مقدمة
شذوذ الأدباء
الصغار والكبار
الحقائق البارزة في حياتي
اللغة العربية بلا معلم
أشق المحادثات
من ذكريات الصبا: بين رجال الليل
أبو الهول وتمثال مختار
الحب الأول
حلاق القرية
سحر مجرب
الفروسية
الطفولة الغريرة
مقتطفات من مذكرات حواء
عاطفة الأبوة
كيف كنت عفريتا من الجن
رجل ساذج
ابن البلد
صورة وصفية لصحفي
حلم بالآخرة
مقدمة
شذوذ الأدباء
الصغار والكبار
الحقائق البارزة في حياتي
اللغة العربية بلا معلم
أشق المحادثات
من ذكريات الصبا: بين رجال الليل
أبو الهول وتمثال مختار
الحب الأول
حلاق القرية
سحر مجرب
الفروسية
الطفولة الغريرة
مقتطفات من مذكرات حواء
عاطفة الأبوة
كيف كنت عفريتا من الجن
رجل ساذج
ابن البلد
صورة وصفية لصحفي
حلم بالآخرة
صندوق الدنيا
صندوق الدنيا
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
مقدمة
كنا نفرح «بصندوق الدنيا» ونحن أطفال ... نكون في لعبنا وصخبنا فيلمح أحدنا «الصندوق» مقبلا من بعيد فيلقي ما بيده من «كرة» أو نحوها ويطلقها صيحة مجلجلة ويذهب يعدو متوثبا ونحن في أثره، ونتعلق بثياب الرجل أو مرقعته على الأصح، فما هي بثياب إلا على المجاز، فهذا ممسك بكمه، وذاك بحزامه وآخر يده على الصندوق، وهو سائر وظهره منحن تحت حمله، ولحيته الكثة الغبراء مثنية على صدره، ونحن نتلاغط حوله وتتوثب، حتى يصير بنا إلى الظل، فيضع «الدكة» الخشبية على الأرض فنكون فوقها نتزاحم ونتدافع ونتصايح ونتشاتم قبل أن تستقر على أرجلها، والرجل ساكن الطائر لا يعبأ بنا ولا يولينا نظرة ولا يحفل من بقي منا على «دكته» ومن زحزح عنها فوقع على الأرض فقام يلعن ويسب أو يبكي ويتوجع، أو يمضي إلى الحائط فيلصق به كتفه ويعمل يده في عينه.
ويخلع الرجل الحوامل عن كتفه ويقيمها أمامه ويرفع «الصندوق» ويحطه عليها، فنزحف نحن «بالدكة» إليه وندني وجوهنا من العيون الزجاجية الكبيرة، وننظر وننتظر. فإن صاحبنا لا يعجل، ويطول بنا النظر إلى لا شيء. والانتظار على غير جدوى، فنرتد برءوسنا عن عيون الصندوق، ونرفع إليه وجوهنا الصغيرة، فيبتسم ويبسط كفا كالرغيف ويقول «هاتوا أولا» فتندفع الأيدي إلى الجيوب تبحث عن الملاليم وأنصافها فتفوز بها أو تخطئها، فتبيض وجوه وتسود وجوه وتلمع عيون وتنطفئ عيون، وتفتر شفاه وتمط أخرى أو تتدلى، ويقبل «المعدم» على «الموسر» يستسلفه مليما، ويحدث في عالم الصغار ما يحدث في عالم الكبار، من جود وبخل، ومن مسارعة إلى النجدة أو اغتنامها فرصة للانتقام، ومن مساومة ومشارطة ومطل، ومن تعبير بجحود يد سلفت، ومحاسبة على دين قديم، ويرجع المحرومون كاسفين آسفين، أو ناقمين ثائرين، أو راضين غير عابئين، ويقعد السعداء ويقبلون على «الصندوق» وقد نسوا إخوانهم، فكأنهم ما خلقوا ولا كانوا منذ دقائق قليلة أندادا يتلاعبون ويفرح بعضهم ببعض ويجد في قربه الروح والغبطة والأنس، ويطل الرجل من عين في جانب «الصندوق» ويدير «اليد» فتبدو لعيوننا المشرئبة صور «السفيرة عزيزة» ربة الحسن والجمال، و«عنترة بن شداد» الذي كان:
يهزم الجيش أوحديا ويلوي
بالصناديد أيما إلواء
و«الزير سالم» و«يوسف الحسن».
ويكف اللسان عن الوصف والتحدث، واليد عن الإدارة والعرض، فقد انتهى «الدور» واستوفينا حقنا، فإما «دور» آخر بملاليم جديدة، وإلا فالقناعة كنز لا يفنى.
وقد شببت عن الطوق جدا، وخلفت ورائي طفولتي التي لا تعود.
وصرت غيري فليس يعرفني
إذا رآني الشباب ذو الطرر
ولو بدا لي لبت أنكره
كأنني لم أكنه في عمري
كأننا اثنان ليس يجمعنا
في العيش، إلا تشبث الذكر
مات الفتى المازني ثم أتى
من مازن غيره على الأثر
1
ولكني ما زلت أمت إلى طفولتي بسبب قوي، وما انفكت أخراي معقودة بأولاها. كنت أجلس إلى الصندوق وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني نفر من أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا ساعة بملاليم قليلة يجودون بها على هذا الأشعث الأغبر الذي شبر فيافي الزمان، وما له سوى آماله وهي لوافح، ونجم - سوى ذكرى نورها - خافت.
لهذا سميته «صندوق الدنيا».
ولا أزال أجمع له وأحشد، وما فتئ السؤال الأبدي عندي مذ حملت الصندوق على ظهري «ماذا أصور؟» هذه هي المسألة كما يقول «هملت» في روايته الخالدة، والفرق بيني وبين هملت أنه معني بالحياة والموت، وبأن يكون أو لا يكون، وبأن يبقي على نفسه أو يبخعها، أما أنا فلا يعنيني شيء من هذا، ولست أراني أحفل بالحياة ولا الموت، ولا الوجود ولا العدم، أو لعل الأصح والأشبه بالواقع أن أقول: إني لا أرى وقتي يتسع للتفكير في هذا. ذلك أني صرت كالذي زعموا أنه كانت له زوجة ترهقه بالتكاليف وتضنيه بالأعمال التي تعهد إليه فيها وتأمره بأدائها، قالوا: فأشفق عليه صاحبه ورثى له، فأشار عليه أن يطلقها لينجو بنفسه من هذا العناء، فطأطأ الرجل رأسه ثم رفعه وقال: «ولكن متى أطلقها؟ لا أرى وقتي يتسع لهذا.»
كذلك أنا - أنا زوج الحياة الذي لا يستريح من تكاليفها - أقوم من النوم لأكتب، وآكل وأنا أفكر فيما أكتب، ألتهم لقمة وأخط سطرا أو بعض سطر، وأنام فأحلم أني اهتديت إلى موضوع، وأفتح عيني فإذا بي قد نسيته، فأبتسم وأذكر ذاك الذي رأى في منامه أن رجلا جاءه فنقده تسعة وتسعين جنيها فأبى إلا أن تكون مائة، فلما انتسخ الحلم ورأى كفه فارغة عاد فأطبق جفونه وبسط راحته وقال: «رضينا فهات ما معك.»
وأشتاق أن ألاعب أولادي فيصدني أن الوقت ضيق لا ينفسح للعب والعبث، وأن علي أن أكتب، وأرى الحياة تزخر تحت عيني فأشتهي أن أضرب في زحمتها وأسوم سرحها، ولكن المطبعة كجهنم لا تشبع ولا تمل قولة «هات» وأكون في المجلس الحالي بحسان الوجوه رقاق القلوب وبكل ما كان يتحسر «مهيار» على مثلها ويقول:
آه على الرقة في خدودها
لو أنها تسري إلى فؤادها
فأشرد عنهن وأذهل عن سحر جفونهن، وأروح أفكر في كلام أكتبه صباح غد، وأشرب فلا أسهو، وأضحك لا أراني ألهو، ويضيق صدري فأتمرد وأخرج إلى الطرقات أمتع العين بما فيها مما تعرضه الحياة، فإذا بي أقول لنفسي: إن كيت وكيت مما تأخذه العين يصلح أن يكون موضوع مقال، فأقنط وأكر راجعا إلى مكتبي لأكتب ... وهكذا كأني موكل بفضاء الصحف أملؤه، كما كان ذلك الشاعر القديم المسكين موكلا بفضاء الله يذرعه.
وشر ما في الأمر أن يجيء إلي صديق فيقول: أقترح عليك أن تكتب في «كيت وكيت» وتحاول أن تفهم أن كيتا وكيتا هذين لا يحركان في نفسك شيئا، ولا يهزان منها وترا فلا يفهم؛ لأنه - على الأرجح - يظن أن الكتابة لا تكلف المرء جهدا، وأن القلم هو الذي يجري وحده بما يقطر من مراعفه، وأن العقل والنفس لا دخل لهما فيما يخطه.
وإذا ظللت أكتب وأكتب هكذا فماذا يكون؟ لا أقول: إني سأفلس، فإن الحياة لا تنفك أبدا جديدة في رأي العين والعقل، وهي لا تزال تسفر كل يوم عما يحرك النفس، ولكني خليق أن أجن ... نعم، وماذا عسى أن يكون آخر هذا النصب؟ ودع الجنون، فلو كان إنسان يجن من كثرة ما كتب لكان عنواني قد تغير منذ أعوام جديدة، ولكن تعال نجر حسابا صغيرا نسقط منه كل ما ليس بالأدبي.
أنا أكتب في الأسبوع مقالين، فجملة ذلك في العام تبلغ المائة، وكل مائة مقال تملأ خمسة كتب كهذا، فسيكون لي إذن بعد عشرة أعوام - إذا ظللت هكذا - ثلاثون كتابا غير ما أخرجت قبل ذلك، أي إن كتبي أنا وحدي تملأ مكتبة صغيرة يجد فيها القراء ما يشتهون ولا يعدمون منها متعة أو سلوى، وصاحبها لم يستفد إلا العناء.
والبلاء والداء العياء أن تكتب مرة مقالة فكاهية، والطامة الكبرى أن تكون المقالة جيدة، وأن تكون الفكاهة فيها بارعة. لا أمل لك بعد هذا أبدا ... لأن الناس يذهبون ينتظرون منك بعد ذلك أن تطرفهم بالفكاهات في كل مقال آخر. فإذا أخطئوا عندك ما يطلبون من الفكاهة فالويل لك، وأنت عندهم قد أصفيت، أو ضعيف لا تحسن أن تكتب، أو غير موفق فيما تحاول، حتى ولو كنت تكتب جادا ولا تحاول أن تمزح أو تتفكه. والناس معذورون. فإن وطأة الحياة ثقيلة، وما دمت قد عودتهم أن تسليهم وتضحكهم أو أطمعتهم وأنشأت في نفوسهم الأمل في هذا فماذا تريد أن تتوقع؟ ولكن الناس - أيضا - خلقاء أن يذكروا أن الحياة قد تكون ثقيلة على الكاتب، وأنه لعل في نفسه جرحا وفي صدره قيحا، وأنه عسى أن يكون ممن يودون لو يضحكون ويضحكون غيرهم، ويتمنون لو استطاعوا أن يجعلوا الدنيا جنة رفاقة البشر، ولكن هموما تجثم على الصدور تقلص الوجه وتطفئ لمعة العين وتحبس البشر الذي يريد أن ينطلق، وترد الضحكة التي كانت تهم أن تقرقع.
لقد صدقت فيما كتبت به إلى صديق على صورة لي:
أخوك إبراهيم يا مصطفى
كالبحر لا يهدأ أو يستريح
كالبحر حي الموج يقظانه
لكنه من نفسه في ضريح
من حوله الشطآن لا تنثني
تحبه دون انسياج الفتوح
خلت من المعنى لحاظ له
وكانت البرق المضيء المليح
حواء يا أماه أنت التي
أورثتني هذا البلاء الصريح
كم آدم أخرجت يا أمنا
من خلده، بعد أبينا الطليح
إلخ إلخ إلخ.
وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، كذلك أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون - في عالم الأدب - تمهيدا لما هو أقوى وأتم وأحفل. وليبن غيري القصور، فقد أضناني قطع الصخور، وتفتيت الوعور ...
شذوذ الأدباء
الناس متفقون على أن الأديب على العموم، والشاعر على الخصوص، صنو المجنون ونده وقريعه، وقد لا يقولون ذلك بألسنتهم ولكنهم يقولونه بسلوكهم نحوه، فهم يفترضون فيه الشذوذ عن المألوف ويتوقعونه ولا يستغربونه ويحملون كل ما يصدر عنه على هذا المحمل ويردونه إلى هذا الأصل عندهم، وليس في هذا إكبار منهم له، فإنه بسبيل من سلوكهم نحو صنوف الملتاثين الذين يطلقون عليهم وصف «المجاذيب» كلا الفريقين مقبول عندهم على التسامح والعطف والمرثية، ولو أن الناس رأوا رجلا يلبس ثيابه مقلوبة، أو يمشي على رأسه وقيل لهم إنه شاعر لاقتنعوا ولبطل العجب، كأن المشي على الرأس شيء يوائم الشاعرية أو هو مما تستلزمه حين يزخر عبابها ...
عرفني مرة أحد الإخوان باثنين من الأعيان كانا معه في مجلس ، فكان مما وصفني لهما به أني شاعر، فأبرقت أساريرهما، وغمر البشر وجهيهما واستغنيا عن «تشرفنا» واعتاضا منها «ما شاء الله» و«سبحان الفتاح» وأقبل علي أحدهما يربت لي ظهري ويمسحه لي بكف كمضرب الكرة ويقول: «أسمعنا شيئا» كأنما كنت مغنيا على الربابة، ولو أني كنته لاستحييت أن أجيبهما إلى ما طلبا على قارعة الطريق، ولشد ما خفت - وهما يلحان علي - أن يمد أحدهما يده إلي بقرش ...
وقد يتفق لي أن أكون مع جماعة من الإخوان فأفضي بالملاحظة أو الفكرة، أحسبني وفقت فيها وكشفت عن أستاذية وبراعة ودقة فلا أكاد أفرغ منها حتى أسمع من أحدهم أن هذا «خيال شاعر»، وليته مع ذلك يعني شيئا سوى الفوضى والهذيان، وقد أسكت وأشغل نفسي عنهم بشيء أفكر فيه فأنتبه على التغامز.
والبلاء والداء العياء أن المرء يتحرى أن يجعل سلوكه مطابقا - على أدق وجه - للعرف والعادة في كل صغيرة وكبيرة، فلا يرى أن هذا يزيده إلا شذوذا في رأيهم. كان هذا الشذوذ المفروض فيه يبيح لهم أن يشذوا هم معه. كنت ليلة مستغرقا في النوم - ولعلي كنت أغط أيضا. وإذا بالباب يقرع كأن الواقف به قد استقر عزمه على تحطيمه، ففزعت وقمت إلى النافذة أسأل عن هذا الطارق فقال: فلان. فحل العجب والحيرة محل الفزع، ولم يكن فلان هذا ممن أتوقع زيارتهم في النهار فضلا عن الليل، وفي الصيف فضلا عن الشتاء ببرده القارس ومطره المنهمر، وكانت الساعة الثانية بعد نصف الليل، فلولا دهشة المفاجأة ولجاجة الرغبة في الوقوف على سر هذه الزيارة المزعجة لقذفته من النافذة بكل ما في الغرفة من أحذية ومخدات، بل لفككت السرير وهشمت له رأسه بأعمدته، من النافذة أيضا. فقد كان فوق ذلك كله من أثقل خلق الله.
ونزلت إليه والمصباح في يدي، وفتحت الباب ووقفت في مدخله «حجر عثرة» في سبيله وبودي لو أستطيع أن أكون «حجر منية»، فجرى بيننا هذا الحديث:
هو :
ليلتك سعيدة.
أنا (مصححا) :
نهارك سعيد.
هو :
آه صحيح ... نهارك سعيد. هل كنت نائما ؟
أنا :
نائما؟ وماذا كنت تظنني فاعلا غير ذلك؟ أكنت تتوهم أنني هنا حارس؟
هو :
ها ها ... هأهأهأ ...
أنا :
ها ها؟؟ ماذا تعني بهاهاك هذه؟ ألا تشعر أن من واجبك أن تبين لي السبب في إزعاجي في ساعة كهذه؟ ألا ترى أن ها ها التي تملأ بها طباق الجو لا تكفي، وأن خيرا لك أن تضم فكيك قليلا وتتكلم بلغة مفهومة؟
هو :
لقد كنت أظن أنك ...
أنا :
كنت تظن ماذا؟
هو (وعلى وجهه ابتسامة جعلته كجمجمة الميت) :
لم يخطر لي والله أنك نائم.
أنا (بصوت هادئ ولهجة مرة) :
ولماذا بالله؟
فترك الجواب على هذا وقال: لست أستغرب أن تتركني واقفا بالباب في هذا البرد وإن كنت قد قطعت إليك أربعة كيلو مترات مشيا على قدمي، فإن لكم - معاشر الشعراء - لأطوارا وبدوات غير مأمونة.
فأطار صوابي تحميله إياي اللوم على ذنبه، ولم أعد أحفل أهو أقوى مني أم أضعف، فقبضت على عنقه وصحت به: لقد كان ينبغي أن تمشي إلى جهنم. وسأدفنك حيا إذا رأيتك هنا ليلا أو نهارا. أسمعت؟
ودفعته عني فانطلق يعدو كالقنبلة.
وثم من يراني أنسى شيئا أو أضعه في غير موضعه أو أهمل أمرا أو أطيل الصمت أو أفعل حتى ما يفعله الناس ... آكل أو أشرب أو أنام، إلا أحالوا علي الأدب وتخيلوا فيما أنا فاعل أو تارك شذوذا ملحوظا حتى ضقت ذرعا بهذه الحال وصار وكدي أن أقنع كل من يتيسر لي إقناعه أني لست بالأديب، وأن قرض الشعر لم يكن مني إلا لهوا وتسلية، وعسى أن أكون أفلحت فليس أمض للإنسان من أن يرى الناس يعدونه غير مسئول.
الصغار والكبار
قلت لابني عصر يوم، وفي نيتي أن أزجره زجرا قويا عن العبث بكل ما تصل إليه يده: «أتحب أن تخرج معي اليوم؟» وسبقته إلى الباب الخلفي المفضي إلى الصحراء، وقلما كنت أستصحبه لتعذر السير عليه في الرمال، فرمى الكرة ومضى يعدو خلفي ليلحق بي. فلما اطمأن بنا السير شرعت أستقصي معه ما يعلم وما يجهل وما ينبغي أن يعلم، وكانت خلاصة دفاعه - بألفاظي أنا لا بألفاظه هو - أنه يكلف العلم بأشياء عديدة يجد عسرا في فهمها وإدراكها، مضافا إلى ذلك أنه لا يدري كيف يمكن أن تعنيه هذه المعارف التي يطلب منه الإلمام بها؟! وأن كثيرا مما يشتهي أن يعرفه ويلذ له ويمنعه أن يحيط به، لا يجد من يدله عليه.
هذا فيما يتعلق بالعلوم والمعارف، أما من حيث السلوك والسيرة، فالمسألة أدق والمشكل أشد تعقدا، ذلك أنه لا يزال يلقن - في المدرسة وفي البيت - أن للخير والشر آثارا ونتائج تحيره جدا حين يتأملها أو يحاول أن يردها إلى أسبابها، مثال ذلك: أنه غافلنا مرة واقتطف من الكرمة عنقودا اضطره اقتطافه إلى المخاطرة بالتسلق، وأكله، ولم يكتمني أنه كذب حين سئل في ذلك فقال: إن العنب كان يثب إلى فمه. ومن العجيب - في رأيه هو - أنه كان في ذلك اليوم أصح وأنشط وأنه لم يصبه سوء ما، وأن الله لم يعاقبه لا على الكذب ولا على أكل العنب خلسة، ولا على الخطأ في كظ معدته وإدخال طعام على طعام. ولم أكن أتوقع من ابني هذه المحاضرة التي باغتني بها وعارض لي فيها الواقع بما في الكتب وما على ألسنة المربين، فحرت ولم أدر ماذا أقول له. وتحلل العزم على تأنيبه وألفيتني أفكر في الطفولة وطبيعتها، وفيما نمسخ به هذه الطبيعة بما نحاول من إكراهها عليه وصبها فيه، ثم تملكني روح العبث الذي أنكره عليه والذي كنت أهم أن أزجره عنه، فقعدت على الرمل وأقعدته أمامي وقلت له بعبارة أقرب من هذه إلى مستوى إدراكه: «اسمع. إني أفكر الآن في تأليف كتاب على نمط جديد، كتاب مدرسي ولكنه يخالف كل ما في المدارس من الكتب، كتاب لذيذ ممتع جدا، ولكني لا أستطيع أن أضعه وحدي، بل لا بد لي من معين، فما قولك في معاونتي؟ هل تقبل أن تشاركني في تأليف هذا الكتاب؟»
فنهض إلى ركبتيه وأقبل على وجهي يربت لي خدي بكفيه الصغيرتين ويسألني وهو يضحك : «يا بابا ماذا تقول؟»
أقول: «إني أريد - بمعونتك - أن نصلح هذه الدنيا التي نراها - أنا وأنت - مقلوبة.»
قال: «وكيف تفعل ذلك؟ وكيف أساعدك أنا؟ وماذا يسعني؟»
قلت: «يسعك شيء كثير جدا، فليس كونك صغيرا بمانع أن يكون لك عمل كبير. ولكن لا تربكني بكثرة الأسئلة، وخير لنا وأنجح لقصدنا أن نتقصى الموضوع على مهل. ويجب قبل كل شيء أن أكون واثقا من استعدادك لمعاونتي ومن أنك ستفكر تفكيرا جديا فيما يستقر عليه رأينا.»
فتعهد لي بذلك. فقلت له: «أليست شكواك أن الكبار من أمثالي ...» - «ليسوا من أمثالك يا بابا ...» - «حسن، أليست شكواك أن الكبار - غيري - لا يحسنون تعليم الصغار أمثالك؟»
قال: «نعم.»
قلت ماضيا في كلامي: «وأن الكبار يلزمون الصغار سلوكا يبدو للصغار غير معقول ويعاملونهم معاملة يمكن أن نسميها غير عادلة؟»
قال: «نعم. وأنا أقول لك لماذا ينبغي دائما أن أنام في الساعة الثامنة، لماذا لا يسمح لي بالسهر أحيانا مع الكبار إلى أن أحس بالحاجة إلى النوم؟ وإذا لم أنم كما تريد جدتي - حتى في النهار - فإنها تقول لي: إني ولد عنيد.»
قلت: «هذا صحيح، وإذا اتفق أن دار أمامك حديث وبدا لك أن تقول كلمة كغيرك من الجالسين، زعموا أن هذا منك قلة أدب وسوء سلوك، أليس كذلك؟»
فهز رأسه مرات وهو لا يستطيع النطق من الإغراق في الضحك ومضيت أنا في ملاحظاتي التي شاقته وأعجبته وأرضته فقلت: «وإذا رأوك تلعب بالكرة قالوا لك: إنك شقي وإن اللعب بالكرة غير محمود، وإذا سكت ولم تلعب ولم تتكلم، زعموا أنك سيئ الطبع، أو ادعوا أنك مريض وسقوك على كره منك ملء فنجان من زيت الخروع ...»
فقاطعني متمما لي ملاحظاتي: «وإذا كانوا يبحثون عن شيء ولا يجدونه ظنوا أني أنا الذي خبأته، ثم إذا وجدوه حيث وضعوه نسوا أنهم هم الذين فعلوا ذلك واتهموني أنا، وأجادلهم وأبين لهم أن لا دخل لي في ذلك كله، فيختمون حوارهم معي بأنهم تعبوا من الكلام معي كأني أنا لم أتعب أيضا من سماع كلامهم.»
فقلت بدوري مقاطعا: «وإذا كسروا قلة أو كوبا لم يسألوا عيونهم لماذا لم ترها؟ كأن عيونهم ليست مكلفة أن تبصر شيئا أبعد من أنوفهم، بل راحوا يتساءلون عمن وضع القلة هنا. كأن واضعها هو المسئول ...»
قال: «أما إذا كسرتها أنا فالويل لي من شيطان يجب أن يحبس في غرفته منفردا.»
قلت: «وإذا كلفوك أن تأتي بشيء ولم تجده لأنه ليس في المكان الذي بعثوا بك إليه، أو لأن شخصا نقله، فإنك تكون في رأيهم ولدا خائبا وغبيا لا يفهم.»
قال: «وأنا دائما المخطئ وهم أبدا على صواب حتى صرت واثقا أني لا يمكن أن أكون مصيبا في عمل أو قول، وهذا يحيرني جدا ويربكني يا بابا.»
قلت: «أظن الآن أن موضوع الكتاب صار واضحا ظاهر الحدود بين المعالم، وسنقلب فيه المسألة ونجعل الصغار هم العقلاء الحكماء الذين لا يخطئون أبدا، والكبار هم الأغبياء البلداء الذين لا يصيبون والذين يحتاجون إلى الرقابة والإرشاد والتأديب والزجر.»
فطار الغلام من الفرح، ووثب على رجليه وانهال علي تقبيلا وألح علي بالسؤال: «أصحيح ما تقول يا بابا؟»
قلت: «نعم. وسنسميه «المختار في تهذيب الكبار»، ونجعل الصغار هم الذين يبقون في البيت لتدبير شئونه، والكبار هم الذين يذهبون إلى المدرسة ونلبسهم ما يلبس التلاميذ والتلميذات الآن من البذلات القصيرة ونقص لجدتك شعرها ونخرجها في قبعة من قبعات البنات الصغيرة ونضع لها على صدرها «مريلة» ونبعث بها إلى المدرسة، وإذا لم تحفظ دروسها عاقبناها بالوقوف ووجهها إلى الحائط، وإذا أكثرت من اللعب حرمناها الحلوى، وإذا لم تنم في الساعة الثامنة عددناها سيئة الخلق عنيدة ولم نخرج بها للرياضة يوم الجمعة.»
قال: «ويجب أن نحرم عليها اللعب إلا مع لداتها من الجدات نظائرها، وإذا وجدناها تلاعب واحدة من الشواب عاقبناها بالحبس في غرفتها، وإذا جلست ساكتة أو لم تتناول طعامها بإقبال أنمناها في سريرها وجرعناها ملء كوب من زيت الخروع، وإذا كرهت طعمه أو تقززت من مذاقه قلنا لها: إنه يفيدها وإننا نحن نعرف ما يصلح لها وما لا يصلح، وإذا جلست معنا واشتركت في الحديث انتهرناها بنظرة، فإذا لم تكف أفهمناها أن الكبار لا يصح أن يقاطعوا الصغار ...»
قلت: «وإذا سألتنا - أعني إذا سألت الصغار - عن شيء نجهله قلنا لها: إن هذا الأمر لا تستطيعين فهمه وإدراكه الآن، والسيدة المهذبة يجب ألا تكثر من الأسئلة أو تحشر أصابعها فيما لا تفهم.»
قال: «وإذا أكلت من الشيكولاتة أكثر مما يوافقها لا نأخذها إلى السينما وحرمناها مناظر شارلي شابلن وأضرابه.»
ثم رفع إلي وجهه وقد بدت عليه أمارات التفكير الجدي وسألني: «ولكن هل نسمح لها بالاختلاط بالرجال وملاعبتهم؟»
قلت: «بقدر. وعلى أن يكون لنا - أعني للصغار - حق المراقبة والتدخل إذا وجدنا أن الضرورة تقتضي ذلك.»
قال: «والدروس التي نتلقاها الآن ألا يتغير منها شيء؟»
قلت: «أكثرها يبقى كما هو، ولكن الموضوع من كتب المطالعة والمحفوظات يتغير؛ لأنه في الأصل مجعول للأطفال، وهذا يعود بنا إلى مشروعنا، فإن الذي أفكر فيه وأريد منك أن تعينني عليه، هو كتاب يحتوي طائفة متخيرة من القصص والموضوعات يتعلم منها الكبار آداب السلوك وما لهم وما عليهم في الحياة، والواجبات المفروضة عليهم نحو الصغار أولياء أمورهم، ولذلك ينبغي أن يلغى من الكتب أمثال «سمير الأطفال» و«القراءة الرشيدة» للأطفال، فإنها جميعا لا تصلح لمشروعنا.»
قال: «ومن يؤلف هذه القصص؟»
قلت: «أنا وأنت، ولسنا نحتاج إلى تعب كبير؛ لأن الأمر لا يتطلب فيما أقدر إلا تحويرا قليلا يجعل القصة للكبار بدلا من الصغار.»
قال: «وهل نطبع الكتاب ونبيعه؟»
قلت: «ولم نتكلف وضعه إذا لم نطبعه ونبيعه؟»
قال: «وهل يشتريه الكبار ويقرءونه؟»
قلت: «إذا لم يفعلوا فإن في وسعي أن أوعز إلى نفر من أصدقائي بأن يحملوا في الصحف على الكتاب حملة عنيفة، وبأن يصفوه بأنه مخالف للآداب ومناف لكل ما درجت عليه الإنسانية، وهذا وحده كفيل بترويجه.»
قال: «وهل كل ما يخالف الآداب يطلبه الناس؟»
قلت: «لا أستطيع أن أقول: نعم أو لا، ولكن الذي أريد أن أقوله هو أن حب الاستطلاع يدفع الناس إلى طلب هذا الكتاب الفريد في بابه.»
قال: «وكيف تقرأه جدتي وهي أمية؟»
قلت: «إن الأمية الفاشية بين الكبار من أمثال جدتك مما يسوغ مشروعنا ويجعله ضروريا، أليس الواقع الآن في الأغلب والأعم أن الجهلاء هم الذين يتولون تربية المتعلمين أمثالنا أو توجيههم في الحياة واختيار ما يصلح لهم؟ والأمر ينبغي أن يكون على نقيض ذلك.»
قال: «ولكن إذا لم نحسن تدبير المنزل أو إذا لم تجد الصغيرات مثلا طهي الطعام وتذمر منه الكبار؟»
قلت: «لن يعوزنا كلام نسكتهم به كما يفعلون بنا الآن، وما علينا إلا أن نتهمهم بالبطر والتدلل القبيح ونزجرهم عن ذلك.»
فضحك وقال: «إنك ماهر جدا يا بابا، ولا بد أن يكون الكبار قد ضايقوك جدا في صغرك فأنت الآن تريد أن تنتقم منهم.»
ثم ألقى إلي نظرة خبيثة وهو يسأل: «هل كان أبوك ثقيلا يا بابا؟»
فتماسكت بجهد وسألته بدوري: «ثقيلا مثل من؟»
قال: «لا أعني مثل أحد ولكنه سؤال، فهل أخطأت فيه؟»
قلت: «كلا، ولم يكن أبي ثقيلا فيما أذكر، وعلى أنه لم تتح له معي فرصة كبيرة لذلك، فقد مات وأنا صغير.» •••
وهنا رأيت أن الأحزم أن نعود مخافة أن يسترسل في مثل هذه الأسئلة المحرجة، التي جرها علي التبسط معه في هذا الموضوع. والأطفال - كما يعرف ذلك من كابدهم - لا يستطيع المرء أن يتكهن بما يجري في رءوسهم أو يعرف ماذا يتوقع منهم، فإن لهم وثبات غير مأمونة.
فنهضت وطلبت منه أن يفكر في الموضوع، وبينما كنا عائدين سألني فجأة: «وأنت يا بابا هل نضعك مع الكبار أم مع الصغار؟»
فدفعت الباب ولم أحر نطقا.
الحقائق البارزة في حياتي
تمهيد: حدث منذ عامين، أو نحو ذلك ... أن حرمت الجريدة التي كنت أتولى رياسة التحرير فيها، حقا، ولا داعي هنا لبيان الموضوع فقد مضى أوانه، وليس هذا على كل حال محله، فكتبت على أثر ذلك مقالا قويا - أو لعل الأصح أن أقول: إنه عنيف - نقلته صحيفة فرنسية بفصه ونصه، وبعد يوم وجدت على مكتبي بطاقة «دكتور» يراسل صحيفة نمسوية وكلاما في ظهر البطاقة حسبته في أول الأمر ألمانيا، ثم قيل لي إنه فرنسي، ثم تبين أنه إنجليزي، فاقتنعت ولم أواصل البحث مخافة أن يتضح أنه عربي وأوجز فأقول: إني استقبلت الزميل الفاضل في مكتبي في الساعة التي اتفقنا عليها تليفونيا. ولم يتجاوز الفرق بين ما فهمته أنا وما فهمه هو أربع ساعات لا أكثر، فكنت أنا جالسا أمام مكتبي في الساعة الثالثة مساء ووافاني هو في الساعة السابعة مقدما بين يديه اعتذاره من حضوره قبل الموعد بنصف ساعة، ودار الحديث بيننا فأفضيت إليه بجواب ما أعتقد مخلصا أنه سألني عنه، وبإيضاح ما أشكل عليه فهمه من موضوع الخلاف السياسي ومواقف الأحزاب في ذلك الوقت وما إلى ذلك مما يتصل به من قريب أو بعيد، واعتقدت أن الأمر انتهى عند هذا الحد ولم يخالجني شك في أن الله أرحم من أن يبلوني بحديث آخر.
ولكن المقادير جرت - لسوء الحظ أو لحسنه - بغير ذلك، فعاد الدكتور الفاضل يرجو مني شيئا آخر لا أقل من أن أتفضل عليه بترجمتي أو تاريخ حياتي، وكان الدكتور أظرف وأكبر من أن أرفض له طلبا، ولكن تاريخ حياتي! ... تصور هذا؟ فأحلته أولا على ترجمة كنت قد كتبتها منذ سنوات تمهيدا لمختارات من شعري، وقد نشر ذلك كله في كتاب «شعراء العصر»، ولكنه اعتذر وقال إنه فهم من كلامي أن الترجمة مكتوبة باللغة العربية وأن الكتاب مطبوع في سوريا، ووقته أضيق من أن يسمح له بالسفر إلى ذلك القطر وإن كان لا شك عنده في أنه لو تيسر له السفر لألفى الترجمة التي أشير إليها وافية بالغرض، ثم تفضل فذكر لي أنه علم من بعض من اتصلت أسبابه بأسبابهم من المصريين أني من رجال المدرسة الحديثة في الأدب، وأن هذا هو الباعث له على الإلحاح علي في الرجاء أن أوافيه بترجمتي، فسرني هذا ورأيت فيه فرصة لانتشار اسمي إلى ما وراء مصر واستفاضة ذكري على ألسنة الغربيين. وتوقعت بعد أن أجيبه إلى سؤاله أن يتقدم إلي واحد أو اثنان أو ثلاثة من ناشري الكتب في أوروبا يطلبون السماح لهم بترجمة كتبي وإذاعتها في العالم الغربي، فلا يعود المازني بعد محتاجا إلى وظيفة ثقيلة مضنية كرياسة التحرير في صحيفة يومية. ففركت يدي مغتبطا وقلت له: إني طوع أمره ورهن مشيئته، ولكن بي حاجة إلى يوم أو يومين أجمع فيهما الحقائق البارزة وأحضرها إلى ذهني استعدادا للإجابة، وفي اليوم المعين تلاقينا فدار بيننا الحديث الآتي:
هو :
إني مستعد يا سيدي. تفضل.
أنا :
أرجو أن تغفر لي لهجة الزهو التي قد تحسها من كلامي، ولا شك أن التواضع فضيلة ولكن الحقيقة أسمى وأجل. أليس الأمر كذلك؟
هو :
بلا ريب.
أنا :
والحقيقة أني من بيت قديم عريق جدا يستطيع أن يحدثك عنه آلاف من الناس لو كلفت نفسك سؤالهم.
هو :
لا شك عندي في ذلك يا سيدي (وانحنى لي) .
