Sunduq Dunya
صندوق الدنيا
Genres
ورأى أن يحل الإشكال ويحسم الخلاف بتقديم الرسالة التي تلقاها. وتصور موقف الرجلين حين فض الرجل الخطاب واطلع على هذه «البشرى» في الصباح الباكر.
ومن نوادر صاحبنا أنه وصف مرة لبخيل طريقة لصنع «الكنافة» وأقنعه بتجربتها. وجاءنا البخيل بعد أيام - وكان ذلك في رمضان - يشكو ويسخط ويلعن ويقول: «اشتريت أربعة أرطال من الكنافة، وناولتها امرأتي وقلت أعديها، وجئت بثلاثة أرطال من اللبن الحليب كما أوصاني اللعين - خيبة الله عليه - وغلينا اللبن قبل المغرب بدقيقتين، وكانت «الكنافة» قد نضجت. فلما سمعنا مدفع المغرب صببنا اللبن عليها وأغرقناها فيه، وأقبلنا على الطعام نتناول منه بقدر لنترك مكانا «للكنافة» وإذا بها عجين لا يؤكل ولا يصلح لشيء إلا أن يرمى للكلاب! وهكذا ضاع علي ما أنفقته في الكنافة من السمن والسكر واللبن والزبيب والصنوبر والبندق والجوز واللوز وثمن الوقود، وضاع علي سائر ألوان الطعام التي لم أكد أمسها ترقبا للكناقة. فبماذا أدعو عليه؟»
وابن البلد لا يعرف الريف ولا يصبر عليه، وإذا خرج إليه استغرب أن الطريق ليس غاصا بالمساكن المتلاصقة، وأن الأشجار قائمة هنا وهناك، وأن الدنيا أرحب مما كان يظن، وأحس بالميل إلى الضحك، ولكن ثقته بنفسه تفارقه مع المدينة التي غادرها، ويرى نفسه بين الفلاحين غريبا ويسمعهم يتكلمون فيما لا يفهم، ولا يسعه إلا أن ينهز معهم بدلوه، ويخطئ عندهم سهراته ومجالسه، ويحتاج أن يغير عاداته وأن ينزل عنها وأن يحتمل الاضطراب الناشئ عن ذلك، ولا يحس في الريف ذلك التعاطف القريب، ولا يفهم أن ينام على ظهر الفرن ومع النساء والأولاد والطيور والبهائم؛ لأن له «مزاجا» والناس في الريف أكثر ما يكونون بعداء بعضهم عن بعض، وهم يقضون أوقاتهم مبعثرين في الحقول فليس في مجالسهم ذلك الصقل ولا تلك النعومة التي تكون لمجالس أهل المدن، فهي لا تخلو من جفوة طبيعية وتكلف محسوس، وصخب مرجعه إلى اعتياد أهل الريف أن يتخاطبوا بأصوات عالية لبعد المسافات بينهم، وقلما يشعر الحضري بحرارة الترحيب إلا حيث يكون قدوم الغريب «حادثة» يندر أن تتكرر، فيتدفق الكرم المحبوس إذا لم يكن له مجال! ولظهوره فرصة كبيرة فيقبل الناس عليه ويفرحون به إقبالهم على التحفة النادرة أو المنظر الذي لا يجود به الزمن مرارا، وهكذا كان الحال قبل أن توثق المدنية ما بين القرية والمدينة من الروابط، وتسهل عليهما الاتصال والتبادل والتفاهم والتقارب.
وابن البلد قد يكون أديبا أو فنانا - إذا كان قد جاور في الأزهر في صدر شبابه - وأدبه البيت أو البيتان من الشعر يضمنهما نكتة لفظية أو معنوية، يداعب بهما صديقا، وأكثر ما يكون نظمه للأزجال والمواليات، وربما نظم التوشيح ودفع به إلى ملحن أو مغن، وهو لا يحفظ من الشعر إلا ابن الفارض ومن إليه، وإذا كان فنانا فهو من هواة «العود» على الأخص، تبتدئ وتنتهي دنياه بالشراب والسماع والوجه الحسن، وفيما عدا ذلك لا وجود للدنيا.
ولا يعرف ابن البلد الحب ولا يحسن أن يعشق، والجمال عنده يوزنه أرطالا أو قناطير، والمرأة مخلوق يداعب ويغازل ويجمش إلى آخر ذلك، وليست إنسانا يبادلك العواطف ويعاونك في الحياة ويقاسمك متعها ومتاعبها ويؤدي مثلك وظيفته التي خلق لها. وقد ترى ابن البلد عاشقا ولكنه عاشق بحواسه، لا يعرف صبوة النفس إلى النفس وحنة القلب للقلب.
وهو يجود في غير كرم، ويمسك في غير بخل، ويتكلم بغير علم. ويضحك بغير جدل. ويحتشم في غير أدب. ويسير في الدنيا غير محتفل. ويقضي الحياة غير عابئ بما كان أو مكترث لما يكون. همه أن يأكل وينام ويسر ويضحك. فالضحك وما يعين عليه من الشراب ومجالس الإخوان غرض يسعى إليه وغاية تعتمد. والحياة آخرها الموت. فما خير التعب فيها وإرهاق النفس بالعمل والطلب؟ أليس كل شيء إلى فناء؟ فما أولاه باغتنام الساعة التي يكون فيها وما أسخف من يعنون أنفسهم ويحرمونها لذاذات العيش ومتع الوجود؟ ألم تر إلى فلان الذي قضى عمره يجمع المال ويطلب المناصب ويريق ماء وجهه على الأعتاب ويقتر على نفسه ليغنى ويضيق على ذويه ليتسع؟ ألم تر إليه كيف قضى نحبه وهو جالس على باب الحلاق؟ فماذا أجدى عليه تعبه وسعيه وتقتيره وحشده؟ إن فيه لعبرة لسواه. فهات الكأس وأصلح الأوتار، وأطلق صوتك بالغناء ينفي عن النفس وحشتها وتجل صداها وتنسها أن الحياة إلى انقضاء.
فابن البلد فلسفة عملية تجهل نسبها العريق في الأبيقورية المشوهة، ولم يعف عليها الزمن حين عفا عليه.
صورة وصفية لصحفي
قضى «م» سنة كاملة يعمل في سكون في الصحيفة التي التحق بها، ويؤدي الواجب الذي وكله إليه رئيسه بإخلاص ودقة، وكان واجبا شاقا، ولكنه كان يجد فيه ملهاة عن هموم الحياة. وعرف له رئيس التحرير فضله فكان لا يفتأ يثني عليه ويشجعه ويبلغه حسن رأي الناس فيه وحمدهم مجهوده، وكان يخجله أن يسمع هذا المدح ولا يدري بماذا يجيب فيقطب - وهو يريد أن يبتسم - ويتلفت يمينا وشمالا كأنما يبحث عن نافذة يثب منها. وطلب منه رئيس التحرير يوما صورته فريع المسكين وقال: «صورتي؟»
قال: «نعم صورتك. نحن في ديسمبر كما تعلم.»
Unknown page