فقال أحمد باسما: تذكرين طبعا افتتاحيات الأستاذ عدلي كريم قبل الحرب؟ - لقد عطلت مجلتنا مرة في عهد علي ماهر بسبب مقال عن ذكرى الثورة العرابية اتهم فيه الأستاذ الخديو توفيق بالخيانة.
ويوما سألته ضمن حديث عابر: لماذا اخترت الصحافة؟
فتفكر قليلا، إلى أي درجة يجوز له أن يكشف عن ذات نفسه لهذه الفتاة التي تبدو طرازا وحدها بين من عرف من بنات جنسها! - لم أدخل الجامعة لأتوظف، ولكن عندي أفكار أريد التعبير عنها ونشرها وما من سبيل إلى ذلك خير من الصحافة ..
فقالت باهتمام سر له من أعماقه: أما أنا فلم أدرس في الجامعة، أو بالحرى لم تتح لي فرصة (سرته صراحتها كذلك وإن أكدت في نفسه مخالفتها لبنات جنسها) .. إني متخرجة في مدرسة الأستاذ عدلي كريم، وهي ليست دون الجامعة منزلة، درست عليه منذ حصولي على البكالوريا ، وأصارحك بأنك أحسنت تعريف الصحافة، أو الصحافة التي نعمل فيها، بيد أنك تنفس عن أفكارك - حتى الآن - عن طريق غيرك، أعني بالترجمة، ألم تفكر في اختيار الشكل الذي يناسبك من أشكال الكتابة.
فصمت مفكرا كأنما أغلق عليه المعنى المقصود ثم تساءل: ماذا تعنين؟ - المقالة، الشعر، القصة، المسرحية؟ - لا أدري، المقالة أول ما يتبادر إلى الخاطر ..
فقالت بلهجة ذات معنى: نعم، ولكنها لظروفنا السياسية، لم تعد مطلبا يسيرا؛ لذلك يضطر الأحرار إلى إذاعة آرائهم بالمنشورات السرية، المقالة صريحة ومباشرة ولذلك فهي خطيرة، خاصة وأن الأعين محملقة فينا، أما القصة فذات حيل لا حصر لها، إنها فن ماكر، وقد غدت شكلا أدبيا شائعا سوف ينتزع الإمامة في عالم الأدب في وقت قصير، ألا ترى أنه ما من كبير من شيوخ الأدب إلا وهو يثبت وجوده في مجال نشاطها ولو بمؤلف واحد؟ - نعم، قرأت أكثر هذه المؤلفات، ألم تقرئي للأستاذ رياض قلدس الكاتب بمجلة الفكر؟ - هذا واحد من كثيرين، وليس خيرهم! - ربما. لقد لفتني إليه خالي الأستاذ كمال أحمد عبد الجواد الكاتب بنفس المجلة ..
فقالت باسمة: هو خالك؟ قرأت له مرات، ولكن .. - ..؟ - معذرة إنه من الكتاب الذين يهيمون في تيه الميتافيزيقا!
فتساءل فيما يشبه القلق: ألم يعجبك؟ - الإعجاب شيء آخر، إنه يكتب كثيرا عن الحقائق القديمة: الروح .. المطلق .. نظرية المعرفة، هذا جميل، ولكنه - فيما عدا المتعة الذهنية والترف الفكري - لا يفضي إلى غاية، ينبغي أن تكون الكتابة وسيلة محددة الهدف، وأن يكون هدفها الأخير تطوير هذا العالم والصعود بالإنسان في سلم الرقي والتحرر، الإنسانية في معركة متواصلة والكاتب الخليق بهذا الاسم حقا يجب أن يكون على رأس المجاهدين، أما وثبة الحياة فلندعها لبرجسون وحده .. - ولكن كارل ماركس نفسه بدأ فيلسوفا ناشئا يهيم في تيه الميتافيزيقا؟ - وانتهى بعلم الاجتماع العلمي، فمن هنا نبدأ لا من حيث بدأ ..
لم يرتح أحمد إلى نقد خاله على هذا النحو، فقال بغية الدفاع عنه قبل كل شيء: الحقيقة جديرة دائما بأن تعرف، مهما تكن، ومهما يكن الرأي في آثارها ..
فقالت سوسن في حماس: هذا مناقض لما تكتب، فأراهن على أنك متأثر بالوفاء لخالك!
Unknown page