Sunduq Dunya
صندوق الدنيا
Genres
ولم يكن هذا ما توقعته فارتبكت، وحدثت نفسي أن هذا مأزق ظريف. أرجو أن أنقذ الرجل ويأبى هو إلا أن يغرق، ورفعت له وجها يستطيع أن يقرأ فيه إذا لم يكن أعمى، أني آسف وأني مدرك خطئي وكان عليه أن يخفض صوته قليلا، ولكنه لم يحفل رجائي وتوسلي فصرخ مرة أخرى: «ماذا تقول؟ أجب.»
فالتفت إلى التلاميذ كالذي يريد أن يقول: أتسمعون هذا المجنون؟ لست ملوما إذن وأنتم شهودي. ولكني لم أكد أرد وجهي إليه حتى خطر لي كوميض البرق أنه لعله لم يسمع سؤالي فهو يجهل مداه ومبلغ ما ينطوي عليه من الخطر على سمعته ومركزه بين التلاميذ. واستولى علي هذا الخاطر فسرني أن فرصة الإنقاذ لم تضع، فشببت عن الأرض ورأيت يمناي تمتد إلى كتفه لتدنو بأذنه إلى فمي، وإذا بي على الأرض أقيسها إلى آخر الفصل دائرا حول نفسي ومتخذا رأسي محورا، وقعدت أبكي وبي من الغيظ والحقد أكثر مما بي من الألم، ولكن المدرس كان قد لحق بي فكتمت الغيظ ورفعت طبقة البكاء فجأة حتى صار إعوالا، فجعل يصيح بي: «اخرس يا كلب اخرس. أقول لك اخرس.»
ويشفع كل كلمة بلطمة أو لكمة فأزداد إعوالا.
ويظهر أن هذا الصخب نبه «الناظر» - وكانت غرفته قريبة منا - فدخل علينا ورأى المدرس متلبسا بجريمة الضرب - وهي محرمة - وكان الناظر رجلا طيبا ساذجا يخرج الكلام من أنفه أخن أغن ممطوطا لينا، وكان صديقا لأبي - أعني قبل موته - وحديث عهد بالبكوية، وكانت لي عليه دالة بفضل تملقي «بكويته» لا بفضل صداقته لأبي، وكان التلاميذ يعرفون لي هذه الدالة فإذا أرادوا شيئا بعثوا بي إليه. أوفدوني إليه مرة.
فقلت: «يا سعادة البك. نريد أن تأذن سعادتك لنا في الذهاب إلى حديقة الحيوانات.»
فاعتدل في مقعده وهز رأسه وهو يقول: «حونات. حونات إيه يا ابني. أسد فك السلاسل نهش عيل منكم نبقى نقول يا مين؟ يا ابني يا عبد القادر لا.»
فاقتنعت واقتنع التلاميذ بأن الذهاب إلى حديقة الحيوانات خطر ليس بعده خطر. ولا أذكر أني دخلتها إلا بعد أن صرت مدرسا في المدرسة السعيدية الثانوية وعلى مقربة منها، وإلا بعد أن تحققت أن الأسود تحبس في أقفاص ولا تربط بالسلاسل - إن صح أنها كانت تربط - كما كان الحال على عهد ناظرنا طيب القلب ...
وأعود إلى «المضطر» وقصتي معه فأقول بإيجاز: إن المدرس - على الرغم من اعتدائه علي وعلى القانون ممثلا في شخصي المحطم المجرح - زعم أني هممت بصفعه. يا للكذب! وأصر على وجوب طردي من المدرسة. ولم تجد دموعي ولا ما أقسمت من الأيمان على أني لم أرتكب هذه الجريمة التي لم تخطر لي على بال قط، وأنني ما أردت إلا الاستفسار عن مكان «المضطر» لأراه، وشهد التلاميذ الملاعين أني رفعت يدي إلى كتف المعلم، فأيقنت أني ضائع لا محالة، ويئست فكففت عن البكاء، وقلت: «أتلقى هذا الظلم بما يستحقه من الاشمئزاز والاحتقار.» وجرني الناظر معه إلى غرفته وشرع يسألني في هدوء وعطف فسردت عليه القصة على حقيقتها ورأيت فرصتي سانحة فاغتنمتها وأكثرت من «سعادة البك»، وأضفت من عندي كذبة صغيرة فزعمت أن المعلم شتم أبي، وأبي - كما يعلم سعادة البك الناظر - ميت. وفعل التملق والأكذوبة فعلهما الذي توقعت فنهض سعادة البك وقال لي بصوت خفيض: «اسمع يا ابني أطردك من باب تيجي من باب. فاهم؟»
قلت: «نعم يا سعادة البك»، فتركني وخرج وأسر شيئا إلى فراش بينما كنت أتوثب في الغرفة وأطوي يدي ورجلي في الهواء من فرط الفرح، ثم ناداني فخرجت وبعد قليل حضر المدرس أيضا فمضى بنا جميعا إلى الباب الكبير - وكان هناك باب آخر - وقال: «يا عم محمد. افتح البوابة. اخرج من مدرستي. امش من هنا. مبسوط بقى يا عم الشيخ ...؟» هذا للمدرس.
ولا يحتاج القارئ أن أقول له إني درت ودخلت المدرسة من الباب الثاني، وإن المدرس وجدني جالسا على درجي في اليوم التالي، ولكن القارئ قد ينقصه أن يعلم أن المدرس عاد إلى الشكوى فقال له الناظر: «وماذا أعمل إذا كان هؤلاء الأولاد كالعفاريت ربما كان قد هبط إلى فناء المدرسة من فوق سطوح الجيران.»
Unknown page