرض البهو الحجري، لتظهر مع كل دقة إحدى الراقصات، لتتحرك وكأن الدقات تنبعث من جسدها، فتنساب إحداهن كالماء، وتتقافز الأخرى كحبات المطر، حتى بدأ قرع الطبول بتتابع سريع يبشر بقدوم إعصار، لتنساب كعادتها «ابنة القمر» وكأنها المرة الأولى التي أراها، تنساب، تنساب فترقص تحت قناعي الذهبي، وتحت عظام وجهي، وبين الضلوع، تنساب كدماء حارة تعلوها النسمات، فتقترب برائحة الغابات وتنسحب كموج البحر، لتتركني لقناعي الذهبي، وكما كانت رقصة «ابنة القمر» كان حفل التتويج، وكانت كلمات الكاهن الأعظم بحلول بركة «آمون» بي وبأنني من نسل الآلهة، وبأنني أصبحت الملك الإله بأمر «آمون»، وأصبح لي ملك مصر بما عليها ، لكن الحقيقة تختلف كثيرا، فكيف تحل بي البركة وأنا لا أومن بآمون؟! وكيف تكون البركة أن أحيا خلف هذا القناع؟ وإن كانت البركة قد حلت بي وأنني أنطق بلسان «آمون» فهل ستدعمني تلك البركة إن أمرت الآن بذبح كبير الكهنة؟ بالطبع ستحل بي لعنات ثالوث طيبة وتاسوع هليوبوليس، ابتسمت مرة أخرى خلف القناع الذهبي، فقد رأيت الحقيقة واضحة، كما رأيت كل الأسرار في رحم «ابنة القمر»، فقد حلت بي لعنة «آمون» بأن أحيا أسيرا خلف قناع ذهبي، لم أصدق أبدا وجود «آمون» لكنني الآن صدقت لعنته.
Unknown page