Sunnah Purified and Challenges
السنة المطهرة والتحديات
Publisher
مجلة مركز بحوث السُنَّة والسيرة - قطر،العدد الثالث
Publisher Location
١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م
Genres
ـ[السُنَّة المطهرة والتحديات]ـ
بقلم الدكتور نور الدين عتر
أستاذ التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلومه
في كليات الشريعة والآداب في جامعتي دمشق وحلب
مجلة مركز بحوث السُنَّة والسيرة - قطر
العدد الثالث: ١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م
عدد الأجزاء: ١.
أَعَدَّهُ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / توفيق بن محمد القريشي، - غَفَرَ اللهُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ -.
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].
Unknown page
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نَبِيِّنَا وَهَادِينَا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين من جاء بالشريعة الكاملة التي اختصت بِأَنْ تَكَفَّلَ المولى ﵎ بحفظها وسدادها إلى أَبَدِ الآبِدِينَ، - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ - ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فإنَّ هذا الموضوع: «السُنَّة المُطَهَّرَة والتحديات» دراسة علمية موضوعية، وعرض صادق أمين للخصوصية الكبرى التي اختص الله بها هذه الأمَّة وفضَّلها بالامتياز بها على سائر الأمم، وفي جميع العصور السابقة واللاحقة، تلك الخصوصية «حفظ الحديث النبوي» ذلك التراث الثري والحيوي الضخم الذي اختص اللهُ هذه الأُمَّةَ بأن حفظته غَضًّا طَرِيًّا مدى االعصور والأزمان، وعلى مَرِّ القرون والأجيال، وها نحن وقد انسلخ القرن الرابع عشر ودخلنا في الخامس عشر الهجري نقرأ حديث نَبِيِّنَا ﷺ وَنَسْمَعُهُ وَيُخْطَبُ بِهِ عَلَى المَنَابِرِ، وَيُذَاعُ على العالم جديدًا صحيحًا كما قاله ونطق به وكأنه صدر عنه الساعة، ﷺ.
إنَّ هذا الكنز العظيم الذي ظفرنا به وفزنا بنواله قد اجتاز في طريقه إلينا عقبات وتحديات ضخمة اعترضت طريق وصول السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ إلينا، وواجهت هذه الأمَّةُ المُؤْمِنَةُ حَامِلَةَ هذا الحديث وروايته، فاجتازتها أُمَّةُ الإسلام وتغلبت عليها بتوفيق من الله تعالى، وقدمت بذلك منذ اللحظات الأولى لعملها في الرواية البرهان على كمال هذا الإسلام وكفايته ووفائه بكل حاجات البشرية، ما كان منها موجودًا سابقًا وما يطرأ بَعْدُ مِنَ المُتَغَيِّرَاتِ لاَحِقًا.
1 / 137
هَدَفُ هَذَا البَحْثِ:
هذه التحديات هي هدف الدراسة في هذا البحث:
تحديات العقبات التي واجهتها الأُمَّةُ الإِسْلاَمِيَّةُ بِخُلُوِّ الجَوِّ العِلْمِيَّ وَالدِّينِيَّ وفراغه الكامل لدى الأمم الأخرى من أَيِّ تأصيل أو ثروة أو أثارة من طريق يكفل صِحَّةَ الرواية يمكن أنْ يفيد منه الصحابة لنقل السُنَّةِ وَالتُرَاثِ نَقْلًا صَحِيحًا.
ثم بعد هذا تحديات الأسئلة المستفسرة أو المستشكلة عن تحقق حفظ السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وسلامة نقل الحديث النبوي، بل الأسئلة المُتَعَنِّتَةِ التي طرحت قَدِيمًا وَتَجَدُّدِ الخوض فيها منذ مطلع العصر الحديث حول جهود العلماء، وَعُلَمَاءَ السُنَّةِ وَأَهْلِ الحَدِيثِ، الذين كان لهم الفضل الأكبر في خدمة هذا الدين الإسلامي بحفظهم لِلْسُنَّةِ: الأصل الثاني من أصول الإسلام بعد كتاب الله تعالى، وهل نجحت الأُمَّةُ في تذليل تلك العَقَبَاتِ وَمَلْءِ ذلك الفراغ العلمي ومن ثم تحقيق غاية في الذروة في الغايات العلمية العظيمة والدينية ألاَ وهي حفظ الحديث النبوي وصيانته من التغيير والتبديل.
ولنبدأ البحث بشأن الحديث من أيامه الأولى.
تَلَقِّي الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ:
لقد بعث اللهُ تعالى رسوله الأعظم خاتم الأنبياء والمرسلين بالهداية الكاملة التامة، التي تشمل جميع الشؤون والقضايا، وَأَيَّدَهُ بالمعجزة الكبرى. التي خَصَّهُ بها من بين سائر الأنبياء وأكرم أُمَّتَهُ بها دون سائر الأمم، ألاَ وهي معجزة القرآن الكريم، بُرْهَانَ نُبُوَّتِهِ وآية رسالته، وكتاب دعوته وهدايته، ودستور أُمَّتِهِ، وآتاه السُنَّةَ حكمة تُفَسِّرُ هذا القرآن وَتُبَيِّنُهُ، كما قال ﵎:
1 / 138
﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (١).
