تمهيد وشكر وتقدير
مقدمة
1 - الأصول والأسس والمنافسون (850-1100)
2 - إسلام الأولياء والطرق (1100-1400)
3 - الإمبراطوريات والحدود والمجددون (1400-1800)
4 - من الاستعمار إلى العولمة (1800-2000)
مسرد المصطلحات الصوفية
ملاحظات
قراءات إضافية
تمهيد وشكر وتقدير
مقدمة
1 - الأصول والأسس والمنافسون (850-1100)
2 - إسلام الأولياء والطرق (1100-1400)
3 - الإمبراطوريات والحدود والمجددون (1400-1800)
4 - من الاستعمار إلى العولمة (1800-2000)
مسرد المصطلحات الصوفية
ملاحظات
قراءات إضافية
الصوفية
الصوفية
نشأتها وتاريخها
تأليف
نايل جرين
ترجمة
صفية مختار
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إلى كارين
أختي وصديقتي الأولى.
تمهيد وشكر وتقدير
على الرغم من كثرة الكتب التمهيدية التي تتحدث عن الصوفية، والتي من بينها العديد من الكتب الرائعة التي تتناول فترات محددة أو معتقدات وممارسات معينة، والتي تجاوزت أخطاء نموذج التصوف القديم الذي تنتقده مقدمة هذا الكتاب؛ فإنه لا توجد دراسة شاملة عن الصوفية تخصص القدر نفسه من القيمة والتركيز لكل فترة من تاريخها. ونظرا لأن هذا الكتاب يستهدف طلبة التاريخ والدراسات الدينية، وكذلك القارئ العادي، فإنه عمل سردي عام ومفسر، يتتبع الصوفية منذ ظهورها وحتى العصر الحديث. وإلى حد كبير، إن النطاق العالمي المتزايد للسرد المقدم في هذا الكتاب يعكس وفرة المعرفة المتاحة حاليا في هذا المجال. ونظرا لأن هذا الكم المعرفي الهائل تتزايد صعوبة تناوله، فقد قدمت مراجع وافية في الملاحظات النهائية؛ كي تسمح للقراء الأكثر اهتماما بالحصول على مزيد من التفاصيل عن أي جزء يهمهم من التاريخ الصوفي. والأهم من ذلك أن محاولة إعادة توزيع الاهتمام على كل الفترات والمناطق تبرز رفضا لفكرة أن الصوفية استقرت في واقع الأمر في «موطن» واحد أو في عصر «كلاسيكي» واحد دون غيره. أوضح في المقدمة أنه من الأفضل فهم الصوفية في ضوء مظلة «التقليد» بدلا من «التصوف»؛ فنظرا لأن التقليد بطبيعته هو كل ما يتوارث عبر الزمان والمكان، فإن أي محاولة صادقة لتتبع تاريخ أي تقليد لا بد أن تقبل طبيعة الممارسة المتغيرة عبر الزمن، والموزعة مكانيا. وعلى الرغم من أن الأعمال السردية التزامنية أو المنزوعة من السياق التاريخي، التي تحدثت عن «جوهر» الصوفية، قدمت نفسها في الغالب على أنها أكثر اتساقا مع روح الصوفية؛ فقد توصلت إلى وجهة نظر، بعد عقدين من دراسة كتابات الصوفيين، تتمثل في أن مشكلة مرور الزمن وتغير المكان ليست محورية فحسب لاهتمامات الصوفيين، بل مكون أساسي في تكوينهم للتقليد الذي توارثوه أو نقل إليهم. فلم يسع الصوفيون إلى الاتحاد مع الله ونبيه محمد من خلال الخروج من دائرة الزمن، وإنما من خلال ربط أنفسهم بسلاسل المعرفة والبركة التي تنقلهم عبر القرون إلى لحظة نزول الوحي على النبي وترك آدم لمعية الله. وفي صراعاتهم الكثيرة مع المعضلات الوجودية للحياة البشرية، رجعوا مرارا وتكرارا إلى دروس الشيوخ الصوفيين الأحياء، وكتب الأولياء الأموات الذين أوضحت لهم تعاليمهم الطريق إلى الخلود.
وبالرغم من أن هذا الكتاب يعد بأن يكون «سردا تاريخيا»، فقد اضطر في أحيان كثيرة إلى الاعتماد على معرفة غير تاريخية (هي مع ذلك ذات صلة كبيرة بالموضوع). وبالرغم من إدراك أن هذا قد يؤدي إلى تفاوت منهجي في أجزاء معينة في الكتاب، فإنه في الدراسة التمهيدية توجد فرصة قليلة لتناول المشاكل التأريخية المتضمنة؛ ومن ثم فإن تقييماتي كامنة في الأساس في استخدامي لبيانات أو حجج معينة. ففي عمل موجز نسبيا كهذا، كانت تأكيداتي على فهم الصوفية من منظور التقليد والمجتمع والسلطة تعني أيضا أنني أوليت اهتماما أقل - مقارنة بالأعمال التمهيدية الأخرى - بالعوالم الخاصة المتعلقة بالنشوة والحب والتجربة. بالرغم من ذلك، فإن هذا التحول للاهتمام من الخاص إلى العام قائم على الإيمان بالقيمة التفسيرية لهذه التأكيدات في فهم مكان الصوفية في السياقات المحيطة في التاريخ الإسلامي والعالمي. في هذا الصدد، فإن هدف هذا الكتاب هو معايرة تاريخ الصوفية، من خلال وضعه في سياق التاريخ الاجتماعي والسياسي والفكري للشعوب الإسلامية؛ ومن ثم إزالة الهالة التي يشوبها الغموض، والتي أحاطت بدراسة الصوفية منذ بدء محاولات التأريخ العلماني للعالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين. بهذه الطريقة، وبدلا من تقديم سرد تاريخي عن الصوفية منفصل على نحو ذاتي، فإن هدف السرد هنا في مجمله هو ربط التاريخ الصوفي بحدود التاريخ العالمي الأوسع نطاقا، من خلال الإشارة إلى رسوخ الصوفية في التجربة التاريخية الإسلامية الأشمل. •••
فيما يتعلق بكتابة هذه الدراسة، أدين بالشكر لعدد كبير من الباحثين، وأود أن أتوجه بالشكر هنا إلى أعمال هؤلاء الذين أثروا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على كتابة هذا العمل الذي يعد بطبيعته عملية تجميع. نشأت إمكانية تأليف هذا الكتاب من أعمال شبكة عالمية واسعة من الباحثين في الصوفية، يمكنها أن تنافس من حيث الحجم حتى أكبر الطرق الصوفية. وعلى الرغم من استحالة شكر كل مؤرخ، واختصاصي نصوص، وعالم أنثروبولوجيا على ما تعلمته منه، فإن وافر شكري وتقديري الحقيقيين يكمن، كالعادة، في الملاحظات والاقتباسات. على الرغم من ذلك، أود أن أشكر على وجه التحديد عدة باحثين أثروا أكبر الأثر على فهمي للصوفية على مدار سنوات الدراسة، وكذلك عدة زملاء تحلوا بكرم كبير لقراءة مسودة الكتاب والتعليق عليها. أتوجه بالشكر أولا إلى جوليان بالديك، وكارل دبليو إرنست، وأحمد تي قره مصطفى على تشكيل أفكاري حول الصوفية على نحو غير مباشر في مراحل مختلفة من حياتي المهنية؛ وإلى كريستوفر ميلكرت على كرمه الفكري المثالي. وفيما يتعلق بالتعليقات التفصيلية والمقترحات المقدمة لمسودة الكتاب، أقدم شكري الخاص إلى علي أنوشهر (جامعة كاليفورنيا، ديفيز)، وديفين دويز (جامعة إنديانا، بلومنجتون)، ومايكل كوبرسون (جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس)، وأحمد تي قره مصطفى (جامعة واشنطن بسانت لويس)، وكريستوفر ميلكرت (جامعة أكسفورد)، وأظفر موين (جامعة ساوثرن ميثوديست)، واثنين من القراء المجهولين لي. إن كل المبالغات وحالات إساءة الفهم والأخطاء مرجعها إلي. وأتوجه بالشكر أيضا إلى جيليان أندروز على تحرير النص، وإلى هيزيل هاريس لتولي عملية الإنتاج. وللسماح بنشر الصور، أدين بالامتنان إلى معرض سميثسونيان فرير للفنون، ومعرض آرثر إم ساكلر (الشكل
1-1
والشكل
3-3 )، وإلى مكتبة جامعة لايدن (الشكل
1-2 )، والمكتبة البريطانية (الشكل
3-2 )، ومتحف الإثنولوجيا الوطني في ميونيخ (الشكل
3-2 )، ومعرض بريدجمان للفنون (الشكل
4-1 )، وإلى ألين إف روبرتس وماري نوتر روبرتس (الشكل
4-2 ). كل الصور الأخرى من تصويري أو من مقتنياتي الخاصة.
إذا كنت قد تعلمت الكثير من أساتذتي الأكاديميين ورفقاء الدرب، فإن تصوري الشامل عن الصوفية ومكانتها في الحياة الاجتماعية لممارسيها ليس إلا نتاج تفاعلاتي مع التراث الحي للتقليد الصوفي في أشكاله المتعددة التي اكتسبها في مناطق كثيرة مختلفة. وعلى مدار العشرين سنة التي اخترت فيها دراسة تقليد الصوفيين، قابلت بعضهم وألقيت نظرة على تراثهم في أماكن بعيدة مثل المغرب، وإسبانيا، ومصر، وسوريا، واليمن، وتركيا، وإيران، وأفغانستان، والهند، وباكستان، وسنغافورة، وماليزيا، وجنوب أفريقيا، وأوروبا. إن التصور المقدم في هذا الكتاب للصوفية باعتبارها «تقليدا» مأخوذ في الأساس مما رأيته عمليا بين هؤلاء الصوفيين، الذين يزعمون أنهم ورثة النبي محمد.
شكر أخير أوجهه إلى والدي ووالدتي، جيفري وأوليفيا جرين، على تشجيعهما لي على مدار حياتي، وعلى إيصالي إلى «الرباط» الموجود في جواردامار، وذلك في المحطة الأخيرة من رحلات هذا الكتاب.
