ثمن الكتابة
الإهداء
تقديم
بداية البحث
لا يعرفون القراءة
نداء الأم
أطفال الله
وجه البابا القديم
مرة واحدة في التاريخ
رئيس الأمن
الزوجة الشرعية
الله مع الإمام
البودي جارد
وجه مزدوج
أول حروف الحب
الزوجة الشرعية لا تدخل الجنة
خيانة مشروعة
وكل شيء بغتة
نشوة الحب
حين كان الحب أعمى
معا في الخندق
الخوف الجماعي
حب إلى الأبد
الكاتب الكبير
الإمام متنكرا
الفيلسوف
الحب القديم
إحياء التراث
بنت الله مع الإمام
الإفاقة بعد النشوية
الكاتب الكبير
دليل البراءة
القاضي
الشكوى
القوى العظمى
انتظار الأم
لقاء الزوجة الأخيرة والابنة غير الشرعية
الحب المحرم
العشيقة
جواهر
الأم والابنة
المحاكمة
ثمن الكتابة
الإهداء
تقديم
بداية البحث
لا يعرفون القراءة
نداء الأم
أطفال الله
وجه البابا القديم
مرة واحدة في التاريخ
رئيس الأمن
الزوجة الشرعية
الله مع الإمام
البودي جارد
وجه مزدوج
أول حروف الحب
الزوجة الشرعية لا تدخل الجنة
خيانة مشروعة
وكل شيء بغتة
نشوة الحب
حين كان الحب أعمى
معا في الخندق
الخوف الجماعي
حب إلى الأبد
الكاتب الكبير
الإمام متنكرا
الفيلسوف
الحب القديم
إحياء التراث
بنت الله مع الإمام
الإفاقة بعد النشوية
الكاتب الكبير
دليل البراءة
القاضي
الشكوى
القوى العظمى
انتظار الأم
لقاء الزوجة الأخيرة والابنة غير الشرعية
الحب المحرم
العشيقة
جواهر
الأم والابنة
المحاكمة
سقوط الإمام
سقوط الإمام
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء، حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات، قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي، حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العذرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - إزاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
الإهداء
إلى:
شهربانو شيراز الإيرانية
وفاطمة تاج السر السودانية
وكوليت عيتاني اللبنانية
واعتدال محمود المصرية
وإلى جميع البنات والأولاد
في الطفولة وأول الشباب وآخره،
أهدي هذه الرواية.
ن. س.
تقديم
وأنا طفلة كنت أرى وجه الله في أحلامي كوجه أمي شديد العدل، وكوجه أبي شديد الرحمة، لكن زميلتي فاطمة أحمد في المدرسة كانت ترى وجه الله في أحلامها كوجه أبيها شديد القسوة، وكوجه عمها شديد الظلم.
واكتشفت وأنا طفلة أن وجه الله يتراءى لزميلاتي الأطفال كوجه الأب أساسا، وكوجه الأم أحيانا؛ فالمشكلة أن الله لا يرى بعين الأطفال ولا الكبار، وما من وسيلة لرؤيته إلا في النوم، وبالوجوه التي نراها لأقرب الناس لنا.
وقد حاولت أن أكتب هذه الرواية وأنا تلميذة بالمدرسة، لكني لم أعرف كيف أكتبها. الفكرة في رأسي والأحاسيس والشخصيات، لكن اللغة لا تساعدني. وعاشت معي هذه الرواية تطاردني، وزاد إلحاحها علي في السنين العشر الأخيرة، ترمقني عيون أشخاصها في اليقظة وفي النوم، وحين أسافر خارج الوطن أو داخله، وحين التقيت بشهربانو شيراز الإيرانية، وحكت لي عن اغتصاب ابنتها الطفلة في السجن، وحين التقيت بفاطمة تاج السر السودانية، ورأيت ابنها الغلام وزملاءه في جمعية مقطوعي الأيدي بعد تطبيق الشريعة، وبعد أن عشت ثلاثة شهور في السجن في مصر مع اعتدال محمود وغيرها من البنات، كانت هذه الرواية تطاردني، وكلما رأيت وجه أحد الحكام يطل من الصورة، أو رأسه يطل من تحت العمامة المقدسة أو القبعة العسكرية، أو عيونه ترمقني في الحلم وأنا نائمة، وكلما سافرت إلى لبنان ودوت في أذني قنابل حزب الله، ترد عليها من الناحية الأخرى قنابل حزب الشيطان، وحين سافرت إلى مكة وقرأت الإعلانات فوق الجدران أهلا بضيوف الرحمن، ومن وراء الجدار أرى الرجل والبنت كالغلام وثالثهما الشيطان، وفي قريتي كفر طحلة حين كنت أرى وجوه بنات عماتي الفلاحات، وفي القناطر حين رأيت وجوه القاتلات المؤبدات، وفي مشرحة كلية الطب ومستشفيات وزارة الصحة، وفي الأردن والسلط وشريط القنال حيث جبهة القتال، وفي وجوه الأطفال يشربون اللبن ويموتون بالخوف من الإشعاع النووي، أو يخافون الضوء كأنه الإشعاع، وفي وجوه الأطفال البنات المختفية وراء حجاب أسود، أو في احتفالات الأعياد ومهرجانات الانتخابات والاستفتاءات، أو في جلسات استحضار الأرواح وطرد الجان وظهور العذراء، ورش أثواب النساء المحجبات بصورة الصليب، وألسنة النيران تطل من قباب الكنائس ومنارات الجوامع، وظلت الرواية معي وأشخاصها تطاردني. وكلما جلست لأمسكها وأكتبها تفلت من بين أصابعي، وتنزلق كالزئبق، وخاصة شخصية الإمام؛ فهي شخصية زئبقية، اتبعت معي أسلوب الكر والفر والإقبال والإدبار. إذا اقتربت منها تبتعد، وإذا ابتعدت عنها تقترب. وشخصية المعارض الشرعي أيضا راوغت كثيرا، إلى حد أنني فكرت في حذفها والاستغناء عنها، لكن يد الإمام كانت تمتد وتجذبها إلى جواره يمسكها لا يريد حذفها، وإلا افتقدت الرواية الديمقراطية.
كانت شخصيات البنات والنساء أكثر ثباتا واستقرارا، لكن اسم بنت الله أثار في القلق ليالي طويلة، وحاولت أن أغير اسمها؛ فهو اسم ينتهك المحرمات في حد ذاته، فكيف تجرؤ فتاة أن تحمل اسما محرما (إلى جانب حملها جنينا غير شرعي)؟ وقد يباح في المسيحية أن نسمع اسم ابن الله وهو المسيح، لكن أن نسمع اسم بنت الله فهذا غير وارد تماما، لكن بنت الله سألتني في الرواية: ماذا لو كنت مريم العذراء، وولدت بنتا وليس ذكرا، ألا تكون ابنتي هي بنت الله ويسمونها المسيحية، وتصبح واحدة من الأنبياء؟
ووجدت صعوبة في تغيير اسم بنت الله؛ لأن الناس كانت تناديها بهذا الاسم منذ ولادتها حتى موتها رجما بالحجارة. وانتهى بي الأمر إلى ترك الرواية ونبذها تماما من حياتي، فكيف تفرض علي الشخصيات نفسها وأسماءها؟ وأغرب شيء أنني حين نبذتها وتركتها بدأت تأتي إلي وتسلم لي قيادها، تعطيني نفسها طواعية، وحين جلست إلى الورق وجدتها وكأنما هي تكتب نفسها بنفسها، ولم أحاول التدخل في حياة الشخصيات الخاصة أو العامة، إلا لأمنع بعض المحرمات اللغوية، أو انتهاك بعض القيم الإنسانية، وخاصة من جانب شخصية الإمام ذاته، ولم يكن في مقدوري أن أترك له السلطة المطلقة في الرواية كما في الدنيا، وقلت لنفسي: في روايتي على الأقل يكون لي بعض الحرية وبعض السلطة.
القاهرة، فبراير 1987م
بداية البحث
ليلة العيد الكبير، بعد المطاردة الطويلة وقبل أن يطلع الفجر، أصابني أحدهم من الخلف. كنت أجري في الظلمة أبحث عن أمي وليس معي إلا كلبي. أصابوني بالطعنة في ظهري. استدرت وأعطيتهم وجهي فإذا بهم يتلاشون، لا يستطيعون النظر إلى ضوء الشمس، ينامون النهار، وفي الليل ينهضون، لا يعرفون شرف المبارزة أو الحرب، وفي الظهر يضربون.
قبل أن أسقط وأنسى الحروف تساءلت: لماذا تتركون الجاني وتقتلون الضحية، ولا زلت في أول الشباب وأمي ماتت عذراء؟ قالوا: أمك ماتت مرجومة بالحجارة وأنت بنت الزنا. قلت قبل أن أنسى الحروف وأفقد الوعي: لم أكن بنت الزنا، وكانوا ينادونني في بيت الأطفال «بنت الله»، ومهما فقدت الذاكرة لا أنسى وجه أمي، تركتني منذ ولدتني لتحارب الأعداء، ماتت شهيدة الوطن. قالوا: لم تعرف أمك الولاء للوطن والله والإمام، وماتت كافرة مأواها النار. قلت قبل أن يخلو الدم من عقلي وتضيع الذاكرة: لم تكن أمي خائنة، وهرب منها أبي قبل أن أولد. قالوا: ومن هو أبوك؟ قلت: إنه الإمام. قالوا: اخرسي قطع لسانك.
قبل الموت حكموا عليها بقطع اللسان، كان الإمام يحكم بشريعة الله؛ رجم الزانية وقطع يد السارق، وقطع لسان كل من يردد إشاعة الموت بالإشعاع وإلقاء الخمور في النهر.
ليلة العيد بعيدا عن عيون الإمام يهبطون إلى النهر ويشربون إلى حد فقدان الوعي، ثم ينهضون وقد عاد إليهم الوعي، يندمون، يطلبون المغفرة. يعفو عنهم الإمام ليلة العيد الكبير. تفتح أبواب السجون والمعتقلات، يخرج منها الموتى وشهداء الحرب والإشعاع والمرجومات والمقطوعو الأيدي والأرجل من خلاف، ويأتي دورها لتخرج إلى الحرية، لكن عيون الإمام تلمحها. تجري هاربة في الظلمة ومن خلفها كلبها، تكاد تفلت قبل طلوع الفجر لكن الطعنة تصيبها في ظهرها. قبل أن تسقط تتساءل: لماذا تتركون الجاني وتذبحون الضحية؟! وتتلاشى الأصوات، ويصبح عقلها بلون الظلام، وذاكرتها سوداء أو بيضاء بلا حرف إلا اسم أمها.
لا يعرفون القراءة
الظلمة داكنة، لا شمس ولا قمر، لا يعرفون هل هو الليل أم نهار مظلم في غابة كثيفة الشجر، ضوء خافت ينفذ يشبه الكشاف في يد الخفير أو رئيس الأمن. في الضوء يرون الجسم يركض جريا، يدركون من حركة الجري فوق ساقين اثنتين أنها إنسان وليست من ذوات الأربع، يرون أنها امرأة وليست رجلا؛ نهدان بارزان منتصبان فوق الصدر، شابة في أول الشباب، عظامها صغيرة، وبشرتها ناعمة كبشرة الأطفال، سمراء بلون طمي النهر، طويلة الوجه مسحوبة العينين كالإلهات القديمة، عيناها واسعتان والنني أسود كعين الليل، قدماها صغيرتان حافيتان لا تكفان عن الجري، يدها اليمنى تمسك شيئا طويلا يشبه الغصن، عارية كما ولدتها أمها، عورتها مختفية في الظلمة تحت ليل أسود أو ورقة داكنة الخضرة، جسمها يلمع في الضوء وهي تجري كالسمكة تشق الكون نصفين، وميض برق يظهر ثم يعود الليل كما كان، تختفي هي وكلبها وتكاد تفلت.
لكن الظلمة تنشق عن فرقة من عيون الإمام يتقدمهم رئيس الأمن، طابور من الرجال أجسامهم ضخمة يغطيها الشعر، يمسك كل منهم في يده اليمنى قطعة حجر أو آلة قتل مدببة، يجرون في إثر البنت. هي أقدر منهم على الجري، هي أدرى منهم بأسرار المكان، المكان مكانها حيث ولدت وحيث ماتت.
كادت تفلت لولا أنها توقفت تملأ صدرها بهواء المكان.
لم تطل دهشتي حين توقفت لأول مرة بعد الهزيمة في الحرب الأخيرة، منذ ماتت أمي، في منعطف طلعة الهضبة بين البحر والنهر، في الطريق من البيت إلى الجبهة، فلتت مني شهقة حين صعدت الهضبة، سقط الغصن من يدي وارتج قلبي، وهتفت بأختي التي كنت أعلم أنها قادمة بعدي. عشرون عاما منذ ولدت وأنا أحلم بهذه الطلعة، رائحة الهواء لم تغب عن ذاكرتي، أتذكر كل منعطف في الأرض، وهذه النخلات الثلاث، وشجرة الجميز، والهضبة فوق الوادي الأخضر، وهواء البحر. إنني أستنشق رائحة أمي. هذه الأرض وطني.
كادت تفلت لولا أنها توقفت لتملأ صدرها برائحة حياتها. أصابتها الطلقة في ظهرها. نفذت كالسهم من الظهر إلى القلب. سقطت إلى الأرض تنزف وإلى جوارها كلبها. فزعت العصافير وملأت صيحاتها الكون. ارتفع صياح الديكة والغربان. والحمير صعد نهيقها في السماء. شاركت الكلاب النباح. كان الفجر على وشك الطلوع. نهض رجال يرتدون جلاليب بيضاء ولحى طويلة سوداء. ركبوا مكبرات الصوت فوق المنارات، والقباب تتدلى منها أسلاك الكهرباء، وانطلق الصوت كالرعد يحث الناس على الصلاة ومبايعة الإمام ، ثم انقطع الصوت فجأة بانقطاع التيار الكهربائي. عاد الهدوء والصمت وظل الناس نياما، انتهت الجريمة في الظلام لم يشهدها أحد، لكن الكون شهدها والأشجار والهضبة بين البحر والنهر. ظلت محفوظة في قلب صخرة في بطن الأرض، العام وراء العام. ظلت تعيش على شكل صخرة وإلى جوارها كلبها، تحجر الجسم الحي (هذه حقيقة علمية. وفي التاريخ عاش أهل الكهف مع كلبهم في بطن الأرض ثلاثمائة عام).
لكنها بنت وحيدة وليس معها رفيق إلا كلبها (وأخوات قادمات من بعد)، والكون يشبه الكون الذي نعيش فيه اليوم، السماء والأرض والشجر والبيوت والنهر والبحر، قلت: أهو البحر الأبيض المتوسط، أهو نهر النيل؟ قالوا: الأسماء هنا تختلف، والزمن يختلف، لكن المكان واحد، والشمس واحدة، وسنابل القمح واحدة، والجاموسة سوداء البشرة لها أربع أرجل، أراها من بعيد وهي تهبط إلى النهر، تسبح في الماء وظهرها يلمع تحت أشعة الشمس، تغمض عينيها في راحة واستمتاع، تخرج من النهر تتمشى في استرخاء، تقف عند حقل البرسيم وتأكل، تمضغ على مهل وتهز ذيلها، ترهف أذنيها لصرير الساقية وترمق المرأة المربوطة بالحبل وعيناها معصوبتان، تدور مع الساقية ومن خلفها رجل في يده عصا من الخيزران، يلسعها على ردفيها كلما توقفت، أفلتت مني الشهقة كالدهشة، المرأة تدور في الساقية والجاموسة تتنزه. قالوا: القانون هنا العرض والطلب، ثمن الجاموسة في السوق أغلى من ثمن المرأة، يملك الرجل أربع نساء وليس له إلا جاموسة واحدة، والحقول الخضراء ممتدة كالشريط الطويل بحذاء النهر، طابور من الجاموس يسبح تحت الشمس، من وراء الشريط الأخضر الصحراء ثم جبل الرمال الأصفر، إذا ذهبت ناحية الهضبة هناك قطاع الطرق، الضبع والنسر كلاهما لا يأكل إلا الميت، لا يأكل اللحم الحي إلا ابن آدم، النمور تأكل الغزلان وتأنف لحم الإنسان. لحم الغزلان نادر، ولحم بني آدم كثير بلا عدد. التماسيح خائنة، والثعابين ملتوية ناعمة من السطح وسمها قاتل. لا يعرف الوفاء هنا إلا الكلاب. والظلمة لا تزال داكنة. حشرات على شكل بعوض أو جراد أو فئران. زواحف وكائنات تجري فوق أربع أرجل. أين الناس؟ لا أرى أحدا. البنت المقتولة اختفت، والقتلة اختفوا أيضا. قلت: ألا يوجد هنا بشر؟ قالوا: البشر هنا بالملايين، كالهوام في الجو، لا ترينهم بالعين المجردة. يعيشون في كهوف في بطن الأرض، بيوت على شكل قبور، يخافون الضوء، يتصورون أنه النار. يخافون شعاع الشمس، يظنون أنه الإشعاع النووي، شر قادم من وراء البحار، ترسله القوى العظمى في لبن الأطفال، أو غضب من عند الله، ولماذا يغضب عليهم الله؟ لا أحد يعرف. لا يعرفون جريمتهم. لا يعرفون كلمة الله؛ فهي كلمة مكتوبة، وهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ولا الكلمات، مجرد همهمات أو صيحات أو هتاف أو صراخ. قلت: ألا يمكن الحديث إليهم؟ قالوا: نعم، إذا عرفت لغتهم، وإذا ارتديت زي رجل أو أخفيت عورتك وراء حجاب. قلت بدهشة: أي عورة وأنا أرتدي ملابسي كاملة؟ وأشاروا بأصابعهم المدببة إلى وجهي. أصابني ذعر، وارتج لساني، قلت: من قال لكم هذا؟ قالوا: إنها كلمة الله. قلت: كلمة الله مكتوبة وأنتم لا تعرفون القراءة، فكيف عرفتم كلمة الله؟ سكتوا طويلا، نظر بعضهم للبعض، رفعوا عيونهم نحو السماء، أشاروا إلى الصورة المعلقة فوق قوس النصر. قلت: من هو؟ شهقوا بدهشة: ألا تعرفينه؟ صورته معلقة في كل مكان؛ في الشوارع، على الجدران، في الدكاكين، فوق أقواس النصر، اسمه «الإمام»، وهو في كل مكان. قلت: من يكون في كل مكان لا يكون في أي مكان. قالوا: بايعناه مدى الحياة، سيدنا الإمام رأى الله وعرف كلمته. قلت: وأين رأى الإمام الله؟ قالوا: زاره الله في المنام.
نداء الأم
في طفولتي وأنا نائمة كان الله يزورني، وله صوت حنون كصوت أمي. وحين سمعت دوي الطلقات ورأيت صورة الإمام تسقط بدأت أجري. لم أكن أخاف الموت؛ فالموت أمره سهل إذا حدث في لحظة خاطفة؛ فصل الرأس عن العنق بضربة سيف، اختراق الرصاصة القلب بطلقة واحدة. أما الموت البطيء فهو الرعب الحقيقي؛ يربطونني بالحبال داخل حفرة في الأرض، يقذفونني بالحجارة حجرا وراء حجر، يوما وراء يوم، خمسين يوما أو مائة أو ألفا، وإن مات جسمي فلن تستسلم روحي. يرهقهم الرجم بالأحجار قبل أن أموت، تنزف أيديهم الدم قبل أن تفرغ شراييني، تمتص روحي ذرات التراب والرمل، يتحول جسدي إلى صخرة يرتد عنها الحجر. ومن بعيد أرى الصخرة منتصبة فوق الهضبة بين البحر والنهر، واقفة في الظلمة تنتظرني، منذ ولدتني وهي واقفة تنتظرني، عشرون عاما وهي لا تزال منتصبة وظهرها مرفوع، صوتها كالهمس، كحفيف الهواء والشجر، كالنداء الخافت ينبعث من بطن الأرض: بنت الله، تعالي. كانوا يسمونني بنت الله، وكلبي اسمه مرزوق، رافقني منذ ولدتني أمي، ظل معي حتى النهاية، لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لم يقرأ كلمة الله، لكنه الوحيد الذي يعرف الحقيقة، يعرف أنني بريئة من دم الإمام. وكيف أقتله وهو أبي المجهول، ولولاه (بالإضافة إلى أمي المجهولة) ما كان وجودي؟ لم يعرف أحد أنني ابنته إلا أمي ومرزوق. رآها وهي راكعة فوق الأرض تنشج ببكاء مكتوم، ورآه وهو يخرج هاربا في الظلمة. عرف وجهه وحفظ ملامحه، أصبح كلما رأى صورته معلقة في الجو ينبح بصوت عال. لم يفهم الناس نباحه؛ فالناس لا تعرف لغة الكلاب، لكن الكلاب تفهم لغة البشر، ولها مثل البشر ذاكرة تحفظ التاريخ. وظل مرزوق يحفظ شكله وهو يخرج هاربا. جرى خلفه وأمسكه من الخلف. مزق سرواله من فوق الإلية اليسرى، واستقرت قطعة من القماش الدمور بين نابيه. لونها كاكي كملابس عساكر الجيش، ورائحتها عرق وعطر رخيص. ترك القطعة وراءه وانطلق يجري خائفا من الكلب، قدماه وهو يجري لهما وقع مسموع، في كعب حذائه حدوة من الحديد. لم يكف عن الجري ووجهه نحو السماء، أمله في الله كبير، انصرني يا رب على أعدائي وحقق لي آمالي. عيناه الجاحظتان مملوءتان بالآمال العريضة. شفتاه سميكتان فيهما نهم لامتلاك الكون. عرش في السماء وعرش في الأرض. قصر يطل على البحر في الصيف، وقصر الشتاء في الجنوب، وقصر في الجنة تجري من تحته الأنهار وغلمان وحور. طرف لسانه جاف وظمؤه شديد. فمه مفتوح يلهث ويجري بلا توقف . حرمانه قديم منذ الطفولة لا يهدأ، ورغبة الامتلاك كالمرض المزمن لا تشبع، والأمل في الله بغير حدود. علامة الإيمان فوق جبهته دائرة محفورة مرسومة، في يده اليمنى مسبحة حباتها صفراء، فوق ردفه الأيمن الجراب الطويل داخله السيف، يده اليسرى فوق الردف الأيسر تخفي الثقب في السروال.
اختفى في الظلمة يتمتم بآيات الحمد لله. أنفاسه تفوح بالخمر وعرق امرأة فقيرة. ارتفع نباح مرزوق في الليل، لم يسمعه أحد. كانت صواريخ العيد تدوي في الآذان، والإمام يخطب في مكبرات الصوت. يبدأ باسم الله وينتهي بالصلاة على النبي. يتفرقون بعد الخطبة ويختفون في البيوت، في رءوسهم نشوة النصر، وفي حلوقهم مرارة الهزيمة. يظهر في الشوارع رجال يحملون السكاكين، كل منهم ينادي بصوت عال: جزار. ويعم الصمت والوجوم، ثم يرتفع من كل بيت صراخ الضحية، ودخان كثيف، ورائحة شواء اللحم. بعد الأكل يرتدون الملابس الجديدة، وأحذية في كعبها حديد كالحدوة. يدبون فوق الأرض حامدين الله على النعم. في اليد اليسرى مسبحة، وفي اليد اليمنى حجر. حان موعد رجم الشيطان.
ربطوها بالحبال، صنعوا من حولها دائرة، تسابقوا في الرماية وإصابة الهدف، نقطة الوسط فوق علامة الشيطان، الفائز الأول له وسام الشرق وقصر صغير بجوار قصر الإمام وحوريات.
الأرض من تحتها باردة، رائحة تراب في أنفها، مربوطة في الأرض، صدرها مكشوف، الركبتان والذراعان مفتوحتان، في أذنيها صوت الطبول، صواريخ العيد، ضحكات الأطفال والبالونات الملونة. تفتش في وجوه الأطفال عن وجه ابنتها، تلمح الوجه الصغير الشاحب، تلوح لها بيدها وتنادي بصوت كالحفيف: بنت الله، تعالي.
منذ ولدتني أسمع نداءها مع حركة الهواء وأوراق الشجر. صوتها في ذاكرتي نقش فوق الحجر. واقفة في الظلمة بلا حركة، صخرة على شكل تمثال، متشحة بغلالة سوداء تخفي معالم الجسم. من حولها دائرة ضوء مجهولة المصدر. يداها الكبيرتان فوق صدرها، تخبئان شيئا عن الكون. أصابعها منقبضة على موضع القلب. ملامح الوجه ثابتة في ارتخاء. وهبت حياتها دون مقابل. ألم الاكتشاف في العينين. الصدمة راحت ولم يبق إلا الحزن، كالضوء أو الرؤية الجديدة للكون. جسمها نحيل بريء من اللحم، كالروح أو الخيال، بلا حاجة إلى حركة أو لغة. ملموسة باليد داخل كتلة من الهواء. رأسها مرفوع. فقدت كل شيء ولم تخسر نفسها، على شفتيها ابتسامة. عرفت السر وهتكت حجب السماء. عذابها محفور فوق عظام الوجه. عيناها واسعتان مملوءتان بالبريق، ترقبان انطفاء الضوء الأخير.
وأغلق حارس الإمام آخر أبواب القصر. تمتم بآية الكرسي يطرد الشياطين وأرواح الجان. دب السكون في الليل. نام الإمام ونامت عيونه، الشياطين نامت، والملائكة نامت، والآلهة نامت، وأوراق الشجر نامت، وهي لا تزال واقفة تتلفت حولها. لا أحد يراها. انثنى جسمها وكاد رأسها يلامس الأرض. انتزعت من صدرها الشيء المخبوء. ساوت الأرض بكفها الكبيرة الحانية مثل كف الله. أبعدت قطع الطوب والحصى. فرشت الأرض بتراب ناعم كصدر الأم، وأرقدتني.
كنت نائمة. وجهي شاحب يطل من فتحة ثوب أبيض. عيناي مغمضتان. صدري يعلو ويهبط في أنفاس الأطفال العميقة. يدي تطل من فتحة الكم مفتوحة الكف. ابتهال في النوم كالنداء الصامت. خلعت شالها الصوفي الأسود وحوطتني. لامست يدي إصبعها فأمسكته بأصابعي الخمس لا أتركه. تركت إصبعها في يدي طويلا بطول الليل، بطول النفس العميق في صدر الأم، ثم بدأت تسحبه شيئا فشيئا، والدم ينسحب من قلبي قطرة قطرة. ارتج جسدي لحظة الانفصال، وصحوت من النوم. رأيتها واقفة تطل علي، رأسها في السماء وعيناها نجمان يلمعان في الليل، ثم استدارت، ظهرها مرفوع، خطوتها واسعة، لا سريعة ولا بطيئة، تحرك ذراعيها في الهواء كأنما تملك الهواء. ابتعدت شيئا فشيئا ثم اختفت دون أن ينقص حجمها.
أطفال الله
حين دوت الطلقات رأيته يسقط، وفي لحظة السقوط تغير وجهه. أصبح له وجه آخر. ليس هو الوجه الذي عرفته؛ وجه غريب لم أره من قبل. ليس وجه رجل ولا أب ولا إمام، ليس وجه إنسان ولا حيوان، كالوجه المخيف في كوابيس الطفولة، وحكايات الجدة العجوز أرضعتني مع اللبن حكايات العفاريت والجان. جدتي الحقيقية لم أرها مثل كل الأطفال في ذلك البيت. أطفال كثيرون بلا أم ولا أب ولا جدة، يسمونهم أطفال الله، وأنا اسمي بنت الله. لم أكن رأيت الله وجها لوجه. تصورت أن الله هو أبي، وأمي هي زوجة الله. وفي النوم أرى أمي واقفة تنتظر الله. الليل مظلم والناس نامت وهي واقفة، وأنا راقدة ورأسها عال في السماء. عيناها مليئتان بالضوء وصوتها كالهمس: بنت الله، تعالي. أنهض من سريري وأسير حافية نحو الصوت. يأتي من بعيد من وراء الباب. أفتح الباب وأنظر، لا أحد. أسير في الممر الطويل حتى نهايته، لا أحد. باب آخر مغلق لا ينفتح. النافذة مفتوحة تطل على الفناء. أصعد إلى النافذة بقفزة واحدة. أسير على حافة الجدار. أمد ذراعي أمامي وجسمي يحفظ توازنه. حركتي خفيفة كالريشة. قدماي لا تلامسان الأرض. كالروح بغير جسد أسير على الحافة دون أن أقع، ثم أقفز في الفناء فوق يدي وقدمي كالقطة. أتوقف في الظلمة أتسمع الصوت. من وراء الباب يأتيني الهمس. باب من الخشب طلاؤه أخضر بلون الزرع، مفتوح عن شق صغير ينفذ منه ضوء. - من هناك في الظلام؟ - أنا. - مين انت؟ - بنت الله. - تعالي يا بنت الله.
أدخل إلى الغرفة الصغيرة نصف المعتمة. زوجة الحارس واقفة وراء الباب. يداها ممدودتان نحوي بلون الأرض. جلبابها أسود واسع. رأسها مربوط بمنديل أبيض. عيناها واسعتان تلمعان. وجهها ناعم كصدر الأم. أنفاسها تعلو وتهبط في نشيج خافت. ثدياها مملوءان باللبن. الحلمة السوداء منتصبة نافرة، تضغطها بين إصبعين تعتصر الألم. قطرات اللبن تتساقط قطرة قطرة. فراش طفلتها إلى جوارها خال. زوجها نائم شخيره مسموع. وجهه مليء بالتجاعيد والشعر، متكور تحت بطانية منحولة الوبر. رأسه يطل من تحتها منحول الشعر. جفناه مغلقان انفتحا فجأة ورآني بين ذراعيها. حملق في وجهي بعينين حمراوين، وصاح: ليست بنتي، بنت مين هي؟ قالت إنها بنت الله. ارتفع كفه في الهواء وسقط على وجهها: يا زانية يا بنت الزانية. •••
فتحت عيني في الظلمة. أسرة كثيرة تطل منها رءوس الأطفال. إلى جواري سرير طفلة من عمري اسمها نعمة الله، أقول لها أختي. شعرها أسود ناعم يطل من تحت الغطاء. عيناها مفتوحتان. أنفاسها متقطعة كالنشيج، تهمس بصوت خافت: بنت الله، تعالي. أنهض من سريري وأنام إلى جوارها. تحوطني بذراعيها وجسمها يرتعد: أنا خائفة. ماذا تخافين؟ أخاف الله. لماذا؟ لا أعرف. ألا تخافين الله؟ أنا بنت الله، فهل أخاف من أبي؟ تلف ذراعيها حولي، وتحت أذني قلبها يدق. صدرها ناعم كصدر الأم. ننام متعانقتين حتى الفجر. قبل شروق الشمس توقظني: بنت الله، عودي إلى سريرك.
كانت الأوامر مشددة. النوم له موعد محدد وجرس، لا أحد يغادر السرير بعد النوم. إذا ضبطت اثنتان في سرير واحد فالعقاب شديد. غرفة التأديب في الفناء الخلفي. سمعت عنها قصصا مخيفة. أمام بابها يقف رجل طويل ضخم. رأسه يلمع تحت الشمس بغير شعر. وجهه عريض يغطيه الشعر. عيناه ضيقتان غائرتان. في يده اليمنى عصا طويلة، وفي اليد اليسرى مسبحة صفراء.
في الليل تحوطني أختها بذراعيها. تنشج بصوت مكتوم وتحكي قصة أمها. زارها الله في الحلم وحملت منه مثل مريم العذراء. ارتدت ثوبا واسعا لتخفي ارتفاع البطن. ولدتها في الليل بعد أن نام الناس، لكن عيون الأم رأتها. ربطوها بالحبال ورجموها حجرا حجرا. قلت لها وأنا أعانقها: إذا كان الله هو السبب، فلماذا يقتلونها؟ ولا تعرف نعمة الله الجواب. يغلبني النوم دون أن أعرف السر. في الحلم يتراءى لي الله على شكل رجل. واقف في الظلمة ويده اليمنى خلف ظهره. رأسه يلمع تحت الضوء بغير شعر ووجهه يغطيه الشعر. يرتعد جسمي تحت الغطاء وعيناي مغلقتان. يحرك يده اليمنى خلف ظهره، يرفعها أمامي ويفتح أصابعه. ليس في يده العصا. يهمس بصوت ناعم: بنت الله، تعالي. يقترب مني حتى يلامسني بيده. أتحسس كفه الكبير الحاني. بشرته ناعمة كصدر الأم. أضع رأسي على صدره وأغمض عيني. يده تربت على وجهي، ثم تهبط لتربت على صدري وبطني. رجفة غامضة تهزني وقشعريرة. يهمس بصوت ناعم: لا تخافي، أنا الله وسوف تلدين المسيح.
أصحو من النوم والدنيا ظلام. جسمي مبلل بالعرق وله رائحة الله. الرجفة لا تزال والقشعريرة. يدي تزحف فوق بطني أتحسس الحمل. شيء في أحشائي يتحرك كالجنين. قلبه يدق تحت يدي مع دقات قلبي. الظلمة كثيفة والفجر لم يطلع. ضوء خافت يتسلل من شقوق النافذة. السقف عال رمادي، يتدلى منه سلك النور. فوق السلك ذباب أسود ناعم. رءوس الأطفال سوداء صغيرة تطل من تحت الأغطية. أختي نائمة وشعرها يغطي وجهها. أغمضت عيني لأنام. رائحة الله في أنفي. صوته كالهمس في أذني، يده خلف ظهره، لكني لم أعد أخاف؛ فهو لا يحمل العصا، ويده ناعمة كصدر أمي. ما زال يقترب مني بخطوات بطيئة. وجهه يظهر تحت الضوء. ليس الوجه الذي رأيته. عيناه حمراوان فيهما شرر، وأصابع يده غليظة حديدية تلتف حول عنقي. أحاول الجري وجسمي مربوط في الأرض. أفتح فمي لأنادي على أمي، صوتي لا يطلع، وفي أذني الدوي.
ما هذا الصوت؟ صواريخ العيد؟ زغاريد أم صراخ؟
وجه البابا القديم
سمعت الطلقات بأذني ورأيت الإمام يسقط. وجهه كان معلقا في السماء يعكس شعاع الشمس. دوى الصوت كالرعد وتحول الضوء إلى إشعاع نووي. أصبح وجهه ناحية الأرض بلون التراب. فوق المنصة كان وجهه مضيئا كوجه الله. انقلب عند السقوط وأصبح داكن اللون كوجه الشيطان. لم أكن رأيت الشيطان من قبل وجها لوجه، لكني رأيته في الحلم وحكايات الجدة العجوز. نتجمع حولها في الليل قبل جرس النوم. تحكي لنا عن الشياطين وأرواح الجان. كنت لا أزال في بيت الأطفال، لا أعرف وجه أمي ولا أبي. وجه الله أراه في النوم مزدوج الوجه، ناعما كصدر الأم من ناحية، ومن ناحية الأخرى مخيفا يغطيه الشعر. يتجسد لي دائما على شكل رجل؛ أول رجل رأيته في حياتي. كان الأطفال يسمونه «البابا». يظهر فجأة. لا أراه داخلا أو خارجا من الباب الخارجي. يقف وسط الفناء فاتحا ساقيه كأنما انشقت عنه الأرض أو سقط من السماء. عضلات وجهه لا تتحرك. رأسه بغير شعر يلمع تحت الضوء، وجهه يغطيه الشعر ولحيته طويلة. يرتدي قميصا أبيض مفتوحا عند الصدر. يطل من فتحة العنق شعر كثيف أسود. عظام صدره كبيرة، والثدي عريض مشدود العضلات بغير لحم. فوق كل ثدي نقطة سوداء كالحلمة الضامرة، يشف سوادها من تحت القميص الخفيف. حول خصره حزام عريض من الجلد، يضغط بطنه في عظام الظهر. ردفان ضامران داخل سروال من الجلد. عظام ساقيه بارزة مقوسة تحت الركبة. فخذاه متقلصان كفخذي النمر، يلتقيان أسفل بطنه في ورم صغير بحجم الليمونة.
