وانكمش الأطفال متكورين بعضهم داخل البعض فوق الدكة الخشبية. امتدت العصا طويلة لامعة كالسكين، واستقرت فوق عنق فضل الله، جالس إلى جواري متكور حول نفسه كالجنين. يده في يدي باردة مثلجة وأظافره زرقاء. ركبتاه مرفوعتان فوق الدكة عاريتان، يشد عليهما طرف جلبابه الدمور. وجهه خال من الدم. الدكة الخشبية من تحته تهتز. صوت الصرير كالأسنان تصطك بالبرد. أمسكت يده في يدي وتساءلت بصوت غير مسموع: ماذا فعل الابن ولماذا يذبحه أبوه؟ لكنه سمعني. كان يسمعنا قبل أن ننطلق ويرانا دون أن نراه، وصاح بصوته العالي: الأب لا يسأل الله لماذا، والابن لا يسال الأب لماذا، طاعة الله واجبة، وطاعة الأب أو الزوج من طاعة الله.
رفع العصا من فوق عنق فضل الله، وأشار بطرفها المدبب إلى الخروف المربوط، وقال: هذا هو ضحية العيد الكبير نذبحه ونأكل لحمه؛ لأن سيدنا إبراهيم أطاع الله، ولأن إسماعيل أطاع أباه. وانتهت حصة الدين، واختفى من الفناء كما ظهر، ولم ينهض فضل الله من مكانه فوق الدكة. ساقاه مشلولتان. رأسه بين ركبتيه.
دق جرس النوم. نهضت من فوق الدكة ونهض معي فضل الله. جلبابه من الخلف ملتصق بجسمه، ومكانه فوق الخشب مبلل. مسحته بكفي قبل أن يراه أحد. فاحت رائحة البول في أنفي. جففت يدي في جلبابي واختبأت في دورة المياه. من النافذة رأيت من بعيد غرفة التأديب، ومن خلفها تطل قبة الكنيسة ومنارة الجامع. شجرة كبيرة تحجبها عن الضوء، وتلقي عليها غلالة سوداء تخفي معالم الجدران، وتضفي عليها مسحة غامضة، شبه إلهية كأنها في العالم الآخر. بابها خشبي أصفر اللون، مقبضه معدني أبيض تعلوه بقع سوداء كالدم القديم.
عيناي ثابتتان فوق المقبض، لم يتحرك ولم تخرج نعمة الله. أغمضت عيني ونمت ثم صحوت. لا زال الباب مغلقا. إلى جواري فضل الله. أخرج الرغيف من تحت جلبابه. نفذت رائحة الخبر إلى أنفي. لم آكل منذ حصة الدين. جلسنا فوق النافذة متعانقين. جلبابي يفوح برائحة بوله، وفي جلبابه رائحة عرقي. نعمة الله لم تخرج من غرفة التأديب. همست بصوت غير مسموع: سأقتله حين أكبر.
كأنما كانت تسمعنا أذناه. انشقت عنه الأرض وظهر أمامنا طويلا عريضا كالمارد. عضلات وجهه متقلصة. الشعر يطل من فتحة القميص منتصبا. عضلات الصدر مشدودة، وحلمة الثدي نافرة. ساقاه مفتوحتان كفكي المقص. عيناه ثابتتان علينا، ونحن راقدان فوق النافذة. أنفه يتشمم الرائحة، والفتحتان الكبيرتان تتسعان داخلهما الشعر الأسود.
وجاء دوري وأسلمت له نفسي كأنه الله، يقودني حيث شاء إلى قدري المحتوم، ثم صحوت من النوم. وجدت نفسي في السرير من تحتي البلولة، وخيط دافئ يسري ناعما فوق ساقي كالعرق. تحسسته بإصبعي من تحت الغطاء، ثم قربت يدي إلى عيني تحت الضوء، كان إصبعي مبللا بالدم الأحمر.
مرة واحدة في التاريخ
أصابتني الطلقة من الخلف وأنا أجري ومن خلفي مرزوق. قبل أن أنسى الحروف وأفقد التاريخ تذكرت. كنت أرتدي ملابسي كاملة، ورأيتهم يشيرون بأصابعهم إلى وجهي: عورتك هي هذا. وارتج جسدي رغم الموت. قلت: من قال لكم هذا؟ قالوا: إنها كلمة الله. قلت: لكنها كلمة مكتوبة وأنتم لا تعرفون القراءة. سكتوا طويلا. نظر بعضهم إلى بعض. رفعوا عيونهم نحو السماء. أشاروا إلى الصورة المعلقة فوق أقواس النصر. قالوا: سيدنا الإمام رأى الله وعرف كلمته. قلت: وأين رأى الإمام الله؟ قالوا: زاره الله في المنام. وتذكرت قبل أن تضيع الذاكرة، قلت: وأنا أيضا زارني الله في المنام. قالوا: الله لا يزور امرأة ولا يظهر لها في الرؤيا. قلت: زار الله مريم العذراء وهي امرأة. قالوا حدث ذلك مرة واحدة في التاريخ، والله منزه عن التكرار. قلت: زار الله النبي محمدا وظهر في الرؤية لإبراهيم، فلماذا لا يكرر الزيارة للإمام؟ سكتوا طويلا. نظر بعضهم للبعض. رفعوا عيونهم نحو الصورة المعلقة في السماء، وقالوا: إنه رأى الله وهم لم يروا الله.
رئيس الأمن
الظلمة داكنة كأنما انطفأت الشمس، وهي تجري هاربة ومن خلفها كلبها يجري. يحرك بأقدامه الأربع تراب الأرض. يلهب التراب عيون الإمام وهم يجرون خلفها، ومن خلفهم كلابهم تنبح، ويخرج رئيسهم من جيبه منديلا حريريا من أجود الأنواع، ويمسح عينيه وزجاج النظارة. منذ منحه الإمام المنصب واللقب وهو يرتدي النظارة السوداء، يرى الناس والناس لا تراه، يرقب حركة عيونهم دون أن يروا حركة عينيه؛ فهو رئيس الأمن، واجبه حماية أمن الإمام وأعضاء حزب الله. وفي الصف الأول يقف عن اليمين لا يفصله عن مقعد الإمام إلا جسد الإمام ذاته، وعن اليسار يرى الكاتب الكبير واقفا إلى جوار المعارض الشرعي. يطل القلم من جيبه العلوي. عينه اليمنى على العرش، واليسرى تتجه إلى شرفة الحريم. وفي الصف الثاني صفوف الوزراء تتلاصق أكتافهم وأقدامهم وأيديهم فوق قلوبهم مربوطة من خلاف، والأجانب واقفون صامتون بوجوه لامعة وأحذية براقة، ونساؤهم إلى جوارهم في شرفة الحريم، وكبيرات نساء الدولة تتوسطهن الزوجة الشرعية، ترتدي وجه الملاك وفوق صدرها وسام الشرف.
Unknown page