وقع الاسم من أذنيه موقعا غريبا، فغطت غرابة موقعه على كافة الانفعالات التي كان حريا بأن يثيرها، وبدا حينا كأنما هو صادر من أعماقه هو لا من لسان صاحبه، وكل شيء كان متوقعا إلا هذا، ومضت لحظات وكأن الاسم ليس له معنى، من عايدة؟ أي عايدة؟ يا للتاريخ! كم عاما مضى دون أن يطرق هذا الاسم مسامعه منذ 1926، أو 1927؟ ستة عشر عاما أو عمر شاب يافع بالكمال لعله أحب ومني بالإخفاق! لقد طعن في السن حقا، عايدة؟! ترى ماذا أصابه بهذه الذكرى، لا شيء! ليس إلا اهتماما عاطفيا مشوبا بشيء من الانفعال، كمن تمس يده موضع عملية جراحية ملتئم من قديم فيذكر ما اكتنفها من ظرف خطير مضى وانقضى. وتمتم متسائلا: عايدة؟ - نعم، عايدة شداد، ألا تذكرها؟ أخت حسين شداد!
وشعر بمضايقة تحت عيني إسماعيل فقال متهربا: حسين! ترى ما أخبار حسين؟ - من يدري؟
وشعر بسخف تهربه، ولكن ما حيلته وقد أحس بوجهه يسخن رغم برودة فبراير الشديدة؟ وبدا له الحب على مثال غريب بعض الشيء .. كالطعام! نشعر به بقوة وهو على المائدة، ثم وهو في المعدة، ثم وهو في الأمعاء على نحو ما ، ثم وهو في الدم على نحو آخر، حتى يستحيل خلايا ثم تتجدد الخلايا بمرور الزمن فلا يبقى منه أثر، لكن ربما بقي منه صدى في الأعماق هو ما نسميه بالنسيان، وقد يعرض للإنسان «صوت» قديم فيدفع بهذا النسيان إلى قريب من منطقة الوعي فيسمع الصدى على وجه ما، وإلا فما هذا الاضطراب؟ أم لعله الحنين إلى عايدة لا باعتبارها المحبوبة التي كانت - فقد انتهى هذا إلى غير رجعة - ولكن باعتبارها رمزا للحب الذي كان كثيرا ما يستوحش غيبته الطويلة، مجرد رمز كالخربة المهجورة التي تثير ذكريات تاريخية جليلة.
وعاد إسماعيل يقول: وتحادثنا طويلا - أنا وعايدة وأمي وزوجي - فروت لنا كيف هربت هي وزوجها بل وجميع ممثلي الدول السياسيين أمام الجيوش الألمانية حتى لاذا بإسبانيا، وأنهما نقلا أخيرا إلى إيران؛ ثم رجعنا إلى أيام زمان وضحكنا كثيرا ..
مهما يكن من أمر الحب الذي مات فقلبه يبعث حنينا مسكرا، وأوتار الأعماق التي تهتكت أخذت تصعد أنغاما بالغة في الخفوت والحزن، وتساءل: ما شكلها الآن؟ - لعلها في الأربعين، كلا أنا أكبر منها بعامين، عايدة في السابعة والثلاثين، وامتلأت قليلا عما كانت، لكنها ما زالت محتفظة برشاقتها، ووجهها هو هو تقريبا فيما عدا نظرة عينيها التي أصبحت توحي بالجد والرزانة، وقالت إنها أنجبت ابنا في الرابعة عشرة وبنتا في العاشرة ..
هذه هي عايدة إذن، لم تكن حلما ولم يكن تاريخها وهما؛ فقد تمر لحظات فيبدو ذلك الماضي كأنه لم يكن. وهي زوجة وأم، وتذكر الماضي وتضحك كثيرا، ولكن ما حقيقة صورتها؟ وماذا بقي من هذه الحقيقة في الذاكرة؟ فلشد ما تتغير المناظر في أثناء حفظها بالذاكرة، وهو يود أن يلقي نظرة ثابتة على هذا الكائن البشري لعله يقف على السر الذي مكنه قديما من أن يفعل به الأفاعيل.
وعاد رياض إلى مجلسه فخاف كمال أن يقطع إسماعيل حديثه ولكنه واصله قائلا: وسألوا عنك!
ردد رياض نظره بينهما فأدرك أن حديثا خاصا يدور بينهما فعدل عنهما إلى النارجيلة، أما كمال فقد شعر بأن جملة «سألوا عنك» توشك أن تودي بقوة مناعته كأشد الميكروبات فتكا، وتساءل وهو يبذل أقصى ما يملك من قوة ليبدو طبيعيا: لماذا؟ - سألوا عن فلان وعلان من أصحاب زمان ثم سألوا عنك فقلت: مدرس بمدرسة السلحدار وفيلسوف كبير ينشر مقالات لا أفهمها في مجلة الفكر التي لا أفتحها، فضحكوا ثم سألوا: «هل تزوج؟» فقلت: كلا ..
فوجد نفسه يسأل: ماذا قالوا؟ - لا أذكر ماذا حولنا عن هذا الحديث؟
إن المرض الكامن يهدد بالانفجار، والذي مرض قديما بالسل يجب أن يحذر البرد، أما جملة سألوا عنك فما أشبهها بأنغام الصبا في بساطة معناها وشديد نفاذها في النفس، وقد يطرأ ظرف فتعبر النفس حال عاطفية مندثرة بكامل قوتها الماضية ثم تنقطع .. كالمطر في غير أوانه، على ذلك شعر في هذه اللحظة العابرة بأنه انقلب ذلك العاشق القديم، وأنه يعاني الحب حيا بكافة أنغامه السارة والحزينة، ولكن الخطر لم يكن يتهدده بصفة جدية؛ فهو كالحالم المكروب الذي يداخله شعور ملطف بأن ما يراه حلم لا حقيقة، لكنه تمنى في تلك اللحظة لو تقع معجزة من السماء فيلقاها ولو لبضع دقائق فتعترف له بأنها بادلته عاطفته يوما أو بعض يوم وأن فارق السن أو غيره هو الذي فرق بينهما! لو وقعت هذه المعجزة لعزته عن كافة آلامه قديمها وحديثها ولعد نفسه سعيدا في الخلق وأن الحياة لم تمض عبثا، بيد أنها صحوة كاذبة كصحوة الموت، والأحرى به أن يقنع بالنسيان، وهو نصر ولو انطوى على هزيمة، وليكن عزاؤه أنه ليس الوحيد في البشر الذي مني بخيبة الحياة، وتساءل: متى يسافرون إلى إيران؟ - سافروا أمس أو هذا ما أخبرتني به في زيارتها .. - وكيف تلقت كارثة أسرتها؟ - تجنبت هذا الحديث بطبيعة الحال ولم تشر هي إليه!
Unknown page