لم تكن يده اليمنى تخلو من العصا، واليد اليسرى تقبض على ذراع طفل أو طفلة. يجرها خلفه إلى غرفة التأديب. يغلق عليها الباب ثم يعود إلى الفناء. يجلس على الكرسي الخيزران وينادي على الأطفال. نتجمع من حوله فوق الدكك الخشبية، وتبدأ حصة الدين. يقرأ بصوت بطيء غليظ. يد تمسك العصا، واليد الثانية تمسك كتاب الله:
قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد . أغمض عيني وأنام. أرى النفاثات في الحلم على شكل نسور سوداء تحلق في الجو. أصحو على صوته كهدير الطائرة النفاثة، يسأل: ما عقاب السرقة؟ ويهتف الأطفال في نفس واحد: قطع الذراع. وما عقاب الزنا؟ ويرن صوتنا في الفناء: الرجم بالحجارة حتى الموت. ويدب الصمت حتى يسمع كل منا أنفاس الآخر. نعمة الله جالسة إلى جواري، ترمقني بعينين تتسعان لذعر العالم: ما هو الزنا؟ وأغمض عيني كاتمة أنفاسي هاربة في النوم، ثم أصحو على صوته يقرأ مرة أخرى:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له ... . وتقترب مني نعمة الله حتى يلتصق رأسها برأسي، وتهمس في أذني: ألم يلد الله المسيح؟
صوتها كان خافتا كزفير يخرج من الصدر، لكن عينه الغائرة اتجهت نحونا، وارتفع صوته في الجو: من التي تكلمت؟ ولم أعد أسمع شيئا إلا صوت العصا تلسع الهواء، ورأيت خروف العيد مربوطا من ساقه الأمامية بحبل في الأرض. يشد ساقه محاولا الخلاص ويمأمئ بصوت عال. عيون الأطفال تتجه خلسة ناحية الخروف. آذانهم تتابع الصوت البطيء الغليظ يقرأ القصة. في النوم زار الله الأب وأمره أن يذبح ابنه. أمسك الأب عنق الابن ووضع فوقه السكين.
وانكمش الأطفال متكورين بعضهم داخل البعض فوق الدكة الخشبية. امتدت العصا طويلة لامعة كالسكين، واستقرت فوق عنق فضل الله، جالس إلى جواري متكور حول نفسه كالجنين. يده في يدي باردة مثلجة وأظافره زرقاء. ركبتاه مرفوعتان فوق الدكة عاريتان، يشد عليهما طرف جلبابه الدمور. وجهه خال من الدم. الدكة الخشبية من تحته تهتز. صوت الصرير كالأسنان تصطك بالبرد. أمسكت يده في يدي وتساءلت بصوت غير مسموع: ماذا فعل الابن ولماذا يذبحه أبوه؟ لكنه سمعني. كان يسمعنا قبل أن ننطلق ويرانا دون أن نراه، وصاح بصوته العالي: الأب لا يسأل الله لماذا، والابن لا يسال الأب لماذا، طاعة الله واجبة، وطاعة الأب أو الزوج من طاعة الله.
رفع العصا من فوق عنق فضل الله، وأشار بطرفها المدبب إلى الخروف المربوط، وقال: هذا هو ضحية العيد الكبير نذبحه ونأكل لحمه؛ لأن سيدنا إبراهيم أطاع الله، ولأن إسماعيل أطاع أباه. وانتهت حصة الدين، واختفى من الفناء كما ظهر، ولم ينهض فضل الله من مكانه فوق الدكة. ساقاه مشلولتان. رأسه بين ركبتيه.
دق جرس النوم. نهضت من فوق الدكة ونهض معي فضل الله. جلبابه من الخلف ملتصق بجسمه، ومكانه فوق الخشب مبلل. مسحته بكفي قبل أن يراه أحد. فاحت رائحة البول في أنفي. جففت يدي في جلبابي واختبأت في دورة المياه. من النافذة رأيت من بعيد غرفة التأديب، ومن خلفها تطل قبة الكنيسة ومنارة الجامع. شجرة كبيرة تحجبها عن الضوء، وتلقي عليها غلالة سوداء تخفي معالم الجدران، وتضفي عليها مسحة غامضة، شبه إلهية كأنها في العالم الآخر. بابها خشبي أصفر اللون، مقبضه معدني أبيض تعلوه بقع سوداء كالدم القديم.
عيناي ثابتتان فوق المقبض، لم يتحرك ولم تخرج نعمة الله. أغمضت عيني ونمت ثم صحوت. لا زال الباب مغلقا. إلى جواري فضل الله. أخرج الرغيف من تحت جلبابه. نفذت رائحة الخبر إلى أنفي. لم آكل منذ حصة الدين. جلسنا فوق النافذة متعانقين. جلبابي يفوح برائحة بوله، وفي جلبابه رائحة عرقي. نعمة الله لم تخرج من غرفة التأديب. همست بصوت غير مسموع: سأقتله حين أكبر.
كأنما كانت تسمعنا أذناه. انشقت عنه الأرض وظهر أمامنا طويلا عريضا كالمارد. عضلات وجهه متقلصة. الشعر يطل من فتحة القميص منتصبا. عضلات الصدر مشدودة، وحلمة الثدي نافرة. ساقاه مفتوحتان كفكي المقص. عيناه ثابتتان علينا، ونحن راقدان فوق النافذة. أنفه يتشمم الرائحة، والفتحتان الكبيرتان تتسعان داخلهما الشعر الأسود.
وجاء دوري وأسلمت له نفسي كأنه الله، يقودني حيث شاء إلى قدري المحتوم، ثم صحوت من النوم. وجدت نفسي في السرير من تحتي البلولة، وخيط دافئ يسري ناعما فوق ساقي كالعرق. تحسسته بإصبعي من تحت الغطاء، ثم قربت يدي إلى عيني تحت الضوء، كان إصبعي مبللا بالدم الأحمر.
مرة واحدة في التاريخ
أصابتني الطلقة من الخلف وأنا أجري ومن خلفي مرزوق. قبل أن أنسى الحروف وأفقد التاريخ تذكرت. كنت أرتدي ملابسي كاملة، ورأيتهم يشيرون بأصابعهم إلى وجهي: عورتك هي هذا. وارتج جسدي رغم الموت. قلت: من قال لكم هذا؟ قالوا: إنها كلمة الله. قلت: لكنها كلمة مكتوبة وأنتم لا تعرفون القراءة. سكتوا طويلا. نظر بعضهم إلى بعض. رفعوا عيونهم نحو السماء. أشاروا إلى الصورة المعلقة فوق أقواس النصر. قالوا: سيدنا الإمام رأى الله وعرف كلمته. قلت: وأين رأى الإمام الله؟ قالوا: زاره الله في المنام. وتذكرت قبل أن تضيع الذاكرة، قلت: وأنا أيضا زارني الله في المنام. قالوا: الله لا يزور امرأة ولا يظهر لها في الرؤيا. قلت: زار الله مريم العذراء وهي امرأة. قالوا حدث ذلك مرة واحدة في التاريخ، والله منزه عن التكرار. قلت: زار الله النبي محمدا وظهر في الرؤية لإبراهيم، فلماذا لا يكرر الزيارة للإمام؟ سكتوا طويلا. نظر بعضهم للبعض. رفعوا عيونهم نحو الصورة المعلقة في السماء، وقالوا: إنه رأى الله وهم لم يروا الله.
رئيس الأمن
الظلمة داكنة كأنما انطفأت الشمس، وهي تجري هاربة ومن خلفها كلبها يجري. يحرك بأقدامه الأربع تراب الأرض. يلهب التراب عيون الإمام وهم يجرون خلفها، ومن خلفهم كلابهم تنبح، ويخرج رئيسهم من جيبه منديلا حريريا من أجود الأنواع، ويمسح عينيه وزجاج النظارة. منذ منحه الإمام المنصب واللقب وهو يرتدي النظارة السوداء، يرى الناس والناس لا تراه، يرقب حركة عيونهم دون أن يروا حركة عينيه؛ فهو رئيس الأمن، واجبه حماية أمن الإمام وأعضاء حزب الله. وفي الصف الأول يقف عن اليمين لا يفصله عن مقعد الإمام إلا جسد الإمام ذاته، وعن اليسار يرى الكاتب الكبير واقفا إلى جوار المعارض الشرعي. يطل القلم من جيبه العلوي. عينه اليمنى على العرش، واليسرى تتجه إلى شرفة الحريم. وفي الصف الثاني صفوف الوزراء تتلاصق أكتافهم وأقدامهم وأيديهم فوق قلوبهم مربوطة من خلاف، والأجانب واقفون صامتون بوجوه لامعة وأحذية براقة، ونساؤهم إلى جوارهم في شرفة الحريم، وكبيرات نساء الدولة تتوسطهن الزوجة الشرعية، ترتدي وجه الملاك وفوق صدرها وسام الشرف.
يرمقها بطرف عين ويراها وهي ترمق الكاتب الكبير بعيون مشتعلة، وهو يبادلها الإشعاع بإشعاع، والإمام عيناه شاخصتان نحو الله، والمعارض الشرعي عينه اليمنى على العرش، وعينه اليسرى على رئيس الأمن. يتبادلان الابتسام، وفي الليل يشربان نخب الصداقة والولاء. صديقان لدودان؛ واحد في حزب الله، والثاني في حزب الشيطان، وكلاهما شرعي أنجبته الإرادة العليا، كالأخوين غير الشقيقين أمهما واحدة، والأب رجلان عدوان تجمعهما الكراهية وحب امرأة واحدة.
كنت واقفا في الصف الأول والهتاف يدوي مع مدافع العيد، والإمام شاخص نحو السماء، وأنا شاخص من تحت النظارة السوداء أرقب عيون الناس. ألتقط الحركة قبل أن تقع، وألحظ اليد قبل أن ترتفع، والإصبع قبل أن يدوس على الزناد. أعرف وجوههم واحدا واحدا، وأرى رءوسهم وهي تندس بين الرءوس. ملامحهم محفوظة في درج مكتبي داخل الملفات رجالا ونساء، ولمحتها وهي واقفة خلف الصفوف تخفي رأسها وراء الرأس أمامها، وعرفتها على الفور. وجهها نحيل شاحب كوجه أمها، زانية بنت زانية، لا تتحرك إلا تحت الأرض مع الأحزاب السرية والمعارضة غير الشرعية. فقيرة معدمة لا تملك إلا جسمها، تبيعه بثمن طعامها. ذهبت إليها مرة وأنا شاب . فتاة صغيرة كالطفلة. قبل أن أبدأ الجولة الأولى قالت: أخرج قروشك. قلت: ألا تثقي في؟ قالت: أنت من النوع الذي يأكل من عرق النساء. وانعقد لساني كيف عرفت الطفلة حقيقتي وانكشف عنها الحجاب؟ وأخرجت من جيبي القروش ووضعتها في الدرج. صعدت فوقها المرة وراء المرة حتى أعياها الجهد فنامت. دسست يدي في الدرج، سحبت إيرادها، وخرجت قبل أن تصحو. جمعت القروش العام وراء العام، وبنيت بيتا من الطوب الأحمر ثلاثة أدوار. تزوجت بنت الوزير ودخلت حزب الله. لم أر زوجتي قبل الزواج، محجبة طاهرة لا تنكشف على الرجال. تزوجتها على عهدة الوزير وسنة الله والرسول. اشتريتها بمهر عال، ودخلت عليها بعد حفل كبير بحضور الإمام. ظلت ملاءة العرس بيضاء من غير سوء. قلت لنفسي: سبقني إليها غيري وعوضي على الله. شرف الوزير فوق شرفي، والله غفور رحيم، ولست فوق الإله. ضربتها حتى اعترفت بالإثم، ثم غفرت لها كما يغفر الله. أصبحت معبودها وهي عابدتي. تعشق موضع رأسها عند قدمي. أملكها ولا تملكني، وأرفضها فتعشقني، ولا أعشق إلا من ترفضني. كنت أسمع أمي تقول لأبي: أنت ظلي فوق الأرض، إذا هربت منك تبعتني تجري خلفي. وسمعت الإمام يقول: لا يشغل بالي إلا من يعارض أمري بغير أمر مني. وألمح عينيه من تحت نظارتي السوداء تتجهان نحوها وهي واقفة خلف الصفوف. عيناها مليئتان بالرفض، وعيناه يملؤهما العشق. وقلت لنفسي: لن يقتلك سواها، وفي التاريخ لم يسقط أعظم الملوك إلا بسبب امرأة ساقطة.
الزوجة الشرعية
الهتاف يدوي «الله معك» يرج أذنيها، يتدلى منها قرط الماس. يهتز مع دوي الصوت ومن حوله الإشعاع ملايين الأضواء، وعنقها الأبيض كالرخام يرتج ومن حوله عقد اللؤلؤ الحر خمسة أدوار، وفوق صدرها الوسام على شكل «بروش» يعكس الضوء كقرص الشمس، وأصابعها تحوطها الخواتم والفصوص كالنجوم تملأ الكون بالضياء، وهي واقفة في شرفة الحريم ومن حولها كبيرات نساء الدولة، يرتدين وجوها مشدودة، وثيابا حريرية مرتخية، وعوراتهن مختفية تحت حجاب مستورد من أجود الأنواع، وهي واقفة في الشرفة عنقها مشرئب نحو زوجها الإمام، وعنقه مشرئب نحو الله. قلبها تحت ضلوعها يدق، وفوق القلب تحت النهد صليب محفور في الجلد فوقه المسيح مدقوق بالمسامير. رفعت يدها ورسمت فوق صدرها الثالوث، الأب والابن والروح القدس: احفظيه من أعدائه يا ستنا العذراء. أستغفر الله. احفظه يا رب ويا رسول الله؛ فأنا تركت المسيح من أجل الحب، تركت اسمي واسم أبي، أهلي وبلدي وديني، وألقيت بهم جميعا في البحر. كنت مرهقة أغسل الصحون وأتنفس في القطارات تحت الأرض هواء تنفسه قبلي الملايين. أبتسم في الوجوه والوجوه لا تبتسم لي. أذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد وأدعو المسيح لينقذني من الفقر. عشرون عاما ولم ينقذني الأب أو الابن أو الروح القدس، ثم جاء الإمام وأنقذني. رأيته جالسا فوق العرش، ووقعت من أول نظرة في الحب. حملني بين ذراعيه وارتفع رأسي في السماء. عرفت الجنة فوق الأرض. آمنت بالله والرسول. حدائق وقصور وخدم وحشم وأنهار من العسل والخمر. أرفع رأسي والرءوس من حولي تنخفض. يبتسمون في وجهي ولا أبتسم. أمشي أمام الوزراء ومن حولي الأضواء. أفتتح المستشفيات وملاجئ الأطفال. اسمي في التاريخ محفور بحروف من النور. زوجة الإمام ليس لها شريكة فوق العرش، ولا تعلو عليها امرأة في جمال أو علم أو جاه.
الله معك. لا زال الهتاف يدوي في أذنيها وهي شاخصة ناحيته وهو شاخص الناحية الأخرى. مدافع النصر تضرب، ومع كل ضربة قلبها يضرب. حاملات الصواريخ تحلق فوق رأسه العاري إلا من طاقية الإمام، وصدره مكشوف بغير قميص الوقاية، واقف فوق المنصة ولا شيء يحميه إلا الله ورسوله. احفظيه من الشر يا ستنا مريم. تلعثمت واستغفرت. لسانها يذكر الله والرسول، وقلبها يذكر المسيح. احفظه يا رب من أعدائه، من الحاسدين والحاسدات من شر النفاثات في العقد، وأولهن زوجته القديمة. مختفية وراء الصفوف تخبئ في جلبابها ورقة السحر، مطوية فوق صدرها على شكل حجاب، تدعو الله أن يسخطه على شكل قرد. احفظه يا رب من كيد النساء إن كيدهن عظيم. وابنته غير الشرعية تضمر له الموت منذ ولدت، تخفي رأسها بين الرءوس وفي يدها اليمنى شيء طويل كآلة القتل.
ضربات قلبها تدوي في أذنيها مع دوي الهتاف. ما هذا الصوت؟ طلقات رصاص؟ عيناها الزرقاوان بلون البحر ترى وجهه يسقط فجأة من السماء إلى الأرض، والوجوه من حوله تختفي، وذرات تراب تملأ الجو بالعفار، وتفتح عينيها لتصحو من النوم، لكن عينيها الزرقاوين مفتوحتان، وهي ليست نائمة وليست جالسة، وليس من تحتها كرسي العرش. اختفى هو الآخر، أو انقلب رأسه إلى أسفل وأرجله الأربع إلى أعلى. رسمت الصليب على صدرها. ماذا حدث يا أمنا العذراء مريم؟ وأغمضت عينيها حين رأت وجه أمها كبيرا مدورا كقرص الشمس: الأم والابنة والروح القدس. أستغفرك يا رب: الأب والابن والروح القدس.
الله مع الإمام
سمعت الطلقات بأذني وكنت رافعا عيني نحو عرش السماء. هي لحظة واحدة غفلت فيها عن عرش الأرض. انتهز غفلتي وأطلق النار. لم أر وجهه ولم أعرف من هو على وجه التحديد. واحد من أعضاء حزب الشيطان. أعرفهم وجها وجها وأعرف رئيسهم. كان مهملا منسيا، فأخرجته من الظلمة إلى النور. منحته الوجوه من العدم وأصدرت الأمر، فأصبحت رئيس المعارضة الشرعية. قلت له: تعارض كل القرارات إلا قراراتي؛ فأنا الحاكم الوحيد فوق الأرض والرئيس الأعلى لحزب الله، وأنت لك قصر في ميدان الحرية، ومعونة شهرية، وجريدة يومية، ومقعد في مجلس الشورى والبرلمان.
رأيته يبتسم ووجهه أشرق. كان زميلي في المدرسة، يغمض عينيه ويحلم بصورته منشورة في الصفحة الأولى. حلم يتكرر كل يوم، وأنا مثله يراودني الحلم ذاته، والصفحة الأولى لا تنشر إلا صور رؤساء الدول، أو رؤساء الأحزاب، أو صور السفاحين والسفاحات والحاملات السفاح. وفي المدرسة كان يجلس إلى جواري وسرواله من الصوف الغالي، وسروالي مثقوب من الخلف أخفيه بيدي. أبي كان فلاحا فقيرا يراني في الحلم خفيرا في بلاط الإمام. أبوه كان غنيا سافر للتعلم وراء البحار. عرف اللغات الأجنبية، وارتدى ملابس الأفندية. تزوج امرأة تؤمن بالمسيح ولا تعرف العربية، شقراء بيضاء الساق، يشف بياضها من تحت اللحم كحوريات الجنة. أرمقها بعين محروم لم يعرف في حياته المرأة.
عرفت من النساء كثيرات، لكن الفقر يحوطني كجلدي، والخوف من الجوع يلازمني، ومهما أكلت لا أشبع، ومهما أمنت المستقبل لا آمن، وكل يوم أرى صورتي منشورة في الصحف، معلقة في كل مكان تحت الأضواء، وأغمض عيني ليراودني الحلم القديم؛ أن أجلس على عرش الأرض والسماء. منذ الطفولة وأنا نائم أرى الله. له وجه أبي مليء بالتجاعيد؛ خطوط الزمن والجدري القديم. فوق النني الأسود في عينه اليمنى نقطة بيضاء بقايا الرمد الصديدي. يرتدي جلباب الفلاحين وطاقية رأس منحولة الصوف. يناديني بصوت أبي الجهوري: يا إمام. وأقول: نعم يا ربي. سأعطيك الرزق بغير حساب في الدنيا والآخرة بشرط واحد، وأقول: ما هو يا ربي؟ يمد يده نحوي قابضا على شيء. أصابعه سمراء مشققة كأصابع أبي. يفتح أصابعه وأرى المسبحة حباتها صفراء، ثلاث وثلاثون حبة، إذا حركت الحبة الواحدة ثلاث مرات يكون عددها تسعا وتسعين. مع كل حبة اذكر اسما من أسمائي. هذا هو أمري، ومن لا يطيعك عليك بهذا. ما هذا؟ وشد من جراب طويل في جلبابه سيفا لامعا، وكاد بوزه الحاد يدخل صدري. تراجعت إلى الوراء، وفي حركة التراجع فتحت عيني وصحوت من النوم. رأت أمي وجهي شاحبا وفي قلبي رعدة. قالت: ما لك يا ابني وجهك ليس هو وجهك؟ قلت لها: رأيت الله. قالت: خير، فلماذا ترتعد؟ قلت: كان معه سيف، وكاد السيف يخترق صدري. بصقت في فتحة جلبابها الأسود وقالت: إنه الشيطان وليس الله. انهض واغتسل وصل ليغفر الله لك.
أمي كانت تصلي الفجر قبل أن تذهب إلى الحقل، وتعود بعد المغرب لتصلي العشاء. أبي لم أره يركع ركعة واحدة، وفي رمضان يأكل ويشرب ويدخن الشيشة، ويوزع لياليه بين أربع زوجات بغير عدل، يعطي الزوجة الأخيرة ثلاث ليال، وأمي ليلة واحدة، وأسمعه يقول: يغفر الله الذنوب جميعا إلا أن نشرك به. إله واحد في السماء هو الله، وحاكم واحد فوق الأرض هو الإمام. قبل أن يموت زار قبر الرسول في مكة، ثم عاد يرتدي عباءة بدل الجلباب، وسمعته يقول: زيارة قبر النبي تمسح الذنوب ولا يبقى منها شيء. ومات أبي طاهرا بغير ذنوب. وقبل أن تموت أمي قلت لها: لماذا لا تزورين قبر الرسول لتلحقي بأبي في الجنة؟ قالت: باع أبوك المحصول ولم يعطني شيئا، ليس معي ثمن التذكرة إلى مكة. ولم تمسح أمي ذنوبها. مسحت دموعها بكفها وقالت: إذا فتح الله عليك يا ابني أبواب الرزق، فاشتر لي تذكرة إلى قبر النبي. قلت: هذا وعد يا أمي لن أنساه. ونسيت الوعد ونسيت وجه أمي. مضت السنة وراء السنة، عشرون سنة دون أن أراها. كانت تسكن في بيت بعيد في أقاصي الجنوب، وأنا أرفع رأسي ناحية السماء، لا أرى إلا الله وأعضاء حزب الله. نسيت أن هناك حزبا آخر هو حزب الشيطان، ولولا أمري ما كان له وجود ولا شرعية. قلت لنفسي: إذا لم يكن هناك شيطان بين الناس فلن يكون هناك خوف، وإذا لم يكن هناك خوف فلن يبقى حاكم ولا إمام فوق العرش، وهو يلعب في مجلس الشورى دور المعارضة. يقول لا أمام الناس، وفي أذني يقول نعم. ورث عن أبيه الأرض والمال ولم يبق أمامه إلا الشهرة ودخول التاريخ. زار الرسول في قبره وأطلق على نفسه اسم الحاج. قلبه خال من الإيمان، وزوجته لا تعرف التوحيد. ترسم الصليب على صدرها وتركع للثالوث، الأب والابن والروح القدس، بيضاء كالشهد، ممشوقة كالغصن، تتكلم سبع لغات. يتفاخر بها أمام الناس، وتجلس إلى جواره في الحفلات. زوجتي كنت أخفيها تحت الحجاب، وفي الشارع تمشي ورائي. لا تكتب ولا تقرأ كتاب الله. ناقصة العقل مملوءة بالشحم. رأسها صغير وردفها ثقيل. مخلوقة من ضلع أعوج بلا حسب ولا نسب. تزوجتها قبل أن يفتح الله لي أبواب الرزق، جمعنا الفقر كالرباط المقدس، وبعد اعتلاء العرش لم تعد الزوجة القديمة تناسب حياتي الجديدة. وفي مجلس الشورى قالوا: الإمام له الحق في بيت جديد، وزوجة جديدة، وعباءة جديدة من أجود الأنواع. وجاءوا لي بالصوف المستورد الغالي، وزوجة مستوردة من أجود الأنواع، بيضاء كالشهد، وعيون بلون البحر، تتكلم لغات الأرض. قالوا: هذا حق الإمام؛ فهو أفضل الرجال، وزوجته أفضل النساء، لا تعلو عليها امرأة في جمال أو علم أو مال. تصاحبني في رحلاتي وتنوب عني في الافتتاحات. ترتدي الزي الرسمي وتهتف مع الجماهير في الحفلات. وفي أعياد النصر تتلقى فوق صدرها الوسام، وفي الهزائم تلبس زي الممرضات، تقدم لمشوهي الحرب «البونبون»، وتغني مع أرامل الشهداء والشهيدات. ومن فوق أقواس النصر ترفرف صورة الإمام، وعيناي مرفوعتان نحو السماء، رأيت الله وانكشف عني الحجاب. أتمتم بآيات الحمد وبين الشفتين ابتسامة تتسع لحب الشيطان، وتدوي في أذني الهتافات فأحرك يدي اليمنى في الهواء، وتنحني شفتي السفلى فوق ذقني بتواضع الأنبياء، وأنا واقف فوق المنصة ممشوق القوام مرتديا وجه الإمام. فوق جبهتي علامة الإيمان، وفوق صدري وسام النصر. عن يميني رئيس الأمن، وعن يساري كاتبو الكبير ثم معارضو الشرعي. ومن خلفنا صفوف الوزراء ومندوبو القوى العظمى والكبراء.
الله معك. دوى الهتاف من حناجر الرجال والنساء وتلاميذ المدارس بزي الكشاف، والبنات بملابس الممرضات، والجنود بالسراويل الكاكي، والعمال بالبدل الزرقاء، والفلاحين بالجلاليب والطواقي، وفرق الفنون الشعبية بالراقصات والصاجات. يرتفع الهتاف والأناشيد ودقات الطبول وصواريخ العيد تملأ الدنيا بآلاف الألوان. تنطلق في السماء حمائم السلام، تتلوها الطائرات حاملات القنابل من نوع انتهى مفعوله منذ مائة عام، وفي أذنيه يسري الهتاف «الله معك»، وعيناه نحو الله تسألان: إذا كنت معي يا رب، فلماذا الهزيمة، ولماذا تحجب عني سر القنبلة النووية؟ لماذا تعطي السر لأعدائنا الكفار وتحرم عبيدك المؤمنين المخلصين؟ أستغفرك فأنت لا تسأل عن الحجج والعلل، هذه إرادتك وليس لي أن أعارضك؛ فالمعارضة ضررها أكثر من نفعها. وكنت أظن أن هذا الشيطان الواقف إلى جواري سيلعب دور المعارض الشرعي في حدود إرادتي العليا، ويضع على صدري وسام الحرية والديمقراطية، لكنه افترى وتكبر وملأ الصحف بصورته فوق صورتي. يبتسم في وجهي كالملاك، ومن الخلف يصوب لي الضربات. يقف إلى جوار القوى العظمى في الحفلات ، ويصوب إلى شرفة الحريم النظرات.
زوجتي الجديدة درست علم السياسة وراء البحار، ولها نظرية في الحكم وترويض الرجال. قالت: امسك العصا من الوسط ولا تضرب طول الوقت. أربت على الكتف مرة بحنان الأم، والمرة الثانية أضرب فوق الرأس. وأنا وأنت نتبادل الأدوار؛ فإذا ضربت أنت جئت أنا باسمة كالملاك، وإذا تهاونت أنت أو تنازلت أمسكت أنا العصا واللجام. قلت لها: عليك بالمعارضة وأعضاء حزب الشيطان. قالت: سأروض الرجال منهم؛ فالرجل طفل بريء وإن رفع راية العصيان، والمرأة هي الحية والشيطان وإن تلفعت بالحجاب ودخلت حزب الرحمن. قلت: أعدائي كلهم رجال يضمرون الحقد منذ الطفولة، وبين النساء ليس لي أعداء إلا اثنتان؛ زوجة قديمة خلعتها عني مع جلبابي القديم، وابنة غير شرعية جاءت في نزوة طيش مع الخمر. قالت: زوجتك القديمة مكسورة الجناح وليس منها خطر، لكن ابنتك تضمر لك السوء، ولن يشفي غليلها إلا القتل. قلت: لا تقتل البنت أباها وإن اغتصبها كالذئب، وهي تحبني وتعترف لي بالولاء. قالت: أنت تحبها والحب أعمى، وأنت واقف تحت الضوء، وهي خلف الصفوف في الظلمة تنتهز الفرصة لتصوب الضربة. قلت: لن يضربني إلا عضو من حزب الشيطان، أو مأجور من الأحزاب السرية، أو عدو من خارج البلاد. قالت: أعداؤك كثيرون، وكلما رفعك الله زاد أعداؤك، ولا تخرج إلى الشارع بدون قميص الوقاية. قلت: الواقي هو الله. قالت: الله وحده لا يكفي إذا انطلق الرصاص. قلت: أستغفر الله العظيم. يا لك من كافرة لم تنزعي عن صدرك الصليب، ألا تثقين في قدرة الله على حمايتي؟ ألا تؤمنين بالله والنبي محمد؟ قالت: منذ ليلة زفافنا أخرجت من قلبي المسيح، وآمنت بك وبالله والرسول، ولكني أخاف عليك من أعدائك، والوقاية خير من العلاج. قلت: لست ذاهبا للقاء الأعداء، سألتقي بشعبي الحبيب وجنودي الأعزاء، قلوبهم تفيض بالحب والولاء، وأصواتهم تهتف بحياتي إلى الأبد، ألا تسمعين الهتاف يا امرأة؟
البودي جارد
لم يكن البودي جارد (الحارس الجسدي باللغة العربية) يعرف شيئا عن أمور الحكم أو الخلافة، كانت مهمته محددة ، وهي الوقوف بجوار الإمام مرتديا وجه الإمام المطاط وجسده الممشوق، ولم يكن في قدرة أحد إلا الله ورئيس الأمن أن يكتشف الإمام الحقيقي من الإمام المصنوع، وأذن «البودي جارد» كانت تشرئب مرهفة؛ فإذا ما سمع طلقة نارية قفز بخطوة واحدة أمام الإمام، يستقبل الرصاصة في صدره نيابة عنه، وفي سعادة طاغية يموت فداء الوطن، وفي عنقه مفتاح الجنة معلقا داخل السلسلة. يفتح باب الجنة ويدخل مع الأنبياء والشهداء، وتحصل زوجته على لقب أرملة الشهيد، ويصرف لها معاش مضاعف ووسام من الدرجة الثالثة.
في كشوف خدم الإمام كان له لقب رسمي: «البودي جارد.» ولا يمكن لأي رجل أن ينال هذا المنصب؛ فهو منصب رفيع خطير أخطر منصب في الدولة، يقتضي الإخلاص للإمام والإيمان به مائة في المائة دون تفكير يؤدي إلى التردد، والتردد ولو للحظة خاطفة قد يودي بحياة الإمام. إذا انطلقت الرصاصة وتردد «البودي جارد» في الموت نيابة عن الإمام، فهذه كارثة أكبر الكوارث. «عدم التفكير على الإطلاق» كان هو المؤهل الأول للحصول على هذا المنصب. ويختار الإمام بنفسه البودي جارد، يتقدم المرشحون للوظيفة على شكل طابور. يمرون أمامه وهو جالس على الأرجيحة في حديقة القصر. يتم الاختيار بعد اختيار دقيق لخلايا العقل. تسجل النتائج فوق ورقة بيضاء ناصعة البياض. أي نقطة سوداء فوق البياض تعني أن هناك شبهة وإحدى خلايا المخ تفكر. - هل أنت مستعد للموت من أجل الإمام؟ - نعم بكل سرور.
كلهم يقولون نعم ولا أحد يقول لا، لكن الإمام لا يثق في كلام أحد، ولا يمنح ثقته إلا للجهاز الإلكتروني، يقدر وحده على اكتشاف الصدق من الكذب. امتحان صعب لم يكن ينجح فيه إلا رجل واحد في المليون. وبعد اختبار العقل يأتي اختبار الجسم، وهو امتحان لا يقل صعوبة. قدرة الأذن على أن تشرئب وتسمع الطلقة قبل أن تنطلق. قدرة الجسم على القفز واستقبال الموت في خطوة واحدة. القدرة على تقمص جسد الإمام والوقوف أمام الناس كأنه الإمام لا فرق. القدرة على السقوط والموت دون أن يلحظ أحد، ودون أن يسمع أحد صوت الطلقة؛ فهي طلقة خافتة تنطلق عادة من آلة قتل حديثة كاتمة للصوت. والهتاف يكون عاليا يغطي على الصوت إذا كان هناك صوت. الله معك. ويرفع الإمام رأسه نحو السماء غافلا عن الأرض، وفي هذه اللحظة الخاطفة تنطلق الرصاصة. يتلقاها البودي جارد بصدر رحب، ويسقط بين قدمي الإمام دون أن يلحظ أحد. يختفي جسده على الفور، ويحل مكانه جسد آخر، له الملامح ذاتها والوجه ذاته من المطاط، يرتديه فوق وجهه فيصبح هو الإمام، ولا يمكن لأحد أن يفرق بينهما حتى زوجته.
في كل مرة يخرج البودي جارد من باب بيته يعلم أنه لن يعود، ومع ذلك يخرج بكل إرادته ووعيه مستبشرا بالموت وفي عنقه مفتاح الجنة، يتدلى من سلسلة فضية، وله ذنب رفيع أسنانه مشرشرة. كيف يفتح الجنة بهذا المفتاح؟ وهل للجنة باب مثل البيوت؟ ورضوان حارس الجنة هل يتركه يفتح الباب؟ أسئلة كثيرة تخطر له وهو واقف يسمع الهتاف. تطردها خلايا عقله السؤال وراء السؤال. لا أحد يلحظه وهو يفكر. الجهاز الإلكتروني معطل، والتيار الكهربائي مقطوع، ورئيس الأمن عينه على الصفوف الخلفية، والإمام شاخص إلى أعلى نحو السماء، وهو أيضا يرفع رأسه بالحركة نفسها. وحين يهز الإمام يده تحية للجماهير يهز يده بالحركة ذاتها، لا يمكن لعين أن تلحظ الفرق. وحين يمشي الإمام فوق الأرض يقلد مشيته، مشية مميزة فيها عرج خفيف، يدوس بقدمه اليمنى على الأرض بقوة أكثر من اليسرى. عظام ساقه اليسرى فيها اعوجاج منذ الطفولة، نقص الكالسيوم في لبن الأم. لم تعرف أمه شيئا عن مرض الكساح، تصورت أنه عين الحسود، وحوطت عنقه بدوبارة تتدلى منه خرزة زرقاء، وألبسته ملابس البنات.
كان الإمام قادرا على التواجد في مكانين مختلفين في وقت واحد، ولا أحد يعرف السر إلا البودي جارد. يهمس الإمام في أذنه: اذهب نيابة عني إلى هذا الاجتماع أو هذا الحفل أو إلى مجلس الشورى أو صلاة الجمعة أو إلى هذه المهمة خارج البلاد.
يسير أمام الكبراء والوزراء ولا أحد يشك أنه ليس الإمام، حتى هو لا يشك في نفسه. وإن ساوره الشك لحظة فإن هتاف الجماهير يعيد إليه الثقة، ويمشي مرتديا وجه الإمام المطاط رافعا رأسه. يلتقي بالسفراء والخبراء الأجانب. يقص الشريط مفتتحا الملاجئ، وفي اجتماع مجلس الشورى يظل صامتا كالإمام، ينصت إلى تقارير الوزراء ويهز رأسه علامة الفهم، أو يشرد بعينيه ناحية السماء كأنه يفكر، ولا يلحظ أحد أنه لا يفكر، وأن عقله يترك جسده في مقعد الإمام ويهرب إلى الدور الأرضي، يخلع الوجه المطاط ويدلك بطرف الإصبع أنفه المضغوط تحت الأنف الآخر. ومن الباب الخلفي للقصر يخرج مع الخدم متنكرا بوجهه الحقيقي، يقفز في الأوتوبيس قبل أن يقف، ويهبط قبل أن يدفع التذكرة. يسير بين الأزقة، يضرب ببوز حذائه قطعة زلط حتى يصل البيت. تحوطه أمه بذراعيها، ويشم رائحة الخبيز والروث. أتنسى أمك عشرين سنة؟ هل مرت عشرون سنة يا أمي؟ كنت هنا بالأمس، وتقول أمه: من تغطى بالأيام عريان، ومن ابتعد عن السلطان سلطان. يجلس على ركبتها تهزه كالمرجيحة وتحكي له الأخبار. هذا الشتاء ماتت الكتاكيت بالشوطة، عمتك الله يرحمها ماتت بالكوليرا، خالك سافر إلى الحج ولم يعد، بنت خالتك عضها كلب مسروع، وأبوك زارني في المنام وقال إنه ينتظرني في الجنة، أنسيت يا ابني الوعد، وأين هي تذكرة السفر إلى قبر النبي؟
يدفن رأسه في صدرها، أبدا يا أمي لم أنس ولكنها المشاكل، مشاكل يا أمي مشاكل بغير حل. الله سبحانه هو الوحيد القادر على حلها. ديون خارجية يا أمي، وصراع القوى العظمى، وحرب الكواكب وأعضاء حزب الشيطان وأولاد الحرام وبنات الحرام، والألم هنا يا أمي تحت يدك في صدري. تتحسسه كف الأم المشققة حتى تعثر على الجرح النافذ من الصدر إلى القلب، تسده بتراب الفرن أو مسحوق البن وينام بين ذراعيها، حتى يلتئم الجرح وصوتها في أذنه يغني كالنشيج.