أنا :
وأنتم - معشر الأجانب - تشمخون علينا بأنوفكم كأن بلادكم هي وحدها التي تعرف الأرستقراطية؛ لأن فيكم من يستطيع أن يعد عشرة أو عشرين من الجدود. ولعل أكثرهم كان من الفتاك وقطاع الطرق. فأنا في مقدوري أن أتلو عليك أسماء مئات من الجدود لا عشرة ولا عشرين ليس من بينهم إلا من هو مستفيض الذكر. ولن تجد أعتق من هذا النجار ولا أعرق من ذلك الفخار.
هو :
آه؟
أنا :
نعم يا سيدي، فإن جدي الأعلى رجل لا شك عندي في أنك سمعت به وقرأت عنه إن كنت قد قرأت شيئا. (فبدا عليه الاهتمام ورفع سن القلم عن الورقة ومنحني أذنه - واحترامه أيضا - وقال، وقد رأى سكوتي ريثما يتم أهبته: «إني مصغ.»)
أنا :
وهو لا أقل من آدم نفسه. (فوقع القلم من بين أصابعه وهوت يده إلى جانبه وخيل إلي لحظة أنه سيسقط عن كرسيه عجزا عن احتمال كل هذا المجد، وسرني أن أرى فعل كلامي في نفسه، ولكنها لم تكن سوى لحظة ثم نهض فجأة ومد إلي يده، فنهضت مثله ومددت له يدي وقد ظننت أنه سيستأذن، غير أنه خيب أملي وقال):
هو :
لي الشرف يا سيدي بأن أقول لك: إني أيضا أمت إلى هذا الشيخ الجليل بسبب، وتحقيقا لذلك أقول: إن جدتي العليا حواء فنحن إذن قريبان. (فهززت يده سرورا بهذه القربى، وقلت):
أنا :
لقد سهلت علي الأمر جدا فما أظن بك - وأنت غصن من هذه الدوحة الفينانة - إلا أنك تعرف كيف كانا في الجنة وماذا أخرجهما منها، وكيف قتل جدي قابيل جدي هابيل وإن كانت الكتب تقول إن أحدهما مات ولم يعقب ولدا، وأظن جدك القتيل، وغير ذلك من الحوادث البارزة التي لا تزال طبقة ترويها عن طبقة وجيل يتلقفها من جيل إلى يومنا هذا، فلنمض إلى من هم أقرب إلينا.
هو :
إن أسرتنا الكريمة أشهر من أن تحتاج إلى تعريف، فأرجو ألا تجشم نفسك ... (فلم يعجبني أن يحشر نفسه في أسرتي بعد أن أخرجته منها ونويت ألا أعده - فيما بيني وبين نفسي - إلا من سلالة معاتيق جدي قابيل، بيد أني كتمت هذا وقلت مقاطعا له):
أنا :
سأقتصر على واحد أو اثنين من مشاهير أجدادي الأقربين لتعرف من أية أيكة كريمة خرج هذا الفرع الذي يتشرف بأن تراه أمامك (انحناء منه ومني)
فمنهم: مالك بن الريب بن حوط المازني، وكان زعيما لقومه وبلغ من قوته وسطوته أنه كان ورفقاؤه - أعني أتباعه - يقطعون الطريق على رعايا الخليفة ويسومون الناس ما شاءوا، غير أن الخليفة لم يحتمل هذه المنافسة ولم يطق صبرا على هذا المزاحم فطلبه، وكان مالك قد رأى أن البلاد لم يبق بها ما يستحق أن يؤخذ فتركها للخليفة ومضى بثلته إلى فارس حيث لم يكف عن ركوب الناس بالأذى حتى أجرى الوالي عليه مبلغا شهريا، فلم توافقه هذه الحياة الوديعة فمات بعد الكف بقليل.
ومن مشاهيرهم: هلال بن الأسعر المازني، كان رجلا فيه فكاهة عملية وكان يحلو له أن يركب الناس بالدعاية، فكان يشحذ سيفه القديم ويخرج في الظلام فإذا مر به أحد شكه بالسيف في بطنه، فيثب ثم يقع على الأرض فيغرب جدي في الضحك ويذهب إليه ويلاطفه ويخفف عنه حمله، ألا لقد كان مفطورا على الفكاهة.
ومن أكرمهم أيضا: مسعود بن حرشة المازني، كان شديد العطف على الناس والمرثية لهم فعاش عمره لا عمل له إلا إراحة إخوانه في الإنسانية من الإبل ومما يحملون، ولكن حساد فضله وشوا به لعامل الخليفة فقطع له نصفه الأعلى وعلقه في مكان ظاهر في سوق كبير، وأتاح له بذلك أن يشرف على الناس ويتأملهم زمنا كافيا.
هو :
قد اقتنعت يا سيدي بأن فرعكم أنبل وأشرف، وبودي لو تسمحون لي بطائفة قليلة من الأسئلة عن شخصكم الكريم مخافة أن تنسوه في وسط هذا العباب الطامي من المجد التليد. (فلم أرتح إلى هذه المقاطعة التي لا شك عندي في أن الحسد هو المغري بها. كنت أريد أن أغمره بسيل من هذه الحقائق التي ترفع الرأس وتطيل القامة، غير أني قدرت أن الفرصة لم تضع، وأنها لا محالة سانحة، فقلت له: تفضل.)
هو :
كم عمرك؟ إذا جاز أن أتقدم إليكم بمثل هذا السؤال.
أنا :
سيكون في أغسطس المقبل - في 9 أغسطس - عشرين سنة.
هو :
كيف؟ عشرون سنة فقط!
أنا :
نعم.
هو :
وهل تسمح لي أن أسألك في أي سنة ولدت؟
أنا :
إذا لم تخني الذاكرة فإني ولدت في سنة 1790 ميلادية.
هو :
1790؟! كيف يكون هذا ممكنا؟!
أنا :
لا أدري وهذا بعض ما أعجب له؟
هو :
ألم تقل: إن عمرك عشرون سنة؟
أنا :
نعم.
هو :
ولكن عمرك - إذا حسبناه من تاريخ ميلادك - يكون مائة وستا وثلاثين سنة، فكيف تعلل هذا التفاوت؟
أنا :
لا أعلله. وكثيرا ما عجبت له. وإذا كان هناك تفاوت فلا شك أن مرجعه إلى أنه فاتني أن أدون هذه الحادثة السعيدة ساعة وقوعها. (ورأيت فرصتي سانحة فاغتنمتها لأكر إلى مجد أجدادي فقلت):
أنا :
أزيد على ذلك أني ولدت بغير أسنان، فأنا لهذا أفضل كثيرين من الآدميين، غير أن هذا حرمني القوت زمنا طويلا فلبثت لا أطعم غير اللبن، وهذا تعليل ضآلة جسمي واضطراري بسبب ذلك إلى القعود عن المعالي التي كلف بها أجدادي الأماجد من أمثال ابن أبي سعيد المازني. فقد ولد بأسنانه كاملة وكان مبطانا أكولا وفحلا عظيما مرهوب الجانب، وعرف له الخليفة فضله فاختصه بغرفة في قصره وأقام له عليها اثنين من الحجاب وأمرهما ألا يدعاه يجشم نفسه حتى الخروج من الغرفة وأن يقوما هما بخدمته فبقي في هذا القصر مكرما مبجلا مخدوما تسعة عشر عاما، ومنهم أيضا أبو هلال بن ...
هو :
مهلا يا سيدي، فإن الرجوع إلى هذا معناه الشك في صدق ما جاهرت به من اقتناعي بكرم محتدك، فهل تسمح لي بأن أسألك متى اشتغلت بالصحافة؟
أنا :
في 1819.
هو :
كيف؟ وعمرك كما تقول دون العشرين؟
أنا :
لا أدري! وهذا أيضا بعض ما يحيرني.
هو :
إن هذه التواريخ لا أمل في إصلاحها على ما يظهر، فلنسأل عن شيء آخر، هل لك إخوة؟ (فاغتنمت هذه الفرصة لأطير له صوابه.)
أنا :
دعني أفكر، نعم، كان لي أخ ... في الرضاعة.
هو :
ماذا تعني؟
أنا :
أعني أنه كان ابن مرضعتي.
هو :
وهل مات؟
أنا :
لا أدري.
هو (بتأثر) :
اختفى فلم تسمعوا عنه خبرا؟
أنا :
كلا. بل دفناه.
هو :
دفنتموه؟ هل تريد أن تقول إنه دفن دون أن تعلموا أحي هو أم ميت؟
أنا :
كلا. فما من شك أنه كان ميتا. (فضحك وقال: مات ودفن فماذا تريد؟ أظن أن المسألة واضحة جدا فماذا يحيرك فيها؟)
أنا :
أتظن أن المسألة واضحة؟ ربما. أما أنا فأخالفك.
هو :
لماذا؟
أنا :
لأني لا أدري إلى هذه الساعة أينا الذي مات أنا أم هو؟ أفهمت الآن؟ (فانطلق يقهقه كأنما كان في جوفه رعد مخزون وصبرت عليه حتى فرغت الذخيرة، ثم قلت له بلهجة غريبة مرعبة: «هل تستطيع إذا قصصت عليك القصة وأفضيت إليك بالسر أن تنبئني عمن يحدثك الآن، أهو المازني أم من كان ينبغي أن يكون خادمه وإن كان أخاه في الرضاعة؟») (فارتبك وبدت عليه دلائل الحيرة والدهشة وعلا وجهه السهوم. فاغتبطت وأقسمت لأزيدنه ارتباكا ولأطيرن من رأسه هذا الولع بتراجم الناس، فقلت: «اسمع يا صاحبي، لقد كان لمرضعتي طفل في مثل سني وكان شديد الشبه بي، وكان يلبس من ثيابي فيزيد الأمر بيننا اختلاطا، وما أكثر من كان يتوهم أننا توءمان، وكثيرا ما كان يقضي هذا الولد لياليه في غرفتي على أنه أنا، بينما أكون أنا نائما مع الخادمة، وهكذا نشأنا، فشببت أنا على أنني المازني وشب هو على أنه الخادم، وقد يكون الأمر على خلاف ذلك، وما يدريني ويدريك أن الأمر لم يختلط على ظئري وهي تغسلنا في الحمام؟ ولا أطيل. كبرنا نحن الاثنين، المازني وخادمه محمد، أو محمد وخادمه المازني، فما أدري الآن من أنا على التحقيق؟ كبرنا إذن وسرق الخادم مرة من الجار فحبس لذلك بضعة شهور لا أذكر عددها، وعسى أن يكون المازني هو الذي سرق وحبس خادمه، ربما، ولكن هذا لا قيمة له، فكثيرا ما كنت أنا أخطئ ويضرب خادمي عني، أو بعبارة أخرى ربما كانت أصح وأقرب إلى الحقيقة، كثيرا ما كان هو يخطئ وأضرب أنا عنه، هذا إذا ذهبنا نعتبر الخلط الذي لعله أصاب عنوانينا أو اسمينا.»)
هو :
أرجو المعذرة، ولكن هل من عادة المصريين أن يضربوا خدمهم إذا أخطأ أبناؤهم؟
أنا :
لست أعلم أن هذه عادة أحد من المصريين، ولكني أريك بعض آثار التشابه بيني وبين الخادم واحتمال التصاق الاسم بغير صاحبه.
هو :
ولكني لا أفهم ...
أنا :
ستفهم كل شيء إذا تريثت قليلا، ولم يقلع الخادم عن السرقة والتلصص، أو لم يكف المازني عنهما، فما يعلم الحقيقة غير الله، ومن لعله خلطني به في الحمام ونحن طفلان رضيعان؟ فألف الإجرام، واتفق في ليلة أنه كان يسطو على بيت فأحس به السكان ففر إلى السطح على نية الوثوب من سطح إلى سطح وهكذا حتى يهتدي إلى طريق مأمون للهبوط إلى الأرض، وبينما كان ماشيا على سور أحد السطوح زلزلت الأرض، فهوى ومات والآن نبئني - إذا استطعت - أينا الذي مات؟ أهو أنا أم هو؟ أهو المازني أم خادمه؟
هو :
ألم يكن هناك شيء - علامة مثلا - تميزكما؟
أنا :
وإذا تذكرت ما قصصته عليك عن آبائي وأجدادي الأماجد، وما كانوا يتوخونه جميعا من الأساليب لاكتساب رزقهم، وبعبارة أخرى أخشى إذا تذكرت أنهم كانوا جميعا بفضل الله فتاكا وقطاع طرق ولصوصا، ألا يكون الأقرب إلى المعقول والأشبه أن يكون الخادم المتلصص هو المازني وأكون أنا الذي وقعت من فوق السطح ومت؟
هو :
لا أنكر قوة منطقك ولكني أسألك مرة أخرى - ألم تكن ثم علامة تميزكما؟
أنا :
هل تحسبني أبله؟ وفيم إذن قلت لك: إن للمسألة سرا؟ (فأبرقت أسارير وجهه ولمع السرور في عينيه وقال: لا أحسبك تضن علي بحل هذا اللغز بعد أن أوجعت رأسي بعقده؟)
أنا :
كلا! لقد كان هو أسود زنجيا وأنا كما ترى أسمر.
فنهض وانحنى وقال: «أشكرك.»
ولم أر بعد ذلك وجهه.
اللغة العربية بلا معلم
وقفت مرة بباب مكتبة أتأمل معروضاتها من وراء الزجاج، فأخذت عيني كتيبا صغيرا يعلم الأجانب «اللغة العربية بلا معلم» فراعتني هذه الجرأة، وتمثل لخاطري ما يكابده الأساتذة من العناء في تدريس هذه اللغة، بل ما نعانيه نحن الذين نزعم أنفسنا أدباء وشعراء من البرح والجهد ولا أطيل، اشتريت الكتاب بثمن باهظ ثم انتحيت ركنا في قهوة ورحت أقلبه فإذا هو لا أكثر من ألفاظ ومحادثات باللغة الإنجليزية وما يقابلها باللغة العربية، فتحسرت على ما بذلت فيه، وساءلت نفسي: ماذا أصنع به؟ كيف أعوض خسارتي؟
والله أكرم من أن يضيع على فقير مثلي ماله إذا صح أن تسمي القروش مالا. فألهمني أن أنتزع منه متعة لا أظن مصريا غيري حلم بها أو طمع فيها. ذلك أني فرضت - جدلا - أني (مالطي) واتخذت هذا الكتاب مرشدا لي وقلت أتقيد بجمله وعباراته في المحادثات التي أضطر إليها في تجوالي في المدينة.
ولما كنت «سائحا» وشوارع المدينة متداخلة تضل الغريب فقد وجب - طبقا لمشورة الكتاب - أن أركب «عربة» وأن أحتمل هذا الترف الضروري، ففتحت الصفحة الثانية عشرة حيث الحديث مع سائق العربة ودنوت من «الموقف» وأشرت بعصا اشتريتها خصيصا لهذه المناسبة السعيدة، وصحت بلسان ملتو : «أربجي»، فألهب السائق جواديه وعدا إلي بهما، فلما صار عندي عدت إلى الكتاب أستوحيه الجملة الثانية التي ينبغي أن تتلو النداء، ثم رفعت إليه رأسي وقلت: «روه هات أربه.»
فكأني لطمت الرجل على وجهه. فانطلق يمطرني وابلا من الكلام لم أفهمه كما هو المفروض؛ إذ كنت غريبا عن هذه الديار، ولكني تبينت من لهجة الرجل وإشاراته أن المعاني جميلة جدا وأن جملتي راقته كما لم يرقه شيء في حياته.
وعدت إلى الكتاب أستمليه الجملة الثالثة لعلها تحل الإشكال فقلت: «يا أربجي أنت فاضي؟»
فرماني بنظرة مغيظ محنق لم أدر ما مسوغها، ثم رفع طرفه وكفه إلى السماء، ثم صاح بالناس فالتف حولي منهم اثنان كلمني أحدهما بالفرنسية فهززت له رأسي فخاطبني باليونانية، فظللت أهز له رأسي، فجرب الثاني الإيطالية فأشرت له بإصبعي أن لا. وخفت أن يطول الأمر فرددت عليه بالإنجليزية فاستغرب وجعل يرفعني ويخفضني بعينه. وأوجز فأقول إني حسما للنزاع ركبت وقلت للسائق، بعد أن تجاوزت عن جملتين من الكتاب: «طيب اذهب بي إلى المهطة.»
فانطلقت العربة، وبديهي أني كنت أوثر مكانا آخر ولكني كنت مقيدا بالكتاب، فلما انتهينا لم أنزل وصحت به، نقلا عن مرشدي: «كم تريد أجرة لك؟»
وكان ينبغي أن يقول - طبقا للكتاب - واحد شلن. ولكنه طلب نصف ريال، فدهشت وبحثت في غلاف الكتاب عن تاريخ طبعه فألفيته 1926، فقلت لنفسي لعل الأجور ارتفعت في هذا البلد بعد صدور الكتاب، وكان علي أن أناقشه كما يحتم الكتاب فقلت: «لا، هذا كثير.»
وكان ينبغي - على ما رسم الكتاب - أن يكون رده على ملاحظتي «كما في التعريفة»، غير أنه بدلا من أن يفعل ذلك مضى يشتمني ويسبني ويلعن لي آبائي وجدودي وهو آمن مطمئن إلى جهلي بلغته البذيئة على الأقل. فلم أر مناصا من أن أعد لعناته مرادفة للرد الواجب، ونقلت له من الكتاب «ستة كروش أبيض بس.»
فحصبني بملء صحراء من اللعنات والشتائم ثم قال: «هات بقى.»
ففهمت هات لأنها من الكتاب، وتجاوزت عن باقي «بقى» على اعتبار أنها على الأرجح كلمة شكر أو دعاء، وناولته القروش الستة البيضاء. وإذا به يثب على الأرض ويجذبني من جيب سترتي ويصب علي من السباب ما يكفي شعبا بأسره جيلا كاملا. فما أشد إسرافه قاتله الله. وتنازعني الضحك والغضب والخوف. ولكني ضبطت عواطفي وصوبت عيني إلى الكتاب ثم رفعت له وجهي وقلت: «وديني الكشلة.»
1
فقال: «القشلة؟ يا خبر أسود يا ناس. تعالوا انظروا هذا يريد أن يدعي أني كسرته ...» وهكذا وهكذا مما يستطيع القارئ أن يتصوره ولا حاجة بنا إلى وصفه.
ولم أدع أنا شيئا من هذا، ولا خطر لي أن أفعل، ولكنه الكتاب استوجب مني أن أذهب إلى القشلة بعد أن حملني إلى المحطة، ولا موجب لهذا ولا ذاك، ولكن هكذا شاء فكان ما أراد، فرأيت الأحزم أن أنتقل إلى الجملة التي تلي «القشلة» فقلت: «طيب اعمل فسهة في البلد.»
فلم يدر أيشتم أم يضحك. وبعد أن تأملني قليلا قال: «يا بن ... من القشلة للفسحة؟»
وبينما كان هو يصعد إلى مقعده كنت أنا أترجل. فالتفت إلي مذهولا، فأنقدته القروش العشرة وقلت له: «لا مؤاخذة لقد كنت أمزح.» فحار كيف يعتذر عن شتائمه ولعناته ...
سأجرب فضل الكتاب في نزوة أخرى استخلاصا لحقي.
أشق المحادثات
محادثة الصم أشق شيء بعد محادثة النساء. إذا صح أن الرجل يتحدث أو تتاح له فرصة الكلام وهناك امرأة. والفرق بين الحالتين - أعني بين محادثة الصم ومحادثة النساء - أن المرء في الحالة الثانية لا يزال يفتح فمه، كلما توهم أن الحظ قد أسعفه بفرصة، ولكنه - فيما أعلم - لا يجاوز التأتأة أو الفأفأة أو غير هذه وتلك مما هو منهما بسبيل، ولا يكاد يزيد على «أ أ أ»، ثم لا يرى معدى عن إطباق فمه، وهكذا فلو أتيح لك أن تراه وهو يفتح فمه ثم يطبقه مرة بعد أخرى - دون أن تعلم أن هناك امرأة تتحدر كالسيل - لظننته يتثاءب من فرط الملل والوحدة، وشر ما في الأمر أن المرأة لا تنفك تنكر على الرجل صمته وتستهجنه منه أو تعده دليلا على أن في نفسه شيئا من ناحيتها. وليس من الميسور أن يقول الرجل منا لأمه أو زوجته أو أخته أو لأية سيدة محترمة: إن علة صمته أنها هي لا تكف عن الثرثرة. كلا، هذا لا سبيل إليه فإن عاقبته أوخم، فهي ورطة كما ترى لا مخرج منها.
فرص الكلام معدومة أو هي في حكم المعدومة، والمصارحة مستحيلة والصبر على اللوم والتأنيب والاتهام عسير، فماذا يصنع المرء؟ توهمت مرة أني اهتديت إلى تعليل للصمت المفروض علي والمستهجن مني في وقت معا. فقلت لمن كانت تلومني: «ألا تعلمين أني مدرس؟»
قالت: «وما دخل هذا؟»
قلت: «إذا أكثرت من العمل بيديك ألا تتعبان؟»
قالت: «نعم ذلك ...»
قلت: «وإذا مشيت بضعة أميال ألا تتعب رجلاك؟»
قالت: «هذا صحيح ولكن ...»
قلت: «تمهلي، وإذا تعبت يداك أو رجلاك فكيف تريحينهما؟»
قالت: «بالكف عن العمل أو المشي.»
قلت: «انتهينا. أنا مدرس وليس لي من عمل طول النهار إلا إدارة لساني في حلقي، فمن حق هذا اللسان أن يستريح بعد الجهد الشاق الذي بذله.»
فاقتنعت يومئذ، وبعد بضعة أيام كنت جالسا معها، صامتا كما هو مفهوم بالبداهة فدنت مني وقالت: «اللسان يتعب، أليس كذلك؟»
فأدركت أن وراء هذا السؤال أمرا، وقلت: «نعم. شأنه شأن كل عضو آخر.»
قالت: «فما لفلانة المعلمة لا تكف عن الكلام في ليل أو نهار؟»
والخلاصة: أنني أشك في أن آدم هو الذي سمى الأشياء. وما أظن إلا أن حواء هي التي يرجع إليها الفضل في ذلك، فما أحسبها تركت له فرصة يفتح فيها فمه ولا سيما إذا ذكرنا أن آدم كان الإنسان الوحيد الذي كانت تستطيع أن تكلمه في الجنة، وأنه لم يكن معها سواه فكيف استطاع أن يجد الوقت اللازم للتفكير فيما يناسب الحيوان والنبات من الأسماء؟! بل ما أظن أن آدم قد أكل من الشجرة المحرمة؛ لأن حواء أغرته أو لأن الشيطان وسعه أن يزين ذلك له، بل لأن الأكل من هذه الشجرة له عواقبه، ومنها الموت وانتفاء الخلود ، وتلك وسيلة للخلاص يمكن ارتقابها مع الصبر. فما أعظمها من تضحية يجب أن نذكرها لأبينا الشيخ المسكين! •••
أما محادثة الصم فشيء آخر مختلف جدا، هي صياح من جانب وبعثرة من الجانب الآخر، وأعني بعثرة المواضيع التي يمكن أن يدور عليها الحديث زمنا معقولا؛ إذ لا سبيل إلى حصر الذهنين في موضوع واحد وقتله - أعني قتل الموضوع - ولنضرب مثلا: تضع يدك إلى جانب فمك وتصيح في أذن صاحبك: «متى اشتريت هذه النظارة؟»
فينظر إليك أولا كأنما يريد أن يقرأ في عينك أو في وجهك كله ما سمع، ثم يقول بصوت لا تكاد تسمعه ولعله يحسب أنه يصيح مثلك: «أي نعم وزارة المعارف.»
فتصيح مرة أخرى وتصنع من كلتا يديك بوقا لأذنه. «النظارة. النظارة. أنا أسأل عن النظارة.»
فيقول: «آه. ربما. ربما. فإن الأزمة حقيقة حادة.»
ويخطر لك أن تغير الحديث فتصب هذه الصيحة في أذنه أو تطلقها في الهواء، سيان: «هل قرأت مقالتي الأخيرة؟»
فيقول: «لعنة الله عليها لقد كادت تخنقني. وقد غشني من مدحها لي.»
فتبدي أمارات الدهشة وتلعنه بصوت عادي فيقول: «لا تعجب فإنها جهة مشبعة بالرطوبة، والبعوض فيها كالنحل. كلا. لقد شبعت من المنيرة وسأنتقل إلى جهة أخرى.»
وهكذا. تنتقل من موضوع إلى موضوع بلا فائدة حتى يبح صوتك. والنساء شر لا بد منه، وكثيرا ما تنسيك حلاوته مرارته ولكن المرأة الصماء ... هنا يحسن السكوت.
من ذكريات الصبا: بين رجال الليل
وقعت مرة على عصبة من اللصوص، وكنت في ذلك الوقت صبيا في الثالثة عشرة من عمري الذي أراه ينوي أن يطول بلا مسوغ، وكنت عائدا من مكان قريب من مسجد عمرو إلى الإمام عن طريق الصحراء الفاصلة بينهما، وكان الليل قد أمسى وانتشر الظلام على الأرض، ولم يكن شارع «كتشنر»
1
قد شق وعبد. فكان الساري لا يجد ما يهتدي به في هذه البيداء المبسطة سوى النجوم إذا كان ممن يستطيعون أن يميزوا بينها.
وكنت أعرف من الكتب أن هناك «دبين» واحد منهما أكبر من زميله، ولكني لم أوفق إلى رؤيتهما في هذا التيه السماوي إلا منذ عهد قريب، وكان شكي يومئذ في وجودهما عظيما، ولكنه شك لم أكن أدعه يند عن صدري إلى لساني ولاسيما إذا كان أحد من المدرسين حاضرا، تلك جرأة كنت قد تعلمت ضبطها وكتمانها بعد أن جرت علي ما لا أزال - كلما تذكرت - أرى يدي ترتفع إلى خدي. وشرح ذلك أنا كنا نطالع كتابا نسيت اسمه، فمرت بنا هذه الجملة المشهورة: «إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه» وأخذ المدرس يضرب الأمثال، فكبر في عيني هذا «المضطر» الذي يبلغ من مخاطرته ألا يركب إلا الصعب «ويتعمد ذلك» ولا يعبأ شيئا بالأهوال التي يقذف بنفسه عليها، وأعجبتني هذه الشجاعة وملأت نفسي إجلالا له، فاشتقت أن أراه وعانيت من إلحاح هذا الشوق أشد البرح، فلم يكد المدرس يفرغ من الشرح - وكنت في شغل عنه بتصور «المضطر» وتمثل «الصعب» الذي يركب - حتى وثبت عن الدرج كالقذيفة وقلت بلا استئذان: «أفندي! أفندي!»
فتغاضى المدرس عن مخالفتي للأصول المرعية وقال لي وعلى فمه ابتسامة الراضي عن نفسه المطمئن إلى بلوغ غايته من الإيضاح والبيان: «نعم يا عبد القادر؟»
فجازيته ابتساما بابتسام ولم أكن أقل منه رضا عن نفسي وفرحا بالانفراد - دون بقية التلاميذ - بهذه الرغبة الملحة، واغتباطا بشجاعة النهوض بلا استئذان للإعراب عنها فقلت: «أين يعيش المضطر؟»
فتجهم وجهه وانزوى ما بين عينيه وطالعتني أمارات الغضب حسبتها دلائل حيرة، فأسفت لتقدمي بهذا السؤال وإحراجي إياه به أمام التلاميذ وقلت لنفسي: إن معلمنا هذا معذور إذا جهل مكان «المضطر» واستعصى عليه الجواب، وأنى له أن يعرف - وهو رجل عادي - ذلك «المضطر» الذي لا يبالي بالصعب ويأبى إلا أن يركبه؟ وانتبهت من هذه المناجاة، التي يظهر أنها طالت أكثر مما ينبغي، على التلاميذ يدفعونني وعلى المدرس يصيح بي. «أقول لك تعال هنا، ألا تسمع؟»
فلم أدع الابتسام وذهبت إليه وأنا أقول لنفسي: «سيعاتبني الآن على تسرعي وعدم انتظاري انتهاء الدرس لأسأله على انفراد، وسيهمس في أذني عتابه فأهمس في أذنه اعتذاري وأنتظر.» «ماذا تقول؟» بصوت عال.
ولم يكن هذا ما توقعته فارتبكت، وحدثت نفسي أن هذا مأزق ظريف. أرجو أن أنقذ الرجل ويأبى هو إلا أن يغرق، ورفعت له وجها يستطيع أن يقرأ فيه إذا لم يكن أعمى، أني آسف وأني مدرك خطئي وكان عليه أن يخفض صوته قليلا، ولكنه لم يحفل رجائي وتوسلي فصرخ مرة أخرى: «ماذا تقول؟ أجب.»
فالتفت إلى التلاميذ كالذي يريد أن يقول: أتسمعون هذا المجنون؟ لست ملوما إذن وأنتم شهودي. ولكني لم أكد أرد وجهي إليه حتى خطر لي كوميض البرق أنه لعله لم يسمع سؤالي فهو يجهل مداه ومبلغ ما ينطوي عليه من الخطر على سمعته ومركزه بين التلاميذ. واستولى علي هذا الخاطر فسرني أن فرصة الإنقاذ لم تضع، فشببت عن الأرض ورأيت يمناي تمتد إلى كتفه لتدنو بأذنه إلى فمي، وإذا بي على الأرض أقيسها إلى آخر الفصل دائرا حول نفسي ومتخذا رأسي محورا، وقعدت أبكي وبي من الغيظ والحقد أكثر مما بي من الألم، ولكن المدرس كان قد لحق بي فكتمت الغيظ ورفعت طبقة البكاء فجأة حتى صار إعوالا، فجعل يصيح بي: «اخرس يا كلب اخرس. أقول لك اخرس.»
ويشفع كل كلمة بلطمة أو لكمة فأزداد إعوالا.
ويظهر أن هذا الصخب نبه «الناظر» - وكانت غرفته قريبة منا - فدخل علينا ورأى المدرس متلبسا بجريمة الضرب - وهي محرمة - وكان الناظر رجلا طيبا ساذجا يخرج الكلام من أنفه أخن أغن ممطوطا لينا، وكان صديقا لأبي - أعني قبل موته - وحديث عهد بالبكوية، وكانت لي عليه دالة بفضل تملقي «بكويته» لا بفضل صداقته لأبي، وكان التلاميذ يعرفون لي هذه الدالة فإذا أرادوا شيئا بعثوا بي إليه. أوفدوني إليه مرة.
فقلت: «يا سعادة البك. نريد أن تأذن سعادتك لنا في الذهاب إلى حديقة الحيوانات.»
فاعتدل في مقعده وهز رأسه وهو يقول: «حونات. حونات إيه يا ابني. أسد فك السلاسل نهش عيل منكم نبقى نقول يا مين؟ يا ابني يا عبد القادر لا.»
فاقتنعت واقتنع التلاميذ بأن الذهاب إلى حديقة الحيوانات خطر ليس بعده خطر. ولا أذكر أني دخلتها إلا بعد أن صرت مدرسا في المدرسة السعيدية الثانوية وعلى مقربة منها، وإلا بعد أن تحققت أن الأسود تحبس في أقفاص ولا تربط بالسلاسل - إن صح أنها كانت تربط - كما كان الحال على عهد ناظرنا طيب القلب ...
وأعود إلى «المضطر» وقصتي معه فأقول بإيجاز: إن المدرس - على الرغم من اعتدائه علي وعلى القانون ممثلا في شخصي المحطم المجرح - زعم أني هممت بصفعه. يا للكذب! وأصر على وجوب طردي من المدرسة. ولم تجد دموعي ولا ما أقسمت من الأيمان على أني لم أرتكب هذه الجريمة التي لم تخطر لي على بال قط، وأنني ما أردت إلا الاستفسار عن مكان «المضطر» لأراه، وشهد التلاميذ الملاعين أني رفعت يدي إلى كتف المعلم، فأيقنت أني ضائع لا محالة، ويئست فكففت عن البكاء، وقلت: «أتلقى هذا الظلم بما يستحقه من الاشمئزاز والاحتقار.» وجرني الناظر معه إلى غرفته وشرع يسألني في هدوء وعطف فسردت عليه القصة على حقيقتها ورأيت فرصتي سانحة فاغتنمتها وأكثرت من «سعادة البك»، وأضفت من عندي كذبة صغيرة فزعمت أن المعلم شتم أبي، وأبي - كما يعلم سعادة البك الناظر - ميت. وفعل التملق والأكذوبة فعلهما الذي توقعت فنهض سعادة البك وقال لي بصوت خفيض: «اسمع يا ابني أطردك من باب تيجي من باب. فاهم؟»
قلت: «نعم يا سعادة البك»، فتركني وخرج وأسر شيئا إلى فراش بينما كنت أتوثب في الغرفة وأطوي يدي ورجلي في الهواء من فرط الفرح، ثم ناداني فخرجت وبعد قليل حضر المدرس أيضا فمضى بنا جميعا إلى الباب الكبير - وكان هناك باب آخر - وقال: «يا عم محمد. افتح البوابة. اخرج من مدرستي. امش من هنا. مبسوط بقى يا عم الشيخ ...؟» هذا للمدرس.
ولا يحتاج القارئ أن أقول له إني درت ودخلت المدرسة من الباب الثاني، وإن المدرس وجدني جالسا على درجي في اليوم التالي، ولكن القارئ قد ينقصه أن يعلم أن المدرس عاد إلى الشكوى فقال له الناظر: «وماذا أعمل إذا كان هؤلاء الأولاد كالعفاريت ربما كان قد هبط إلى فناء المدرسة من فوق سطوح الجيران.»
والآن إلى اللصوص بعد هذا الاستطراد الطويل الذي دعت إليه المناسبة العارضة، مناسبة الذكرى الأليمة.
لم أزل أغرس قدمي في الرمال وأقتلعها - فما يسمى المشي في هذه الصحراء مشيا إلا على المجاز - حتى دنوت من عين الصيرة،
2
فأبصرت أشباحا على ضوء نار، وكان الليل دامسا فلم أستطع أن أكون على يقين من مكان القوم، وخفت إن أنا مضيت في طريقي أن أقع عليهم وأنا لا أعرف أي ناس هم، وكنت أسمع أن هذه الرقعة الجدباء من الأرض مأوى اللصوص وعش الفتاك، فقلت: أميل عن الطريق حتى أبلغ «عين الصيرة» فأنحدر إليها ثم أعود فأصعد على حذر ناشرا أذني في الليل المحيط، مرهفا سمعي كل صوت ونأمة عسى أن أفلت، فإذا تعذر الإفلات عدت فوسعت الدائرة. فما كاد رأسي يبلغ مستوى الطريق المشرف على «العين» إذا بالقوم تحت عيني.
فأسرعت ورددت رأسي وتواريت خلف الصخرة التي كانوا جالسين إليها من الناحية الأخرى. وجلست أفكر وقد شاع في الرعب وكادت عيناي تخرجان. غير أني لم ألبث أن سمعتهم يغنون ويتضاحكون فعاد إلي بعض ما عزب من الطمأنينة، وتشجعت فدنوت من حرف الصخرة وجعلت أبرز من وجهي بقدر وأخفي بقدر، فألفيتهم على بضعة أمتار، نحو عشرة، منهم الضخم الهائل الأنحاء والطويل الهزيل والقصير والبدين، وكان أحدهم يغني والباقون يصخبون حوله ويضحكون ويتندرون عليه ويركبونه بألذع أنواع المجون. ويظهر أن هذا استفزه وأحنقه فانتفض عن الأرض ومضى يلعنهم ويقذفهم بأقبح النعوت، فهموا به جميعا ولكن رجلا ضخما من بينهم حسبته فيلا صغيرا صدهم وأهاب بهم أن «دعوه لي فإنه طعامي الليلة.»