نايل جرين
لوس أنجلوس، يوليو 2011
والآن وصلوا أخيرا إلى فارس،
داخل حدود بلد الصوفي العظيم.
مسرحية «رحلات الإخوة الإنجليز الثلاثة» (1607)
مقدمة
(1) من التصوف إلى التقليد: وضع تصور للصوفية
عادة ما تعرف الصوفية بأنها «تصوف» إسلامي يضم مجموعة أساليب يسعى من خلالها المسلمون إلى التواصل الشخصي المباشر مع الله. وعلى الرغم من صحة أن الصوفية تتضمن كثيرا من عناصر التصوف، فإن المدى الاجتماعي الواسع الذي وصلت إليه على مدار قرون توسعها جعلها أكثر من مجرد طريق لنخبة باطنية. أدرك إيه جيه آربري، أستاذ الاستشراق في جامعة كامبريدج، هذه المشكلة في مقدمته للصوفية التي كانت ذات أثر كبير، ورأى أن الصوفية تضمنت طريقا دينيا لكل من جمهور المسلمين من العوام وعدد أصغر من المتصوفين المتسامين.
1
ويرى آربري وكثير من المعلقين المتأخرين أن التوتر فيما بين الصوفية «التصوفية» والصوفية «الشعبية» تكشف من خلال سرد تدهورها؛ فما بدأ كحركة «تصوف» حقيقية لأفراد يسعون إلى الاتحاد الشخصي مع الله، فسد في فترة العصور الوسطى، وتحول إلى تقديس لأولياء أصحاب معجزات لا يمت بصلة للتصوف الصوفي «الحقيقي». وفي هذا الشأن، كتب آربري بنبرة مزدرية فقال: «بمجرد أن أصبحت أساطير المعجزات مرتبطة بأسماء الصوفيين العظماء، كان حتميا أن يستحسن العوام السذج الدجل أكثر من التعبد الحقيقي.»
2
وبالنسبة إلى آربري وكثير ممن كتبوا من بعده، فإن نتيجة هذا النموذج المتدهور أنه بداية من أواخر فترة العصور الوسطى وما بعدها أصبحت الصوفية غير جديرة بالدراسة. وهذا لم يكن على الأرجح إلا مفارقة؛ ففترة العصور الوسطى وفترة أوائل العصر الحديث اللتان شهدتا بلوغ الصوفية أوج التأثير والنجاح، هما بالضبط الفترتان اللتان كانتا موضع تجاهل بوصفهما عصري تدهور ما بعد الفترة الكلاسيكية.
على مدار الثلاثين سنة الماضية، تعرض نموذج الكلاسيكية والتدهور هذا إلى الرفض الكامل، وأسهمت الدراسات الحديثة عن الصوفية إلى حد كبير في الإطاحة بالسرد الكبير الذي قدمه آربري ومنظرو التدهور اللاحقون من أمثال جيه إس تريمينجهام.
3
وعلى الرغم من ذلك، ففي كثير من المناقشات المتعلقة بالصوفية، تظل السمات الأساسية للتوجهات القديمة حاضرة، لا سيما المشكلة المحورية المتعلقة بمدرسة التفسير القديمة المتمثلة في نموذج «التصوف» نفسه. فوفقا لفهم الباحثين الأوروبيين والأمريكيين في أوائل القرن العشرين، اعتمدت فكرة التصوف على تصور للدين؛ عالمي من الناحية الفكرية، وحداثي من الناحية الزمنية، وبروتستانتي من الناحية الثقافية. كانت سلطة التجربة المباشرة التي لا وسيط فيها للفرد المنعزل تعتبر منبع التدين الحقيقي في كل الثقافات وكل الفترات الزمنية.
4
وعلى نسق بروتستانتي مشابه، كان «الدين» نفسه يعتبر فئة منفصلة على نحو صائب (أو على نحو مفضل على أقل تقدير) عن عالم «السياسة» الفاسد. وعندما طبق هذان النموذجان على دراسة الإسلام، كان الصوفي النموذجي في رأي كثير من الباحثين هو النقيض التام للمؤسسة الحاكمة الإسلامية الملتزمة بالشريعة، سواء أكان يعيش في عزلة هادئة بعيدا عن شئون الدنيا، أم كان يقود ثورات تنتهي باستشهاد حماسي.
5
إن نموذج التصوف هذا - التوجيهي وليس الوصفي - مثل في بعض الأحيان معتقدا في حد ذاته. وعند تطبيق ذلك النموذج على سياقات ثقافية أو زمنية أكثر بعدا عن مكان نشوئه، فإنه يميل إلى انتقاد أو استبعاد كثير من الأمور المفترض أن يفسرها. وفي حالة الصوفية، طال هذا الاستبعاد أو الانتقاد أبعادا كثيرة مهمة في التاريخ الصوفي لم تلائم نموذج السالك المنفرد الذي يسعى إلى الله؛ مثل الطرق الصوفية الهرمية، والطقوس المعقدة المتعلقة بالتوسل بالأولياء للتأثير على قرارات السلاطين.
إلا أنه على النقيض من فكرة الغرب عن التصوف، فقد كانت جوانب كثيرة من الصوفية جماعية وعلنية، وليست فردية وخاصة. فتوضح محورية العلاقة بين الشيخ أو المرشد (المعلم) والمريد (التابع)، التي بدت أنها حجر الأساس في الممارسة الصوفية، أن الممارسات «التصوفية» مثل تدمير الأنا لم تكن نتيجة تجارب خاصة من الاتصال المباشر مع الله، بل كانت عمليات اجتماعية قائمة على علاقة توجيهية مع طرف ثالث بشري. ومع نمو حجم الطرق الصوفية، أصبحت هذه العلاقات (والتحولات الاجتماعية والنفسية المشتركة التي تدعمها) أكثر شيوعا؛ بحيث أصبحت آثارها أكثر انتشارا وجماعية. وفي كثير من المناطق حول العالم، أسفر ذلك عن تحويل الصوفية نظم السلطة الاجتماعية إلى نماذج سلطوية، تناولها بالدراسة عبد الله حمودي، عالم الأنثروبولوجيا المولود في شمال أفريقيا.
6
وبالإضافة إلى إهمال مفهوم التصوف للجانب الاجتماعي، فقد قلل أيضا من الجانب المادي، واضعا الصوفية على نحو صارم في نطاقات الروحانية، في حين أن الصوفيين كانوا منغمسين في نطاقات المادية الملموسة بالقدر نفسه، بداية من طقوسهم الجسدية وتقديسهم لآثار الأولياء، وحتى مباني الأضرحة خاصتهم، والقدرات المباركة التي يعتقدون أنها موجودة فيهم. وإلى حد كبير، لم تكن الصوفية «تصوفا» عاما قائما على التجارب الدينية المتاحة على نحو ديمقراطي للجميع، بل كانت في كثير من الأماكن تجسيدا للإسلام السلطوي القائم على القدرات المباركة المتوارثة من خلال أنساب مرموقة؛ ولهذا السبب، عرف أحد علماء الأنثروبولوجيا شيوخ الصوفية بأنهم: «الأشخاص الذين يتدفق في دمهم (المدون في سجل أنسابهم) بركة النبي محمد.»
7
كذلك، يميل مفهوم التصوف إلى الارتباط بالأمور العفوية وغير المتدرب عليها، بدلا من الأمور المنهجية والسياسية. غير أن الكتب القديمة عن الممارسة الصوفية أظهرت اهتماما كبيرا بمسائل آداب السلوك والطقوس التعبدية. والصوفيون ليسوا على الإطلاق روادا «طليعيين» روحانيين زاهدين؛ فقد كانوا في كثير من المناطق أطرافا سياسية أساسية استمتعت بأسباب الراحة المكتسبة من الأراضي الشاسعة المملوكة لهم، ودعم جيوش أتباعهم المخلصين. ومن خلال سلسلة من التطورات التي يتتبعها هذا الكتاب، أصبحت الصوفية سلطوية ومعادية للفردية على نحو كاف، لدرجة أنه في العصر الحديث أدت النزعات الداعية إلى الديمقراطية والفردية بين المسلمين إلى هجر ملايين منهم لتعاليم الصوفيين.
بالإضافة إلى ميل نموذج التصوف إلى تضييق النطاق والتوجيه، فإنه يثير أيضا تحديات معينة عند كتابة التاريخ؛ فلو كان جوهر الصوفية - كما هو الحال بالنسبة إلى التصوف - يكمن في التجربة الخاصة المتسامية، لاضطر المؤرخون حتما إلى تسجيل قشورها الخارجية التافهة فقط من خلال النصوص والمؤسسات والأفعال. توجد بالتأكيد طرق مختلفة للتعامل مع هذه المعضلة؛ تتمثل إحدى هذه الطرق (والتي اتبعها على نحو بالغ الدقة الباحث الفرنسي هنري كوربين) في الحفاظ على نموذج التصوف من خلال استخدام منهج ظواهري (فينومينولوجي) في التعامل مع الوثائق التاريخية، في محاولة ل «إعادة تقديم» الشخصية الداخلية للتجارب التصوفية الماضية على نحو مفسر.
8
طبق هذا المنهج الظواهري بدرجات وأساليب متعددة في عدد من الكتب التمهيدية الناجحة للصوفية.
9
هناك طريقة أخرى تتمثل في الابتعاد عن نموذج التصوف، وتصور الصوفية بطريقة تتناسب على نحو أفضل مع مجموعة خصائصها المعقدة، وتجعلها أيضا أكثر قابلية للوصف التاريخي. فبالتقليل من فكرة الصوفية باعتبارها تصوفا لجماعة هامشية من السالكين، يرى المنهج المتبع في هذا الكتاب الصوفية باعتبارها «تقليدا» في المقام الأول من المعرفة القوية، والممارسات القوية، والأشخاص الأقوياء.