وقال عَزَّ من قائل:
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (٢)
وقد تلقى الصحابة هذا القرآن الكريم وهذا الحديث النبوي الشريف بأقصى غاية القبول والإذعان كما تتلقى الأرض الخصبة الطيبة غيث السماء وقد استبد بها الظمأ، واشتد القحط وطال أمده، فتتشرب الغيث بكل ذَرَّاتِهَا، ثم تقدم للعالم أطيب الثمار.
فاستمع الصحابة القول من القرآن ومن الحديث وَاتَّبَعُوهُ أحسن ما يكون عليه الاتباع حتى كانوا خير هذه الأُمَّةِ المُفَضَّلَةِ على سائر الأمم وأفضل جيل فيها، قال اللهُ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (٣).
الصَّحَابَةُ وَرِوَايَةِ السُنَّةِ:
لما اختار الرسول الكريم - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ -، جوار ربه ولحق بالرفيق الأعلى خلفه صحبه الكرام في آداء الأمانة وحمل الرسالة إلى العالم، هنالك واجهت الصحابة مسألة نشر السُنَّةِ والمحافظة عليها، ونقلها كما سمعوها من قائلها، - صَلَوَاتُ اللهِ تَعَالَى وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - طِبْقًا لما حَضَّهُمْ وَحَثَّهُمْ عليه وأمرهم وَكَلَّفَهُمْ به في الأحاديث الكثيرة المتواترة البالغة غاية الكثرة، كما
_________
(١) [سورة النساء، الآية: ١١٣].
(٢) [سورة النحل، الآية: ٤٤].
(٣) [سورة آل عمران، الآية: ١١٠].
1 / 139
في الحديث الذي يقول فيه: «نَضَّرَ اللهُ امْرُءًا سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلِّغَهُ كَماَ سَمِعَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (١).
فقام الصحابة بحمل الأمانة وتبليغ الرسالة، ونقل الحديث النبوي إلى العالم، لأنهم حين خرجوا وانتشروا في الأرض لم ينتشروا غُزاة بعقلية الفاتحين بل كانوا يَهْدُونَ العالم وينقذونه من الظلمات إلى النور، ومن الضلال والضياع إلى الطريق المستقيم طريق السعادة والكرامة والفوز في الدنيا وفي الآخرة وذلك كما سجله التاريخ لهم من أفعالهم وأحوالهم، وكما نطقت به هذه الكلمة المُدَوِّيَةُ الخَالِدَةُ التي كتبها الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز لعامله يقول له: «إَّنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا هَادِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا».
وكما قال من قبله أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب لواليه على مصر: «مَتَى اسْتَعْبَدْتُمُ النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرِارًا».
تَحَدِّي الفَرَاغَ العِلْمِيَّ فِي الرِّوَايَةِ:
واجه الصحابة هذه القضية التي تمس جوهر الإسلام قضية نقل السُنَّة النَّبَوِيَّة وحفظها وكان الجَوُّ كما ذكرنا خاليًا وفارغًا جدًا ليس فيه أي أثر من قاعدة أوقانون لدى أي أُمَّةٍ من الأمم يفيد في نقل تراث أو ما يتعلق بالرواية أيًا كانت الرواية ليمكن أنْ يعتبر سابقة يُحْتَذَى أَوْ قُدْوَةً يُؤْتَسَى بها، بل كان هناك واقع مظلم عند الأمم الأخرى، فقد فرطت في كتبها المقدسة التي يرتبط بها وجودها الحقيقي في الواقع، وتلفقت أقاويل وأقاصيص وحكايات خرافية
_________
(١) أخرجه أبوداود في العلم (باب فضل نشر العلم): ج ٣ ص ٣٢٢ والترمذي: ج ٥ ص ٣٣ - ٣٤ بلفظه وقال: «حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وابن ماجة: ص ٨٤.
1 / 140
باطلة من هنا وهناك، لَبَّسَتْ بها كتب دينها، حتى صارت تحوي أقاصيص وأباطيل مِمَّا ينبو الذوق عن ذكره فضلًا عن تدوينه (١).
الأمر والواقع الذي يدل على المهمة الكبرى التي أنيطت بالصحابة لكي يقوموا بالواجب الذي ألقي على عاتقهم، وَيُؤَدُّوا هذا الحديث عن نبيهم، أداءًا صحيحًا يُحَقَّقُ الغاية التي أمروا بها وبتوصيلها إلى العالم.
أُصَولُ المَنْهَجِ العِلْمِيِّ لِلْرِّوَايَةِ فِي القُرْآنِ:
لكنه الإسلام، الإسلام العظيم كفاهم المؤنة، وَحَلَّ لهم المعضلة بما يشتمل عليه من عوامل الحفظ الذاتية التي خَصَّهُ اللهُ تعالى بها، وأودعها في القرآن وَالسُنَّةِ فواجه بها الإسلام الأعاصير العاتية عبر التاريخ صَلْبًا ثَابِتًا، ثم بما امتاز به من خصوصية الشمول لكل جوانب الحياة، مِمَّا يكفل لهذه الأُمَّةِ المَنَعَةَ والسلامة والقوة والهداية، ما إن تمسكت به، وتعلقت بأهدابه، واعتصمت بحبله المتين وَعُرْوَتِهِ الوُثْقَى.