فسرت رعدة خفيفة في بدني ومططت وجهي لعلي أرى ذيله وراءه. وتناول الرجل عصا غليظة تبلغ المترين أو قراب ذلك، وجعل يتوثب في الهواء ويلوح بها في كل ناحية ويهوي بها على الرءوس حتى إذا كاد يطيرها عن أكتافها أو يحطمها حرك يده، فمرت العصا فوقهم تقطع الهواء وتقول «فووو»، والرجل يقول في أثناء ذلك كلاما كهذا: «دعوه لي. إنه طعامي! ألا ترونني؟ انظروا إلي وراعوني إني أنا الذي يسمونه الموت الوحي والخراب العاجل! أمي العاصفة وأبي الزلزال وأختي الكوليرا انظروا إلي وراعوني. إني أفطر بقافلة وبرميل من البلح،
3
وإذا مرضت كان حسبي ملء سلة من الأفاعي. أفتت الصخر بنظرة وأخرس الرعد بصيحة. وسعوا لي وسعوا لي. الدماء شرابي وأنين القتلى موسيقاي. انظروا إلي وراعوني وعلقوا أنفاسكم فإني موشك أن أنطلق.»
فعلقت أنا أنفاسي وقد ملأ الرعب والإعجاب والسرور قلبي، الرعب مما سمعت ورأيت، والإعجاب بقوته وحذقه، والسرور بما أنا موشك أن أراه بين المتنازلين، وحدثت نفسي أني سأشهد منظرا لن أنساه ما حييت، منظرا ينطوي - من دواعي الإعجاب والإجلال - على أعظم وأهول مما ينطوي عليه ركوب ذلك «المضطر» للصعب من الأمور.
ثم نهض الذي كان يغني وكانوا يسخرون منه، وفي يده «نبوته» لا كما ننهض نحن أبناء آدم، بل كما يطير النسر عن الصخرة، وهوى على نبوته قائما على الأرض وهو معتمد عليه ببطنه وناشر يديه ورجليه في الفضاء طلبا للاتزان، ثم وثب بين صيحات الإعجاب وانطلق يضرب في الهواء بنبوته كما صنع زميله، ويقول كلاما كهذا: «احنوا ظهوركم لركوبي ولا تنظروا إلي بعيونكم فتذهلوا، إني أحك جلد رأسي بالبرق، وأنيم نفسي بالرعد، وأروح على وجهي بالعواصف، وإذا ظمئت مصصت السحاب وإذا جعت سار القحط في ركابي. واتقوا أن تنظروا إلي فتبهتوا! إني أحجب الشمس بكفي وأقد من القمر قطعة فينتهي الشهر، وأرتج لتندك الجبال، احنوا الظهور لأبي الخوارق!»
فصارت روحي في فمي. ونهض الأول وذهبا يتوثبان ويضربان الهواء بنبوتيهما ويصرخان كالشيطان ويتسابان بأوجع الكلام حتى غلى الدم في رأسي أنا، وأيقنت أن الدماء ستكون أمامي بركة. ثم طير الأول عمامة الثاني بنبوته، فقلت قد صرنا إلى الجد الرائع فالتقطها الثاني بنبوته أيضا، وضرب عمامة الأول فأطارها عن رأسه فوقعت قريبا مني، فجرى الأول في أثرها وتناولها وقال «لا بأس، دقة بدقة والبادي أظلم، ولكن هذا لن يكون آخر ما بيننا، فخير لك أن تكون على حذر وأن تجنب طريقي فإني لا أصفح ولا أرحم، وسيأتي اليوم الذي تكفر فيه عن ذلك بدمك.»
فقال الثاني - أبو الخوارق - إنه مستعد لذلك اليوم، وإنه ينذر الأول من الآن، فإنه لن يستريح ولن يهدأ له بال إلا إذا خاض برجليه في دمه، وأنه يدعه الآن إكراما لأولاده الصغار. وهم كلاهما أن يذهب في طريق، وكانا لا يزالان يتقاذفان بالوعيد والشتائم، ولكن رجلا قميء الجسم - بالقياس إلى هذين الفيلين - قفز وصاح بهما: «قفا لعنة الله عليكما من جبانين، وإلا أطعمتكما هذه العصا.»
ولم يكذب فقد جذب كلا منهما بذراع قوية أطعمه التراب، ثم أوسعهما ركلا برجليه حتى أشبعهما تمريغا وضربا، ولم تمض دقائق حتى انقلبا كلبين ذليلين عند قدميه. فدوى الفضاء بضحكات الجالسين وتهكماتهم، وعانيت الأمرين من كتمان الضحك.
وبدا لي أن قد آن أن أفكر في الرجوع والهروب من هذه الحيرة، ولكن أحد الذليلين - وأحسبه أبا الخوارق - قام ليغسل وجهه ويديه في العين فرآني، فوقف وصاح «هوا من هذا؟» ووثب الباقون فكانوا حولي في أسرع من لمح البصر، وقبل أن أفكر في جواب. وتصايحوا بي فقال الأول: ماذا تفعل هنا؟ قل وإلا أغرقناك في العين.
وقال الآخر: شدوا رجليه ومزقوه!
وقال ثالث: لص بطربوش! ها ها! تعال نعلمك: هاتوا الفرشاة لندهن له وجهه باللون الأزرق السماوي من فرعه إلى قدمه.
فضحكوا جميعا وقالوا: «فكرة بديعة» غير أن الرجل القميء الذي مرغ الفيلين في التراب صدهم جميعا وقال: إنه ليس إلا طفلا؟ ارفعوا عنه أيديكم! ويمينا لأدفنن من يلمسه.
فوضع أحدهم الجردل وترك الفرشاة تهوي إلى الأرض وتتعفر بترابها، وقال المنقذ: تعال إلى النور لنرى ماذا جاء بك إلى هنا، اقعد! كم لك هنا؟
قلت: «دقيقة واحدة.»
قال: «ما اسمك؟»
ولا أدري لماذا لم أقل اسمي، ولا لماذا أجري لساني بما جرى به، ولكن الذي أدريه أني قلت بلهجة الجاد «أبو الخوارق.»
فانفجر القوم ضاحكين ما عدا سميي الذي استعرت منه هذه الكناية، ويظهر أن هذا راق منقذي. فقال: «هذا حسن، ولم أكن أنتظره من طفل مثلك.» ولكنك يا صاحبي كذبت علي حين قلت: «إنك هنا منذ دقيقة، فقل الحق ولا تخف فلن يصيبك سوء.»
فأخبرته الحقيقة وتعمدت - وقد اطمأنت نفسي لهذا الوعد - أن ما سمعت ورأيت من الفحلين الجبانين اللذين مرغمهما منقذي في التراب؛ لأن أحدهما هو الذي توعدني بالإغراق وثانيهما هو الذي أراد أن يدهنني. وهكذا انتقمت لنفسي وأدخلت السرور على نفس منقذي، فرافقني إلى أول الطريق المأنوس ثم أطلقني فمضيت أعدو إلى البيت!
وكان هذا أول عهدي «برجال الليل».
أبو الهول وتمثال مختار
رأيت تمثال «مختار» كما لم يره غيري. ولست أعني أني دخلت في جوفه، أو صعدت إليه، وركبت أبا هوله، أو نظرت إليه بأربع عيون، ولكنما أعني أني لم أكد أقف أمامه وأهم بأن أرفع إليه عيني حتى أحسست طفيليا إلى جانبي يتأبط ذراعي، كأنما كنت أعرفه قبل أن يولد، ويقول لي: إن صانعه «مختار محمد مختار» ... فصرفت نظري عن التمثال وانصرفت إلى هذا الذي اختار أن يكون صديقي دفعة واحدة وآثرني على غيري من الواقفين بصحبته وراقني الموقف جدا، وقلت له وأنا أفحصه بعيني وأبحث في وجهه عبثا عن مخايل «النشالين»: سبحان الله! أصحيح ما تقول؟!
قال: وهل أنا أكذب عليك؟ سل من شئت من الواقفين.
قلت وقد زاد اغتباطي بالموقف: أستغفر الله! فما أعرفك كذبت قبل اليوم.
وخطر لي أن أستخلص من هذا الموقف كل ما فيه من متعة فقلت: معذرة، ولكن صاحبه عبد الغفار، هل ...
فقال بلهجة من يريد أن يدركني لينقذني: لا لا لا. مختار ... مختار محمد مختار. - معذرة مرة أخرى - مختار - وهل هو صاحبه؟
قال: نعم.
فقلت: ومن أين اشتراه؟
قال: اشتراه! إنه هو الذي نحته.
قلت: وهل كان هنا جبل نحته منه؟
فضحك ملء شدقيه ثم قال: جبل؟ أي جبل؟ ألست من أهل القاهرة؟
قلت: كلا إني من الريف. وهذا أول يوم لي في القاهرة.
فزال عجبه ولم يسرني أن أراه يضحك مني أنا الذي يريد أن يضحك منه، غير أنه لم يسعني أن أتراجع بعد أن ذهبت معه إلى هذا المدى، ورددت الحديث إلى مختار فسألته: وهل مختار هذا من قدماء المصريين؟ أقول هل - معذرة إذا كنت غلطت في اسمه مرة أخرى - ولكن هل هو - أعني صاحب التمثال - من قدماء المصريين؟
فافتر فمه عن ابتسامة عطف على كتلة الجهل المجسد الذي كان يتأبطه واستل ذراعه، فحمدت الله ووقف أمامي يتأملني وقد شك في أمري على ما أظن، وتوقعت أنا أن أنفجر بالضحك المكتوم فيحدث بيننا ما لا تحمد - أو ما لا أحمد أنا على الأقل - عقباه.
فأشرت إلى اسم التمثال المكتوب بالخط الكوفي على القاعدة وسألته: ما هذا؟
قال: ألا تستطيع أن تقرأ؟
قلت: أقرأ! وهل هذه كتابة؟
قال: نعم، وماذا كنت تظنها؟ إنها اسم التمثال، نهضة مصر.
قلت - وتجهمت له - اسمع يا صاحبي. لا يليق بك أن تغشني.
فراح يقسم بالله أن الأمر كما يقول، وينطق الاسم وهو يشير إلى الحروف بإصبعه. فقلت: وهل هذا خط عبد الغفار ... لا لا ... مختار. أليس كذلك؟ إن خطه قبيح جدا. إن أبلد تلميذ في بلدتنا يكتب خيرا من هذا الخط ألف مرة.
وأحسبني حيرته وأدرت له رأسه بهذه الملاحظة فقد تلعثم، وسرني جدا أن أشهد ارتباكه، وأقسمت لأمطرنه وابلا من هذه المدهشات، فلم أمهله ريثما يفكر في جواب، بل رميته بسؤال آخر عن المصرية الواقفة إلى جانب أبي الهول: وهل تعرف هذه السيدة؟
فرفع رأسه بسرعة وقال بلهفة: نعم. لا. إنها من التمثال.
فقلت: شيء جميل والله! وهل هذه أول مرة تقف فيها هذه السيدة هنا؟
فحملق في وجهي ولم يفهم وضاعت النكتة، واحتجت إلى سؤال آخر فقلت: وهل ستظل هذه السيدة واقفة هنا؟
ففتح الله عليه بهذا: يا أخي هذه ليست سيدة. إنها حجر. تمثال. ألا تفهم؟
فقلت: فهمت. فهمت ولكن أتظل هكذا؟ ألا تتعب؟
فقال - ودق كفا بكف: كيف تتعب؟ ألم أقل لك إنها حجر؟
قلت: آه صحيح. وأي حيوان هذا الذي جانبها؟
قال: حيوان؟ هذا أبو الهول ينهض.
قلت: وهل كان راقدا قبل الآن؟
فخيل إلي أنه سيدعني ويجري، ولكني كنت واهما فقد ثبت وكان أشجع وأجلد مما ظننته، وقال بصوت خفيض، وفي تؤدة: اسمع. ألم أقل لك: إن اسم التمثال نهضة مصر؟ أجبني.
قاطعته وأجبته أن نعم.
فقال: فهذا أبو الهول ينهض. يعني أن مصر تنهض. أفهمت الآن؟
قلت: بودي أن أكون فهمت حتى لا أتعبك. ولكن أين مصر هنا؟
قال: أبو الهول يا أخي.
قلت: ومن هذه السيدة الواقفة بجانبه؟
قال: مصر.
قلت: هل هما مصران؟
قال: سبحان الله العظيم! لا يا أخي.
قلت: لا تؤاخذني. ولكنك أفهمتني أن أبا الهول هو مصر وأن السيدة هي مصر، وقد تعلمت أن واحدا وواحدا اثنان.
قال: لا لا. إن هذا ليس حسابا. إن هذه مصر تنهض أبا الهول. قلت: أليس معنى ذلك أن مصر تنهض مصرا؟
قال: لقد بدأت تفهم. هذا هو المعنى.
قلت: ولكني - ولا مؤاخذة - لم أفهم.
قال - وهو مغيظ - كيف لم تفهم؟
وبدا لي أن في حديثنا من الجد أكثر من المقدار الذي يحتمله هو، فعدت إلى التباله وسألته: ولكني لا أرى الهرم هنا فهل نقله مختار؟
قال: نقله كيف؟ أين أنت من الهرم؟
قلت: هكذا قرأت في الكتب أن الهرم إلى جانبه أبو الهول فأين ذهب الهرم؟
ويظهر أن نقل الهرم كان أكثر مما يطيق. فلوح بيده في وجهي، وتمتم شيئا لم أفهمه؛ لأني شغلت بنظارتي التي هوت إلى الأرض وتكسرت عدستها وأولاني ظهره ومضى.
بعد هذا الحديث الذي استطبته والذي شغلني عن التمثال وعن الوقوف به أتدبره كما ينبغي، مضيت إلى أهرام الفراعنة، فلما سرت عند أبي الهول وددت لو أن صاحبنا معي. إذن لسألته من صنع هذا؟ أهو مختار أيضا؟
وتخيلته وهو يهز كتفيه أمامي - تحت أنفي - ويقول: لا يا أخي. الفراعنة.
فأعود أسأله: وهل هم أحياء؟
فيستعيذ بالله من هذا الجهل المطبق ويقول: أحياء كيف؟ لقد ماتوا منذ آلاف من السنين.
فأبدي له العجب من أن يكونوا أمواتا كل هذه الآلاف من السنين أسأله: وبأي شيء ماتوا؟
فيقول: لا أدري. لا يدري أحد.
فأكر عليه بقولي: أتظن أنهم ماتوا بالطاعون؟
فيقول: لا أدري. ربما. من يدري؟
فألح عليه وأقول: أترجح أنهم ماتوا بالكوليرا؟
فيقول بلهجة السأمان: ربما، ربما، قلت لك لا أدري.
فلا أدعه ولا أرحمه وأقول: أو لعلهم ماتوا حسرة؟
فيقول، وقد انتفخت مساحره من فرط الضجر: ربما، قلت لك ألف مرة لا أدري، ماتوا والسلام.
فأزداد عليه شدة وأسأله: وأبناء الفراعنة ألا يزالون أحياء؟
فينقذني بلفظة «مستحيل» ويعض حروفها بأسنانه، فلا يردعني هذا وأسأله عن أبي الهول وأين القاعدة وأين أبو الهول؟
فيعود إلى كفيه يدق إحداهما بالأخرى، وبعد أن يقضي مأربه ويرفه عن نفسه يبينهما لي فأقول: «ما أوقره، وأشد سكونه! وهل هو ... هل هو ميت؟»
فيهيج برهة ثم يبين لي أنه حجر، أو لا يستطيع معي صبرا فيلوح بذراعه ويمضي عني. •••
كلا، تمثال مختار - «محمود» مختار - على براعته لا شيء حين يقيسه المرء إلى أبي الهول الفرعوني، فإنه على هذا الوجه من الكآبة والجد والتشوف والصبر والجلال والنبل، ما ليس له شبه في وجه الإنسان، وهو حجر ولكنه فيما يبدو للعين يفكر، ينظر إلى الدنيا حوله ولكن نظرته تتخطاها إلى الفراغ الذي يلفها في طياته، وتتطلع إليه فيخيل إليك أنه يرد عينه إلى الماضي متجاوزا محيط الزمن وأمواج أجياله وقرونه، أو متراجعا بها ومطبقا بعضها على بعض، حتى تعود وقد امتزجت وآضت مدا واحدا عند أفق القدم، نعم يفكر أبو الهول هذا في الحروب التي دارت أرحاؤها في الأزمنة الغابرة، وفي الدول التي شهد قيامها وسقوطها، وفي الأجيال التي رأى مولدها وراقب نهضتها ولاحظ فناءها، وفي المسرات والأحزان والحياة والموت والرفعة والذلة التي دارت بها أربعة آلاف من السنين البطاء.
ودع ما أرادوا أن يرمزوا له به، إن كانوا قد قصدوا إلى شيء من ذلك، فما أراه أنا إلا تجسيدا لتلك الملكة الإنسانية التي يسمونها «الذاكرة» في صورة بارزة محسوسة، وما من أحد عرف أي شعور تحركه في النفس ذكرى الأيام السوالف، وماذا ترسم على الوجه، إلا وهو يستطيع أن يقرأ ذلك كله في هاتين العينين اللتين يديرهما أبو الهول فيما عرفه وشهده قبل أن يولد التاريخ.
وهو لا يقيس الزمن بالسنين، فإنها هنيهات، ولا بالأجيال فإنها لحظات، وإنما يقيسه بالدول التي قامت ثم تقوضت تحت عينه التي لا تتعب ولا تشبع من النظر، ذلك أن فيه معنى من معاني الخلود، فقد رأى منف وطيبة وشاهد مجدهما، وعاش ليبصر الخراب يعفي عليهما ويوكل بهما البوم والوطاويط، ورأى أبناء إسرائيل يقومون ثم يسحقون، والأغارقة ينهضون ثم يموتون، ورومية تشاد ويرتمي ظلها على الأرض ثم تفنى، والعرب يستفيضون في الدنيا أسرع من العاصفة ثم يذهبون في سبيل من غبر.
وكما أخذت عينه عظام مئات من الدولات كذلك ستأخذ قبور مئات أخرى قبل أن يفتر لحظها وتطبق الجفون.
والمرء ينظر إلى أبي الهول الساهد ويفكر في آلاف السنين التي قضاها هنا على حافة الصحراء، فلا يستغرب ولا يخالجه شيء من الشعور بالتنافي بين هذه الدهور الطويلة وبين مقامه هذا، وذلك أن ربضته تشيع في النفس معنى الاستقرار التام. وقد أحسن القدماء بإيثار الربوض له، فإنه جلسة مريحة تقترن في الذهن بمعنى الاستمرار، وليس كذلك «النهوض» كما هو مصور في تمثال مختار، والمرء خليق حين يعود إليه مرة بعد أخرى أن يحس أن لهذا الوضع ما بعده، إما أن يثب إلى الأرض، وإما أن يعود إلى الجثوم والراحة والسهوم مرة أخرى، أما البقاء هكذا يوما بعد يوم. وشهرا في إثر شهر، وعاما في عقب عام، فليس من السهل على العقل أن يأنس إليه ويقتنع به، وقد تكون هذه مزية للتمثال، وعسى أن يكون المقصود بها أنها نبوءة أو أمل أو نحو ذلك. ولست أعيب أو أنقد، فما أعني أكثر من أني حين أنظر إلى التمثال لا أحس أني قد رأيت كل شيء، وقد أتوهم أنه سيثب عن القاعدة إلى الأرض.
وهذا الذي عليه أبو الهول الجديد إقعاء لا نهوض، فإن الحيوان - من البعير إلى الهرة - حين يريد أن ينهض، يقوم على رجليه الخلفيتين أولا ثم الأماميتين، أما القيام على رجليه الأماميتين فحسب، فهذا هو الإقعاء، وهو جلسة للحيوان يتخذها أحيانا، وأكثر ما يراه الإنسان في الكلاب، حين تقعد ناشرة آذانها راصدة عيونها، وأحسب أن مختارا إنما آثر هذا الوضع؛ لأن منظر أبي الهول يكون غريبا ثقيلا إذا أنهضته على رجليه الخلفيتين، كما ينبغي أن يفعل إذا كان يقصد إلى النهوض، ولعل عذر مختار أن أبا الهول هذا خليط من الإنس والحيوان فله أن ينهض كيف يشاء حتى على رأسه.
وهذه الفتاة المنصوبة إلى جانب أبي الهول لا أفهم معناها ولا أدري لماذا يقيمها المثال هناك ويضنيها بهذه الوقفة المتعبة؟ ولو كنت أنا مختارا لاستغنيت عنها جملة ولاجتزأت بأبي الهول وحده؛ لأنه إذا كان المراد الرمز إلى أن مصر تنهض، فإن أبا الهول بمفرده حسب من شاء أن يرمز إلى ذاك. ولن يركب الجهل أحدا فيتوهم أن المراد به رومية أو قرطاجنة، ففي نهوضه وحده ما يكفي رمزا لنهوض البلاد التي اقترن اسمه بتاريخها. زد على ذلك أن قيام الفتاة إلى جانبه تخليط؛ وذلك أنها - على ما فهمت - رمز لمصر الحديثة. وعلى هذا يكون أبو الهول عنوانا على مصر القديمة، وكان المعنى - على هذا - أن مصر الحديثة توقظ مصر القديمة، أو أن مصر القديمة تنهض إلى جانب الحديثة وفي كنفها، وكلا المعنيين مستحيل يرفضه العقل ولا يسيغ معناه، وأصح من ذلك أن هناك - أو هنا على الأصح - مصرا واحدة تاريخها سلسلة متصلة الحلقات، وأنها كانت نائمة أو متفترة أو ما شئت غير ذلك، ثم هي الآن تستيقظ أو تنفض عنها غبار القرون وتهم بالنهوض، وهو معنى لا يحتاج إلى هذه الفتاة التي تفسده ولا تؤيده.
ولست أستريح إلى وقفة الفتاة فإنها كالعصا، ويمناها التي على رأس أبي الهول غريبة في وضعها؛ فإنها لا يسندها في الحقيقة إذا تأملتها إلا أصابعها ، أما ذراعها فكالمعلق في الهواء إن كانت الشملة - أو لا أدري ماذا هي - تحجب هذا التعليق عن عين الناظر، وهي لا تفعل بيمناها هذه أكثر من هذا الاستناد بأطراف الأصابع دون باطن الراح، ولا أدري لماذا جعلها كذلك ولم يدعها تريح ذراعها؟ ثم ما معنى هذا الوضع؟ وما الذي قصد به إليه؟ أتراه أراد الإيقاظ؟ فهذه ليست حركة إيقاظ، وليس في وجه الفتاة أدنى التفات إلى الذي بجانبها إن صح أنها تريد أن توقظه. أم ترى المراد أن مصر الجديدة تحسر عن وجهها وتبرز للعالم معتمدة على مصر القديمة، فإن كان هذا هو المقصود وأحرى به أن يكون؛ فإن رمز النهوض واليقظة هو الفتاة لا أبو الهول، ولا داعي إذن لإقامة أبي الهول على رجليه ما دام أن الناهضة سواه، وأنه ليس إلا تكأة ووسيلة للرمز إلى الاتصال بالماضي، وحينئذ يكون المعنى أتم وأقوم بأن يظل أبو الهول هذا رابضا على العهد به والفتاة حاسرة على جانبه.
والخلاصة أن التمثال كان حقيقا أن يكون أوفى بالغرض فيما أرى لو أن أبا الهول ظل رابضا إلى جانب الفتاة المعتمدة عليه؛ إشارة إلى اتكاء مصر الحديثة على ماضيها واعتزازها به واستيحائها إياه، أو لو أن التمثال خلا من الفتاة. والأولى عندي أفضل؛ اجتنابا للإقعاء، وتفاديا من الوقوع في هذا الغلط. أما التمثال في شكله الحالي فلا أكتم القراء أني أحس كأني أحمله وقاعدته على ظهري. ولا يسوء مختارا قولي هذا فإنه يعلم أني من أجهل الناس بالفنون، وأن ليس لي من الوسائل المعينة على حسن التقدير سوى رأس واحد وعينين اثنتين ليس إلا.
الحب الأول
كنت صغيرا لم أدخل - بعد - في حدود الشباب، وكان الوقت صيفا، وأكثر ما أقضي النهار أمام البيت ألاعب الصبية من لداتي، فمرة نكون قطارا بخاريا مؤلفا من بضع عشرة قاطرة - ليس بينها مركبة واحدة - ننفخ جميعا ونقول: «أومف أومف بفو بفو» وأخرى نكون خيلا تصهل وتتوثب وتضرب الأرض بحوافرها وتزعج المارة وتصطدم بهم، وطورا نتقاذف بالكرة ونحطم بها زجاج النوافذ فيثور السكان ويجلوننا عن الحارة، وتارة نقسم أنفسنا فريقين: عصابة من اللصوص وضباطا، وأحيانا نعصب لواحد منا عينيه ونتوارى عنه وينطلق هو وراءنا باحثا، فمن لقي منا عصبنا له عينيه بدلا منه، وهكذا إلى آخر هذه الألعاب الصبيانية إن كان لها آخر يعرف أو حد تقف عنده ولا تعدوه.
وكنت أنا - بفضل الله - أحمقهم جميعا وأشرسهم خلقا وأسرعهم إلى الشجار، وكنت إذا ضاربني أحد لا أبالي أين وقعت يدي، ولا أتقي أن أصيب عينه أو أنفه أو أسنانه، وقد أتناول الحفنة من التراب وأعفر به وجهه وأرده كالأعمى، ثم أنهال عليه لطما ولكما وركلا. فقد كنت واسع الحيلة كما ترى، فعوضني ذلك من ضعفي، وصارت لي بفضله منزلة بين هؤلاء الصبيان. وكانت لي جارة - فتاة صغيرة كالنرجسة في مثل سني - وكنت أكثر ما أراها مطلة من النافذة علينا أو واقفة إلى بابها تنظر إلينا ولا تشترك معنا، ولا أستطيع أن أصفها، فقد بهتت صورتها بعد كل هذه السنين الطويلة، وإن كنت لا أزال أرى لها نوطة في القلب وعلوقا بالفؤاد كلما كرت بي الذاكرة إلى تلك الأيام، وكانت لا تفتأ تنكر مني طيشي ومغامراتي. رأتني مرة مقبلا على البيت بعد الغروب بقليل، وعلى جلبابي الأبيض طوائف شتى من الأوحال فاستوقفتني وسألتني: «ما هذا؟ ماذا أصابك؟»
قلت: اعترضتني حفرة واسعة فأردت أن أعبرها وثبا فقصر الوثب عن الغاية، فكان ما ترين.
قالت: لو فكرت قبل أن تثب لعلمت أنك لا تستطيع أن تعبر الحفرة.
قلت: ولكني عبرتها.
قالت: كلا! لم تعبرها بل وقعت فيها، وهذه ثيابك تشهد عليك.
قلت: ولكني اجتزتها والسلام. ألا ترينني أمامك؟
قالت: عنيد ولا خير في الكلام معك.
وتركتني.
واتفق بعد شهور من ذلك أن لقيتها عائدة إلى بيتها وكنا على مسافة مائتي متر منه، فلما صرنا في «الحارة» إذا هي زحلوقة لا تثبت فيها القدم من كثرة الماء المرشوش، ولم يكن ثم طريق آخر، فأسندت يدها على الحائط وناولتني يدها الأخرى، وقلما كنت ألمس يدها. فلما صارت كفها في كفي شعرت بشيء من الزهو ممزوج بالغبطة، وخفت على يدها اللينة البضة أن تؤذيها قبضتي - التي خيل إلي أنها قوية - فجعلت أصابعي حول رسغها حيث العظام فيما بدا لي أقوى على الاحتمال، وجعلت أخطو بحذر مخافة أن يطير إلى ثوبها النظيف رشاش من الماء القذر، وكانت مضطرة أن تعتمد علي بجسمها، وتلك أول مرة دنت مني أو دنوت منها إلى هذا الحد، وكان شعرها محلولا ومرسلا من فوق كتفها على صدرها، فجعلت أدني أنفي منه وأشمه، ولم يكن معطرا ولكني كنت أجد له ريحا طيبة، فلحظت ذلك مني وسألتني وقد جذبت يدها قليلا: «ما هذا الذي تفعله؟»
قلت: إني أشمك.
قالت: تشمني! إنك أوقح من رأيت من غلمان حارتنا.
قلت: لست أقصد أن أكون وقحا، ولكن لشعرك رائحة طيبة فهل من بأس أن أشمه؟
قالت: كلا، لا تفعل.
قلت: لقد فعلت وانتهى الأمر.
وبعد قليل قلت: «هل تعلمين أن على وجهك وشعرك سبعة، ثمانية نجوم؟»
فابتسمت ولم ترد، فقلت ومددت إصبعي وأشرت به: «حقيقة. نجمان على شعرك، هنا وهنا، ونجم على جبينك هنا - ثلاثة - ونجم في كل عين - خمسة - ونجم على طرف أنفك - ستة - واثنان على فمك هنا وهنا - ثمانية نجوم - ليت معك مرآة! إذن لأريتك!»
فضحكت، وكنا قد صرنا على الأرض الناشفة فعدنا إلى وسط الطريق وسرنا، ولكن يدها بقيت في يدي، حتى بلغنا بيتها فشكرتني ودخلت.
ومنذ ذلك اليوم صار لهذه الفتاة تأثير في نفسي، لا أعرف له مشبها، ولم يخطر لي قط أنه راجع إلى أية عاطفة خارجة عن حياتي العادية، فكنت كلما رأيتها أشعر بشيء من الدهشة ويعاودني الحنين إلى شمها، أعني شم شعرها.
ولقد عرفت بعد ذلك فتيات كثيرات أجمل منها أو أفتن، ولكن أخطأت فيهن جميعا ذلك العبق الذي كانت تستريح إليه حواسي، والذي كان يفتر له جسمي، كانت تغيب عني أسبوعا وأسبوعين فأنساها، وإن كنت أحيانا أرى صورتها ماثلة في ذهني وفي أحلامي، وصرت أحب أن أراها وهي لا تراني؛ لأرنو إليها مطمئنا وأرى شفتيها الدقيقتين تفتران عن ابتسامة خفيفة، وأشتاق أن أساعدها وأحميها كما ساعدتها يوم تخطيت بها تلك الأرض المبللة، وأن أسمعها تشكرني كما شكرتني يومئذ.
وقلت على الأيام ملاعبتي للصبيان، وكثرت وقفاتي معها على بابها، ثم غابت أسابيع في قرية فيها بعض أقاربها، فشعرت بوحشة لا عهد لي بمثلها، وثقلت الحياة على كاهل صبري، فذهبت أنا أيضا إلى أقاربي وقضيت عندهم شهرا كان من أطيب ما مر بي وأحلى وأندى. ثم عدت ولقيتها مساء يوم على باب دارها كعادتها، وكانت مطرقة وفي يمناها عود من ثمر الحناء تقطع بيسراها أكمامه التي لم تنور، وتفركها بأصابعها وتدعها تسقط على الأرض، فدنوت منها وهي لا تحسني ووقفت برهة، ثم قلت بصوت خفيض مرتعش: «فيم تفكرين؟»
فلم ترفع عينها ولم تولني نظرة واحدة، وقالت وهي مطرقة وأصابعها لا تزال تعبث بما في يدها: «فيم أفكر؟ في مثل هذا، في النور الأصفر تحت أكمامه الخضر، في سحائب التراب على الطريق، في الأغيصان الصغيرة الخضراء النابتة على فروع الشجر، في الأطيار تلقط القش وخيوط الصوف التي ألقيها لها لتحملها بمناقيرها وتصنع منها أعشاشها، في ألوان الفجر على الأشجار والحقول الندية الملتمعة، في الأمساء الصافية الحالية بالنجوم المرتعشة في الغدران يترقرق فيها الماء حول قدمي المدلاتين.» ثم رفعت وجهها إلي وقالت: «في هذا أفكر.»
وكانت تتكلم بصوت متئد متزن النبرات كأنما تحدث نفسها فدهشت، لا بل بهت، ووقفت صامتا كأنما أستل لساني من حلقي، وظللنا كذلك لا أدري كم، ثم قالت: «والآن سأدخل.»
ولكنها كانت بالذي يهم بالدخول أشبه، فوجد لساني الكلام وقلت: «لا تذهبي هكذا بغير تحية أو سلام.»
فوقفت مكانها وأمالت ووضعت يدها في خصرها كأن هنا شيئا يؤلمها فدنوت منها فإذا بلمعة عينيها تنطفئ ووميضها يخبو، فقلت: «ماذا كنت تقولين؟»
فلم تجبني ومدت يدها إلي بثمر الحناء فقلت: «هذا حسن. تحية طيبة. سأذكرك بها دائما. والآن ماذا كنت تقولين؟ أثم شيء يحزنك؟»
قالت: «أي شيء يحزنني؟ لا شيء.»
قلت: «إني أرى هذا في عينيك، في وميضهما ثم انطفأ هذا اللمعان.»
قالت وعلى ثغرها الدقيق طيف ابتسامة: «ماذا ترى في عيني؟»
قلت، وكأني ألهمت الألفاظ: «أرى كأنك كنت تنتظرين شيئا ثم لم يحدث.»
فقالت: «فقط؟ لا أكثر؟»
قلت: «فقط. وأريد أن أعرف ما هو؟ ولماذا؟»
فأطلقت ضحكة صغيرة فضية النبرات، وبدا عليها شيء من السرور وفتحت ذراعيها وقالت: «كلا، لعل قلبي أطل من عيني هنيهة كما يطل الطفل من النافذة ثم عاد إلى مكانه ...»
فابتسمت وقد زدت بها إعجابا وقلت: «وماذا أراد قلبك أن يرى من نافذة عينيك؟»
قالت: «ألا تطل أحيانا من النافذة فتبصر طفلا يعدو وهو مسرور؟»
قلت: «نعم.»
قالت: «كذلك القلب أحيانا يجري أمام العين فرحا مسرورا، أظن قلبي فعل ذلك حين رأيت عيني تلمعان.»
ثم بعد ثانية أو اثنتين: «والآن دعني أدخل، إن معك هذه الزهرة فاحفظها.»
ومضت عني وتركتني واقفا كالأبله لا أكاد أفقه من كل ما قالت شيئا وإن كنت قد وعيته كما لم أع في حياتي شيئا غيره.
ومر عام وكنا قد انتقلنا إلى بيت آخر، فمررت بدارها يوما بعد الغروب، كان الباب مواربا فرأيتها تسقي أصص الزهر في فناء البيت، فوقفت أتأملها لحظة وهي تقبل الورد والأزاهير بعد سقيها ورشها، ثم دخلت في رفق وهمست باسمها فلم تسمع، فأعدت الهمس فانتبهت كالمذعورة، وقالت: «إبراهيم؟» وكررت ذلك.
فاقتربت منها وقلت: «نعم هل أفزعتك؟»
ووقفت. شفتاها مفترقتان، ووجهها تصبغه الحمرة من أثر المفاجأة. ولم أكن أعرف ماذا ساقني إليها سوى أني اشتقت أن أراها وأن أقف معها لحظة أحادثها، وقالت: «لقد كان يجب أن أفزع، فما سمعتك تدخل، لكن من الغريب أنك خطرت ببالي وأنا أسقي هذه الأصص.»
فكدت أصيح لا أدري لماذا، وقلت: «أصحيح هذا؟ إنه يسرني.»
فقالت: «لم أكن أفكر فيك تفكيرا يسرك (وضحكت) لقد كنت ساخطة عليك.»
فضحكت مثلها وقلت: «ماذا جنى هذا الشقي يا ترى؟»
فقالت: «لست ساخطة لأنك فعلت شيئا، لقد كنا عندكم أنا ووالدتي وأختي وقضينا النهار كله تقريبا، وأنت لا أثر لك في البيت، ولا يدري أحد أين ذهبت، وفي وسعك أن تتصور مللي بين السيدات العجائز.»
فضحكت مرة أخرى وقلت: «إني أفضل أن ألقاك هنا ويسرني أن أجدك وحدك.»
قالت: «وهل كنت واثقا أنك ستلقاني هنا؟»
قلت: «كلا.»
قالت: «إذن لماذا جئت الآن؟»
قلت: «لا أعلم، اشتقت أن أراك لا أدري لماذا، فجئت.»