صوتها عميق يأتيه من بعيد وهو واقف مرتديا وجه الإمام قبل السقوط، كصوت في حلم أو حلم داخل الحلم. وكثيرا ما نام وحلم أنه يحلم ، ويصحو وهو لا زال في الحلم، ثم ينام ويحلم مرة أخرى أنه يحلم، وفي الحلم يعرف أنه يحلم، ويرتدي الوجه المطاط وهو لا زال يحلم، ويهبط سلالم القصر كمن يمشي وهو نائم، ويركب سيارة الإمام ويلوح للناس بيده، وفي المجلس يراه الوزراء منصتا باهتمام وهو لا يسمع، ويهز رأسه علامة الفهم وهو لا يفهم، ويهرش شعر رأسه كأنه يفكر وهو لا يفكر، فلم يكن التفكير شرط المنصب، وحين دوت المدافع وعم الظلام تجمد الدم في عروقه؛ فهو يخاف الظلمة منذ الطفولة، ويخاف صوت الهتاف ودقات طبول النصر، في مثل هذه اللحظات تنطلق الرصاصة دون أن يلحظ أحد، ولا يسقط أحد إلا هو. يموت وحده ولا يموت معه أحد. يسقط جسده بين قدميه ويختفي في السر، وتنتقل السلطة بسرعة بانتقال الوجه المطاط من وجه إلى وجه، ولا يشعر الناس أن شيئا حدث أو تغير، والإمام يظل واقفا فوق المنصة رافعا رأسه نحو السماء، وصواريخ العيد تفرقع والهتاف يدوي «الله معك».
وجه مزدوج
طفولتي من بعيد تبدو سعيدة، يأكل الزمن الألم ولا يترك في الذاكرة إلا الفرح، ودموع الحزن تتحول في العينين إلى نافذة للرؤية. وجه أختي لا زلت أراه. عيناها في عيني تلمعان في ظلمة الليل. ذراعاها حولي. صدرها ناعم كصدر الأم. وأخي يلازمني كرائحة جسدي، أشمه في العرق وأشمه في الزهر؛ فهو جسمي ورائحته هي رائحتي.
في مدرسة الممرضات رأيت نفسي أرتدي ثوبا أبيض، وشعري ملفوف داخل غطاء أبيض، كالملاك أنتقل من سرير إلى سرير، خفيفة الحركة لا تكاد تلامس قدماي الأرض، كالروح بغير جسم طويلة نحيلة كالخيال. صوتي همس، وأنفاسي عميقة كالأطفال. ثدياي تحت الثوب الأبيض صغيران نافران. لي سرير أبيض في عنبر كبير، ودرج من الخشب عليه حروف اسمي بنت الله، وإلى جواره اسم اختي نعمة الله، وجهها نحيل أبيض، وعيناها حين تراني تمتلئان بالضوء.
مدرسة الممرضات كانت بناء ضخما قديما اسود لونه من القدم، أول مدرسة للبنات لا تدخلها إلا اليتيمات بغير أب أو أم، إلى جوارها المستشفى الحربي يطل على النهر بنوافذه المدهونة وشرفاته الزجاجية، ومن خلف النهر بناء ضخم قديم قدم العبودية، اسود لونه وعفره التراب فأصبح بلون الأرض، نوافذه عالية تسدها قضبان حديدية كالسجن، عيون أطفال تطل من خلف النوافذ لامعة كالنجوم في كون أسود، أطفال الله أو الأطفال غير الشرعيين باللغة الرسمية، ومن خلف بيت الأطفال مساحة من الأرض صفراء مستوية كالصحراء، ثم ترتفع الأرض على شكل هضبة منخفضة تعلوها أشجار شوكية، يسمونها النباتات الشيطانية، يتصورون أنها تنمو وحدها بإرادتها ضد إرادة الله. في بطن الهضبة ينتصب مبنى ضخم أسود اللون قديم قدم الشيطان. ترتفع جدرانه السوداء عالية تخرق السحاب كأنما تتحدى السماء. نوافذه عالية تسدها القضبان كبيت الأطفال. ومن وراء النوافذ تطل رءوس النساء مربوطة بالمناديل أو محلولة الشعر، والشعر غزير طويل مجعد أو ملبد من النوم، يسري فيه القمل بأقدام دقيقة. يلمع الشعر تحت الشمس بأضواء كألوان الطيف. «بيت السعادة» باللغة الدارجة، و«بيت المومسات» في ملف رئيس الأمن.
من نافذتها في مدرسة الممرضات لم تكن ترى النهر ولا الهضبة وراء النهر، كان المستشفى الحربي ضخما كبيرا يحجب عنها الكون، إلا قطعة من السماء تطل من فوق الجدار، وشعاع رفيع من الشمس يصل إليها قبل الغروب.
ولم يكن مسموحا أن تطل من النافذة، شرفات المستشفى الحربي تواجه نوافذ الممرضات. يطل أطباء الجيش على البنات، يبتسمون، يهزون رءوسهم أو يصفرون، يرتدون البدل العسكرية. فوق صدورهم وأكتافهم النجوم والنياشين، وفوق رءوسهم قبعات حربية. وفي الليل بعد جرس النوم تطل أختي برأسها من السرير وتحكي لي قصة حب. تحت النور الخافت تخرج الصورة من صدرها، صورة رجل، فوق رأسه قبعة عسكرية، فوق صدره وسام مستدير كالقرص. حافة القبعة تلقي على نصف وجهه الأعلى ظلا رماديا، يخفي معالم العينين والأنف. تحت الأنف شارب أسود، مقصوص بعناية، مربع الشكل يشبه شنب هتلر. تقبل الصورة وتخبئها في صدرها فوق القلب، وتحكي لي القصة من جديد. كان مصابا برصاصة في صدره، ورقد في السرير وهي واقفة. كان يسميها ملاكي الحنون، وأصابعها فوق الجرح ناعمة. تسهر إلى جواره طول الليل، فإذا فتح عينيه رآها واقفة أو جالسة، وإن نامت ودق الجرس جاءت في غمضة عين، وإذا لم يدق الجرس تدخل على أطراف أصابعها، تغطيه إذا تعرى، وتسقيه إذا عطش، وتقرأ له قبل أن ينام، ولم يكن يقرأ إلا كتاب الله وأخبار الحرب، ولم يحدثها عن شيء إلا القتال والموت. قتل ثلاثة رجال وهرب الرابع بعد أن أصابه برصاصة في صدره. منحه الإمام الوسام في عيد النصر. تدرب على القتل منذ الطفولة. كان يقتل العصافير وهي واقفة فوق الشجر. يثبت البندقية فوق كتفه، وفي منتصف رأس العصفورة يصوب، ثم يدوس بإصبعه على الزناد، وتسقط العصفورة بطلقة واحدة.
وأحوطها بذراعي كالأم. جسمها نحيل كعصفورة. في أعماقي حنين لصدر الأم. أدفن رأسي بين نهديها وأنشج: لا أريد أن يقتلك الرصاص. وتتوهج عيناها بالضوء: سيقتلني الحب وليس الرصاص.
لم أكن أعرف شيئا عن الحب. قلبي يخفق بالحنين لذراعين يضمان جسمي دون ألم، وعيناي تنظران إليها وتلمعان بالنور. في درجي رسائل بخط يدي أكتبها ولا أرسلها لأحد. في أعماقي خوف عميق من الحب، وخوف أشد من الله. في بيت الأطفال كنت أصلي، ويتجسد الله في أحلامي على شكل رجل، يمر بيده الحانية على صدري ويرتفع بطني بالمسيح. في الصباح وأنا أصلي أسمع صوت الله غاضبا، يلعنني ويهددني بالعقاب. أستغفره وأسجد حتى يلامس الأرض رأسي. أكرر الركوع والسجود والتوبة لكن صوته يظل غاضبا. خمس مرات في اليوم أصلي، وفي كل صلاة أركع وأسجد وهو غاضب ساخط لا يهدأ. وفي الليل أتكور حول نفسي تحت الغطاء وأراه يأتي، بصوت آخر هادئ بلا غضب، ووجه ناعم كضوء القمر، وذراعه كذراع الأم حانية، يهدهدني ويملأ روحي بالحب الطاهر، ويرتفع بطني بالحمل المقدس، ثم أراه يستدير، أظن أنه ذاهب بلا عودة. أنادي عليه بصوت خافت ويستدير عائدا إلي بوجه آخر، قاتم اللون، داكن الغضب، في عينيه الشرر. أفتح فمي لأصرخ، لكن جسمي مربوط في الأرض، وأصحو من النوم مبللة بالعرق، وعلى ورقة بيضاء أكتب أول حروفي فوق أول رسالة إلى لا أحد: رأيت الله في المنام، له وجهان؛ وجه ناعم حنون كالأم، والوجه الآخر كالشيطان.
أول حروف الحب
لم يكن مسموحا أن نطل من النافذة، شرفات المستشفى الحربي تواجه نوافذ الممرضات. يطل رجال الجيش على البنات، والمبنى الضخم يحجب عنا ضوء الشمس، ومن فوق الجدار العالي يتسرب الشعاع الرفيع وأنا واقفة خلف النافذة، ومن خلفي أحس الأصابع الغليظة تشدني إلى الخلف؛ أصابع رئيسة الممرضات، متوسطة العمر قصيرة القامة، ترتدي طرحة بيضاء وثوبا طويلا أبيض كالراهبات، وجهها عريض أبيض ويداها سمينتان، فوق صدرها ثلاث نجوم ووسام البر والإحسان، قرص ذهبي على شكل النجمة، تشبكه بدبوس في الفستان. صدرها تحت الحرير ارتجاج بارز. ثديان سمينان يسبقانها في المشي، ومن الخلف يتأخر في السير ردفان كبيران. يهبط الردف الأيمن إذا ارتفع الأيسر، ويرتفع الأيسر بهبوط الثاني، كأنما كل نصف ليس في المكان الصحيح. وذراعاها حين تقف يلتصقان، وحين تمشي تحرك ذراعا واحدة، وتبقى الثانية ملتصقة بالجسم من الجانب، وفي النهار تطرقع فوق البلاط بكعبين رفيعين من النحاس. وفي الليل تمشي حافية على أطراف أصابعها بغير صوت، تمر على العنابر في الظلمة كالروح الضائعة بغير جسد، وحفيف ثوبها كصوت الهواء. وجهها ثابت بغير عضلات، وعيناها في كل اتجاه تتحركان، رماديتان مستديرتان، وفوق كل عين حاجب مرسوم بالقلم الرصاص على شكل قوس، وأنفها من الجانب مرفوع نحو السماء. تظهر وتختفي كروح من العالم الثاني، أو واحدة من الأحياء كانت أو ستكون في زمن آخر.
في الليل وأنا نائمة أرهف أذني لصوت الهواء، ألتقط حفيف الثوب ولمسة القدم للأرض غير المرئية، والمقبض يدور في الباب وحده تحركه الأرواح أو الشياطين، ثم أراها تدخل العنبر كالشبح الأبيض. تمر بين الأسرة تفتش على أحلام البنات. تدور عيناها فوق الرءوس النائمة مثل الكشافات، رأس واحد في السرير. تعد الرءوس على أصابعها كمن يعد رءوس الخرفان، فإن غاب رأس أو ظهر في السرير الواحد رأسان انطلقت زمارة الإنذار .
كنت في سريري، ونعمة الله في سريرها. عيناها مفتوحتان ليل نهار. وجهها يزداد شحوبا، وعيناها تزدادان سوادا واتساعا. إذا همست في أذنها بالليل لا ترد، وإذا مررت بشفتي فوق وجهها لا تتحرك عضلات الوجه. حوطتها بذراعي ونمت. وفي منتصف الليل فتحت عيني. كان سريرها خاليا، ومكانها إلى جواري خاويا. الممر الطويل مظلم وأنا أمشي فوق الجدران ولا أقع. من وراء الباب المغلق أسمع الأنين. أدفع الباب بيدي ولا أرى إلا البلاط. وفي الركن المظلم خلف الباب أجدها، متكورة حول نفسها كالجنين، ومن تحتها الخيط الأحمر. أصابعها بيضاء خالية من الدم، فوق الورق حروف سوداء، مكورة في يدها وأصابعها متقلصة كالحجر. لا أحد يستطيع أن يفتح يدها. ماذا كتبت في الورقة؟ سألتني الرئيسة ومن خلفها طابور الرجال يرتدون القبعات الرسمية، قلت: لا أعرف. قالوا: كيف لا تعرفين وهي معك الليل والنهار؟ قلت: كانت معي لكنها كانت تعيش في عالم آخر. قالوا: أي عالم هذا؟ قلت: لا أعرف، لم أذهب إليه بعد.
وفي الليل حين تتلاشى الوجوه ويكف الهواء عن الحفيف، أراها واقفة في الظلمة. أفتح أصابعها الحجرية وأستخرج الورقة. تحت ضوء القمر أرى حروفها فوق الورقة بالحبر الأسود.
الزوجة الشرعية لا تدخل الجنة
الهتاف يدوي في أذني، وفوق رأسي عرش السماء، وتحت قدمي عرش الأرض، وحولي الحراسة مشددة. أعدائي كثيرون يتطلعون للعرش، وأصدقائي قليلون ينتهزون فرصة موتي. عن يميني رئيس الأمن يتربص بي أكثر من الأعداء، وعن يساري كاتبي الكبير. عينه اليمنى على رئيس حزب الشيطان، وعينه اليسرى على زوجتي الشرعية. وهي واقفة في شرفة الحريم من حولها الزوجات المثاليات والأمهات الشهيدات، والهتاف يدوي في أذنيها وصواريخ العيد وطلقات الرصاص. ترى وجهي يسقط من فوق جسدي لكنها تظل واقفة. عينها اليمنى على العرش، وعينها اليسرى على صديق العمر.
منذ الطفولة وأنا أضمر له الحقد. يسبقني في امتحانات آخر العام ولا تروقه إلا فتاة أحلامي. يكتب لها الشعر ورسائل الحب وأنا لا أكاد أفك الخط. منحته لقب الكاتب الكبير، وصفحة كاملة في جريدة الصباح، وصورة داخل برواز يبتسم فيها للبنات، ومع ذلك لا يكف، لا يهدأ والنار في قلبه منذ الطفولة لا تبرد، وهو واقف إلى جواري يسمع الدوي، ويرى رأسه يهبط من السماء إلى الأرض، والقيامة تقوم وهو واقف ثابت في مكانه كأبي الهول، ويختفي الأصدقاء والأعداء ولا أرى إلا وجوه رجال غرباء. يقتربون مني وأنا أخفي وجهي في الأرض. لم ألتق بأي واحد منهم وجها لوجه. يعرفون وجهي من الصورة فوق طوابع البريد والدمغة. أحدهم يقلب رأسي من فوق الأرض وينظر إلى وجهي، يقول لهم: ليس هو الوجه الذي عرفناه. قالوا: وجه من إذن؟ قال: لا أعرف، الله أعلم!
في عيونهم بدا وجهي أكثر رهبة من وجه الإمام، أكثر عظمة من أن يكون وجه إنسان، أبيض البشرة بغير دم، وعظام الرأس صخرية ثابتة. سرت القشعريرة في أجسادهم وسجدوا خاشعين، هتفوا: إنه الله. واقترب أحدهم مني أكثر، ورأى وجهي داكن السمرة بلون الأرض، فابتعد يجري صائحا: إنه الشيطان. وتبعه الآخرون يجرون هاربين. داس أحدهم وهو يجري على يدي، وداس آخر على الوسام بجوار قدمي اليمنى، وأخفيت وجهي في الأرض حتى لا يراني أحد، ثم أحسست بيد ناعمة فوق رأسي، ورأيت وجوها أعرفها. وحين رفعوا وجهي إلى أعلى ونظروا في الملامح، لم يتعرف واحد منهم على وجهي، وهمس صوت ناعم مألوف يشبه صوت رئيس الأمن أو صوت زوجتي الشرعية: ليس هو. وهتف صوت آخر يشبه صوت كاتبي الكبير أو معارضي الشرعي: أنقذه الله؛ فالله معه. ورأيت زوجتي تترك شرفة الحريم بخطوات ثابتة وجأش كالأسد، وحين اختفت عن العيون بدأت تجري على كعبيها الرفيعين حتى غرفة النوم.
كانت الستائر مسدلة وجثتي فوق السرير، ومن حولي أبنائي الشرعيون وغير الشرعيين، ووزير الصحة يرش فوق جثماني محلولا مطهرا يمنع العفن، وفي الغرفة المجاورة أعواني في حزب الله يتقاسمون الميراث. ودخلت زوجتي الشرعية، وسقطت عيناها على الفور فوق وجه ابنتي غير الشرعية الواقفة إلى جواري، وعن يمينها أمها «جواهر»، وعن يسارها زوجتي القديمة، وانقلب الجو الذي كان صافيا، ويدي كانت في يد ابنتي الناعمة أقبلها وألثمها، ورأيت زوجتي الشرعية تنقض كالنمر واختفت الوجوه من حولي إلا وجهها. وفي المخبأ تحت الأرض في حديقة القصر، خبأت جسدي بعد أن خلعت عني ملابسي الرسمية، وجردت جيوبي من الفكة، ونزعت من أصابعي خواتم الزواج والعرش.
وظلت الجماهير تهتف باسمي وأنا في المخبأ، وفي الوقت ذاته واقف فوق المنصة ألقي خطبة العيد، ولا أحد يدرك وجودي في مكانين مختلفين في وقت واحد إلا زوجتي الشرعية ورئيس الأمن، وصواريخ العيد تفرقع والناس تهتف، ولا أحد يتصور أنني لست الإمام، وأنا نفسي لا أتصور وأظن أنني الإمام والزعيم. وأغمض عيني في راحة أستمتع بالزعامة دون أن أكون زعيما، وأتحرك بحرية دون أن أرتدي قميص الوقاية ودون أن أخشى الاغتيال؛ فأنا أعرف أنه قد تم اغتيالي من قبل، والأفضل أن أكون إماما مغتالا على ألا أكون إماما على الإطلاق، وأصبح اسمي الجديد الإمام الشهيد، وأكسبني اللقب قدسية أكبر؛ فأنا أكبر من الموت، وعلى العرش أجلس إلى الأبد، لا أخشى الأعداء ولا الأصدقاء، ولي قدرة على التحليق في الجو، والانتقال من العالم الأول إلى العالم الثاني والثالث، لا أخشى القوى العظمى ولا الصغرى، وأجلس مع أكبر زعيم واضعا ساقي اليمنى فوق اليسرى، وفي الصباح أشرب القهوة في أرض الشمال، وفي الظهيرة أتناول الغذاء مع أهل الجنوب، وفي المساء لي سهرتي الخاصة تحت الأرض مع «جواهر» في بيت السعادة، وإلى جواري صديق العمر نشرب نخب الحب والصداقة. أنعمت عليه باللقب، وله صفحة كاملة وصورة داخل برواز. وليلة الخميس من كل أسبوع نسهر حتى الفجر، نستعيد ذكريات الشباب. - فاكر يا وله البت اللي اغتصبناها سوا؟
وأقهقه بصوتي الجهوري ضاربا بكفي على فخذه، ويقهقه هو الآخر رافعا كفه ليضرب فخذي، ويتردد لحظة متذكرا أنه فخذ الإمام، وتظل يده معلقة في الهواء، وأقهقه مرة ثانية ضاربا بكفي على فخذه، متذكرا أنه كان في المدرسة يجلس إلى جواري داخل سرواله الغالي، يضربني بكفه من الخلف فوق الثقب المخبوء تحت يدي ، وأقهقه للمرة الثالثة وفوق فخذه المشدود كفخذ النمر أضربه وأنا أقول: فاكر يا وله اسم هذه البت؟ ويقول مقهقها كان اسمها «جواهر»، بيضاء كالقشدة، يشف بياضها من تحت الساق، وعيناها سوداوان واسعتان كعيون الحور. وينتقل عقلي على الفور من هذا العالم إلى العالم الآخر، وأرى الجنة ممتدة خضراء وأنا ممدود فوق السندس، ومن حولي الحوريات سابحات في النهر عاريات تحت الشمس، وفي الضوء أتعرف على ملامحهن وليس من بينهن وجه زوجتي الشرعية، ويرتفع صوتي وأنا أقهقه للمرة الرابعة أو الخامسة، وأضربه على فخذه المشدود متسائلا: كم للرجل المؤمن من حوريات؟ ويقول: سبعون أو سبعة وسبعون والله أعلم. وكم للزعيم المؤمن أو الإمام؟
وقهقه الكاتب الكبير وضرب رقما خياليا، لكن خيال الإمام كان أكبر، ثم سأله فجأة: وماذا عن زوجاتنا الشرعيات إذا دخلن الجنة معنا؟ وقال صديق العمر: زوجاتنا لن يدخلن الجنة. قلت: لكن إذا حدث ودخلت إحداهن؟ قال يستبدلها الله بحورية عذراء؛ فالجنة لن يكون بها زوجات شرعيات، وإلا فما الفرق بين الجنة والأرض؟!
خيانة مشروعة
منذ ماتت أختي بالحب تذكرت أنني لم أر وجه أمي منذ ولدتني، والجدة العجوز نناديها ستنا الحاجة. نتجمع حولها في بيت الأطفال تحكي لنا عن أرواح الجان. جنية البحر تمشي في الليل على حافة البحر. رأسها امرأة، وذيلها سمكة. يتحول الرجل بين يديها إلى مخلوق آخر، تسحره أو تسخطه فيصبح قرموط سمك أو عجلا صغيرا أو خروفا. يمأمئ بصوت خافت ويتمسح بساق امرأة أخرى قادرة على السحر، تفك طلسم المرأة الأولى وتعيده بشرا. يصبح رجلا من جديد. يسير مختالا برجولته ناسيا المرأة التي خلقته. يسعى إلى امرأة أخرى تسخطه من جديد قردا أو جروا صغيرا مقطوع الذنب. يمسح برأسه بين قدمي امرأة جديدة ساحرة. وتدور حكايات ستنا الحاجة، الليلة وراء الليلة، ألف ليلة وليلة تذوب البداية في النهاية كما يذوب النهار في الليل، وصوتها لا ينقطع، وحكاياتها لا تنتهي حتى تبدأ من جديد، تخشى الانقطاع، كأنما انقطاع الحكاية يعني انقطاع حياتها مثل شهرزاد . من هي شهرزاد يا ستي الحاجة؟ وتبدأ الحكاية من جديد. ترك الزوج امرأته إلى امرأة أخرى، وحين عاد وجد امرأته بين أحضان العبد الأسود. قتل الزوجة وأقسم أن يقتل كل ليلة عذراء. كان الزوج أبيض البشرة من سلالة الملوك يجلس على عرش الأرض، وفي كل ليلة يمتطي سيفه ويسأل الله: كيف تفضل المرأة عبدا أسود على الملك شهريار؟ ويأتيه صوت من أعماقه يشبه صوت أبيه: لأن النساء خائنات بالطبيعة مثل أمهن حواء.
وقاطعتها وهي لا تكف عن الحكاية: لكن الملك كان يخون الملكة مع جارية سوداء. وقالت: وما له يا بت؟ خيانة الرجل مشروعة بأمر الله، لكن خيانة المرأة من الشيطان.
تساءلت وأنا طفلة: لماذا كانت بشرة الملوك دائما بيضاء، وبشرة العبيد سوداء؟ كانت بشرتي سمراء، فهل أنا من سلالة العبيد؟ بصقت ستي الحاجة في فتحة جلبابها وصاحت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الشر بره وبعيد، أنت من سلالة الأسياد.
منذ فتحت عيني على الحياة في بيت الأطفال وأنا أسمعهم ينادونني بنت الله، ومنذ ماتت ستي الحاجة وأنا أنظر إلى بشرتي السمراء في المرآة، وفي أحلامي أرى وجه أبي أبيض كوجه الملك شهريار. من أين جاءتني البشرة القاتمة؟ هل خانت أمي أبي مع عبد أسود؟ هل أنا بنت الشيطان ولست بنت الله؟
وأرى نفسي أجري هاربة في الظلمة وليس معي إلا كلبي مرزوق، ومن خلفي رجال كثيرون يجرون ورائي فوق رءوسهم قبعات عسكرية، ومن خلفهم كلاب تلهث، وأكاد أفلت حين أصعد الهضبة بين البحر والنهر. يملأ صدري هواء المكان. في صدري حنين منذ الطفولة لهذا الهواء ورائحة أمي قبل أن تموت، وقدم أبي محفور فوق المكان قبل أن يهرب. كان يمكن أن أفلت منهم وأنجو، لكني تذكرت وتوقفت، وفي الوقفة أصابتني الطفلة في ظهري. كانوا يضربون من الخلف وأبدا لا يواجهونني وجها لوجه، وقبل أن أنسى الحروف وتتلاشى الذاكرة سمعتهم يقولون: ثمرة الخطيئة، ولمن يقتلها جائزة في الدنيا والجنة في الآخرة.
وكل شيء بغتة
كنت رافعا رأسي إلى السماء مرتديا وجه الإمام وفوق صدري النياشين، وفي يدي المسبحة المقدسة من الكعبة الشريفة، وأضواء العالم الأول والثاني كالمرايا الدائرية من حولي، وهتاف شعوب العالم الثالث والرابع يدوي في أذني: يحيا الإمام مطبق الشريعة. وأرى وجهي في المرايا مائة وجه إلا وجها واحدا، تسعة وتسعين وجها بعدد أسماء الله الحسنى. وكلما حركت رأسي يمينا أو يسارا تضاعف عدد وجهي، وأنا واقف تحت الأضواء ومن تحتي العرش، ومن حولي الأعوان من حزب الله، والمعارضة الشرعية من حزب الشيطان، والقوى العظمى والصغرى وأعلام الحرية والديمقراطية، وصوتي يدوي بخطبة النصر وصواريخ العيد تفرقع، وتسكرني النشوة بغير خمر فأترنح، وفي لحظة الترنح يسقط وجهي من فوق رأسي بغتة، ويستقر بين قدمي تحت المقعد. أقدام تجري فوق الأرض وتدوس على قدمي بغتة، ومقعدي مقلوب فوق ظهره بغتة، وأرجله الأربع نحو السماء. أتلفت حولي، ماذا حدث بغتة؟
هل قامت القيامة بغتة؟
كان المعارض الشرعي واقفا إلى جواره لا يفصله عن العرش إلا رئيس الأمن، وبغتة سمع الصوت يسأل: هل قامت القيامة بغتة؟ وأدرك أنه صوت الإمام، وأنه راقد إلى جواره تحت المقعد، واشتد ذكاء المعارض الشرعي، وربط بغتة بين مقاعد سفينة سيدنا نوح واكتشاف الإشعاع النووي وقيام الساعة. كان الكاتب الكبير قد وضع رأسه بين قدميه بغتة، وأغمض عينيه في راحة أبدية، وقال فاتحا عينيه نصف فتحة: إن التفكير في يوم القيامة بعقل دنيوي غير جائز في الشريعة، وإن يوم القيامة لا علم لنا عنه إلا من خلال كلام الله في القرآن، ومن يقرأ كلام الله بقلب مؤمن يدرك أن يوم القيامة حادث كوني، لا يخص الأرض والناس وحدهم، بل يشمل أيضا بقية الكون. قال سبحانه:
ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله . ولا يقبل كلام الله الجدل أو المعارضة الشرعية أو غير الشرعية؛ فالقيامة تشمل الكون كله السموات والأرض، والاستثناء الوحيد بأمر الله هو خليفة الله في الأرض؛ أي الإمام في عالمنا البشري. ويشير كلام الله إلى أن سكان الكواكب والقمر والشمس والأجرام الكونية الأخرى مصيرهم فيها كمصير أهل الأرض من حيث الموت بغتة، وأوضح الله أن مجيء يوم القيامة سيكون بغتة، وقال سبحانه:
أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة . والله ليس في حاجة إلى أسباب كالإشعاع النووي لقيام الساعة، ولا تنقصه الوسائل لتدمير الكون حين يشاء بغتة.
وظهر الإعجاب في عيني الإمام ببلاغة كاتبه الكبير، واتساع ثقافته الدينية وإلمامه بالشريعة، وتحول الإعجاب في عيني المعارض الشرعي إلى غيرة أشبه بالحقد، وبدأ يلقي له خطابا أطول من خطاب الكاتب الكبير، وأثبت فيه أن الصلة بين يوم القيامة وبين الإشعاع النووي أمر وارد، وإن لم يرد له نص في القرآن. ونهض رئيس الأمن ينفض عن ملابسه ذرات التراب، تلمع في الضوء كالإشعاع، وبدأ يجري مطلقا ساقيه للريح، تاركا رئيس حزب الله ورئيس حزب الشيطان راقدين في أمان الله، لا يفصل بينهما إلا الكاتب الكبير فاتحا فمه في انبهار، وقد أدهشته شجاعة المعارض الشرعي في طرحه لقضية الساعة وعلاقتها بالإشعاع النووي، وأنها واردة رغم غياب النص. وتبادل الكاتب الكبير مع رئيس المعارضة ابتسامة عريضة، امتدت من الأذن اليسرى إلى اليمنى، ورأس كل منهما بين قدميه، وبينهما الإمام صامت لا ينطق، وأطبق كل منهما شفتيه منتظرا كلمة الإمام؛ فكلمته نهائية لا يعقبها سؤال ولا جدل. وظل الإمام صامتا كأنما إلى الأبد، وتشجع زعيم المعارضة وسأل: هل الإمام موجود؟ وبدا السؤال كفرا وكأنه يسأل هل الله موجود؟ وهو سؤال لا ينم عن الكفر بقدر ما ينم عن الإيمان المضاعف، أو الرغبة في تدعيم إيمان القلب بإيمان العقل، وأصبح السؤال حدثا رغم أن كل طفل يسأله، وصاحب السؤال بطلا من أبطال المعارضة. رمقه الكاتب الكبير من تحت المقعد بحسد، وعاد إلى زوجته الرابعة منفرج الشفتين، وأقسم لها بالطلاق ثلاثا أنه الوحيد الذي فتح جفنيه، وشهد بعينيه اللحظة التاريخية، وأن جميع الرجال من أعضاء حزب الله أو حزب الشيطان لم يجرءوا على فتح عيونهم، وظلت جفونهم مغلقة كأنما ماتوا بغتة، فيما عدا رئيس الأمن الذي اختفى بغتة.
نشوة الحب
كنت لا أزال في مدرسة الممرضات، وأختي نعمة الله فقدتها فداء الحب، وأخي فضل الله ذهب إلى الحرب فداء الوطن، وأنا لا أريد الموت كبش الفداء، وأقوم الليل أحفظ الكلام عن ظهر قلب لأقوله في الامتحان، ثم جاء حفل التخرج وتوزيع شهادة الخدمة والطاعة. تمشي الممرضات على شكل طابور أمام المنصة. تحصل الناجحات على لقب «الخادمة المثالية». ترتدي الثوب الأبيض، وتلف شعرها برباط من الشاش، وتسير في الصف بخطوات بطيئة، وحين تقترب من المنصة تنحني بالتحية، ومن فوق المنصة تجلس كبيرات نساء الدولة، وزوجة الإمام في الوسط فوق مقعد له ظهر عال، وعن يمينها رئيسة الجمعيات الخيرية ترتدي وجهها المطاطي، وعن يسارها رئيسة الممرضات ووسام البر والإحسان مشبوك فوق الصدر بالدبوس، ومن بعدها تأتي الصفوف، أرامل الشهداء والأمهات المثاليات والنساء المتطوعات للخير، كلهن شكل واحد ولا يمكن أن تفترق الواحدة عن الأخرى، جالسات صامتات واجمات، وأياديهن مشبوكة فوق الصدر، وحين تنهض زوجة الإمام ينهضن واقفات، وتظل أيديهن كما كانت فوق الصدر مشبوكة، وأقترب من المنصة بخطواتي الجنائزية، وأرى الزوجة الجديدة أقصر قامة في الوقوف عنها في الجلوس، رأسها لا يكاد يظهر من وراء المنصة، ومن حوله حجاب ملفوف من الحرير المستورد، يلتف حوله عقد من الماس يعكس الشمس، وعقد آخر حول العنق، و«البروش» فوق النهد، والأساور حول المعصم، والخواتم في الأصابع، وكلما امتدت يدها إلى الأمام أو الخلف اهتز الكون بآلاف الأضواء.
رأيت هذا المشهد من قبل حين تخرجت في بيت الأطفال، وكان في مقعد الرئيسة رجل لا أكاد أذكره، رأسه كبير بغير شعر، وصدره يغطيه الشعر، وكانت الزوجة الجديدة أكبر حجما، حليقة الرأس بغير حجاب، ونساء الجمعيات الخيرية كلهن شكل واحد، جسم مربع كبير ممتلئ باللحم، ورأس صغير ملفوف الشعر بالدبابيس، وقدمان سمينتان تهتزان أثناء الجلوس في الهواء، وتطرقعان أثناء السير فوق الكعب الرفيع بصوت عال.
وجاء دوري لتسلم الشهادة، واقتربت من المنصة، وامتدت اليد الناعمة نحوي ومن حولها تشع النجوم ، والأجسام المربعة على الجانبين واقفات فوق الكعوب الرفيعة ثابتات، وأياديهن البيضاء مشبوكة فوق الصدر، ومع كل جائزة أو شهادة تتحرك اليد من فوق الصدر لتلامس اليد الأخرى في حركة ثقيلة، ويسمع التصفيق كحشرجة أنفاس متقطعة بطيئة.
تسلمت الشهادة وفي قلبي ارتجاج، وأطراف الأنامل لامست أصابعي لمسة كهرباء، وانطلقت في طريقي فياضة الحماس، أحمل العلم وأرفع صوتي بالهتاف: الله والوطن ويحيا الإمام. أختي ماتت لرجل واحد وأنا أعيش لكل الناس. الاستقلال التام أو الموت الزؤام. وفي النهار أنتقل من جريح إلى جريح، أحمل وعاء البول والبراز، وفي الليل أظل ساهرة أرهف السمع لصوت الأنين. أراه في الضوء الخافت راقدا شاخصا نحوي بوجه شاحب، في صدره جرح غائر، وفي عينيه حنين، وفي الظلمة أسير إليه وأقول: فضل الله ذهب إلى جبهة القتال، أرأيته هناك، وهل لا زال يعيش؟ ويقول: من هو فضل الله؛ أهو زوجك؟ وأقول: إنه أخي في الرضاع، وفي بيت الأطفال كان. وأسكت لا أكمل الكلام، ويقول: لماذا سكت؟ وأقول: ماذا أقول؟ يقول: احكي لي عن نفسك. ماذا أحكي؟ احكي كل شيء. ولا أعرف ماذا أحكي. حياتي تبدو مليئة بالأسرار، وحين أبدأ الكلام تبدو خالية ولا شيء فيها يقال. وحوطني بذراعيه كالأم وقال: نامي ولا تخافي. وأغمضت عيني ونمت. وفي النوم ذهب عني الخوف. بدأت أحكي حياتي، ومع كل حكاية يتحرر لساني، وقلبي يخف، وجسمي يطير كالروح بلا جسم. وفي الطلعة فلتت مني الشهقة وأنا أحلم بالصعود، عشرون عاما منذ ولدت وأنا أرى هذه الهضبة بين البحر والنهر، وأمي واقفة تنتظرني، ورائحة الهواء لم تغب عن ذاكرتي، والشجرة، والصخرة، وذرات الهواء، أستنشقها؛ فهي وطني ورائحة حياتي. أحوطها بذراعي، أملأ صدري كأول نفس عند الولادة، وآخر نفس قبل الممات. ولأول مرة أشم البحر وملوحة الماء واليود، وأنفاس العشب والقواقع والسمك الطازج، وتركت نفسي لهواء البحر يملؤني ويغرقني، وأمواجه ترتفع في الليل بيضاء في السماء تحوطني كأذرع الله، وهو إلى جواري يعانقني يحدثني: أتحبين السمك المشوي؟ - جدا جدا. - أتحبين الرأس أم الذيل أكثر؟ - أحبهما، الاثنين معا.