فقد قررت نصوص القرآن أصولًا علمية كانت منارة للصحابة في صيانة الرواية وأداء الحديث صحيحًا كما سمع من قائله، وهي أصول على غاية من الأهمية لخطورة موقعها، ولما أنَّ دلالة النصوص عليها ظاهرة واضحة، حتى أنها لظهورها وتسليمها قد غفل عنها وعن موقعها الهام في تأصيل قواعد الرواية والنقل الصحيحين.
_________
(١) مثل ما تنسب القصص الإسرائيلية إلى لوط - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - أنَّ ابنتيه سقتاه خمرًا حتى سكر، قصدتا أن يقع عليهما، وتلدا له ذكورا؟ وقد ضاجعهما واحدة واحدة ثم حملتا منه؟ ثم أتت كل واحدة منها بولد ذكر؟ حاشا نبي الله لوطا عن ذلك - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -.
1 / 141
غير أنا لا نستطيع ههنا في هذا الموقف، الإِفَاضَةَ في تفاصيلها وتفاريعها، بل نكتفي بعرض ملخص لهذه الأصول العلمية في الرواية فيما يلي:
أَوَّلًا: تَحْرِيمُ الكَذِبِ:
وهذا يعني فرض الأمانة العلمية، كما نُعَبِّرُ اليوم، وتحريم الخيانة العلمية ومعلوم تشديد القرآن الكريم وَالسُنَّةُ النَّبَوِيَّةُ في الزجرعن الكذب تشديدًا عظيمًا، وتغليظ حرمته، حتى جعل الكذب من صفة غير المسلم، كما جاء في نص القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ (١)
وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (٢)
كذلك الحديث المتواتر عنه ﷺ أنه قال: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مِقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، وقد رَوَى هذا الحديث عن النبي ﷺ بضع وسبعون صَحَابِيًا. (٣).
_________
(١) [سورة النحل، الآية: ١٠٥].
(٢) [سورة الأعراف، الآية: ٣٣].
(٣) انظر تفصيل تخريجه عنهم في " تدريب الراوي ": ج ٢، ص ١٧٧ - ١٧٨، وأما في مطلق تحريم الكذب فقد رواه نحو مائتي صحابي.
1 / 142
ثَانِيًا: رَفْضُ خَبَرِ الفَاسِقِ:
وذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ (١)
فقد أوجب التثبيت وعدم قبول خبر الفاسق حتى تَتَبَيَّنَ صِحَّتُهُ من طريق أخرى فتكون العمدة على تلك الطريق.
ثَالِثًا: اشْتِرَاطُ العَدَالَةِ لِقَبُولِ خَبَرَ الرَّاوِي:
وهو أصل في الشريعة بلا خلاف، يشهد له قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ (٢) وقوله: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ (٣)
فإنَّ هذا وإنْ كان ظاهره في الشهادة في الأموال فإنه يدل بطريق الأَوْلَى على اشتراط ذلك في راوي الحديث لأنه يشهد على الله تعالى وعلى رسوله بما ينقل.
قال الإمام الترمذي: «لأَنَّ الشَهَادَةَ فِي الدِّينِ أَحَقُّ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيهَا مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الحُقُوقِ وَالأَمْوَالِ» (٤).
وأخرج ابن ابي حاتم عن بهز بن أسد قال: «لَوْ أَنَّ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ جَحَدَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَخْذَهَا مِنْهُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، فَدِينُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ بِالعَدْلِ» (٥)
_________
(١) [سورة الحجرات، الآية: ٦].
(٢) [سورة الطلاق، الآية: ٢].
(٣) [سورة البقرة، الآية: ٢٨٢].
(٤) ج ١ ص ٤٤ من نسخة " شرح العلل " لابن رجب الحنبلي.
(٥) " الجرح والتعديل ": ج ١ قسم ١ / ص ١٦. وانظر " التعليق على شرح العلل ": ج ١ ص ٤٥.
1 / 143
رَابِعًا: التَّثَبُّتُ مِنْ كُلِّ قَضِيَّةٍ:
وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (١) أي لا تتبع شَيْئًا لم تعلم تحققه وسلامته وهذا يشمل وجوب التأكد من صحة العلم النقلي، ونحن إنما نتكلم هنا عن العلم النقلي فلا يقبل منه شيء إِلاَّ بعد التَثَبُّتِ مِنْ صِحَّتِهِ وأنه مطابق لأصل النص الذي صدر عن صاحبه.
خَامِسًا: تَحْرِيمُ نَقْلِ الخَبَرِ المَكْذُوبِ:
هذا الأصل يدلنا على مدى الاحتياط الواجب وقد دلت عليه الآية السابقة ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (١)، ولما في الحديث الصحيح المستفيض من رواية جماعة من الصحابة عنه ﷺ أنه قال: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» أخرجه مسلم في " مقدمة صحيحه " وغيره (٢).