ولم أكن أكذب، فما كنت أستطيع أن أعلل الشعور الذي يدفعني إليها، ولا جرى ببالي أن أعلله ولكني بهذا التصريح وبالسكون الذي تلاه، شعرت أني دنوت خطوة من الحقيقة المجهولة، أو هكذا يخيل إلي الآن، وانعقد لساني فسكت وأعديتها فسكتت مثلي، وأحسسنا كلانا - فيما نظن - كأن هناك شيئا جديدا يخفق به الجو، شيئا لا يناله إدراك ولا يرقى إليه العقل، غير محسوس كالطيب يحمله النسيم.
ومر بخديها طيف من الحمرة ما جاء حتى ذهب ففتحت عليها عيني وأتأرتها النظر، فتراجعت خطوة وهي تقول: «ينبغي أن أدخل.» فوقفت أرمقها وهي تدور لتمضي عني، ثم كأنما انشق عني سور فاندفعت إليها ووقفت إلى جانبها، وجعلت أدير لساني في حلقي بلا كلام وقلبي يخفق وتناولت يدها وذهبت بها إلى الباب حيث ظللنا برهة صامتين، ثم صاحت: «يدي. يدي ستحطمها.»
فانتبهت وأطلقت كفها وأسفت، فقالت بصوت عذب: «دعني أدخل بالله.»
فتناولت يدها مرة أخرى وعدت أطلب أن تغفر لي إيذائي يدها، وقلت: إني لا أستطيع أن أعود إذا لم تقل لي إنها ليست حانقة علي. وكنت أحس أصابعها تتحرك في كفي فقالت: «كيف أحنق؟ لقد نسيت. دعني أدخل.»
قلت: «وأعود مرة أخرى لأراك؟»
قالت: «نعم.»
قلت: «ولا تعجلين بالدخول؟»
قالت: «كلا، دعني الآن.»
ولكني لم أعد لا اليوم التالي ولا الأسبوع التالي ولا الشهر التالي لسبب طبيعي جدا هو أني لم أكد أسير إلى آخر الطريق حتى برز لي شاب من الظلام وصاح بي: «ماذا كنت تفعل هناك؟»
قلت: «أين؟»
قال: «هناك»، وأومأ برأسه وبإبهامه إلى بيتها.
قلت: «كنت أزورهم.»
قال: «تزورهم؟ هيه؟ تزورهم سأعلمك أن تزورهم مرة أخرى.»
ودفعني في صدري فانطرحت على الأرض، وقمت ألعنه وأسبه، وأقبل علي ودق رأسي بجميع يده فهويت إلى الأرض على ركبتي، وركلني برجله، وذهب وهو يتوعدني إذا فكرت في العودة إلى هذا الطريق.
ولم أكن أعرف هذا الوحش ولا وقعت عيني عليه من قبل، ولم أفهم - إلى هذه الساعة - سر هذا العدوان. فرجعت إلى البيت بصدر موجع ورأس يكاد يكون مهشما وعظام مرضوضة.
ولزمت الفراش أياما وخفت بعدها أن أرجع، ثم صرت أستحي أن ألقاها مخافة أن تسألني عن سر غيبتي، أو أن تكون قد علمت به.
وبعد شهور عدت من المدرسة يوما فإذا هي ووالدتها في بيتنا ففرحت وخجلت، ولما سلمت كانت يدي ترتجف، وعيني إلى الأرض، وذهبت إلى غرفتي فأدركتني في الصالة وقالت: «خذ»، وناولتني عودا من ثمر الحناء فأخذته في صمت وأدنيته من أنفي، ووقفت أشمه وأشمه وقد غاض معين الكلام وانقطع عني مدده. فلما رأت صمتي وارتباكي قالت: «سنذهب إلى الريف.»
فأنطقتني هذه المباغتة وقلت: ستذهبين؟ وكم تظلين هناك؟
قالت: «عاما. أتستكثر ذلك؟»
قلت: «بالطبع، إني آسف جدا.»
قالت: «ولكنك لا تزال تهرب مني.»
فأغضيت عن هذه الملاحظة، وسألتها: «وماذا تنوين أن تصنعي هناك هذا العام؟»
قالت: «يا له من سؤال! وكيف يعنيك أن تعرف؟»
وضحكت فجلت ضحكتها صدري ونفت مخاوفي ونظرت إليها معجبا، وأحسست بالدم يتدفق في عروقي، وبأنفاسي تسرع، وحمل إلي النسيم الواني طيب شعرها فمددت يدي إلى كفها، وكانت شفتاها مفترقتين وعيناها في عيني، وصدرها يكاد يلمسني، فألفيت نفسي أنحني عليها وألمس شفتيها بفمي، فصار وجهها كالجمرة، ولكنها لم تتحرك ولا تكلمت، ودار رأسي كالمخمور فتقهقرت خطوة، وهي واقفة كالتمثال، وما أظنها كانت تتنفس أو تفكر، فما رأيت صدرها يتحرك أو أجفانها تختلج: كلا لا شيء إلا هذا الجمر في خديها ينبئ أنها حية.
وأفاقت ثم أصعدت زفرة كأنما كنت لطمتها ولم أقبلها، ثم هتفت بي، فأسرعت وأخذت يديها في كفي، ثم رفعتهما وقبلتهما وقلت لها: «أغاضبة أنت؟ قولي إنك لست غاضبة.»
فأجابتني بهزة خفيفة لرأسها، فقلت: «لست غاضبة. أعلم ذلك، وإلا فما قبلتك، تكلمي.»
فقالت همسا: «دعني أذهب إني خائفة.»
فقلت: «إنك جميلة. جميلة»، وانهلت على يديها مرة أخرى ألثمهما ظهرا وبطنا ثم سحبت يديها ببطء، ووضعتهما على صدرها وقالت وهي تتلعثم وترتجف: «قل لي ما هذا؟»
قلت، ووضعت يدي على يديها فوق صدرها: «هذا! ألا تعلمين؟ إنه الحب؟»
فتنهدت، وأرخت يديها وتركتهما تهويان وقالت: «سأذكرك دائما.»
قلت: «كلا هذا لا يكفي. سيحبك غيري.»
ولم تكد شفتاها تفترقان، وهمست كأنما تتنفس: «سأحبك دائما.»
وكان هذا آخر لقاء، فقد زوجوها في الريف.
حلاق القرية
وقعت لي هذه الحادثة في الريف منذ سنوات عديدة، قبل أن تتغلغل المدنية إلى أنأى قراه، وكنت أنا الجاني على نفسي فيها، فقد عرض علي مضيفي أن أستعمل موساه فأبيت، وقلت: ما دام للقرية حلاق فعلي به، فحذرني مضيفي وأنذرني ووعظني، ولكنني ركبت رأسي وأصررت أن يجيء الحلاق. فجاء بعد ساعات يحمل ما ظننته في أول الأمر «مخلاة شعير» وسلم وقعد وشرع يحييني ويحادثني حتى شككت في أمره واعتقدت أن الحلاق شخص آخر، وأن هذا الجالس أمامي ليس سوى «طلائعه»، ولما عيل صبري سألته عن حلاق القرية، فابتسم ومشط لحيته بكفه وأنبأني أن الحلاق محسوبي (يعني نفسه)، فلعنته في سري وسألته متى ينوي أن يحلق لي لحيتي؟ أم لا بد أن يضرب بالرمل والحصى أولا ويصحب الطالع قبل أن يباشر العمل؟ فلم يفهم وأولاني صدغا كث الشعر وقال: «هيا» فظننته أصم وصحت به: «أ ... ر ... يد أن ... أ ... ح ... ل ق»، فسره صياحي جدا، وضحك كثيرا، وأقبل على «مخلاته» فأخرج منها مقصا كبيرا جدا، فدنوت من أذنه وسألته: هل في القرية فيل؟
فقال: فيل؟ لماذا؟
فأشرت إلى المقص. فضحك. وقال: «هذا مقص حمير ولا مؤاخذة.» فقلت: «ولماذا تجيئني بمقص الحمير؟ أحمارا تراني؟»
ويظهر أن معاشرة الحمير بلدت إحساسه فإنه لم يعتذر لي ولا عبئ بسؤالي شيئا، ثم أخرج موسى من طراز المقص و«مكنة» من هذا القبيل أيضا، فعجبت له لماذا يجيء إلي بكل أدوات الحمير؟ وسألته عن ذلك فقال: إن الله مع الصابرين. وبعد أن أفرغ مخلاته كلها انتقى أصغر الأدوات، وأصغرها أكبر ما رأيت في حياتي. ثم أقبل علي وقال: «تفضل.»
قلت: «ماذا تعني؟» قال: «اجلس على الأرض.» قلت: «ولماذا بالله؟» قال: «ألا تريد أن تحلق؟» قلت: «ألا يمكن أن أحلق وأنا قاعد على الكرسي؟» قال: «وأنا؟» قلت في سري: وأنت تذهب إلى جهنم ونعم المصير، وهبطت إلى الأرض كما أمر، ففتح موسى كالمبرد، فقلت: «إن وجهي ليس حديدا يا هذا»، قال: «لا تخف إن شاء الله»، ولكني خفت بإذن الله ولا سيما حين شرع يقول: «باسم الله، الله أكبر»، كأنما كنت خروفا، ويبصق في كفه ويشحذ الموسى على بطن راحته، ثم جذب رأسي، فذعرت ونفرت ووليت هاربا إلى أقصى الغرفة، فقال: «ماذا؟»
قلت: «ماذا؟ أتريد أن تحلق لي بمبرد، ومن غير صابون؟»
قال: «ماذا يخيفك؟»
قلت: «يخيفني؟ لقد دعوتك لتحلق لي لحيتي لا لتبرد لي شعرها.»
قال: «يا فندي لا تخف.»
ثم قرأ من الكتاب الكريم
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى
إلى آخر الآية الشريفة، وأظنه أراد أن يرقيني بها، فيا لها من حلاقة لا تكون إلا برقية!
وأسلمت أمري لله وعدت فقعدت أمامه، فنهض على ركبتيه وتناول رأسي بين كفيه وأمال صدغي إليه، ثم وضع ركبته على فخذي ولف ذراعه حول عنقي، فصار فمي مدفونا في صدره فصحت أو على الأصح جاهدت أريد الصياح لعل أحدا يسمعني فينجدني، غير أن طيات ثوبه كانت في فمي، أما رائحة الثوب فبحسب القارئ أن يعلم أنها أفقدتني الوعي.
ولا أطيل على القارئ. فقد أهوى الرجل بموساه على وجهي فسلخ قطعة من جلدي فردني الألم إلى الحياة، وأتاني القوة الكافية للصراخ على الرغم من الكمامة، ووثبت أريد الباب، ولكنه كان على كبر سنه أسرع مني، وما يدريني لعله كان يتوقع ذلك، وعسى أن يكون المران قد علمه أن يكون يقظا لأمثال هذه المحاورات، فردني بقوة ساعده. فتشهدت وتذكرت قول المتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تموت جبانا
كلا سأسدل الستار على هذا المنظر الذي يقشعر منه جلدي على الرغم من كر السنين الطويلة. ثم جاء هذا السفاح بطشت يغرق فيه كبش، ووضعه تحت ذقني وصب ماءه على وجهي وفي صدري وعلى ظهري، ليغسل الدم الزكي الذي أراقه، وأخرج من مخلاته «منشفة» هي بممسحة الأرض أشبه، فاعتذرت وأخرجت منديلي وسبقته به إلى وجهي. فهي معركة لا تزال بجلدي منها ندوب وآثار.
سحر مجرب
لا أدري كيف أسوق للقارئ حكاية هذه التجربة بحيث لا يتوهم أني أهزل، ولكن الذي أدريه أنه قل بين الصبيان من اتفق له ما اتفق لي من التجارب، ولو أنه قدر لي أن أكتب تاريخ حداثتي ... ولكني هزيل الصبر، ولعل مما هو حقيق أن يعين القارئ على فهم البواعث التي تغري حدثا في مثل سني يومئذ بما فعلت، أن أقول له: إني نشأت نشأة دينية، وأعني بذلك أن أهلي من أهل الورع والتقوى والصلاح، وأن بيتنا كان في فنائه مصلى أو مسجد صغير عامر أبدا بالمصلين ليلا ونهارا. والآن إلى القصة بعد هذا التمهيد الوجيز الذي لم أر منه بدا اتقاء لسوء التأويل ونفيا لمظنة المغالاة.
عثرت في باكورة حياتي على أوراق مخطوطة استولت على هواي واستبدت بخاطري، وقد اعتقدت يومئذ أنها بخط جدي لأبي وإن كنت لا أذكره إلا كالحلم، فقد مات في طفولتي ولحق به أبي، ولم أره قط يكتب ولا ثبت عندي أن هذا خطه، وكنت أكبر جدي وأجل ذكراه لغير سبب سوى ما كان تلاميذه يحدثونني به عن علمه وتبحره وتقواه، فقوى اعتقادي هذا ثقتي بما في الأوراق وثبت يقيني فيها، وكان من عادتي أن أقضي الصيف في الإمام حيث تقيم طائفة كبيرة من أهلي، وكان لأحدهم حمار مليح القسمات لين الخطوات، فكنت أركبه حين أشاء إلى حيث أشاء، وأبى الحظ إلا أن أعشق، وما أكثر من عشقت في تلك السنوات الأولى من شبابي . ولقد صدق أخي «العقاد» حين قال يصفني بعد ذلك بأعوام عدة:
أنت في مصر دائم التمهيد
بين حب عفا وحب جديد
بين ماض لم يذبل الحسن منه
وطريق كاليانع الأملود
أنت كالطير ربما شالت الطي
ر عن الأيك وهو جم الورود
ولم يكن الحظ يلقيني إلا على كل فتاة «عسيرة البذل» كما يقول الشاعر - ولا أذكر من هو - فحرت ماذا أصنع، ولم أر أن أستشير أحدا من الصبيان الذين كنت أختلط بهم؛ لأني كنت أراهم دوني معرفة، ثم تذكرت الورقات التي كنت أعتقد أنها مما خلف جدي، فوجدت فيها «فائدتين» طرت بهما فرحا، فأما الأولى فتقول: «من أراد الارتقاء إلى الدرجات العلا فليتطهر ظاهرا وباطنا، وليصم سبعة أيام وليواظب دبر كل صلاة على هذه الأسماء - يا هادي يا خبير يا متين يا علام الغيوب - ألف مرة، فإنه يكشف له عن كنز الأرض وينادى به في ضمائر الناس، وإن أكمل ثلاثة أسابيع في الرياضة كشف له عن ملكوت السموات والأرض بإذن الله تعالى، وأما صفتها للإخفاء فهي أن تقرأ الآية الشريفة سبعمائة وخمسين مرة، ثم تقول بسم الله الرحمن الرحيم
يس * والقرآن الحكيم - إلى قوله تعالى:
فهم لا يبصرون - ثلاثمائة وثلاث عشرة مرة، فلو اجتمع أهل السموات والأرض على أن يبصروك لم يقدروا ويعمي الله أبصارهم عنك فلا يرونك، وأكثر من ذلك أن يحول الله قلوبهم إليك بالرأفة والمجد والعطف.»
وكان هذا كل ما في الورقة، فأما كنوز الأرض فلم يكن يعنيني منها يومذاك شيء، فما كان لي هوى إلا مع تلك الفتاة، أو رغبة إلا في إلانة قلبها. وأما الكشف عن ملكوت السموات والأرض فشيء مرعب خفت أن أعالجه فأصعق. وأما الاختفاء عن الأبصار فهذا ما سحرني واستولى على لبي، وتشبث به خيالي. ألست أستطيع إذا فزت بذلك ووفقت إليه ببركة هذه الفائدة، أن أكون أدنى شيء إلى الفتاة وأن أراها ولا تراني وأتملى بحسنها وقربها وهي ذاهلة عني لا تحسني؟
ألست أستطيع بفضل هذا السر الجليل أن أكون حيث أشاء، وأن أفعل ما بدا لي بلا تثريب، لا تراني الأبصار؟ وا فرحتاه! أي شيء أتقي بعد ذلك؟ أي شيء يصعب علي؟ تالله ما أولاني بحمد الله على أن كان لي مثل هذا الجد الصالح؟
ولكن الورقة لم تذكر الآية التي لا بد من تلاوتها سبعمائة وخمسين مرة، فماذا أصنع؟ حرت قليلا ولكني كنت فتى عمليا، فتناولت المصحف الشريف وقلبته حتى وقعت عيني على قوله تعالى:
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير
وأقنعت نفسي بأن كلام الله كله في منزلة واحدة من الجلال، وأن كل آية ككل آية، وليست كلمة منه بأفضل من أخرى غيرها. وما أرى حتى الآن إلا أن منطقي كان مستقيما وتفكيري كان سليما سديدا.
وأما «الفائدة» الثانية فتقول ما يأتي: «ومن أراد إقبال الناس عليه بالمحبة والهيبة والتعظيم له في قلوبهم فعليه بقراءة هذه الآية الشريفة عقب الصلاة أربعمائة وخمسين مرة، ثم يتلو بعدها هذا الدعاء الجليل سبعة آلاف مرة، فإنه يحصل له من الخير ما لا تدركه الأفهام وهي هذه: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، يا ألله (ثلاثا)، يا رحمن (ثلاثا)، يا رحيم (ثلاثا)، لا تكلني إلى نفسي في حفظ ما ملكتني مما أنت أعلم به مني، وامددني برقيقة من رقائق اسمك الحفيظ الذي حفظت به نظام الموجودات واكسني بدرع من كفايتك، وقلدني سيفا من نصرك وحمايتك، وتوجني بتاج عزك ومهابتك وكرمك وركبني مركب النجاة في المحيا وبعد الممات بحق خجش ثطخذ، وامددني برقيقة من رقائق اسمك القهار تدفع عني بها من أرادني بسوء من جميع المؤذيات، وتولني بولاية العز يخضع لي بها كل جبار عنيد وشيطان مريد يا الله يا عزيز يا جبار (ثلاثا)، ألق علي من زينتك ومن محبتك وكرامتك ومن حضرة ربوبيتك ما تبهر به العقول وتذل به النفوس وتخضع له الرقاب وترق له الأبصار وتبدد دونه الأفكار ويصغر له كل متكبر جبار، وتسخر له كل ملك قهار يا ألله يا ملك يا عزيز يا جبار (ثلاثا)، يا الله يا واحد يا أحد يا قهار (ثلاثا)، اللهم سخر لي جميع خلقك كما سخرت البحر لسيدنا موسى عليه السلام ولين لي قلوبهم كما لينت الحديد لداود عليه السلام فإنهم لا ينطقون إلا بإذنك، نواصيهم في قبضتك وقلوبهم في يدك تصرفها كيف شئت يا مقلب القلوب (ثلاثا) يا علام الغيوب (ثلاثا)، أطفأت غضبهم بلا إله إلا الله، استجلبت محبتهم بسيدنا ومولانا محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.» ويكون ذلك في جوف الليل، ثم تصلي ست ركعات فإذا سلمت تقرأ الدعاء تسعمائة وخمسين مرة، وفي حال قراءتك للدعاء تصور المطلوب بين عينيك كأنك تجذبه إليك، فإذا وفيت العدد المطلوب تقرأ هذه الآيات سبعا وهي
يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ،
لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ،
وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني
تقرأ هذه الآيات سبعا وأنت في كل ذلك تبخر بالجاوي واللبان الذكر.
ثم طويت الورق ووضعته في جيبي وخرجت إلى السوق، وقد بدأت أشعر كأني فوق الناس، أو كأني أمشي في السحاب، واشتريت قليلا من الجاوي واللبان والفحم، وخرجت على الفتاة وأنا عائد إلى البيت، فلما رأتني أحمل هذه الأشياء ضحكت وقالت «أتراك صرت خادما؟ مبروك إن شاء الله»، فألقيت إليها نظرة عطف مشوبة بالكبر، وقلت ملغزا ويدي على جيبي «أترين هذا الجبل؟ - وأشرت إليه - سيحمل الليل إليك صوتا منه» ومضيت غير عابئ بضحكها وسخرها.
ولا أطيل، خلوت بقية النهار إلى نفسي حتى فرغت مما فرضت «الفائدة الأولى»، ثم قمت بعد العصر بقليل وفي اعتقادي أني قد اختفيت عن أعين الناس، وقصدت إلى حيث الحمار مقيد ففككت القيد وأسرجته وألجمته ووضعت عليه «خرجا» فيه ما يلزمني من مواد البخور وأعواد الثقاب والفحم وسبحة وموقد صغير وإبريق فيه ماء، ووضعت فوق «الخرج» فروة صغيرة لجلوسي، ثم ركبت الحمار بعد أن صار أعلى من البغل وسرت به بين المساكن إلى الجبل، وكان الناس قد ألفوا مني هذا الخروج، فلم يلتفت إلي أحد، ولكني كنت أعجب لهم في ذلك اليوم كيف لا يدهشهم أن يروا الحمار سائرا وحده وليس عليه راكب؟ وعللت ذلك بأن السر الذي أخفاني عن أبصارهم لا بد أن يكون قد امتد إلى الحمار أيضا فتوارى مثلي عن العيون، فجعلت أتلفت يمينا وشمالا وأضحك، واتفق أني مررت بشيخ كليل البصر وإن كان فيما ترى العين سليم النظر، ولكني لم أكن أعرف ذلك - فحككت له أنفي بسبابتي ورحت أخرج له لساني وأمط شفتي تحت أنفي، فلما لم أجده التفت إلي صفقت من فرط الجذل، ففزع الرجل قليلا، فقلت لنفسي سمع الصوت، ولم ير الشخص فحق له أن يفزع، فطغى بي الطرب ولم أعد أطيق هذه المشية الهينة، فضربت الحمار فمضى يعدو بي إلى الجبل. وهناك في سفحه ترجلت وربطته إلى حجر على باب كهف صغير كنا - وأعني غلمان الحي - نقيل فيه إذا حميت الشمس، وفرشت الفروة في جوف الغار ووضعت الفحم في الموقد، وأشعلت فيه النار وتركته للريح قليلا لتضرمه، واستلقيت أنا على الأرض، وانطلقت أفكر فيما سيكون من أمر الفتاة معي بعد أن أفرغ من العمل، وجمح بي الخيال فبدا لي كأني في التهليل والتسبيح والدعاء فجاءني رجل وجلس عن يميني لم أر في زماني أحسن منه ولا أطيب ريحا، فقلت: من أنت؟ قال: أنا الخضر جئتك حبا في الله عز وجل، وعندي هدية أريد أن أهديها إليك فقلت: وما هي؟ قال: هي أن تقرأ. فقاطعته وقلت: كفى. كفى. لقد بح صوتي من القراءة فدع هذا وهات لي ...
ولم يعجبني هذا، فاختصرت الحكاية وجعلت الخضر يقوم مغضبا وأنا لا أعبأ شيئا، وعدلت بالخيال إلى سواه فتصورت الفتاة تهب من النوم مذعورة تلهج باسمي ويهتف بها هاتف أن اخرجي إلى مكان كذا في سفح الجبل، فتخرج في ظلام الليل حافية عارية الرأس في ثياب النوم ولا تزال تجري حتى تبلغ الكهف دامية القدمين من وخز الحصى والرمال، فتقف بالباب وتناديني فأدع القراءة وأصيح: من؟
فتقول: فلانة (أو لعل الأحسن أن تقول حبيبتك فلانة).
فأقول: «ماذا يجيء بك إلى هنا؟»
فتقول: «لم أطق صبرا.»
بل أجعلها تقول: «رأيتك في نومي ناظرا إلي محدقا في فجذبتني عيناك ولم أزل أسير على ضوئهما حتى جئت إليك.»
فأقسو عليها وأنتصف لنفسي منها وأؤدبها غير أدب الصباح حين تهكمت علي وهنأتني بأن صرت خادما أقول لها: «ارجعي من حيث جئت فما بي حاجة إليك.»
فتجثو على ركبتيها وتتوسل إلي أن أدعها ولو عند قدمي ...
ولم يعجبني أن أتصورها تجثو عند قدمي، فقد كنت رقيق القلب مهذب النفس فغيرت الموقف واعتضت منه آخر، فشرعت أغازلها تلميحا لا تصريحا، وأصف لها جارة دميمة الساقين ضخمة القدمين فتسألني: ماذا تعني؟
فأقول: أعني أن للساق الجميلة سحرها.
فتقول: «ولكن ماذا يعنيك من ساقي هذه الفتاة؟»
فأقول: «إنها تفسد علي اليوم كله حين أراهما، وأخشى جدا أن تفسد لي صحتي.»
فتقول: «إنك مضحك ولست أفهمك.»
فأقول: «تصوري هذه الفتاة التي سلبتها الطبيعة كل مفاتن المرأة كيف يكون ألمها لو أن الشهرة (المودة) كانت تقضي بأن تكون ثياب النساء قصيرة؟ كيف تجرؤ أن تبدي ساقيها لعيون الناس؟!»
ثم أطرق برهة فتردني إليها بسؤالها عني: ماذا بي؟
فأقول: «بي هذه الطبيعة التي تأبى إلا أن تخرج إلى الدنيا مثل هذا التشويه.»
فتقول: «لعل الفتاة سعيدة لا تفطن إلى عيبها.»
فأقول: «سعيدة؟ أتكونين أنت سعيدة لو كنت مثلها؟»
فتسري في بدنها رعدة خفيفة فأكر عليها بقولي: «بأي حق تمنحك الطبيعة كل ما حبتك من المفاتن وتسلب تلك المسكينة كل هذا الذي ضنت به عليها؟»
فتتهلل أسارير وجهها وتقول: «ولكن لعلها لا تكترث لذلك.»
فأقول جادا: «أين الفتاة التي لا تحفل أن تكون دميمة؟ تصوري ما لا بد أن يصيبها من الألم حين تراك؟»
فترفع عينها إلي وتحدق في وجهي لتقرأ فيه المعنى الذي أرمي إليه والذي يغالطها صوتي في حقيقته وأمضي أنا في حديثي فأقول: «إن كل ما جادت به الطبيعة عليك ينقصها ...» فتقاطعني وتقول: «ولكن ما ذنبي أنا حتى تحطم لي رأسي بها؟»
فأقول معتذرا: «هل ضايقتك بحديثها؟ إني آسف. ولكن هذه المناظر تستفز نفسي وتثير سخطي كأني وحش.»
فتقول: «ألا تظن أنك قد تفيء إلى السكينة والهدوء إذا تركتك وحدك؟»
فأنهض وأقول: «لا لا لا! يا لها من فكرة شنيعة!»
فتقول: «إنك على ما يظهر ...»
فأقاطعها وأقول: «سأنسى ساقيها ولا أفكر إلا ...»
ولكني لم أشأ أن أعترف لها حتى في الخيال ولم يرقني هذا الحوار وما فيه من اللف والدوران، فغيرت المنظر وحولت الصحراء المحيطة بي جنة فيحاء حافلة بالشجر حالية بالزهر، وتصورت نفسي أطوف فيها باحثا عن فتاتي، ثم إذا بي أرى ثوبها فأمضي إليها على أطراف أصابعي، فيعترضني حاجز من النبات الكثيف الشائك فيخطر لي أن أتسلل إليها حتى أصير إلى جانبها قبل أن تشعر بي، ولكن النبات المتشابك تحيط بي أشواكه وأنا أعالج اختراقها، وتسمعني هي فتدير وجهها إلى ناحيتي فتراني، فتصبغ الحمرة وجهها - ومن عنقها إلى جبينها - ويعبث النسيم بشعرها ويطير على وجهها وكتفيها فتمسحه بكفها وترده عن جبينها، ثم تقف ويداها في جانبي خصرها، وشفتاها مفترقتان من المفاجأة، وكأنها تحاول أن تعلق أنفاسها مخافة أن تذهب زفرة بالسرور المباغت الذي شاع في كيانها حين رأتني.
ثم تهمس «إبر ... اهيم.»
فأصيح وأنا أعالج من أسر الأشواك: «لقد سجنت هنا.»
فتقول: «لقد قلت لي: إنك لن تأتي قبل أسبوعين ثم هذا أنت.»
فأقول «إذا لم تأتي إلى نجدتي فلن أجيء إليك قبل عام.»
فتضحك ويسرها ما أنا فيه فأصيح بها: «مهلا ريثما أتخلص.»
وأحاول الخلاص فأزيد تورطا، فتصفق وقد أمتعها منظر اعتقالي وتقول: «لن تنفذ أبدا من هنا. فارجع. ذلك خير وأسرع.»
وتخزني شوكة فأهيب بها أن تنجدني فتضحك وتقول: «إن منظرك ظريف. ليت هناك مرآة فترى نفسك فيها.»
فأضحك من نفسي وأقول لها: «إني لم أمش كل هذه المسافة ليكون منظري مضحكا. وما أراني أستطيع الآن أن أحرك إصبعا فإن الشوك يتلقاني من كل ناحية. بالله نحي هذه الشوكة عن ذقني فإنها تكاد تقتلني.»
وترى الدم سائلا من ذقني فيدركها العطف علي، فتنحي الشوك بيديها عن وجهي وتضغطه بكفيها فيدنو وجهها مني، وتصبح عيناي في عينيها، وأنفي قبالة أنفها، وفمها أمام فمي، ويقرأ كل منا في عيني صاحبه من آيات الحب ما لا سبيل إلى العبارة عنه، ثم يدور رأسها، وتهيم نظرتها وتهوي على فمي بفمها، ويحط في هذه الساعة عصيفير على غصن وينطلق يغرد.
ولما بلغت إلى هنا فيما تخيلت وبينما أنا أتذوق القبلة التي تصورتها مطبوعة على فمي، نهق الحمار! فانتبهت مذعورا من حلمي اللذيذ! ومحيت الصور الفاتنة وانتسخت الخيالات الأنيقة المعجبة وردني الصوت المنكر إلى ما جئت من أجله، فقمت متثاقلا وفرشت الفروة في أرض الكهف وأطلقت البخور في الموقد، وقمت إلى الصلاة، ثم شرعت في التلاوة على نحو ما حتمت الورقة. •••
ولا أدري ماذا أصابني، ولكن الذي أدريه أني ظللت أقرأ وأقرأ في جوف الليل وأطلق بخور الجاوي واللبان، ثم لم أعد أعي شيئا. ولما قمت في الصباح كان ضوء الشمس قد غمر السهل والجبل، فخرجت من الغار وأنا لا أفهم، وأدرت عيني في كسل وفتور ثم تذكرت الحمار، فجمد دمي في عروقي، وأحسست العرق البارد يتصبب. أين ذهب؟ وكيف يفك القيد عن أرجله ويحل اللجام عن الصخرة؟
ولا خير في الإطالة فقد سرقه اللصوص وأنا ملقى كالجثة في جوف الغار، بارك الله في جدي وفوائده ...!
الفروسية
دعينا مرة - أنا وطائفة من الإخوان - إلى قضاء يومين في ضيعة أحدهم، وكانت قريبة من إحدى الضواحي فركبنا القطار إلى ... وهناك وجدنا طائفة شتى من الخيل والبغال والحمير، فتوهمت في أول الأمر أن هناك سوقا للدواب أو معرضا لها. ثم علمت أنها لركوبنا. فاخترت من بينها حمارا صغيرا وهممت بامتطائه، ولكن صاحب الضيعة وداعينا عز عليه أن يركب «المازني» حمارا، وجاءني بجواد أصيل وأقسم علي لأركبنه. فاستحييت أن أقول له إني أخاف ركوبه، وإنه لا عهد لي بالخيل، ودنوت من بعض الخدم وهمست في أذنه هذا السؤال: «قل لي: كيف تركب هذا الحصان؟»
فتأملني مليا ثم قال وعلى فمه طيف ابتسامة: «على ذيله!»
قلت: «على ماذا؟»
وأشاح عني بوجهه. فذهبت إلى الجواد وأدرت عيني في ذيله ثم هززت رأسي وعدت إلى الخادم أسأله: «ألا تظن يا صاحبي أن الأحزم أن أمتطيه قريبا من العنق لأستطيع عند الحاجة أن أطوقه بذراعي؟»
فلم يزد الرجل على أن قال: «ربما» وانصرف عني إلى سواي، وكنا جميعا في هرج ومرج نصيح ونضحك، وكان لا بد أن أفعل شيئا فناديت مضيفنا وقلت له: «أريد سلما.»
قال في دهشة: «سلما؟ ما حاجتك إليه؟»
قلت: «حاجتي إليه أني أريد أن أصعد إلى ظهر هذا المجلي يا صاحبي.»
فضحك وقال: «أنا أساعدك» ودفعني على ظهر الجواد دفعة خيل إلي أنها ستلقيني على الأرض من الناحية الأخرى.
وسرنا مسافة على مهل ثم وخز أحدنا دابته فمضت تعدو واستحث آخر مطيته، وانطلق بها وراءه، واقترب مني ثالث وأهوى على جوادي بعصا معه، فوثب الجواد وراح يسابق الريح - أو هكذا خيل إلي - وأنا أعلو وأهبط فوقه، حتى أحسست أن أمعائي ستتقطع، وأتلمس بيدي شيئا أمسكه وأتعلق به فيفلت من قبضتي كل ما تصل إليه، فارتميت على عنقه وطوقتها، وجعلت أنادي من حولي وأناشدهم الذمة والضمير والمروءة أن يوقفوا هذا الشيطان. وأدرك أحد إخواني العطف علي، فصاح بي «ولكن كيف نوقفه ونحن راكبون؟»
فغاظني منه هذا البله ولم يفتني ما في الموقف من فكاهة على الرغم من الألم الذي أعانيه وما أتوقعه إذا ظل الجواد يركض بي، فقلت له: «يا أبله انزل واقبض على ذيل حصاني وشده.»
وكان أحد الخدم قد أدركني وأمسك باللجام ورد الجواد، فما أسرع ما انحدرت عنه، وكأنما أعجبتني جلستي على الأرض، فأخرجت سيجارة وأشعلتها وذهبت أدخن، وجاءني مضيفنا على أتانه فسألني: «أتنوي أن تقعد هنا إلى الأبد؟»
فأغضيت عن سؤاله وقلت: «إن بي حاجة إلى الشعور بثبات الأرض بعد كل هذا التقلقل وتلك الزعزعة.»
قال: «ولكنك لا تستطيع أن تظل جالسا هكذا. إن أمامنا سير ساعة.»
قلت: «سألحق بكم إذن، أو أرجع إذا كان لا بد من ركوب هذا الزلزال.»
قال: «ولكن لا يليق أن تركب حمارا.»
قلت، وقد صار في وسعي أن أضحك: «في وسعك أن تعلق ورقة تكتب فيها أنه جواد مطهم.»
قال: «لا تمزح، قم اركب حماري هذا.»
قلت: «إذا كان الحمار عاليا فما الفرق بينه وبين الجواد؟»
قال بلهجة اليائس أو المنتقم: «إذن خذ هذا.»
وأشار إلى جحش قميء مهين يركبه خادم، لا سرج عليه ولا لجام له، فقمت إليه وامتطيته بوثبة واحدة وبلا معين.
واعترضتنا قناة عريضة عليها ألواح مثبتة تقوم مقام الجسر، وبين الألواح والماء تحتها متر على الأقل، فلما توسطها الجحش بدا له أن يقف، وراقه منظر الماء، فأجال فيه عينيه برهة ثم خطا إلى حافة الجسر - ولم يكن له حاجز - ومد عنقه إلى الماء، فظننت أنه قصير النظر وأنه يفعل ذلك ليكون أقدر على رؤية خياله في الماء واجتلاء طلعته البهية في صقاله، ولكنهم قالوا لي: إنه كان يريد أن يشرب. فنزلت عنه وقلت له: «يا عزيزي إن من دواعي أسفي أني مضطر أن أتركك إلى الماء وحدك. فإن ثيابي يفسدها الماء وهي غالية إذا كانت حياتي رخيصة.»
ولكنه بعد أن فكر قليلا غير رأيه، إما لأن الصورة التي طالعته في صفحة الماء كانت مضطربة مشوهة وعجز الماء عن أداء ما فيها من جمال وروعة، أو لاعتبارات حمارية أخرى لم يكاشفني بها. فأدار وجهه ومضى غير ملتفت إلي، غير أني لحقت به بعد أن اجتاز الجسر، وقلت له: «تعال لا تهرب مني يا صاحبي» وكنت على ظهره قبل أن يتمكن من الاعتراض أو الاحتجاج أو الإفلات.
