وهنا جاء المنادي، وقد صدر قرار المحكمة بأغلبية صغيرة فإن ثلاثين صوتا في الجانب الآخر كانت تقلب القرار، وسجل كاتب المحكمة حكمها، ومس المنادي سقراط بعصاه، إشارة إلى أنه وجد مذنبا.
وكان أصحابه يتوقعون هذا، ومع ذلك فقد كان وقعه شديدا عند إعلانه، وحتى في الصفوف البعيدة من المحتشدين، حيث كان يقف عامة المستمعين، كنت تستطيع أن تحس موجة العاطفة تعلو وترتفع، وقد انهمر باكيا ذلك الرجل الصغير الذي جاء من سوق الزيت.
ونهض سقراط، وأخذ يتحدث مرة أخرى - طبقا لقواعد المحكمة - حديثه عن العقوبة.
لم يدهش سقراط لنتيجة التصويت - كما قال لهم - إلا لأنها كانت جد متقاربة، أما الآن وقد جاء دوره لأن يقترح العقوبة التي يراها عادلة، وما دام لم يقدم إساءة، وإنما كان في الواقع يفعل الخير للمدينة، فلا بد له أن يطلب جزاء فاعل الخير: «قدموا لي الطعام بغير مقابل ما دمت حيا في ملجأ المدينة» قال ذلك جادا وإن كان المزاح قد بدا على وجهه: «إنكم بذلك تكافئون الظافرين في أولمبيا، وقد فعلت أكثر جدا من أن أفوز لكم في سباق ، ثم إني - فوق ذلك - رجل فقير في حاجة إلى معونتكم كي أواصل عوني لكم.»
وقد جعلت هذه الكلمات موته أكيدا - وعرف ذلك أصدقاؤه كما عرفه هو نفسه - وصوب نظره نحو وجوههم حينما علا ضجيج الغضب من جانب المحكمين، ثم كف عن المزاح، وقد عرف أنهم كانوا يريدونه أن يقترح النفي، وأنه لو اقترحه، والأصوات ضده أغلبية ضعيفة، لكان الأرجح أن ينقذه هذا الاقتراح، بل إنه من الجائز أن ينقذه الآن.
ثم سأل المحكمة قائلا: «ولكني إن كنت لا أستطيع أن أقول الحق في مدينتي الخاصة أثينا، فكيف يسمحون لي بقوله في أي مكان آخر، وأنا لا أستطيع أن ألزم الصمت؛ لأن الله قد أمرني أن أتكلم، وإن كنت أعرف أنكم لا تؤمنون بذلك، وإذا قلت: إن الواقع أن أعظم خير يصيب الإنسان هو أن يتحدث كل يوم عن الخير، وعن الأمور الأخرى التي سمعتموني أناقشها، باحثا في نفسي وفي غيري، لو قلت: إن الحياة التي لم تبحث لا تستحق أن يعيشها إنسان، لو قلت ذلك لكان إيمانكم به أقل، ولكن الحق هو ما أقول يا رجال أثينا.»
والآن في الختام اقترح عليهم بغتة ما يمكن أن يسموه عقوبة - غرامة يسيرة - تساوي أربعة جنيهات، شيئا يثير فيهم السخرية والضحك، ولكنه كل ما يستطيع أن يدفعه، وأعاد عليهم قوله بأنه لا يستطيع أن يتقدم بعقوبة تؤذيه، ولكن تقديم المال لا يعود عليه بالأذى، ولما ضاعف أصحابه المبلغ ثلاثين مثلا، وهب أقريطون وكريتوبيولس وأبولودورس وأفلاطون صائحين بأنهم يتعهدون بدفع كل ما يستطيعون من جيوبهم الخاصة؛ قابلهم بابتسامة وقبل الهبة منهم، وقال للمحكمة: «إن أصحابي سيدفعون المال، ويمكن لكم أن تثقوا فيهم.»
ولم يبد عجيبا لمن عرفوه أن تخصص بقية الخطاب للحق، في حين أن نهايته كانت لأصحابه.
ولم تحدث بعد ذلك أمور كثيرة، ثم كان التصويت يتبعه الحكم كما توقعه كل إنسان الآن، وحكم على سقراط بالموت، وكان ينبغي أن يبعد توا، ولكنه - بسبب تأجيل لم يكن في الحسبان - وجد فرصة من الوقت يلقي فيها على المحكمة كلمة أخيرة.
قال للرجال الذين أدانوه: «لا تحسبوا أني زللت لأني لم أجد من اللفظ ما يقنعكم؛ لأن المرء حينما يحيق به أي لون من ألوان الخطر يستطيع أن يلتمس كثيرا من الحيل التي تنجيه من الموت، ولكن الأمر الذي يشق على المرء ليس فراره من الموت، وإنما أشق منه أن تفر من فعل السوء.» «إن الموت بطيء، وقد لحق بي، وأنا شيخ مسن بطيء، أما الشر فسريع، وقد لحق بكم برغم مهارتكم، لا بد لي أن أعاني حكمي، ولكن لا بد لكم كذلك أن تعانوا حكمكم.»
Unknown page