وهذا تحذير خطير من مسؤولية الرواية، يوجب على كل من سمع حَدِيثًا أَنْ يَتَوَقَّفَ ولا يرويه حتى يتثبت ويأخذ بالاحتياط.
تَطْبِيقُ الصَّحَابَةِ لأُصُولِ القُرْآنِ فِي الرِّوَايَةِ:
في عصر الخلفاء الراشدين الذي تأصلت فيه أصول الرواية كانت السيادة في المجتمع الإسلامي للطبقة التي كونت هذا المجتمع وهي طبقة الصحابة
_________
(١) [سورة الإسراء، الآية: ٣٦].
(٢) " مقدمة صحيح مسلم ": ص ٧.
1 / 144
الكرام، تلامذة النبي ﷺ، الذين آمنوا به وبذلوا من أجله كل نفس ونفيس ثم انطلقوا يجاهدون في سبيل الله لإنقاذ الدنيا من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان ولتحرير الأمم والشعوب والأفراد من عبادة الإنسان إلى عبادة الواحد الدَيَّانِ والاعتزاز به وحده سبحانه، والانعتاق من الذلة لأي قوة أو سلطان في الدنيا سوى سلطان اللهِ سبحانه حتى رفعوا هذا الإنسان إلى عزة وكرامة تًعْنُو أمامها كل دعوة حرية أوتحرير، فكان من الطبيعي أن يكون الصحابة حراصًا أشد ما يكون الحرص على صيانة الحديث النبوي، وعلى أدائه وفق ما سمعوه كما أمرهم بذلك القرآن، وَرَبَّاهُمْ عليه النبي ﷺ من الصدق والتثبت في كل شيء بصفة عامة وفي الحديث النبوي بصفة خاصة.
لذلك كان هذا العصر عصر العدالة الذهبي، وكان الصحابة يتلقون الحديث عن بعضهم البعض، ويصدق بعضهم بَعْضًا لاَ يَتَّهِمُونَ أَحَدًا منهم في الحديث عن النَّبِيِّ ﷺ أَبَدًا سواء في ذلك ما قبل وقوع الفتنة وما بعد وقوعها وما شجر فيها من الخلاف.
عَدَالَةُ الصَّحَابَةِ ﵃ بِدَلاَلَةِ الوَثَائِقِ العِلْمِيَّةِ:
وَقَدْ حَدَّثَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَوْمًا بِحَدِيثٍ فَسُئِلَ: هَلْ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ فَقَالَ: «سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَوْ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَاللهِ مَا كُنَّا نَكْذِبُ وَلاَ نَدْرِي مَا الكَذِبُ».
1 / 145
وَمِمَّا يدل على عدالة الصحابة وثائق كثيرة، منها ما أخرجه مسلم (١) بالأسانيد الصحاح وغيره أَيْضًا أنه جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لا يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ، ولا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَالِي لاَ أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي؟ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلاَ تَسْمَعُ؟
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا مَرَّةً (٢) إِذَا سَمِعْنَا رَجُلًا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا، وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ، لَمْ نَأْخُذْ مِنْ النَّاسِ إلاَّ مَا نَعْرِفُ».
وذلك ما نطقت به أدلة القرآن وَالسُنَّةُ كقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (٣) وقوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (٤).
وتواتر قوله ﷺ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (٥)
وأخرج الشيخان عن آبي سعيد الخُدري أنَّ رسول الله ﷺ قال: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذّهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ» (٦).
_________
(١) في " مقدمة صحيحه ": ص ١٠.
(٢) أي فترة من الزمان. قبل وقوع الفتنة.
(٣) [سورة آل عمران، الآية: ١١٠].
(٤) [سورة الفتح، الآية: ٢٩].
(٥) صرح بتواتره الحافظ ابن حجر في " الإصابة ": ج ١ ص ٢٠.
(٦) " البخاري ": ج ٦ ص ٨ و" مسلم ": ج ١ ص ١١٨.
1 / 146
وذلك ما أجمع عليه أهل العلم المعتمدون فقد كفانا البحث - كما قال الإمام أبو عمر بن عبد البر - عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وَهُمْ أَهْلُ السُنَّةِ وَالجَمَاعَةُ على أنهم كلهم عدول (١).
وَأُنَوِّهُ هنا بالاستشهاد بدلالة الواقع في مروياتهم كما دَلَّ عليه أسلوب هو في البحث العلمي من وسائل المعرفة القاطعة وهو ما يُسَمَّى في فن مناهج البحث وعلم المنطق «الاستقراء التام»:
يقول العلاَّمة المُحَدِّثُ عبد الرحمن المعلَّمي اليماني (٢):
«إنَّ أئمة الحديث اعتمدوا فيمن يمكن التشكك في عدالته من الصحابة اعتبارًا لما ثبت أنهم حَدَّثُوا به عن النبي ﷺ أو عن صحابي آخر عنه، وعرضوها على الكتاب وَالسُنَّةِ وعلى رواية غيرهم مع ملاحظة أحوالهم وأهوائهم (٣)، فلم يجدوا من ذلك ما يوجب التُّهْمَةَ، بل وجدوا عامة ما رَوَوْهُ قد رَوَاهُ غيرهم من الصحابة مِمَّنْ لا تتجه إليه تُهْمَةٌ، أو جاء في الشريعة ما في معناه أو ما يشهد له».