ويطول بنا الكلام إذا أردت أن أصف كل ما أمتعني به من الفكاهات العملية، فقد كان فيه عناد وصلف، وكان يأبى أن يتوسط الطريق ولا يرضيه إلا أن يحك جنبه في كل ما يلقاه من شجر أو عربة أو حائط، وكان ربما وقف وغرس رجليه في الأرض. ونام. وتعودت منه ذلك وفطنت إلى أنه ذو مزاج مستقل، فكنت أتركه واقفا حتى ينتبه من هذه الإغفاءات، أو يعود إلي من سبحات عقله السقراطية، فنستأنف المسير وحسبي وحسب القراء أن أقول لهم: إني أسفت على فراقه لما انتهت الرحلة، وتمنيت لو أن صحبتنا كانت أطول.
الطفولة الغريرة
أظنني كنت في الرابعة أو الخامسة، فما أذكر على التحقيق كم كانت سني، والطفل عندنا - أعني في بلادنا - لا يفكر، أو على الأصح لا يسمح له أن يفكر في مثل هذه السن، ويخيل إلي الآن وأنا أدير عيني في تلك الأيام كأن وظيفة الآباء والأمهات كانت صرف الأبناء عن النظر والتفكير، وإلزامهم الجمود ونهيهم عن كل حركة جسمية أو عقلية. والطفل - كما تعلم الآن - أكثر ما تكون حيويته في أعضائه، فرغبته في الجري والوثب وما إلى ذلك طبيعية، وهو أشد من الكبار صبرا على ذلك ولجاجة فيه لقلة ما يشغله غيره، وهو جديد في هذه الدنيا، فشوقه إلى معرفتها معقول، ومن هنا مد يده إلى كل ما تقع عليه عينه وتناوله وتقليبه وتحطيمه أو إفساده، وليس التحطيم أو الإفساد غايته، ولكنها المعرفة، والآباء يشفقون على أشيائهم من مغبة هذا التناول، فيمنعون التجربة ويأخذون على المعرفة طريقها.
ولست أذكر أني هممت مرة باللعب إلا زجرني عنه واحد من الكبار، أو مددت يدي إلى شيء إلا نهيت عن لمسه، وما كان أصعب السكون المقضى علي به، بل ما أقل ما كان الجمود يرضيهم! فأنا إذا لعبت «شقي»، وإذا سكنت فلا شك أني مريض! وكان ملجئي الوحيد أبي، هو وحده الذي كان يبدو لي أنه يفهم. وقلما كنت أجالسه لأنه رجل، والرجل في ذلك العصر، مكانه بين الرجال لا بين الأطفال والنساء، حتى الأكل كان يتناوله وحده، أو مع ضيوفه في «منظرة» الرجال. حتى القهوة تصنع وترسل إليه. فهو في منزله وحده، وكل من في البيت يخدمه حتى أمي. بل حتى أمه هو. يستيقظ أهل البيت ويكون هو لا يزال نائما. فالكلام همس، والسير على أطراف الأصابع، والأطفال يحملون إلى مكان قصي من تلك الدور القديمة الواسعة لئلا توقظه ضوضاؤهم. ثم يفتح عينيه ويتثاءب فينقلب السكون جلبة، هذه تجيء بالطشت والإبريق للوضوء، وهذه تعد الشاي، وتلك تهيئ الطعام، وكأنما يتعمد كل إنسان أن يسمعه صوته ويثبت له أنه يتحرك في خدمته، فالأصوات عالية، والنداءات متتابعة، «والقباقيب» ملبوسة والأرجل تدب، ويكون الشيء المطلوب تحت أنف الطالب فيقطع المكان ذاهبا وآيبا عشر مرات قبل أن يمد يده إليه، ويصيح وينادي ويسأل عنه كل مخلوق قبل أن يتفضل ويراه، ويحاسب كل من في البيت على اختفائه ويتوعد وينذر، حتى إذا ظهر - وهو أدنى شيء منهم جميعا - انطلق طالبه المتعامي عنه يصف الإهمال والعمى بما يفتح الله به عليه. ثم تقص هذه الحكاية بتفصيل واف شاف لأبي وهو يفطر أو يشرب القهوة على سبيل الاعتذار من الإبطاء، عليه والشكوى من الخدم وسائر أهل البيت، والتذمر من الدنيا وسوء الحظ فيها، والتبرم بهذه المتعبات التي تحفل بها ساعات الليل والنهار.
ولا أزال أذكر «علقة» من أجل هذا، وكانت أمي تطلب الطشت من الحمام والإبريق على بابه، فاحتملت الخادمة الطشت وذهبت به ولم تر الإبريق، فذهبت تسأل عنه خادمة أخرى أصغر منها وتصيح بها: «أين وضعت الإبريق يا ملعونة؟»
فقالت الصغرى في ذلة وخوف: «لم أره والله!»
فصرخت الكبرى: «كيف لم تريه؟ لقد وضعته بيدي في الحمام فهل أخذه العفاريت؟!»
الصغرى :
والله العظيم والله العظيم ... وحياة النبي ...
الكبرى :
لا تحلفي يا ملعونة. سيصيبك العمى يوما من الأيام من كثرة الحلف كذبا. أقول لك هاتي الإبريق وإلا صار يومك أسود!
أمي (بصوت عال جدا) : «أجننتما؟ ما هذه الضجة؟ ألا تستحيان أن تتصايحا هكذا وسيدكما في البيت؟»
الكبرى :
يا سيدتي لقد أضاعت هذه البنت الإبريق. وانظري كيف تحلف أنها لم تره.
أمي :
أين يا بنت الإبريق؟
الصغرى :
والله العظيم والله العظيم ... والله ... و...
أمي :
ألم أقل لك كفي عن الحلف.
ودفعتها بيدها وأطلقتها لتبحث عن الإبريق فدخلت المسكينة ووقفت بباب الحمام وأسندت كتفيها إلى الحائط ولكنها لم تبحث عن الإبريق، وكان بجانبها على مسافة شبرين منها، بل وقفت تبكي لا كما يبكي الناس، بل بحنجرتها دون عينيها. أعني أنها كانت تخرج مثل صوت الباكي المعول ولكن عينيها جامدتان.
ودخلت في أثرها الخادمة الأخرى وأمي وراءها. وعلا الضجيج وكثر الكلام، وكنت أنا أشاهد هذا كله وأرى الإبريق، ولكني كنت مفتونا بهذا الحوار الذي يدور على لا شيء، فلم أدلهم على مكانه، ولو أني تكلمت لضاع صوتي الصغير ولغرق في طوفان هذه الضوضاء، على أني لم ألبث أن شعرت كأن رأسي سيتهشم وعجزت عن احتمال هذه الحال، وبدا لي - لسوء الحظ - أني حقيق بأن يكون لي من احترام النساء للرجال حظ ولو قليلا قياسا على ما أراه من إجلالهن لأبي، فصحت بهن، وأمي في جملتهن. «يا للعمى! ألا ترين الإبريق وهو تحت أنوفكن؟ ما هذه الضجة الفارغة؟ لقد أوجعتن رأسي!»
فكان جزائي - كما أسلفت - علقة. •••
نعم، كان المنزل جحيم الطفل. فهو مطالب بأن يكون له عقل الكبار واتزانهم وفهمهم، ولكنه محروم من مزاياهم ولا يعامل معاملتهم. وكل شيء يصدر عنه معيب وخطأ. فاللعب عيب، والصمت عيب، والتهويم في المجلس عيب، والأرق عيب، والاستفهام عيب، ولا شيء فيما يرى الطفل محمود مشكور. ماتت بنت خادمتنا - وكانت في مثل سني - ولم أعلم أنها ماتت؛ لأنهم أجلوني عن البيت وأرسلوني إلى عمتي، فلما عدت ولم أجدها سألت عنها لأني افتقدتها، فكان كل من أستفسر منه عن اختفائها يتجهم لي وينهرني عن السؤال لأنه عيب. فذهبت إلى أبي، وكان حليما صبورا رضي الخلق، فسألته عنها فأخبرني أنها ماتت. فعجبت ولم أفهم كيف تجرؤ أن تموت. فسألني أبي بدوره عن سر عجبي. فقلت له: «لأنها صغيرة.»
قال: «ولكن الموت ينزك بالكبار والصغار على السواء.»
فألححت وقلت: «ولكن يا أبي إنها لا تزال صغيرة فكيف يجوز أن تموت؟»
قال: «يا بني لا اعتراض على قضاء الله.»
قلت مصرا: «ولكنها صغيرة وهذا عيب.»
فضحك ومسح رأسي بكفه فلم أزد إلا لجاجة وقلت: «يا أبي. هل تسمح لي أن أفهمها أن هذا عيب وأنها لا يصح أن تموت؟»
قال وقد ضجر على ما يظهر، وإن ظل يبتسم: «يا بني كيف يكون الموت عيبا؟»
قلت مستغربا: «أليس الموت عيبا؟»
قال: «كلا. إنها آجال.»
فأعجبني أن يكون الموت آجالا وطربت جدا. ودنوت منه ووضعت كفي على خديه وقلت وقد خيل إلي أني ظفرت بملهاة جديدة: «إذن ليس من العيب أن أموت أنا أيضا.»
فصاح بي: «أعوذ بالله!» واكفهر وجهه لا أدري لماذا «إياك أن تقول كلاما كهذا مرة أخرى.»
لا أدري لماذا! ... لقد فهمت ... ولكن بعد سنوات، ترى ألم يكن في الوسع اختصارها.
وصار لي أخ صغير. لم أره حين جاء لأني أجليت عن البيت، فلم أكن في استقباله. ولما عدت وأخبروني وسألت عنه من أين جاءوا به، قالوا، أو فهمت أنا منهم: إنه من عند الله، وإن الله هو الذي يرزق الآباء، فاقتنعت ورحت بعدها أتوقع أن أتلقى كل يوم من عند الله أخا جديدا وساءني أن يرزقني الله أخا لا أختا.
فسألت أبي: لماذا لم يرسل الله لي أختا بدلا من هذا الأخ؟
قال: هذه مشيئة الله ولا حيلة لنا فيها.
قلت: ولكني أريد أختا ...
فقال: ادع الله.
فلبثت بعدها أدعو الله ولاسيما قبيل النوم، وكنت أتوقع في كل مرة أن أصبح فأجد الأخت المرجوة تحت السرير أو في الدولاب أو بجانبي، ولكن الله لم يستجب لي قط. •••
وكان في البيت اثنان لا أراهما أبدا وإن كان ذكرهما على لساني أبي وأمي، وهما «الست» و «الأفندي»، فأبي يقول للخادمة مثلا قولي كذا أو كذا «للست»، ويتحدث في أوقات شتى ولاسيما حين يكون معه رجال من أقربائنا عن هذه «الست»، وأمي لا تفتأ تقول «الأفندي قال، أو الأفندي أتى، أو الأفندي خرج» فأعجب أين هما؟ ولماذا لا أراهما ؟ وأصعد إلى السطح باحثا عنهما فلا أجدهما، وأدخل كل غرفة فلا أهتدي إلى أثرهما، وأنزل إلى فناء الدار فلا ألتقي بهما. أين ينامان يا ترى؟ ماذا يأكلان؟ ألا يظهران أبدا؟ وعلى كثرة ما فكرت في أمرهما وبحثت عنهما لم يفتح الله علي بخير من أنهما لا محالة يلبسان «طاقية الإخفاء»، ولشد ما كان يلج بي الشوق إلى رؤيتهما، يدركني العطف عليهما أيضا! وكثيرا ما كنت أقوم من النوم على صوت - لعله موهوم - فأتخيل أنهما داخلان، وأرهف سمعي وأنشر أذني في الليل وأفتح عيني جدا وأحدق في الظلام، وقد قمت على ذراع وربما تسللت إلى كل غرفة لعلي أبصرهما، ناسيا في سبيلهما مخاوفي وما تثيره الظلمة، في نفوس الأطفال.
واتفق مرة أنا كنا جميعا جلوسا في غرفة أبي وكان مريضا - فدخلت الخادمة فأسرت شيئا إلى أمي، فقالت لها هذه «أخبريه أن الأفندي مريض»، فصعدت روحي إلى حلقي وشعرت بالأسف على «الأفندي» والألم له، والفرح أيضا؛ لأن مرضه قد يتيح لي أن أراه أخيرا ...
ودنوت من أبي - وكنت عليه أجرأ - فابتسم لي ومد يده فوضعها على كتفي فأطرقت برهة ثم رفعت عيني إليه وقلت: «بابا.»
قال: «نعم» وجذبني إليه في رفق وعطف.
قلت: «كيف صحة الأفندي.»
فضحكوا جميعا، أبي وأمي وجدتي وعمتي و... لا أدري من أيضا.
وقبلني أبي، ولكنه لم يجبني لا هو ولا سواه. فلم أفهم هذا، وأحسست بالغيظ، ورحت أنظر في وجوههم نظر المحنق. ثم تولني العناد، فعدت إلى أبي أسأله عن صحة «الأفندي»، فنظر أبي إلى أمي فتناولت هذه يدي وقالت: «عيب، الأولى كانت عفوا. وقد فاتت ولكن لا يليق أن تكررها.»
فكدت أجن. لماذا يخفون عني الأفندي والست، وهما يراهما كل إنسان سواي، ويحادثهما على ما يظهر لي مما أسمع؟ لماذا أحرم وحدي أن أبصرهما وأكلمهما؟!
فقلت: «ولكني أريد أن أرى الأفندي.»
فقالت أمي: «عيب قلت لك عيب.»
وفي هذه اللحظة دخل جدي على مهل، ويظهر أنه سمع أمي تنهرني، وكان شديد الحنو علي فسأل «ما له ؟»
فقصوا عليه الحكاية. فابتسم وأجلسني على ركبتيه ولم يزل بي حتى سرى عني، وجفت دموع الغيظ التي كانت تترقرق في جفني فشرحت له المسألة وكشفت له عن جهودي التي بذلتها في الاهتداء إلى «الست والأفندي»، ولم يبق في الغرفة أحد لم يضحك مني. ولكني كنت فرحا بإصغاء جدي وتشجيعه لي، وما كان يبدو على وجهه من الاغتباط والجذل، فلم أعبأ بالضحك، ولما فرغت سألته: «والآن هل ستخفيهما أنت أيضا عني؟»
قال: «لا. لقد أخطئوا معك يا بني. وكان حقهم أن يدلوك.»
واستغنيت بعد ذلك عن البحث والتنقيب، فقد عرفت «الست والأفندي» وضحكت أيضا لما عرفتهما.
مقتطفات من مذكرات حواء
تنبيه
هذه المذكرات موضوعة على نسق «مذكرات آدم» للكاتب الأمريكي مارك توين (سامويل كيمينز) وهي تشبهها في الأسلوب الفكاهي، وقد جاريته في أشياء لم أدر كيف أخالفه فيها، مثل إنكار آدم أن حواء مخلوقة من ضلع من جنبه، واستغرابه بكاءها - والبكاء أشبه بالأنوثة - وعدم فهمه الأمومة إلخ. إلخ.
وقد أردت أن أمثل بهذه المذكرات لما يأتي:
أولا: أن الخلود يمتنع معه الإحساس الجنسي، وأن قضاء الموت هو الذي يثير هذا الإحساس وينشئ غيره أيضا.
ثانيا: أن المرأة مخلوقة للنوع، فالغريزة الجنسية فيها أقوى منها في الرجل.
ثالثا: أن المرأة أقدم معجم للغة، فهي التي وضعت الأسماء ونحتت واشتقت وصقلت الألفاظ بكثرة الاستعمال.
رابعا: أن الخجل من مقتضيات المعرفة والإدراك.
خامسا: أن الأمومة أقوى وأبرز من الأبوة؛ لأن المرأة هي الأداة لحفظ النوع.
وقد تناولت هذه المعاني من قبل في مقالات عدة، نشر بعضها في «حصاد الهشيم»، مثل: «الجمال في نظر المرأة» و«مقتضيات الخلود»، وفي «قبض الريح» مثل: «المرأة واللغة أول معجم وأقدم ديوان»، ومقالات أخرى نشرتها في «السياسة الأسبوعية» ولم تجمع بعد في كتاب. (1) في الجنة
السبت، وجدت أن ما أغراني به آدم من كتابة المذكرات اليومية قد شغلني عنه، وأتاح له أن يطوف في الجنة وحده، وهو لا يفتأ يصبحني بالسؤال عن مذكرات اليوم السابق هل دونتها، وينصح لي بأن أكتبها قبل أن أنسى ما حدث، ولا أكاد أشرع في الكتابة حتى أراه ينسل ويذهب لا أدري إلى أين، ومن أجل هذا عقدت النية على ألا أكتب إلا في الليل بعد أن ينام.
الاثنين، آدم لغز لا أكاد أفهمه، لم يكن يعرف حتى أن اسمه آدم، ومن قوله أنه لا يشعر بالحاجة إلى اسم ما، ولما قلت له يوما إن اسمي حواء قال: «ربما!» أليس هذا منه عجيبا؟ وأعجب من ذلك أني قلت له إن عليه من الآن فصاعدا أن يدعوني باسمي، فإنه أعذب في أذني من «هش هش» التي لا يزال يفتح فمه بها علي، فقال: إنه يقصد حين يصيح بي «هش هش»، أن أذهب عنه لا أن آتي إليه، وأنه لا يحتاج أن يناديني أو يدعوني لأني لا أكاد أفارقه، فمن العبث أن يكون لي اسم إذا كانت فرصة استعماله لا تعرض أبدا، فلما احتججت عليه بأن لكل شيء في الجنة اسمه الذي يعرف به، زعم أني أنا التي اخترعت هذه الأسماء وأطلقتها على مسمياتها، وأنه لا يدري لماذا أجشمه حفظ هذه الأسماء كلها وتصديع رأسه بها، وزاد على ذلك أنه لا يرى هذه الأسماء منطبقة على الأشياء أو موافقة لها، ودليله على هذا أنه ما من حيوان يجيبني حين أدعوه باسمه، ولكن هذا مع ذلك لا يعنيه، وإذا كان يروقني أن أكلف نفسي مشقة التسمية فأنا وما اخترت لنفسي، غير أنه يرجو مني ألا أشركه في هذا العبث.
وهذه أول مرة سمعت من آدم مثل هذه الكلم فحز في نفسي وآلمني فبكيت وتوجعت، ولشد ما كانت دهشتي حين نهض آدم ودنا مني ورفع وجهي إليه وجعل يتأمل عيني! بل لقد هم بأن يضع إصبعه في عيني، فنحيت يده عن وجهي وقلت له وقد غيض الغيظ والغضب عبراتي: «ألا تكفيك قسوة لسانك حتى تريد أن تفقأ عيني؟»
فادعى أنه لا يفهم كلامي وزعم أنه إنما كان يبغي أن يرى من أين يجيء الماء الذي يسيل من هذين الثقبين في وجهي. وقال: إنه لم ير حيوانا آخر غيري يفيض الماء من ثقوب وجهه، فصدفت عنه وبي من الألم ما لا أحسن وصفه. فلم أر أنه عبئ بصدي عنه شيئا، وطال انتظاري أن يعود إلي ليعتذر، فخرجت من الكوخ أطلبه فألفيته ممسكا هرة يحاول أن يعصر لها عينيها وهي تجاهد تريد التخلص من قبضته القوية، فاختطفتها منه وسألته: «ما هذا الذي تصنع؟»
فلم يجبني على سؤالي، ورفع إلي وجها قرأت في أساريره الدهشة والملل وقال: «ها ها! أو جئت ورائي؟»
فأعدت عليه السؤال فكان جوابه أنه أراد أن يعرف من أين يجيء الماء إلى هذه الثقوب التي أسميها العيون. فأيقنت أنه لم يكن يروم أن يفقأ عيني، وصفحت عنه وزدت تعلقا به.
الثلاثاء، لا يزال آدم يضحك مني كلما خرجت إلى البركة لأنظر فيها إلى نفسي، ولاسيما بعد أن وقعت فيها وأنا أتأمل خيالي في صقالها. ليته ينظر في مائها الصافي مرة. إذن لكف عن هذه السخرية. وما أنسى يوم قمت فألفيتني راقدة في ظل وارفة الأظلال لفاء، وكيف ذهبت أعجب لنفسي من عسى أن أكون؟ وأين أنا؟ وماذا جاء بي إلى هنا؟ وكيف كان ذلك؟ وكان على مقربة مني كهف يتدفق منه الماء إلى بركة. فقصدت إليها وانطرحت على بساط الروض، وجعلت أنظر في الماء وإذا تحت عيني - في جوف الماء - صورة تنحني وترمقني، فتراجعت فارتدت مثلي، فعدت أنظر، فعادت تحدق في وجهي بعينين جميلتين يفيض منهما العطف والحب، فلولا صوت رحيم هفا به النسيم إلي «إن ما ترين ليس إلا صورتك وخيالك»، لما انصرفت عن الماء إلى هذه الساعة، وإن آدم لقوي وجميل، ولكن ذلك الخيال الذي يتراءى لي في الماء ألين وأعذب.
الخميس، كل يوم يبدو لي من آدم خلق عجيب. كنت ألومه وأشكوه إلى نفسي وأؤنبه على هروبه مني واختفائه بين الأشجار، وأقول له فيما أقول: «إني أنسى كل شيء حين أكون معك، حتى الجنة لا أباليها ولا أحفل ما فيها، وإن نسيم الصبح حين يهب بأصوات العصافير لذيذ، وإنه ليس أطيب من ريا الأرض بعد أن يجودها من السماء هاضب، ولا أرق من مقدم الليل علينا بنجومه الزهر وقمره الساري، ولكن ما من شيء في الأرض ولا في السماء يروقني أو يفتنني إذا لم تكن معي. فالعجب لك كيف تطاوعك نفسك على مجافاتي والفرار مني وأنا بعضك؟»
ففتح عينيه جدا وقال: «بعضي، ماذا تعنين؟»
فقلت: «نعم بعضك! ألست قد خلقت من ضلع في جنبك الأيسر؟» فوثب إلى قدميه وقال: «من ضلع في جنبي؟ من قال هذا؟»
قلت: «إنها الحقيقة.»
فرفع يده إلى صدره وجعل يمر بأصابعه على ضلوعه ويتحسسها بعناية، ثم نظر إلي وقال: «هذا غير صحيح. إن ضلوعي كاملة لا نقص فيها وقد عددتها أمامك.»
الجمعة، قال لي آدم إن في هذه التي أسميها «جنة عدن» أشياء كثيرة تسترعي النظر والسمع أيضا، ولكني لا أنتبه إليها؛ لأن لساني لا يكف عن الدوران، وأضاف إلى ذلك أني أنا المخلوق الوحيد الذي لا ينتفع بعينيه وأذنيه. وأني أفسد عليه الطواف في «الجنة» وأحيل المقام فيها كالمقام في «ذلك المكان الآخر.»
وقد اغتنمت هذه الفرصة ونبهت آدم إلى أني «أنثى»، وأن عليه أن يكف عن مخاطبتي أو الإشارة إلي بضمير المذكر، فهز رأسه وقال: إنه يشك فيما أقول، ولكن الأمر لا يعنيه وإنه سيتحرى مرضاتي ما دام أن هذا يسرني، عسى أن يكف هذا الرضا من غرب لساني الذي لا ينفك يعترض.
السبت، لم أكن أنوي أن أكتب اليوم شيئا. ولكني عثرت بقصاصة بخط آدم قرأت فيها هذه العبارة: «لقد كانت أيام الأسبوع كلها جمعا قبل أن يأتي هذا المخلوق الجديد الذي نفى عني الراحة وهدوء البال ...» «بقية الكلام رديئة. ويظهر أن حواء كتبت تعليقها على عبارة آدم بسرعة وانفعال. على أني مع هذا استطعت أن أقرأ الكلام ولكني أعتذر للقراء فإني أعلى بأبينا الشيخ عينا وأعمق إجلالا له من أن أسمح بنشر ما خطته أمنا المسكينة عنه في ساعة من ساعات الغضب.»
الأحد، مواظبة آدم على الكتابة تدهشني، وتعليله لذلك أبعث على الدهشة. فهو يقول إنه يقتل الوقت بذلك وينفي عن نفسه الملل. الملل حقا؟ ألست معه أونسه؟
الثلاثاء، كان اليوم مطيرا عاصفا فامتنع آدم عن الخروج من الكوخ، فتركته ومضيت إلى البركة، غير أن المطر المنهمر شوه صورتي جدا، فانكفأت عنها آسفة، وأدركني العطف على جرو صغير وجدته في طريقي فحملته معي إلى الكوخ، ولم أكد أدخل حتى انتهرني آدم وأنبني على ما يسميه حماقة الخروج في مثل هذا الجو والرجوع بقدمين مثقلتين بالأوحال وتوسيخ الكوخ بها. ثم سألني عما أحمل فقلت له: إنه جرو صغير أشفقت عليه من المطر والبرد. فقال: «لست أفهم هذا الولع بالحيوانات الصغيرة وضمها إلى صدرك وتقبيلك إياها ومناجاتها بأصوات لا معنى لها، وإزعاجي بعوائها ونباحها وموائها.» ثم انتزع مني الجرو وقذف به إلى الخارج.
الأربعاء، لست أنسى ما عشت نظرة الاحتقار التي رماني بها اليوم آدم. كنت عند شجرة تين أقذف ثمرها بالحجارة. وحانت مني التفاتة فإذا آدم يرشقني بهذه النظرة كأنه سمرني بها إلى الأرض، ثم دنا مني وهو يقول: «هكذا ترمين»، وتناول حجرا وراح يقلدني ويتثنى ويتعوج ويلقي الحجر فيقع عند قدميه. وبعد أن شبع من الزراية علي والسخرية مني اعتدل وقال: «هكذا يجب أن تفعلي»، وسدد ساعده القوي وقذف الحجر فانطلق من يده يقول «فوو»، وهوى التين إلى الأرض وتركني ومضى.
الخميس، يقول آدم إنه أخطأ حين علمني «الرماية» كما يسميها ويزعم أن تعليمه إياي أغراني بأشجار الفاكهة، وأني الآن أفرط في أكلها، وإننا مهددون بنفاد هذا الغذاء أو «بالقحط» كما يقول على طريقته في المبالغة. وإنه على أي حال لا يتوقع خيرا من وراء حبي للفاكهة.
السبت، مر اليوم بلا حادث يذكر سوى أن آدم وجدني أتسلق الشجرة المحرمة فجذبني بعنف وحذرني من الدنو منها.
الأحد، قمت من النوم فلم أجد آدم، فذهبت أبحث عنه فلم أهتد إلى مخبئه. وهذه رابع مرة يهرب فيها مني. فعدت إلى الكوخ متعبة وارتميت على الفراش الذي صنعته له من ورق التين، إلا في سبيل الله ما كلفت نفسي من أجله.
الاثنين، لا يزال آدم هاربا وقد حفيت قدماي. وأقلقني هذا الغياب الطويل الذي لا عهد لي ولا له به. أتراه ضل الطريق؟ إنه غريب الأطوار فلا يبعد أن يكون قد خرج من الجنة.
الاثنين، بعد أسبوع كامل قضيته في البحث وجدت آدم في أقصى الشمال. لقد بنى له كوخا صغيرا هناك، له الله! فلولا الحية دلتني على مكانه ... ولكن صبرا.
الثلاثاء، لم أكن أحسب أن الحية تتكلم، وتا الله ما أطيبها وأعذب لسانها وأحلى حديثها. لا أكاد أضمها إلى صدري حين يصافح سمعي قولها «يا فتنة الدنيا ويا أجمل ما في السموات والأرض ويا أم البشر»، ولكن آدم يكرهها ويخافها ويحذرني منها، ويقول: إنها نذير سوء، وإن كان لا يكتمني سروره بأن وجدت من يحادثني غيره.
الأربعاء، كان آدم يتمشى اليوم وهو مطرق ويداه خلفه، ويتمتم بكلام غير مسموع وليست هذه عادته فما رأيته يفعل ذلك من قبل. فتواريت خلف شجرة أراقبه، فلما دنا مني سمعته يقول لنفسه «وماذا أخشى من الموت إذا أكلنا من الشجرة وحل الموت في الدنيا؟ إن الموت مرغوب فيه من أجل بعضهم على الأقل.»
فمن بعضهم هذا؟ سأسأله عنه.
الخميس، قالت لي الحية إنها لم تكن تتكلم ولم يكن لها عقل، ولكنها مرت بشجرة استطابت رائحتها فصعدت إلى أثمارها والوحوش ترمقها وتمد أعناقها فتقصر عن بلوغ الثمر، وكانت جائعة فالتهمت منها ما لا يحسب الحاسب، فتغير كل شيء في عينها، ووجد لسانها السبيل إلى الكلام، وإن كان قد بقي لها شكلها، فوجهت عقلها إلى التفكير والتدبير في كل ما في السماء والأرض وما بينهما، وأضافت إلى ذلك - شكرا لها - أن كل ما في الدنيا من خير وجمال مجتمع في وجهي الملائكي، وأنها لم تر لي نظيرا، وأن هذا السحر الذي في عيني هو الذي جرأها على الظهور لي وأغراها بإدمان النظر إلي. فسألتها عن الشجرة أين هي، فلما دلتني عليها إذا بها الشجرة المحرمة، فأنبأتها بأن ثمرها محرم علينا. فأعربت عن استغرابها بأن تحرم علينا فاكهة الجنة، فبينت لها أن لنا أن نأكل ما نشاء من فاكهة الجنة ما خلا ما تحمل هذه الشجرة، وإلا كتب علينا الموت. فقالت الحية كلاما كثيرا معجبا مطربا شربته أذناي بلهفة، فجعلت أرمق الشجرة، ومنظرها وحده غواية، وفي أذني من الحية عذوبة حديثها، ومضى الوقت وأنا أستمع إلى الحية وأرى الشجرة موقرة بحملها الناضج وأشم عبقه الطيب. وعضني الجوع فامتدت يدي إلى الثمرة فقطفت واحدة ثم ثانية ثم ثالثة فتفتحت عيناي، وأبصرت العري الذي أنا فيه، وقلت لنفسي: في أية صورة أبدو لآدم؟ أؤنبئه بما وقع لي وطرأ علي من التغير وأشركه معي؟ أم أنفرد دونه بالعلم وأسد بذلك النقص الذي مني به جنسي حتى أساويه وربما فقته، فإني أرى ضعفي يسترقني له؟ وهذا حسن، ولكن الله هو الذي رآني وعلم أني عصيته؟ والموت لا بد آت بعد ذلك ولا مهرب منه الآن، وهكذا سأذهب أنا ويخلق الله لآدم حواء أخرى تعيش معه وتسعد بجواره. كلا. كلا إني أحب آدم وأستطيع أن أحتمل كل صنوف الموت معه، ولكني لا أقوى على الحياة بدونه.
وثنيت خطواتي إلى الكوخ ولكني لم أجد آدم، فدرت في الجنة أبحث عنه فلم أعثر له على أثر، واضطررت إلى الاختباء مرارا؛ لأن الوحوش كانت تتقاتل ويأكل بعضها بعضا، ولم تعد تطيعني كالعهد بها، ففررت من الجنة بعد أن اختل فيها الأمن واضطرب حبل النظام، وأصبحت فيها فوضى، وجاوزت حدودها إلى الأرض.
الأربعاء، بعد أربعة أيام طوال وجدت آدم فألقيت عند قدميه الغصن الذي قطعته من الشجرة المحرمة مثقلا بالتفاح الشهي، فنظر إلي نظرة استغراب وسألني عن هذا الورق الذي أستر به جسدي فقلت ستعرف هذا متى أكلت من التفاح، فانتزعه مني وعراني فخجلت فقال: لقد علمت أنك أكلت منه فقد هاجت الوحوش وهمت بأكلي، فركبت حمارا فارها لم يزل يعدو بي حتى عدا عليه نمر فنجوت بجلدي ولما أكد، ورأيت المقام في هذه الجنة مستحيلا، فخرجت منها وسيان عندي الآن أن آكل أو لا آكل فهاتي ما عندك فإني جوعان.
وقضم قضمة وجعل يتذوقها ويقول ما أطيبها والله وإن كانت في غير أوانها! ثم نظر إلى نفسه فأدرك أنه عار واستحيا فستر نفسه بالورق الذي نزعه عن جسدي، ونظر إلي ثم أرخى طرفه وهو يقول: «ماذا تعنين بالوقوف عارية هكذا؟ اذهبي واستري نفسك.» ففعلت.
الخميس، اعترف لي آدم بأنه كان لا يحسن معاملتي ونحن في الجنة وقال: إن عذره هو أن المرء لم يكن يستطيع أن يحسن شيئا في تلك الجنة، وقد كان يخشى ألا ألحق به ويتوقع أن تضنيه الوحدة وتسقمه الوحشة وقبلني «وعرفني»، لقد خسرت الجنة ولكني ربحت آدم ... (2) بعد الخروج من الجنة
الثلاثاء، تالله ما أقسى آدم في هذه الأيام! إنه لا يفتأ يعنفني ويلعنني ويحمل علي من أجل أن أكلنا من الشجرة المحرمة وخرجنا من الجنة، وهو الذي أثنى على ذوقي لما أطعمته من التفاح، وقال لي فيما قال: «هاتي، ما أطيب هذه الفاكهة التي حرمناها! وإذا كان هذا طعم ما حرم علينا فليت الشجرة المحرمة كانت عشرا! وهلم بنا نلعب بعد هذا الطعام الشهي، فما أعرف جمالك قبل اليوم ألهب حواسي كما يفعل الآن.»
ولم يدخر نظرة حب ولا تجميشة غزل، وأعداني وألهبني فقاذفته نارا بنار، ثم تناول يدي ومضى بي إلى غدير ظليل الشاطئ فاضطجعنا على البساط السندسي، ونثرنا حولنا وتحتنا وفوقنا عبق الزهر - الفل والياسمين والنرجس والقرنفل - وروينا من الحب، ثم عقد النعاس أجفاننا فنمنا ملء عيوننا. ويا ليتنا لم نقم! فقد غدا علي يلومني ويتوجع مما صار إليه، ويحن إلى ما كان فيه، فقلت له: إنه لو كان مكاني لفعل مثلي، وذكرته بأنه كان في الجنة يرمي إلي بالزمام ويلقي حبلي على غاربي، وسألته لماذا تركني أفعل ما بدا لي ولم يأمرني - وهو الرجل وأنا المرأة - أن أجتنب الشجرة ولا أقربها؟ لقد كان سلوكه مغريا لي ومشجعا على اقتطاف هذه الثمرة المحرمة.
فثار بي يلعنني ويقول: «أهذا جزاء حبي لك أيتها المرأة الكنود؟ ألم يكن يسعني أن أدعك وحدك للموت الذي جلبته على نفسك، وأن أنجو بنفسي فلا أتبعك؟ أما والله لأنت والحية سواء، وأنك لألم منها وأبغض، وما ينقصك إلا أن تكوني على مثل صورتها وألوانها؛ ليحذرك الخلائق جميعا، ولتتقيك ولا تغتر بصورتك السماوية! ألا لماذا شاءت حكمة الله أن يخلق هذه البدعة ولم يشأ أن يخلق الناس كلهم ذكرانا ويملأ الدنيا بهم إذا كان لا بد من خلقهم؟»
فبكيت واسترحمته وعكفت على ركبتيه أقبلهما وأمسح عليهما وجهي، فرثى لي ولان لي قلبه، فتشجعت وأدليت إليه برأيين يكفلان لنا الراحة ويقيان ذريتنا المصائب التي كتبت عليهم بذنبنا. فسألني عنهما فقلت: الرأي عندي - ما دام الموت لا مفر منه الآن - أن ننتحر، فنستريح ونترك الدنيا كما كانت، لا يعمرها أحد من نسلنا، أو أن نتحرى ألا نجيء إلى الدنيا بنسل، فنحرم الموت حقه ونقضي عليه هو بالموت جوعا.
