وحام طويلا حول محل ريري وأمام العمارة لعله يرى الطفلة، ولكنه لم يوفق، فجلس في قهوة النسر. ورغم فشل الأمس داعبه أمل غامض كنشوة اليأس، فاعتقد أن كافة مشاكل العالم ستحل الليلة بلا عناء. ونظر إلى السماء المتوارية وراء ظلمات السحب وقال: إن الخريف في الإسكندرية روح من أرواح الجنة، وهو مغسل لجميع الأحزان، وإن جميع الأحزان ما هي إلا أوهام وإن الموت هو حارس السعادة الأبدي وقال لنفسه بصوت مهموس: ما أجمل أن يسكر بلا خمر!
وإذا بماسح أحذية يقف أمامه وهو يرمقه بنظرة استجداء، وقرأ في نظرته أكثر من معنى، فأشار إليه أن يجلس ثم سلم إليه قدميه، وأراد أن يتأكد من ظنه على سبيل التسلية فسأله: هل توجد شقة خالية؟
فابتسم قائلا: في هذا الوقت الشقق أكثر من الهم على القلب. - أقصد غرفة خالية! - في بنسيون؟ - أفضل أن تكون في عائلة. - العائلات أيضا أكثر من الهم على القلب.
وضحك عيسى في ارتياح، وإذ بخاطر يخطر، فأشار نحو محل ريري متسائلا: ماذا عن صاحبة «خذ واشكر»؟!
فتغيرت سحنة الرجل وقال بلهجة جادة: لا .. لا .. هذه ست بمعنى الكلمة.
فحدجه بنظرة كأنما تقول له: «اطلع!» فقال الرجل: لا تضع وقتك .. أنا لا شأن لي بها. - أنت لم تفهمني، فنظرة واحدة إليها تقنع بما تقول، ولها طفلة لطيفة جدا. - نعم، نعمات بنت حلال!
فابتسم عيسى متظاهرا بعدم الاكتراث، ثم تساءل: ولكن أحدا لا يرى أباها، أليست الست متزوجة؟ - طبعا .. وزوجها هو صاحب المحل. - وما له لا يدير محله بنفسه؟
قال الرجل بعد تردد: في السجن ولا مؤاخذة! - لأي سبب؟ - مخدرات .. مظلوم والله! - ربنا يفرج عنه، ولكن أنت متأكد أنه والد الطفلة؟
فلمعت في عينيه نظرة حذر، وقال: طبعا!
فقال عيسى بجرأة وثبات: كلا!
Unknown page