ونضيف إلى ذلك ما أَدَّى بنا إليه البحث فنشهد أنه من خلال دراستنا لألوف تراجم الرُوَّاةِ والمرويات الضعيفة التي ذكرت في كتب الضعفاء فإنه لم يوجد حديث قط يحكم فيه بما يُخِلُّ بهذا المبدأ (٤).
_________
(١) " الاستيعاب ": ج ١ ص ٨ وانظر " الكفاية ": ص ٤٩ و" توضيح الأفكار " للصنعاني: ج ٢ ص ٤٦٩ وغيرها.
(٢) في كتاب " الأنوار الكاشفة ": ص ٢٧١.
(٣) أي نزعاتهم السياسية في الخلاف بين عَلِيٍّ ومعاوية.
(٤) وانظر التحقيق القيِّم الذي قام به العلاَّمة محمد بن الوزير اليماني من أئمة الشيعة الزيدية باستقرائه أحاديث الصحابة الذين اشتهر كلام بعض الفرق فيه وَتَوَصُّلِهِ إلى النتيجة التي ذكرناها أَيْضًا، وذلك في كتاب " الروض الباسم في الذَبِّ عن سُنَّةِ أبي القاسم ": ج ٢ ص ١١٣ - ١٢٩ واعتمد عليه كذلك محمد بن إسماعيل الصنعاني من أئمة الشيعة الزيدية المجتهدين في كتابه " توضيح الأفكار ": ج ٢ ص [٣٦٣ - ٤٥٣].
1 / 147
قَوَانِينُ الرِّوَايَةِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ:
تلك الأصول التي بَيَّنَّاهَا في ضبط الرواية وصياغتها توجب البحث وَتُحَتِّمُ التَثَبُّتَ في الحديث، من جهة الراوي، ومن جهة الرواية، ومن جهة المروي، وغير ذلك مِمَّا يتعلق بالحديث، لأَنَّ في كل ذلك قرائن، ودلائل تشير إلى صحة النقل أو عدم صحته مِمَّا لا يجوز شَرْعًا في مسؤولية الدين أَنْ يفرط الباحث فيه.
وكان الصحابة آنذاك هم الذين يَرْوُونَ الحديث للناس، وهم خير القرون، ولم تكن هناك سلاسل إسناد، ولذلك لم يكن الأمر بحاجة إلى أكثر من أَنْ نَتَثَبَّتَ من صحة أداء الراوي العدل الضابط وهو الصحابي، بأنْ نطمئن إلى أنه لم يخطيء أو لَمْ يَنْسَ، ونحو ذلك، مِمَّا قد يعرض للعدل الضابط، مِمَّا لا يُعْصَمُ منه البشر.
وقد تشبث الصحابة بتلك الأصول بما يحقق الهدف، فَقَدْ اتَّبَعُوا قَوَانِينَ وَأُصُولًا في الرواية تلائم ما ذكرنا من وضع السُنَّةِ في عهدهم وكانت مبتدأ علم مصطلح الحديث، وأصول النقد، الذي تكامل شَيْئًا فَشَيْئًا بعد ذلك مع ما طرأ من التغيرات، وطول الأسانيد وغير ذلك.
وقد لجأ الصحابة إلى قواعد نذكر منها:
أَوَّلًا: تَقْلِيلُ الرِّوَايَةِ:
وذلك حتى لا يزلق لسان الراوي، فينزلق ويقع في الخطأ أو يسرع إليه الوهم، والأمثلة على ذلك من تصرف الخلفاء الراشدين وتوجيهاتهم كثيرة مشهورة، أضيف إليها هذه الوثيقة التي تدل على انتشار الأخذ بهذا الأصل
1 / 148
وشيوعه فيهم، فقد اشتهروا واستفاض عن الصحابة مَرْفُوعًا إلى النبي ﷺ وَمَوْقُوفًا أي منسوبًا إليهم من كلامهم «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» (١).
وقد نَبَّهْنَا إلى تعدد رواية هذا القول، لأنه يدل على انتشار هذه القاعدة ورسوخها في المجتمع تَقْلِيدًا عِلْمِيًّا، وهويعني أَنَّ الإنسان لاَ يُحَدِّثُ إِلاَّ بما يثق من نفسه أنه يؤديه كما سمعه.