وترن ضحكتها الطفولية في الكون كمحارة تنفتح للشوق، وهواء البحر أصابها بجوع للحياة كالنهم، وحواسها الخمس تستيقظ كالموج، وأنوار النجوم تلمع فوق البحر كفصوص اللؤلؤ، وأوراق الشجر مع الأمواج مع الهواء تذوب في نداء واحد، وعيناها السوداوان الواسعتان تتسعان لنشوة الحب حتى الإغماء، وتغمض عينيها تنام فوق صدره كالطفلة يهدهدها، وصوته في أذنها يأتيها من بعيد: أحبك.
حين كان الحب أعمى
كنت لا أزال في نشوة الحب، وأغمض عيني حين يلامسني الحب فلا أراه، وأحس قلبي كبيرا بحجم قرص الشمس، وجسدي محارة تتفتح للشوق، وهواء البحر يوقظ حواسي الخمس، وصوته في أذني كالهمس، يأتيني من بعيد كنداء الأم، وأنوار النجوم في الليل كفصوص الماس. وكنت لا أزال أسير في طابور الممرضات، وأحمل لقب الخادمة المثالية، وأهتف في عيد النصر: «الله والوطن والإمام.» وفي غمرة الحب والحماس نسيت أن أختي ماتت بالحب، وأخي ذهب إلى الحرب ولم يعد، وقلت الحب هو الحياة وليس الموت، والحرب من أجل الوطن هي الحب، وفي جبهة القتال رأيتني واقفة وسلاحي على كتفي، جاهزة للموت أصوب الطلقة للأعداء، وفي الليل أركض إلى جوار الزملاء، أركض وأركض، وفي الخندق أختبئ ثم أعود أركض، وفي الخندق أختبئ ثم أخرج من بطن الأرض أركض وأركض، وفي الظلمة أرى وجه العدو. أعرف الوجه لا أخطئه. أصوب الطلقة في نقطة الوسط بين العينين وأضغط على الزناد. يسقط الوجه إلى الأرض، ومن خلفي أسمع وقع الأقدام تدب بأحذية حديدية. أظن أنهم الأعداء فأركض وأركض. وعند منعطف الطلعة بين البحر والنهر أتوقف؛ فهذه منطقة الأمان. أعرف المكان، وأعرف رائحة الشجر والماء، وأسير بخطى بطيئة أستنشق الهواء، وأسمع من خلفي وقع الأقدام. قلت إنهم الأصدقاء لا بد وجنود الوطن، وفي مقدمتهم رئيس الأمن ومعه الوسام يحمله إلي نيابة عن الإمام. وحين أصابتني الطعنة في ظهري استدرت وتساءلت باندهاش:
لماذا تضربوني وقد ضربت العدو؟ قالوا: إنه الصديق وليس العدو.
قلت: كان هو العدو بالأمس.
قالوا: كان ذلك الأمس، واليوم غير الأمس .
معا في الخندق
عيناها سوداوان واسعتان تتسعان لدهشة الكون، تدوران حولها في الظلمة الداكنة. نجم واحد تراه في مساحة هائلة سوداء، يتحرك بسرعة الضوء، وصوته يدوي كالرعد. يقترب من الأرض ويسقط منفجرا شعلة نار. بحر من اللهيب الأحمر. وعيناها مفتوحتان لا تعرف الليل من النهار. انطفأت النار ولم يبق إلا دخان أسود ورائحة تراب في أنفها. تحت يدها اليمنى ملمس السلاح، ويدها اليسرى في يده. صوته في أذنها: أطلقت عليه النار وسقط ... انظري. أطلت برأسها من حافة الخندق، لم تر شيئا. دخان كثيف كالليل بغير نقطة ضوء. وجهه أيضا لا تراه. قالت: لا أراك. قال: وأنا أيضا لا أراك. حملقت في الظلمة، رأته واقفا إلى جوارها في الخندق يده على الزناد، وسلاحه لا زال نحو السماء. قال: سقط واحد ولا زال آخرون. وفي الظلمة رأت يده ممدودة إليها قابضة على ورقة مطوية، وقال: لو مت اذهبي إلى أمي وأعطيها هذه الرسالة.
همست: من أمك؟ قال: هي أمي، وبيتها إلى جوار بيت الأطفال، واسمه بيت السعادة. وعرفت أنه فضل الله، وأنه لا زال يعيش، ولا زال ممشوق الظهر مرفوع الرأس. بشرته سمراء بلون الطمي، ووجهه شاحب نحيل. ينظر في عينيها مباشرة دون أن يحرك عينيه إلى أسفل. في بريق عينيه انبهار الطفولة، ونظرته ثابتة لا يبهره شيء. قالت: هل تراني بوضوح في الظلمة فأنا بنت الله؟ وعرفها من وجهها وعينيها ورائحة شعرها. سألها عن نعمة الله، قالت: ماتت بالحب. قال: وأنت؟ قالت: أنا أعيش بالحب. وحوطته بذراعيها، وقالت: ماذا كتبت لي في الرسالة؟ قال: كتبت أقول لك لا تحزني يا أمي؛ لأني لم أرك منذ ولدت، ولم أدخل بيت السعادة، حيث أنت وحيث الحب، لكن الموت في سبيل الوطن هو الحياة من أجلك، فهل تغفرين لي غيابي الطويل إلى الأبد؟ وأغمضت عينيها. قالت: أراك كما كنت كأنما غيابك كان بالأمس، ولم يفارقني وجهك يوما. وأغمض عينيه، ونام على صدرها كما كان يفعل وهو طفل، ثم استيقظ فجأة وأدرك أنه لم يعد طفلا، وهي أصبحت امرأة مكتملة النضج، وحوطها بذراعيه في الخندق، فأصبح الخندق ضيقا بذراعيه، والكون في عينيه كبيرا كقرص الشمس. وحوطته بذراعيها في الخندق والمكان يضيق، وعناقهما يملأ الأرض. وحين كشفهما الضوء ظلا متعانقين، وفي لحظة العناق توقف العالم يرقب مشهد الحب، وهما متعانقان كشخص واحد، ولا أحد منهما ينفصل عن الآخر أو يخاف الضوء أو يخاف الموت؛ فكلاهما قد مات من قبل.
وهو يلتصق بها أكثر وأكثر يريد الفناء فيها، وهي تلتصق به أكثر وأكثر تريد الفناء فيه، وكل منهما قد أصبح هو الآخر، هي أصبحت هو، وهو أصبح هي، ولم يعد في الكون قوة تفصل الواحد منهما عن الآخر، لا دوي المدافع ولا الصواريخ، ولا هدير العدو ولا الصديق، ولا صوت الإمام أو الشيطان أو رئيس الأمن.
ثم فتحت عيني، ووجدتني واقفة في الخندق وحدي وفي يدي الرسالة مطوية. أين اختفى فضل الله؟ هل مات في الحرب أم أخذوه ومات في السجن؟ ومن بعيد سمعت أنفاسهم تلهث يركضون خلفي، وأقدامهم تدب على الأرض بأحذية حديدية، وبدأت أركض في الظلمة أنجو بحياتي، وهم من خلفي يجرون ومن خلفهم كلابهم تنبح، وأنا أجري ولا أعرف لماذا أجري، وكدت أفلت منهم عند منعطف الطلعة قبل طلوع الفجر، لكن أحدهم أصابني من الخلف، وقبل أن أسقط وأنسى الحروف قلت: كان معي في بيت الأطفال، وهو أخي في الرضاع. قالوا: جريمتك مضاعفة في الدنيا والآخرة؛ فأنت بنت حرام، وهو ابن حرام، وليس له في حزب الله أو حزب الشيطان اسم. •••
لا زلت أجري والظلمة داكنة. أسمع دبيب أقدامهم الحديدية تركض خلفي. أتحسس بطني في الظلام. تحت كفي الارتفاعة الناعمة دافئة كالحب، وصوته يأتيني من بعيد في الظلمة كصوت أمي يناديني: بنت الله، تعالي. يقترب مني حتى يلامسني. أحوطه بذراعي ويحوطني. رجفة غامضة تهزني، قشعريرة. يهمس بصوت ناعم: لا تخافي، أنا الله، وسوف تلدين المسيح. الظلمة داكنة، وأنا أجري وفي يدي الرسالة مطوية. أحوطها بأصابعي وأخبئها في صدري. أسمع أنفاسهم كاللهاث من خلفي . قلت لن يصلوا إلي قبل أن أبلغ الرسالة. سأخاطر بحياتي لأنجو بها؛ فهي حياتي. سأخاطر بالموت رجما بالحجارة كما فعلت مريم العذراء لتلد المسيح، وكما فعلت أمي لتلدني. وعند منعطف الطلعة بين البحر والنهر عند علامة الأمان عرفت رائحة المكان، وتوقفت أشكر الله على النجاة. وكان يمكن أن أنجو لولا أنني توقفت لأصلي، وأصابوني من الخلف. دائما يضربون من الخلف، وحين أستدير يهربون، أبدا لا يواجهون. وقبل أن أسقط وأنسى الكلمات قلت: كنت أصلي وأنا أحمل ثمرة الحب. وقال رئيس الأمن: لا شيء اسمه الحب، إنها ثمرة الخطيئة.
الخوف الجماعي
في ليلة العيد وطبول النصر تدق والزمامير، عثروا على جسدها ملقى في الطريق من البيت إلى الجبهة، عند منعطف الهضبة بين البحر والنهر. وجدوها ملقاة فوق ظهرها وعيناها سوداوان مفتوحتان ثابتتان في السماء. وجهها ساكن بلا حركة، والكون كله ساكن يطل عليها، وهواء الليل لا يحرك شعرة واحدة من رأسها. وعند فتحة الأنف سكنت الشعيرات. بشرتها سمراء بلون الطمي، يسقط عليها ضوء القمر فتصبح بيضاء كحورية الجنة أو جنية البحر. عارية تماما كما ولدتها أمها، لا ثوب ولا قميص ولا سروال. وبدت في عريها آثمة رغم موتها؛ فالمرأة لم تكن تتعرى في حياتها أو موتها، وإن خلعت الطرحة تظل بالجلباب، وإن خلعت الجلباب تظل بالقميص، وإن خلعت القميص تظل بالسروال، ولا يمكن أبدا أن تتجرد من السروال قبل الموت أو بعده. كان ظهرها للأرض ووجهها ناحية السماء، وحلمة الثدي نافرة كالزبيبة السوداء، وبين الساقين جرح عميق في اللحم، ويدها اليمنى فوق الجرح كأنما تخفيه، وما دامت تخفيه فهي التي صنعته، وهي التي قتلت نفسها، وقتل النفس جريمة، تمرد على إرادة الله؛ فالله وحده هو الذي يقتل. وأصبحت جريمتها بعد موتها في نظرهم جريمتين؛ العري والقتل. وأضافوا إليها الجريمة الثالثة؛ فهي ولدت بغير أب وبغير أم، وكان اليتم عندهم عيبا، وبات اسمها الثلاثي بغير أب ولا جد داخل ملف أزرق في مكتب الأمن منسوب إلى الأم، وأمام كل اسم جريمة ثلاثية ؛ القتل والعار واليتم.
وكانت الليلة عيدا. دارت السنة وجاء عيد الأضحى مع عيد النصر، وأصبح العيد عيدين اثنين، والناس تجمعوا تحت المصابيح وجلسوا القرفصاء. وجوههم طويلة شاحبة رمادية، وعظام الرأس يشتد بروزها عند عظمة الأنف، ومن فتحات الوجه ينفثون الدخان والكلام، ومن تحت الشوارب الممدودة فوق الشفة العليا تخرج أنفاسهم كالسعال، يبتلعونه في صدورهم مع الدخان ومعه الكلام. يعطسون ويرمقون السماء بحذر، ويحكون الحكايات عن الملوك والآلهة والعفاريت والجان، ويقول أحدهم: إيه يا جدعان والله زمان حين كنا نعبد الشمس وإله الفيضان. ويرد أحدهم: أي والله لم يكن إله الفيضان يسكت عنا إلا بعد أن نرضيه بالبنت العذراء، لم يكن يحب المرأة التي تزوجت من قبل أو المرأة الأرمل أو المطلقة. ويقول أحدهم: أما إله لئيم يا جدعان. ويقول الآخر: كل الآلهة كانوا كده، ويطوف الجنود بيوت الفلاحين يمسكون العذراء البكر. تختفي البنات فوق الأفران أو تحت التبن داخل الجرن، ويظل الإله غاضبا لا يهدئ غضبه إلا دم العذراء. ويقول أحدهم: ولا الملك شهريار في زمانه. ويرد الآخر: الملك شهريار بس، كل الملوك كده لغاية النهاردة، يصمتون فجأة يبتلعون أصواتهم مع أنفاسهم مع الدخان ويرمقون بوابة الأمن بحذر، وأجسامهم مسنودة فوق عظمة الكوع تصنع حفرة في الأرض، يزحف إليها طابور من النمل على شكل خط طويل منتظم تتقدمه الملكة. ترى الكوع الأسمر بلون الأرض. تدرك أنه ليس الأرض، ويمكن أن يتحرك فجأة ويهبط فوق رأسها يهشمها. تغير الملكة اتجاهها وتلف حول الكوع، وتسلك الطريق الآخر بعيدا عن الحفرة، ويلتوي الخط المنتظم وراءها ليصبح دائرة منتظمة ثم يعود خطا طويلا منتظما.
النني الأسود في عيونهم تحت الضوء ثابت فوق جيش النمل المنتظم يضربون كفا بكف، يمصمصون شفاههم. جيش من الذكور يتبع الأنثى؟! حكم الله عليهم بالعبودية والزحف فوق بطونهم إلى الأبد. يقبلون بطن أياديهم وظهرها ويشكرون الله. طابورهم لا ينتظم وإن جاء الحارس بالعصا، ورئيسهم ذكر وليس أنثى. يعطسون ويسعلون ويرصون الدخان في الجوزة، ويغيرون مركز ارتكازهم فوق الأرض من الكوع الأيمن إلى الكوع الأيسر. في آذانهم أصوات الصواريخ والهتاف والأناشيد. يذكرون أنه عيد النصر وعيد الأضحى معا، ودارت السنة وجاء مع العيدين عيد ميلاد الإمام، وأصبح العيد «ثلاثة أعياد»، والليل يجيء داكن الظلمة، وجفونهم تثقل بالنعاس، وقلوبهم ثقيلة كالحجر، والنار تخبو في الجوزة، ويذكرون موتاهم في الحرب والمفقودين لا ماتوا ولا عادوا، والمقطوعي الأيدي والأرجل من خلاف، والمرجومين والمرجومات، والمعتقلين والمعتقلات، ومشوهي الحرب والشهداء، والذين شربوا الموت مع لبن الصباح وماتوا بالإشعاع، والذين لم يموتوا بعد لكنهم حتما موتى بأمر مولانا، ويشفطون آخر نفس في الجوزة، وينتهي الدخان وتنطفئ شعلة النار. يبتلعون آخر الكلام في معدة خاوية بغير عشاء ولعاب طعمه مر، واكتشاف أخير قبل غيبوبة النوم أن مركز ثقلهم فوق الأرض ليس هو الكوع الأيمن ولا الكوع الأيسر، وأنهم ليسوا جالسين وليسوا واقفين، يتحركون بخطى زاحفة كالنمل إلا أن طابورهم متعرج. يتدافعون بالأيدي والأرجل وكوع كل منهم يصنع في بطن الآخر حفرة، ورأس كل منهم يمتد فوق الرأس أمامه وعنقه يشرئب، يحاول أن يرى أول الطابور، ولا أحد يرى شيئا؛ فالطابور طويل متعرج كاللولب يمتد بطول البصر، وينتهي عند الأفق بالتقاء السماء، والنني الأسود داخل عيونهم يدور حول نفسه، والصوت يرن في آذانهم لا يعرفون دوي الصواريخ من دوي الهتاف، ويختلط الصراخ بالزغاريد، ويفيقون فجأة فاتحين جفونهم متذكرين أنه العيد، وأنهم يرتدون أحذية جديدة يدبون بها على الأرض، وفي كل حذاء حدوة حصان من الحديد، منحة العيد بأمر الإمام، وعلاوة الغلاء آخر الشهر. دبيبهم فوق الأرض مسموع. الصف وراء الصف متعرج كجيش نمل بلا ملكة. وعيونهم تدور باحثة في الكون عن الرب. أين أنت يا رب؟ وفي منعطف الطلعة بين البحر والنهر يتوقفون ينظرون ويشهقون. كانت ممدودة فوق الأرض، وجهها للسماء، وعيناها السوداوان مفتوحتان. هزوا رءوسهم الملفوفة وقالوا: لا إله إلا الله، ماتت موتة ربنا؛ فربنا يميت الناس. ثم قال أحدهم: ليست موتة ربنا؛ فأنا أعرف القاتل، والقاتل ليس ربنا. استغفروا الله بعد كلامه؛ فلا أحد يموت بيد أخرى غير يد الله. وكتموا أنفاسهم محملقين في السماء متصورين أن الله له يد يرونها بالعين، وسجدوا حتى لامست جباههم الأرض، سبحانه ليس له يد ولا لسان. قربوا رءوسهم وهمسوا في آذان بعضهم بعضا، ثم رفعوا عيونهم مستغفرين الله هاتفين: الله والوطن والإمام. إن بعض الظن إثم يا جدعان، ولا أحد يموت بغير إرادته سبحانه. وصاحوا في نفس واحد: لا إله إلا الله. ثم دفنوها في التراب، وفي التراب ظل قلبها ينبض. قالوا: ثلاثة أيام ظل قلبها ينبض بعد الموت، وسبعة أيام روحها ظلت تحوم حول القبر، وفي اليوم الثامن تركت روحها القبر، وبدأت تسير نحو الطلعة بين البحر والنهر، وأقسموا بالله العظيم أنهم رأوها بعيونهم تسير فوق قدميها الاثنتين. خطوتها السريعة لم تتغير، ورأسها المرفوع، ومن خلفها كلبها مرزوق. قالوا: إنهم لم يرونها إلا من الخلف، ولا أحد استطاع أن ينظر إليها من الوجه. وأقسموا بالله والوطن والإمام ثلاثا أنها هي ولا أحد غيرها، وأن روحها خرجت من القبر لتنتقم منهم، وبات كل منهم يرتعد. أصبح الخوف يلازمهم ليل نهار كأجسامهم، لا يحول بينهم وبين الخوف غطاء ولا جلباب. يخافون حتى وهم داخل المرحاض والباب مغلق. يتصورون أنها يمكن أن تخترق أي باب وتنفذ من أي جدار، وتراهم من حيث لا يرونها؛ فإذا تسلل الواحد منهم من فراش زوجته لامرأة أخرى رأته، وإذا مد يده في جيب الآخر رأته، وإذا خلع ملابسه وبات عاريا رأته، وإذا أمسك عورته وهو نائم رأته. أصبحوا يخافون منها كما يخافون الله، وبدت لهم في النوم كأنما هي الله، ولا أحد يشعر بالبراءة وكل منهم قذفها بحجر، وقلوبهم ثقيلة بالذنب، وجفونهم ثقيلة بالنوم، وفي الليل يرقدون متلاصقين، يخاف الواحد منهم أن ينام وحده، أو يفتح الباب ويخرج في الظلمة وحده. جميعهم يخافون إلا اثنين لم ينالاها بالأذى؛ أمها وكلبها مرزوق. تظل الأم واقفة في الظلمة تنتظرها، ثابتة في مكانها كالصخرة، وجهها إلى السماء ورأسها مرفوع، يداها كبيرتان مضمومتان فوق قلبها، إلى جوارها يرقد مرزوق متكورا كالأطفال ، وجهه طويل شاحب، وعيناه خاليتان من الدمع، زاوية كل عين تلمع في الظلمة كالدمعة المتجمدة، أذناه منتصبتان مرهفتان تلتقطان وقع قدميها قبل أن تظهر، عنقه ممدود وأنفه مشرئب يلتقط رائحتها من الكون، وعيناه تلتقطان عينيها من بين ملايين النجوم. وقبل أن يراها يجري إليها يشب بأقدامه كالطفل يشب على صدر أمه. يمسح عينيه في ذيل ثوبها ويلهث ويمسح لهاثها، ويرى خيط الدمع بلون الدم والطعنة في ظهرها.
حب إلى الأبد
قال لها: أنا أحبك إلى الأبد.
قالت: لا تقل إلى الأبد حتى أصدقك.
قال: صدقيني، حبي لك مستمر إلى الأبد.
قالت: أرجوك لا تقل إلى الأبد كي أصدقك.
قال: أقسم لك أني أحبك إلى الأبد.
قالت: وبماذا تقسم؟
قال: أقسم بالله والوطن والإمام.
قالت: أصدقك وإليك حياتي. عقلي وقلبي وجسدي هو أنا وأنا في الحب شيء واحد. وفي الصباح رأت صورته منشورة في الجريدة داخل برواز كبير، وخبر زفافه لابنة رئيس الأمن، ووسام الشجاعة فوق صدره في عيد النصر.
قالت: قلت لي بالأمس إنك تحبني.
قال: كان ذلك بالأمس، واليوم غير الأمس.
قالت: هل تخلص للوطن وتخونني؟
قال: أنا لست رجلا واحدا. أنا رجلان اثنان. ومن كان معك بالأمس ليس أنا، وإنما الرجل الثاني. ولا زلت أحبك؛ فالحب شيء والزواج شيء ثان.
قالت: تزوجتها بغير حب؟
قال: كان أبوها يطاردني كالشيطان، وقلت آمن شره وأمتلك قرة عينيه، فتصبح في يدي وطوع بناني. كنت في حاجة إلى امتلاكها، وإذا كانت هناك حاجة فليس هناك حب.
وفي الليلة الثانية رآها بين أحضان رجل آخر، وارتعد حين رأى وجهه، كان هو رئيس الأمن ذاته.
قال: أتخونيني مع رجل آخر؟
قالت: أنا لست امرأة واحدة. أنا امرأتان اثنتان. ومن كان معك الأمس ليست أنا، وإنما المرأة الأخرى. ولا زلت أحبك إلى الأبد؛ فالحب شيء والزواج شيء آخر. قال: أهو زوجك؟ قالت: كان يهدد أبي بالسجن، وقلت آمن شره وأتزوجه، فيصبح في يدي وطوع بناني. كنت في حاجة إلى امتلاكه، وإذا كان هناك امتلاك فليس هناك حب.
وتعانقا في الليل الهادئ بعيدا عن العيون، وكلاهما يقسم بالله والوطن والإمام أنه يحب الآخر إلى الأبد. وفي قمة النشوة قال لها: يمكن للرجل أن يجمع في الشريعة بين أربع زوجات في وقت واحد، أما في الحب فهي امرأة واحدة. وسألته: أنت في حزب الله أم في حزب الشيطان؟ قال: أنا في الحزبين. قالت: ولماذا تدخل حزب الله وحزب الشيطان معا؟ قال: أومن بوجود الله وأومن بوجود الشيطان، وقلت آمن شرهما وأدخل حزبيهما.
قالت: أنت تعيش في خوف إلى الأبد.
الكاتب الكبير
ضعي يدك على رأسي ولا تفارقيني؛ فأنت الوحيدة في العالم التي يمكن أن تراني وأنا أموت دون أن أشعر بالخزي، وإذا جاءت زوجاتي الأربع فأغلقي بيني وبينهن الباب حتى لا يشمتن في موتي، وإذا جاء الرجل ومعه جردل الماء ليغسلني امنعيه من الدخول. منذ مات أبي ورأيت الرجل يقلبه على وجهه ويدس إصبعه في الثقب أسفل الظهر قررت الموت دون غسل. ولماذا يغسلون جسدي الميت ثم يضعونه في التراب؟ لكن هؤلاء الناس يا أمي يعيشون بلا عقل ويموتون بلا عقل. ومنذ منحني الإمام لقب «الكاتب الكبير» أصبح لي بيت جديد وزوجة جديدة، وأثاث من أجود الأنواع لا أشعر بالخزي إذا رآه الإمام لو زارني في يوم من الأيام. ومنذ منحني اللقب والوسام في عيد الأدب والفن وأنا لا أفارقه في الحياة أو في الموت. قال لي: إخلاصك لي إلى الأبد، وجعلني أقف أمامه ممسكا بكتاب الله وأقسمت له بالولاء. قال: أنا الإمام ولا شريك لي في الحكم، وأنت الكاتب الكبير ولك في الجريدة كل يوم صفحة، وصورة داخل برواز، ومقعد إلى جواري لا يفصلني عنك إلا رئيس الأمن، وفي الليل لا يكون فاصل بيننا، نشرب نخب الصداقة القديمة منذ الطفولة، ولم أدرك يا أمي وأنا واقف إلى جواره في الصف الأول، ومن حوله الأضواء والهتاف يدوي، وأقواس النصر مرفوعة أنه يمكن أن يسقط أو يموت كما يموت البشر، وكنت لا أزال أملك عقلي داخل رأسي ، لكنه كان معطلا، لا أدري كيف، ونسيت أن أبي مات وآخرين ماتوا أمامي، وصفحات الجرائد تمتلئ كل يوم بأسماء الموتى، وفكرة الموت لا تبارح ذهني، ومع ذلك لم أتصور أبدا أنني سأموت. وكنت أقف إلى جواره، وأسمع دوي الرصاص، وأراه يسقط إلى جواري وأنا إلى جواره أسقط، ومع كل ذلك ظل عقلي عاجزا عن الإدراك، مؤمنا أنه باق إلى الأبد، وأنا أيضا باق، لا أتصور نفسي ميتا في يوم من الأيام، وإذا تصورت نفسي ميتا فإن الصورة تتلاشى على الفور. حين أسمعهم ينادونني وأرى اسمي محفورا كل يوم بالخط العريض، فأتصور نفسي خالدا إلى الأبد، وأحاول أن أرى نفسي ميتا دون جدوى. وإذا رأيت نفسي ميتا فأنا لا أستطيع أن أراه هو ميتا، وصورته تطل علي من كل مكان فوق الأرض وفي السماء وفوق الأقواس، وفي الصفحة الأولى كل صباح وكل مساء، واسمه على كل لسان، وصورته في الآذان، وكلمته تحدد الصواب والخطأ والفضيلة والرذيلة والشرف والعيب، وصوته في أذني وهو واقف على المنصة يخطب وصواريخ العيد تطرقع، ينطق الكلمات بطيئة ممطوطة، وبعد كل كلمة يتهته والناس تهتف، وأنا واقف أسمع الهتاف والتهتهة وعقلي أيضا واقف، وذهني غائب في الماضي حين كان يجلس إلى جواري في المدرسة، وكلما سأله المدرس سؤالا فتح فمه عن آخره وبدأ يتهته، وتلاميذ الفصل يضحكون، وفي الفناء يسيرون خلفه يشدون يده من فوق الثقب في السروال، وفي الامتحان يجلس إلى جواري، ومن تحت المقعد يهمس في أذني: فاهم حاجة يا وله؟ ولا أدري يا أمي كيف دارت الأيام وأصبح هو الإمام، وأنا كاتب صغير مجهول، لكن أواخر التلاميذ كانوا يدخلون الجيش والبوليس، ومنهم يتخرج الزعماء والرؤساء، ولم يكن للواحد منهم ما يزهو به عند التخرج إلا البدلة الرسمية ونجمة فوق الكتف، وكنت أنا قد دخلت كلية الحقوق وأبي يناديني بالوزير، وأهمس في أذنك أنني لا أحب القانون ولا العدالة ولا أحب أبي، وتشهقين في وجهي بذلك الصوت الغريب، يذكرني بأول شهقة لك وأنا واقف عار أمام المرآة. وفي المرآة ذاتها رأيت أبي عاريا بين ذراعي امرأة ليست أنت، ولمحني أبي وأنا واقف وراء الستار، فنهض وشدني من أذني وقذفني في سريري، وهو يصيح: أتمشي وأنت نائم؟ وفي الصباح حين جلسنا إلى مائدة الفطور، وقدمت لي كوب الحليب فلم أشربه، ضربني وهو يقول: اشرب اللبن. ولم أشرب، فأمسك فمي وفتحه بالقوة وسكب اللبن في حلقي، وما إن جلس يأكل حتى تقيأت اللبن في صحنه، وسألتني: ماذا حدث؟ وكنت أحب حليب الصبح، وسمعته يقول: إنه مريض يمشي وهو نائم. وأرقدني في السرير، وسكب الدواء في فمي بالقوة له مرارة السم، وقلت: أبي يريد موتي حتى لا أقول ما رأيت. وقلت: ماذا رأيت؟ ولمحت الموت في عينيه، فتجمد لساني ولم ينطق، وحملت الثقل في قلبي يزداد يوما وراء يوم، وأراك تغسلين ملابسه تدعكين البقعة الصفراء في سرواله دون جدوى، وتظل البقعة تحت عينيك وفي أنفك تشمين رائحة المرأة الأخرى وتغسلين وتطبخين، وحتى يعود آخر الليل تنتظرين، وفي عينيك حين أنظر إليك أدرك أنك تعرفين. ترين الخطأ في الكون وتصمتين. لو أنك نطقت مرة، لو أنك رفضت أن تغسلي سرواله الملوث بعرق امرأة أخرى، لو أنك ذهبت إلى رجل آخر، ربما أصبح الخطأ في الكون أقل، ربما نما لدي منذ الطفولة إحساس بالعدالة، ربما دخل قلبي الإيمان بالله؛ فالله في طفولتي كان هو العدل، وتمنيت أن أراك بين ذراعي رجل آخر غير أبي. لو فعلت ذلك مرة ربما اعتدل ميزان العدالة في الكون، وكنت أسمع مدرس الدين يقرأ كلام الله، ويقول العين بالعين والسن بالسن والخيانة بالخيانة والوفاء بالوفاء، وظلت خيانة أبي محفورة في الكون بلا خيانة منك تمسحها، وتزداد الخطيئة حين أراك في وجهه تبتسمين، وأتلفت حولي باحثا عن وجه العدل دون جدوى، وإلى جواري أراه جالسا في الفصل مطرقا رأسه، واضعا يده على سرواله من الخلف. وإذا سأله المدرس سؤالا تلفت حوله متحيرا وبدأ يتهته. وحين يضحك التلاميذ يقول: لو كانت هناك عدالة في الكون لما خلقني الله أتهته وجميعهم لا يتهتهون. وهمس في آذني بصوت خافت: الله غير موجود لأن العدالة غير موجودة. وهمست في أذني بدوري: لو كان الله موجودا لما كان الوفاء يقابله الخيانة، والخيانة يقابلها الوفاء. وكنت يا أمي تلميذا في التاسعة من عمري وهو زميلي، وربط بيني وبينه الإيمان العميق بعدم وجود الله، وظلت قدرتي على الإيمان بالله مرتبطة بقدرتك على خيانة أبي، ولم يكف أبي عن خيانتك، ولم تكفي عن الوفاء له. وقلت لك مرارا إنه خائن، لكنك يا أمي لم تسمعي. وإذا سمعت تصمتين ولا تردين. ولم أعرف لماذا تقابلين الخيانة بالوفاء، ثم عرفت أنك كنت تخافين، وكل ليلة تبكين، وفي النوم تحلمين أنك قابلت رجلا آخر، لكنك في الصباح تتراجعين. كنت تخافين الناس وتخافين أباك، وأكثر ما كنت تخافين هو الله. وقلت لك يا أمي العين بالعين والحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة، لكنك أبدا لم تسمعي، وإذا سمعت لا تدركين، وإذا أدركت لا تفعلين. يمر اليوم وراء اليوم وتستسلمين. لو أنك قاومت الظلم مرة، لو أنك دافعت عن حقك، ربما عرفت أنا العدالة، وإذا عرفت العدالة عرفت الله، لكنك يا أمي عجزت عن الدفاع عن حقك، ربما عرفت أنا العدالة، وإذا عرفت العدالة عرفت الله، لكنك يا أمي عجزت عن الدفاع عن حقك، وإذا عجزت عن الدفاع عن نفسك، فهل تدافعين عن الآخرين؟ فاقد الشيء لا يعطيه يا أمي. وعجزت عن الدفاع عن حقي. ترين أبي وهو يظلمني فتسكتين، وفي كل صراع بيني وبينه تقفين تتفرجين. وإذا اشتد الصراع تنحازين إليه وعنه تدافعين، هو على صواب دائما، وأنت عن الحق لا تدافعين. لو أنك قلت مرة إنه أخطأ، لو أنك حكمت مرة بالعدل، ربما عرفت أنا العدل، ربما عرفت الله، ربما قابلت الوفاء بالوفاء، لكني أصبحت مثلك يا أمي أقابل الخيانة بالوفاء، وأصبحت مثل أبي أخون من تخلص لي وأخلص لمن تخونني. وهربت من فتاتي الأولى حين أحبتني، وتزوجت أول امرأة رفضتني، وأصبحت كاتبا كبيرا بأمر الإمام، لا يروقني من نساء العالم إلا زوجته، ولا أكتب إلا ما يروق الإمام. قسمة عادلة يا أمي. هو يملك قلوب الجماهير عن طريقي، وأنا أملك قلب زوجته عن طريقه. وكان يدرك وهو جالس بيننا أن قلبها وعقلها معي، ولم يكن يهمه من المرأة القلب أو العقل، ويقول لي المرأة الجسد ولا شيء بعد ذلك يهم، ولم أكن أرى منها إلا العينين الزرقاوين، أراهما بالليل والنهار، وحين تنظر إلي زوجتي الجديدة يستحيل سواد عينيها زرقة بلون البحر، وأحوطها بذراعي فتستحيل سمرة جسدها نعومة بيضاء، وتلتقط زوجتي اسمها وأنا أهمس به لحظة النشوة وتسألني: من «كاتي» دي؟ ويرتج لساني: مين قال الاسم ده؟ وتقول: أنت قلته لحظة الغيبوبة. أهي فتاتك الأولى؟ وأمسك لساني قبل أن أقول إنها فتاتي الأخيرة، ولم تكن فتاتي الأولى اسمها كاتي، ولم أعد أذكر اسمها ولا شكلها، وكل ما أذكره أن وجهها كان نحيلا شاحبا، وبشرتها سمراء فيها بقع بيضاء ولهجتها ريفية، وحين تشمر جلبابها وتنثني لتمسح البلاط يصعد الدم إلى رأسي، ثم يهبط ساخنا أسفل بطني متجمعا أعلى الفخذين في غدة الشيطان. وتغلقين عليها باب المطبخ بالمفتاح، فأسرق المفتاح من جيبك وأنت نائمة. وحين ارتفع بطنها بالحمل السفاح أمسكت العصا الخيزران وعلى قدميها الحافيتين تضربين، واعترفت لك أنه أبي فزال عني الخوف، وكنت أراه وهو يسرق منك المفتاح ولم أقل لك شيئا، وإذا قلت فأنت لا تسمعين، وإذا سمعت فأنت تصمتين، وأصبحت أصمت مثلك وأخاف أن أنهض من النوم فأراه مع المرأة الأخرى، وأحبس البول حتى الصباح، أو أتركه ينساب كالخيط الناعم الدافئ، ويقول أبي إنني مريض أبول في الفراش وأمشي وأنا نائم، وأقول إنني رأيته مع المرأة الأخرى، وأراك ترتعدين ولا تصدقين. وإذا ضربني وقفت معه وعن الحق لا تدافعين. لو أنك وقفت مع الحق مرة ربما فعلت مثلك، لكن أبدا لم تفعلي. وفعل بي أبي ما شاء فأصبحت مثله، وما يفعله أفعله، ومن جيبك أسرق المفتاح. وحين يراني يصمت، وحين أراه أصمت. وفي يوم العيد رأينا صورتها في الصحف منشورة بوجهها الشاحب وعينيها السوداوين، وذراعاها مفتوحتان نحو السماء في ابتهال صامت، وركبتاها مفتوحتان، وفي نقطة الوسط تتلقى الحجر وراء الحجر، يرجمونها فوق علامة الشيطان، وطبول العيد تدق، وصواريخ النصر تفرقع، وفي حلقي مرارة الهزيمة وهي تنظر إلي، وسواد العين يخرق الجريدة كالنار السوداء.