10
وكما ستوضح الفصول التالية، فإن الصوفية منذ لحظة ظهورها كانت متجذرة في نموذج إسلامي أوسع قائم على المعرفة الموثوق فيها، التي كانت تحظى فيها موافقة السلطة القديمة (سواء أكانت سلطة النبي محمد أم أولياء الله) بأهمية بالغة. وهذه الحساسية التاريخية شكلت جزءا كبيرا من التجارب التصوفية الصوفية من خلال المقابلات الرؤيوية التي لا تعد ولا تحصى، التي دونها الصوفيون مع الأولياء السابقين والأنبياء؛ تلك المقابلات التي أشبعت رغبتهم في ربط أنفسهم برواد تقليدهم السابقين.
11
يحظى هذا الارتباط بممثلي التقليد القدوة المحبوبين بأهمية كبيرة؛ فهو لا يوضح فحسب الاستراتيجية التي من خلالها تمكن الصوفيون من تقديم أنفسهم على نحو مقنع باعتبارهم الورثة الأحياء للنبي محمد، بل يوضح أيضا الطبيعة «الناظرة إلى الماضي»، الواضحة جليا لتعاليمهم التي ظهرت نتيجة لتلك الحاجة إلى موافقة السلطة القديمة والرغبة الوجودية في العودة إلى حالة الوجود البشري، التي كان يتمتع بها آدم والنبي محمد. وكما بين ستيفن تي كاتس على نحو فطن، فإن التجارب التصوفية ليست عفوية ومبتكرة، بل هي غالبا أفعال محافظة، ويمكننا أن نضيف أنها أفعال ساعية إلى الحفظ.
12
إن هذا الإدراك بأن كلمات وأفعال الصوفية متجذرة على نحو متعمد في تراث المسلمين الأوائل، ساعد أيضا في معرفة الطابع الإسلامي المتغلغل في الصوفية الذي ميزها - باستثناء حالات عالمية معينة - عن «التصوف» العالمي الذي صنفت ضمن فئاته في بعض الأحيان. وكما أوضح الباحث الفرنسي ماريجان مول ذات مرة، فحتى إذا تبنى الصوفيون دون علم، أو عن علم، مقومات من جماعات دينية أخرى، فإنهم «لم يأملوا مطلقا في أن يكونوا إلا مسلمين؛ فكل المعتقدات التي يؤمنون بها، وكل أفعالهم وعاداتهم وأعرافهم، قائمة على تفسير للقرآن والسنة النبوية».
13
هذه نقطة رئيسية؛ فلقد تطورت الصوفية كمجموعة تعاليم وممارسات ومؤسسات نشأت مع تفكر المسلمين - من القرن التاسع فصاعدا - في تراث حياة النبي محمد، التي تمثل القدوة الأولى، ولحظة نزول الوحي بالقرآن. وفي محاولات نقل الصوفيين لمعرفة وراحة وسلطة الله (وأنبيائه وأوليائه) إلى حياتهم الخاصة والعامة، بنوا تقليدهم أولا من خلال تأمل حياة النبي، وفترة نزول الوحي عليه، ثم تأمل تعاليم وأفعال من رأوا أنهم أولياء الله، والذين بدورهم أعادوا ربطهم باتحاد النبي مع الله. إن «أولياء الله» الصالحين الكثيرين، الذين ظهروا في كل قرن، هم من أنشئوا التقليد الذي نطلق عليه الصوفية، سواء أكان من ناحية النصوص التي كتبوها، أم الطقوس التي وضعوها، أم الطرق التي أسسوها. وباستثناء بعض الصياغات الحداثية للصوفية، فمن دون هؤلاء الأولياء لا توجد صوفية.
بناء على زعم الصوفيين بأنهم ورثة النبي محمد، وبمرور الوقت، طوروا تدريجيا أسس تقليدهم من خلال أنساب الأولياء والشيوخ الذين كانت لموافقتهم سلطة تكميلية في حد ذاتها. وكما سنرى في الفصل الأول؛ ففي القرون الأولى من التاريخ الصوفي، تضمن هذا التطوير للتقليد في بعض الحالات زعما بأثر رجعي يقول إن الأسلاف الصالحين الذين عاشوا قبل استخدام مصطلح «صوفي» كانوا صوفيين. إن التركيز في هذا الكتاب على كون الصوفية تقليدا أكثر منها تصوفا، لا يعني إنكار أن كثيرا من الصوفيين مروا بتجارب تصوفية أولوها قيمة بالغة فيما بعد، بل إن الهدف هو توضيح أن هذه التجارب الخاصة اكتسبت معنى ومصداقية فقط من خلال استيعابها في السعي الجمعي والتعاوني لأجيال مختلفة من المسلمين، الذين كان كل منهم - على مر الزمان - على وعي كبير بالطبيعة النموذجية لأفعال وتعاليم غيره من الصوفيين. إن هذا الإدراك التاريخي للتجربة التصوفية لا يهدف إلى التقليل منها، بل يهدف إلى وضعها في إطار الطبيعة الزمنية للوجود البشري. في هذا الصدد، أتفق بوجه عام مع ستيفن تي كاتس الذي كتب يقول: «الروايات التصوفية لا توضح فحسب الوصف ما بعد الحضوري لتجربة غير قابلة للرواية باللغة المتاحة، بل إن هذه التجارب نفسها صاغتها على نحو لا مفر منه تأثيرات لغوية سابقة، لدرجة أن التجربة المعاشة تتفق مع نسق سابق الوجود تم تعلمه، ثم قصده، ثم تحققه في الواقع التجريبي للمتصوف.»
14
وكما توضح مئات الكتابات الصوفية، وبالرغم من التركيز الكبير على التجربة الفردية العفوية في نموذج تصوف القرن العشرين، فإن الصوفيين لطالما كانوا على قدر بالغ من الوعي بالروابط الخطابية التي تربطهم بأسلافهم، وهذا الوعي بالتقليد هو الذي جعلهم «مسلمين» صوفيين بدلا من كونهم روادا جذابين أو مؤسسين لأديان جديدة. وهكذا، فإن هذا الوعي الذاتي للصوفيين بأنهم أعضاء في مجتمع أكبر، يتكرر عبر الزمان من خلال موافقة الشيوخ السابقين الموثوق فيهم؛ هو ما جعلهم أعضاء في تقليد ومحافظين على استمراريته. والسبب في ذلك كما يقول عالم الاجتماع إدوارد شيلز هو أن التقليد ليس فقط «ما ينقل أو يتوارث من الماضي»، لكنه أيضا «كل ما له نماذج تمثيلية أو حراس.»
15
بالمثل، وكما هو الحال مع نماذج القدوة المقدمة من قبل أولياء الصوفية في الأزمان الماضية، الذين ما زالوا في الذاكرة، فإن «هناك سمة معيارية كامنة في أي تقليد اعتقادي مطروح للقبول.»
16
على النقيض من نموذج التصوف القديم للأفراد المنعزلين الهامشيين، فإن نموذج التقليد الجمعي القوي مفيد في فهم التاريخ الصوفي من عدة نواح؛ أولا: أنه يدرك أهمية دور السلطات الخارجية والماضية للأطراف الثلاثة في إعطاء قيمة كبيرة للتجارب والقرارات والتعاليم والكتابات الفردية. ثانيا: أنه يدرك أبعاد الصوفية الكثيرة غير العفوية والسلطوية والمناهضة للفردية في بعض الأحيان. ثالثا: أنه يناسب أغراض الدراسة التاريخية؛ لأنه على النقيض من انعدام القيمة الزمنية الذي يصاحب التركيز «الآني» الشديد للتصوف، فإن نموذج التقليد يوضح كيف أن متلقي التقليد يمتلكون وعيا ذاتيا تاريخيا خاصا بهم كأفراد يعيشون في علاقة مستمرة (إن لم تكن مفسرة ومبتكرة غالبا) مع ماضيهم. رابعا وأخيرا: أنه يأخذ بعين الاعتبار الطبيعة التراكمية للصوفية خلال ظهورها التدريجي كمنتج ثقافي متعدد الأجيال ظهر في نهاية الأمر؛ ومن ثم فإنه يفسح مجالا أمام التطوير والتنوع. بالإشارة إلى هذه الدينامية التي يغطيها غالبا التماسك الظاهري للتقليد، يصف شيلز كيف أنه «من المحتمل أن يمر التقليد بتغيرات كبيرة جدا، ومع ذلك، قد يرى المتلقون أنه لم يتغير على نحو كبير.»
17
إن هذه الاستمرارية القائمة على النظر للماضي فيما يتعلق بالتعاليم التي يعتقد الصوفيون أنها ميراث النبي محمد لورثته الصالحين؛ هي ما جعلتنا نعرف الصوفية باعتبارها تقليدا وفقا للمعايير التي حددها إدوارد شيلز. (2) من الهامشية إلى القوة: تحديد سياق الصوفية
بعد تناول مسألة التقليد كمفهوم ومحتوى، يجب أن نلتفت الآن إلى التركيز السياقي لهذا الكتاب، الذي يقدم الصوفيين باعتبارهم لاعبين اجتماعيين مؤثرين وأقوياء، وليس باعتبارهم معارضين للحياة الاجتماعية؛ ومن ثم يعيشون على الهامش في المجتمع. وكما هو الحال مع تحول تركيز الكتاب من التصوف إلى التقليد، فعند تركيز الكتاب على قوة الصوفيين بدلا من هامشيتهم، فإننا نتناول مسألة إعادة التأكيد بدلا من مسألة الرفض. فعلى الرغم من أنه بالتأكيد كان يوجد الكثير من الصوفيين الهامشيين (والخارجين كذلك عن الأعراف على نحو كامل)، فإن الفكرة المقدمة في هذا الكتاب هي أنه بفضل الأتباع الأقوياء للصوفية وليس الهامشيين، تمكنت من ترك بصمة قوية جدا في المجتمعات التي انتشرت في ربوعها. ونتيجة للعمليات التاريخية والاستراتيجيات الجمعية الموضحة في الفصول التالية، فإن هذا الاكتساب للقوة كان تدريجيا بالتأكيد. إلا أنه بحلول فترتي العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، كان هذا الاكتساب حقيقيا على نحو كاف؛ بحيث يسمح لنا بالحديث عن «مؤسسة» صوفية اجتماعية ودينية في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي. وعلى الرغم من وجود الكثير من الصوفيين الهامشيين والمنحرفين الذين عاشوا في هذه الفترة، فإن المؤسسة الصوفية حققت مكانتها وحافظت عليها بنجاح أفرادها في تقديم أنفسهم باعتبارهم مجسدين للإسلام الحنيف الذي جاء به النبي محمد، وبالتأكيد باعتبارهم ورثته الأحياء. وحتى في حالة ازدهار المجموعات الصوفية الرافضة للأعراف المجتمعية والهامشية اجتماعيا (كما في حالة الحركة «القلندرية» التي ظهرت في فترة العصور الوسطى)، فإنه من المنصف على الأرجح القول بأن قدرتهم على الإفلات من العقاب على انتهاكهم للأعراف الاجتماعية، كانت في حد ذاتها انعكاسا لما حظيت به الصوفية من قوة ومكانة في وقت هذه المجموعات.
