Sufiyya Nashatha Wa Tarikhha
الصوفية: نشأتها وتاريخها
Genres
111
ومن خلال قدرات الصوفيين الإعجازية، ومهارتهم في كتابة الأحجبة العربية، وتحول قبورهم بعد وفاتهم إلى أضرحة مقدسة، كانوا محوريين في تنفيذ نسق الأسلمة الثنائي الجانب هذا. (10) حملة تصحيح: الفقهاء والمجددون، من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر تقريبا
سواء من حيث الأشخاص أو المؤسسات أو الأفكار، رأينا في هذا الفصل حتى الآن كيف أن الصوفية بلغت قدرا من التأثير جعلها مندمجة في أساليب الحكم التي تنتهجها الدولة، أو جعلها حتى تحل محل الدولة تماما. لقد تغلغلت الأفكار والمؤسسات الصوفية في كل مستويات المجتمع في أوائل العصر الحديث في معظم أنحاء العالم الإسلامي، لدرجة أنه أصبح من الصعب في الغالب التمييز بين الصوفي وغير الصوفي. مارس المسلمون العاديون الصوفية، سواء عن طريق تبجيل الأضرحة أو غناء أغنية صوفية رائجة، أو الانتساب لطريقة صوفية انتسابا رسميا على يد شيخ حي، وأصبحت الصوفية إلى حد كبير لا يمكن تفريقها عن الإسلام في العموم. وبحلول القرن السابع عشر أصبح التقليد المدعوم من الصوفيين - ذلك التقليد الذي يزعمون أنه منقول عن النبي محمد من خلال الصوفيين الأوائل أمثال الجنيد ومؤسسي الطرق حتى وقتهم - متنوعا على نحو كاف، لدرجة أنه أصبح ثمة مجموعة متنوعة محيرة من الممارسات والمعتقدات والمنظمات الصوفية. كان الصوفيون على اختلافهم يفعلون أمورا مختلفة على نحو مدهش للغاية في أغلب الأحيان، وأثار نطاق المعتقدات والممارسات هذا التساؤل حول إمكانية أن تكون كل هذه الممارسات والمعتقدات التقليد الحقيقي الذي تركه النبي. وفي القرن السابع عشر، درس الفقهاء الصوفيون في كل أرجاء العالم الإسلامي، وكان أول الأسئلة الأساسية في هذه الدراسة هو: أي طريقة تربط المسلمين على أفضل وجه بالسنة المحمدية؟ ونظرا لأنه كان واضحا أن كثيرا من الصوفيين كانوا يقومون بأمور لم يفعلها النبي قط، فكان السؤال الثاني هو: أي ممارسات الصوفيين التي تعد «بدعا حسنة» مقبولة، حتى إن لم تكن جزءا من السنة النبوية، وأيها يعد «بدعا سيئة» يجب قمعها؟ كانت فكرة «البدعة» هذه أداة النقد الأساسية التي استخدمها الصوفيون وغير الصوفيين في نقد من يرون أنه منحرف عن سنة النبي وتقليد الصوفيين الأوائل الذين تبعوه.
توجد أسباب كثيرة لحدوث «حملة تصحيح» القرن السابع عشر في ذلك الوقت، فكما رأينا في تمهيد هذا الفصل، فإنه على الرغم من أن توقيت هذه الحملة يمكن إرجاعه جزئيا إلى بداية الألفية الإسلامية عام 1591 (أي عام 1000 في التقويم الإسلامي)، فإن الزمن الثقافي للتقويم الإسلامي لم يكن العامل الوحيد، بل يجب الأخذ في الاعتبار أيضا الزمن العملياتي الذي يستخدمه المؤرخون. وكما رأينا في السابق، فقد تزامن القرن الأخير في الألفية الإسلامية الأولى، والقرن الأول في الألفية الإسلامية الثانية، مع الزمن العملياتي الذي حدثت فيه مجموعة تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية، جعلت المؤرخين يشيرون إلى هذه الفترة بأنها تنتمي لأوائل العصر الحديث. والآثار الكبيرة لهذا التزامن بين الزمن الثقافي والزمن العملياتي هي ما تجعلنا نقول إن هذه الفترة تميزت بحملة تصحيح أثرت على جماعات كثيرة، وليس على الصوفيين وحدهم.