وفي الصف الأول أقف تحت الأضواء لا يفصلني عن العرش إلا رئيس الأمن ومن بعده الغمام، وفي أذني يدوي الهتاف: «الله معك.» وهو يتهته بخطبة العيد، وأنا واقف إلى جواره صامت، وعقلي غائب، والهتاف يختلط في أذني بدوي الرصاص، ووجهه يسقط من فوق جسده الممشوق تحت الشمس، ووجهي يسقط هو الآخر إلى جوار وجهه، وينظر إلي ويسألني وهو يتهته من تحت المقعد، كما كان يفعل ونحن في المدرسة: فاهم حاجة يا وله؟ وكنت أقول له الإجابة عن كل سؤال في الامتحان، لكني هذه المرة لم أعرف الإجابة ولم أرد، وبقيت راقدا إلى جواره، ووجهي أخفيه في الأرض، وظلمة الليل تجيء محملة بثقل الموت، وجدران جسدي كالصخر تحوطني وأنا راقد، وصوت الرصاص في أذني ممدود كالهتاف، وأنادي عليك يا أمي كما كنت أنادي وأنا طفل، وتأتي إلي في الظلمة كالضوء، وينحني جسدك نحوي، وأرى وجهك أمامي، وأكتشف أنني لم أرك منذ عشرين عاما، وأنحني عند عينيك الصغيرتين أمسح عنهما الأرق، وأناديك فلا تردين، ومن نافذة بعيدة تطل على الكون الصامت، أقول كنت هنا وأنا طفل وقلبي كان بحجم الشمس، وكنت أحبك كما أحب حليب الصبح، لكني فتحت عيني في الليل ورأيت أبي عاريا كالشيطان، وعاقبني الله لأنني فتحت عيني، وكان يجب أن أغمضهما وأظل نائما، ولم أعد أحب حليب الصبح ولا ضوء الشمس، وأصبح الإمام رفيقي، وآمنت بوجود الله، وأهتف مع الناس: الله والوطن والإمام.
الإمام متنكرا
لا زال الصوت يدوي والناس تهتف، وأنا واقف فوق المنصة ألقي خطبة النصر، ويرن صوتي في أذني فأدرك أنه ليس صوتي، وإنما هو صوت الرجل الآخر يقاسمني شخص الإمام، وأرى وجهه عاليا في السماء، معلقا فوق أقواس النصر تحت كشافات الضوء، يشد عضلات وجهه المتقلص ليبتسم بفم واسع، يسع حب الله وعبيده فوق الأرض، وأحمد الله أنني أرقد في مكاني بعيدا عن الضوء وعيون الناس، وأحرك ذراعي بحرية وقلبي مملوء بالسعادة؛ فأنا في نظر الشعب والدولة والقوى العظمى لا زلت واقفا أخطب في عيد النصر، ومن حولي أعواني من حزب الله، وزوجتي الجديدة، وكاتبي الكبير، ومعارضي الشرعي، وأعوانه من حزب الشيطان، وأنا في الوقت نفسه راقد مستريح البال، لا أحمل هموم الدولة أو الديون أو الهزيمة أو الإشعاع النووي، ويمكنني أن أرقد هكذا فوق ظهري أو بطني، أو أخلع ملابسي الرسمية وأرتدي ملابس رجل عادي من الشعب، وأسير وحدي دون حاجة إلى حماية رئيس الأمن وأعوانه من أرواح الجان والشياطين. أتمشى الهوينى، لا أسرع الخطى دون حاجة إلى إيهام العالم أن وقتي ثمين، وأستنشق الهواء بملء صدري، وأترك عضلات وجهي مرتخية مستريحة دون حاجة إلى تكشيرة لائقة بهيبة العرش وحزم الإمام، أو ابتسامة تتسع لحب الله والوطن والشعب. أحرك ذراعي في الهواء وأنا أسير متنكرا متخففا من ثقل النياشين والأوسمة، وقميص الوقاية الملفوف حول صدري وبطني كحزام العفة الحديدي، ولا أحد من العالم يعرفني أو يستوقفني راكعا يطلب البركة أو علاوة أو توصية. أحرك ساقي في الهواء داخل سروال قديم من الدمور مثقوب من الخلف، وأتمشى غير مكترث بشيء؛ فلا أحد يعرفني ولا أخاف أن يعرفني أحد، وعضلات وجهي مرتخية غير مشدودة، بلا هيبة أو شجاعة أو خوف أو ضعف أو قوة، وإنما هي الراحة الكاملة وسعادة الآلهة والثقة والاطمئنان إلى أن العالم يسير بدوني، ومع ذلك فأنا موجود، وصوتي تنقله الإذاعات والأقمار الصناعية إلى جميع أنحاء العالم، وأيضا إلى العالم الآخر، وصورتي في كل مكان ترفرف إلى جوارها الأعلام، والهتاف يصل إلي من بعيد وأنا أسير الهوينى. أستمتع بمنصب الإمام دون أن أكون الإمام، وأسمع الهتاف دون أن يؤلم الدوي أذني.
على بعد غير قليل لمح شبحا يتحرك على شاطئ النهر. ظنه أحد أعضاء حزب الشيطان، وقد تعرف عليه ، وسوف يغتاله. كان يخاف أن يتعرف عليه أحد وهو متنكر، وكان يخاف أكثر أن يتعرف عليه أحد وهو غير متنكر. واختبأ وراء شجرة يلهث، عيناه مذعورتان تراقبان الشبح. دقق النظر. بدا له من بعيد كأنه صخرة بارزة في الأرض لا تتحرك. دقق النظر أكثر ورأى أنها تتحرك. بدت حركتها أول الأمر كصخرة تتدحرج وحدها. دقق النظر أكثر. رأى لها أربع قوائم. ظن أنها جاموسة تتمشى على النهر، لكن رأسها لم يكن به قرون، وإنما شعر ملفوف تحت عمامة بيضاء. ظنه شيخا عجوزا يسجد على يديه وركبتيه في خشوع للإمام. خرج من وراء الشجرة مطمئنا إلى أنه أحد أعضاء حزب الله، واقترب منه أكثر فرأى أنه امرأة وليس رجلا. عرفها من وجهها الطويل النحيل وعينيها السوداوين الواسعتين، وجلبابها الأسود الطويل، وشعرها الملفوف داخل المنديل وفي يدها الفأس. كانت تفحت الأرض، ولم تكن رأته بعد، وحلا له أن يراقبها دون أن تراه، ورآها تمهد الأرض بكفها الكبيرة. أبعدت قطع الطوب والحصى. فرشت الأرض بتراب ناعم. انتزعت من صدرها شيئا صغيرا وضعته في بطن الأرض. عمقت له مكانا، ثم ساوت الأرض وغطتها بتراب ناعم. قال لنفسه: واحدة من عبيد الأرض مات زوجها في الحرب أو في الوباء. اقترب منها وحياها وأثنى على جهدها، وسألها عما زرعت، فقالت: شجرة بندق. وكان يعرف أن شجرة البندق لا تطرح إلا بعد مائة عام، وقال: أتمنى لك العمر الطويل والصحة والعافية، لكن أتتوقعين أن تذوقي ثمار ما زرعت؟ وأدركت المرأة دون أن ترفع عينيها إليه أنه الإمام، وقالت: لن أعيش حتى أشهدها وهي تنمو. وقال: إذن لماذا تزرعين وفيم تبذلين من جهد؟ قالت: أنا أواصل الجهد ولم أبدأ الزرع، وأمي هي التي بدأت، ولولا أنها فعلت ما كنت أنا أعيش. وكاد يقول أنا الذي منحتك الحياة وليس أمك، لكنه كان متنكرا ولا يريدها أن تتعرف عليه، وكبح جماح الرغبة في أن يكشف عن سطوته، وقال لنفسه الأفضل أن أجمع عنها المعلومات، وأعرف هل هي في حزب الله أم في حزب الشيطان، ثم أتركها لرئيس الأمن، ورسم على وجهه ابتسامة، وقال برقة فائقة وكأنه يداعب طفلة: أنت في حزب الله أم في حزب الشيطان؟ وظلت صامتة لا ترد ولا ترفع عينيها إلى وجهه، وتصور أنها في حزب الله وتخشى أن تعترف له متصورة أنه الشيطان، أو واحد من أرواح الجان. وسكتت طويلا حتى ظن أنها تتخابث وقد تورطت في الكشف عن نفسها، وأنه سيعرف عنها ما لا تريد أن تبوح به، ودقق النظر إليها ولم ير في ملامحها خبثا، والبراءة مرسومة على وجهها كالطفلة. وكلما رأى البراءة مرسومة على وجهها ازداد يقينا أنها غير بريئة، وأنها بنت حرام تتظاهر بالبراءة، وظل يداعبها ويناولها غصن شجرة، وقال: خذي وقتك يا شاطرة ولا تخافي. إذا كنت في حزب الشيطان فهو حزب بأمر الإمام مثله حزب الله سيان، ولا تظني أنني أجمع عنك المعلومات لأضرك والعياذ بالله، إنما لأكافئك على جهد تبذليه دون مقابل، وهذا بالضبط هو إنكار الذات وفق تعاليم الله والوطن والإمام. وظلت المرأة صامتة وعلى وجهها البراءة تتضاعف، والفرح في قلبها يتضاعف، ورفعت رأسها إليه ولم تكن رأته من قبل. رأت رجلا غريبا رأسه بغير شعر، ووجهه يغطيه الشعر، وحاجباه كثيفان يلتقيان فوق عينيه في زبيبة سوداء، وأنفه مقوس، وفمه كبير معوج على ناحية، وذقنه مثلثة في وسطها حفرة كالثقب يتدلى منه الشعر، وقالت لنفسها: يشبه وجه الإمام كما رأته في الصورة. وكذبت نفسها؛ فالإمام لا يمشي في الطرقات كالبشر، وليس في سرواله ثقب ... وظلت صامتة، وسألها لماذا هي صامتة. قالت: تصورتك الإمام ولست أنت الإمام. واشتد ذكاؤه وتذكر سلاح المعلومات، وقال لنفسه: الآن يمكنني أن أعرف مدى حبها لي ومدى إيمانها بالله والوطن، وهكذا أعرف أغوار قلبها. واشتدت غبطته وهو يدرك أن التجسس على قلبها أصبح في مقدوره، ولم يكن في مقدور رئيس الأمن ولا القوى العظمى أن تتجسس بعد على أغوار القلب. ومن شدة الغبطة نسي أنه متنكر، وتصور أنه الله؛ فهو القادر وحده على كشف القلوب، وكاد يكشف لها عن حقيقته، لكنه خاف أن ينكشف أمره، وهو يريد أن يظل متنكرا حتى يعرف حقيقة شعورها، ومدى الإيمان في قلبها لله والوطن والإمام، وبالغ في تنكره وإخفاء صوته الخشن بصوت آخر ناعم، وإظهار الثقب في سرواله من الخلف. وكلما ازداد تنكرا وإخفاء لحقيقته ازداد يقنيا بأنها ستكشف عن حقيقتها وأغوار قلبها.
كان لا يزال واقفا أمامها، وأدرك أنه يرتعد وأنه خائف، ولم يعرف لماذا هو خائف، لكنه أدرك من صمتها ومن عينيها الثابتتين في عينيه أنها لا تؤمن بالله والوطن والإمام، وأنها ليست عضوا في حزب الله ولا حزب الشيطان، وأنها بنت حرام وأمها بنت حرام، وقال لنفسه: إذا كانت بنت حرام فلا عجب أن تفعل أية فاحشة، وليس لها من علاج إلا الرجم.
الفيلسوف
سحر غامض يجذبني إلى هذا العالم الآخر. هربت إليه كاتي حبيبتي القديمة. سمعت عنه الأساطير وحكايات ألف ليلة وليلة. الشبق في العيون، والذهب السائل في بطن الأرض، وأنا في غرفتي الباردة بغير تدفئة، أنتقل من قطار إلى قطار تحت الأرض. موظف صغير في شركة صغيرة أتطلع لابنة المدير. أحببتها فرفضتني، وتزوجت امرأة رفضها غيري، تكبرني بعشر سنوات، وصدرها أملس بغير أثداء، ردفها نحيل ضامر، ورأسها كبير، وعقلها ساخن، والرحم بارد. تلد الكتاب وراء الكتاب، ولا تؤمن إلا بأطفال الأنابيب. قلت لها: أعظم امرأة ليست من كتبت أعظم كتاب، إنما من ولدت أعظم رجل. قالت: مريم العذراء ولدت ابن الله، وأنا فقدت عذريتي في الطفولة ولا أومن بالمسيح. قلت: وبماذا تؤمنين؟ قالت: أومن بعقلي وبأي شخص يخاطب العقل وليس الرحم. وقلت: عوضي على الله والمسيح. وبقيت معها أدفئها في الشتاء وتبردني في الصيف. وفي الصباح أجري في السراديب تحت الأرض. أركب قطارات طويلة ضيقة كأنابيب الأطفال. الناس محشورة كقطع السردين. ويحملني السلم الآلي، أترك له جسدي وأغمض عيني. يلفحني الهواء فوق سطح الأرض. أجري فوق الأسفلت من فوق رأسي مظلة المطر. أدخل إلى مكتبي أنفض الماء عن معطفي، وأساوي شعري في المرآة . لن يدق جرس التليفون بصوت أنتظره، لا رجل ولا امرأة. لم أعد أنتظر أحدا إلا صوت المدير؛ هذا التقرير عاجل، هذا الخطاب هام، أين الملف؟ عشرون نسخة من هذه الورقة، اطلب هذا الرقم، احجز لي في هذه الطائرة، اكتب هذه المذكرة. أصابعي تتحرك وحدها فوق الأزرار، دقات متكررة كدقات الساعة، لا جديد، لا حب، لا صداقة، لا وقود، لا أمل، واليأس أيضا راح.
قلبي جدره ثلج أبيض. كوب القهوة بارد في يدي. جدران غرفتي داكنة؛ لون رمادي قاتم تشوبه زرقة باهتة. منذ عشرين عاما لم أجدد الطلاء. ادخرت مبلغا من المال، نويت تجديد الطلاء في عيد الكريسماس. جاء العيد وذهب ولم أجدد الطلاء. أرسلوا الصواريخ في الليل، لن تبقي الحرب النووية على جدار، فما بال الطلاء؟ جداري خال من الصور، لا أب ولا أم. صورة أبي في خيالي كما وصفته لي جدتي يرتدي الزي العسكري. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حملني واختفى في جوف البحر. رست السفينة عند جبل الثلج. تركني مع أمه وسافر إلى حرب أخرى. مات دون أن يحكي لي قصة ولادتي، وجدتي لم تعرف شيئا. وإذا سألتها تقول: كنت طفلا وسيما داخل الأنبوبة. وفي أحلامي أسبح في الأنبوبة باحثا عن أمي، يبتلعني حوت ضخم وأصحو من النوم مبللا بالعرق.
أطراف أصابعه مثلجة حول الكوب، قهوة سوداء بغير لبن، يبتلعها كل صباح على معدة خاوية. شهيته للطعام راحت، وشهيته للحب راحت وشهيته للقراءة. لم يعد يقرأ إلا عنوان الصفحة الأولى في جريدة الصباح، ينتظر خبرا واحدا من ثلاث كلمات: إعلان الحرب النووية.
الساعة التاسعة إلا خمس دقائق. لم أعد قادرا على النهوض، ولماذا أنهض؟ ليس خارج غرفتي إلا الشارع الأسفلت والمطر وسراديب الأرض، وقطارات كأنيب الأجنة الصناعية، والسلم الآلي يستسلم له جسدي، والأزرار أدق عليها بأصابعي، وصوت المدير تقرير عاجل، خطاب سريع، اكتب هذا، لا هذا الملف. مقعد في الطائرة الدرجة الأولى بدون تدخين. هو يدخن لكنه لا يحب رائحة دخان الآخرين. دعاني مرة على العشاء. قال إنه معجب بذكائي. وعيناه على امتداد ساعة العشاء تمتد إلى جسدي. بعد العشاء حوطني بذراعيه. أبعدت وجهي عن أنفاس دخانه. قلت: أشكرك على الحب، لكني أحب شخصا آخر. سألني: امرأة أم رجل؟ قلت: ليس من حقك أن تعرف شيئا عن حياتي الخاصة، وماذا يهمك من أحب إذا كنت لا أحبك أنت؟ ولم أكن أحب أحدا، لا امرأة ولا رجل. تحررت من الحاجة إلى الحب. تحررت من الانتظار، والوعود دون تحقق. لم يعد جسمي ملكا لأحد، ولا أريد أن أمتلك أحدا. لا زلت أحتاج إلى مبلغ من المال كل شهر، أسدد إيجار الغرفة وأشتري القهوة والخبز. إذا فقدت وظيفتي فلن يكون لي مورد آخر. وحين حوطني بذراعيه في اليوم التالي همست في أذنه بالحب، وسألني هل أنت بخير، وجهك غير الأمس. وتذكرت أنني مريض، وفي حلقي مرارة القهوة السوداء. قال: هل ذهبت إلى طبيب نفسي؟ قلت: لا. قال: اذهب؛ فهذه أعراض الاكتئاب.
سألني الطبيب النفسي عن حياتي. حكيت له كل شيء. قال: علاجك السفر؛ فأنت في حاجة إلى دفء الحب والشمس، وجريان المال بين أصابعك. وأعددت الحقيبة وقلت لزوجتي سأسافر. قالت: إلى أين؟ قلت: إلى العالم الآخر. قالت: أي عالم آخر؟ وأشرت بطرف إصبعي إلى الخريطة. ارتدت نظارتها السميكة كقعر الزجاجة، وقالت: وراء البحار هناك؟ قلت: سأعود إليك محملا بالجواهر. قبلتها فوق فمها الخالي من الشفتين، وانطلقت بدونها إلى حبي القديم وحياتي الجديدة. قلبي يخفق لرنين الذهب، وفي المرآة أرى نفسي الملك شهريار. أغتصب كل ليلة عذراء، وقبل الفجر أقتلها قبل أن تقتلني. •••
من الجو لمعت الأرض تحت الشمس كبحر من الذهب وهضبة خضراء بين النهر والبحر. هبطت الطائرة بعد الغروب، وملأت أنفي رائحة عتيقة، عرق وشحم وجاز محترق، دخان في الجو والوجوه رمادية. لغة الكلام لا أفهمها، وعيون خالية من الشبق. كتل مربعة من اللحم داخل عباءات سوداء. أطفال وجوههم كالعجائز، وعيونهم يأكلها الذباب. رجال يرتدون الجلاليب هجموا علي وأنا خارج من المطار. يتنافسون على حمل الحقيبة وكل منهم يشد ذراعي . دفعني أحدهم داخل التاكسي، واندفعت حقيبتي من ورائي. انطلقت السيارة في الظلمة وأبواق كثيرة تزعق. أصوات تدوي كالصواريخ أو مدافع الحرب. توقفت السيارة عند الإشارة الحمراء، وهجم أطفال يمسحون الزجاج بالفوط الصفراء. مدوا أياديهم السمراء المشققة تحت وجهي. طردهم السائق بصوت غليظ. وصلت إلى الفندق مهدود الروح. قلت: هل سأل عني أحد؟ قالوا: لا. قلت: أنتظر موعدا مع الإمام. قالوا: إنها ليلة العيد، والإمام يخطب، والعالم كله في إجازة. قلت: وماذا أفعل حتى تنتهي الإجازة؟ قالوا: لا شيء؛ فالأماكن كلها مغلقة. قلت: ألا يمكن أن أرى شيئا هذه الأيام؟ قالوا: يمكنك أن ترى العذراء؛ فقد ظهرت في الكنيسة القديمة، قرب الجامع الجديد، وكل الناس هناك. وقبل أن أقرر شيئا دفعني أحدهم داخل التاكسي، ووجدتني أسير نحو الكنيسة، وأنا أرسم فوق صدري الصليب، الأب والابن والروح القدس. لا أكاد أصدق عيني. أجساد البشر كيوم الحشر تجمعوا من كل الأنحاء، رجال ونساء وأطفال، جالسون على الأرض أو الكراسي القش.
جلاليب الريف وبدل الأفندية. نساء محجبات ونساء نصف عاريات. وجوه شاحبة مريضة، ووجوه متوردة تفيض حياة. عيونهم مرفوعة نحو قبة الكنيسة ينتظرون ظهور العذراء. قرءوا في الصحف خبر ظهورها. كل من فاته رؤيتها العام الماضي جاء، والأجانب أيضا جاءوا يشهدون المعجزة، وإلى جوار كل منهم كلب أسود. عينا الكلب مرفوعتان نحو القبة مليئتان بالخشوع. همس رجل في أذن جاره: أيدخل الإيمان قلوب الكلاب؟ رد الرجل: ولم لا؟ قال الجار: إذا عرفت الكلاب الوفاء، فلماذا لا تعرف الإيمان؟! وهذا الكلب من أجود الأنواع، مستورد من وراء البحار، كشف الله عنه الحجاب، ويعرف المذنب من البريء، يأكل كبد الحوت ويبتسم في الصورة. ويقول الرجل الأول: لم نر في بلادنا كلبا يبتسم. ويقول الرجل الثاني: بلادهم غير بلادنا، وكلابهم غير كلابنا. قوى عظمى، كفانا الله شرها، يرسلون إلينا الموت في علب الأكل. وصواريخ تدك المدن تحت الأرض، وطائرات تسافر إلى القمر. يندهش الرجل: القمر؟ عيناه تتعلقان بالقمر. لا زال القمر معلقا في السماء بدون أعمدة في الأرض. لا زال الله أقوى من القوى العظمى. الله فوق الجميع. أعندهم رجال سافروا إلى القمر؟ أي والله، وامرأة أيضا سافرت إلى القمر. تزداد دهشة الرجل: امرأة؟ ويقول الرجل الثاني: أي والله امرأة. ولا يصدق الرجل الأول: امرأة؟ وما شكلها؟ وهل لها ثديان مثل النساء عندنا؟ مثل زوجتي وزوجتك؟ وهل سافرت وحدها بدون رجل معها؟ بدون محرم؟ ويقول الرجل الثاني: وحدها تماما سافرت بدون محرم وبدون حجاب؛ فالقمر ليس فيه رجال، فلماذا تتحجب؟ لا يوجد على سطح القمر رجال، أو هناك رجال من نوع آخر لا تثيرهم مفاتن الحريم. تزداد دهشة الرجل: إذا لم تثرهم مفاتن الحريم، فماذا يثيرهم؟ ويقول الرجل الثاني: الله أعلم بما يثيرهم يا أخي. وقد انتصف الليل ولم تظهر العذراء. لماذا تأخرت في الظهور؟ غيرت رأيها وظهرت في بلاد أخرى. لم تكن تختار من بلاد العالم إلا بلادنا. وإذا لم تظهر عندنا فأين تظهر؟ نحن لا نؤمن بابنها المسيح، وقد تظهر في بلاد أخرى، لكنها ظهرت بالأمس وهي لا تفرق بين المؤمنين بالمسيح أو المؤمنين بمحمد؛ فهي لا تشجع الفتن الطائفية. وفي الصحف قرأنا خبر ظهورها، ورأينا صورتها منشورة فوق قبة الكنيسة. ألم تقرأ الصحف؟ لا؛ فأنا لا أعرف القراءة، لكن أليست العذراء مريم روحا بغير جسد؟ نعم إنها روح طاهرة. وهل تنشر الصحف صورة الأرواح؟ ولم لا يا أخي؟ إنها صحف الإمام، وهي قادرة على كل شيء.
وصرخت طفلة مشلولة تحملها أمها، وانتفضت واقفة على قدميها، وهب الجميع واقفين مهللين مكبرين باسم الله والعذراء، ووقف الرجلان مع الواقفين وكبرا مع المكبرين، وهمس الرجل الأول في أذن الثاني: هل ظهرت العذراء؟ وصاح الثاني: طبعا، ألا تراها؟ انظر! ونظر حيث ينظر الناس فوق قبة الكنيسة. وحين لم ير شيئا ارتج جسده متصورا أنه أعمى. طرد الشك وحملق في الظلمة، وصاح مع الناس: رأيتها رأيتها.
هز الإمام رأسه علامة الإعجاب، وقال: مشروع عظيم يحول جبل الرمل إلى جنة عدن. منحني لقب الخبير وميناء يطل على البحر، ولم يكن أمامي إلا التوقيع باسمي فوق العقد. قالوا: ما اسمك؟ قلت: «جوزيف.» قالوا: في الأصل كان «يوسف»، وعليك تغيير الاسم. قلت: ليكن اسمي «يوسف»، وعوضي على الله والمسيح. قالوا: أتؤمن بالمسيح وليس الرسول محمد؟ قلت: يمكنني ترك المسيح من أجل المشروع. قالوا: ما اسم أمك؟ قلت: لا أعرف، وأنا من أطفال الأنابيب. قالوا: ما هي الأنابيب؟ قلت: إنها الأرحام الجديدة تنتج الأطفال الأبرياء من الإثم، بغير جنس ولا نكاح ولا جماع، اللهم إلا التلقيح الصناعي. قالوا: أعوذ بالله من الشيطان. هذا محرم بأمر الإمام؛ فهو الزنا والفاحشة وخلط الأنساب. قلت: وما ذنبي وكنت جنينا في بطن أنبوبة، لا أعرف شيئا عن الزنا والفاحشة. قالوا: عليك بالتطهير من الإثم وإعلان التوحيد والإيمان بالله والرسول. قلت: آمنت بالله والرسول من أجل المشروع، لكن ما هو التطهير؟ قالوا: قطع جزء من الجلد فوق رأس العضو. قلت: كل شيء ممكن إلا قطع جزء من جسمي. قالوا: لا بد من التطهير إذا أردت بركة الله ونجاح المشروع. قلت: ليكن التطهير وقطعة من الجلد لا تساوي شيئا إذا جاء الذهب.
وجاء الحلاق يحمل الحقيبة، وحدث التطهير بالقطع بالمشرط دون مخدر إلا زجاجة خمر، وأقبل أطفال كثيرون يرغبون التطهير، ووجدت نفسي الكيبر الوحيد المختون بين الأطفال، وأخفيت وجهي في الأرض، وأعلنت إيماني في الصحف، وأطلقوا علي اسم الخبير المؤمن، وكل صباح أرى صورتي داخل برواز، ورأيي منشور كأنه دستور، ولكل سؤال جواب، ولكل مشكلة حل، والحل الناجع الوحيد هو العودة إلى حظيرة الدين والإيمان بالله والرسول. قالوا: والإشعاع النووي ما علاجه؟ قلت: الصلاة وصوم رمضان. قالوا: ومشكلة الغلاء والجوع؟ قلت: قطع يد السارق وتحجيب النساء. ومنحني الإمام لقب الفيلسوف وضاعف الله لي الربح. وفي نهاية العقد حملت حقائب الذهب، وهربت بالطائرة دون دفع الجمرك، ومعي كاتي حبيبتي القديمة.
الحب القديم
من شرفة الحريم الوردية بلون الشمس أطل على الهضبة بين البحر والنهر. اتسعت مساحتها وامتدت إلى المحيط، ومن خلف النهر أرى الجامع الكبير في المنخفض حيث كان بيت الأطفال، ومن خلفه المسرح العائم، وكان بيت السعادة وراء الخرابة في الخندق، وبينهما المستشفى الحربي في الطريق إلى الجبهة، وشرفاته الزجاجية تلمع تحت الضوء، ومن خلفها أطباء الجيش يضحكون ويصفرون للبنات في بيت الممرضات، وفوق رءوسهم القبعات العسكرية، وفي أيديهم بنادق أطفال يصطادون العصافير من فوق الشجر، وفي جيوبهم «بمب» العيد. يمسك الواحد منهم بمبة ينفخها في يديه ويضربها في الأرض، تنفجر مفرقعة في الجو، ويدوي الهتاف وصواريخ العيد. وصوت الإمام يلقي خطبة النصر، وأنا واقفة في شرفة الحريم تحوطني باقات الورد، وتلميذات المدارس كالملائكة البيضاء يرقصن، ونساء الجمعيات الخيرية واقفات كالغربان السوداء يصفقن، والأمهات المثاليات وشهداء الحرب والشهيدات الصف وراء الصف، وهو واقف فوق المنصة يتهته وعيناه نحو الله، والهتاف يدوي كطلقات الرصاص، ووجهه المطاط يسقط بين قدميه يخفيه في الأرض، وأنا أخفي وجهي أدعو الله والرسول أن تبتلعني الأرض، وأدعو المسيح وأمه العذراء أن أصبح الروح القدس. أحلق في الجو بغير جسد تراه العيون، وأعود إلى أمي أختفي في الرحم، وأصعد السلم القديم جريا وأمي عند الباب تنتظرني، تتلقاني ذراعاها الممدودتان وتقول: تأخرت، أين كنت؟ وأقول: كنت عند الرجل الغريب. تقول: ولماذا يا ابنتي تعطي حياتك للغريب؟ وأقول: معه العرش والخدم والجواري، وأنا تعبت من غسل الصحون والابتسام في وجوه لا تبتسم والاعتراف بأب لا يعترف. وتقول: غسل الصحون يا ابنتي أخف من غسل الجسد بعد الموت، واعتراف الأم أفضل من اعتراف الأب. وأتركها لأجري في الطريق القديم في نهايته البيت الصغير بجوار الكنيسة أدق الباب، وقلبي يدق الدقة وراء الدقة، وينفتح الباب عن وجه المسيح. أعرفه ولا أخطئه، وهو يعرفني ولا يخطئني. تتلقاني ذراعاه ويقول: تأخرت، أين كنت؟ وأقول: كنت عند زوجي الإمام. ويقول: أتخونيني مع زوجك يا «كاتي»؟ وأقول: ليست خيانة يا «جوزيف»؛ فأنا أحبك أكثر، وأنا معه وحين أعانقه أغمض عيني، وأراك أنت بين ذراعي. ويقول: أنت حبي الوحيد، ومن بعدك لم أحب إلا الرجال أو نساء بغير أثداء يلدن الكتب. وفي النوم أنشد الحب ، لكن الحب لا يأتي، وتأتي مكانه غيبوبة تشبه النوم، تفتح العقل للنسيان دون إغلاق العين. نوم ثقيل يشبه الموت دون ضياع الذاكرة. ولا أنساك ولا أنسى المسيح ولا اسمي ولا جسدي دون الجرح. وأقول: أي جرح؟ ولا يقول شيئا ويعانقني، وأراه في المرآة المستديرة فوق سرير الإمام يعانقني. يصبح داخل المرايا كأنما هو مائة رجل يعانقونني في آن واحد، وأعانقه من جديد كأنما أعانق رجال الكون. وأضع يدي على الجرح، ملتهب تحت السروال بعد التطهير، وله رائحة الخشب القديم. وأقول: كانت لك رائحة الشجر الأخضر. ويقول: كان ذلك أيام الحب، لكنك تركت الحب من أجل الذهب، وجئت وراءك أفعل مثلك. وعانقني داخل المرايا وأنا أمسح عرقي بالعطر. تشممه بأنفه وسألني: هل غيرت عطرك؟ قلت: إنه العطر القديم، لكن جسدي لم يعد له رائحة الطفولة. وأسندت رأسي إلى مسند السرير، ووضعت الوسادة بين رأسي والسرير، وسرت الرائحة في جسدي أغسلها بالعطر دون جدوى، لا تذهب عني رائحة الموت. وقال لي: ما عليك، أنا أحبك أكثر وأنت فوق العرش، ولا تغيري منك شيئا، ولا تخفي التجاعيد والشيخوخة. واهتز الكأس المثلج في يدي، وانسكب الخمر فوق السرير، وضحكت كطفلة تسكب كوب اللبن، لكن البقعة فوق الملاءة لونها قاتم، لا تضيع بالغسيل ولا التطهير، وجسدي في الفراش ثقيل مترهل أرفعه بصعوبة، وأمشي لأجلس فوق مقعد العرش. أخفي جسدي خلف المكتب الضخم، وأحتمي في الورق والكتب، وأرى اسمي منقوشا بالفضة فوق غلاف لم أفتحه، وزوجي اسمه منقوش بالذهب فوق كتاب لم يكتبه. ويدخل الإمام تفوح منه رائحة الخمر وعرق المرأة الأخرى، ولا أقول شيئا؛ فأنا لست المرأة الوحيدة في حياته، وهو ليس الرجل الوحيد في حياتي. هربت إليه من الفقر، وهو يهرب إلي من الفشل والهزيمة. تسري في جوفي مرارة الحقيقة، ويحوطني الإدراك من كل جانب كالهواء الساخن، وذرات التراب تدخل أنفي، ومقعد العرش لا أعرف أين ذهب، وهو راقد إلى جواري يده ممدودة إلي يحاول أن يمسكني، ويدي ممدودة نحوه أحاول أن أعانقه ، والمسافة بيننا تتسع كلما نقترب؛ فإذا تلامسنا وتعانقنا أصبح أبعد مما كان، وأنا أبعد مما كنت. وأحوطه ويحوطني دون جدوى؛ فالمسافة قائمة منذ أول عناق. وفي الفراش الناعم كنت أحب القراءة قبل النوم. يزحف نحوي
شيئا وأقول شيئا، ويدور بيننا حوار لا يخلو من لذة. وحين يحوطني بذراعيه تختفي اللذة. أفضل حديثه على عناقه، كأنما بين جسده وجسدي حوار مقطوع أو لغة غير مفهومة. وفي الحديث يفهمني وأفهمه، نتبادل الكلام ونأخذ ونعطي. وفي العناق يختل التعادل؛ فهو حركة من طرف واحد وهجوم مباغت، وانسحاب مباغت كأنما اللذة حرام، والشهوة عبء يحمله فوق جسده يود الخلاص منه بخبطة واحدة. وفي المرآة أراه راقدا في السرير على شكل رجلين؛ أحدهما الإمام، والثاني صورة طبق الأصل. وفي بهو القصر أراه سائرا ومعه البودي جارد، وفي الليل حين يعانقني يختلط علي الأمر، وأقول: هل أنت الإمام أم البودي جارد؟ ويقول: أنا الإمام. وأقول: إنه يشبهك تماما، ولا أكاد أعرف الأصل من الصورة. ويقول: أنا أقوى منه عقلا، وهو أقوى مني جسدا. وكلما تقدم بي العمر يكبر عقلي ويضعف جسمي، وأنت شابة في عمر ابنتي، وأخشى أن أعود من السفر كما عاد شهريار فأجد في فراشك البودي جارد. وقلت: من هو شهريار؟ قال: ألا تعرفين شهريار؟ ألم تقرئي كتاب ألف ليلة وليلة؟ قلت: لا. قال: أنت إذن لا تعرفين التراث، وهذا نقص في الثقافة، وعليك بالقراءة. وغادر السرير وسار بخطوات بطيئة نحو المكتبة. وقف طويلا أمام الكتب يقرأ الحروف فوق الأغلفة بصعوبة، ومن الانحناءة الخفيفة في ظهره تأكدت أنه الإمام وليس البودي جارد، وأدركت أنني أعرفه من ظهره أكثر مما أعرفه من وجهه، وأصابني الإدراك بصدمة لا تخلو من لذة؛ فالإدراك وإن كان قاسيا أفضل من الجهل، وخير لي أن أعرفه من ظهره من ألا أعرفه على الإطلاق. سرت نحوه على أطراف أصابعي، وحوطته بذراعي من الخلف، أحبه من ظهره أكثر مما أحبه من وجهه، وأحبه أكثر وهو غائب.
واستدار مبتعدا عن الكتب وفي يده كتاب كبير يحمله بصعوبة إلى السرير. يثبت النظارة فوق أنفه تتدلى منها سلسلة ذهبية. يغمض عينيه حين يقرأ وينام والنظارة فوق رأسه، وفمه نصف مفتوح يرتل آية الكرسي يطرد الشياطين وأرواح الجان، والكتاب بين ذراعيه يحتضنه كالمرأة يعشقها. وفي الظلمة يتسلل من الفراش ويذهب إليها. أراه من حيث لا يراني وهو يعانقها. تصيبني الرؤية بألم لا يخلو من متعة؛ فالرؤية رغم قسوتها أفضل من عدم الرؤية، والاكتشاف كاللذة الآثمة أختلسها وحدي دون أن يراني. ولا أشعر بالغيرة أو الغضب، وإنما هو الإحساس بالذنب، كأنما أنا أخونه أكثر مما يخونني، وأستمتع بعناقه للمرأة الأخرى أكثر من عناقه لي.