عند التحدث عن قوة الصوفيين، يجب أن نميز بين ثلاثة أنواع رئيسية من القوة التي سنرى اكتسابهم إياها في الفصول التالية؛ وهذه الأنواع هي: القوة الخطابية، والقوة الإعجازية، والقوة الاقتصادية. تشير القوة الخطابية إلى السلطة التي حصلت عليها الصوفية كخطاب يتضمن مجموعة مشروعة من الكلمات والمفاهيم، والنماذج المجتمعية والكونية المؤثرة، والنماذج السلوكية والخلقية التي يقتدى بها. كان خطاب الصوفية نفسه أحد مقومات التقليد؛ لأنه استمد سلطته من ربط نفسه بالقرآن والسنة؛ وهي النموذج النبوي الذي قدمه النبي محمد. إن القوة الخطابية التي اكتسبتها الصوفية من ربط نفسها بالسنة الحنيفة تشير إلى الطريقة التي لم يقتصر فيها دور الصوفية على كونها نوعا من التجارب أو حتى المعتقدات، بل كانت فيها خطابا له القدرة على تشكيل أفعال الآخرين من خلال تقليدهم للنماذج القدوة التي يقدمها. وبإبعادنا عن التركيز على التجربة التي لا وسيط فيها في نموذج التصوف، فإن هذه القدرة القوية على تشكيل السلوك والتصرف كانت أيضا من مقومات التقليد، من حيث قدرة التقاليد على تعزيز «أنماط أو صور للتصرفات»، وكذلك «المعتقدات التي تتطلب أو تزكي أو تنظم أو تبيح أو تحظر إعادة القيام بتلك الأنماط.»
18
النوع الثاني من القوة الذي سنعرض كيفية اكتساب الصوفيين له، هو القوة الإعجازية، التي تتمثل في قدرتهم - حسبما يرى الكثيرون - على اجتراح المعجزات والعجائب نتيجة لقربهم الخاص من الله. يرى إيه جيه آربري وكثير من المعلقين المسلمين الإصلاحيين في القرن العشرين أن هذا التعاطي الكبير مع الجانب الإعجازي مثل «الجانب المظلم من الصوفية في مرحلتها الأخيرة»، عندما «كان تأثيرها في أكثر فتراتها انحطاطا شرا بالكامل.»
19
إلا أنه في دراسة تاريخية مثل هذه يجب أن يكون الهدف هو الوصف والفهم بدلا من الوعظ. وعلى الرغم من أن نموذج تصوف القرن العشرين المتحرر علميا من الأوهام والبروتستانتي الثقافة يفرق على نحو قاطع بين التصوف وصانعي المعجزات، فإن الحقيقة التاريخية للأمر هي أن زعم الصوفيين المتعلق بصنع المعجزات كان غير قابل للانفصال عن زعمهم القرب التصوفي من الله. مرة أخرى، إن الأولياء الذين كونت أقوالهم وأفعالهم التقليد الصوفي هم من يجب أن يكونوا محور الاهتمام؛ فالمتصوف البارز هو الذي يصنع المعجزات. وعلى الرغم من أنه دائما ما كان يظهر المسلم العادي الذي يتحدى قدرة الصوفيين على إظهار تلك القدرات، فإنه - كما توضح الفصول التالية - كان يوجد عدد أكبر من الأشخاص - بداية من السلاطين والتجار وحتى الفلاحين ورجال القبائل - الذين سعوا إلى الاستفادة من هذه القدرات، من خلال تكوين علاقات مع الصوفيين. ونظرا لأن هذه العلاقات، سواء فيما يتعلق بالمحتالين أو الملوك، كانت عادة علاقات تتلمذ، فإن القدرة على اجتراح المعجزات تحولت بدورها إلى سبيل للتأثير الاجتماعي.
إن البناء على هذا التأثير الاجتماعي ودعمه نتج عنهما ثالث أنواع القوة التي اكتسبها الصوفيون، ألا وهو القوة الاقتصادية. فلقد بدأ الصوفيون البارزون، بداية من فترة العصور الوسطى، في تلقي هبات كبيرة (وهائلة في حالات قليلة) من الأراضي والعقارات من المريدين المنتمين إلى الطبقة الحاكمة، وكذلك تلقي عطايا نقدية أو عينية أقل من الأتباع الأقل غنى. وعلى الرغم من حديث هؤلاء الصوفيين البارزين المطول عن الزهد، فإن أشكال تبادل العطايا هذه وضعتهم ضمن النخبة الضئيلة المميزة في المجتمعات ما قبل الصناعية، التي كانت الصوفية نشطة فيها حتى العصور الحديثة. في هذا الصدد أيضا، نرى عمل الصوفية كتقليد؛ لأن الحاجة إلى نقل الأملاك عبر السلالات الأسرية جعلت الورثة الماديين للصوفيين الأقوياء اقتصاديا هم في الوقت نفسه ورثة التقليد الصوفي؛ لذلك ورثت السلالات الأسرية الصوفية الأملاك إلى جانب التعاليم والقدرات المباركة. ونظرا لأنه لا يمكن أن يوجد أي شكل من أشكال المعرفة القوية بمعزل عن أشكال القوة المادية، فقد كانت القوة الاقتصادية للصوفية مهمة للصورة العامة التي اكتسبتها؛ ولذلك أصبحت القوى الخطابية والإعجازية والاقتصادية للصوفيين في حالة اعتماد متبادل في نهاية المطاف. وإذا كان هناك يوما اتجاه لاعتبار ظهور امتلاك هذه القوة انتقاصا من ورع الرسالة الصوفية، فيمكن الرد بأن رؤية التاريخ الديني من هذا المنظور المحمل بالمعتقدات الشخصية رؤية عاطفية ورومانسية. في هذا الصدد أيضا، من المفيد النظر للصوفية باعتبارها تقليدا؛ لأنه لا يوجد تقليد يستطيع مطلقا الاستمرار وتكرار نفسه عبر الزمن دون الاستعانة بالموارد المادية التي تقيم البيوت، والمقررات المالية لتأليف الكتب وممارسة الطقوس، ودعم الأتباع الذين يكونون «التقليد» «الذي يتوارث.»
ومقارنة بالكثير من الأعمال السابقة التي تناولت الصوفية، إذا كان تحويل التركيز هنا نحو القوة والتقليد يوحي بتحول هوبزي، فإن هذا على الأرجح إجراء تصحيحي ضروري؛ إذ إن تلك الرؤية المتعلقة بوجود تقليد قوي تجعل زيادة أتباع الصوفية أمرا مفهوما على نحو أكبر، وكذلك الحال بالنسبة إلى المعارضة التي أثارتها على نحو متزايد مع تزايد تأثيرها، سواء أكانت من السلطات الدينية المنافسة في فترة العصور الوسطى، أم من بناة الدول في أوائل العصر الحديث، أم من الإصلاحيين المسلمين في العصر الحديث. ففي نهاية المطاف، القوة والنفوذ والامتياز هي التي أدت إلى ظهور استراتيجيات الاستحواذ والدمج والمعارضة التي كثيرا ما أعاقت مسيرة الصوفية. وإذا كانت الفصول القادمة ستسلط الضوء على الصوفيين، بوصفها تأريخا للصوفيين وليس لمنافسيهم، فإنه يجب النظر إلى عرضنا لبعض منافسيهم على أنه يعكس المكانة العالية التي اكتسبها الصوفيون، الذين زعموا أنهم «القطب» أو المحور الذي يدور حوله الكون كله. (3) من السياقات إلى الخصائص: تعريف الصوفية
عند تقديم نبذة عن الخصائص الأساسية للصوفية، من الضروري في مثل هذه الدراسة التاريخية الإشارة أولا إلى أن الوصف التعريفي، الذي نحن بصدد قراءته، ظهر على نحو تدريجي فحسب من خلال سلسلة من التطورات التي أتتبعها في الفصلين الأول والثاني. وبعد قبول هذا التحذير التاريخي، يمكننا الآن تقديم تعريف أساسي للصوفية بوصفها تقليدا قويا من المعرفة والممارسة الإسلاميتين يحقق القرب من الله أو الوساطة لديه، ويعتقد أنه متوارث عن النبي محمد من خلال ورثته من الأولياء الصالحين الذين تبعوه. ومنذ بداية ظهور الصوفيين، نادرا ما اعتبروا أنفسهم سوى مسلمين. ومع زيادة نفوذ التقليد الصوفي، وبالنسبة إلى أعداد كبيرة من المسلمين، بدا أن الإسلام لا يمكن فصله عن الصوفية. وعلى الرغم من أن العرف يمنع ذلك، فقد يكون من الأفضل الحديث عن «الإسلام الصوفي» بدلا من «الصوفية»؛ إذ باستثناء بعض المجموعات الخارجة عن الأعراف، فإن الصوفيين في العموم اتبعوا أساليب التقليد الإسلامي، فواظبوا على الصلاة التي تعد العبادة الأساسية التي تمارس كل يوم، وأدوا صيام شهر رمضان المعظم، والتزموا بكافة أنواع الأحكام الشرعية المتبعة في مجتمعهم. والأكثر أهمية أنهم اتبعوا كذلك مجموعة من الممارسات النافلة، أهمها: ذكر الله الذي كانوا يؤدونه بطريقة إنشادية؛ و«المراقبة» وهي تأمل جوانب مختلفة من النفس والله؛ و«الإحسان» وهو إثراء الفضائل الأخلاقية من خلال اتباع «الآداب» (قواعد السلوك) الشرعية؛ و«الصحبة» أي التفاعل المحترم مع شيوخهم. واستخدمت بعض مجموعات من الصوفيين (لكن ليس كلها على أي حال) ما يعرف ب «السماع»؛ أي الاستماع الطقسي للموسيقى والشعر كوسيلة للوصول لما يعرف ب «الأحوال»، وهي حالات النشوة التي تجعلهم أكثر قربا من الله أو من الأولياء الصالحين.
