وأسرع في القراءة بمقدار ما سمحت له طريقة الكتابة المضطربة التي كانت تستخدم في تلك الأيام، إذ كانت الكلمات كلها تتشابك بغير انفصال، وطالع الكتاب بأجمعه وإن كان قد أحس بعدم الجدوى من القراءة قبل أن ينتهي من الكتاب بوقت طويل؛ لأنه بعدما ألقى الكتاب جانبا عرف دون أدنى أمل في الشك أن أنكسجوراس كان - بعد هذا كله - كغيره من الناس، فقد فسر العالم حقيقة كما فسره غيره بالتراب والهواء والنار والماء، ولم يزج بالعقل إلا لكي يشتت الخليط ويدفع بالأشياء إلى الحركة.
وليس الأمر إلا كأنك تضع يدك في حوض من الماء به أوراق من الشجر وأعواد وريش، كلها طاف فوق سطحه، وتستطيع أن تحدث بيدك دوامة فتتفرق الأشياء على صور مختلفة، بعضها يقذف إلى حافة الدوامة، وبعضها ينجذب إلى مركزها، وليس «عقل» أنكسجوراس سوى اليد التي تحرك الدوامة، وإنما تفعل الدوامة ما بقي.
وأعاد سقراط الكتاب إلى صاحبه، وأخذ يتدبر ما فيه، وأحس بفراغ النفس لأن نشوته إنما كانت لكشف عظيم لم يتحقق، ورأى الآن في هدأته ذلك الحق الذي كان يزحف عليه خلال هذه السنوات التي قضاها في الدرس، إن العلماء قد يكونون محقين فيما يقولون عن التراب والهواء والنار والماء، وقد يجدون الجواب عن «كيف» كانت الأشياء و«كيف» صارت، بيد أن ذلك هو كل ما يستطيعون أن يجدوا، ولن يتبين لهم أبدا «لماذا».
إن السبب (لماذا) لا يتعلق بمادة الأشياء، وإنما يتعلق بالغرض في الذهن، وقد عرف سقراط ذلك منذ اليوم الذي قضاه في محل ماوس، بيد أنه لم يعرفه حق المعرفة إلا في هذه اللحظة، والغرض الثابت في الذهن هو ما يراه المرء خيرا، وسأل سقراط نفسه لكي يختبر هذه الفكرة «لماذا» أجلس هنا؟ و«لماذا» لست في الخارج مع أقريطون والآخرين، أقضي وقتا طيبا، ومحاولا أن أنسي خيبتي وجهلي؟ هل ذلك لأن لي عظاما متصلة تحت الجلد واللحم وعضلات تجذبها إلى هذا الوضع من الجلوس؟ أم هل ذلك لأني أعرف أنه من «الخير» لي ألا أنسى، وأنه من «الخير» لي أن ألبث هنا وأفكر، وأستخرج الحقيقة حيثما قادتني؟ وكان الجواب الصحيح على ذلك واضحا.
هذه الحقيقة التي جابهها سقراط كانت حقيقة جليلة، وكانت كذلك حقيقة مزعجة من ناحية ما ، وقبل أن يبعدها عن ذهنه فحصها من كل نواحيها ورأى كل جوانبها، وماذا عساها تدفعه إلى أدائه، رأى أن ليس في العالم بأجمعه بعجائبه ومشاهده وأصواته ما يبلغ في أهميته معرفة «الخير»، وما يظنه الناس خيرا هو السبب (لماذا) في كل شيء يفعلون، وهم مرغمون على أداء ما يرونه خيرا، ولو أن رجلا سرق من جاره وانقلب لصا وكاذبا فإنما ذلك لأنه يتوقع أن يجد في هذا العمل خيرا، وليس هناك من يسير وراء الشر وهو عالم بذلك.
ثم ما أفظع أن يكون المرء جاهلا، وأن يخدع فيما هو خير، لا يهم المرء حسن تكوين جسده، ولا صفاء ذهنه؛ لأن حياته كلها تسير في اتجاه خاطئ لو كان «بالخير» جاهلا، لقد كان سقراط دائما يمقت الجهل، ولكنه الآن رأى قبحه أوضح من أي وقت سلف، وأزعجه من التفكير في مدينة أثينا هذه العظيمة، بكل من فيها من أفراد أذكياء عاملين يسيرون وراء ما يظنونه خيرا، ولكنه قد يتبين كذلك أنه شر، إنهم لم يفتحوا أعينهم أبدا حقا لكي يروا ويدركوا.
لقد عاش الناس وفقا لقواعد يسيرة صدقوها وهم خاملون لا يفكرون، «لا تفر من المعركة.» أو «لا تعط المال للشحاذين.» أو «كون لك أصدقاء، فقد تحتاج إليهم ذات يوم.» أو «استخرج المتعة من الحياة بقدر ما تستطيع.» ولكن من ذا الذي اكترث بالبحث عن «الخير»، وهو الغرض الحقيقي من الحياة، الذي ينبغي أن يتحكم في كل عمل، وصاغ كل دقائق الحياة طبقا للنموذج الحق، كالجرة يصنعها الخبير؟
وعرف سقراط عندئذ أن هذا البحث هو عمله الحق، إن معرفة «الخير» لها من قوة الجذب ما ليس للعضلات والعظام، وما رآه سقراط من أهمية معرفة الخير سوف يصوغ حياته، وسوف يقرر له كل ما يقوم به من عمل.
وأمكنه أن يرى أن أمامه طريقا شاقا، ولسبب ما سيق سقراط إلى البحث عن أعمق المعارف وأشدها عسرا، وهو النحات الذي أحس أنه أشد الأثينيين جهلا، ولا يستطيع حقا أن يفهم علم العلماء أو صناعات الصناع، وكأن عقله أصغر جدا من أن يبحث عن هذا الأمر الجليل.
ولم يستطع العلماء أن يعينوه أكثر مما فعلوا، وأدرك ذلك الآن في جلاء ووضوح، فقد كانوا يعملون في مشكلة أخرى، وخير وسائلهم وأدقها هي دراسة الأشياء التي يمكن أن ترى وأن تمس، ولكن لكي يفهم المرء السبب (لماذا) لا بد من إيجاد طريقة جديدة، وليست ملاحظة مسير الشمس والقمر، فقد انتهى سقراط من ذلك إلى الأبد، بل وليست دراسة جسم الإنسان العجيب.
Unknown page