إحياء التراث
في الفراش وأنا نائم كنت أعشق قراءة كتب التراث، وأكثر ما كنت أعشق هو كتاب ألف ليلة وليلة. أرتدي نظارة القراءة وأخلع وجه الإمام. وفي المرآة أرى وجهي مستديرا تحت الضوء الأبيض، وبشرتي تصبح بيضاء، وأسناني بيضاء تلمع كأسنان الملك شهريار، وقلبي أبيض مثل قلبه يعشق الجواري السود، وروحي بريئة مثل روحه لا تعرف أن المرأة يمكن أن تعشق رجلا غير زوجها، ويرتعد جسدي حين أرى زوجة شهريار في الفراش مع العبد الأسود، وفي أحلامي أرى زوجتي في الفراش مع عبد من عبيدي، فأفتح عيني فجأة وأراها نائمة وحدها تحتضن الكتاب وعيناها مغمضتان، تسري الطمأنينة في جسدي كالدم الدافئ، وأتسلل من الفراش إلى جاريتي السوداء، وفي الطريق إليها أتوقف تحت ظل شجرة كما كان الملك شهريار يتوقف، أستنشق الهواء، وأستمتع بالخروج وحدي دون حرس، ودون أن يعرفني أحد. كنت أملأ صدري بالهواء حين رأيت ماردا طويلا يحمل فوق رأسه صندوقا كبيرا، تصورته عفريتا من الجان أو أحد أعدائي من حزب الشيطان. تسلقت الشجرة كما كنت أفعل وأنا طفل، واختبأت بين الأغصان. رأيت المارد يجلس تحت ظل الشجرة، ويفتح أقفال الصندوق القفل وراء القفل، سبعة أقفال. داخل الصندوق رأيت صندوقا آخر، فتحه وأخرج منه ساحرة الجمال، وقال لها: يا زوجتي الوفية، أريد أن أنام قليلا . ووضع رأسه على ركبتها ونام. ورأيت الحسناء ترفع رأسها إلى أعلى الشجرة وتهمس بصوت خافت: انزل ولا تخف من هذا العفريت؛ فهو من بني آدم وليس من الجان. ونزلت إليها، فرفعت رأس زوجها من فوق ركبتها، ووضعته على الأرض، وعانقتني كما تعانق الزوجة زوجها، وحدث لي كل ما يمكن أن يتمناه الرجل الصالح مع حورية الجنة. وقبل أن أودعها أخرجت من جيبها كيسا، أخرجت منه عقدا فيه تسعمائة وتسعون خاتما، وقالت: أتدري ما هذا؟ قلت: لا أدري. قالت: أصحاب هذه الخواتم كلهم فعلت معهم على غفلة من زوجي ما فعلته معك، فأعطني خاتمك أنت الآخر. خلعت من يدي خاتمي وأعطيته لها، فقالت: إن هذا الرجل اختطفني ليلة فرحي ووضعني في صندوق، ورمى على الصندوق سبعة أقفال، وجعلني في بطن الأرض، ولم يعلم أن المرأة منا إذا أرادت أمرا لم يغلبها شيء. ارتعد جسدي، وارتج قلبي، وانصرفت مسرعا إلى القصر، فوجدت زوجتي في الفراش ومعها عشيقها. رميت عنقها بالسيف كما فعل شهريار بالضبط، وصرت إلى زوجاتي القديمات أضرب عنق الواحدة بعد الأخرى، وصرت كل شهر حين يصبح القمر بدرا أتزوج بنتا بكرا، أزيل بكارتها وأقتلها في ليلتها، وبقيت على هذه الحال عشرين عاما حتى ضجت الناس، وهربت بناتها ولم يبق في الدنيا بنت تتحمل الوطء. وفي ليلة العيد ناديت على رئيس الأمن وقلت له: أريد جارية عذراء لا يكون في زمانها أحسن منها. وقرأت عليه الأوصاف الواردة في كتب التراث. قلت: أريدها رشيقة القد، قاعدة النهد، كحيل الطرف، رأسها صغير، وردفها ثقيل، ريقها زهر بستان أتقنت صناعة الحب، لم يمسسها رجل، وبياضها أربعة؛ وجهها وفرقها وثغرها وبياض عينيها، وسواد أربعة؛ أهدابها وحاجبها وعيناها وشعرها، وحمرة أربعة؛ لسانها وخدها وشفتاها مع لعس وإشراب بياضها بحمرة، وغلظ أربعة؛ ساقها ومعصمها وعجيزتها، وسعة أربعة؛ جبهتها وجبينها وعيناها وصدرها، وضيق أربعة؛ فمها ومنخرها ومنفذ أذنيها والمنفذ الآخر وهو المقصود الأعظم من المرأة.
حين سمع رئيس الأمن هذه الأوصاف انسحب الدم من وجهه، وأصبح لونه أبيض كوجوه الموتى، وآمن بتناسخ الأرواح، وقال هذه هي روح الملك شهريار تركب جسد الإمام، أو روح الإمام تركب جسد شهريار، وظل صامتا يخفي وجهه في الأرض، وصوت الإمام يدوي في أذنيه مرددا الأوصاف، وعلى أصابعه يعدها وينتهي بضيق أربعة؛ فمها ومنخرها ومنفذ أذنيها والمنفذ الآخر وهو المقصود الأعظم من المرأة. ويقول رئيس الأمن: لكن هذه الجارية يا سيدي الإمام لا يقل ثمنها عن تسعين ألف دينار، وخزانة الدولة خاوية والديون الخارجية ... وقاطعه الإمام مناديا على حارس الخزانة، وقال الحارس: إن الخزانة عامرة بإذن الله. وتساءل عن بند الصرف. وقال الإمام: ما هي بنودك الخاوية؟ قال: جميع البنود خاوية فيما عدا بند العشق، لكن العشق يا سيدنا الإمام مجهول لا يعرف، ومعروف لا يجهل. هزله جد، وجده هزل، والله أعلم. وصاح الإمام مناديا على الكاتب الكبير، وقال له: ما هو تعريف العشق في علم التراث؟ قال الكاتب الكبير: العشق تحريك الساكن، وتسكين المتحرك. ليس بمنكر في الدين، ولا بمحظور في الشريعة. وهو دواء لكل داء. مقام مستلذ، علة مشتهاة. لا يلذ سليمها البرء، ولا يتمنى الإفاقة. يزين للرجل ما كان يأنفه. يحيل الطبائع المركبة. يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته. كامن في الصدور كمون النار في الحجر. إن قدحته أورى، وإن تركته توارى. إن لم يكن طرفا من العبادة فهو عصارة الإيمان، ورمق الإمام كاتبه الكبير منبهرا باتساع ثقافته وإلمامه بالتراث. دخل المعارض الشرعي صامتا على غير عادته يخفي وجهه في الأرض منتظرا دوره لإبداء الرأي الآخر. وجاء عليه الدور آخر الجلسة، فقال: العشق يا سيدنا الإمام بخار رديء يرتفع إلى الدماغ عن مني محتقن بعد عشوة دسمة ملوثة بالإشعاع، وهو تلبيس إبليس، يورث نحافة البدن وانقطاع النفس ونبض القلب غير المنتظم، يترك الرجل منا في العالم السفلي وعدواه قاتلة. أوله لعب، وآخره عطب. وما بعث الله نبيا إلا وتخوف عليه من فتنة النساء، وإذا قام ذكر الرجل ذهب نصف عقله. وقيام الذكر بلية غالية، إذا هاج لا يقاومه عقل ولا دين ، وهو حرب يحتاج إلى كر وفر، وإقدام وإدبار، والمرأة تأتي في صورة ملاك، وتدبر في صورة شيطان، وتسحر الرجل جروا أو خروفا يزحف على بطنه، ولا يطأ الرجل معشوقته إلا وتقول قتلتني، وصاح الإمام منفعلا: اقتلها وعلي إثمها. وقال المعارض الشرعي: وهل في الخزانة ما يكفي لي ولك يا سيدنا الإمام؟ وظل حارس الخزانة صامتا، وقال رئيس الأمن: وأنا يا سيدنا الإمام، أليس لي نصيب من العشق؟ ولمعت عينا الكاتب الكبير وهو يرمق الجميع. وقال حارس الخزانة بعد صمت طويل: ليس في الخزانة إلا ما يكفي الإمام، ورجلا واحدا آخر يختاره الإمام. وتوقع حارس الخزانة أن يختاره الإمام، وقال: لا يمر الماء على عطشان. ونظر الإمام متحيرا إلى الأعمدة الأربعة، يقوم عليهم حكمه لا يملك إغضاب واحد منهم، وفي يد رئيس الأمن حياته، والخزانة في يد الحارس، والديمقراطية في يد المعارض الشرعي، والتراث في يد الكاتب الكبير. وانتهى الأمر بأن تنازل الأربعة عن نصيبهم للإمام؛ فهو يستحق زينة الحياة الدنيا، وله من الجواري ما يشاء، وفي الآخرة له سبع وسبعون حورية، وليس لأحد أن يتساوى معه في الحقوق، وفيما عدا الإمام فنحن جميعا أمام القانون سواء، ومن حدث في أمرنا ما ليس فيه فهو بدعة وتلبيس إبليس.
وحمل رئيس الأمن التسعين ألف دينار، وخرج إلى السوق يبحث ويوصي السماسرة، وأصدر الأمر بألا تباع جارية يزيد ثمنها عن تسعين ألف دينار دون أن تعرض عليه للفحص. ولم تكن حركة السوق نشطة بعد الهزيمة في الحرب، وهاجرت الجواري والبنات إلى بلاد الله الواسعة، ودار رئيس الأمن يفتش البيوت وفي يده كشافات الضوء، ومن خلفه الحراس وكلاب الصيد، ولم يعثر على عذراء واحدة تنطبق عليها الأوصاف، وكاد يستدير عائدا خاوي الوفاض لولا أنه لمحها تجري بخطوات سريعة كالغزال ومن خلفها كلبها، فانطلق وراءها يجري ومن ورائه الحراس والكلاب. لم يرها إلا من ظهرها وهي تركض رشيقة القد، ممشوقة الظهر، نحيلة الخصر، ملفوفة الجسم، وانطبقت صورتها من الظهر على المقدس والخيال والتراث، ورفع يديه إلى السماء شكر الله، ولم يكن لها أن تفلت من قضاء الله. •••
رآها الإمام تدخل عليه وكان لا يزال في الفراش، وزوجته الأخيرة تحت وهو ينخر في الجماع، فطلقها وهي تحته محركا شفتيه هامسا: طالق ثلاث مرات. وارتدى سرواله الجديد، ودخلت إليه ممشوقة الظهر، مرفوعة الرأس، ومن خلفها كلبها مرزوق. ورفع الكلب عينيه إلى وجهه، وتذكره على الفور رغم مرور السنين، ولم تكن الكلاب تنسى التاريخ أو التراث.
وراح مرزوق ينبح ويشده من سرواله بحركة بدت كأنما هي إعادة التاريخ، ولم يكن للكلاب أن تعيد التاريخ، فأمسكه رئيس الأمن من عنقه وربط قدميه ويديه بالسلاسل، وفي سكون الليل بعد أن نام الهواء أطلق عليه الرصاص دون صوت، وكانت هي قد أصبحت بين ذراعي الإمام، وليلة واحدة في عمرها باقية هي ليلة العيد واكتمال البدر. تمددت تحت الضوء الأبيض عارية كما ولدتها أمها. رأت وجه أمها في الضوء شاحبا أبيض، فقالت: إما أن أعيش أو أن أكون فداء لبنات الوطن، وسببا لخلاصهن من بين يديه. •••
من ثقب الباب تعجب رئيس الأمن غاية العجب حين رآها ترشه بكوز فيه ماء، وقالت: اخرج من هذه الصورة إلى صورة خروف. فصار في الحال خروفا يمأمئ طول الليل. وقبل شروق الشمس أمسكت الكوز وتكلمت فيه ورشته بالماء، وهي تقول: اخرج من هذه الصورة إلى صورتك الأولى. فعاد إلى صورته القديمة وله وجه الإمام.
وارتعد رئيس الأمن وهو ينظر من ثقب الباب. إنها قادرة على السحر كالنساء في كتب التراث، وتعجب غاية العجب كيف تقدر الجارية على أن تخرج الإمام من صورته الأولى، وتجعله من ذوات الأربع، ولا يستطيع هو أن يغير من صورتها شيئا، وضرب كفا بكف وقال: لعلها إرادة الله سبحانه يضع سره في أضعف خلقه. واستغفر الله وقال: إنها إرادة الشيطان؛ لأن الله مع الإمام، ولا يمكن أن يرضى الله بهذا. واستغفر الله مرة أخرى، وقال: إرادة الله فوق إرادة الشيطان، ولا يمكن للشيطان أن يفعل شيئا دون إرادة الله. وهنا أطبق شفتيه وسكت كأنما إلى الأبد، وظل ينظر من ثقب الباب.
بنت الله مع الإمام
ليلة العيد والفرح لم يكن هو اختياري. ساقوني إليه في يدي سلسلة، ومن حولي ثوب أبيض بلون أرواح الملائكة وكفن الموتى، وفي سرير مزركش من الرخام الغالي كقبور الملكات، وجدت نفسي عارية كما ولدتني أمي، وتذكرت، لم أر أمي منذ ولدت، وفي بيت الأطفال كنت أمشي في النوم، أبحث عن وجهها في الظلمة، وفي الحلم أسمع صوت الله كصوت أمي يناديني فأجري إليه أعانقه، أحتمي في صدره من أرواح الجان والشياطين، وأنام الليل والله معي، وأصحو في الصباح ومعي المسيح. أحسه في أعماقي يتحرك بأرجل ناعمة كالقطيفة. أحوطه بذراعي من تحت جدار البطن، وأرفعه إلى أعلى تحت ضوء الشمس ليراه الله والوطن والإمام. أبتسم في الوجوه والوجوه لا تبتسم. تتقلب العيون داخل الجفون، وتسقط الوجوه من فوق الرءوس، وتصبح الرأس حمراء بغير شعر، والوجه يغطيه الشعر، والصوت الناعم الحنون يصبح عواء الذئب يطاردني في النوم، وأنا أمشي في الظلمة أبحث عن أمي، ومن خلفي أسمع الصوت يدوي كصوت الشيطان، وأنا أجري وأقدام كثيرة من ورائي تجري، مائة قدم أو ألف كدبيب جيش لا يكف، مائة يد أو ألف تمتد تضربني من الخلف. وحين أستدير يهربون. يخافون المواجهة وجها لوجه، يخاف الواحد منهم أن يسير وحده، لا يشعر بالقوة إلا وفي يده آلة قتل. يسيرون على شكل صفوف متعرجة، وسيقانهم متعرجة، وعيونهم معوجة. أعرفهم واحدا واحدا، وأعرف وجه رئيسهم ووجوه كلابهم. يرتدي الكلب في النهار وجه الحمل، وفي الليل يرتدي وجه الذئب. يسير الرجال في المقدمة، ومن خلفهم الحراس، ومن خلفهم الكلاب، والقطط أيضا تأتي تكشف عن أنيابها، وتدب فوق الأرض بأقدام صغيرة مليئة باللحم خالية من العظم، عيونها تلمع بالشبق، وبطونها منتفخة يملؤها الحرمان، كالهواء الراكد في الغرف المغلقة.
كنت أجري، ومن بعيد أرى أمي واقفة عند الصخرة، تنتظرني فوق الهضبة بين البحر والنهر، ذارعاها ممدودتان نحوي، وأكاد أصل إليها وأنجو لولا أنني توقفت عند الطلعة أملأ عيني بالمكان، حيث علامة الأمان وحيث ولدت. وأصابوني من الخلف بالطعنة، واستدرت قبل أن أسقط وأنسى الحروف، وقلت: أتقتلون الضحية وتتركون الجاني؟ قالوا: من هو الجاني؟ وأشرت إلى وجهه المعلق فوق عمود طويل ممدود في السماء.
وانكمشت تحت الغطاء كما كنت أفعل في بيت الأطفال. رأيته واقفا أمامي عاريا كما ولدته أمه، وقلت: من أنت؟ قال: أنا الإمام، ألا تعرفين وجهي؟ قلت: لا أعرفك. قال: ألم تري وجهي من قبل؟ قلت: لا أعرفك. قال: ألا تقرئين الصحف؟ ألا ترين الشاشة؟ ألا تنظرين إلى الصورة فوق أقواس النصر؟ ألا تشترين طابع البريد أو ورقة دمغة؟ قلت: ما هي الدمغة؟ قال: ألا تعرفين الدمغة؟ قلت: أول مرة أسمع هذا الاسم. قال: أنت لا تعيشين في هذه الدنيا، ولست واحدة منا. وإذا لم تعرفي الإمام فأنت لا تعرفين الوطن، وإذا لم تعرفي الوطن فأنت لا تعرفين الله. وقال: ألم تسمعي الهتاف «الله الوطن الإمام»؟ قلت: لم أسمعه. وضرب كفا بكف، وتعجب غاية العجب، وقال: أنت في حزب الله أم في حزب الشيطان؟ قلت: لا هذا ولا ذاك. قال: هذا عجيب، هل قرأت كتاب التراث؟ قلت: أنا لا أقرأ. قال: إذا كنت لا تقرئين أفلا تسمعين؟ ألم تسمعي عن حكايات ألف ليلة وليلة والملك شهريار؟ قلت: من هو شهريار؟ قال: ألا تعرفين الملك شهريار الذي خانته زوجته البيضاء كالشهد مع عبد أسود؟ قلت: لا أعرفه. قال: أتعرفين لماذا تفضل الزوجة البيضاء عبدا أسود على زوجها الملك الأبيض؟ قلت: لأنها تحبه أكثر من زوجها. وضرب كفا بكف، وتعجب غاية العجب، وقال: هل يمكن للمرأة أن تحب رجلا أكثر من زوجها؟ قلت: نعم. قال: حتى ولو كان زوجها الملك أو الإمام؟ قلت: نعم. قال: وماذا يكون عند هذا العشيق ولا يكون عند الإمام؟ قلت: الحب. قال مقهقها بصوت كجلاجل طبول العيد، فاردا ذراعيه يحتضن الكون: عندي من الحب ما يكفي جميع الناس، وقلبي يتسع للجميع. قلت: إذا اتسع قلبك للجميع فلا أحد فيه.
كان راقدا على وسادة مزركشة من ريش النعام، مستندا بكوعه الأيمن على الأرض فوق سجادة من العجم عليها صور الكعبة، وفي يده اليسرى كأس الخمر، وكوعه يصنع في الكعبة حفرة عميقة. اهتز الكأس في يده قليلا، وانسكب قليل من الخمر في الحفرة داخل الكعبة, اعتدل قليلا بجسده العاري يغطيه الشعر، وثبت عينيه فوق جسدي العاري الخالي من الشعر، وقال: لماذا لا تركعين بين قدمي؟ قلت: لم أركع في حياتي لأحد. قال: لست أي أحد، وجميع النساء تركع. قلت: ألست أي واحدة. قال: وماذا تكونين أنت؟ قلت: امرأة بلا اسم ولا أب ولا أم، ولا أكتب ولا أقرأ، ولكني لا أحبك، وفي قلبي حب آخر.
وهنا اهتز الكأس في يده، وانسكب الخمر كله مغرقا الحرم والكعبة وقبر الرسول، وانتصب واقفا عاريا والشعر فوق جسده منتصبا، وعظامه أيضا انتصبت حتى النخاع. هاجت شهوته، وعقله ذهب، فلا شيء يلهبه ويأخذ عقله قدر امرأة غير مملوكة له، ولا يطفئ النار إلا أن يمتلكها بين يديه ورجليه، ولا يستبقي منها شيئا حتى اللحم فوق العظم. •••
جان جالسا أمامها يمصمص عظامها، ويكسر العظمة كعود القصب فوق ركبته، يمص النخاع وهي أمامه ترقبه كما ترقب خروف العيد. يدخل دكان الجزار وعيناه غائرتان في الوجه حتى العظام، ولا شيء يملؤهما إلا الخوف، لا يشبع مهما أكل، ومهما أمن لا يأمن. وهي تناول العظمة وراء العظمة، ولوحة الكتف والإلية والطحال، امتلأت معدته حتى الحافة، وانتفخت كقربة من جلد الماعز، وهي تناوله لا تكف، حتى سمعت صوت الانفجار، ورأت وجهه يسقط إلى الأرض، وعيناه تتسعان بالدهشة، لا يكاد يصدق، وقالت: أوله لعب، وآخره عطب. وانطلقت كالغزال تركض ومن خلفها كلبها.
الإفاقة بعد النشوية
في ظلمة الليل امتدت يدي اليمنى إليها، فأمسكت يدي بأسنانها كأسنان القطة. ناديتها قطتي الصغيرة باسم زوجتي القديمة كاتي. هربت مع الحب القديم وراء البحار، وتركتني وحدي في العالم الآخر. قالت: لست قطتك الصغيرة. قال: إذا لم تكوني قطتي فأنت من فصيلة النمور. وضغطت بأسنانها على يدي حتى قطعت اليد عن الذراع. لم يخل القطع رغم القسوة من لذة. ومددت لها يدي الثانية، أمسكتها بأسنانها وقطعتها. قلت: ليس الأمر بهزل. مددت لها ساقي اليمنى فأمسكتها، وفعلت بها ما فعلته باليد اليمنى واليسرى، وفتحت عيني وأنا راقد وجهي ناحية الأرض، ورأيتها واقفة أمامي. عرفتها على الفور. الوجه الشاحب النحيل، والعينان السوداوان تتسعان لجرائم العالم، وقلت: أنت بنت الله، أتتنكرين بوجه آخر وجسد آخر؟ ولم تفتح شفتيها، وظلت واقعة أمامي صامتة. قلت لنفسي إذا ظلت صامتة فهي تفكر أكثر مما تضي به الشريعة؛ فالمرأة خلقت من ضلع أعوج ناقصة العقل والدين. وحاولت الاقتراب منها أتأكد من ملامحها، واكتشفت أن لي ساقا واحدة، وأنني لا أسير فوق الأرض، وبدأت أزحف فوق بطني وهي واقفة لا شيء فيها يتحرك. قلت لنفسي إنها ساحرة رشتني بكوز الماء وأنا نائم، وأصبحت خروفا أو سحلية. لم يكن لها وجه الساحرات، وفي عينيها بريق أسود كعيون الشياطين وأرواح الجان. قرأت آية الكرسي لأطردها لكنها لم تذهب، واقفة في مكانها كالصخرة، شفتاها مطبقتان في صمت داخل الصمت، ويدوي الصمت في أذني كزلزال الموت، وأمد يدي نحوها لتمسكني فتختفي ذراعي، وأمد لها ساقي فيختفي الساق ومعه الجسد ومعه شهوات الدنيا، وأقول: امسكي يدي يا ابنتي وقد شبعت من الدنيا حتى الزهد، ولا أريد منك شيئا إلا الاعتراف أنني أبوك. •••
اتسعت عيناي بالدهشة، وقلت: ولدتني أمي بغير أب. قال: لا يولد ولد أو بنت بغير أب، وأنا أبوك الإمام. قلت: أنا لا أعرفك، ولم أر وجهك إلا الآن، وأبي هو الله، وأنا بنت الله. قال: اخرسي، قطع لسانك، سبحانه لم يلد ولم يولد. صوته كالنائم لا يطلع، ويلوح في الهواء بذراعين غير مرئيتين وصوت غير مسموع. يقول: شبعت من شهوات الدنيا ولم تبق إلا شهوة واحدة، وهي أن أفتح رأس هذه المرأة وأسحق عقلها لتصبح امرأة مثل كل النساء المثاليات؛ جسد غير مرئي لا يحتوي إلا الرحم. وكان لا يزال يرى صورته الأولى في المرآة، قبل أن تسحره خروفا للعيد، وصوته لا زال يدوي في أذنيه وهو يلقي الخطبة، وصواريخ العيد تفرقع، ومن حوله الرجال والأعوان، وحزب الله يرقص، وحزب الشيطان يهتف. ويحرك رأسه من السماء إلى الأرض محولا عينيه عن السماء؛ فالله معه، والشيطان معه، وهو لم يعد يخشى من معه. وتمر عيناه دون توقف على وجوههم جميعا، وكل منهم يدفع الآخر بكوعه إلى الوراء ويحتل مكانه في الصف الأمامي. يحرك رأسه بعيدا عنهم، وعيناه تبحثان عن الوجه الشاحب، والعينان بلون سواد الليل. من يكون؟ من تكون؟ رجل أو امرأة؟ إنس أو جن؟ وأغمض عينيه لينام مرة أخرى، وأدرك أنه كان نائما من قبل، وأن نومه عميق أعمق من نوم السحالف، ولا شيء يوقظه، لا دوي الرصاص ولا الصواريخ.
الكاتب الكبير
في الصف الأول وأنا واقف تحت الضوء إلى جوار الإمام، والهتاف يدوي في أذني، وصواريخ العيد تفرقع، لم يكن يفصلني عن مقعد العرش إلا جسد رئيس الأمن عن يميني، وجسد المعارض الشرعي عن يساري، وأنا واقف بينهما كنقطة الوسط بين حبلين مشدودين. إذا ارتخى اليمين ملت برأسي إلى اليسار، وإذا اشتد اليسار أرخيت عنقي وملت بجسدي إلى اليمين. وأنا واقف مرفوع الظهر أرتدي بدلة العيد بلون البن المحروق من الصوف المستورد، دليل ولائي لليمين، وربطة عنق حمراء دليل تعاطفي مع اليسار، وفي يدي القلم أمسكه كالعصا من المنتصف، وأثبت قدمي في مركز فوق الأرض بين حزب الله وحزب الشيطان، وأظل واقفا في نقطة التعادل فوق قدم واحدة، أثبتها لا أحركها، ومهما اهتزت الأرض لا أحركها؛ فالرجل منا إذا وضع قدمه في الصف الأول لا يتركه، وإن سقطت السماء على الأرض أو سقط وجه الإمام من فوق رأسه إلى تحت المقعد؛ فالأقدام كثيرة، والمكان ضيق، وما إن يحرك الواحد منا قدمه حتى تحتل مكانه قدم أخرى، وكل قدم تدفع القدم أمامها في كعبها، وكل كوع ينغرس في البطن خلفه كالمسمار، وأنا واقف في مكاني لا أتحرك، ورأسي متوازن مع جسدي، وجسدي في وضع عمودي مع الأرض، ووجهي ناحية الإمام، والإمام وجهه الناحية الأخرى. لا ينظر إلي، وأنا أنظر إليه. وكان الوضع معكوسا في المدرسة وهو جالس إلى جواري في الفصل، ينظر إلي وأنا أنظر إلى الناحية الأخرى، وكان ترتيبي الأول وهو من خلفي، وإذا مشيت يسير ورائي. سبحانك مغير الأحوال. جعلته يسير أمامي، واللهم لا اعتراض على البلاء، ولا يحمد على مكروه سواك، وإن كنت أومن يا رب أنك لا تخلق إلا الخير، والشيطان يخلق الشر. أستغفرك يا رب. فالشيطان ليس خالقا، والخالق هو أنت لا شريك لك، لكن لماذا يا رب تضع سرك في أضعف خلقك، وتعطي الحكم لمن لا يفكر، وتعطي الفكر لمن لا يحكم؟ وهذا هو البلاء، والبلاء شر. إذا جاء من عند الله فهو امتحان، وعلينا القبول والطاعة. وتذكر كلام الله
ونبلوكم بالشر والخير فتنة . وإذا جاء الشر من عند الشيطان وجبت المقاومة والعصيان، لكن كيف نعرف من أين يأتينا البلاء، من عند الله أم من عند الشيطان؟ اللهم لا اعتراض، ولا أحد سواك يجعل البلاء خيرا، والخير بلاء. سبحانك مغير الأحوال. وكنت أنا بالأمس قوي الجسد ضعيف الروح، وأصبحت بعد النضوج ضعيف الجسد وروحي صعدت إلى السماء. ولم تعد زوجتي الشرعية الأخيرة تقرأ ما أكتب. ترفض قانون الطاعة والشريعة وتجادلني في المقدسات. تضع رأسها برأسي وعقلها بعقلي. وهذه بدعة لم أعرفها مع زوجاتي القديمات الشرعيات وغير الشرعيات المستديمات منهن والمؤقتات. لم يكن صوت الواحدة منهن يعلو على صوتي، وإذا ضحكت تضع يدها على فمها وتستغفر الله، وإذا ضربتها حسب الشريعة للتأديب لا تعرف الشكوى، وإذا تسللت من فراشها إلى عشيقتي تتظاهر بالنوم، وإذا كانت نائمة أصلا غابت في نوم أعمق، لكن هذه الزوجة الأخيرة تفتح عينها وهي نائمة، وسواد عينيها أسود بلون وجه الشيطان، وتضحك بصوت عال أعلى من صوتي، وتلقي برأسها إلى الوراء بحركة لم أصل إليها بعد، وتقهقه بكل رئتيها طاردة الهواء من صدرها وبطنها، ويرن صوتها في أذني أكثر انطلاقا من صوتي حين أقهقه، وأدرك أن في أعماقي هواء مكبوتا منذ الطفولة أحاول أن أطرده دون جدوى، وصوتها وهي تضحك وتقهقه يثير في الغيرة أكثر مما يثير الشهوة، وأتركها فوق السرير عارية وأجري إلى عشيقتي. تحاول أن توقظ ذكورتي دون جدوى بالخضوع والاستماتة وهي تحتي، وتقول لي إنها الشيخوخة وقوة الروح، أو موات الجسد ويقظة العقل. وأعارضها وأقول بل هو غياب الدين والأخلاق وخلع النساء برقع الحياء. وتطلق بأنفها صوتا كحشرجة الشخير أول النوم، وتستدير فيصبح ظهرها ناحيتي ووجهها ناحية السماء. أرتدي سروالي وأعود إلى زوجتي فلا أجدها في الفراش، وأرقد وحدي أحملق في السقف، وأرى وجه أبي معلقا داخل البرواز فوق الجدار. وجه مستدير مليء باللحم مشرب بالدم والحياة كوجهي، وأنفه مستقيم عاقل يشبه أنفي، يؤكد دون شك أبوته لي وإخلاص أمي له. رأسه متزن مع جسمه في وضع عمودي كرأسي دون انحراف إلى اليسار أو اليمين. خير الأمور الوسط يا ابني. لكنه لم يعرف الوسط مع أمي، يضربها بالنهار وفي الليل تضربه. أسمعها تئن طول اليوم، وفي ظلمة الليل أسمعه يئن، ويقول: يا ابني، الرجل منا مع المرأة ضارب أو مضروب، عابد أو معبود، ولا وسط بينهما. وتقول أمي: يا ابني، المرأة منا مع الرجل إما زوجة محترمة غير مرغوبة، أو عشيقة مرغوبة غير محترمة، ولا وسط بينهما. وتطفو فوق وجهها سحابة رمادية بلون الشبورة، وتنام ووجهها للحائط، وأبي ينام ووجهه ينام ناحية الله في السقف، وأنا بينهما فوق السرير العريض أتكور حول نفسي كالجنين، وأسمع صوت أبي يقرأ كتاب الله قبل أن ينام، ويردد آية الكرسي ثلاث مرات يطرد الشياطين وأرواح الجان. وإذا غلبه النوم مد يده تحت الوسادة ووضع كتاب الله إلى جوار المسدس، هدية من العيد من أبيه وهو طفل، يتحسسه بأطراف أصابعه وهو نائم إذا سمع نباح الكلب. وإذا تحركت غدة الشيطان تحت سرواله وهو نائم مد إليه يده اليمنى، ويده اليسرى تمتد إلى أمي من تحت الملابس، وتلمح أمي طرف المسدس من تحت الوسادة فتخلع ملابسها وهي تستغفر الله، وتستعيذ بالله من الشيطان والإثم، وتتوضأ خمس مرات بالماء والصابون، وتصلي لله سبع ركعات قبل أن تنام، وتلف رأسها بالحجاب وتغمض عينها وتروح في النوم كالملائكة الأطهار. وأغيب أنا في نوم عميق كالأطفال، لا أسمع ولا أرى إلا الأشباح وأرواح الجان، ويغمرني الخوف من كل جانب كالهواء البارد، وأثبت جسدي في منتصف السرير لا أتحرك إلى اليمين أو إلى اليسار، وأبتعد عن جسد أبي وجسد أمي، أخافهما، هما الاثنان، ومع الخوف تتسرب الكراهية إلى جسدي تحت الغطاء في الهواء. ومهما عانقتني أمي أبتعد، ومهما أحبني أبي لا أحبه. وكان أبي شيخ طريقة يكتب للنساء الأحجبة في الغرفة المظلمة. مهنة فرضها عليه أبوه ليحقق في عالم الدين ما لم يحققه في مزرعة الأرانب والفراخ. يعلق في رقاب النسوة كلام الله داخل حجاب تتدلى منه خرزة زرقاء. يدخل إلينا باللحم والخضار، وفي جيوبه القروش تفوح بعرق النساء. وأغلق الباب على نفسي أذاكر دروسي، ويوم الامتحان أتذكر الصلاة، أسجد لله ثلاث ركعات وأطلب منه النجاح، يسمع الله دعائي وأنجح العام وراء العام. •••
كنت أعيش النجاح لا أعرف الفشل ولا الهزيمة. يتساقط الكاتب وراء الكاتب وأنا في مكاني إلى جوار الإمام ثابت. لا أكف عن الكتابة ولا أقرأ ما أكتبه، وأنظر إلى صورتي داخل البرواز. والنهار أقضيه كمساحة من العمر بين الحلم والحلم، والليل طبقات من النوم أقضيها في السهر مع الإمام، نشرب نخب الصداقة القديمة، ونتسلل في الظلمة معا إلى بيت السعادة. وفي الحفلات والأعياد أقف إلى جواره أسمعه وهو يتهته تحت الشمس، وعين السماء مفتوحة بألوان الطيف والناس تهتف، وأدرك أن في الكون إرادة فوق إرادة الشيطان تدفعني إلى دخول حزب الله والهتاف مع الناس، وأتلفت حولي وأنا واقف تحت الضوء أبحث في الكون عن هذه الإرادة فوق إرادتي. لا أعرف من أين تأتي؛ فهي تأتي من مكان خارج كياني، من قبة السماء أو من بطن الأرض، من الشوارع أو الأزقة والحواري، من البيوت كالقبور ومن فوقها الدخان، من عيون الناس المكسورة، من وجوه الأطفال يغطيها الذباب، من العلم المرفوع يوم الهزيمة، من صواريخ العيد تدوي في أذني كطلقات الرصاص، وأنا واقف إلى جوار الإمام وقدمي فوق الأرض ثابتة لا أحركها. أخشى إن حركتها أن يضيع مكاني. وأرى عين السماء فوق الرءوس ترعاها. وحين سقط وجه الإمام من السماء إلى الأرض تظل السماء كما كانت، والهتاف يدوي وصواريخ العيد تفرقع، وأنا راقد إلى جواره أخفي وجهه في الأرض كأنما لم أر شيئا، وكأنما الإمام الجديد ليس هو القديم؛ فالوجه هو الوجه ولم يتغير إلا الجسد، وهو إلى جواري راقد، وأمام عيني سحابة شفافة كالضباب، وذرات تراب تدخل أنفي، ورأسي لم يعد متوازنا مع جسدي، وجسدي لم يعد في وضع عمودي مع رأسي، وقدمي دفعتها قدم أخرى واحتلت مكاني. عيناي تتحركان من تحت الجفون المغلقة ناحية اليمين واليسار، ولا أثر لأحد من حزب الله أو حزب الشيطان، وجسد الإمام أيضا اختفى، وأنا راقد وحدي تحت عين السماء، وملمس الأرض تحت صدري بارد، وصوت أبي يدوي في أذني كصوت الإمام، وأنا أمد إليه بصري لكن بصره ممدود إلى الناحية الأخرى، ويسري الفشل في عروقي كالدم البارد، وأغمض عيني في راحة أبدية. أستنشق التراب على مهل لا أتعجل الموت، وفي عنقي مفتاح الجنة لا أتعجل السعادة أو الفردوس، وفي خيالي سبع وسبعون حورية شقراء وسمراء لا أعرف كيف أختار، وفي حلقي يسري الموت بطيئا لا يخلو من اللذة، أرشفه على مهل رشفة رشفة كالخمر. أوله مر، وآخره حلو. وأضحك بصوت عال وأقهقه طاردا الهواء من صدري وبطني، ويرن صوتي في أذني أكثر انطلاقا من صوت زوجتي الأخيرة. لم يعد في أعماقي هواء مكبوت منذ الطفولة، ولا شيء يثير في الغيرة أو الشهوة. شبعت من شهوات الدنيا حتى الزهد، ولم يبق على وجهي إلا بسمة الملاك. •••
حملوه في الصندوق المزركش إلى زوجته الأخيرة، وعلى ظهر الصندوق اسمه بالبنط العريض، وصورة داخل برواز يبتسم فيها كالفتاة العذراء. وظلت هذه الابتسامة في ذاكرة الزوجة الأخيرة تكشف لها عن أعماق زوجها الحزينة، وعن ظهر قلب حفظتها كدليل مادي على أنه قادر على الحزن. لم تكن تسمعه إلا وهو يضحك ويقهقه، وجمعهما الحزن وهو غائب كالحب. كان يغيب العام وراء العام وهي تذكره. وفي كل لقاء تحوطه بذراعيها فينزلق من بينهما كالسمكة. تحاول الإمساك به دون جدوى. تخرج يدها من البحر خاوية ولا ترى منه إلا الصورة داخل البرواز، وحروفه المطبوعة فوق الصحيفة لا تقرؤها ولا هو يقرؤها، ولا أحد يقرؤها إلا الإمام. وفي الليل تراه راقدا مفتوح العين يرمق أنف الطفل النائم بعيون يملؤها الشك. الأنف ليس أنفه ولا أنف أبيه ولا جده. يمسك أنف الطفل بين أصابعه كمن يقبض على دليل الخيانة. يفتح الطفل في الظلمة عينين واسعتين تتسعان لخوف العالم، يغمضهما على الفور حين يرى عين أبيه حمراء كعين الشيطان. وسمع أباه يسأل أمه: ابن من هذا؟ قالت أمه: ابن الحب. وأدرك وهو طفل أنه ليس ابن أبيه. أغمض عينيه ونام في سعادة حتى الصباح.