ثَانِيًا: التَثَبُّتُ مِنْ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ تَحَمُّلِهَا وَعِنْدَ أَدَائِهَا:
ومن ذلك أنهم يَسْتَشْهِدُونَ مع الراوي غيره أو يَسْتَحْلِفُونَهُ، تَثَبُّتًا، وَاطْمئْنَانًا ومن ذلك ما ذكره الذَّهَبِيُّ في ترجمة عمر بن الخطاب ﵁ قال: «وَهُوَ الَّذِي سَنَّ لِلْمُحَدِّثِينَ التَّثَبُّتَ فِي النَّقْلِ وَرُبَّمَا كَانَ يتَوَقَّفُ فِي خَبَرِ الوَاحِدِ إِذَا ارْتَابَ رَوَى الجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ مِنْ وَرَاءِ البَابِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَرَجَعَ فَأرْسَلَ عُمَرُ فِي أَثَرِهِ فَقَالَ: " لِمَ رَجَعْتَ؟ " قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله ﷺ يَقُولُ: " إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُجَبْ فَلْيَرْجِعْ ".
قَالَ: " لتَأْتِينيِ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَو لأَفْعَلَنَّ بِك "، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى مَمْتَقِعًا لَوْنُهُ وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقُلْنَا: " مَا شَأْنُكَ؟ " فَأخْبرَنَا وَقَالَ: " فَهَلْ سَمِع أَحَدٌ مِنْكُمْ؟ " فَقُلْنَا: " نَعَمْ كُلَّنَا سَمِعَهُ " فَأَرْسَلُوا مَعَهُ رَجُلًا مِنْهُم حَتَّى أَتَى عُمَرَ فَأخْبرهُ».
وَنَوَدُّ أنْ نُنَبِّهَ - ولو أننا استطردنا عن الموضوع - إلى أَنَّ ما فعله الصحابة في هذا المجال لم يكن من باب الاتِّهَامِ، كما حاول بعض المعاصرين من الكاتبين في تاريخ السُنَّةِ أَنْ يَتَقَوَّلَ وينسب إلى الصحابة أنهم قد يَشُكُّونَ فِي
_________
(١) ورد ذلك عن جماعة من الصحابة، انظر الرواية عن بعضهم في " مقدمة صحيح مسلم ": ص ٨، وقارن بـ " البخاري " في العلم، (باب إثم من كذب على النبي ﷺ): ج [١] ص ٢٩ و" سُنن ابن ماجه ": ص ١٠ - ١٣، وانظر " توجيه النظر ": ص ١٤ - ١٦.
1 / 149
صِدْقِ بَعْضِهِمْ، فإنَّ عمر ﵁ صَرَّحَ في بيان عمله في التثبيت بقوله: «إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ».
فالواقع أَنَّ من يريد تفسير عمل الصحابة فِي التَثَبُّتِ بِالشَكِّ وَالتُّهْمَةِ لبعضهم شأنه شأن من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، لأنَّ نصوص الروايات التي يستدل بها صريحة في ألفاظها واضحة في عباراتها يقول أصحابها: إِنَّنَا لَمْ نَتَّهِمْ هَذَا الرَّاوِي، ثم يأتي هذا المُتَقَوِّلُ في هذا الزمان ليزعم أَنَّهُ يَتَّهِمُهُ، فمن نُصَدِّقُ؟ أَهَلْ نُصَدِّقُ صاحب المسألة المُتَثَبِّتُ أو نُصَدِّقُ المُتَقَوِّلَ المُخْتَرِعَ لهذا التفسير بعد مَدِيدِ الأجيال والقرون؟
ومن قوانينهم في الرواية:
ثَالِثًا: نَقْدُ الرِّوَايَاتِ:
وذلك بعرضها على نصوص وقواعد الشريعة فإذا وجدوا النص المروي مُخَالِفًا لَهَا رَدُّوهُ ولم يعملوا به.
فهذه السَيِّدَةُ عَائِشَةَ ﵂ فيما أخرجه الشيخان عنها، سَمِعَتْ حَدِيثَ عُمَرَ وَابْنَهُ عَبْدَ اللهِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ». فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ "، وَقَالَتْ حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾» (١).
_________
(١) [سورة الأنعام، الآية: ١٦٤]، [سورة الإسراء، الآية: ١٥]، [سورة فاطر، الآية: ١٨]، [سورة الزُمر، الآية: ٧].
1 / 150
وفي رواية مسلم أنها قالت: «إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونِّي عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ، وَلاَ مُكَذَّبَيْنِ، وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ» (١).
ومن منهج الصحابة في الرواية والبحث عن الرُوَاةِ والأسانيد: الرحلة في طلب الحديث: وهي ظاهرة علمية وحضارية لم يكن لها مثل في التاريخ لا قبل الإسلام ولا بعده إلاَّ عند المسلمين ومنذ فجر تاريخهم أيام الخلفاء الراشدين.
لقد شحذ الصحابة الهِمَمَ وَتَخَطَّوْا الصعاب والعقبات، وقطعوا المسافات من أجل تلقي الحديث من حَمَلَتِهِ وَوُعَاتِهِ، بل سجل لنا التاريخ بالوثائق المؤكدة القاطعة ظاهرة أبلغ وأسمى في هذا الميدان تلك هي الرحلة في طلب الحديث الواحد فقط.
