فاحتضنتها أمها وهي تقول: إني أعلم الناس بحزنك، حزن يجل عن العزاء، ليتني كنت فداهم، ولكن لله جل وعلا حكمته، وما جدوى الحزن يا مسكينة؟! - كلما نمت حلمت بهم، أو حلمت بالحياة الأولى .. - وحدي الله، ذقت ما تعانين طويلا، أنسيت فهمي؟ ولكن المؤمن المصاب مطالب بالصبر، أين إيمانك؟
فهتفت في امتعاض: إيماني! - نعم، اذكري إيمانك، وتوسلي إلى ربك تنزل عليك الرحمة من حيث لا تدرين. - الرحمة! أين الرحمة، أين؟ - رحمته وسعت كل شيء، طاوعيني وتعالي معي إلى الحسين، ضعي يدك على الضريح واتلي الفاتحة تتحول نارك إلى برد وسلام كنار سيدنا إبراهيم ..
ولم يكن موقفها حيال صحتها دون ذلك اضطرابا، فحينا تتردد على الأطباء في مثابرة وانتظام حتى يظن بها العودة إلى الاستمساك بأهداب الحياة، وحينا تهمل نفسها وتزدري كافة النصائح لدرجة الانتحار. أما زيارة القرافة فهي التقليد الوحيد الذي لم تشذ عنه مرة واحدة، وكانت تنفق فيها بسخاء وتهبها عن طيب خاطر كل ما ملكت يمينها من ميراث زوجها وابنتها حتى استحال حول المقبرة حديقة غناء موشاة بالأزهار والرياحين. ويوم جاءها إبراهيم شوكت لإتمام إجراءات الميراث ضحكت ضحكة مجنونة وقالت لأمها: هنئيني على ميراثي من نعيمة ..
وكان كمال يمر بها كلما آنس منها استقرارا، فيجالسها مليا ملاطفا متوددا. كان يتأملها طويلا صامتا، ويتخيل محزونا الصورة الذاهبة التي أبدع الله صنعها، ثم يتفحص ما آلت إليه. لم تكن هزيلة فحسب، ولا مريضة فحسب، ولكن محزونة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، ولم يغب عنه ما بينهما من أوجه الشبه في الحظ؛ فهي قد فقدت ذريتها وهو قد فقد آماله، وانتهت إلى لا شيء كما انتهى إلى لا شيء، بل كان أبناؤها لحما ودما أما آماله فكانت كذبا وأوهاما! وقال لهم يوما: أليس من الأفضل أن تذهبوا إلى المخبأ إذا أطلقت صفارة الإنذار؟
فقالت عائشة: لن أغادر حجرتي ..
وقالت الأم: إنها غارات آمنة ومدافع كالصواريخ ..
أما أبوه فجاء صوته من الداخل وهو يقول: لو أن بي قدرة على الذهاب إلى المخبأ لذهبت إلى الجامع أو إلى بيت محمد عفت ..
ويوما جاءت عائشة من السطح مهرولة وهي تلهث وقالت لأمها: حدث شيء عجيب!
فنظرت إليها أمها في استطلاع مشوب بالرجاء، فعادت تقول وهي ما تزال تلهث: كنت في السطح أراقب غروب الشمس، وكنت على حال من اليأس لم أشعر بمثلها من قبل، وفجأة فتحت في السماء نافذة من نور بهيج فصحت بأعلى صوتي: «يا رب.»
اتسعت عينا الأم في تساؤل، أهي الرحمة المنشودة أم هاوية جديدة من الأحزان؟ وتمتمت: لعلها رحمة ربنا يا ابنتي ..
Unknown page