لطالما شدد الصوفيون على ضرورة القيام بكل هذه الممارسات تحت إشراف شيخ مرشد تلقى هذا التقليد؛ ومن ثم فهو (من الناحية النظرية على الأقل) سلك هذا المسلك من قبل. وعلى نطاق واسع، اعتبرت الطاعة الكاملة للشيخ من أساسيات حياة الصوفي. ومنذ فترة العصور الوسطى، جمع هؤلاء الشيوخ والمريدون أنفسهم في جماعات تعرف ب «الطرق»، ومثلت هذه الطرق القنوات المفاهيمية - والمؤسسية في نهاية الأمر - عبر الزمان والمكان، التي ساهمت في تأسيس الصوفية كتقليد يعتبره أتباعه التراث السري للنبي محمد. مثلت طقوس الالتحاق بإحدى هذه «الطرق» وما يصاحبها من «بيعة» - أي تعهد بالولاء للشيخ - اكتساب الشخص الرسمي لصفة المريد. وعلى الرغم من أن طقوس الالتحاق تلك كانت غالبا ما تمارس من قبل مسلمين بالغين ساعين إلى التنوير الروحاني، فإنه من الناحية العملية خضع كثير من المسلمين لتلك الطقوس وهم أطفال؛ كي يتأكدوا من حصولهم على الحماية الاجتماعية والروحانية لشيوخهم في مسارهم عبر الحياة.
من الناحية النظرية، إن الهدف من الالتحاق بطريقة صوفية ما هو إلا تعلم ممارسات الآداب والذكر والمراقبة المتوارثة من شيوخها؛ بهدف الوصول إلى «فناء» النفس (أي الذات الدنيا) الذي يقود إلى «بقاء» الروح (أي الذات العليا). تلك التجارب يراها الصوفيون باعتبارها «مقامات» (أي محطات) في رحلة الصعود إلى الله، ويعتقدون أنها تمنحهم سلطة توجيه المسلمين الآخرين؛ أي توبيخهم أو حتى معاقبتهم. إن زعم المرور بهذه المقامات أثناء الطريق إلى الله يعني أن هؤلاء الشيوخ الكبار اعتبروا أولياء الله أثناء حياتهم وبعد مماتهم. أما الذين يحظون بأكبر قدر من التبجيل والهيبة من هؤلاء الشيوخ، فقد اعتبروا أنهم «برازخ» حية بين العالم البشري والعالم الإلهي (أي في مكانة وسطى)، ويعملون كوسطاء بين المؤمن العادي والهرمية السماوية المكونة من الأولياء والأنبياء والله.
بنسب متفاوتة، اعتبر أن كل هؤلاء الأولياء يعلمون صفات الله الإلهية من خلال ما يمتلكونه من «معرفة» خاصة، هذا بالإضافة إلى قدرتهم على صنع المعجزات أو ما يطلق عليه «الكرامات». وإذا كان زعما التنبؤ بالمستقبل وصنع الطلاسم الحامية (الأحجبة) يعتبران في العصور الحديثة منتميين لعالم «الشعوذة» أكثر من انتمائهما لعالم «التصوف»، فإن كلا الأمرين كانا من الخدمات المهمة التي كان يطلبها المريدون من شيوخهم الصوفيين. ونظرا لأن القدرات الإعجازية للأولياء كانت تتراوح بين شفاء الأطفال المرضى وتحديد نتائج المعارك الحربية، فقد كان السلاطين من ضمن مريدي هؤلاء الأولياء بقدر ما كان الفلاحون. وبالرغم من ذلك، لم يكن هؤلاء المريدون أقل أهمية من شيوخهم الأولياء فيما يتعلق باستمرار التقليد الصوفي؛ فمن خلال استقبالهم التعاليم والمعجزات وتقديمهم المناصرة والدعم، سمحوا بالاحتفاء بأفعال وتعاليم شيوخهم وتوارثها. ونظرا لكون الشيوخ والمريدين يمثلان شقي التقليد الصوفي المتلازمين، فقد اعتبرا لأغراض هذا الكتاب شريكين متساويين فيه.
ونظرا لمحورية هذه الروابط بين المريدين والشيوخ، وبعيدا عن كونها السعي الفردي للحصول على الخلاص الشخصي، فإنه من الممكن اعتبار الصوفية محصلة مجموعات مشابهة من العلاقات؛ وذلك على النحو التالي: العلاقة بين الأولياء وأتباعهم، والعلاقة بين قراء وكتاب النصوص الصوفية، والعلاقة بين النبي محمد والشيخ الوسيط والمؤمن البسيط، والعلاقة بين الشيخ ومن يطيعونه؛ حيث إن الطاعة الكاملة لطالما كانت الأساس العاطفي للتقليد الصوفي. وفيما يتعلق بمساعي الصوفيين الشخصية للخلاص، فقد فعلوا ذلك عادة من خلال إدارة تلك العلاقات بين الحي والميت، والمادي والنصي، والمرئي وغير المرئي. إن هذا الوصف للصوفية القائم في جوهره على العلاقات، هو ما جعل تعبيراتها ومكوناتها المتنوعة حاضرة في قلب كثير من المجتمعات المسلمة التي في حد ذاتها ترابطت معا بمجموعات من العلاقات التي تشربت هذه الروابط الصوفية المباركة، وتضافرت معها. إن نتائج هذه العلاقات التي أسفرت عن التقليد الصوفي الذي تراكم في أماكن كثيرة عبر قرون كثيرة، هي ما يركز عليه هذا الكتاب. (4) نظرة عامة على السرد المقدم في الكتاب
تقدم الفصول القادمة سردا تاريخيا لظهور التقليد الصوفي والانتشار الاجتماعي والجغرافي الذي صاحب استحواذه التدريجي على السلطة والمكانة. وقد اقتضت الحاجة لتقديم سرد متماسك وسلس وجود تقييم غير معلن على نحو كبير للمصادر الأساسية أو الثانوية المختلفة؛ ومن ثم، يجب على الطلاب الراغبين في تقييمات تأريخية دقيقة الرجوع إلى المقالات النقدية الحديثة التي كتبها باحثون مثلي ومثل ألكسندر كنيش ودينا لي جال.
20
ولمساعدة القراء في وضع الصوفيين في إطار مفاهيم أكبر خاصة بالتاريخ الإسلامي، والتاريخ المقارن، والتاريخ العالمي في نهاية المطاف، قسم سرد الكتاب إلى أربع فترات تقليدية إلى حد كبير، لكنها فترات يعتقد أنها تشتمل على تطورات مميزة في التاريخ الصوفي نفسه. وهذه الفترات التي يتناولها الكتاب في أربعة فصول هي كالتالي: فترة أوائل العصور الوسطى (800-1100)، وفترة العصور الوسطى (1100-1400)، وفترة أوائل العصر الحديث (1400-1800)، وفترة العصر الحديث (1800-2000). الفصول مؤلفة بطرق مختلفة على نحو تدريجي؛ فبينما يركز الفصل الأول على المفكرين الأوائل والنصوص الأولى اللذين قدما الأسس والمصادر اللاحقة للتقليد الصوفي، يركز الفصل الثاني على العمليات التي تمكن من خلالها هذا التقليد من التكيف والتوسع في سياقات جغرافية واجتماعية مختلفة. ونظرا لتناول الفصل الثالث لفترة التوسع الصوفي «ذي الطابع العالمي» في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وحتى الصين، فإنه يتناول جوانب جغرافية، في حين أن الفصل الرابع يلتفت إلى التأريخ السياسي ليتتبع أحوال التقليد الصوفي في العصر الحديث، فيما يتعلق بفترتين مترابطتين، هما فترة الاستعمار وفترة عولمة ما بعد الاستعمار.
ونظرا للطابع المتغير للمصادر التي تناولت هذه الفترات المختلفة، واختلاف أنواع الخبرات والمناهج الأكاديمية التي انجذبت إلى تلك المصادر، فإنه لا بد من وجود تحول في التركيز مع تقدم هذه الفصول؛ من التركيز على كتابات «الرجال العظماء» الحضريين المستقلين في الفصل الأول، إلى العرض التدريجي لمجموعات اجتماعية وتطورات أخرى بدلا من التركيز على التطورات الفكرية. إن معظم القراء الأكثر حصافة سيدركون بسهولة أن هذا جزء من مسعى البحث التاريخي والتاريخ الصوفي نفسه؛ فمع ترك الكثير من الصوفيين، على اختلاف طرقهم، أنواعا مختلفة من التراث - سواء النصي، أو المادي، أو الطقسي - لورثتهم، تمكن الباحثون من تكوين صور أكمل لعوالمهم. على الرغم من ذلك، وعلى النقيض من الدراسات السابقة للصوفية، فقد خصصت في هذا السرد مساحات متساوية تقريبا لكل فترة من الفترات الأربع، هذا بالرغم من أنه من الجائز القول إن المتخصصين سوف يجدون الكثير من الأمور المألوفة حقا بالنسبة إليهم في أجزاء من الفصلين الأول والثاني؛ نظرا لأن الفترات الأولى قد حظيت بتناول أكبر بكثير. بالرغم من ذلك، عند تناول التوسع العالمي المتزايد تدريجيا للصوفيين، يقدم الفصل الثاني، والفصلان الثالث والرابع بصفة خاصة، تغطية لمناطق في أفريقيا ووسط آسيا وجنوبها الشرقي وجنوبها، وأخيرا أوروبا التي اعتبرت عادة هامشية بالنسبة إلى «مواطن» الصوفية، المفترض أنها واقعة في الشرق الأوسط. وحتى إذا وجد بعض القراء في بعض المواضع أن الموضوع مألوف بالنسبة إليهم، فإنني آمل أن يضفي نطاق التناول والنموذج الشامل لتقليد يتطور ويتوزع تدريجيا في سياقات كثيرة مختلفة؛ الأصالة على السرد ككل.