فقال آدم: يا بلهاء أتحسبين أن الله يتركنا نفعل شيئا من ذلك؟ لقد أخرجتنا مشورتك من الجنة وهوت بنا إلى هذه الأرض، فأين يا ترى تقذف بنا مشورتك الجديدة؟ اذهبي اذهبي!
بعد شهر، لست أمل التجواب في هذه الغابة الكثيفة. فإن لها لسحرا شديد الأخذ. وقد ظللت فيها أمس وإن كنت لم أبعد عن الكوخ أكثر من فرسخ، فنشط خيالي وراح يريني أشباحا ها هنا وها هنا بين الأشجار الغليظة الذاهبة في الهواء التي تحجب الشمس فلا ينفذ منها شعاع. فوقفت برهة أفكر وأتخيل وأشرب نفسي روح المكان، فنعق فوق رأسي غراب ففزعت ثم غضبت على نفسي؛ لأني فزعت ورفعت طرفي فأبصرت الغراب على غصن فوقي يصوب نظره إلي، فاستحييت أن يراني كأنما كان قد فاجأني في خلوتي، فحدجته بنظري فحدجني بنظره، ولم يحول عني عينه، وكان كلانا صامتا لا يقول شيئا، ثم تقدم الغراب بضع خطوات على الغصن ليكون أقدر على تأملي، ورفع جناحه ودلى رأسه من بين كتفيه، ونعق مرة أخرى نعقة أحسست أن لهجتها مهينة مبطنة بالزراية، فلو أنه كان يتكلم مثلي ومثل آدم ومثل الحية لما قال لي بأفصح مما قال: «ماذا تصنعين هنا بالله؟» وليس هذا من شأنه ولا كانت هذه الغاية له، وما من حقه أن يخاطبنا بمثل هذه اللهجة، ولكني لم أرد عليه؛ استنكافا مني للمنابذة مع غراب أسحم، وترفعا عن المهاترة معه، فلبث برهة يدير عينه في، ورأسه ممدود إلي من تحت كتفيه ثم قذفني بإهانتين أخريين لم أفهم معناهما على وجه الدقة، وإن كانت دلالتهما واضحة. فلم أشأ أن أجاريه في بذاءته وأمسكت عن دفع الإهانة. ويظهر أن حلمي أطمعه فقد رفع رأسه وأطلق في الغابة نعقة تبينت أنها نداء، فقد أجابه غراب آخر من قلب الغابة، وراح ذاك يسأل وهذا يشرح له الموقف، حتى ترك الغراب المدعو ما كان فيه وطار إليه وحط إلى جانبه فوقي، ومضى الغرابان الأسودان يتناعبان عني ولا يحفلان بوجودي، فلو أني كنت بعيدة عنهما بحيث لا أسمعهما ولم أكن تحت أعينهما لما أساءا الأدب في حقي إلى هذا الحد، فحرت وارتبكت، ثم بدا أن أدعهما وأمضي في سبيلي وأحسب أن الغرابين الوقحين قد سرتهما هزيمتي فقد مطا عنقيهما وراحا يضحكان مني ويرسلان خلفي الشتائم والإهانات حتى تواريت عنهما، وإني لأعلم أنهما غرابان لا أكثر، ولكنه من المؤلم على كل حال، بل مما يكوي غرور الإنسان أن يرى حتى الغراب يهزأ به ويتماجن عليه ويصيح به: «ما أطول شعرك! أوليس لك ثوب تلبسينه غير هذا الجلد القديم؟ ارفعي ذيله فإنه يكنس الأرض ويثير الغبار.»
ومن الغريب أني ألفيت نفسي عند باب الكوخ قبل أن أفكر في الطريق الذي أسلكه، وهكذا اهتدت رجلاي بعد أن ضل رأسي، لقد كدت أهم بالبكاء ولكن فرحي بالرجوع سالمة أنساني الدموع.
بعد أسبوعين، آدم يحمل علي ويرهقني بالعمل ويكتفي هو منه بالإشراف. ولا أدري ماذا يكلفه «الإشراف»، ولكن الذي أدريه أني مستعدة أن أقوم به عنه وأن أدع له ما أنا فيه، وقد ثقلت وأراني أميل إلى التمرد، وسأدعي المرض غدا فإن لم تصلح الحال بعد فسأهرب وأختفي في بعض الأدغال ليعرف قدري.
بعد خمسة أيام، هربت ثلاثة أيام ثم لم أطق البعد عنه فرجعت إليه وادعيت أني كنت تائهة، وقلت: «إني منهكة ولا أكاد أقوى على النهوض.» فخرج آدم متذمرا وغاب عني اليوم كله فكدت أجن من الشوق إليه، وتبت من ذنبي واعترفت له بالحقيقة.
بعد ثمانية شهور، سميته قابيل، وهو حلو أحمر لا شعر عليه غض اللحم، وأكاد من فرحي به وحبي له آكله! وكان آدم قد خرج للصيد فلما عاد بعد أيام سألني عنه ما هو؟ فلم أدر كيف أقول، وحملته إليه وأدنيته من فمه ليقبله، فظن أني أقدمه له طعاما، ونحى وجهه وصدني بيده وقال: أوحش أنا حتى آكله حيا؟ ولما قلت له: إني «وضعته» وأنا عائدة إلى الكوخ لم يصدقني وزعم أني «وجدته»، وقال: إن به مشابهة مني ولكنه صغير جدا فهو على الأرجح حيوان جديد، وتناوله وجعل يقلبه ويفحصه فبكى وصاح فاختطفته واحتملته وضممته إلى صدري ولاطفته حتى ثاب إلى السكون.
ولما جاء الليل وبكى زعم آدم أن من الحماقة أن أسجن هذا الحيوان معنا، وأنه إنما يبكي ويصيح ويخرج هذه الأصوات المنكرة؛ لأنه يريد أن يعود إلى جماعته، وهم بأن يلقيه خارج الكوخ فعدوت وراءه وصددته. فقال آدم إنه لا يفهم سلوكي هذا، وإنه لم يألف مني هذه العناية بالحيوانات الأخرى.
من مذكرات آدم «لقد تغيرت حواء حتى لأكاد أنكرها، مذ وجدت هذا الحيوان الغريب الذي حفيت قدماي على غير جدوى في البحث عن واحد آخر من مثله، فهي لا تخرج الآن للصيد أو للاحتطاب ولا تكاد تعنى حتى بإعداد الطعام. ولا تخطو خطوة إلا وهذا الحيوان الغريب مضموم إلى صدرها أو محمول على كتفها، وهو لا يكلفنا شيئا؛ لأنه لا يأكل ولا يشرب، وهذا أغرب ما فيه. وأحسب حواء قد جنت فإنها لا تفتأ من حين إلى حين تلقمه ثديها فيعكف عليه بفمه الفارغ كأنه يأكل ولا شيء هناك ؛ فليس أجن منها سواه! وما أغرب منظرها وهي تداعبه وتناجيه وتوهمه أنها تعض أنامله فيضحك، ولم أر قبل هذا حيوانا يضحك. لقد حيرني جدا هذا المخلوق العجيب الذي تسميه حواء «قابيل» والذي لا أدري ماذا هو؟ فهو ليس منا إذا كان لا يمشي مثلنا ولا يتكلم، وليس من الطير فما له أجنحة ثم هو لا ينهض فكيف بالطير، وليس من الحيوان فإن جلده أملس لا شعر عليه وليس له ذيل، وأكثر ما أراه مستلقيا على ظهره ورافعا رجليه في الهواء، ولست أفهم لغته، ولكن حواء تزعم أنها تفهمها وتجيبه إلى ما يطلب فيكف عن الصياح ويضحك وينام، أما أنا فقد تقطع نومي مذ جاءتنا بهذا اللغز، سأغافلها يوما وأسرقه وألقيه في الغابة أو في الغدير فإني في شك منه عظيم.»
بعد بضعة شهور، لا أزال عاجزا عن فهم هذا اللغز الذي كنا في غنى عنه، والذي يشرد عني النوم، ولم أستطع أن أسرقه؛ لأن حواء لا تتركه لحظة وقد نما بسرعة فصار خمسة أضعاف ما كان عليه لما جاءنا، وكان في أول الأمر لا ينفك مستلقيا على ظهره، فالآن يحبو على يديه ورجليه، وقد يباغتني وأنا نائم فيضع يده الصغيرة في فمي أو يقبض على أنفي أو يجذبني من لحيتي، ليست حواء وحدها المجنونة فسيلحق بها سواها قريبا، ولقد أشفقت على هذا اللغز وقلت آتيه برفيق يؤنسه في وحدته ويسليه في غربته بيننا، فجئت بدب صغير ولكنه لم يكد يراه حتى ريع وملأ الدنيا صياحا فلم أجد بدا من طرد الدب ورده إلى حيث كان.
أي شيء هو؟ هذا ما يحيرني! هو قط؟ لا! أو دب؟ لا! أو قرد؟ ربما، ولكن أين الذيل والشعر؟ سنرى.
بعد شهور أخرى، لا يزال هذا اللغز ينمو وهو الآن يقف على قدميه الخلفيتين ويمشي خطوات ثم يقع، وقد ظهر الشعر في رأسه وهو كشعرنا نحن لولا أنه أنعم وأخف وأقل سوادا وألين ملمسا، وكنت أتوقع أن يظهر له ذيل ولكن خيب أملي. وأقول الحق : لقد بدأت أخافه فإن هذا النمو الشاذ الذي لا عهد لي به في حيوان آخر يوقع في روعي أني لم أر آخر هذه الحكاية. وما يدرينا غدا ماذا يكون منه؟ وقد رأيت أن الأحزم أن أنام خارج الكوخ من الآن فصاعدا، وأن أدع حواء وحدها معه، وليس هذا من الشهامة والمروءة في شيء، ولكن ماذا أصنع وهي لا تريد أن تفرط فيه ولا ترضى أن تعتاض منه دبا أو قردا؟ فعليها إذن أن تحتمل وحدها عواقب طيشها وحماقتها.
بعد أربعة شهور، عدت من الجبل بعد غيبة طويلة فألفيت اللغز يمشي على قدميه مثلنا ويذهب حيث يشاء وحده، وينطق بما يشبه كلامنا فيقول «بابا، ماما، أومبو»، فهل علمته حواء؟ لا أدري، وقد نبتت له أسنان ولم ينبت الذيل. ولما كنت سأعود إلى الجبل غدا فسأشير على حواء بأن تكممه.
بعد خمسة شهور أخرى، في كل طوافي وتجوالي في الجبال والغابات والأدغال والأودية والسهول لا أعثر على ند لهذا اللغز، وحواء تجد في الكوخ - نعم في الكوخ ومن غير أن تنقل قدما - لغزا آخر شبيها بالأول من كل الوجوه، فهو من فصيلته ولا ريب، وقد سمته هابيل، وحسنا فعلت، فإن اللغزين شبيهان فما أحقهما بأن يكون اسماهما متقاربين. وقد سرني أنها وجدت للغزها الأول مؤنسا، فما أشك في أنه كان يألم هذه الوحدة ويحن إلى قومه.
اقترحت على حواء أن تدع لي اللغز الجديد أجري فيه تجاربي لعلي أهتدي إلى نوعه وأن تجتزي هي بالأول فأبت أن تصغي إلي، ولم تطق كلامي واحتملتها وخرجت، وتوعدتني بالنزوح عن هذه البقعة من الأرض إذا لم أكف عن التفكير في ذلك. ولست أفهم ذلك من حواء وما أراها إلا جنت تماما؛ لأنه إذا كان قد ثبت أن هناك ألغازا كثيرة، وكانت هي قد وجدت منها اثنين - وجدتهما وحدها وبلا معين - فماذا يضيرها أن تلقي إلي بأحدهما وهي لا محالة واجدة غيره في يوم من الأيام قياسا على ما حدث؟ الحق أن منطق المرأة غريب. ولم أكن أريد إلا أن أفحصه في أوقات الفراغ، فقد خطر لي من حسن تقليده لحواء ولي أيضا أنه ربما كان نوعا طريفا من القرود. ولكن حواء فقدت عقلها، فهي لا تعبأ بشيء من هذه الدنيا سواهما، ولا تأتمني عليهما لحظة.
بعد ثمانية شهور، قالت لي حواء اليوم وعينها تلمع إنها «ستضع» واحدا آخر، ولم أفهم منها قولها أنها «تضع» هذه الألغاز، وهذه الأكاذيب بعض ما يسخطني ويثيرني عليها، ولكني أحسب المرأة لا تكون امرأة إذا لم تكذب، فسألتها عمن أدراها أنها ستجد لغزا جديدا فقالت: بالتجربة. قلت: أية تجربة؟ فمضت بي إلى ركن مظلم في الكوخ وأسرت إلي بصوت خفيض جدا، كأنما كان هناك أحد يسمعنا: إن اللغز معي الآن. فنهضت مذعورا وقلت: معك كيف؟ ودرت حولها أنفضها بعيني فلم أجد معها شيئا. فقالت: إنه في جوفي. فارتعت وقلت: أتراك يا ... قد أكلت أحدهما؟ وتراجعت عنها فضحكت ... إن حواء تخيفني. فلن أنام في الكوخ معها بعد اليوم.
بعد بضع سنين، لقد حللنا اللغز وعرفنا أن هذه الخلائق الجديدة بنونا. وهم الآن أربعة: قابيل وهابيل وبنتان. ولنا العذر إذا كان الأمر قد خفي علينا في مبدئه، فما سبق لنا بمثل ذلك عهد. وهابيل صبي وديع رضي الخلق وهو أحب إلينا من أخيه قابيل الذي أوثر أن يبقى كما كان يوم جاءنا دبا أو قردا أو غير ذلك مما توهمته في صدر حداثته. وقد أدركت الآن أن حواء أصدق مني فراسة وأذكى غريزة وقد زاد حبي لها وعطفي عليها. هي التي تنسيني الجنة وماذا كانت الجنة قبل أن أعرفها.
عاطفة الأبوة
1
قلت مرة لزميل من المدرسين الإنجليز، رزق غلاما: أتحب غلامك هذا؟
فأدهشه سؤالي ولم يخف تعجبه له، وتوهم بادئ الأمر أني أتكلف التشكك، فلما بدا لي منه هذا الريب في صدق سريرتي سألته: أتظن أن فقد الأبناء في طفولتهم يكون كفقدهم بعد أن يرشدوا، ويدخلوا في مداخل الرجال من حيث وقع ذلك في النفس؟
قال: كلا. وإن كنت ولله الحمد لم أجرب هذا أو ذاك.
قلت: وكيف تعلل ذلك؟
فأطرق لحظة ثم قال؟ إني أرد الفرق بين الوقعين إلى مبلغ الجهد والعناء في تنشئة الطفل ورعايته حتى يكبر، فعلى قدر ما نبذل في تربيته يكون حرصنا عليه وضننا به وشعورنا بالخسارة حين نفقده.
قلت: إنكم معشر الإنجليز هكذا دائما، حتى العواطف تقدرونها بالأرقام، على أن تعليلك - مع ذلك - صحيح إلى مدى كبير، وإن كنت لا أشك أنه كان يسعك أن تهتدي إلى عبارة أخرى غير هذه. والآن سؤال آخر: هبك رزقت غلاما ورحلت عن بيتك زمنا ثم عدت وقد شب الطفل وترعرع وأصبح فتى يافعا، أيكون شعورك نحوه كشعورك لو أنك كنت إلى جانبه، تراه في كل ساعة وتراقب نموه وتفتح عقله؟
قال: كلا.
قلت: أتظن أن من الضروري لنمو الشعور بالأبوة أن يكون لجهدك الذي تبذله مظهر مادي، كأن تتولى أنت مثلا الإنفاق عليه والسهر على تعليمه ومراقبة تدريبه بنفسك إلى آخر ذلك مما يجري هذا المجرى؟
قال: وكيف يكون الجهد غير ذلك؟
قلت: ألا يكفي مثلا أن يكون جهد «عاطفة» يحركها ويثيرها قربه منك؟
قال: وما أشك في أن هذا يكفي.
قلت: «نستطيع الآن أن نستخلص أن حياة الطفل هي التي تتيح للشعور الأبوي فرصة النمو، وبعبارة أخرى أن للعادة دخلا لا يستهان به في قوة هذا الشعور. وليس معنى هذا أن العادة تخلق هذا الشعور خلقا ولكن معناه، أنه يكون كامنا في النفس فتظهره، وضعيفا فتقويه، وفاترا فتكسبه الحرارة. والأبوة ماذا هي؟ أليست مظهرا من مظاهر حب الذات والرغبة في تخليدها بتكريرها وإعادتها في شخص آخر هو بعضها؟»
قال: أحسبها كذلك.
قلت: ولكن التخليد معنى، أو إن شئت فقل إنه وهم وخيال تتعلق به النفس وتتعزى عن الفناء الذي تعلم أنه لا محالة مدركها، ولما كان كذلك، فرب نفس تكون أطلب له - بطبيعة استعدادها - من نواح أخرى غير الأبوة، وعلى طريقة غير طريقة التكرير والإعادة - إذا صح أن الأبناء صور معادة من الآباء، وهو غير صحيح، فما أظن بك إلا أنك ترى معي أن هذه الإعادة تكون إسرافا لا معنى له، وسفها لا تسوغه حكمة، وأخلق بالجيل الواحد من الناس أن يغني عن كل الأجيال التي تتلوه إذا كانت ستجيء مطابقة له غير مختلفة عنه، وما أحق الطبيعة في هذه الحالة بأن يحجر عليها.
قال: هذا كله صحيح، بل بديهي ...
قلت: أشكرك!
قال: عفوا. إنما أردت أن أسأل عن النتيجة؟
قلت: أريد أن أقول إن عاطفة الأبوة قد تكون في بعض النفوس أضعف منها في البعض الآخر.
قال وهو يبتسم: ما أراك جئت بجديد.
قلت: بل أريد أن أقول إن بعض الناس لا يصلحون أن يكونوا آباء أو بعبارة أخرى أنهم بطبيعة تكوينهم لا يستطيعون أن يخدموا «النوع» من هذا الطريق، وهؤلاء هم الذين نسميهم النوابغ، ونعني بهم طلاب المجد الأدبي أو الحربي أو العلمي، فكأن مساعيهم تستنفد حيويتهم وتردهم غير صالحين لغيرها، ومن هنا ما يلاحظ من عقمهم أو قلة نسلهم أو سرعة انقراضه على خلاف السواد الأعظم من الناس، وهذا السواد هو الذي يعمر الدنيا ويحفظ النوع الإنساني فيها. •••
والناس أكثرهم لا يفكرون، سألت مرة واحدا من إخواني: لماذا تحب أبناءك؟ فكان جوابه: إنهم بعضه وفلذة من كبده.
ألم يقل الشاعر:
وإنما أبناؤنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
إلى آخر هذا الهراء الذي يعذب في السماع وتأنس إليه النفس وإن كان لا محول وراءه، وقد أردت أن أنبه صاحبي هذا إلى ما بتعليله من المآخذ فقلت: وهل أنت آسف على أبنائك الذين أخطأهم التوفيق ولم يتمكنوا من الانحدار إلى هذه الدنيا؟
قال في وجوم: ماذا تعني؟ من هم؟
قلت: إن الجواب الذي تطلبه يستوجب مني أن أصارحك بحقيقة علمية لا أحسبك تجهلها، فأنا أذكرك بأن الرجل منا ينفث في المرة الواحدة مئات من الملايين من الجراثيم، وكل جرثومة منها كافية لأن تخرج إلى الدنيا طفلا لو ساعفتها الأحوال وآزرها الحظ، ولكنه قلما يكون هناك أكثر من جرثومة واحدة هي السعيدة الموفقة، وما خلاها يذهب كما يراق الماء في الصحراء فالإنسان - إذا اعتبر هذه الحقيقة العلمية - يفقد في كل مرة ملايين من الأبناء بقدر ما يضيع سدى من ملايين الجراثيم، ولولا هذا الاقتصاد في التلقيح لاستطاع فرد واحد أن يعمر لا الكرة الأرضية وحدها، بل مئات من الكرات الأرضية بنسله.
وهذه الجراثيم الضائعة، أو إذا اعتبرت ما كان يمكن أن يكون، هؤلاء الأبناء الذين لم يجيئوا بعضك أيضا، وهم أفلاذك أو أكبادك كما تقول أو يقول الشاعر، فلماذا لا نراك أو نرى أحدا يأسى على فقدهم وهم بعضك، كما تفرح لغلام ترزقه، وتحبه لأنه بعضك؟
الحقيقة أن المسألة ليست أن الأب لا يحب أبناءه إلا لأنهم بعضه، فإن غريزة حفظ النوع قد تكفلت بنشوء العاطفة وبدفع الناس إلى طلب النسل، وهي عاطفة يسهل على الرجل - كما لا يسهل على المرأة - أن يحولها إلى مجرى آخر تخرج منه شيئا مختلفا جدا، وعاطفة جديدة وإن كانت مولدة من عاطفة الأبوة. وهبها لم تتحول فإن من الميسور أن تنمو وأن تستوفي حظها على التبني، كما هو معروف ومألوف.
على أن الرجل والمرأة ليسا سيين في هذه العاطفة، وأكثر الفرق بينهما راجع إلى أن غريزة حفظ الذات أقوى في الرجل من غريزة حفظ النوع، أما المرأة فعلى خلاف ذلك، الغريزة النوعية فيها أقوى من الغريزة الفردية، إذ كانت هي بطبيعة تكوينها، أداة المحافظة على النوع، وليس الرجل سوى عون لها على ذلك، ومن هنا كانت الأمومة وحواشيها أقوى وأبرز من العواطف المنبعثة من الأبوة. •••
بعد هذا الذي أسلفناه لا نظن القارئ يستغرب أن نقول إن عاطفة الإخاء عادة ليس إلا، وإلف لا أكثر ولا أقل، وما أحسبها تختلف في حقيقتها عن عاطفة الصداقة، وكل ما في الأمر أن اشتراك المصالح والنشأة الواحدة تجعل الروابط أمتن والأواصر أوثق. وليس أسهل من فسادها ولا أيسر من تفكك عراها إذا وقعت النبوة بين الأخوين لسبب من الأسباب، فلا مبالغة إذا قلنا إنها عاطفة لا تتميز إلا في الظاهر وإلا من حيث الاعتقاد العام فيها ، عن أية عاطفة تنشأ بين اثنين من أبناء آدم. وليس بالنادر ولا من الفلتات أن تؤدي أعاجيب ما تحدثه الوراثة إلى جعل الأخوين أشد ما يكون اثنان تنافرا، وقلما يفقد الوالدان حب بنيهما أو الولد حب أبويه، ولكن ما أكثر ما يقع من التعادي بين الأخوين ويتباغضان؛ ذلك أن للأبوة أو الأمومة أصلا تحور إليه ويبقى لها إذا فقدت كل معزز أو مقو، ولكن ما بين الأخوين لا يرجع إلى أكثر من المصادقة.
والناس يدركون هذا ويفطنون إليه بالسليقة وإن كانوا قل أن يفكروا فيه، فتراهم يطلقون لفظ الإخاء والتآخي على الصداقة، ولا يستكثرون أن ينزلوا الصديق منزلة الأخ، ولا يحسون أنهم هبطوا بمرتبة الإخاء من أجل ذلك، ولكن الأبوة عندهم وعلى ألسنتهم في كل لغة لها مقامها الذي تنفرد به ومنزلتها الملحوظة التي لا تدانيها منزلة. وليس أصدق من فطرة الجماعات ولا أصح أو أدق من تقديرها لهذه الصلات بما تجريه على ألسنتها - عفوا ومن غير تدبر - من العبارات الواسعة الدلالة العميقة المغزى.
2
قال لي صاحب قديم خلطته بنفسي زمنا: أصحيح هذا؟
قلت: ماذا؟
قال: هذا الذي كتبته عن عاطفة الأبوة.
قلت: وما سؤالك أنت، أإنكار هو أم أسلوب جديد في الإعراب عن الموافقة؟
قال: أما ما ذكرت عن عاطفة الإخاء وأنها لا تختلف عن الصداقة في أصولها، وأن الناس يفطنون إلى ذلك بالسليقة فينعتون الصديق بالأخ، فصحيح، وكذلك ما أشرت إليه من أعاجيب الوراثة قد تقضي إلى التنافر بين الأخوين.
قلت: إن التعادي قد يقع بين الأخوة حتى من غير أن يكون للوراثة دخل، وما أكثر الأسباب التي تؤدي إلى انفراج الحال ووقوع النبوة، كأن يكونوا من أم واحدة أو أب واحد - أي غير أشقاء - أو يكون أحدهم أكثر توفيقا في الحياة، أو آثر عند أبويه وأحب إليهما. وأحسبك تذكر قصة يوسف - عليه السلام - وحسد إخوته له لأنه أحب إلى أبيهم منهم:
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين * إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين * قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين .
وهذه الآية الكريمة تريك كيف يتحدث الأخوة بقتل أخيهم ويأتمرون به ويتفقون على إلقائه في الجب وتركه لمن عسى أن يلتقطه من المارة، ويذهب به إلى حيث يشاء من الأرض، ويبيعه أو يتخذه عبدا له أو يصنع به ما يحب، كأنما لا يجري في عروقه نفس الدم الذي يجري في عروقهم، وكأنما لا تربطهم به صلة ولا تعطفهم عليه آصرة، وكل هذا لماذا؟ لأن أباهم فيما يرون أحنى عليه منه عليهم وأكثر شغفا به ورقة له!
وأدل من ذلك وأولى بالملاحظة أن أباهم نفسه يدرك بفطرته السليمة وبإلهام حبه ليوسف، أن كون يوسف أخا لهؤلاء ليس يمانعهم أن يسيئوا إليه ويكيدوا له غيرة وحسدا، تأمل هذه الآية:
إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين * قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين .
والتاريخ حافل بقصص الأمراء الذين لم يتحرجوا أن يقتلوا إخوانهم ليتبوءوا عروشهم أو ليحلوا محلهم في ولاية العهد أو ليتقوا تآمرهم عليهم، لا بل ليستولوا على زوجاتهم، وقل أن يقتل الولد أباه، وأقل من ذلك وأندر أن يغتال الوالد ولده، وعلى أي شيء تدور قصة هاملت الخالدة؟ أليس محورها كله أن عمه اغتال أباه وأفرغ السم في أذنه وهو نائم في الحديقة، ليخلفه على الدولة، ثم لم يرعه شيء أن يتزوج من كانت امرأة أخيه؟ والناس لا يستفظعون أن يتخذ المرء زوجة أخيه زوجة له بعد أن يسرحها أو يموت عنها، ولكن ما أشد استفظاعهم لأن يبني المرء بمن كانت زوجة لابنه وأفظع من ذلك أن يتزوج امرأة أبيه؛ لأنها في منزلة الأم، حتى لقد حرمت الشرائع ذلك، على حين كان المصريون يتزوجون الأخت ولست أذكر هذا إلا على أنه مظهر للشعور الفطري العام الذي تقوم على قاعدته الشرائع والقوانين، وتدور عليه الآداب الصادقة لا التقليدية المتكلفة.
قال صاحبي: هذا صحيح، ولكن ألا ترجع عاطفة الأبوة إلى أكثر من العادة والإلف؟
قلت: من قال إنها عادة ليس إلا؟
إن الشعور الأبوي مرجعه إلى غريزة حفظ النوع كالحب، وأساسه في الرجل والمرأة واحد، غير أن الرجل أقوى تمثيلا في حياته الفردية منه للنوعية، أعني بذلك أن غريزة حفظ الذات أقوى فيه من غريزة حفظ النوع، ذلك أنه هو الذي يتولى مكافحة الطبيعة بما فيها من قوى وكائنات من جنسه وغير جنسه، وهو المتكفل بالسعي والذي يتعرض بسبب هذا كله للأخطار، فلا غنى له عن الاحتيال لدفعها بالقوة إذا تهيأ له ذلك، وبالحيلة والتدبير وحسن التصرف وما إلى ذلك إذا أعوزته المنة، والحياة ليست باللقمة السائغة فهو محتاج إلى مغالبة الصعاب ومعالجة تذليلها، وهو في كل خطوة يخطوها يصادف ما ينبه غريزة حفظ الذات أو صيانة النفس، ومن أجل هذا - كما قلت في «حصاد الهشيم» - صارت هذه الغريزة أقوى وأنضج وأسرع تنبها وأكثر عملا؛ لأن حياته تجعل أعماله متصلة بها أكثر من اتصالها بغريزة حفظ النوع، وهو لذلك أحس بها وأسرع تأثرا من ناحيتها، ومن هنا كانت الأنانية في الرجل أظهر وأقوى. والعامة يلاحظون ذلك ويفطنون إليه ويذهبون فيما وضعوه من أمثالهم إلى أن الأم أحنى على طفلها من أبيه. وقد ترى الرجل يداعب طفله برهة أو ساعة، ولكنك قل أن تجد رجلا يقوى على ما تقوى عليه المرأة من ملازمة الطفل، والمثابرة على مداعبته والصبر على التحدث إليه، ومن توهم فهم ما لعله يرتسم على صفحة وجهه من الحركات أو يند عنه من الأصوات، واحتمال ذلك وما هو أشق منه ساعة بعد أخرى، ويوما بعد يوم، وشهرا تلو شهر، وحولا عقب حول.
أما المرأة فخلقت للنوع قبل أن تخلق لنفسها، وهي في سبيل النوع تحمل وتضع وتتعرض للموت الوحى ساعة يجيئها المخاض. وتكوين جسمها شاهد بأنها مجعولة أداة للنسل ووسيلة لحفظ النوع، ففي جوفها مكان معد للجنين تحمله فيه تسعة أشهر كوامل، ولها ثديان يدران اللبن، وجسمها مركب بحيث يتحول الغذاء إلى لبن ترضعه طفلها وتغذيه به حولا كاملا على الأقل.
فالعاطفة موجودة، ومردها عند الرجل والمرأة إلى هذه الغريزة النوعية، ولكن اختلاف الرجل والمرأة من حيث التكوين وما أعدتهما الطبيعة له، ومن حيث طبيعة الحياة يجعل هذه العاطفة أقوى في المرأة وأنضج منها في الرجل، ثم تجيء الصور الذهنية التي تحصل لكل منهما فتزيد هذه العاطفة وتضرمها. وهذه الصور عند المرأة حشد حاشد وبحر زاخر لا آخر له ولا نهاية، فهي لا يسعها إلا أن تذكر ما عانت في شهور الحمل وما جربت في أطواره وأحست من حركات الجنين في جوفها، ثم ما كابدت من عذاب الوضع، وكم ألف ألف صورة تحصل في ذهنها بعد ذلك، مذ كان طفلها وليدا إلى أن يشب عن الطوق ويدخل مداخل الرجال أو النساء، وكل حركة ومصة من ثديها وابتسامة ونظرة وتعبيسة وعولة وصوت ونهضة وعثرة وخطوة، كل ذلك منقوش على صفحة قلبها مرتسم على لوح صدرها مذخور في رأسها، وجوها حافل بهذا الطفل، وحياتها كلها دائرة عليه غير منفصلة عنه، وماضيها كان تمهيدا له، وحاضرها مستغرق فيه، ومستقبلها آمال منوطة به، وأخلق بهذا أن يعيننا على تصور روعة الأمومة وعمقها وسعتها وانطواء كل أحساس فيها، وتسرب كل شعور إليها ومنها. ولما كان نصيب الرجل من هذه الصور التي تحصل في نفس المرأة أقل وأضأل، فلا عجب أن يكون غذاء العاطفة الأبوية أتفه جدا مما يغذي عاطفة الأمومة. وهل الحياة إلا الصور التي تحصل في الذهن؟
يقول ابن الرومي في رثاء ابنه:
توخى حمام الموت أوسط صبيتي
فلله كيف اختار واسطة العقد!
على حين شمت الخير من لمحاته
وآنست من أفعاله آية الرشد
طواه الردى عني فأضحى مزاره
بعيدا على قرب قريبا على بعد
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها
وأخلفت الآمال ما كان من وعد
لقد قل بين المهد واللحد لبثه
فلم ينس عهد المهد إذ ضم في اللحد
ألح عليه النزف حتى أحاله
إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد
وظل على الأيدي تساقط نفسه
ويذوي كما يذوي القضيب من الرند
إلى أن يقول:
وإني، وإن متعت بابني بعده
لذاكره ما حنت النيب في نجد
وأولادنا مثل الجوارح أيها
فقدناه كان الفاجع البين الفقد
لكل مكان لا يسد اختلاله
مكان أخيه في جذوع ولا جلد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه
أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي
أريحانة العينين والأنف والحشا
ألا ليت شعري هل تغيرت من عهدي؟
كأني ما استمتعت منك بضمة
ولا شمة في ملعب لك أو مهد
محمد ما شيء توهم سلوة
لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما
يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا في ملعب لك لذعا
فؤادي بمثل النار من غير ما قصد
فما فيهما لي سلوة بل حزازة
يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي
ولم نورد القصيدة كلها وإن كانت أبياتها جميعا من هذا الطبق الرفيع، وإنما اقتصرنا على ما فيه تمثيل لما نريد، والذي نريد هو أن «نمو» عاطفة الأبوة أو الأمومة رهن بالصورة الحاصلة في الذهن وبجهد النفس وبالأمل الناشئ. وفي هذه الأبيات المتخيرة صور عدة - صور قبلات يذكر الأب حلاوتها، وشمات لا تزال تتضوع إلى أنفه، وضمات لا يفتأ يحسها، وملاعب للطفل وعين أبيه ترعاه وتلاحظه، وذكريات شتى يهيجها الغلامان اللذان أخطأهما الموت، بل كل شيء يهيج الشاعر إلى التذكر، وللمهد صورة وللحد أخرى، ولما كان للآمال فيه صور شتى ولما صار إليه في التراب صور غيرها، يتخيلها الشاعر ويتساءل عنها مشفقا موجعا فيقول: ... ... ... ...
ألا ليت شعري هل تغيرت عن عهدي
ولصحته صور محببة ولسقامه وذبوله وما أصابه من النزف وذواه على الأيدي، صور تكوي الفؤاد وتلعج القلب، وللمحاته وبشائرها وأفعاله وما كان يأنس منها، وللرجاء فيه والفرح به وانتظار ما سيكون عليه ويصير إليه، لكل ذلك صوره العالقة بالنفس المتشبثة بالضمير، وهكذا إلى غير نهاية. وأين تكون نهاية هذا العالم الحافل بالذكريات المحشودة الزمر؟ وما ظنك بالأم وعالمها أحفل، وزمر ذكرياتها أحشد!
والذين تتحول هذه العاطفة الأبوية في نفوسهم إلى مجرى آخر، أعني الذين يتبنون الآداب أو الفنون أو العلوم أو ما شاكل ذلك، يستغرقهم حب ما انصرفوا إليه وتخلوا له، ويدري الناس مبلغ استغراق ذلك لنفوسهم واستيلائه على هواهم فيعجبون ويعدونه شذوذا ويحصونه عليهم، ولو أنهم فكروا في أنهم اعتاضوا من الأبناء هذا الذي شغفوا به، وأنها هي عاطفة الأبوة في صورة أخرى ومظهر جديد، لما بدا لهم في أمرهم وجه غرابة أو شذوذ، ومن الذي يستغرب من الأب حب بنيه ووقف حياته عليهم وإفراغ جهده في سبيلهم وقصر سعيه على خدماتهم؟ لا أحد! بل هذا هو المعقول، فمم يدهشون ويعجبون حين تلبس هذه العاطفة ثوبا آخر أو تتدفق في مجرى جديد أو تتخذ صورة غير المألوفة؟
كيف كنت عفريتا من الجن
كان ذلك وأنا فتى يافع أسوم كل سرح، وأنهز بكل دلو، ولا أفكر في غير الساعة التي أكون فيها، ولا أبغي إلا أن أستوفي حظي في الحياة، وأن أستوثق من أن كرعتي منها راوية. وفي ليلة من ليالي الصيف الحميدة، ثنيت الخطا إلى البيت - وكان في حي «الصليبة» - بعد أن قضيت وطري من شراب وسماع، فلما بلغته ووقفت على عتبته، ذكرت أن ليس به أحد سوى جدتي التي أوفت على التسعين، وأن المفتاح ليس معي، فقلت لنفسي «أيليق أن أزعج الجدة وهي تقوم مجهدة ولا تسير إلا إلى جانب الحيطان لتضع يدها عليها وتسند نفسها؟ كلا، أولى بي أن أدعها مستريحة وأن ألحق ببقية الأسرة - أمي وأخي - والجو رائق والمشي منعش.»