دليل البراءة
كان واقفا ممشوق الظهر رأسه في السماء تحت الشمس، فوق جبينه علامة الإيمان، وفوق صدره نجمة النصر، وفي أذنه يدوي الهتاف «الله معك». يهتز رأسه من شدة الدوي، ويرتخي وجهه، وينحني ليسقط بين قدميه وهو يخطب، وعن يمينه رئيس الأمن، وعن يساره المعارض الشرعي وكاتبه الكبير، وصواريخ العيد تفرقع. رأسه لم يعد عاليا تحت الشمس، ووجهه يتجه ناحية الأرض وذرات التراب تدخل أنفه، ورئيس الأمن ينظر إليه في صمت كأنما لم يحدث شيء. يفتح فمه ليسأل قبل أن ينسى السؤال: إيه جرى في الكون؟ ويفتح رئيس الأمن فمه ليرد: ولا حاجة يا فندم كله تمام والله معك. ويرتج جسده بالغضب. معي إيه يا أعمى ألا ترى؟ ويشد رئيس الأمن جفنيه ليفتح عينيه ويشد النني من داخل العين، وينظر حواليه في الظلمة يلمحها تجري كالغزال، ويضم عضلات شفتيه مطلقا زمارة الخطر. تنشق الأرض عنهم جميعا من حزب الله وحزب الشيطان. يأتون من جميع الأركان يتدافعون بالمناكب ويتراشقون بالاتهامات، ومن خلفهم كلابهم تنبح، وأمامهم رئيس الأمن يجري وفي يده الكشافات، وهم من خلفه يجرون. لا يعرفون لماذا يجرون، لكن الأمر صدر، وحين يصدر الأمر فلا سؤال ولا جدال؛ فالجدل بدعة أجنبية لم ترد في التراث، ومن أحدث في أمرنا ما ليس في التراث فهو فتنة، والفتنة أشد من القتل، ولا يجادل في ذلك إلا كافر بالله خائن للوطن والإمام. وإذا صدرت الخيانة من الأنثى فهي تزيد عن الكفر وخيانة الوطن إلى الفاحشة وفقدان الشرف. والشرف عندنا هو الأرض، والأرض هي العرض، ولا شيء أثمن عندنا من امتلاك أجساد نسائنا، فلا يتسرب الشك إلى قلوب الرجال في النسب. تظل الأبوة معلومة باليقين، ويتم الفصل بين الطفل الشرعي والآخرين المجهولي الأب. ولا يجوز لطفل أن يكون ابن أبيه إلا باعتراف أبيه، وإذا أنكر الأب ابنه فليس للابن حق إلا الصلاة والصوم والتكفير عن الذنب. وذنب البنت ضعف ذنب الولد، وفي غير ذلك من الحقوق يكون للبنت نصف حقوق الولد. •••
أقدامهم من خلفها تدب بأحذية حديدية، وأنفاسهم تلهث، ومن خلفهم كلابهم تلهث. وهي تجري لا تعرف لماذا تجري، والظلمة داكنة. وفي الضوء البعيد ترى أمها واقفة تنتظرها وصوتها يناديها: بنت الله، تعالي. ذراعاها ممدودتان نحوها لا يفصلها عنها إلا ثلاث خطوات. قفزت الخطوة الأولى والثانية، ولم تبق إلا الأخيرة. وتوقفت عند منعطف الطلعة بين البحر والنهر، تملأ صدرها برائحة المكان حيث ولدت وحيث تموت. أصابتها الطعنة من الظهر، وقبل أن تسقط وتنسى الحروف استدارت وقالت: ما هي جريمتي وأنا عذراء لم يمسسني بشر؟ قالوا: الأنثى إذا ماتت وهي عذراء تدخل الجنة، ولن نرسلك إلى العالم الآخر إلا وأنت غير عذراء. •••
مسح رئيس الأمن العرق وهو يلهث بمنديل حريري من أجود الأنواع، ومسح الطابور من خلفه العرق بمناديل أقل جودة. كلابهم من خلفهم مسحت العرق بكفوفها السمراء المشققة دون مناديل. دوت أصوات السلاسل تجلجل بصوت عال كدوي الهتاف في عيد النصر وجلاجل الضحك في يوم الزفاف، وهي بين السلاسل تزحف كخروف العيد، وعين السماء حمراء تحت الشمس، والملائكة في الأثواب البيضاء تصفق . حزب الله على الدفة يضرب، وحزب الشيطان على الدفة يرقص. وهي مربوطة في الأرض. ذراعاها مفتوحتان، وقدماها مشدودتان؛ قدم إلى أقصى اليمين، والقدم الأخرى إلى أقصى اليسار، وفي نقطة الوسط حيث علامة الشيطان يقذفون الحجر وراء الحجر. وهي في مكانها ثابتة لا تتحرك. وجهها نحيل شاحب، وعيناها واسعتان تتسعان لثبات العالم، والنني أسود بلون الليل، وعقلها صاف كماء النهر.
في الغرفة المظلمة في بطن الأرض ظلت عيناها مفتوحتين لا تكفان عن الرؤية، وذاكرتها واعية لا تفقد الوعي. وجه أمها كوجه الله لا يغيب، وصوتها الناعم في أذنها ينادي: بنت الله، تعالي. ترفع عينيها إلى السماء، ويختفي وجه الله بين السحب، ويظهر وجه الشيطان، مليء بالشعر، وجلدة الرأس حمراء تحت الشمس. وتسمع صوت رئيس الأمن يقول: ما اسمك؟ قالت: اسمي بنت الله. قال: اسمك في حد ذاته جريمة كفر. من أعطاك هذا الاسم؟ قالت: كانوا ينادوني في بيت الأطفال بنت الله، وكانت لي اخت اسمها نعمة الله ماتت وهي طفلة، وكان لي أخ اسمه فضل الله مات فداء الوطن، فهل لك أخت ماتت وهي طفلة أو أخ مات في الحرب؟ قال: ما اسم أخيك بالضبط؟ قالت: اسمه فضل الله. هز رأسه ومسحه بالمنديل الحرير مرتين، واستعاذ بالله ثلاث مرات، وقال: أنا أعرفه، وله عندي صورة في الملف، وليس له اسم في حزب الله أو حزب الشيطان، وهذا دليل على أنه ليس واحدا منا، ومن ليس منا فهو تلبيس إبليس. قالت: مات أخي فداء الوطن، وحاربت معه في خندق واحد، ورأيته بعيني وهو يحارب الأعداء. قال: ماذا قلت؟ كنت معه في خندق واحد؟ قالت: نعم. قال: أنتما الاثنان فقط؟ قالت: نعم. قال: إنها جريمة أخرى، لا يجتمع رجل وامرأة في خلوة غير شرعية إلا والشيطان ثالثهما. قالت: إنه أخي. قال: أنت أخته في الرضاع، وحبكما حرام. قالت: لم يكن لنا أم ولا مرضعة، وشربنا لبن الجاموسة معا في بيت الأطفال. قال: جاموسة أو امرأة سيان؛ فهي ترضع ولها أثداء، وهو أخوك في الرضاع بأمر الإمام، وعقابك الرجم حتى الموت. قالت: أنا بريئة عذراء ولم يمسسني أحد. قال: سنكشف عليك لنرى دليل العذرية؛ فلا براءة بغير دليل مادي.
القاضي
في الغرفة المظلمة في بطن الأرض رأيت وجه القاضي تحت الضوء. عرفته على الفور، وقلت قبل أن يختفي الضوء: أنت الإمام. قال: أنا القاضي ولست الإمام. قلت: أيكون القاضي هو الجاني؟ قال: أنا الذي أسألك، وأنت ليس لك حق السؤال. وانطفأ الضوء الأخير، وأصبح الليل أسود. عيناي أفتحهما وأغلقهما سيان. السواد هو السواد. والهواء بارد كالبحر الأسود، وصوته في أذني ثقيل الكثافة كالذهب السائل، وهو واقف أمامي يرتدي وشاحا أسود فوق اللحم، ورأسه يلمع بغير شعر، ووجهه يغطيه الشعر، وعيناه غائرتان حتى القاع. قال: ألا تعرفين وجهي؟ قلت: نعم أعرفه، إنه وجه الإمام. قال: أنا لست الإمام، أنا القاضي، ألا تعرفين القاضي؟ قلت: لا أعرفه، لم أر في حياتي قاضيا. قال: ألم تري وجهي في الصحف أبدا؟ قلت: لا أشتري الصحف. قال: ولماذا لا تشترين الصحف؟ قلت: ثمن الصحيفة يطعمني الخبز ثلاثة أيام. قال: هل يعيش الإنسان المتحضر بالخبز فقط؟ ألا تهتمين بالثقافة؟ هل أنت جاموسة أم امرأة؟ قلت: ثمن الجاموسة أغلى من ثمن المرأة، ويملك الرجل جاموسة واحدة وأربع زوجات، ولم يكن لي أم ترضعني، أرضعتني الجاموسة في بيت الأطفال، وكان لي أخت ماتت وهي طفلة، وأخ مات في الحرب، فهل ماتت لك أخت وهي طفلة؟ وهل مات لك أخ وهو يقاتل؟ قال: مات الإمام وهو يقاتل، ومات الرسول وهو يقاتل، ومات المسيح وهو يقاتل. وأنا القاضي أقاتل مثل الأنبياء، جعلني الإمام قاضيا في الدورة الأخيرة، وأمرني أن أوضح للناس ما علمني إياه منذ صباي، والنفس البشرية لها أربع دورات؛ منها من تعشق الضلال والكفر مثل نمرود وسفروت وعازوراء الذي قاد الكفر في عهد النبي. وقد رأيت الله في المنام قبل أن يراه أحد من حزب الشيطان، وشاهدت الرسول في ليلة الوضوح قبل العيد الكبير، ورأيت جميع الرسائل ابتداء من آدم إلى نوح ويوسف وهارون وداود وسليمان وزكريا وعيسى وموسى، ووقفت بين يدي الرسول مرفوع الرأس أنكمش في تواضع داخل ذاتي، ويأتي جبريل عليه السلام على شكل الملاك الطاهر، فيحملني على جناحيه إلى ممتد المشاهدة، وأغمض عيني ثم أردهما فإذا بي في الملكوت الأعلى وهو سدرة المنتهى، وأسمع صوت الله يناديني: يا قاضي القضاة، الآن أكشف عنك غطاءك ليكون بصرك حديدا، ووجهك جديدا، وذاتك جديدة. وتنكشف ذاكرتي تماما، وأدرك أنني ذات الإمام أو الإمام ذاته في دورات سابقة، والله أعطاني أسرار الكون والعلوم والطب؛ فأنا أعرف الداء وأصف الدواء، وأعرف الصادق من الكاذب، وأعرف صوت الله من صوت الشيطان، وأعرف المرأة الحامل من غير الحامل، وأعرف العذراء من غير العذراء، وأعرف نوع الجنين قبل أن يولد، وأعرف الأب الشرعي من غير الشرعي، وأداوي النساء من آلام الطمث أو الحرمان أو الشبق الزائد عن الحدود المشروعة، وأعطي كل امرأة من الأسرار بقدر ما تعطيني من خير وما تتصدق به لوجه الله، ولا يضيع أجر من تدفع بسخاء، وإذا أعطيت مما أعطاك الله فسوف أقول لك إذا كنت عذراء أو غير عذراء، وإذا كان الجنين في بطنك ذكرا أو أنثى، وإذا كان ابن حلال أو ابن حرام.
انسحب الدم من وجهها الشاحب، وقالت: أقسم لك أنني عذراء لم يمسسني رجل، وإذا وجدت في بطني جنينا فلا بد أنه المسيح، وقد زارني الله في الحلم عدة مرات. قال: اخرسي، قطع لسانك، اخلعي ملابسك لأفحصك؛ فأنا الذي أعرف إن كان لمسك أحد من الإنس أو الجن، وهناك أرواح من الجان تقترن بنساء من البشر في ظلمة الليل، فاخلعي ملابسك ولا تخافي.
ارتعد جسدها وخلعت ملابسها وأسنانها تصطك، ورقدت فوق المنضدة تحت يده الكبيرة، تصنع فوق الجدار ظلا أسود من خمسة أصابع.
وامتدت يدان طويلتان غير مرئيتين، وربطت ذراعيها وساقيها في الأعمدة الأربعة، أربعة أعمدة للمنضدة من الرخام الأبيض البارد، نفذت برودتها إلى عظام الظهر حين رقدت عارية ووجهها للسقف. ظل واقفا أمامها في صمت، وأرخى الستارة فوق الباب . أظلمت الغرفة بظلام أسود من الظلام. لم تستطع رؤيته وهو قريب منها يكاد يلمسها. هو واقف، وهي راقدة تنصت إلى الكون والكون صامت. فجأة سمعت صوت يدين تمشيان صوب جسدها الراقد فوق المنضدة، ثم رأت جسدها ينقلب، وصوت شيء يكسر وهي تحاول أن تشد جسمها من تحت كثافة الظلمة، لكن جسمها مربوط بالحبال. وسمعته ينفخ وينفخ. وجسدها يزداد موتا فوق موت كأجساد الموتى المثلجة في المشرحة، وهو يزداد توهجا كحطب يسقط فوق الجمر، وهي راقدة ذراعاها مفتوحتان في ابتهال صامت لله، وهو لا يكف كإله الدمار يطلب المزيد من الضحايا. في الضوء الخافت من شق صغير في بطن الأرض، رأت الإصبع الكبير بغير ظفر، والإصبع الصغير ظفره طويل، وبطن اليد أملس بغير شعر، وظهر اليد قاتم اللون مكرمش الجلد، وفوق الجلد عروق ملتوية زرقاء ونقط سوداء كالنمش أو جذور شعر مات وسقط. وسمعت صوته يطلب منها أن تنفخ الهواء من صدرها، ونفخت الهواء حتى لامس وجهها الحائط، وحركته ببطء ناحيته لا تقوى على النظر إليه. رأت ظله فوق الحائط طويلا كالمارد واستدار عائدا. امتدت اليد غير المرئية، واعتصرت أنفها أو حلمة الثدي لم تعرف أيهما، ثم عاد إلى المزيد من النفخ، واندلع لسان من اللهب كان قصيرا، ثم نما طويلا ثم قصيرا، وتلوى ورقص ملتهما قطعة من اللحم.
ظلت راقدة في الظلمة وفي جسدها الجرح غائر حتى العظم. من تحتها شريط أحمر بلون الدم، وفي أذنيها أغاني العيد وأصوات الملائكة تنشد، وجرس الكنيسة يدق، وصياح الديكة قبل الفجر، ودوي الأذان للصلاة وذبح الضحية، والهتاف في مكبرات الصوت: الله، الوطن، الإمام. وهو واقف فوق المنصة يخطب، وعن يمينه حزب الله، وعن يساره حزب الشيطان. في شرفة الحريم انتصبت الزوجات الشرعيات فوق الكعوب الدقيقة، ونساء الجمعيات الخيرية وأرامل الشهداء والأمهات المثاليات، وأطفال الله بالجلاليب الدمور، وتلاميذ المدارس بملابس الكشافة، والبنات من بيوت السعادة ببدلة الرقص والصاجات في أيديهن تطرقع، وصواريخ العيد تفرقع، والطبول تدق، والزمامير والزغاريد والصراخ وطلقات الرصاص.
الدوي في أذنيها كالصمت لا تسمعه، والجرح في جسدها ينزف بلا ألم. تتركه وراءها بلا ندم، وتنهض من جديد فوق قدميها. تمشي على الأرض بلا جسد، كالروح أو الخيال. قدماها لا تلامسان الأرض. وجهها نحيل شاحب خال من الدم، وعيناها واسعتان، والنني أسود كالليل، وعقلها صاف كالماء الرائق في النهر. •••
على الباب الخارجي رأيت طوابير النساء بالجلاليب السوداء، واقفات ينتظرن دورهن للدخول إلى القاضي، يتنافسن إلى الدخول، وكل واحدة تدفع الأخرى بكوعها لتصل إليه قبل الأخرى. يده المباركة تلمس المريضة فتشفى، والعاقر فتحمل، والحامل فتجهض، والمذنبة فتبرأ، والعانس تتزوج، والمشلولة تنهض، والراقدة تقف، والواقفة تقعد، والمجنونة تعقل، والعاقلة يشفيها الله من عقلها، والعين المفتوحة تغلق، والعين المغلقة تفتح؛ فهو القاضي بأمر الإمام، أعطاه الله أسرار العلوم والقانون والطب، وهو يعطي من السر بقدر ما تعطيه المرأة من الخير. •••
وتذكرت أنني دفعت قبل أن أدخل إليه. في الظلمة رأيت الصندوق المعلق، وكل من تدخل تدفع دون أن يراها أحد، وصوت المنادي كالهمس يدور على الطوابير الواقفة عند الباب: ادفعوا يا عبيد الله. ومن يدفع اليوم يقبض غدا في الجنة إن شاء الله، ويقبض في الدنيا أيضا من بنك الإيمان تحت رعاية الإمام. والله هو مالك الملك، وهو الغني الذي يرث الأنبياء، والمال مال الله جعل للناس حق الاستخدام فقط، والمال عندنا مملوك لرب العالمين، ومع ذلك يطلب الله من الناس الصدقة والقروض،
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة . ادفعوا يا عباد الله إلى صندوق بنك الإيمان الذي باركه الله، وفائدة القرض خمسون في المائة، فنحن نضارب في الذهب ولا نخشى الإفلاس. تقدموا دون خوف أيها المؤمنون والمؤمنات، وعند الله تزيد فائدة القرض إلى سبعين ضعفا. ادفعوا في السر دون أن يراكم أحد؛ فإن صدقة السر تطفئ غضب الرب وتشفي المريض، والعاقر تحمل، والمشلولة تنهض، والمذنبة تبرأ، وعلى كل واحدة منكن أن تعطر المال قبل أن تلقيه في الصندوق. وكانت فاطمة بنت الرسول تعطر الدينار قبل أن تعطيه صدقة . وسئلت : لماذا؟ فقالت: سمعت الرسول يقول إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير. •••
ربطت الحزام فوق بطني لا آكل ولا أشرب، وألقي القرش وراء القرش في يد الله، وأغمضت عيني ورحت في نوم عميق كنوم الأطفال. في الظلمة أفتح عيني وأسمع صوت الله يناديني كصوت أمي ناعم ودافئ كصدر الأم، وأجري إليه أظنه أمي. ومن بعيد أراها واقفة في الظلمة تنتظرني وذراعاها ممدودتان، ولا يبقى بيني وبينها إلا خطوة، أتوقف عن الجري لحظة ألتقط أنفاسي، فتصيبني الطعنة من الخلف، ولا أعرف لماذا يطعنون في ظهري، وقبل أن أستدير إليهم وأنسى الحروف والكلمات، أقول: لماذا تضربونني وكنت أدفع كل ما معي لله؟ ويقولون: كنا نضارب في الذهب، وبنك الإيمان أفلس؛ لأنك بنت حرام، وفألك سيئ، وطالعك نحس، ولن ينصرنا الله ويضاعف لنا الربح إلا بعد إزالتك من الكون.
الشكوى
قلت: لمن أشكو وأحتكم؟ قالوا: للإمام؛ فهو حاكمنا. قلت: هل أشكو منه إليه؟ قالوا: كلنا نشكو منه إليه، والشكوى لغير الله مذلة. وطويت الشكوى في صدري لا يراها أحد. لمحتني عيون الإمام، وكانت عيونه في كل مكان. قالوا: ماذا تخبئين في صدرك؟ قلت: لا شيء. وفتحوا صدري ووجدوا الشكوى مطوية، وفوقها الحروف بخط يدي. أطبقوا عليها أصابعهم وقالوا: وجدنا الدليل المادي على الجريمة الكبرى، فكيف تكتبين فوق الورق بخط يدك شكوى ضد الله؟ قلت: إنها شكوى ضد الإمام. قالوا: ألا تعرفين أن الإمام هو خليفة الله في الأرض، وما هو ضد الإمام يكون ضد الله. قلت: لا أعرف. قالوا: كيف لا تعرفين؟ ألا تقرئين الصحف؟ ألا تعيشين في هذه الدنيا؟ قلت: لا أقرأ الصحف ولا أعيش في دنياكم. قالوا: هذه جريمة أخرى وبدعة جديدة، ومن أبدعت فينا ما ليس فينا فهي شر وفتنة، والفتنة أشد من القتل.
نطق القاضي الحكم بالإعدام، وجرائهما ثلاث؛ الفتنة والعار والكفر. وقبل تنفيذ الحكم والصلاة على روحها الغائبة، قالوا بصوت حنون: ماذا تريدين قبل أن تودعي هذه الدنيا؟ قالت: أريد محاكمة علنية ومحاميا شرعيا. قالوا: عندنا معارض شرعي، ولم نسمع عن محام شرعي.
وذهبوا وعادوا وفي أيديهم المعارض الشرعي. وقف أمامها ورأسه ملفوف بعمامة بيضاء، دليل الولاء للعدل، ونجمة حمراء فوق الصدر، الشعار الرسمي لحزب الشيطان. وقال بصوت رخيم: أفندم؟ قالت: أنا بريئة بغير ذنب، وبغير أم وبغير أب و... وقاطعها باضطراب: بغير أب؟ قالت: نعم. قال: هذا بلاء من عند الله،
ونبلوكم بالشر والخير فتنة . أتعرفين هذه الآية؟ لا أعرفها. قال باندهاش: إنها آية مشهورة جدا، الآية الخامسة والثلاثون من سورة الأنبياء، ألا تعرفينها؟ قلت: لا أعرفها. قال: جهلك بهذه الآية إثم كبير، وعليك حفظ الآية عن ظهر قلب قبل الموت لتدخلي الجنة بدل النار.
وضع يده في جيب سرواله الغالي من أجود الأنواع، وأخرج ورقة وقلما له غطاء من الذهب. أمسك القلم بأطراف أنامله الناعمة كأنامل الزوجات الشرعيات، وكتب بخط يده على الورقة حروفا دقيقة سوداء:
ونبلوكم بالشر والخير فتنة . وأغلق القلم بالغطاء الذهبي ولفه ثلاث مرات، ثم وضعه في جيب سرواله الغالي، وخرجت أنامله الخمسة من جيب السروال ناعمة بيضاء من غير سوء، وقال بصوت رخيم: رددي هذه الآية ثلاث مرات في اليوم قبل الأكل وبعده، وفي اليوم الثالث تجدين نفسك في الجنة بإذن الله.
أمسكت الورقة بأصابعها كالطفلة تمسك قشة في مهب الريح، وحفظت الآية عن ظهر قلب ترددها الليل والنهار. ومن الشق كالثقب في الباب رأتهم يحفرون لها الحفرة في الأرض، وربطوها بالحبال وهي تردد: «ونبلوكم بالخير والشر فتنة.» وسمعتها آذان الإمام، وكانت له آذان في كل مكان، وقال غاضبا: حتى كلام الله تخطئين في تلاوته؟ قلت: ما الخطأ وهي آية في القرآن؟ قال: كل الأخطاء مغفورة إلا الخطأ في كلام الله؛ فهذه إحدى الكبائر. قلت: وما هو الخطأ في الآية؟ قال: ألا تعرفين الآية الصحيحة؟ قلت: لا أعرفها. قال: الآية الصحيحة هي:
ونبلوكم بالشر والخير فتنة . وأنت تعكسين الآية وتقولين: «ونبلوكم بالخير والشر فتنة.» وهذا خطأ جسيم في حق الله؛ لأن بلاء الله يكون بالشر وليس بالخير . قلت: لم أعرف الآية الصحيحة. قال: ومن أين لك بالآية الخاطئة؟ قلت: من المعارض الشرعي. قال: أنت كاذبة، والمعارض الشرعي لا يخطئ في كلام الله. دق الإمام الجرس بطرف إصبعه الصغير، فظهر المعارض الشرعي على الفور، رأسه ملفوف بالعمامة البيضاء، وفوق صدره النجمة الحمراء، وقال: أفندم؟ سأله الإمام عن الآية الخاطئة، وأنكر المعارض الشرعي صلته بالمرأة، وقال: أنا لا ألتقي إلا بالنساء الصالحات. وصدقه الجميع من أعضاء حزب الله والشيطان، ولم يصدقوا المرأة الآثمة. أخرجت من صدرها الورقة المكتوبة بخط يده. قالوا: هذا ليس خط يده، وهذه جريمة أخرى، وهي التزوير في آيات الله والأوراق الرسمية. قلت: أقسم لكم أنه كتبها أمامي بقلم له غطاء من الذهب. قالوا: ماذا قلت؟ غطاء من الذهب؟ قلت: نعم، رأيته بعيني. قالوا: أتتهمين المعارض الشرعي بالاختلاس؟ قلت: لا أتهمه بشيء، ولكنه ... وقالوا: ألا تعرفين أن المعارض الشرعي معين بأمر الإمام؟ قلت: لا أعرف، ولكني أريد أن أقول ... وقالوا: وماذا تقولين بعد هذا الذي قلته بلسانك الآن؟ وهذا دليل جديد على أن لسانك هو مصدر الإشاعات، ووجب قطعه من جذوره وفق الشريعة. •••
كانت أذناها قد كفت عن سماع الأصوات، وظلت ثابتة في مكانها بغير حراك، عيناها تلمعان كالنجمين في سماء سوداء، ورأسها مرفوع نحو الله، وإلى جوارها كلبها مرزوق، مرفوع الرأس مثلها، وأذناه منتصبتان مرهفتان يسمع أصواتهم ويتعرف على وجوههم، وينبح بصوت عال حين يرى وجه الإمام. يشده من الخلف من السروال، يمسكه بأسنانه لا يتركه، وهم يشدونه بعيدا عنه دون جدوى. أطلقوا عليه الرصاص في ظهره. سقط إلى جوارها يقبض بين أسنانه قطعة من السروال الغالي من أجود الأنواع.
القوى العظمى
كنت رافعا رأسي نحو السماء رافعا يدي نحو ملايين البشر يهتفون لي حين دوت الطلقات، ورأيت وجهي يسقط من فوق رأسي العاري تحت مقعد العرش. أخفيه في الأرض بعيدا عن عيون الناس. أستبدل به الوجه الآخر له ملامح الإمام، وأنهض مرة أخرى فوق المنصة. لم يلحظ أحد السقوط ولا النهوض، لكن العالم من حولي ليس هو العالم، وفوق صدري لا أرى النياشين ولا الأوسمة، ولا نجمة العدل مشبوكة بالدبوس، ولا خاتم الحكم في إصبعي، ولا أحد حولي من أعواني، ولا أعضاء حزب الله أو الشيطان، حتى زوجتي الشرعية اختفت، وأنا وحدي لا أحد معي، ومن حولي أرض كالصحراء، والنهر على مدى البصر تطل من ورائه هضبة خضراء. قلت أنا في العالم الآخر، وهذه هي الجنة تلوح من بعيد. حلقي جاف منذ الطفولة، والظمأ شديد، وثقتي في دخول الجنة مائة في المائة مثل ثقتي بالله. في جيبي توصية من النبي وبعض صكوك التوبة من بنك الإيمان، أخرجتها كلها من جيبي لحارس الباب رضوان عليه السلام. كان أميا لا يقرأ الحروف المكتوبة. قلت له: أنا الإمام. وألقيت عليه إحدى خطبي المعروفة. لم يفهم شيئا؛ فهو لا يتكلم اللغة العربية. تركني عند الباب أنتظر طويلا تحت شمس حارقة ورأسي عار. سألته: ما بالك لا تحفل بخطبي وكان يحفل بها الناس في كل أنحاء العالم؟ هز رأسه علامة عدم الفهم، ثم لمحت وجه امرأة يقترب من بعيد. تصورت أنها أمي فأسرعت نحوها. لم تكن أمي. كانت زوجتي القديمة. توسلت إليها أن تتوسط لي لدى رضوان. قالت: لن تشفع لك إلا زوجتك الجديدة. قلت: وأين هي؟ عليك بها. ورأيت المنادي ينادي: يا أهل الآخرة غضوا أبصاركم حتى تمر زوجة الإمام. ومرت امرأة بيضاء ملامحها أجنبية في عمر ابنتي، ولها ملامح زوجتي الشرعية، فسلمت عليها وقلت لها: لقد كتبت في الدنيا خطبا كثيرة، كنت أبدؤها باسم الله، وأختمها بالصلاة على النبي، فحق لي بذلك دخول الجنة. وأشارت إلى الصليب فوق صدرها، وقالت: المسيح ومريم العذراء، ألم يرد ذكرهما في القرآن؟ قلت: توسطي لي لديهما. وأشارت إلي أن أتبعها فتعلقت بذيل فرستها. ولم تكن الفرسة تمشي على الأرض لشدة الزحام وكثرة إشارات المرور. رأيتها تطير في الجو لها أجنحة من الفولاذ، ورأس صغير مدبب كرأس صاروخ في آخر طراز. قلت: ما هذا؟ قالت: أنعم الله عليك بطائرة جديدة بدل الفرسة القديمة. ركبت في مقعدي في الصف الأول وإلى جواري رئيس الأمن. ومن شق الباب لمحت وجه قائد الطائرة، مستدير أبيض مليء باللحم ونقط سوداء كالنمش، ولهجته أجنبية. رحبت به كعادتي مع مندوبي القوى العظمى، وقدم لي قطعة من الكافيار في صحن من الفضة، وزجاجة خمر معتقة من أجواد الأنواع. عند الإقلاع جاءنا صوته من سقفها بعون الله، وانبعث من سقف الطائرة لحن راقص وأصابع امرأة تطرقع بالصاجات. تعرفت على وجهها وقلت: جواهر؟ قالت: من هي جواهر؟ قلت: كانت في «بيت السعادة»، وكنت في سن البراءة والطيش. اهتزت الطائرة فربطنا الأحزمة على البطون، وعاد الصوت من السقف يقرأ القرآن، ويدعو الله أن يحمي الطائرة من السقوط أثناء الهبوط، وانزلقت عجلات الطائرة فوق أرض خضراء ملساء ناعمة كالسندس، وقلت: وصلنا الجنة؟
قالت زوجتي الشرعية: ليس بعد، ولن تدخل الجنة قبل أن يشفع لك المسيح وتسدد ديونك في الدنيا. وقال الرجل ذو النمش الأسود في وجهه: ألم تسدد ديونك بعد؟ قلت: أمهلني عاما واحدا وسوف أطلب من الله أن يمد أجلي حتى أسدد الديون. وناولته الكأس لنشرب نخب الصداقة. رفضها وقال بلهجة أجنبية إن الخمر حرام، وإنه أمر بإلقاء الخمور من نوافذ الطائرة. ولماذا تحرم ما حلل الله يا خواجة؟ انظر إلى جنة الله وما فيها من خمور تجري كالأنهر وحوريات بياضهن كالشهد؟ وأطل بعينيه من فوق السور ولم ير شيئا، وقال: أين هي الجنة يا سيدنا الإمام؟ قلت: انتظر. إن الصبر طيب، ولا يمكن لأحد أن يتعجل الله، وسوف ندخل الجنة معا بإذن الله. وقال: اذهب وحدك وسأنتظرك هنا بالطائرة، وموعد الإقلاع في السادسة تماما بتوقيت جرينتش، واعلم أنني في انتظارك لأطير بك لو أصابك مكروه لا قدر الله.
تأبطت زوجتي الشرعية ذراعي وسرنا معا حتى المسيح. همست في أذنه بلغة لم أفهمها. هز المسيح رأسه، وشفع لي، وأمرنا بالسير إلى الصراط المستقيم. وحين وضعت قدمي على الصراط لم أستطع السير قيد إصبع، وقالت زوجتي الشرعية: هنا أتركك في رعاية الله والرسول . وتركتني وجسدي يرتعد. ورأيت امرأة سوداء مقبلة تجري فوق الصراط. أمسكتني من يدي قبل أن أقع، وعرفتها من وجهها، كانت جاريتي قبل أن يفتح الله لي أبواب الرزق. هربت منها في الليل قبل أن تلد ابنتي. قلت لها: أنت حبي الأول والأخير. وسرت إلى جوارها تسندني من ناحية اليمين فأميل ناحية اليسار، وتعود تسندني ناحية اليسار فأميل إلى اليمين، حتى أعياها ذلك وأعياني، فقلت لها: يا جواهر، إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل في الدنيا: ستي إن أعياك أمري فاحمليني زقفونة. قالت: وما زقفونة؟ قلت: أن يطرح الإنسان يديه على كتفي الآخر، ويمسك بيديه ويحمله وبطنه إلى ظهره. أما سمعت قول الجحجول من أهل الدنيا: صلحت حالتي إلى الخلف حتى صرت أمشي إلى الوراء زقفونة. قالت: ما سمعت بزقفونة ولا الجحجول، ولكني سأحملك إلى الرسول محمد. وحلمتني فوق صدرها كالطفل، فلما وصلنا النبي عليه السلام قال: وهبنا لك هذه الجارية، فخذها كي تخدمك في الجنة. حين صرت إلى باب الجنة قال لي رضوان: هل معك جواز؟ قلت: لا. قال: لا سبيل للدخول إلا به. وانتظرت طويلا تحت الشمس الحارقة ورأسي عار، وموعد الطائرة أزف، ثم لمحت على باب الجنة شجرة صفصاف. قلت: أعطني ورقة من هذه الصفصافة حتى أرجع إلى النبي بسرعة فآخذ عليها جوازا. قال: لا أخرج ورقة من الجنة إلا بإذن من صاحب الجلالة. قلت: لو رآني فسوف يعرفني، وكان في الدنيا دائما معي، وكان لي في الدنيا أعوان كثيرون في حزب الله، وأصدقاء بلا عدد داخل البلاد وخارج البلاد من الملوك والزعماء، وجميعهم جاءوا وساروا في جنازتي، كان المشهد مهيبا. ألم تر الصورة على غلاف النيوزويك؟ قال رضوان: ما سمعت عن النيوزويك إلا الآن. قلت: إذا كنت لا تعرف النيوزويك فأنت لا تعرف العظماء ولا القوى العظمى.
انتظار الأم
كان الصوت يدوي في أذني كالصمت، وأنا واقف تحت لهيب الشمس ورأسي عار. ألم غامض في صدري كالجرح أو الثقب الغائر حتى القلب، وباب العالم الآخر مغلق ، والعالم الأول والثاني والثالث والرابع كلها تسير بدوني، وجماهير الناس تهتف لغيري، وصواريخ العيد تفرقع، وحارس الجنة لا زال ينظر في جواز سفري، عيناه تفحصان صورتي من تحت نظارة سوداء، يسألني السؤال وراء السؤال. قلت: معي توصية من النبي، وأريد لقاء الله. وسألني: هل عندك موعد سابق؟ قلت: لا، ولكنه سيعرفني حين يرى وجهي. وسألني: أهي مقابلة شخصية أم لمصلحة عامة؟ قلت: لمصلحة عامة. وسكت عن الكلام، لم أعرف ماذا أقول. قال: المصلحة العامة لا تكون سرا. يرمقني من تحت النظارة السوداء بنظرة متشككة، كرئيس الأمن يتدخل فيما لا يعنيه. تركني أمام الباب أنتظر طويلا، وأمسك في يده سماعة التليفون، وانهمك مع امرأة في حديث هامس، يضحك ويقهقه بصوت عال ويخاطبها بلغة المذكر. انتظرت صامتا لا أعكر عليه صفوته، وحين انتهى رآني واقفا وقال: أتزال هنا؟ قلت: أرجوك دعني أقابله. قال: لماذا تريد أن تقابله؟ قلت: لأطلب تأجيل موتي عاما واحدا. قال: عام كامل؟ يا لك من مفتر. قل شهرا أو شهرين. قلت: يا سيدنا رضوان لن يكفي شهر لإعادة تسليح الجيش، وتسديد الديون، ومقاومة الهزيمة في نفوس الناس. لا أريد هذا العام من أجل لذائذ الحياة الدنيا، ولكن من أجل الله والوطن.