تتمثل خطورة تناول هذا القدر الكبير من الموضوعات في كتاب واحد في فقدان الوضوح وسط هذا الكم الكبير من البيانات، خاصة في الفترات التي شهدت التوسع السريع للصوفية بداية من أوائل العصر الحديث. لهذا السبب، قد يكون من المفيد في هذه المرحلة أن نوضح بأبسط طريقة التفسير الكلي للتاريخ الصوفي الكامن في هذا السرد. تتمثل الحجة باختصار في أن التقليد الصوفي تشكل على نحو تدريجي في أوائل فترة العصور الوسطى، داخل الدوائر نفسها التي تكونت فيها الفكرة الإسلامية المعيارية الخاصة بالسنة التي تمثل النموذج النبوي؛ ففي القرنين التاسع والعاشر، كتبت مجموعة متنوعة من المفكرين المقيمين في العراق وإيران سلسلة من الأعمال باللغة العربية، أصبحت أساسية في تقديم المصادر الاصطلاحية والمفاهيمية التي ستورث إلى الأجيال التالية. نقلت مصطلحات هذا المعجم الصوفي على هيئة كلمات مقترضة إلى اللغات الإسلامية المتعددة، ومثلت مع النماذج الخطابية التي طورتها الإطار المفاهيمي للصوفيين في العصور الحديثة.
21
ومنذ أوائل القرن الحادي عشر، بني الجيل الثالث والجيل الرابع من الصوفيين على أفكار المنظرين الأوائل، هذه الأفكار التي تكون متناقضة في بعض الأحيان؛ من خلال وضع سجلات أنساب وتواريخ لتعاليمهم تربطها بوقت قديم يعود إلى عصر النبي محمد. منذ هذه اللحظة فصاعدا، أصبح هذا الميل إلى النظر إلى الماضي ضروريا للوعي الذاتي التاريخي الذي قدم تعاليم الصوفيين كتقليد يمكنهم أن يقدموه على أنه العقيدة الأسمى التي توارثوها دون انقطاع عن النبي محمد نفسه.
بالتمسك بما حوله الصوفيون في فترة العصور الوسطى من بلاغة خطابية إلى تقليد راسخ ملموس، تمكنوا من الحفاظ على وضعهم المعياري المحترم عندما جعلهم انهيار السلطة الإسلامية المركزية ممثلين مهمين للكيانات القبلية الضعيفة التي ناصرتهم في المقابل. ومع توسعهم حينها في مناطق حدودية جديدة في جنوب شرق آسيا، وأيضا في أفريقيا في أوائل العصر الحديث، تمكنوا من الحفاظ على مكانتهم هذه حتى بالرغم من اندماجهم المتزايد في دول إمبريالية أكثر قوة، وحملة التصحيح التي أعقبت بداية الألفية الإسلامية عام 1591. وأثناء الانهيار الكبير للقوة التجارية والسياسية الإسلامية في العصر الحديث، كانت الصوفية من بين المؤسسات الإسلامية القليلة الموجودة فيما قبل العصر الحديث، التي نجت من الاستعمار الأوروبي بلا تأثر إلى حد كبير. وباعتبار الصوفيين تجسيدا للتقليد النبوي، وكذلك للتقليد الصوفي في المجتمعات الكثيرة جدا، التي ظلوا يمتلكون فيها الأراضي ويسيطرون على شبكات التعليم والالتحاق بالطرق الصوفية؛ فإن استمرار مكانتهم البارزة في القرن التاسع عشر جعلهم ينجذبون إلى اتجاهات مختلفة بسبب مطالب كل من المريدين المحليين والحكام الاستعماريين.
إن سياسات الإصلاح الإسلامي المعارضة للصوفية، التي دخلت القرن العشرين وهي واثقة في حالات كثيرة من مكانتها العالية المكتسبة من تحالفاتها الحديثة مع الدول الاستعمارية والدول الإسلامية على حد سواء؛ جعلت هذا الكيان الصوفي هدفا طبيعيا للمنافسة والهجوم. ومنذ بداية القرن العشرين تلقت الصوفية الهجوم الأقوى والأكثر نجاحا، سواء على يد إصلاحيين صعدوا إلى طبقة اجتماعية أعلى، وكانوا قادمين من خلفيات غير تقليدية مثل تعليم المدارس الحكومية أو الصحافة، أو على يد أتباع التيار الحداثي الحاصلين على تعليم علمي، الذين رفضوا الصوفية لكونها رمزا للتقليدية المنحطة التي أدت إلى وقوع المسلمين في قبضة الاستعمار. وعلى الرغم من أنه في نهاية القرن العشرين حافظ عدة ملايين من المسلمين على الروابط التي تربطهم بالأولياء الأموات والشيوخ الأحياء للتقليد الصوفي، وسمحت العولمة لرواد نشر التقليد الصوفي بالعثور على أتباع جدد في أمريكا وأوروبا؛ فقد أصبحت الصوفية بالنسبة إلى المسلمين المتعلمين بصفة خاصة تمثل الفساد والخرافة والتخلف.
أخيرا، ينبغي توضيح المقصود من استخدام الكتاب للفظة «عالمي». الأمر «العالمي» في السرد التاريخي المقدم هنا ليس له علاقة مباشرة بما كتب عن نظرية العولمة، بل هو محاولة لتقديم تناول لكل منطقة على الكوكب انتشرت فيها الصوفية على مدار فترة تزيد عن ألف سنة. علاوة على ذلك، فإن هذا التناول العالمي التدريجي مقدم كسرد تاريخي من الترابط، يوضح أن الصوفية وسيلة ثقافية للترابط والتبادل بين المناطق. ونظرا لامتداد الصوفية من شرق البحر المتوسط وغربه، إلى وسط آسيا وجنوبها في فترة العصور الوسطى، لتصل تدريجيا إلى جنوب شرق آسيا والصين وأفريقيا في أوائل العصر الحديث، وفي النهاية إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وحتى أستراليا في بداية القرن العشرين؛ فمن المعقول الزعم أن نطاق الانتشار الصوفي كان حقا عالميا. والأهم من ذلك، أن هذا السرد يحاول تحديد بعض العمليات التي تغير من خلالها هذا التقليد الديني الذي تكون في سياق مكاني وزماني (وأيضا لغوي وخطابي) معين؛ تغير من ناحية التكيف واستيعاب اللغات والعادات المحلية، عبر تقديمه إلى بيئات جديدة على نطاق عالمي تدريجي. وعلى الجانب الآخر، يتتبع السرد المشاكل التي سببها ذلك التوسع العالمي للصوفية نتيجة لتكيفها مع الكثير من البيئات المختلفة، خاصة أثناء توسعها الجغرافي الأسرع أثناء فترة أوائل العصر الحديث وفترة العصر الحديث اللتين اتسمتا ب «الطابع العالمي». من المهم على نحو خاص في هذا الصدد معرفة الطريقة التي أدت بها عمليات التكيف - التي انتشرت بمقتضاها الصوفية بداية من القرن السابع عشر في مناطق جديدة - إلى انتشار صور محلية متنوعة من التقليد الصوفي. وعندما صاحب استراتيجية التكيف العالمية تلك التقلبات الاقتصادية والسياسية لعصور الرأسمالية والاستعمار العالميين، أدى ذلك إلى حملة تصحيح إسلامية سعت إلى إصلاح التقليد الذي اعتز به الصوفيون ونشروه على مدار الألفية الماضية، وسعت إلى قمعه في نهاية المطاف. لذلك، فإن التكيف الثقافي للتقليد الصوفي ، الذي حدث من خلال استيعاب اللغات والعادات المحلية في التقليد، نقض على يد الصوفيين والمعادين للصوفيين في نهاية المطاف، الذين سعوا إلى إنهاء الزخم «التراكمي» للتقليد من خلال تجديد الاهتمام بتعلم اللغة العربية والسنة النبوية. ومع بداية القرن العشرين، عندما أصبح المسلمون أكثر احتكاكا بأنواع المعرفة الأوروبية، أصبحت الصوفية، التي ركبت موجة الانتشار العالمي للإسلام في بداية العصر الحديث، ضحية نجاحها السابق على نحو متزايد؛ ومن ثم أصبحت توجد دينامية دفع وجذب متأصلة تكشف عن نفسها من خلال هذه الدراسة المطولة والموزعة على نطاق عالمي.
في حين أن هذا الاستعراض لمحتوى الكتاب قدم فقط أقصر توضيح للتطورات الأساسية التي ستتناولها الفصول القادمة، فإنه يجب أن يكون واضحا أن الهدف الأساسي للسرد هو تقديم تاريخ الصوفية وفقا لتكوينها على يد مجموعة من العمليات «الطويلة الأمد»، التي من خلالها تشكل التقليد تدريجيا وانتشر، وأعيد تشكيله، وبالنسبة إلى كثيرين، رفض أخيرا في القرن العشرين بسبب المنافسة مع الأشكال البديلة الكثيرة من الإسلام، المطروحة في السوق الدينية العالمية.