وأوليت الباب ظهري وانصرفت. ولم يكن الطريق إلى الإمام، في تلك الأيام معبدا، ولا ترام هنا ولا نور، فليس طريق بأحسن أو آثر من طريق، فاخترت أقصر مسلك وهو الذي يمر بمسجد «السيدة نفيسة» ويخترق المقابر المبعثرة وراءه، ويتصل بالطريق العام المطروق عند آخره ومضيت أخبط فيه، وأتخبط أيضا؛ لأن كثرة المقابر وانتثارها وتزاحمها تضل ولا سيما في الظلام، غير أني لم أكترث لذلك ولا فكرت فيه، وفوضت الأمر لرجلي تدبان حيث ألفتا أن تدبا في أوقات شتى من النهار والليل، وانطلقت أفكر فيما كنت فيه، وأردد فيما راقني سماعه وأرجع ما شجاني من الأنغام، وأعيتني «مقطوعة» وأحسست أن المشي لا يعينني على ضبط الصوت فيها وإخراجها كما ينبغي، فوقفت وأسندت ظهري إلى قبر وذهبت أغني، وهي صورة لا تزال ماثلة بذهني إلى هذه الساعة وإن كنت في ليلتي تلك لم ألتفت إليها، ولا جعلت بالي لها، وكيف يعبأ شاب ثمل بالقبور وما انطبقت عليه؟! وعلى أنه متى كان المرء في صدر العمر يفكر في الموت على أنه حقيقة قريبة لا مهرب منها ولا معدى عن مواجهتها؟ إن الإنسان منا ينظر في شبابه إلى الموت - حين يجريه شيء بباله - كما ينظر إلى شيء وراء الجبل، لا يفهمه ولا يدركه ولا يعرف كنهه ولا يتصوره إلا على أنه المجهول البعيد. ويشغله صعود الجبل وما يلقاه على هذا الجانب منه، وما يفتنه وهو يتوغل حتى يدنو من القمة، فتتزاحم في رأسه الخواطر والتكهنات عما وراء هذه الرباوة التي قضى الشطر الجميل من حياته في الصعود إليها، ويحضر إلى ذهنه شيئا فشيئا معنى الموت ومؤداه، ثم يستبد بخاطره ولا يخاطره، ويكون الإصعاد قد هد القوى كثيرا وأنهك الجسم فيتبلد إلى حد كبير من فرط التعب، ويواجه فكرة الموت في شيء من الذهول يذهب برهبة الفناء ويسلبه الفزع.
وقفت إذن أغني على القبر وأرسل الصوت في ظلمة الليل غير حافل بما حولي من القبور المتزاحمة أو عابئ بما تحتي من الرفات الدفين. رفات قوم كانوا مثلي في ميعة العمر وعنفوان الحياة وجهل الشباب يمرحون ويغنون ولا يفكرون فيما يصير إليه كل حي من الفناء الشامل. وما فتئت على هذه الساعة أعجب لذهولي إذ ذاك عن الموت وأنا في وسط لجته الراكدة. إن الشباب رحمة، وكيف كانت الحياة تكون لو أن فكرة الموت كانت تخامر النفس من المهد إلى اللحد؟ كان حريا بها إذن ألا تطاق وكان خليقا بالمرء أن يكف عن كل سعي، وأن ينفض يده من كل جهد يبذله في سبيل أية غاية بالغة ما بلغت من السمو والفتنة، وما خير الحياة أو جدوى المساعي أو عزاء الغايات وهذه الهاوية مفتوحة لابتلاع الإنسان؟ إن الموت هو اليأس، ومن رحمة الله بالخلق أن الحياة أقوى، وأن إحساس المرء بها أعظم، وأن وقعها في نفسه أشفع وأن استيلاءها عليه أتم، والشباب قوة دافقة، والحياة معه تكون جديدة، فلها كل حلاوة الجدة وسحرها، ولكنها في الكهولة تكون شيئا مألوفا وتجارب معهودة معادة، ومن هنا لا يحس الإنسان بالفزع حين يخطر له أنه سيكف عن هذه الحياة التي ظل يذوقها حتى كاد يحتويها، ولولا أن الحياة عادة ككل شيء في الدنيا، وأن المرء يألف أن يعيش وأن يتنفس الهواء لما استثقل أن يموت وأن ينقطع عن الدنيا، فالعادة والخيال الذي ينمو مع العمر، والإحساس بالنفس، هذا هو الذي يجعل الموت صعبا وتجعل لمفارقة الحياة ألما. وعلى خلاف ذلك الأطفال والحيوان.
وبينما أنا واقف أغني لمحت شبحا مقبلا ولم أشك في أنه رجل، فما تجرؤ المرأة - إلا في الندرة القليلة - أن تسير بين القبور في الليل فكففت عن الغناء وساورتني الشكوك. وخطر لي أن القادم قد يكون لصا، وقد لا يكون ذلك، ولكن وحشة المكان وسكون الليل قد يغريانه بالتلصص. غير أني طمأنت نفسي، وقلت - وماذا أخشى وليس معي شيء يستحق السرقة؟ إن هي إلا بضعة قروش لا تغنيه إذا فاز بها، ولا تفقرني إذا خسرتها، وأنا بعد خفيف الوزن سريع العدو وعارف بالمداخل والمخارج، وما أحسبه يستطيع أن يدركني إذا أطلقت ساقي للريح، فلا خوف من القادم، وليكن من يشاء، وليس من الحكمة أن أدع الخوف يشيع في نفسي فتظهر دلائله في صوتي وحركاتي، فيطمعه ذلك في إن كان رجل سوء، على أن الحزامة مع ذلك أن أتوارى خلف قبر منزو، لأراه دون أن يراني، ولا أعرف ماذا هو، وليسر أمامي وأكون أنا وراءه فذلك أدعى إلى الاطمئنان.
ودنا القادم فإذا هو شيخ كهل، أبيض اللحية وفي يده سبحة، وهو يذكر الله أو يتلو من القرآن أو لا أدري ماذا كان يتمتم، وبأي كلام كان يحرك شفتيه، فغاظني أن هذا الشيخ الضعيف قد أفزعني، وكأنما تحركت نفسي للانتقام منه، فغافلته في بعض الطريق وظهرت له فجأة من وراء قبر، فريع المسكين وكاد يتهافت إلى الأرض، وأسرعت فتواريت وعدت أدراجي مسافة قبر أو قبرين - أي بضعة أمتار - وكان الرجل يتلفت حوله فلا يبصر شيئا ولا يسمع حسا فشد بعضه إلى بعض وتفل يمنة ويسرة ورفع صوته باستعاذة من كل شيطان رجيم، واستأنف التلاوة والسير، وأنا أتسلل بين القبور وراءه، وصارت خطاه أسرع، فأدركت أن الخوف لا يزال في قلبه، ووثبت إلى جانبه مرة أخرى، ومددت يدي بخفة فجذبت شعر لحيته فصرخ واختفيت، ودرت من وراء القبور فسبقته وأنا أكاد أجن من السرور والجذل، وصدري يكاد ينفجر بالضحك المكتوم، وصبرت حتى مر بي فدفعت يدي إلى خصره ودغدغته، فأقسم لقد وثب الرجل عن الأرض كأنما كنت قد غرزت في جنبه سيفا أو حديدا محميا ورأيت فرصتي سانحة؛ فقد بلغ الاضطراب بالرجل غايته، وصار يخلط في كلامه كالذي لا يعي ما يقول، فكان يصيح «أعوذ بالله من ...» من فرط ما أصابه من الفزع. وجئته من ورائه ورفعت صوتي بالزمزمة وبكل ما أستطيع إخراجه من الأصوات المنكرة فانطلق الرجل يعدو!
وهكذا أفلت مني ... وكنت قد تعبت فلم أحاول أن ألحق به، فمشيت متمهلا ونفضت التراب عن ثيابي وخرجت إلى الطريق العام المطروق وبعد قليل - ربع ساعة أو نحو ذلك - بلغت مسجد الإمام الشافعي، وكان المؤذن يمهد للأذان بغناء سخيف، والناس يخرجون إلى المسجد ليتهيئوا لصلاة الفجر، فرأيت جماعة يحيطون بصاحبي الشيخ وهو يقول لهم: «وكان كالقط الأسود، يثب على كتفي ويلحس لي خدي وينفذ من بين رجلي، ويدخل بين الجبة والقفطان، وكنت أستعيذ بالله فتنشق الأرض ويغيب في جوفها، ولكنه كان يعود فيظهر لي أحيانا في صورة الدبة راكضا على يديه ورجليه، وأحيانا أخرى في مثل كفن الميت خارجا من تحت أحجار القبر، وقد تمزق اللثام عن وجهه وبرزت عيناه تقدحان بالشرر فأتلو ما تيسر من القرآن فيلتف الوجه في خرقة ويهوي الجسم إلى جدثه. ولست أنسى ما حييت أسنانه! لقد كانت كالجمرات لامعة حمراء وكانت تضطرب في فمه وتخفق كالنجوم والحمد لله الذي أنجاني من عناقه ...»
فقال أحدهم: «أتراه هم أن يعانقك؟»
فقال الشيخ: «هم؟ هم يعني ماذا؟ أقول لك: إنه مد ذراعين كأنهما مئذنتين ودنا مني ليطوقني بهما، ولمع الشوك الذي في صدره كأسنان الحراب فلولا أن ألهمني الله أن أقرأ آية الكرسي لكنت أنا الذي مت.»
قال آخر: وهل مات؟ غريب!
فقال الشيخ: «لقد احترق، أحرقته آية الكرسي. ثم استأنفت السير حتى بلغت هذا الطريق عند ...»
ودار بوجهه ليشير إلى المكان الذي نفذ منه إلى الطريق العام فأبصرني وراءه فاضطرب وصاح وهو يشير إلي بيديه: «أهه. أهه ... أهو ...»
فلم يفهم أحد سواي معنى صيحته وإشارته، ورددت الضحك الذي ازدحم في حلقي والتفت ورائي، كأنما أريد أن أنظر إلى حيث يشير، وكان الرجل يتراجع ويلصق بالناس فسأله بعضهم: «أين؟ إنا لا نرى شيئا!»
فمسح الشيخ وجهه بكفه وفاء إلى الهدوء وقال: «غريب! غريب! إن هذا الأفندي يشبهه جدا.»
فلم أر مانعا من الضحك وقلت: «أترى لي وجه عفريت؟»
وكان بين الواقفين رجل أعرفه ذكيا خبيثا ويظهر أن الشك خالجه في الحكاية أو أنه فطن إلى بعض الحقيقة فقال لي: «اسمع. من أين جئت؟»
قلت، وقد أدركت ما يرمي إليه: «جئت من هذا الطريق.»
وكان هذا كذبا أو بعض الحقيقة. ولكني خفت أن يجر الصدق علي الفضيحة. فعاد يسأل: «هل جئت من السيدة نفيسة أو من القلعة.»
قلت: «من القلعة ولا شك. ومن الذي يجرؤ أن يمشي بين القبور؟» فتمتم شيئا لم أسمعه ومضى عني ونجوت.
وهكذا عرفت أني كنت في ليلتي عفريتا من الجن!
رجل ساذج
كان لنا - ونحن شبان - رجل ساذج لم يعرف سوانا. كأنما قد هبط علينا من السماء. وكان الواحد منا يذكر معارفه أو يصف القرية التي هو منها، أو يقص علينا مغامراته، أو يحدثنا بمعاشقه، ويعرض ما عسى أن يكون محتفظا به من مثل خصلة شعر أو منديل أو نحو ذلك، وهو واجم كئيب لا يفتح فمه. وكان يخشى ركوب الماء ويجزع من اضطراب الزورق على متنه، ولا يزال ينتقل من جانب كلما مال، ولقد اضطررنا مرة أن نشده إلى سارية الزورق لنستريح من قلقه.
وأنشدته مرة قصيدة ابن الرومي التي يصف فيها ما لقي في البر والبحر من التباريح والمخاوف. فلما بلغت قوله:
ولم لا ولو ألقيت فيه وصخرة
لوافيت منه القعر أول راسب؟
ولم أتعلم قط من ذي سباحة
سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب
وأيسر إشفاقي من الماء أنني
أمر به في الكوز مر المجانب
وأخشى الردى منه على كل شارب
فكيف بأمنيه على مر راكب؟
صفق وتحمس وقال: إن هذا «رجل عاقل»، وبعد أيام انتحى بي ناحية وسألني أتعرف ابن الرومي؟ فلم أعجب لسؤاله وقلت: «نعم.» قال: «أرجو منك أن تعرفني به.» فوعدته أن أفعل. وشاورت إخواني كيف أصنع؟ ولما اتفقنا، قدمته إلى شيخ وقور كث اللحية إلا أنه أحمق سريع الغضب وفي وسع القارئ أن يتصور ما وقع. وبحسبي أن أقول: إن صاحبنا خرج من مجلسه وقد أصابته عكازة الشيخ على رأسه وركبته، وكانت إصابة الركبة أوجع فظل يظلع أياما. وسألته بعدها عن ابن الرومي كيف وجده؟ فكاد الدمع يطفر من عينه وقال في سذاجة محببة إلا أنها مغرية: «الحق علي. إن التهجم على كبار الناس سوء أدب ...»
ولست أنسى ما حييت حادثة أردنا أن نركبه بالدعابة فيها، فأفضت إلى مأساة أو ما هو في حكمها. ذلك أننا أوهمناه أن فتاة رومية تعمل في «بار» شهير تحبه، وألححنا عليه بذلك حتى صدق، وكنا نجيئه بقليل من الفستق أو الشكولاتة ونزعم ذلك هدية منها إليه، وكان هو حييا يخجل حتى من مخاطبة الأغراب من الرجال فكيف النساء! فجعل يغشى هذا «البار» في الساعة التي يكون على الفتاة أن تجلس فيها إلى «الكيس» ويجلس بحيث يراها ولكن على بعد، فندعه أحيانا، وأحيانا أخرى نلحق به ونثني على جمالها ونتنافس في وصف مفاتنها، فيشرق وجهه وتومض عيناه، كأنما يحمد منا الثناء على حسن اختياره! ونروح نسأله: ألا ترى كيف تغمز بعينيها؟ أليس من الواجب أن تبادلها غمزة عين بغمزة عين؟ فيفعل المسكين ونجاهد نحن أن نخترع سببا لما ننفجر به من الضحك. وما زلنا نحثه على استعمال إشارات الحب حتى صار يدخل البار ومعه طاقة شتى من الورود ما بين حمراء رمز الحب المتقد، وبيضاء عنوان الطهر والعفاف، وصفراء للدلالة على ما أصاره إليه السهر والبكاء واللهفة من ذبول لونه، فيجلس ويشرع يخاطبها بهذه اللغة الدقيقة، حتى إذا فرغ من هذا المعجم استعمل المناديل يضعها على فمه، أو يكفكف بها الدمع الموهوم أو يفكر ما بين أصابعه. ولم يعد يبالينا أو يحفل بغيرنا من الناس، فقد اضطرمت نفسه ولعجه حب هذه الفتاة.
والحق أقول: إننا أسفنا لما تبينا ما صار إليه الأمر، ولكنا لم نستطع أن نثنيه عن هذيان قلبه، وكان كما قلت ساذجا جدا حييا إلى درجة تفسد الحياة وتحيل الانتفاع بها من المستحيلات، ولكن الحب خلق شخصا جديدا وأسعفت السذاجة الحب وأعانته على الاستبداد بنفسه، وما راعني يوما إلا هذا المسكين يعود إلي ويقول: «هنئني.»
قلت، وقد طاف برأسي أن المستحيل قد وقع: «بأي شيء؟»
قال: «لقد خطبتها!»
قلت، ولم أستطع أن أخفي دهشتي: «خطبتها؟ أنت؟»
قال: «نعم، ألست أحبها؟!»
فلم أدر أؤهنئه أم أرثي له؟ وخرجت من هذه الحيرة باجتناب الاثنين جميعا وسألته: «ومتى الزواج إن شاء الله؟»
فطال وجهه فجأة وحاول أن يبتسم، ولكنه لم يوفق إلا إلى جعل وجهه مفزعا وقال: لن أتزوجها. وكأنما أحس أن الأمر يحتاج إلى إيضاح، فزاد على ذلك «أعني أني أظن خيرا لي ولها ألا أتزوجها.»
فلم أرني زدت بإيضاحه إلا حيرة فصحت به بلهجة قاسية: «إنك مغفل.»
فأدهشني أن تنبسط أسارير وجهه وأن يقول: «نعم أنا مغفل ولم أكن قط أجهل ذلك. وأنت تعلم أني أحبها وقد خاطبتها في الزواج. فكانت كريمة جدا مؤدبة جدا. لم ترفض ولكنها لم تقبل أيضا. والحق أقول يا صاحبي. لم يسعني إلا أن أصارحها بأني ... كما تعلم مغفل، وأنها تكون أسعد لو تزوجت رجلا ... رجلا ... غير مغفل ... يجب - ما دمت أحبها - أن أقدم خيرها على رغبتي. أليس كذلك؟ إن من حقها علي وواجبي نحوها أن أراعي مصلحتها ... قل لي أليس هذا خيرا؟»
فلم أقل شيئا ومضيت عنه لا ساخطا ولا ناقما، ولكن فائض النفس جائش الصدر وماذا عسى أن أقول لهذا المسكين الطيب القلب؟
ولم نضحك بعدها منه أبدا.
ابن البلد
البلد القاهرة أو مصر - كما كانت، وكما لا تزال تسمى هذه العاصمة - أو طائفة من الأحياء هي الواقعة بين العباسية والسيدة زينب، وابنها شخصية شاع فيها الفناء علوا وسفلا، وعفت عليها المدنية فلا يكاد المرء يلتقي بها في هذا العصر، وما أسرع ما تداعت الأسوار وطغى عباب الحياة! قبل عشرين سنة فقط كنت ترى ابن البلد هذا «مستفيضا» وتلقاه في حيثما تكون ولا تخطئه عينك وهي تدور بلحظها، فهو رجل دنياه مصر أو تلك الأحياء القديمة منها، لا يعرف غيرها ولا يكاد يدري أن فوق ظهر الأرض سواها، وهبه يدري فما أقل ما يعبأ بذلك أو يحفله، والزمن عنده اللحظة التي يكون فيها، وهو ذكي إلا أنه جاهل، وظريف سوى أنه مغرور، وحي ولكنه لا يحيا إلا بحراسة، تدور الدنيا حوله على محورها أو على قرن الثور الذي يحملها ويدور رأسه معها ولكنه لا يعرف ولا يرى شيئا ولا يسأل عن شيء ولا يكترث لشيء ويحتقر الريف لأنه يجهله، ويزدري المدنية لأنه لم يألفها، ويعتز بنفسه ويستضخم أمرها؛ لأنه سهر الليالي وأحياها بالغناء والشراب والعربدة، وهو مثال الرضا عن النفس والجود الذي يخلفه هذا الرضا، وإذا كان يرى كل شيء من قريب فما من شيء يدعوه إلى العجب أو يبتعث الرغبة في الاستطلاع، وكل إحساس له يصل إليه عن طريق الفكاهة، وأشد ما يبغض أن يضطر إلى الجلد والوقار، وليس في نفسه محل للاعتراف بالجميل، والأمر عنده مجاملة متبادلة أو حق له أن يجيبه وعليك أن تؤديه، هو المثل الأعلى لنفسه - أو لعله جار سابع أو ثامن - فليس لغير نفسه احترام ولا مطمح له إلا أن يظل قادرا على التحفظ بمظهره، فلا عناية له بالسياسة أو شئون الحكم، وبحسبه من العلم بالحكومة ومهماتها أن يرى مواكب رجالاتها، ومن التطلع إليها أن يتصور نفسه راكبا مركبة المحافظ أو أن يكون ممن يحظون بالدخول على «رياض باشا».
يفتح عينه على الدنيا كل يوم قبيل الظهر، فتنحى الستائر عن النوافذ ويؤذن لنور النهار أن يدخل، وبعد أن يقضي ما يشاء من الساعات التي تأبى إلا أن تكر في التمطي والتثاؤب وتناول الطعام والقهوة المرة مذابا فيها العنبر، يقوم إلى ثيابه فينتقي منها جبة وقفطانا منسجمين متجاوبين ثم يلف العمامة - ولفها مهمة شاقة قد يستغرق بقية النهار إلى العصر - ثم ينزل إلى المنظرة ويتلبث بها ريثما يشرب القهوة ويشد أعصابه، ثم يخرج إلى دكان بدال أو حلاق أو عطار أو غير هؤلاء، ويتوافى الرفاق وتروى أنباء السهرات. ويسأل السائلون عن «عبده» أو «عثمان» أين يغني الليلة؟ ويتفق الإخوان على مكان يجتمعون فيه وشراب يجلسون إليه. ثم يتحاملون بعد أن يقضوا وطرا من النهار إلى المغنى ولعلهم غير مدعوين فيظلون إلى طلوع الشمس في آهات صاخبة وضوضاء ترجع ما بقي من الرأس وتزلزل الكيان.
ومجالس أبناء البلد نكات خشنة وضحك مقرقع. وأعذب ما يكون طعم الحياة في أفواههم حين يركبون صاحبا لهم بدعاية عملية. أعرف واحدا من أظرف أبناء البلد وأكرمهم وأرقهم حاشية لا يرضى عن نفسه إلا إذا استطاع أن يوقع واحدا ممن يسهل التماجن عليهم في مأزق أو يزج به في ورطة. وكان يستثقل ظل واحد من حراس المقابر. وكان هذا لا يفتأ يغشى مجلسه وينغص عليه لذاته البريئة بتذكيره بالموت وإحضاره إلى ذهنه. فأراد أن ينفيه عن هذا المجلس فأوعز إلى خادم فاستأجر هذا مكاريا وبعثه برسالة إلى صاحبنا الحارس مكتوبة على لسان تاجر معروف، والدته مريضة يدعوه فيها إلى الحضور إليه بأسرع ما يستطيع للاتفاق على بناء مقبرة، فجاء المكاري إلى الحارس بالرسالة ففضها فتهلل وجهه وراح يحسب الربح المنتظر من وراء هذه «المقاولة»، فلم يصرف المكاري بل ركب الحمار ومضى إلى التاجر ودخل عليه وحياه ودار بينهما حديث:
الحارس :
إن شاء الله تكون الوالدة بخير.
التاجر :
بخير، بارك الله فيك.
الحارس :
هل هي مريضة جدا؟
التاجر :
نعم، ولكن الله المسئول أن يخفف عنها ويلطف بها.
الحارس :
إن شاء الله. لقد بعثت لي حضرتك برسالة وقد جئت حسب أمرك.
التاجر (مستغربا) :
رسالة لماذا؟
الحارس :
نعم، ألست حضرتك فلانا؟
التاجر :
هو بعينه.
الحارس :
إذن الرسالة منك.
التاجر :
ولكن ... هل تسمح لي بمعرفة اسمك؟
الحارس :
آه! يظهر أن حضرتك لم تعرفني، ولهذا تستغرب أن تكون قد بعثت إلي برسالة. أنا فلان.
التاجر :
أرجو ... أن تزيدني بيانا، فلست أذكرك ولا مؤاخذة.
الحارس :
هذا غريب!
ورأى أن يحل الإشكال ويحسم الخلاف بتقديم الرسالة التي تلقاها. وتصور موقف الرجلين حين فض الرجل الخطاب واطلع على هذه «البشرى» في الصباح الباكر.
ومن نوادر صاحبنا أنه وصف مرة لبخيل طريقة لصنع «الكنافة» وأقنعه بتجربتها. وجاءنا البخيل بعد أيام - وكان ذلك في رمضان - يشكو ويسخط ويلعن ويقول: «اشتريت أربعة أرطال من الكنافة، وناولتها امرأتي وقلت أعديها، وجئت بثلاثة أرطال من اللبن الحليب كما أوصاني اللعين - خيبة الله عليه - وغلينا اللبن قبل المغرب بدقيقتين، وكانت «الكنافة» قد نضجت. فلما سمعنا مدفع المغرب صببنا اللبن عليها وأغرقناها فيه، وأقبلنا على الطعام نتناول منه بقدر لنترك مكانا «للكنافة» وإذا بها عجين لا يؤكل ولا يصلح لشيء إلا أن يرمى للكلاب! وهكذا ضاع علي ما أنفقته في الكنافة من السمن والسكر واللبن والزبيب والصنوبر والبندق والجوز واللوز وثمن الوقود، وضاع علي سائر ألوان الطعام التي لم أكد أمسها ترقبا للكناقة. فبماذا أدعو عليه؟»
وابن البلد لا يعرف الريف ولا يصبر عليه، وإذا خرج إليه استغرب أن الطريق ليس غاصا بالمساكن المتلاصقة، وأن الأشجار قائمة هنا وهناك، وأن الدنيا أرحب مما كان يظن، وأحس بالميل إلى الضحك، ولكن ثقته بنفسه تفارقه مع المدينة التي غادرها، ويرى نفسه بين الفلاحين غريبا ويسمعهم يتكلمون فيما لا يفهم، ولا يسعه إلا أن ينهز معهم بدلوه، ويخطئ عندهم سهراته ومجالسه، ويحتاج أن يغير عاداته وأن ينزل عنها وأن يحتمل الاضطراب الناشئ عن ذلك، ولا يحس في الريف ذلك التعاطف القريب، ولا يفهم أن ينام على ظهر الفرن ومع النساء والأولاد والطيور والبهائم؛ لأن له «مزاجا» والناس في الريف أكثر ما يكونون بعداء بعضهم عن بعض، وهم يقضون أوقاتهم مبعثرين في الحقول فليس في مجالسهم ذلك الصقل ولا تلك النعومة التي تكون لمجالس أهل المدن، فهي لا تخلو من جفوة طبيعية وتكلف محسوس، وصخب مرجعه إلى اعتياد أهل الريف أن يتخاطبوا بأصوات عالية لبعد المسافات بينهم، وقلما يشعر الحضري بحرارة الترحيب إلا حيث يكون قدوم الغريب «حادثة» يندر أن تتكرر، فيتدفق الكرم المحبوس إذا لم يكن له مجال! ولظهوره فرصة كبيرة فيقبل الناس عليه ويفرحون به إقبالهم على التحفة النادرة أو المنظر الذي لا يجود به الزمن مرارا، وهكذا كان الحال قبل أن توثق المدنية ما بين القرية والمدينة من الروابط، وتسهل عليهما الاتصال والتبادل والتفاهم والتقارب.
وابن البلد قد يكون أديبا أو فنانا - إذا كان قد جاور في الأزهر في صدر شبابه - وأدبه البيت أو البيتان من الشعر يضمنهما نكتة لفظية أو معنوية، يداعب بهما صديقا، وأكثر ما يكون نظمه للأزجال والمواليات، وربما نظم التوشيح ودفع به إلى ملحن أو مغن، وهو لا يحفظ من الشعر إلا ابن الفارض ومن إليه، وإذا كان فنانا فهو من هواة «العود» على الأخص، تبتدئ وتنتهي دنياه بالشراب والسماع والوجه الحسن، وفيما عدا ذلك لا وجود للدنيا.
ولا يعرف ابن البلد الحب ولا يحسن أن يعشق، والجمال عنده يوزنه أرطالا أو قناطير، والمرأة مخلوق يداعب ويغازل ويجمش إلى آخر ذلك، وليست إنسانا يبادلك العواطف ويعاونك في الحياة ويقاسمك متعها ومتاعبها ويؤدي مثلك وظيفته التي خلق لها. وقد ترى ابن البلد عاشقا ولكنه عاشق بحواسه، لا يعرف صبوة النفس إلى النفس وحنة القلب للقلب.
وهو يجود في غير كرم، ويمسك في غير بخل، ويتكلم بغير علم. ويضحك بغير جدل. ويحتشم في غير أدب. ويسير في الدنيا غير محتفل. ويقضي الحياة غير عابئ بما كان أو مكترث لما يكون. همه أن يأكل وينام ويسر ويضحك. فالضحك وما يعين عليه من الشراب ومجالس الإخوان غرض يسعى إليه وغاية تعتمد. والحياة آخرها الموت. فما خير التعب فيها وإرهاق النفس بالعمل والطلب؟ أليس كل شيء إلى فناء؟ فما أولاه باغتنام الساعة التي يكون فيها وما أسخف من يعنون أنفسهم ويحرمونها لذاذات العيش ومتع الوجود؟ ألم تر إلى فلان الذي قضى عمره يجمع المال ويطلب المناصب ويريق ماء وجهه على الأعتاب ويقتر على نفسه ليغنى ويضيق على ذويه ليتسع؟ ألم تر إليه كيف قضى نحبه وهو جالس على باب الحلاق؟ فماذا أجدى عليه تعبه وسعيه وتقتيره وحشده؟ إن فيه لعبرة لسواه. فهات الكأس وأصلح الأوتار، وأطلق صوتك بالغناء ينفي عن النفس وحشتها وتجل صداها وتنسها أن الحياة إلى انقضاء.
فابن البلد فلسفة عملية تجهل نسبها العريق في الأبيقورية المشوهة، ولم يعف عليها الزمن حين عفا عليه.
صورة وصفية لصحفي
قضى «م» سنة كاملة يعمل في سكون في الصحيفة التي التحق بها، ويؤدي الواجب الذي وكله إليه رئيسه بإخلاص ودقة، وكان واجبا شاقا، ولكنه كان يجد فيه ملهاة عن هموم الحياة. وعرف له رئيس التحرير فضله فكان لا يفتأ يثني عليه ويشجعه ويبلغه حسن رأي الناس فيه وحمدهم مجهوده، وكان يخجله أن يسمع هذا المدح ولا يدري بماذا يجيب فيقطب - وهو يريد أن يبتسم - ويتلفت يمينا وشمالا كأنما يبحث عن نافذة يثب منها. وطلب منه رئيس التحرير يوما صورته فريع المسكين وقال: «صورتي؟»
قال: «نعم صورتك. نحن في ديسمبر كما تعلم.»
قال وقد زادت حيرته: «أعلم هذا، ولكن ما العلاقة بين كوننا في ديسمبر وبين صورتي؟»
فابتسم رئيسه وقال: «قد اعتزمت أن أعطيك جواز ركوب مجاني للترام. هذا ما أستطيع أن أكافئك به الآن، وقد كان بودي أن أزيد مرتبك، ولكن لا أرى هذا ميسورا في الوقت الحاضر. وفي مرجوي أن أستطيع بعد قليل.»
ولبث أياما يخجل أن يبرز الجواز أو ينبئ عمال الترام أنه «أبونيه» ويؤدي أجر الركوب، ذلك أنه أحس بشيء من الحرج؛ لأن الجواز مجاني، وخيل إليه لغير ما سبب معقول أن «الأبونيه» منحة من الشركة، فلا يبعد أن يخطر لها يوما أن تسترده، وتجسم له وهمه فكان يتصور أن العامل جاءه يطلب ثمن التذكرة، فقال له «أبونيه» فطلب رؤية «الأبونيه» وفتحه ثم طواه ودسه في جيبه وقال «تذكرة من فضلك»، ومع اطمئنانه إلى استحالة هذا، صار يستدرج إخوانه الذين يحملون مثل جوازه ليركبوا معه. أو على الأصح يركب معهم وإن كان طريقهم غير طريقه ليطمئن ويتشجع، حتى ألف هذه الحالة الجديدة. وعلى أنه مع ذلك ظل زمنا كلما مر به عامل الترام وهو راكب، يتوخى أن يكون سلوكه وهيئته على خير ما ينبغي. فإذا كان واضعا رجلا على رجل أنزلها، وإذا كان يتكلم صمت، وإذا كان ناظرا إلى اليمين أو الشمال رمى بعينه إلى الأمام كأنه تلميذ لمحه المدرس يتشاغل عن الدرس.
وكتب يوما مقالا ودفعه إلى رئيسه فما راعه في اليوم الثاني إلا رؤية المقال في صدر الجريدة وفي ذيله اسمه. فألقى القلم وأسرع إلى رئيسه يؤكد له أنه لم يذيل المقال باسمه، وأن المسئول سواه عن هذا الخطأ أو التصرف المعيب.
فقال رئيسه: «ألم يخطر لك أن من الغبن أن جمهور القراء يجهل اسم كاتب مقالاتك؟»
فدهش واستحيا أن يخالف رئيسه لا جبنا؛ بل لأنه لا يحب أن يتهمه رئيسه بقلة الفهم، ومضى الرئيس في كلامه فقال: «لقد وضعت اسمك في آخر المقال حتى من غير أن أستأذنك.» فتمتم «العفو. أستغفر الله.» «لأني رأيت أن من الواجب إنصافك. إن أسلوبك فيه فن وقوة لا أرى لهما مشبها في كتابات غيرك. ومن العدل أن يعرف القراء أنك أنت صاحب هذا الفن الرائع ومبتكر هذا الأسلوب المحكم.»
فوجد قوة كافية للاعتراض فقال: «ولكني لا أعرف أن لي أسلوبا ...»
فقاطعه رئيسه: «إن هذا تواضع يزيد قدرك.»
فتحامل على نفسه وقال: «أؤكد لك أني صادق.» «لا شك في ذلك.» «ليس لي أسلوب أو فن، وليس في قولي هذا شيء من التواضع إنها الحقيقة.»
قال الرئيس «إذن هو كبر أن يكون بك كبر.»
قال: «كلا. كلا. ولا هذا.»
قال الرئيس وقد ضجر: «إذن أعصابك متعبة استرح بضعة أيام.» ولكنه لم يسترح، وحاول بعد هذا الحديث أن يكتب فصار يمزق ورقة بعد أخرى ولا يزيد على سطر في واحدة منها. فوضع القلم يائسا وقال ما أظنني أستطيع أن أكتب شيئا بعد هذا، وراح يعجب كيف كان يؤاتيه الكلام وكيف صار يستعصي عليه الآن، أسلوب؟ فن؟ ماذا يعني؟ إن كل ما يعرفه أنه كان يتناول القلم ويجريه على الورقة، وكانت الألفاظ تسعفه ولم يكن يجد عناء في تخيرها، بل لم يكن يتخير أو ينتقي، فما له الآن لا يقدر أن يخط حرفا؟
وتناول طائفة من أعداد الجريدة وجعل يقرأ مقالاته من جديد لعله يقع على ما فيها من الفن ويتبين ذلك الأسلوب الذي يذكرونه، فلم يهتد إلى أسلوب أو فن، وألقى الصحف ونهض عن المكتب واستأذن في الخروج، وقد أيقن أن مستقبله في الصحافة قد قضي عليه. •••
وبعد بضعة أسابيع دعاه رئيس التحرير وطلب منه أن يتحرى مسألة من المسائل. فقال: «أرجو أن تدع لي مفاتيح المكتبة.»
فذهل رئيس التحرير وقال: «المكتبة؟ أو تحسب أن هذا مما يوجد في الكتب؟»
فسأل: «أين إذن أجده؟»
قال: «لو أمهلتني لما أحوجتني إلى هذا.» وشرح له الموضوع ثم قال: «فعليك الآن أن تقابل وزير الخارجية في مكتبه.»
فسأل: «متى أستطيع ذلك؟»
فضجر الرئيس وقال: «لا تكن طفلا يا «م » ...»
وفي صباح اليوم التالي ركب سيارة حملته إلى الوزارة المقصودة، فلما دخل لم يدر إلى أين يذهب ولا إلى أي ناحية يقصد، ووقف لحظة يدير عينه في البناء ويرجو أن يلقى أحدا تكون له به معرفة، ولما طال الأمر راح يتمشى، ثم خشي أن يضيع الوقت فعاد إلى الجندي الواقف بباب الوزارة وقال: هل تستطيع أن تدلني على غرفة صاحب المعالي الوزير؟
فصعد الجندي فيه نظره وصوبه ثم قال: «ادخل من هنا وامش في خط مستقيم.»