ومن ذلك ما ثبت بالأسانيد الصحاح عن جابر بن عبد الله ﵁، أنه رحل من المدينة المنورة إلى دمشق الشام ليسأل عبد الله بن أنيس الأنصاري عن حديث في القصاص من المظالم بين الناس يوم القيامة، فقال عبد الله بن أنيس: سَمِعْتُ رسول الله ﷺ يقول: «يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ، أَوْ قَالَ: يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ قال: - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ - عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا» فَقُلْتُ: مَا بُهْمًا؟ قَالَ: «لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ» قَالَ: فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ، لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلُ النَّارَ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ، وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلُ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ.
_________
(١) " البخاري ": في الجنائز: ج ٢ ص ٧٧ - ٨٠. و" مسلم ": ج ٣ ص ٤٢ - ٤٣ وذكره الزركشي في كتابه " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص ١٠٢ - ١٠٣ وانظر: ص ٧٦ - ٧٧.
1 / 151
قَالَ: قُلْنَا كَيْفَ هُوَ؟ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عُراةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ». أخرجه أحمد والبخاري في " الأدب المُفرد " والحاكم في " المستدرك " (١).
وليست هذه الحادثة فريدة من تاريخنا، ولا هي قاصرة على جيل الصحابة، بل هي سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ سَنَّهَا الصحابة وتابعهم عليها التابعون وَمَنْ بعدهم، فقد سجل التاريخ بالأسانيد الصحيحة مجموعة من رحلات الصحابة لأجل حديث واحد، ومجموعة كبيرة من أخبار رحلات التابعين، ومن بعدهم لأجل حديث واحد فقط، وَدَوَّنَ لنا ذلك كله بأسانيده الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب " الرحلة في طلب [الحديث] " الذي حَقَّقْنَاهُ، وَبَيَنَّا سلامة وصحة أسانيد ما أورد من ذلك. وأضفنا إليه مجموعة ثانية من رحلات الصحابة منها في عهد النبي ﷺ، ومن رحلات غيرهم.
الصَّحَابَةُ وَتَحَدِّيَاتُ الفِتْنَةِ:
ثم واجهت الصحابة مشكلة خطيرة، كبيرة الخطر، أَلاَ وهي ظاهرة الكذب التي جَدَّتْ بسبب الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة الشهيد عثمان بن عفان ﵁، ثم قتل الإمام المجاهد الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ﵄، وما نتج عن ذلك من انقسامات واختلافات، وظهور مذاهب مبتدعة سمح أصحابها لأنفسهم أَنْ يَخْتَلِقُوا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَيَفْتَرُوا عَلَيْهِ، فى سبيل الترويج لآرائهم وأهوائهم، وجمع الأنصار والأعوان من حولهم.
_________
(١) وَصَحَّحَهُ الحاكم ووافقه الذهبي: ج ٢ ص ٤٢٧، ج ٤ ص ٥٧٤، وانظر تخريج الحديث وتحقيق صِحَّتِهِ في تعليقنا على كتاب " الرحلة في طلب الحديث " للخطيب البغدادي: ص ١١١، ١١٢.
1 / 152
وقد انتدبت الصحابة لمداواة هذا الداء الجديد، واجتهدوا في محاربة الكذب والوضع، مُتَّبِعِينَ أقصى وأحكم وسائل البحث والفحص، بِأَنْ أضافوا إلى ما لم يبق من القوانين قواعد وأساليب علمية جديدة، تقاوم هذا الداء وتكافحه، فكان من ذلك:
١ - أنهم تتبعوا الأسانيد وعنوا عناية شديدة بالبحث عن إسناد الحديث وفحص أحوال رُوَاتِهِ، وهذا كما ثبت بالأسانيد الصحاح عن الإمام التابعي الجليل محمد بن سيرين قال: «لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ. فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُنّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنظَرُ إِلَى أَهْلِ البِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ» (١).
ومن هنا فإنا نُؤَرِّخُ للإسناد بأنه وجد من أوائل عهد الصحابة بالرواية، وليس كما يُوهِمُ بَعْضُ النَّاسِ أنَّ الإسناد قد وجد في مرحلة مُتَأَخِّرَةٍ، وهذه مئات المُصَنَّفَاتُ في الحديث ذاخرة بعشرات ألوف الأسانيد الواصلة إلى الصحابة إلى النَّبِيِّ ﷺ شاهد صدق وبرهان يقين وحق لكل من ينظر في كُتُبِ السُنَّةِ نظرة واحدة بتأمل وتفهم.
٢ - وحث علماء الصحابة الناس على الاحتياط في حمل الحديث، وَأَلاَّ يأخذوا إِلاَّ حديث من يوثق به دِينًا وَوَرَعًا وَحِفْظًا وَضَبْطًا حتى شاعت في عُرْفِهِمْ هذه القاعدة التي وجدناها مروية بالأسانيد الكثيرة المستفيضة عن جماعة.
_________
(١) أخرجه مسلم في " مقدمة صحيحه ": ج ١ ص ١١ والترمذي في " علل الجامع "، انظر: ج ١ ص ٥١ من " شرح علل الترمذي " للحافظ ابن رجب الحنبلي.