إلا أن مرور الوقت أثر على الصوفيين أيضا من نواح أكثر تحديدا، خاصة من خلال التوتر بين حملة التصحيح الأكثر عمومية هذه، وبين نتاج مرور الوقت المتمثل في تكوين فيض من الأفكار والممارسات والمؤسسات، التي تزعم جميعها أنها تمثل التقليد الصوفي الحقيقي. وقد وصفنا في السابق هذا التطور بأنه عملية تنويع. وأثناء حملة التصحيح في هذه الفترة، وصفت أشكال كثيرة من هذ التقليد الصوفي المتنوع بأنها «بدع» منحرفة عن السنة النبوية، وكان ذلك جزءا من نقد تدريجي وتراكمي، بدافع الرغبة في التصحيح، ظهر في القرن السابع عشر، وازدهر بوضوح بالغ في القرن الثامن عشر، عندما أدت الضغوط المتزايدة في أوائل العصر الحديث إلى انهيار كثير من الدول الإسلامية؛ ومن ثم، فإن أحد الأسباب التي جعلت العلماء الصوفيين وغير الصوفيين ينتقدون كثيرا من الممارسات التي كانت موجودة في القرن السابع عشر، هو أنه في هذه الفترة كان يوجد ببساطة أشكال من الممارسات الصوفية أكثر تنوعا بكثير من تلك التي تطورت في القرون السابقة؛ وذلك عن طريق عمليات إضفاء الطابع المحلي على الصوفية، التي تناولناها في الفصل الثاني. وأيا كانت الأبعاد الدينية لحملة التصحيح، فإنه يمكن اعتبارها من الناحية التاريخية نتيجة ل «النجاح» الهائل لعملية الأسلمة، وليست نتيجة لفشلها، كما زعم العديد من علماء الدين المنتقدين للصوفيين في اتهاماتهم؛ فالكثير من الطقوس التي انتقدت باعتبارها ذات أصول «وثنية» تعود لفترة ما قبل الإسلام، كانت نسخا محلية من الإسلام، أو ممارسات إسلامية قديمة أصبحت محل جدل في أوائل العصر الحديث؛ ومن ثم، يمكن جزئيا توصيف ممارسة انتقاد «البدع» على أنها رد فعل ديني تجاه عملية إضفاء الطابع المحلي التاريخية التراكمية، ذاك الذي اكتسب زخما من حملة التصحيح الأكثر عمومية، التي أثرت على نطاق عريض من المسلمين أثناء التغيرات العنيفة التي حدثت في تلك الفترة.
إن انتشار انتقاد «البدع» منذ القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر يمكن أن يكون مرتبطا بدوره بزيادة «الوعي» بهذا التنوع في الممارسات. وقد حدث هذا الوعي المتزايد بالتنويع المزعج للتقليد مع سفر أعداد متزايدة من العلماء المسلمين إلى مناطق إسلامية أخرى (لا سيما خارج الشرق الأوسط) كجزء من التفاعلات الأوسع نطاقا بين المناطق المختلفة التي ميزت تلك الفترة. كذلك من الممكن أن نربط بين انتشار انتقاد البدع والتفاعل المتزايد بين مناطق معينة، الذي ميز هذه الفترة أيضا. فمع انتقال أهل الريف إلى المدن الناشئة في إمبراطوريات تلك الفترة، جلبوا معهم إسلامهم المحلي المميز. ومع انتقال أهل الحضر المتعلمين في بعثات حكومية إلى المناطق الإقليمية أو الريفية، فإنهم صادفوا بدورهم أشكال الإسلام الصوفي المتنوعة الموجودة في الريف. وفي هذا الصدد أيضا، كانت التفاعلات الاجتماعية هي السبب في إثارة المشاكل الدينية؛ حيث استخدم العلماء المسلمون (سواء أكانوا صوفيين أم غير صوفيين) مفهوم «البدعة» أثناء محاولة فهم المشكلة المفاهيمية المتمثلة في عدم إمكانية أن تكون كل ممارسة إسلامية حافظوا عليها نابعة من تعاليم النبي محمد. ويمكن مقارنة العواقب الدينية لهذا الحراك المتزايد بين مسلمي الحضر ومسلمي الريف بظهور نظرية قامعة ل «ممارسة السحر» في أوروبا المسيحية في الفترة نفسها، كرد فعل على تفاعلات مشابهة بين أهل الريف وأهل الحضر. ومثلما كان ممكنا استخدام الاتهام بممارسة السحر والعلم به لإدانة ممارسات وأحوال متنوعة على نحو مدهش في عدد من الأماكن المختلفة، كان مفهوم «البدع» على نحو مماثل قابلا للنقل من حيث تطبيقه، وسلطويا من حيث تناسقه. وعلى الرغم من أن حملة التصحيح الجديدة هذه أدت من ثم إلى انتقاد البدع على نطاق جغرافي واسع، فإنها باستثناء حالات قليلة (أبرزها في إيران) لم تتضمن هجوما كاملا على قدرة الصوفية بشكلها هذا على نقل تراث النبي محمد، بل كانت في القرن الأول من الألفية الإسلامية الجديدة تدور حول تحديد سمات التقليد الصوفي المفيدة، وتلك الهادمة للحياة الإسلامية الصحيحة. وتطلب الأمر انتظار حركة الإصلاح الإسلامي الكبيرة، التي حدثت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حتى ترى أعداد كبيرة من المسلمين أن الصوفية بكل صورها عاجزة عن ربطهم بالنبي.