ففعل ولم يزل داخلا حتى صار في حجرة واسعة فاخرة الأثاث، ولكنه لم يجد فيها لا مكتبا ولا وزيرا والتفت فرأى بابا مواربا فمد عنقه وأطل منه فرأى مكتبا وليس أمامه إنسان، فشجعه خلو المكان فالتفت وراءه فلم يجد أحدا، فتقدم خطوة وأطل مرة أخرى فأخذت عينه ما أيقن معه أن الغرفة غرفة الوزير، ولكن الشك خامره. إذن أين الوزير والساعة الآن الحادية عشرة؟ وكيف يخلو المكان من حجاب وشرطة وموظفين قائمين في خدمته؟ كلا. بل أكبر الظن أن الوزير في مكان آخر. ورجع فالتقى بشرطي فسأله. فقال بل هي الغرفة وهنا (وأشار إلى غرفة صغيرة) سكرتير الوزير. فحمل بطاقته مستأذنا في الدخول عليه وخطر له وهو يناوله البطاقة أن مخبري الصحف مساكين؛ لأنه ظنهم لا يدخلون على موظف إلا إذا بعثوا إليه بطاقاتهم مقدما. وأذن له في الدخول فحياه بلسانه ورفع به بالسلام فلم يزد السكرتير على أن هز رأسه، وقال: نعم. قال هل أستطيع أن أقابل معالي الوزير؟
قال السكرتير: «إنه مريض.»
فقال صاحبنا: «مريض؟ لا بأس عليه. أرجو أن تبلغه سلامي.» فابتسم السكرتير وخرج «م». وقد سره أن الوزير مريض وأنه نجا من لقائه أكثر مما ساءه أن عاد بلا جدوى.
وخيل له أن رئيس التحرير يدرك ما انتابه وأنه يتعمد أن يصرفه عن الكتابة ويكلفه مهمات من هذا القبيل، فقد بعث به في اليوم التالي إلى وزير الحقانية، فخرج ولم يركب في هذه المرة سيارة؛ لأنه تفقد ما في جيبه فاستقله، ولم يشأ أن يرهق الجريدة بكثرة النفقات، وخجل أن يطلب أجرة الركوب مقدما. ولم يكن قد احتاج من قبل أن يذهب إلى وزارة من الوزارات، فسأل بعض من لقيهم في الطريق فدلوه، وكان وهو سائر يفكر في ثقل هذه التكاليف وفي هذه الضرورات المتعبة، وانتقل من هذا إلى التفكير في الموضوع الذي يقصد إلى الوزير من أجله، فلم ير أن المسألة تحتاج إلى استفهام أو لقاء وزير، وكيف يبدأ الكلام؟ وماذا يفعل إذا رفض الوزير أن يجيب؟ ولماذا لا يذهب رئيس التحرير بنفسه؟
وكان في أثناء ذلك قد دخل من باب وزارة وقطع الفناء ووصل إلى السلم فصعد وهو لا يزال يحاور نفسه، وسأل عن غرفة السكرتير فسار به شرطي إليها، فأعرب له عن رغبته في مقابلة الوزير، وكان السكرتير يعرفه فأكرمه ورحب به وطلب له قهوة، وبعد نحو ساعة مضى به إلى باب فتحه وأشار إليه أن يدخل.
فقال الوزير: «أهلا وسهلا ... زيارة نادرة، تفضل.»
فجلس على حرف الكرسي وافتر فمه عن ابتسامة بلهاء، وكان يدرك أن عليه أن يتكلم، ولكن لسانه خانه كأنما قد استل منه، ولم يكن ينقصه أن يحدث له هذا ليزيد ارتباكه، وكان الوزير دمثا رضي الخلق، فابتسم وقال له وهو يميل إليه: أتشرب القهوة؟ - كلا! - إذن خذ سيجارة. - ولا هذه! - ألا تدخن؟
فأومأ المسكين برأسه أن نعم، فقال الوزير «إذن يجب أن تدخن!»
وقدم له العلبة فأخذ منها واحدة وأسقط واحدة أخرى على المكتب واستطاع فضلا عن ذلك أن يطير بكمه بضع أوراق، وانحنى يريد أن يلتقطها ويعيدها إلى مكانها، فصدم المكتب برأسه ونزل الطربوش إلى أذنيه، فضحك الوزير وقال: «لا بأس، والآن ماذا أستطيع أن أفعل لك؟»
فجر صاحبنا الكرسي ودنا به من المكتب وتنحنح ثم استطاع بجهد أن يفضي بالموضوع، وكان الوزير في أثناء ذلك يقطب حاجبيه أو يرفعهما أو يستعيده بعض ما يسمع منه، وهو مستغرب، وصاحبنا لا يفطن إلى آيات الدهشة في وجهه ولا يدرك أمارات العجب ولا يلتفت إلى دلائل الملل، وأخيرا قال: «وقد جئت راجيا أن تتفضلوا علي بيان واف على قدر المستطاع في هذا الموضوع.»
فقال الوزير ولم يخف امتعاضه: «ولكن هذا من اختصاص وزير الحقانية!»
ولو كان صاحبنا حاضر الذهن لفطن إلى الغلط الذي وقع فيه ولاستطاع أن يحسن التخلص. ولكن لسانه سبق رأسه فقال: «ولهذا جئت لمعاليكم.»
قال الوزير وقد اشتد امتعاضه: «ولكني لست وزير الحقانية»، فبهت المسكين، ووقف لسانه في حلقه، ودارت به الأرض، ورثي الوزير له وأدركه العطف عليه، فلاطفه وقال: «لا بأس، الغلط مردود (وضحك) لم يضع الوقت، يمكنك أن تقصد إلى وزير الحقانية الآن، لقد سرتني زيارتك على كل حال وأرجو أن أراك مرة أخرى، نهارك سعيد.»
وخرج «م» وهو لا يرى ولا يفهم شيئا. ماذا عسى أن يقول عنه رئيس التحرير أو أي إنسان حين يعلم أنه يخلط بين وزير الحقانية ووزير ... أي وزارة هذه التي كان فيها؟ حتى هذا لا يعرفه أو هل يجرؤ الآن أن يستخبر أحدا؟ وهل يجرؤ أن يعود إلى جريدته جاهلا أي وزير قابل، فوق ما كان من جهله وتخليطه.
ولم يكن يخفى عليه أن الحل الوحيد هو أن يقصد إلى الحقانية ويقابل وزيرها. ولكن اضطرابه بلغ مبلغا احتاج معه إلى علاج، فقصد إلى قهوة قريبة وألهم أن يطلب كأسا من الويسكي جرعها صرفا، ولم يلبث أن سكنت نفسه قليلا، فشرب كأسا ثانية وثالثة، ثم قام إلى بغيته وبه من الثقة بالنفس ما لا يذكر أنه أحسه من قبل، ورأى من الأمانة أن يكاشف رئيس التحرير بما كان من غفلته. فضحك حتى كاد يقع من فوق كرسيه وقال: يا صاحبي. إنك كاتب لبق يسعك ما لا يسع فرقة بأسرها من الكتاب حين تجلس إلى مكتبك، ولكن حين تلقى الناس لا تعود صالحا لشيء أو قادرا على شيء. فاذهب إلى مكتبك ولا تزايله فما نستطيع أن نخلقك خلقا جديدا.
حلم بالآخرة
(1) وادي الأشباح
عدت من هياكل «الكرنك»
1
مكدودا معفرا، وكان الجو دافئا والسماء صافية لا أعرف لزرقتها في غير «الأقصر» مشبها، فغيرت ثيابي وبدا لي أن خير ما أصنع - لأريح جسمي التعب وذهني المكظوظ - أن أركب زورقا أسبح به على النيل. ولما استويت فيه دليت يدي إلى الماء وانثنيت أفكر فيما رأيت وأستعيد ما شهدت، ولكن صورة «سخت» في حجرتها المظلمة أفسدت علي هذه الفكرة التي كنت أرجو أن أستمتع بها في زورق على النيل، ومن ذا الذي يراها ولا تعود أبرز ما يطيف برأسه، رأس لبؤة وجسم امرأة، وعينان ليستا بعين امرأة ولا عين سبع، تحدقان في الظلام وتبحثان عن الفريسة، وذلك أنها هي الموكلة بالتهام الأرواح المذنبة في الآخرة.
وأغفيت وأنا أفكر فيها، ورأيت وأنا نائم على النيل حلما مضطربا كله تخليط على عادة الأحلام. وانقلب النيل نهرا آخر - ستيكس - نهر الأغارقة الذي تقول أساطيرهم إن الموتى يعبرونه إلى وادي الأشباح، وآض الملاح الذي يجدف به على النيل «شارون»
2
وإذا على الشاطئ حشد عظيم من الأموات يسوقهم «هرمز» بالعصا وهم يبكون ويولولون ويندبون الحياة التي خلعوا ثوبها ويبغون الرجعى إليها، ولا يطيقون الحقيقة العارية الباقية التي صاروا إليها، ولا يتعزون عن أحلام الدنيا التي كانت تفيض لهم على الوجود بريقا مستعارا خادعا؟ آه لقد ذهب سماؤهم كلها مع تلك الأحلام!
وحشروا جميعا في الزورق الذي اتسع لهم جميعا، الأطفال حزمة واحدة بلا سؤال أو مراجعة، ثم الشيوخ والعجائز الذين لم يبكهم أحد، ثم قتلى بعض المعارك في جهات من الأرض لم أسمع بها في حياتي - فما أحوج علم الجغرافيا إلى بعثة تذهب إلى هناك - ثم رجل قتلته امرأة وعشيقها، ثم الذين أفنتهم الحميات ومعهم طبيب هرم، ودفع شارون الزورق على اللجة، وتركني على الشاطئ فأحسست بالوحشة وخفت أن أتعفن إذا بقيت وحدي إلى الغد، فصحت بشارون أن يحملني معه فأبى وقال: إن الزورق غاص وليس فيه موضع لقدم، فيئست غير أن واحدا من الركاب أهاب بي أن ألقي بنفسي في الماء وأسبح فقلت له: إني لا أحسن السباحة وقد ... أغرق.
فقهقه وقال: ماذا تخشى من الغرق وقد مت؟
فرميت بنفسي في الماء وعمت إليه، ومد يده فجذبني ودار بعينه فلم ير لي مكانا فأطرق قليلا ثم رفع رأسه وقال وهو يبتسم: أنا - أيضا - قلق في موضعي هذا، فتعال بنا ننتقي لنا اثنين من هؤلاء المعولين المنتحبين نجلس على أكتافهما!
وفعلنا ودار شارون بالركاب يتقاضى أجرة النقل، وتنبهت إلى ذلك فقلت لصاحبي: «ولكني معدم وقد جردوني من كل شيء لما مت فماذا أصنع؟»
قال: «لا بأس عليك! فما أنا بخير منك، فاسكت أنت ودع الأمر لي.»
وجاء شارون يطلب الأجر، فقال له زميلي: «ماذا تنتظر ممن ليس معه شيء؟»
قال شارون: «كيف؟ أهناك أحد ليس معه أجرة النقل إلى الوادي؟»
قال: «لا أعلم، ولكنا هنا اثنان لا نملك مليما، فأشر ماذا تأمر؟»
قال شارون: «واثنان أيضا؟ وحق بلوتو أخنقكما!»
قال زميلي: «خذ الأجرة ممن بعثوا بنا إليك!»
قال شارون: «ولكنك كنت تعرف أن عليك أن تؤدي لي هذا الحق، فلماذا لم تستعد قبل هذا المجيء؟»
قال: «لم يكن معي شيء، فهل كان ينبغي أن نظل أحياء وألا نموت من أجل ذلك؟»
قال شارون: «أتريد أن تكون الوحيد الذي يحمل إلى الوادي بلا مقابل؟»
قال: «كلا! لست الوحيد، فإن لي رفيقا ومؤنسا إلى جانبي كما بينت لك، وعلى أنا لا نحمل مجانا، فإنا وحدنا دون جمعك هذا لا نبكي ولا نندب، ثم إنا خفيفان لا نثقل زورقك، وإذا شئت عاوناك ولم نقاسمك الربح ولم نطلب منك الأجر.»
قال شارون: «ولكن هذا لم يحدث قط من قبل فهو غير جائز!»
قال: «إذن ردنا إلى الحياة.»
فالتفت شارون إلى هرمز
3
وقال: «من أين جئت بهذين الحمارين؟ وانظر كيف يضحكان، على حين يبكي كل إنسان؟ لقد كان أولى أن يبقيا هناك على ظهر الأرض، فما هما بجديرين بالموت.»
ومضى عنا وهو يسبنا ويتوعدنا بقبضة يده، فأسر إلى زميلي: «ما أسخف وعيده! أيموت المرء مرتين ويحمل إلى الزورق مرتين؟»
ثم قال لي بعد برهة: «لقد هبطت أنغام العويل والنحيب ، فما قولك؟ أليس من الواجب أن نضطرهم إلى رفع طبقتها؟»
قلت: «ولكن كيف يسعك ذلك؟»
قال: «انتظر.»
وتنحنح ثم انطلق يغني:
أقبل الليل علينا بدجاه
فاسقنا، فالعمر آيات الشباب
غننا صوتا كأمواج الحياه
بين لين واعتلاج واصطخاب •••
ولم يكد يفرغ من هذه المقطوعة حتى علا الصياح والنشيج. فواحد يقول: «وا أسفاه على ما خلفت!» وثان يصرخ: «ويحي! سيبدد أخي ما ورث عني»، وثالث يصيح: «ألا من لصغاري!» وهكذا.
ومضى صاحبي في غنائه:
أقبل الليل فهات القدحا
أوليس العمر أيام الصبا؟
غننا لحنا نديا فرحا
يطلق الأوصال من قيد الحجى •••
وارقصوا بين المنايا واطربوا
أوليس العمر أيام النعيم؟
وإذا ما لامكم مستغرب
فدعوا اللائم يذهب للجحيم
فدنا «هرمز» منه وأومأ إليه أن كف ثم قال: «إن هذا لا يليق، ومن واجبك أن تندب كالباقين.»
قال مستغربا: «أندب؟ أأندب الحظ الذي أتاح لي هذه النزهة الظريفة؟»
قال هرمز: «إن سلوكك شائن. فأرسل عولة أو اثنتين على الأقل فما يجوز أن تشذ عن المألوف.»
قال زميلي: «حسن. سأفعل.»
ثم وضع كفه على خده وانطلق يصيح: «وا أسفاه على ثوبي المرقع الذي لا يقي في شتاء ولا ينفع في صيف! وا حزاناه على الحفا! لن أجوب الطرقات بعد اليوم متضورا من الصباح إلى المغيب، ولن أنام على الأفاريز وأتوسد الحجارة وأسناني تصطك من البرد، من ترى سيرث عكازتي التي كنت أتوكأ عليها؟ ويختال في مرقعتي التي كنت أخطر في هلاهيلها!»
فمضى هرمز عنه ساخطا لاعنا ورحنا نحن نضحك.
وإنا لكذلك وإذا «بشارون» ينادي هرمز ويصيح به: إن الزورق يوشك أن يغرق من ثقل ما يحمل. فماذا يفعل؟
فوقف هرمز كالأبله حائرا، ثم وثب رفيقي وقال: «تعال ننقذ شارون فإنا مدينون له.»
قلت: «إن الغرق شيء أفهمه وقد أحسه. أما ما عداه فلا علم لي به يا صاحبي.»
قال: «ولكنك تستطيع أن تشاركني على الرغم من ذلك»، ثم قال لشارون: «اسمع. جرد هؤلاء الموتى مما يحملون وألق به في الماء. انزع هذه الحلي عن أصحابها . لقد كانت تنفعهم في الدنيا أما هنا فهي مثقلة بالغش والتضليل. ودعاوى التقوى والوقار والحشمة.»
قال شارون: «صدقت.» ونزعها جميعا ورمى بها، «وماذا أيضا؟» - ألا ترى هذا الرجل الذي يبكي ويختلس النظر إلى من حوله؟ قال شارون: «نعم. ما له؟»
قال: «أخرج من تحت إبطيه الكذب والنفاق والدهان تتخلص من خمسة قناطير على الأقل. وهذه المرأة الجميلة، عر وجهها وجرده من المساحيق فإن وزنها يجاوز الطن، افعل وعجل.» ففعل. «وهذا الغرور الذي تنطق به عينا هذا الرجل، ألا تحس ثقله؟ إنه يكفي شعبا بأسره!» «والفلسفة التي في رأس هذا إنها أثقل من الحديد. ألق بها في الماء. أسرع.»
فأطارها شارون عن رأسه.
وهذا الأديب هناك. ماذا يصنع بكل هذه الألفاظ والمجازات والاستعارات والخيالات والسخافات؟ إنها كافية وحدها لإغراق زورقك يا شارون.
قال شارون: «نعم والله! أين كنت مخبئا كل هذه الأثقال؟»
ثم التفت إلى زميلي وقال: «كفى كفى يا صاحبي! إن الزورق الآن أخف من الريشة. وأحسبني مدينا لك بإنقاذ سفينتي.»
قال زميلي مقاطعا: «أمسك، لا ثقلها مرة أخرى بشكرك إياي.» وعدنا إلى مكاننا وانطلق الزورق خفيفا يشق النهر ويفرق أمواجه الراكدة، ودنونا من الشاطئ عند الفجر وحاذيناه فوثب صاحبي إلى الأرض وأنا وراءه.
ثم أهوى على الباب العتيق بحجر ضخم وراح يدقه كالذي يريد أن يحطمه فهب «أتروب»
4
وقد طار كراه وأقبل على الباب يتعثر في مشيته، ورمى مصراعيه وسأل: من الطارق؟
قال زميلي: «أنا.»
قال «أتروب»: «أنت؟ أنت ماذا؟ ما شأنك هنا؟ ما اسمك؟» فمال إلى زميلي وقال: «كأنما كنت شيئا في الدنيا فيعنيه أن يعرف من أكون.» ثم التفت إلى الحارس وقال: «ومن عسى أن أكون؟ أتراك تتوهمني بروميثيوس قد فك أصفاده وجاء يعتق البشر من أسر الموت؟»
ثم لوح بيده مشيرا إلى الركب الذي في الزورق ورفع صوته مغنيا:
حي يا أتروب ألوان الصباح
طلع الفجر عليكم بالرمم
بين ندب وعويل وصياح
جاء وفد الموت من كل الأمم •••
جاء وفد الموت يحدوه الدليل
ويغني سوطه فوق الظهور
ويميل الصف في كل مميل
وهو خلف الصف وثاب يدور •••
لست خيرا منهمو وا أسفاه
أوكان «الخير» إلا شططا
غلط جاد به، ثم أباه
دهر سوء لا يعيد الغلطا •••
بل يعيد الغلط المترذلا!
أوليس الناس أغلاطا تعاد؟
ولو أن الدهر شاء إلا مثلا
لخلت منهم قراهم والبلاد
وكان هرمز وشارون في خلال ذلك قد أفرغا حمولة الزورق، فلما سمع الموتى هذه الأغنية تصايحوا وضجوا وهموا بزميلي ولكنه تلقاهم بابتسامة استخفاف وقال لهم: أيسوءكم أن يلحق بكم من خلفتم فوقها؟
فارتدوا ساكنين، وتقدم هرمز بورقة فيها بيان مجمل بعدد الموتى، فتسلمها أتروب وبدأ يعد ثم كف وهو يقول: ما أظن ميتا يفلت أو حيا يجيء قبل الأوان. امض بهم يا هرمز إلى ساحة رادا مانتيس.
5
فساقنا هرمز أمامه، وتقدم صاحبي الصفوف وسرت معه في طليعتها وانطلق يغني:
دارنا مغرب أنوار الحياة
من رآها لم ير الضوء الطليق
ما لمن يهوى إليها من نجاه
ما لما يغرب فيها من شروق •••
وهي في الأكوان دنيا عافر
كل زخار له فيها ركود!
ضرب السحر عليها ساحر
فهي عنوان على عقم الوجود!
وطال بنا الانتظار على باب رادامانتيس إلى أن جاء دوري فتقدمت، وزاحم زميلي فدخل معي ولما صرت أمام القاضي سألني: ما اسمك؟
قلت: «المازني.»
قال: «ماذا؟ ال ... ال ... ماذا؟»
فلو كنت حيا لاحمر وجهي وقلت: «المازني. لقد كنت أحسب شهرتي قد سبقتني.»
قال: دع هذا المزاح. من أين جئت؟
قلت: «من مصر.»
قال: «مصر؟ ولماذا جئت إلينا؟»
قلت: «وأين كان ينبغي أن أذهب؟»
قال: «إنك من أفريقية فاذهب إلى قسمك.»
قلت: من أين؟! عهدي حديث بهذا الوادي.
قال: «لا بأس، سيدلونك عليه. يا هرمز، أرشد هذا التائه إلى سومبور.»
فألقيت إلى صاحبي نظرة أسف على فراقه، فجذبني إلى الوراء وأسر إلي: «سأذهب معك.»
قلت: «ولكنك لست من مصر.»
قال: «ماذا يهم؟ من أنا حتى يعرفوا أمن مصر أنا أم من غيرها! هيا بنا.» (2) بين أيدي القضاة
انصرفنا من ساحة رادامانتيس، وثنينا الخطا إلى الشاطئ - وكان هرمز قد سبقنا - وفي مرجونا أن يحملنا شارون إلى القسم الأفريقي، فألفينا هرمز وشارون مختلفين. يقول هرمز: «لقد آن جدا يا شارون أن تؤدي إلي ذلك الدين القديم فما بقي لك عذر.»
فيقول شارون: «ما أحسبني أنكرت قط يا صديقي أني مدين لك.» فيهز هرمز كتفيه ويمط شفتيه ويقول: «لشد ما نفعني أنك لا تقصر في الاعتراف! هذه عملة لا أعرف أحدا سواي يقبلها، فهات ما عليك وأنكر إذا شئت أنك مدين لي.»
فيبتسم شارون ويفرك كفيه ويقول: ولكنك لم تبين لي قط مقدار هذا الدين، فيقبل عليه هرمز ويقول: «إن البيان حاضر فليتك مثلي استعدادا لتقديم الحساب. المرسى والحبل بسبعين قرشا.» فيقاطعه شارون: «سبعون قرشا. وحق بلوتو لقد خدعك! أو أنت تضحك على شيبتي!»
فينتفض هرمز واقفا ويقول بصوت عال: «أضحك عليك! أنا؟ أهذا جزائي منك؟ لا مال ولا شكر؟»
شارون :
هون عليك يا صاحبي فما إلى هذا قصدت. سبعون قرشا إذن وماذا أيضا؟
هرمز :
وإبر لترقيع القلع، وشمع لسد الخروق، ومسامير، وجلد للمجاديف بعشرين قرشا.
شارون :
صفقة حسنة. وماذا؟
هرمز :
هذا كل ما أذكر، تسعون قرشا. وبسط يده.
شارون :
الآن يا صديقي يتعذر علي أن أنقدك هذا القدر، فإن العمل قليل والربح ضئيل. لا وباء يفتك بالناس، ولا حرب تحصدهم، ولكني أعدك أن أؤدي إليك دينك إذا نشطت الحركة.
هرمز (ممتعضا) :
الأفضل عندي أن يظل دينك مطولا.
ثم نظر إلينا وقال: «هيا بنا.»
فقال شارون: هذان المفلسان لا عجب أن يعودا وأن ترفضهما حتى الجحيم.
فقال صاحبي: «ألا تنقلنا إلى ...»
فقاطعه شارون ولم يمهله ريثما يتم كلامه: «أنا؟ أتراني جننت؟ اذهب أنت وصاحبك فما فيكما خير.»
وهكذا رددنا، وذهبنا سيرا على الأقدام، وجعل هرمز يشكو في الطريق ويتسخط ويعرب عن تبرمه بحياته وكثرة الواجبات الموكولة إليه. فهو يقوم في الفجر ويعد المائدة السماوية ويرتب حجرتها، ثم يقف بجانب زيوس ليتلقى أوامره وليؤدي رسائله إلى أصحابها النهار كله، وفي الليل لا ينام بل يذهب بالموتى إلى بلوتو ويقف في ساحة القضاء حاجبا، ثم إنه يدرب الخطباء ويشهد الاجتماعات ويفعل غير ذلك أشياء يخطئها الحصر. حتى لقد كان يؤدي وظيفة الساقي لزيوس قبل أن يتزيا «زيوس» في زي نسر ويخطف الغلام «جانيميد» ويتخذه ساقيا له يأخذ من كأسه رشفة، ومن شفتيه البضتين أخرى، ويكايد به زوجته «هيرا».
وأخيرا بلغنا سهلا فسيحا أمام «الكرنك»، وسرنا مسافة في ظل أشجار الليمون، حتى خرجنا من تحتها، ووقفنا مع آلاف الموتى من أمثالنا، وكان القضاة خمسة وقد جلسوا صفا واحدا، فأسر إلي صاحبي أن تعال نشهد الرواية من أولها، وجذبني وزاحم بي حتى صرنا إلى الصف الأول، فسمعنا من عرفنا ممن حولنا أنة «سومبور»، وهو رجل نحيل هزيل الجسم متهضم الوجه أسود العينين براقهما وفي يده زهرة من زهرات البردي يقول: «أيها الزملاء، إن «سخت» تنتظر!»
فسرت في أجسامنا رعدة، ونودي الأول فتقدم وسمعنا كلاما كهذا. سومبور - وهو يعبث بزهرة البردي - قل الحق الذي تعرفه ولا تحاول أن تكذب. أهي الخمر؟
قال الرجل: نعم.
ديارناك (وهو مديد القامة معتدلها كالجندي لا يلتفت يمنة أو يسرة، وحول وجهه لحية كثة) :
هل حوكمت من قبل على الشراب؟
الرجل :
لا يا سيدي.
ممبرون (وهو عريض الوجه لماع الجلد كأنما كان قد دهنه بالليل، يبتسم تارة ويتجهم أخرى، وفي إحدى كفيه قطعة من الذهب وفي الأخرى صرة صغيرة) :
كيف تقول؟ من أي بلد أنت؟
الرجل :
من قرية اسمها ...
بوتا (وهو بدين قصير أحمر الوجه أبيض الشعر، له عينان كعيني الخنزير وأمامه ختم ذهبي كبير) :
دع هذا، وقل لنا: لماذا أولعت بالشراب؟
الرجل :
لأنه مرض.
بوتا :
لست أفهم. إني أحب الكأس أو الاثنتين من الويسكي مشعثا بالصودا ولكن الإفراط ... هذه هي المسألة.
الرجل :
إن المسألة هكذا، كلما ألح علي الإحساس بالشقاء أفرطت في الشراب، وكلما أفرطت في الشراب زاد إلحاح الإحساس بالشقاء ...
ممبرون :
الحلقة المفرغة مرة أخرى.
موروسكن (رجل مثقف مغضن الوجه على ذراعه قطة يمسح لها شعرها بيده الأخرى) :
وماذا عندك غير هذا على سبيل الدفاع عن نفسك؟
الرجل :
لا شيء. ولقد يخيل إلي الآن بعد أن مت، أني كنت أستطيع أن أنقذ نفسي لو أني اشتغلت في الدنيا بوصف السعادة للناس حين أحس أنا بالشقاء.
موروسكن :
أتقصد أنك كنت تريد أن تكون روائيا؟ هذا جميل الحق أقول يا سومبور. إني أعتقد أن التفاؤل لا يزال يقوم في الدنيا على قاعدة من مرض الفنان أو شفائه. أليس كذلك؟
سومبور :
قد يحلو لك هذا البحث. أما أنا فأطلب أصواتكم.
ديارناك :
إن الشرب أفقد الدنيا جنديا. فليقذف به إلى «سخت».
ممبرون :
سخت.
موروسكن :
ولكن الرجل يكاد يكون فنانا، إن التماس السعادة ...
سومبور :
ليس عندنا وقت لهذا. هاتوا بقية الأصوات.
بوتا :
سخت.
سومبور :
خذوه إليها - بأربعة أصوات. •••
وجروه إلى شجرة ليمون وهمس صاحبي في أذني: «جاروا ولم يعدلوا.»
قلت: «ولكن موروسكن.»
فقاطعني صاحبي: «إنه مغفل.»
ونودي الثاني، فتقدمت فتاة وسيمة شاحبة اللون مقدودة قد السيف، ولكن عينيها، على جمالهما، كالكهفين.
وقال سومبور: كم سنك يا هذه؟
الفتاة :
اثنتان وعشرون سنة.
موروسكن :
قبل الأوان. قبل الأوان.
بوتا :
لماذا مت؟
الفتاة :
فزعا.
موروسكن :
فزعا؟ ما أقسى هذا!
سومبور :
من أي شيء؟
الفتاة :
من الشرطة.
ممبرون :
آه، أمنهن أنت؟
الفتاة :
نعم يا سيدي، ولكن مهما يكن ذنبي فقد شاركني في إثمه رجل.
موروسكن (متأثرا) :
هذا حق، وإنها لمن الفظائع الكبر، أن يضع الرجال الشرائع وأن يتحيزوا فيها لأنفسهم.
بوتا :
ولكن ماذا دفعك إلى هذا؟
الفتاة :
تزوجت رجلا كانت حياتي معه جحيما، ثم أحبني آخر وظننته «الرجل الموافق» ولكن الغريزة خانتني، ولقيت ثالثا قلت لعله هو الموافق ولكنه لم يكن، وهكذا حتى لم أعد أعبأ من يجيء ومن يروح وإن كنت لم أزل أرجو أن أفوز «بالرجل».
موروسكن :
آه! طلب الكمال والسعي إلى المثل الأعلى ...
بوتا :
ماذا تقول امرأتي لو سمعتها؟ إن لي فتيات ... دعوها، أخلوا سبيلها.
ممبرون :
إن روابط المجتمع تتفكك إذا أطلقناها. فلنذهب إلى «سخت».
ديارناك :
سخت.
سومبور :
صوتان يطلبان لها الخلاص، وآخران يبعثان بها إلى سخت، فعلي أن أوازن وأن أرجح أحد الرأيين. إذا أطلقناها فكأننا أبحنا الخطيئة، فبأي وجه بعد ذلك ننهى الناس عنها ونزجرهم عن مواقعتها وننذرهم سوء المصير؟ إن هذا يكون خطرا بينا، نعم إن الرحمة والعطف يدركان النفس على مثل هذه المسكينة، غير أنا خلقاء ألا نطمئن إلى الصوت الذي يدعونا إلى الشفقة ويغرينا بالرحمة، ولا أكتمكم، إن نفسي لا تطاوعني على الحكم عليها، ولكني على الرغم من ذلك أحس أني أكون منكرا لنفسي ومعطلا لسلطاني ومبطلا لوجودي إذا أعفيتها من العقاب، ونحن هنا قضاة الآداب فياصلة الأخلاق، أفننكر أنفسنا ونعطل وظائفنا؟ كلا! فبكرهي أقول «سخت»، فلتؤخذ إليها بثلاثة أصوات. •••
فسارعت باسمة وإن ظلت عيناها زائغتين، وحطت على كتفها وهي سائرة حمامة بيضاء فأمالت إليها خدها.
وقال صاحبي: «جاروا للمرة الثانية، والحمامة شاهدي.»
ونودي الثالث، وكان إلى جانبي. فرفعت إليه عيني وعجبت كيف يكون صاحب مثل هذا الوجه شريرا؟
وسأله سومبور: ماذا جاء بك إلينا؟
الرجل :
طردت عن كل باب؟
موروسكن :
يوشك أن يكون هذا ممتعا، فماذا أنت؟
الرجل :
أنا كالريح تهب بشجرة بعد شجرة.
ديارناك :
قل وأوجر لماذا طردت؟
الرجل :
لأنه لا خير في؛ لأني جاهل ولا مزية لي إلا حب كل ما هو حي؛ لأن كل من يلقاني يقول: إذا تقبلناه فقدنا القوة والمال ولم يبق لنا سوى الحب، وما جدوى الحب؟
ممبرون :
إنك عامل من عوامل الانحلال والتفكك.
الرجل :
كالريح أيضا، هي التي تحلل وهي كذلك التي تؤلف وتجمع.
سومبور :
وهل في وجودك ما يعارض وجود القضاء؟
الرجل :
إن من يتقبلونني، لا يعودون يعنون بالحكم على شيء؛ لأن قلوبهم تكون أحفل بالحب من أن تفكر في سواه.
ديارناك :
أنت متمرد.
الرجل :
كلا، ولكن حيث أكون لا يبقى محل للأمر والنهي؛ لأن كل شيء يكون في خدمة الحب.
بوتا :
هذه فوضى.
موروسكن :
إني معجب بك، ولكني أحب أن أطمئن، فقل لي: هل وجودك يضر براحة الحياة ونعيم العيش؟
الرجل :
ما هي الراحة؟ وأي شيء هذا النعيم؟ أهما شيء غير الإيثار وكف الأذى، وأن يخفق القلب بالغبطة وأن ...
موروسكن :
دعني من فضلك.
بوتا :
ماذا يكون مصيري لو أشركت الناس في مالي؟ وآثرتهم على نفسي؟ - كلا! يا سيدي، إن خير الدنيا أن تفتح سخت فمها لتبتلعك.
سومبور :
إذا بقيت أنت فلن يبقى محل لي ولا لقضائي.
ديارناك :
ولا لجنودي.
ممبرون :
ولا لشرائعي.
موروسكن :
ولا لراحتي، فأنا آسف.
واجتمع الخمسة على أن يلقموا سخت هذا المسكين.
قال صاحبي: «لقد أصابوا.»
قلت: «ماذا تعني؟ بأي حق يرسلونه إلى سخت؟»
فقال: «ليس هذا وقت الجدال، فإنهم يشيرون إليك.»
قلت: «إلي أنا؟»
والتفت إلى الخمسة فوجدت عيونهم علي، فتقدمت في اضطراب ووجل.
قال سومبور: من أنت؟
أنا :
أنا المازني.
بوتا :
أنت ماذا؟
أنا :
أقول إني المازني.
ديارناك :
بأي لغة تتكلم؟ أسرع.
أنا :
إنه اسمي.
موروسكن :
مسكين إن صبرك على حمل هذا الاسم يرفع عنك أوزارك.
أنا :
ليس هذا ذنبي.
موروسكن :
قد غفرناه لك، فماذا أنت؟
أنا :
أديب.
بوتا :
أديب؟ إذن فأنت عاطل وطفيلي.
أنا :
كلا، لقد قتلني العمل وما كانت شكواي إلا قلة الراحة.
موروسكن :
اسمعوا. سمعوا!
سومبور :
مهلا. أتيحوا له فرصة. بأي شيء كنت تشتغل؟
أنا :
بالصحافة.
الجميع :
الصحافة؟!
وانتفضوا جميعا واقفين يشيرون إلى شجرة الليمون حيث وقف الثلاثة المقضى عليهم.
وقال سومبور: سخت بالإجماع.
ثم التفت إلى زملائه وقال: وحسبنا اليوم هذا، وأعفوني من شهود التنفيذ، فلن أقوى عليه بعد هذه الصدمة. •••
ووقفت تحت الشجرة مع رفاقي الثلاثة أنتظر «سخت»، وإذا بصاحبي يجذبني ويقول: «تعال يا أبله.»
قلت: «إلى أين؟»
قال: «ماذا يعنيك وقد نجوت من سخت؟»
قلت: «نجوت؟ كيف كان ذلك؟»
قال: «لقد عز علي أن تكون بين الفرائس فذهبت إلى حيث قيدوا «سخت»، فلما صار القضاة عندها سبقت الحارس فأطلقتها عليهم فالتهمتهم بدلا منكم، ولكني والله آسف على نجاة جارك! على أني - على العموم - أراني أعدل من هؤلاء القضاة يرحمهم الله.»
فأرسلتها صيحة فرح عالمية فتحت عيني على النيل وحقائق الدنيا على شاطئيه.
Unknown page