1 / 153
يقول كل واحد منهم عن الصحابة إنهم كانوا يقولون: «إِنَّمَا هَذِهِ الأَحَادِيثَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَهًا» (١) مِمَّا يدل على قيام توعية ضخمة في هذا الخصوص.
٣ - وترتب على ذلك أَنْ وجدت أنواع من الحديث المقبول وغير المقبول، ووجدت فنون الإسناد، وعلوم الجرح والتعديل وَالرُّوَاةِ، وغير ذلك، وقد سَجَّلَ الأئمة المتقدمون في مطلع كُتُبِهِمْ رُوَاةَ الحديث نُقُولًا صحيحة عن الصحابة أنفسهم فيها كلامهم في الرجال جَرْحًا وَتَعْدِيلًا وغير ذلك، وهكذا وجدت علوم المتن وأصول الحديث في الأسانيد والمتون.
٤ - وكان من منهج الصحابة في الرواية والبحث عن الرُّوَاةِ والأسانيد: الرحلة في طلب الحديث.
ومن هنا فإننا نستطيع بكل ثقة أَنْ نُسَجِّلَ هَهُنَا نتيجة بالغة الأهمية، وهي أَنَّ الصحابة الكرام - رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَنْهُمْ - وقد جعلوا كتاب الله تعالى وَسُنَّةَ رسوله مِرْآتَهُمْ قَدْ تَوَصَّلُوا بِدِقَّةٍ استنباطهم وعمق فقههم إلى استنباط قوانين للرواية حفظوا بها الحديث من الخطأ والخلط، كما صانوه من الدَسِّ وَالاِخْتِلاَقِ، وكانت هذه القواعد أصول علوم الحديث التي نمت شجرتها وتفرعت فروعها في كل عصر حتى تغطي الحاجة التي كانت تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ أحوال جديدة في الرُّوَاةِ وَالرِّوَايَةِ، والمتون والأسانيد.
_________
(١) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل ": ج ١ قسم ١ ص ١٥ عن عدد من التابعين بلفظ: «كَانَ يُقَالُ: إِنَّمَا هَذِهِ الأَحَادِيثَ ...» أي كان الصحابة يقولون. وانظر كتابنا " منهج النقد في علوم الحديث ": ص ٣٢٩، ٣٣٠.
1 / 154
تَحَدِّيَاتُ الثَّقَافَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ فِي القَرْنِ الثَّالِثِ الهِجْرِيِّ:
هذا من حيث تَحَدِّي الفراغ العلمي الذي واجهه الصحابة في مرحلة بِأَنْ ابتكروا ووضعوا منذ اللحظة الأولى القواعد الكفيلة بحفظ السُنَّةِ وأدائها صحيحة كما سمعوها من صاحبها - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَلاَةِ وَأَتَمَّ التَسْلِيمِ -، وواجهوا كل جديد بعد ذلك بما يناسبه من المنهج العلمي.
ثم كانت هناك تحديات من نوع آخر ظهرت في القرن الثالث من الهجرة وهو عصر النهضة العلمية، حيث تم في هذا العصر تلاقح العقل العربي والمسلم بالثقافات الأخرى، وأظهرت الأُمَّةُ الإِسْلاَمِيَّة من التقدير للعلوم والمعارف الأخرى ما لم تعرفه أُمَّةٌ مدى التاريخ، حتى أَنَّ الخلفاء ليقدمون جائزة الكتاب المأخوذ والمترجم عن الأمم الأخرى وزنه ذَهَبًا، فترجمت كتب العلوم والفنون، عن اليونان وَالفُرْسِ، والهند، ونقلت ثقافاتهم إلى اللغة العربية مِمَّا كان إِنْجَازًا عِلْمِيًّا وَحَضَارِيًّا ضَخْمًا في فترة وجيزة.
لكن حدث أَنَّ كَثِيرًا من المُفَكِّرِينَ انْبَهَرُوا وَتَأَثَّرُوا بأساليب المناطقة والفلاسفة وتأثروا بها كَثِيرًا، حتى ظهرت فئة تُؤْثِرُ هذه الأساليب على أساليب المُحَدِّثِينَ وَأَهْلِ الأَثَرِ، بل إِنَّ منهم من راح يطعن على أهل الحديث نَهْجَهُمْ وَيَرُدُّ الأحاديث الصحيحة وَيَتَأَوَّلُ النصوص القطعية الصريحة، بمجرد الأوهام التي عَشَّشَتْ في عقولهم بتأثير العقلية المادية أو الفلسفية التي تَسَرَّبَتْ إليهم من بعض تلك الثقافات التي ترجمت عن اللغات والأمم الأخرى، حتى وجد من ينكر من الغيبيات أشياء لا يمكن إنكارها وَيَتَأَوَّلُ ايات القرآن وَالسُنَّةِ المتواترة في الملائكة والجن تَأَثُّرًا بتلك العقلية والأوهام المادية، كما أوضحه لنا العلماء في رُدُودِهِمْ على هذه الفِرَقِ ولا سيما معاصرهم الإمام ابن قتيبة في
1 / 155