دق جرس التليفون، وبدأ الحديث مع امرأة أخرى بصوت عال حاد النبرة، وأنهى الحديث بسرعة، وعرفت أنها زوجته الشرعية. قلت قبل أن يدق التليفون مرة أخرى: لا زلت أنتظر أمرك يا سيدنا رضوان. وكان قد انهمك في قراءة الأوراق فوق مكتبه، ورفع إلي عينيه من تحت النظارة السوداء، وقال: فوت علينا بكرة. وأسعفتني تجاربي الماضية في مثل هذه المواقف مع حراس الأمن، وأخرجت من جيبي شيئا على شكل الهدية، وقلت: خذ هذه هبة مضاعفة قدمها لسيدك، واستعجله كي يقابلني اليوم؛ فأنا وقتي ضيق، وعلي أن ألحق بالطائرة. نظر رضوان في الساعة وهو يدس الهبة في جيبه، وقال: لم يبق على الطائرة إلا دقائق، ويمكنك الإسراع، وسأرسل إليك استدعاء بالبريد إذا تركت لي عنوانك. ورمقته بنظرة متشككة ، لكني عدت وتذكرت أنه سيدنا رضوان، ولا يمكن أن يكذب، وإذا وعد فلا بد أن يفي بوعده. وتركت له عنواني وصرت أجري إلى المطار، وفي أعماقي إدراك أنه لن يرسل إلي شيئا، وتجاوزت مرحلة اليأس وأبطأت السير، ولم يعد يهمني أن تفوتني الطائرة، وجلست مرهقا، وما إن وضعت رأسي على الأرض حتى نمت، ولم أسمع صوت الطائرة حين هبطت ثم أقلعت بدوني، وصحوت وأنا أعرف أن لا شيء سيأتيني، ولن يبعث إلي رضوان بالرسالة، وأنا أيضا لم أتوقعها، وإذا رأيته قادما نحوي ومعه الرسالة فلن أصدق أنها لي أنا، وإذا كانت لي فلا بد أن هناك خطأ في حسابات الله، وإن رأيته قادما وفي يده الرسالة فلن أمد يدي لآخذها، وسأقول له: استمر في طريقك؛ فأنت تبحث عن رجل آخر غيري، ولا يمكن أن تكون الرسالة لي؛ فأنا لا أستحقها. وابتسمت في راحة هانئة زاهدة في كل شيء حتى لقاء الله، وقلت: يا ربي أريد حقي فقط دون زيادة أو نقصان، وقد امتلكت الشجاعة لأعلن على الملأ تطبيق شريعتك، ونفذت أحكامك كلها، وحدود الزنا والسرقة وإلقاء الخمور في النهر، ولم يملك أحد شجاعتي ممن يتقربون إليك وعيونهم تبربش، وأصواتهم تهمس، فلا أحد منهم يقف إلى جوارك بمثل ما وقفت، ولا يطبق شريعتك بمثل ما طبقت.
أمسكت وجهي بيدي وعيناي تدمعان، ولم أسمع الصوت من خلفي يأمرني بصوت عال: انهض وارفع ذراعيك إلى أعلى. ولم ألتفت ورائي مدركا أن لا أحد يخاطبني بهذه اللهجة الآمرة إلا من هو أعلى مني. ونهضت رافعا ذراعي غير مستدير منتظرا الطعنة في ظهري، لكن الصوت أمرني بأن أستدير، ولم أصدق أن أحدا حين يرى عدوه من ظهره يعطيه الفرصة للاستدارة؛ فالاغتيال من الظهر أسفل من الاغتيال من الوجه، ولا يعني الأمر بالاستدارة إلا الاستهانة بالرجل، والاستهانة بالرجل العادي أشد من الإهانة، فما بال الإمام؟! ولم أستدر ولم أعطه وجهي؛ فأنا أريد أن أموت إماما مغتالا وليس إماما مهزوما. وبقيت في مكاني واقفا رافعا عيني وذراعي إلى فوق، ثم سقطت منكفئا على وجهي وفوق شفتي ابتسامة المقاتل حتى آخر رمق، والزاهد في شهوات الدنيا حتى الموت. سمعت حفيف الشجر في أذني، ونقيق الضفادع كاللحن الراقص، ونسمة الليل رطبة منعشة محملة برائحة البحر، وأنا ثابت في مكاني لا أجري ولا ألهث؛ فالوقت ليس ضيقا، ولن يفوتني شيء هام أو غير هام، ولا أشعر بألم ولا يأس، ولا أفكر في حزب الله أو حزب الشيطان، ولا أرى أحدا إلا نفسي حين كنت طفلا وأمي ترضعني، واللبن دافئ ناعم يسيل من زاوية فمي، وفجأة تصيبني الشرقة، وتصدر عني الشهقة. أفتح فمي وأغلقه، وأرفس بيدي وقدمي في الهواء، ووجهي أزرق مختنق، وأكاد أموت في تلك اللحظة، فلا يكون في الدنيا إمام ولا خليفة الله في الأرض، لولا أن أمي تضربني بكفها المشققة الكبيرة فوق ظهري، وتطرد اللبن من قناة الهواء، أو تطرد الهواء من قناة اللبن، ويعود الدم إلى وجهي، ويعود إلي الوعي، فأرى وجه أمي وتعود ذاكرتي فجأة، وأدرك أنني لم أرها منذ عشرين عاما. أنهض فوق قدمي أسد الجرح بيدي أمنع نزيف الدم، وأسير في الطريق القديم أعرفه لا أخطئه. أدق بابها الخشبي الداكن، وأسمع الصرير كالساقية العتيقة، ومن وراء الباب أسمع صوت بطن قدمها تزحف فوق الأرض، وصوتها في أذني أعرفه لا أخطئه: مين؟ وأقول: أنا. ومن وراء الخشب أسمع قلبها يدق، وأنفاسها تلهث، ويدها الكبيرة ترتعد وهي تفتح الباب، ودموعها كالسحابة البيضاء فوق عيون تبربش بغير رموش، وظهرها محني. كانت رموشها طويلة حين رأيتها في آخر لقاء، وظهرها مرفوع، وقالت تحوطني بذراعيها ودموعها تبلل البدلة الرسمية من الصوف الغالي: عشرون سنة يا بني لا أراك؟ وقلت: مشاغل يا أمي، ومشاكل بغير حل لا يقدر عليها إلا سبحانه. قالت: وجهك مخطوف يا ابني كأنك لم تأكل منذ عشرين عاما؟ وسارت إلى المطبخ بخطواتها السريعة القديمة وظهرها القديم المرفوع، وجسمها خفيف لا تكاد قدماها تلامسان الأرض، وعادت تنظر إلي بعيون تلمع بالفرح، أهدابها طويلة، وفوق يديها تحمل الصينية عليها الفطير وعسل النحل وحليب الصباح. أقبلت نحوي تسير وأنا جالس فوق الكنبة القديمة بجوار النافذة، حيث كنت أجلس وأنا طفل، أرقب النجوم وأرى وجه الله بين السحب كوجه أبي. وسمعت ضربات قلبها وهي تقترب مني، وعيناها تلمعان بالفرح، ويداها تهتزان، والصينية فوق يديها تهتز، ولم يبق بينها وبيني إلا ثلاث خطوات، ورأسها من الفرحة يدور، والدنيا تدور به، وخطت الخطوة الثانية، ولم تبق إلا الخطوة الأخيرة، ومدت قدمها إلى الأمام لكن قدمها لم تمتد. رأيت جسمها يسقط وهي واقفة أمامي، لا تبعد عني إلا امتداد الذراع. ومددت ذراعي لأمسكها لكن يدي لم تمتد، والمسافة بيننا تمتد. وكلما أمد ذراعي لأحوطها تزداد بيننا المسافة، وتصبح هي أبعد مما كانت، وأنا أبعد مما كنت.
لقاء الزوجة الأخيرة والابنة غير الشرعية
لم أكن أتعجل رحيله داخل الصندوق؛ فهو رغم الموت يضيف إلى حياتي نوعا من «الحوار»، وكان لا «يحاورني» في حياته، ويكتب عن «الحوار» المقال وراء المقال. صامت طول الوقت، أو يتكلم طول الوقت ولا شيء بينهما. لا يسمع إلا نفسه، ولا يرى إلا صورته داخل البرواز فوق مقبرة من الرخام، ويمارس الكتابة بحكم العادة. يمسك القلم بيده اليمنى، ورأسه يمسكه بيده اليسرى كأنما يحمي عقله، وتمتنع عنه الكتابة بألم ودون ألم كالمرض الشهري. ويجلس في الصيف يرشف الخمر مع حبات الفول، وفي الشتاء يتمطى تحت الشمس، ويتثاءب المرة وراء المرة يطرد الهواء الفاسد من رأسه ويسترد وعيه الغائب. في الدور العلوي في أكبر بناية يجلس إلى مكتبه ينظر إلى الأوراق والصور. يرى صورته إلى جوار الإمام في اجتماعات القمة، ومجالس البرلمان والشورى، وحفلات الأعياد والأفراح، واختيار ملكات الجمال وعارضات الأزياء والشهيدات المثاليات، وتوزيع الجوائز في عيد الأدب والفن على أعضاء حزب الله وحزب الشيطان، وهو واقف في الصف الأول تطل عليه من شرفة الحريم عيون الزوجات المحصنات، وأرامل الشهداء والأمهات المثاليات ونساء البر والإحسان، تتوسطهن زوجة الإمام. تمد يدها الصغيرة الناعمة تلمع في أصابعها فصوص الماس كالإشعاع، تقدم إليه جائزة الأدب الرفيع وحسن السير والسلوك، وترتفع الأكف السمينة البضة بالتصفيق، والأجسام المربعة داخل ملابس الحداد منتصبة فوق الكعوب الرفيعة، وقلوبهن تخفق داخل الصدور يهتفن في نفس واحد: «الله. الوطن. الإمام.»
ولا يكف جرس التليفون عن الرنين فوق مكتبه، يرفع السماعة ويعطيني ظهره، وفي الأسلاك يهمس الساعة وراء الساعة، وبعد أن ينتهي يقول لي: لا يجوز للزوجة الشرعية أن تفاجئ زوجها في مكتبه كرئيس الأمن. وأضحك وأقهقه بصوت عال وأقول: ليست مفاجأة، ولكن لا يجوز للمرأة ألا تمر على زوجها الشرعي في طريقها إلى موعد الحب. ويرفع رأسه إلي ويستدير بكل جسمه في المقعد نحوي، عيناه تلمعان بالشبق، يرغبني أكثر كلما رغبت غيره، وينظر إلي بكل وجهه وأنا أنظر إلى الناحية الأخرى. وفي الليل يحاول امتلاكي دون جدوى، ويمسك القلم ليكتب فلا يكتب شيئا. وفي الصباح يرى المقال نفسه منشورا للمرة المائة أو الألف، ووجهه داخل البرواز قديما أقدم من وجه آدم عليه السلام، ويغزوه الفشل كالعرق من جميع مسام الجسم، وأراه يغالب الهزيمة كذبابة سقطت في صحن العسل. يمسح وجهه بالمنديل ويبتسم فجأة، كأنما غلبه الحزن بغتة، ويقول: أنا مريض بالكتابة، والكتابة كالحب تقتل. وأقول: الكتابة لا تقتل، ولا يقتل إلا غياب الوعي. والحب لا يقتل، ولا يقتل إلا غياب الحب. ويرمقني بعينين مليئتين بالغيرة، يود لو عاد إليه الوعي لتعود إليه الكتابة، يود لو عرف الحب كما أعرف فأحياه الحب بعد الموت، وتظل الابتسامة فوق وجهه ثابتة، وأدرك أنه أخفى الحزن في قلبه حتى الموت. وكنت أسمعه يضحك ويقهقه، وأظن أنه غير قادر على الحزن. أتركه في الغرفة يكتب وهو لا يكتب. وفي الصباح أرى المقال يملأ الصفحة وصورته داخل البرواز، وأظن أنه وجهه الجديد، فإذا به الوجه القديم. •••
رفعت رأسي إلى فوق، ورأيت وجهها الشاحب النحيل وعينيها السوداوين تلمعان في الليل كالنجمين. قلت: من أنت؟ قالت: أنا ابنته. قلت: أنا زوجته الشرعية، ولم تكن له ابنة. قالت: هرب من أمي وأنكرني وأنا طفلة. قلت: أنت ابنته غير الشرعية؟ قالت : نعم . وارتدت عيناي إلى الوراء عن عينيها، وفي ارتدادة العين عن العين ارتج الجسد، وفي ارتجاجة الجسد ارتج العقل، وعاد إلى الوعي، وأدركت أنه ميت داخل الصندوق، وأنها شابة عذراء مثلي، تقف على ساقين اثنتين وليست من ذوات الأربع، ولها ذراعان ويدان، وفي كل يد أصابع خمس، ويدها ممدودة نحوي بلا خوف، وصدرها مكشوف. ومددت يدي نحوها وفي قلبي رعدة، والتقت أيادينا فوق جسده الممدود في الصندوق. أمسكت يدي في يدها بقوة، وأمسكت يدها في يدي صغيرة الكف كالطفلة بحجم كفي. وملمسها دافئ بحرارة جسمي. وامتدت الأذرع الأربع بعد امتداد الأيدي وتعانقت، ومن بعدها تعانق الجسم مع الجسم، وقلت: أين كنت؟ ومتى ولدت؟ وهل أنت على قيد الحياة؟ وظلت صامتة لا ترد، تنظر إلي بعينين تتسعان لحزن العالم، وسارت نحو النافذة بخطى بطيئة. أطلت على الكون تفرد ذراعيها كأنما تنشد الله أو الأم أو الأب، وتعلقت عيناها بالصورة داخل البرواز المحفور على الصندوق، ثم ارتفعت إلى السماء وأقواس النصر وقباب الكنائس ومنارات الجوامع، ثم هبطت إلى الأرض والشوارع والبيوت والدكاكين، والناس يشربون العصير، والأطفال بملابس العيد يطيرون البالونات، وترتفع البالونات في السماء تحت الشمس مع صيحات الأطفال ومع هواء النهر وهواء البحر، يسري صوت الأطفال في جسدها يرجه كالضحك، وتفرد ذراعيها تحتضن الصوت، وتحتضن معه الشمس كأنها الأم. •••
كنت واقفة أشهدها وهي تطل من النافذة، وسمعت أنفاسها تلهث كالنشيج المكتوم، أو الضحك المتقطع كالشهقات، ولهاثها لا يهدأ كمن كانت تجري دون توقف، وقلبها يدق بصوت مسموع في أذني، ويدها فوق قلبها تحت الثدي الأيسر فوق الجرح الغائر في اللحم، ووجهها شاحب بغير دم، وعيناها جافتان بغير دموع، والنني أسود لامع كعين السماء في الليل. سمعتها تقول بصوت هامس كحفيف الشجر: لم أكن أبكي حين تصيبني الضربة من الخلف. أستدير وأتلفت حولي باحثة من أين جاءت الطعنة، وأنهض واقفة ويدي فوق الجرح أوقف نزيف الدم، وأسير رافعة ظهري ووجهي نحو الشمس. أجتاز الشوارع والبيوت والنوافذ المغلقة والأبواب المغلقة، وأتوقف عند الباب الوحيد المفتوح، يعلوه الاسم: «بيت السعادة.» وأقول إنه الباب إلى الله. لم أكن رأيت أمي منذ ولدتني. قالوا: إن الله أخذها. وقلت: إذا وجدت الله وجدت أمي. في النوم أمشي وذراعاي ممدودتان أمامي في الظلمة باحثة عن أمي، ولم أكن رأيت الله وجها لوجه إلا في الحلم، وفي بيت الأطفال كانوا ينادونني «بنت الله». ومن فوق السور العالي أرى قبة الكنيسة ومنارة الجامع. وقال حارس المنارة: إن الله ليس له بنت ولا ولد. وقال حارس القبة: إن الله هو الأب والابن والروح القدس. ولم يسمع أحد عن بنت الله، ولم أكن رأيت أبي منذ ولدت. تصورت أنه الله، لكنني سمعت أنه كاتب كبير في بلاد الإمام، وله مال وبنون، وسمعة طيبة، وليس له أعداء في حزب الله أو حزب الشيطان، ويحبه الجميع أصدقاء وأعداء، ويعيش مع زوجته الأخيرة حياة الزهد كالمسيح، لا يقربها إلا ليلة الخميس. وصباح الجمعة يخرج إلى الصلاة وراء الإمام بغير وضوء. وبعد الصلاة وهو راكع يهز رأسه ناحية اليمين يقدم فروض الطاعة والولاء لحزب الله، ثم يهز رأسه ناحية اليسار يلقي التحية على أعضاء حزب الشيطان. ويستغفر الله ثلاث مرات قبل السجود وبعد السجود، ثم ينهض خفيف الجسم كالمولود الجديد طاهرا من كل الذنوب. يغادر غرفة العبادة وراء الإمام. يسير الهوينى مطرق الرأس بخطوات بطيئة يتمتم بآيات الله. يردد أسماءه الحسنى على حبات المسبحة. يجتاز السرداب الرفيع كالصراط المستقيم بين غرفة العبادة وغرفة الخمر في الدور الأرضي بالقصر. يسبقه الإمام بخطوة يدخل أمامه، وهو من خلفه يدخل. يشربان نخب الصداقة القديمة، ويسترجعان ذكريات الصبا في بيت السعادة.
الحب المحرم
حديقة خضراء من حول غرفة الخمر في القصر، وسور عال من الحديد، وكلب من نوع «الوولف» المستورد، له في الليل نباح مخيف، لا يقرب السور أحد إلا قطاع الطرق أو أرواح الجان والعفاريت. يختفون في النهار داخل القبور أو في بيوت كالقبور، وفي الليل يخرجون. وفي الضوء الأحمر الناعم يجلس الإمام في يده الكأس، وإلى جواره صديق العمر ، بينهما فوق الأريكة مسافة امتداد الذراع، والذراع من تحته وسادة من ريش النعام، ومن تحت الوسادة كتاب الله بخطوط الذهب، ومسدس كاتم الصوت من أجود الأنواع. وحين ينبح الكلب بصوت عال تمتد يد الإمام وحدها تحت الوسادة تتحسس المقبض، ويرتج قلب الكاتب الكبير تحت ضلوعه. أنامله الناعمة لا تعرف إلا ملمس القلم. يخاف الظلمة منذ الطفولة، وليس له أعداء، وأصدقاؤه كثيرون في حزب الله وحزب الشيطان، يغدق عليهم مما أعطاه الله، ويغذي الصداقة بالمال، والناس تناديه بالكاتب الكريم، وفي البيت تناديه زوجاته بالرجل البخيل. يدخل ليلة العيد بلا هدية، يداه فارغتان، وفي الصباح ينسى مصروف البيت، ويعود آخر الليل فاقد الوعي خاوي الجيب. تفوح أنفاسه برائحة الخمر وعرق النساء، وتنطبق الشفتان في وجوه الزوجات الشرعيات، لا تفتح الواحدة منهن فمها، وإذا فتحته فهي طالق، ينطقها ثلاث مرات وهو راقد، وفمه مفتوح وعيناه مغلقتان. تحمل الزوجة صرة ملابسها وتخرج إلى الشارع، وتأتي الزوجة الثانية تخاف الطلاق كالموت. يعرف الناس عن زوجها كل شيء وهي آخر من يعلم. تسمع الإشاعات لا تصدقها. تطرد من حياتها الوهم، أو تكتمه في الأعماق. تخشى أن تبوح به لنفسها فينقلب الوهم حقيقة، وتطبق فمها لا تفتحه؛ فإذا فتحته وقع عليها اليمين كالقضاء والقدر. وتأتي الزوجة الثالثة تخاف القضاء والقدر كأنه الله، وتصمت إلى الأبد ولا تسمح لنفسها حتى بالوهم، لكن الطلاق يأتيها كالمصير بلا سبب. وتأتي الزوجة الرابعة شابة صغيرة مرفوعة الرأس، ممشوقة القد كالغزال، تتربص للقضاء والقدر كالأسد، وعينها مفتوحة سوداء كالشيطان. قرأت الكتب وتاريخ الملوك والتراث وألف ليلة وليلة وجميع الكتب المقدسة. عرفت الله والشيطان وعرفت الجنة والنار، ولم تكن تخاف الموت، ولا تتعجل الذهاب إلى الجنة؛ فلم يكن في الجنة مكان لغير العذراوات.
تقدم إليها بعقد الزواج يرتدي وجه العذراء، يعرض صورته الكبيرة داخل البرواز، يخفي البخل بالكرم، ويخفي الخوف بالحب، ويعشق كأبيه في السر، ولا يذكر وجه أمه إلا عند الموت. وكان لأمه حب آخر خلاف الطبخ والزوج، تخفي الورق تحت السرير وتكتب القصص. جمعت القصة وراء القصة في كتاب واحد، أول كتاب لها وآخر كتاب. ومنذ الزواج لم تعرف أناملها ملمس القلم. وفي الليل بعد أن ينام أبوه تفتح الدرج أسفل المكتب، تتحسس يدها الغلاف، واسمه محفور فوق الورق كالكنز. تتلفت حولها متوجسة أن تراها عين، وتلتقي عيناها بعين ابنها الطفل، مفتوحة في الليل كعين الله ترقبها، وتخفي الكتاب في الدرج تقفل عليه القفل، وفي السرير ترقد على الطرف بجوار الحائط، وفي الطرف الآخر يرقد زوجها وبينهما الطفل، يغمض عينيه متظاهرا بالنوم. وفي الصباح يضربه أبوه ليحفظ دروس الأمس، ويخفي الطفل كأمه حبه لكتابة القصص. يدرس العلم كأنما العلم نقيض الأدب، ويحفظ كتاب الله عن ظهر قلب، وكلما حفظه أحبه أبوه وراحت عنه شبهة الفن. وفي الليل يحس أذن أبيه فوق صدره يتسمع خفقات القلب، يلتقط أي خفقة أو أي قطرة تسربت مع لبن الأم إلى الدم.
العشيقة
جاءت من بيت السعادة تلقي عليه نظرة أخيرة، وهو راقد يبتسم في الصندوق، ينظر إليها وفي عينيه بريق العشق. قالت نزوة يائسة أخيرة لا تفعل شيئا، وعشقه للنساء كمحاولاته اليائسة مع الفشل. دخلت واقفة تحوط رأسها بشعرها الكثيف تربطه بمنديل أبيض يتدلى منه الترتر، وحولت بصرها عنه إلى زوجاته الشرعيات، واقفات يرتدين ملابس الحداد. وجوههن متشابهة، وأياديهن الصغيرة البضة معقودة فوق قلوبهن، وأنفاسهن مكتومة، وسيقانهن فوق الكعوب الرفيعة ملتصقة، ولا تكاد تفرق الواحدة عن الأخرى إلا بدبوس فوق الصدر أو شارة على الكتف، والملامح ممسوحة، والرأس صغير، والردف ثقيل، والروح غائبة. واقفات صامتات ينظرن إليها بعيون جاحظة كعيون الضفادع أو السمك تحت الماء، وانفرجت الشفاه المطبقة في آن واحد، وسألن: من أنت؟ قالت وهي ترفع رأسها فوق عنقها بحركة كالشمخة، لم تعرفها الزوجات الشرعيات: أنا العشيقة جواهر. وارتجت أجسادهن فوق الكعوب الرفيعة، ومع ارتجاجة الجسد عادت الروح ومعها الوعي، ورأين في عينيها السوداوين بريقا موجعا كالصدق، اخترق عيونهن، ونفذ رغم الوجع إلى بؤرة في القلب، وهتفن بصوت واحد: عشيقة من فيهم؟ قالت : كلهم ، ابتداء من الإمام إلى حارس القبة والمنارة. واتسعت عيونهن بذعر، أخفينها تحت الأيدي، والتفت الأذرع حول الصدور تحكم إغلاق القوقعة، وهتفن بصوت كاللهاث: أنت الشيطان، وعقابك الموت. وأطلقن سيقانهن السمينة للريح، والكعوب المدببة تطرقع كالصواريخ، ولم يبق في الغرفة إلا اثنان؛ الزوجة الأخيرة والابنة غير الشرعية، واقفتان والأيدي متشابكة، وامتدت إليهما يد العشيقة، والتقت الثلاث في عناق. تشابكت الأذرع الست فوق الجسد الراقد في الصندوق، والابتسامة فوق شفتيه راحت، وملامح الوجه تلاشت، لم يعد يشبه وجه الإمام ولا الكاتب الكبير ولا رئيس الأمن ولا المعارض الشرعي، ولا أي رجل من حزب الله أو الشيطان. أصبح بلا وجه، أو هو وجوههم جميعا في وجه واحد ممسوح المعالم، لا تميز الواحد منهم عن الآخر إلا بشارة فوق الصدر، أو نجمة على الكتف، أو شيء على الرأس.
وفي مرايا الكون ظهرت صورة لثلاث نساء مرفوعات الرأس، مفتوحات العيون، والعيون واسعة سوداء كعين الليل، والقلوب تخفق بالحب، والأذرع متشابكة، والأيدي متماسكة، والثلاثة واقفات متعانقات ثابتات في الكون بلا حركة.
جواهر
في الصندوق وهو راقد كان ينظر إليها وعيناه تلمعان بالعشق، ويدها تدور على رأسه من القمة إلى السفح، ثم تزحف بطيئة فوق العنق. تدور حول رقبته كالخيط الحرير تشده حتى يشهق ويختنق، لكنه يضحك فتشده أكثر حتى يكف عن الضحك وتشوبه زرقة، فترتخي أناملها الناعمة من حول عنقه، وتزحف بين الشعر الأشيب الناحل فوق صدره لتمسك الخرزة الزرقاء باقية، لم يخلعها منذ علقتها أمه في الطفولة. تلتقطها بطرف الأنملتين كفكي الملقاط، وتقول: أمك خافت عليك من العين، وأنا أخاف عليك من الأذن. ثم تشده من أذنه وتضحك، وتلقي بشعرها الكثيف خلف ظهرها، وأذنه تشرئب مرهفة لصوتها يهمس بالعشق، وعينها ثابتة في عينيه حتى ينتصب الشعر في جذور الرأس، ويخفي منابت شعره الأبيض بلون أسود، صبغة من الحنة السوداء ترسلها إليه أمه في كيس من الدمور، يذيب المسحوق في الماء، ويصبغ خطوط الشيب حتى يصبح شعره بلون الليل، لكن الشعر الأبيض فوق صدره وأسفل بطنه يكشف حقيقة العمر. يتحسس التجاعيد فوق وجهه، وعيناه تتسعان بالدهشة، كأنما الشيخوخة تسربت إليه خلسة وهو غارق في النوم. وتلتقي عيناه بعينيها في المرآة، فتحرك رأسها بعيدا تخشى العدوى، كأنما الشيخوخة مرض تنتقل بتلامس العيون، وفي عينيها يرى نظرة الإشفاق على نفسها؛ فهي شابة تعيش، وهو عجوز ميت. ويحوطها بذراعيه ينشج بين نهديها: أنا مهزوم يا جواهر. وبيدها تبعده عنها. في أعماقها تدرك أنه يريد أن ينقل عجزه إليها، وبعد كل لقاء يزداد فشله، ومع ذلك يأتي إليها لا يكف، كنوع من الإدمان، كالخمر يشتاق إليها ولا يعيش أو يموت بغيرها.
لم يعترف لها بالهزيمة أبدا. كان قد أدمنها إلى حد الإحساس بالنصر، كالسم يبتلعه المدمن بلذة متزايدة. وحين يلتقي بها يرمق جسدها من تحت الثوب، في عينيها بريق كنصل السيف. تنظر إلى جسده الميت فتدب فيه الحياة تحت بريق العين، وينتفض بين ذراعيها كالفرخ المذبوح وهي لا تنتفض، ويقول: أنت امرأة غير النساء. وتقول: كيف؟ يقول: أنت امرأة لا تشعر بجسمها مع إحساسها الدائم بعقلها. ويتثاءب كأنما يداهمه النوم فجأة، ثم يفتح عينين مليئتين بالغيرة، يغار من عقلها أكثر من أي شيء آخر. يحاول اغتصابها، كأنما بالاغتصاب يستعيد التوازن، لكن عجزه يتأكد المرة بعد المرة، ويخرج من عندها يجري إلى زوجته الشرعية، يدفن رأسه بين نهديها وينشج كطفل في حضن الأم. تحوطه بذراعيها وهي غارقة في النوم. لا تفتح جفنيها، وتحس أنفاسه الساخنة فوق عنقها، فتدرك أنه محموم بالحب، ليس لها، وإنما لامرأة أخرى يعجز عن امتلاكها. وتكتشف وهي نائمة أن المرأة غير المملوكة لأحد هي معبودة الرجال؛ فهي الوحيدة القادرة على إيلامهم. وتقول لنفسها في النوم:
لا يحب الرجال إلا تلك التي تؤلمهم.
الأم والابنة
في المرآة رأت نفسها واقفة ممشوقة القد، من حول رأسها هالة بلون الليل، والعين واسعة كقرص الشمس، وجسمها ملفوف يتوهج بألوان الطيف، يمتد فوق الهضبة الخضراء بين البحر والنهر، تفرد ذراعيها وتحتضن الكون، وتحرك ساقيها فوق الأرض. قدماها تدبان باللحن، وأنغام الصبح كأنغام الليل تحركها. عقلها لا يعرف السكون، وجسدها لا يكف عن الرقص، والهواء من حولها يصبح اللحن تعشقه، والنغم في صدرها كالهواء يملؤها، وتطير في الجو كالروح بلا جسد. تدور بالرقصة دون ردف ولا بطن، وترفع رأسها في السماء تمسك السماء ولا أحد يمسكها، وفي أذنها تسمع الدقة وراء الدقة ثلاث دقات تعرفها لا تخطئها، والوجه الصغير يطل من بين السحاب تعرفه لا تخطئه، ومن ملايين الوجوه في الكون تميزه، واليد الصغيرة تطل من الكم، شاحبة بيضاء بلا دم، وأصابع الكف مفتوحة تشبه أصابعها في ابتهال صامت أبلغ من الصوت، والعين واسعة سوداء كعين السماء في الليل، وفي صدرها تخبئها وتجري ولا تكف عن الجري، وأقدامهم من خلفها تدب بأحذية من الحديد، في كل كعب حدوة كحوافر الخيل، وفي يد كل منهم حجر أو آلة قتل، وهي في صدرها مخبوءة تحت القلب. قلبها الصغير يدق الدقة وراء الدقة مع النبض، وأصابعها الخمس تنقبض وتمسك إصبع الأم، والأم تجري تحتمي بالظلمة قبل طلوع الشمس. تأخرت الشمس في الطلوع لتحمي الأم في الليل، والقمر أيضا أغمض عينه، والنجوم راحت في النوم، وانطفأ في الكون كل ضوء. أغلق الحارس آخر أبواب القصر، وتمتم بآية الكرسي، ونام الإمام وحزب الله وحزب الشيطان، والهواء نام، وأوراق الشجر نامت، وهي واقفة تتلفت حولها تخشى أن تلمحها عين. لم تر في الظلمة أي عين، فانتزعتها من صدرها وساوت الأرض ببطن الكف، وأبعدت الطوب والحصى، وفرشت الأرض بتراب ناعم كصدر الأم، وأرقدتها. وجهها صغير شاحب يطل من فتحة الثوب. أسنانها تصطك بالبرد. خلعت الشال الصوفي الأسود وحوطتها. لامست يدها الصغيرة إصبع الأم فأمسكته بأصابعها الخمس لا تتركه، وتركت الأم إصبعها في يدها بطول الشهيق العميق في صدر الأم، ونسيت أنهم وراءها، والمسافة بينها وبينهم ضاقت، لكنها تركت إصبعها في يدها لا تسحبه حتى آخر نفس، وظلت واقفة تطل عليها من فوق، وفي ظهرها يضربون الطعنة وراء الطعنة، والأم لا تحول وجهها عن وجه البنت، لا تستدير إليهم، ومهما ضربوا لا تسقط؛ فهي ساقطة من قبل، وسقوط السقوط صعود. ومهما تصايحوا لا تعطيهم إلا ظهرها؛ فهي تعرف أنهم يهربون من وجهها إذا استدارت إليهم. يخافون أن تسقط عيناها على وجوههم؛ فهي تعرفهم واحدا واحدا ابتداء من الإمام إلى الحارس والخفير، وجميعهم كانوا يأتون إليها في الظلمة بوجوه تنكرية، وفي فراشها في بيت السعادة يخلعون الوجوه المطاط وشعر الشارب واللحية والعباءة والسروال، وتراهم واحدا واحدا بغير لباس ولا شارة على الكتف أو نجمة فوق الصدر، وجميعهم شكل واحد، ورائحة واحدة، وحركة واحدة من طرف واحد، كالهجوم بغتة والتراجع بغتة، ورفع علم الهزيمة ينتصب بغتة كعرف الديك. صواريخ النصر تفرقع، والهتاف يدوي، وهي واقفة تحت الضوء، نصف عارية ترتدي بدلة الرقص، والصاجات بين أصابعها تطرقع، وجسمها ساخن تحت الشمس، يحتضن عقلها البارد كنصل السيف، وعينها مفتوحة حمراء كعين السماء في القيظ. ترمقهم واحدا واحدا وهم وقوف يغضون البصر في الأرض. ولكل واحد منهم وجهان اثنان؛ وجه حلو التقاطيع، تنهمر الدموع من المآقي، والوجه الثاني داكن اللون جاحظ العين مدبب الأنف كالسيف.
وصوتها وهي تغني كان هو الطرب، وجسدها الممشوق كالغزال كان هو العشق. إنها لا تبالي الطعنة تأتي من الأمام أو الخلف؛ فهي ترقص ولا تبالي الموت، وهي ليست في حزب الله أو الشيطان، وليست بالمرأة أو الرجل، وليست بالإنس أو الجن، ولكنها كل ذلك، وإن سقط منها شيء يبقى الكل.
المحاكمة
قبل أن يقتلعوا رأسها من الجسد رأوا جذورها ممتدة في بطن الأرض، وبلغ بهم التعب كالخوف، وأخفوا الخوف في التعب، وجلسوا تحت الظل يحمون رءوسهم من الشمس. يمسحون وجوههم بالمناديل، ومن تحتها تطل الملامح ممسوحة بلا أثر، ولا شيء يميز الوجه عن الوجه، ولا تكاد تعرف الواحد من الآخر إلا بشارة على الرأس أو الكتف. وتعرفت على كتف رئيس الأمن وهو واقف أمامها يمسح وجهه بالمنديل ويقول:
ألك أقوال أخرى قبل تنفيذ الأمر؟ قالت: أي أمر؟ قال: أمر الله والوطن والإمام. وظلت صامتة لا ترد. وقال: ألا تؤمنين بالله والوطن والإمام؟ قالت: الثلاثة كلهم في آن واحد؟ قال: نعم، الإيمان بالكل أو لا شيء. وظلت صامتة لا ترد. ودون في الدفتر بالقلم: الصمت يعني أنها تفكر، وكونها تفكر يعني غياب الإيمان. ومسح وجهه بالمنديل وقال: ألك أقوال أخرى؟ قالت: أريد أن أقول إنني بريئة بلا ذنب، ولي أم واحدة هي الشمس، وآباء كثيرون بلا عدد، لا أعرف منهم لا الاسم ولا الوجه، ولا أقرأ الحروف فوق الورق، وأعيش في بيت السعادة وليس في قلبي إلا الحزن. النهار عندكم هو الليل عندي، والسعادة عندكم هي حزني، واللذة عندكم هي عندي الألم، والنصر عندكم هو هزيمتي، وجنتكم هي جحيمي، وشرفكم هو عاري، وعاري هو شرفكم، وعقلي هو جنونكم، وجنوني هو عقلكم. وإذا مات جسدي فلن يموت قلبي. وآخر ما يموت في هو العقل؛ فهو يعيش على أقل شيء، وكل شيء يموت في قبل العقل، ولا أحد فيكم نال عقلي، لا أحد. ومهما نلتم جسدي ظل عقلي بعيد المنال، كعين الشمس في النهار، كعين السماء في الليل.
ورأتهم واقفين أمامها في طابور طويل يضربون كفا بكف، ويتعجبون غاية العجب، وقالوا: ليست ساحرة ولا مجنونة، وإنما عاقلة، وكلامها عين العقل، وأصبح عقلها أخطر من جنونها. فحكموا عليها بالموت بطريقة أسرع من الرجم، وعدم إعطائها أي فرصة أخرى للكلام، وعدم نشر المحاكمة في الصحف، وإغلاق الملف ودفنه في بطن الأرض إلى الأبد.
Unknown page