على الرغم من أن الباحثين الغربيين كانوا يعتبرون الصوفيين خصوما متصوفين لعلماء الإسلام - كما أوضح الفصلان الأول والثاني - فإنه في كثير من الحالات كان الصوفيون والعلماء الأشخاص أنفسهم، وحتى عندما لم يكونوا كذلك، فقد كانت توجد بينهم اهتمامات متشابهة متمثلة في الشريعة والقرآن والسنة. وعلى الرغم من ذلك، ظهر في القرن السابع عشر توجه جديد نحو الالتزام بالشريعة في كل إمبراطورية من إمبراطوريات أوائل العصر الحديث. إلا أنه بدلا من البحث عن التوترات الكامنة بين المعرفة التصوفية والمعرفة الشرعية المجردة، اللتين تمثلان السلطة الشرعية والسلطة التصوفية، فإنه من المفيد أكثر من الناحية التاريخية أن ندرك أن هذا التحول نحو الالتزام بالشريعة وحملة التصحيح المسببة له، ينطويان على جماعات معينة تتخذ رد فعل تجاه ظروف معينة. وعندما نرى المعرفة التصوفية والعلم الشرعي كنوعين من السلطة يمكن توحيدهما في شخص واحد، أو مناصرتهما على نحو منفصل من قبل أشخاص متنافسين، سيساعدنا هذا النهج المعتمد على السياق في التعامل مع تناقضات الصورة القديمة الثابتة المتمثلة في «التعارض بين المتصوفين والعلماء»؛ إذ ما ننظر إليه في الغالب هو صورة الصوفيين الذين يستخدمون الشريعة، إما لانتقاد بعضهم البعض، أو لانتقاد العوام (على الرغم من أننا سنرى أمثلة مهمة لعلماء ليست لديهم علاقة بالصوفيين يستخدمون الشريعة لانتقاد الصوفيين في العموم). في الصفحات المقبلة، سوف نلتفت إلى دراسات حالة لما وصل في القرن السابع عشر إلى منزلة المعارضة الواسعة النطاق للصوفية من قبل علماء الشريعة في كل أنحاء العالم الإسلامي تقريبا. وإذا كان كثير من هؤلاء العلماء هم أنفسهم صوفيون يسعون إلى التقليل من شأن إخوتهم الذين استخفوا بالشريعة، فإننا سنرى في حالات أخرى تزايد مكانة طبقة العلماء الذين لا يرتبطون بصلة بالصوفيين على الإطلاق. (11) منطقة البحر المتوسط: العثمانيون المتأخرون
دعونا نلتفت أولا مرة أخرى إلى الإمبراطورية العثمانية في استعراضنا هذا لحملة التصحيح التي حدثت في القرن السابع عشر، سنجد أنه على الرغم من اعتناء الإمبراطورية العثمانية بتدريب طبقة من علماء الشريعة، فقد شهدت الفترة تقريبا ما بين عام 1620 وعام 1685 استخدام جماعة من هؤلاء العلماء لمكانة علمهم في نشر بذور الشقاق في المجتمع الذي كانوا يعتبرونه فاسدا أخلاقيا ، بدلا من جعل علمهم مسخرا لتحقيق التناغم الاجتماعي، وانتقدت هذه الجماعة المعروفة باسم «حركة قاضي زاده» الصوفيين الذين كانوا جزءا لا يتجزأ من المجتمع العثماني. وعلى هذا النحو؛ فقد مثلت المجادلات التي دخلها هؤلاء مع الخصوم الصوفيين صراعا بين أطراف مختلفة داخل النظام العثماني.
112
إن المسألة أبعد بكثير من كونها مجرد مثال بسيط على الخلاف بين الصوفيين والعلماء؛ إذ احتفظ كثير من العلماء بعضويتهم في الطرق الصوفية، لا سيما تلك الأكثر التزاما بالشرعية؛ مثل الطريقة الخلوتية، والطريقة النقشبندية. ونظرا لأن حركة «قاضي زاده» جعلت العلماء ينقسمون على أنفسهم، فقد وصفت الخلافات التي أثارتها وصفا مناسبا هو: «انقسام قلب المؤسسة الدينية ... على نفسه.»
Unknown page