الفصل الأول
الأصول والأسس والمنافسون (850-1100)
(1) السياق
المكان: بغداد في حوالي عام 850 ميلادية. إننا على بعد ما يزيد عن ثمانمائة ميل في الصحراء عن مكان إعلان النبي محمد نزول الوحي عليه في مكة، وقد مضى ما يزيد عن مائتي سنة على موته. وعلى الرغم من أن كلمة «صوفي» (أي مرتدي الصوف) كانت مستخدمة منذ سنوات كثيرة، باعتبارها لقبا أو حتى توبيخا للنساك الموجودين في البرية المحيطة، فإنها استخدمت هنا لأول مرة للإشارة إلى أشخاص في المدينة نفسها. وعلى النقيض من المنعزلين ساكني الجبال والصحراء الذين يكتنفهم الغموض ويعيشون على الهامش، فإن رجال المدينة هؤلاء لم يكتبوا فحسب كتبا تخبر الآخرين عن كيفية التصرف، لكنهم أيضا حققوا شهرة كافية في أعين المعاصرين والتابعين جعلتهم يناقشون كتبهم ويحافظون عليها. وفي إحدى المفارقات المألوفة في التاريخ الديني، تخبرنا الحقيقة الخالصة التي نعلمها عن هؤلاء الرجال أنهم لم يكونوا شخصيات منعزلة أو غير اجتماعية تنأى بأنفسها عن العالم، بل كانوا شخصيات عامة لديهم حياة عامة في مدينة ربما تكون الأغنى والأكثر عالمية في العالم. بحلول منتصف القرن التاسع كان قد عاش ثمانية أجيال من الآباء والأبناء منذ أن أسس النبي محمد مجتمع المسلمين، وفي العاصمة الثالثة لذلك المجتمع، كان العباد والعلماء من ورثة هذا المجتمع المؤسس أكثر وعيا من ذي قبل بمسئوليات الحفاظ على رسالة النبي محمد في غيابه. إنه وقت إنتاجية غير مسبوقة من الناحية التشريعية والأخلاقية، والروحانية والفكرية؛ فمن خلال تراث النبي والأجيال الأولى من المسلمين، ابتكرت معاني كثيرة للإسلام (ونوقشت وقمعت في بعض الأحيان). وعبر الجيل السابق، وجد المتعلمون وسيلة جديدة لنشر أفكارهم وتبادلها؛ إذ جلبت الطرق التجارية الكبرى للمدينة الورق من الصين ليحل محل الرق والبردي؛ فبدأ الكثير من الكتب يكتب (وينسخ ويباع)، ووجدت الأفكار الجديدة مؤيدين ومنتقدين لها، واكتسب الإسلام نفسه المعاني والأشكال المختلفة للتدين والمؤسسات التي سوف ترثها الأجيال القادمة وينسبونها إلى زمن النبي أو كلمات القرآن الذي جاء به. إذا كان التراث الورقي الذي تركه الصوفيون الأوائل لا ينقل المؤرخ إلى فترة أبكر من فترة أوائل القرن التاسع هذه، فإنه يمكن قول الأمر نفسه عن تدوين التقاليد الإسلامية الأساسية الأخرى مثل الشريعة والسنة النبوية؛ ففي حوالي عام 850، لم تكن المجموعة الصغيرة من الأشخاص الذين يدعون صوفيين منفصلة كليا في اهتماماتها عن الرجال الذين درسوا المبادئ الشرعية، أو بحثوا عن طرق لتمييز الروايات الصادقة عن الكاذبة الواردة عن أقوال وأفعال النبي. وعلى الرغم من أن كلمة صوفي يمكن أن تعني أمورا مختلفة عديدة في أزمنة لاحقة وأماكن أخرى، فهنا حيث انتشر المصطلح لأول مرة، كان يشير إلى الأفراد الذين لهم طريقة خاصة في سلوكهم وتقواهم. تمثلت تلك الطريقة في تقربهم الشديد إلى الله، وعزوفهم عن متع الحياة، لدرجة أنهم ارتدوا فعليا في البداية - ومع مرور الوقت مجازيا - الملابس الصوفية الثقيلة والخشنة، والمنتنة الرائحة، التي منحتهم اسم الصوفيين، الذي يعني «مرتدي الصوف».
نظرا لحقيقة أن الأكاديميين منذ منتصف القرن التاسع عشر بدءوا يبحثون عن «أصول» الصوفية في الفترة السابقة عن الفترة المذكورة آنفا، فالأمر يتطلب إعادة التأكيد على الأمور التي نجدها (وتلك التي لا نجدها) في بغداد في منتصف القرن التاسع، الذي ظهرت فيه أول بيانات موثوق فيها عن الصوفية. لدينا في الأساس لقب أو اسم وصفي (صوفي) يطلق على أشخاص معينين في منطقة بغداد (بعضهم ترك آثارا مكتوبة)، وسنرى أيضا فيما بعد أنه من المحتمل أنه كان يطلق أيضا على أشخاص خارج بغداد (لم يتركوا آثارا مكتوبة). أما الأمور غير الموجودة بعد في تلك الفترة، فهي الحركة الصوفية، ومجموعة المعتقدات المميزة لها، وبالتأكيد التقليد الصوفي؛ فكل هذه الأمور سوف تتطور لاحقا فحسب؛ ولهذا السبب ليس من الحكمة الحديث عن «الصوفية» كما لو كانت كيانا لديه وجود ذو معنى في ذلك الوقت، بل يمكننا القول إنه في منتصف القرن التاسع كان يوجد أشخاص يطلق عليهم صوفيون ستخضع تعالميهم تدريجيا (وبأثر رجعي كذلك) إلى التمحيص والاستيعاب على يد الأجيال التالية، مع تزايد أعداد الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم لقب صوفيين ويصيغون طقوسا ومعتقدات وزيا لتمييز أنفسهم عن غيرهم، ويؤسسون سجلا تاريخيا قائما على الوعي الذاتي، ليمنح وزنا لأطروحاتهم التي يزعمون أنها صحيحة. ومن خلال الحفاظ على هذا الفرق بين اللقب والشخص، وبين الكلمة وما تشير إليه، سنكون مؤهلين على نحو أفضل للتعامل مع أولى المشكلات التاريخية اللازم مواجهتها هنا؛ ألا وهي: أصول الصوفية. (2) مشكلة أصول الصوفية
لن تكون مبالغة إذا قلنا إن الأكاديميين تناولوا مسألة أصول الصوفيين أكثر مما تناولوا أي مسألة أخرى في التاريخ الصوفي. إلا أن أهمية المسألة نسبية وليست مطلقة؛ إذ إنها تعتمد على نموذج العملية التاريخية التي نستخدمها في فهم الماضي. إن التركيز الأكاديمي على «الأصول»، الموجود منذ أمد بعيد، نشأ عن وجهة نظر ترى أن العملية التاريخية رأسية بالضرورة؛ أي أنها مجموعة «موروثات» و«مؤثرات» أثرت على كل جيل من الأجيال الماضية، وتلقاها أبناء كل جيل على نحو أعطى شكلا تراكميا لأفكارهم وأفعالهم وإنتاجهم. كان هذا النموذج مؤثرا بصفة خاصة في تطور مجالي الدراسات الدينية والدراسات الشرقية أثناء القرن التاسع عشر، الذي حدثت فيه اكتشافات أثرية ونصية جديدة متعلقة بالتاريخ المسيحي واليهودي القديم، وكان لهذا الأمر أثر كبير؛ إذ جعل أي ممارسة للفحص العلماني لأي تاريخ ديني فحصا «أثريا» يقوم على إزالة طبقات المؤثرات والموروثات المتراكمة، من أجل الكشف على ما يمكن وصفه بأنه «أسس» أي كيان تاريخي. إلا أن العملية التاريخية ليست مجرد عملية رأسية (ولا حتى في الأساس)، واستنادا إلى قرن ماض من التفكير القائم على علم الاجتماع، فقد زادت الآن احتمالية التفكير في ضوء التاريخ الذي يتكون داخل الطبقة الأفقية التي نرى أنها تتمثل في «السياق» و«المعاصرين». وفي هذا الصدد لا ينظر إلى الماضي على أنه أمر غير قابل للتغيير، بقدر ما يعتبر مجموعة من الموارد الثقافية التي يمكن أن تستمر أو تخضع للتعديل أو تنبذ بحسب الرغبة. وكما سنرى لاحقا في مناقشتنا للأدلة المكتوبة التي تركها الصوفيون الأوائل أنفسهم، فقد كانوا حذرين جدا في توجهاتهم تجاه ماضي مجتمعهم الإسلامي، وكذلك مجتمعات الأشخاص غير المسلمين الموجودين في الإمبراطورية الإسلامية.
لهذا السبب ولأسباب غيره، فإنه من الأفضل فهم الصوفيين وكتاباتهم على أنهم نتاج لزمنهم «الأفقي». وهذا لا يعني أن الممارسات أو الأفكار أو حتى المصطلحات المميزة التي استخدمها الصوفيون لم تنشأ قبل القرن التاسع. على النقيض من ذلك، فإنه في المجتمع العالمي للعراق وغيره من السياقات الكثيرة المختلفة التي زاول فيها الصوفيون نشاطهم لاحقا؛ كانت القدرة على الاقتباس الانتقائي من الماضي من العوامل التي منحت الصوفيين جاذبيتهم. إلا أن اقتباس عناصر ثقافية معنية لا يعني التنازل عن تكامل المنتج النهائي؛ فكما يبدو أن المشرعين المسلمين الأوائل اقترضوا عناصر من قانون الولايات الخاص بالرومان المتأخرين عند وضع أنظمتهم القانونية، وأن الخوارج المسلمين صنعوا من أنفسهم نماذج سردية للعنف أو الاستشهاد لأغراض دينية، وهو الأمر الذي ظهر لأول مرة في الإمبراطورية البيزنطية؛ فإنه يبدو أن بعض الصوفيين الأوائل قد اقتبسوا مثلهم عناصر من الفكر المسيحي والممارسات المسيحية من أجل أهداف خاصة بهم.
1
إن هذه الاقتباسات النقدية والانتقائية لا تقلل بالضرورة من كون الإبداعات النهائية ناتجة عن الدوائر الإسلامية العالمية في العراق في القرن التاسع، إلا إذا كنا نعمل وفقا للمعيار الديني لا التاريخي، ذلك المعيار الذي ينص على أن كل ما هو إسلامي يجب أن يكون نابعا من القرآن. وبدلا من التفكير من منظور «الاقتباسات»، من الأفضل أن نعتبر أوجه التشابه جزءا مما وصف بأنه «لغة سيميائية مشتركة» كانت مألوفة لدى كل من المسلمين والمسيحيين واليهود في القرون الأولى من الحكم الإسلامي.
2
من الأمثلة الجيدة على هذه المصطلحات الرمزية (واللغوية بالتأكيد) مصطلح «صوفي» نفسه؛ فعلى الرغم من وجود مجموعة أصول لغوية بديلة مزعومة (بما فيها الكلمة اليونانية
sophia
التي تعني الحكمة)، فقد أصبح المصطلح مقبولا في العموم الآن باعتباره اشتقاقا من الكلمة العربية «صوف»، مما يجعل «الصوفي» هو الشخص الذي يرتدي الملابس الصوفية كما رأينا. أما الباحث الأكثر دقة في تاريخ المصطلح، فيرى أن هذا المصطلح ظهر لأول مرة في بيئة مسيحية وليس في بيئة إسلامية، للإشارة إلى اتجاه مخالف ظهر في أواخر القرن السادس بين المسيحيين النسطوريين في سلوقية-قطسيفون، على بعد حوالي عشرين ميلا جنوب المكان الذي شهد عام 762 تأسيس بغداد.
3
وعلى الرغم من أن اللغة الرسمية للكنيسة النسطورية كانت السريانية، فمع مرور العقود بعد الفتوحات العربية للمنطقة في الأعوام التي أعقبت وفاة النبي محمد عام 632، فقد كثير من النسطوريين قدرتهم على فهم اللغة السريانية، وطالبوا بكتابة المراسيم الكنسية باللغة العربية. لقد كانت اللهجة المسيحية العربية هذه هي التي نشرت مصطلح «لابس الصوف»، ومن ثم مصطلح «صوفي»؛ للإشارة إلى مجموعة من الزهاد المسحيين في العراق، الذين تشارك معهم الزهاد المسلمون الأوائل في كل من الكلمة والممارسة بصفتهما «ارتباطا بالمكانة البسيطة والمتواضعة، واهتماما بالقيم وليس الماديات.»
4
تتمثل نقطة الضعف في هذا الزعم في أن الأجزاء الرئيسية من الدليل إما مفترضة معتمدة على استخدامات نظرية للكلمة قائمة على التخمين، وإما معتمدة على الاستخدامات الأولية المزعومة المدونة فقط في مصادر متأخرة. لكن توجد مشكلات أكبر تخص هذا الزعم أيضا؛ أولا: توجد المسألة الخاصة بقدر الأهمية الذي نود أن نمنحه للاسم، والمسألة الفرعية المتمثلة فيما إذا كان هذا الاسم ومعنى أصله «الأصلي» لهما علاقة مباشرة أو اعتباطية بالأشخاص أو الأفكار أو النشاطات التي أصبحا يشيران إليها في السياقات الإسلامية اللاحقة. في دراسة كلاسيكية لثمانية وسبعين تعريفا من التعريفات الإسلامية القديمة لمصطلح «صوفي» ومصطلح «تصوف» المشتق منه، والذي يعني «لبس الصوف» أو «اتباع الصوفية»، وجدنا تعريفا واحدا فقط يشير إلى لبس الصوف، وقليلا من التعريفات الأخرى التي تشير إلى ممارسات الزهد في العموم، وكانت الغالبية العظمى من التعريفات تشير إلى القيم المعنوية والنزعات الأخلاقية.
5
يبدو أن هذا الدليل ينقض الارتباط بين المعنى الإسلامي والمعنى المسيحي المزعوم لكلمة «صوفي»، بحيث يشير إلى أنه في سياقات الاستخدام المختلفة كانت «الأمور» التي تشير إليها الكلمة مختلفة تماما. إلا أن المشكلة في هذا الصدد أيضا تتمثل في أنه على الرغم من أن هذه التعريفات الثمانية والسبعين منسوبة إلى شخصيات في أوائل القرن التاسع، فإنها ظلت فقط باعتبارها اقتباسات في المصادر المتأخرة. مرة أخرى، نواجه مشكلة تتمثل في أننا كلما أوغلنا في الفترة السابقة على الانتشار الكبير للأعمال المكتوبة في القرن التاسع، أصبحت المصادر إما غير مباشرة وإما غير موجودة على الإطلاق؛ ومن ثم لا يصبح لدينا إلا اقتباسات متأخرة من شخصيات قديمة، أو تخمينات افتراضية للأنماط الكلامية القديمة.
ثانيا: إذا نظرنا إلى ما وراء موضوع اللغة، فإننا سنجد المسألة الأكثر جوهرية المتمثلة فيما إذا كان يوجد اقتباس من جانب المسلمين للممارسات المسيحية إلى جانب المفردات المسيحية، بالإضافة إلى المسألة الفرعية المتمثلة فيما إذا كان هذا الاقتباس قد شكل الأنشطة الفعلية لهؤلاء المسلمين الذين سيطلق عليهم اسم «صوفيين» في القرن التاسع. في هذا الصدد، من المفيد العودة إلى نموذج المصطلحات السيميائية واللغوية في بعض الحالات التي اشترك فيها المسلمون والمسيحيون، وليس النموذج الذي امتلكه كل منهم على نحو حصري. ومن المهم أيضا هنا أن نأخذ في اعتبارنا السياق؛ ففي القرون الأولى من التاريخ الإسلامي كان عدد المسيحيين في البيئات التي عاش فيها المسلمون في مناطق مثل سوريا والعراق ومصر يفوق عدد المسلمين. كان الهلال الخصيب في منطقة الشرق الأوسط، الذي كان مسيحي الطابع حتى أكثر من أوروبا الغربية في ذلك الوقت، ساحة تعج بالكنائس والأديرة وأضرحة القديسين. لم تنل هذه المواقع وقاطنوها الحماية القانونية للإمبراطوريات الإسلامية الجديدة فحسب، بل استوعبها أيضا الحكام المسلمون بعدة طرق مختلفة؛ فقد اعتبرت أضرحة الأنبياء والقديسين المسيحيين مزارات دينية للمسلمين، وأصبحت الأديرة بالنسبة إلى المسلمين أندية تقدم الخمر، ويتجمع فيها الشعراء، ومكتبات للمثقفين المهتمين بالأدب، وساعد الباحثون المسيحيون في ترجمة التراث الفكري اليوناني والروماني إلى العربية، الذي حفظه على نحو انتقائي الأسلاف المسيحيون.
6
وهكذا، لا يوجد أي شك في أنه كان هناك تنوع في أشكال تفاعل المسلمين مع المسيحيين، على الأقل حتى عام 850 تقريبا.
لطالما اعتبر أن لبس الصوف يشير إلى أوجه الشبه مع الممارسات الزهدية لمسيحيي الشرق، خاصة في سوريا؛ حيث كانت عاصمة المسلمين في دمشق في الفترة ما بين عامي 661 و750، قبل أن تنتقل إلى العراق بقيام الدولة العباسية. وكرد فعل على نزعات البحث عن أصول الصوفيين في الفكر الهندي التي ظهرت في القرن التاسع عشر، كشف الباحثون في ثلاثينيات القرن العشرين عن أدلة تفصيلية عن أوجه التشابه بين «الزهاد» المسيحيين والمسلمين؛ وقيل إن هذا التراث الزهدي المشترك مهد الطريق لتحول الصوفيين إلى «زهاد» ناضجين مهتمين بالتجربة والمعرفة بدلا من تعذيب الجسد.
7
إن هذا الوضع للمسلمين الأوائل في سياقاتهم التعددية رأيناه أيضا في الاتجاه الحديث الساعي إلى رؤية كل من التطورات المسيحية والإسلامية القديمة في إطار بيئتهما الاجتماعية المشتركة. وتمثلت هذه الطريقة في أبسط صورها في وضع الأدلة الخاصة بالأنشطة المسيحية والإسلامية جنبا إلى جنب، والإشارة إلى أوجه التشابه وأدلة التفاعل المباشر بينهما كلما أمكن، واستخدام ذلك كأدلة على تأثير المسيحيين على المسلمين، بالإشارة إلى أوجه التشابه من أمثال أنماط الصلاة، والأقوال والتوجهات، بالإضافة إلى الملابس.
8
إلا أن الجدل حول الأصول يتحرك في هذا الصدد في اتجاهين يجب الفصل بعناية بين نتائجهما المختلفة. بالنسبة إلى الباحثين الذين كتبوا في ثلاثينيات القرن العشرين، في الحالتين الإسلامية والمسيحية على حد سواء، كان الانعزال وتعذيب الجسد الخاصان بحياة الزهد مهدا طبيعيا (وعالميا في واقع الأمر) لتطور «التصوف». كان التصوف بدوره يعتبر حاجة عالمية تهدف إلى «معرفة الحقيقة المطلقة، وفي النهاية تكوين علاقة واعية مع الحق تتوحد من خلالها الروح مع الله.»
9
بعبارة أخرى، إن هذا التفسير يقدم نموذجا تطوريا للتاريخ لا يكون فيه الزهد غاية في حد ذاته، بل لا بد أن ينضج ويتحول إلى تصوف، وهذا التصوف هو ما يقول المؤلف إن الصوفيين يمارسونه. إن هذا الانهيار للاختلافات (وبالطبع التعارض المحتمل) بين فئة الزهاد وفئة المتصوفين يقدم - نوعا ما - سردا خاليا من الصراع؛ ومن ثم، يعتبر الزهاد المسلمون القدماء الذين بدوا متأثرين بممارسات جيرانهم المسيحيين هم المسئولون المباشرون عن ظهور الصوفيين الذين احتاجوا بدورهم مرة أخرى - أثناء تطويرهم للنماذج الماورائية الأكثر تعقيدا للتفاعل البشري والإلهي الذي يتطلبه «التصوف» - إلى الأخذ عن المسيحيين الذين كانوا موجودين من قبلهم، وكانوا متقدمين عن المسلمين في المسعى العالمي نفسه للتطور الروحاني.
شكل 1-1: أساليب حياة الزهد: كشكولان (أي وعاءان للتسول)؛ أحدهما مصنوع من الخشب، والآخر من جوز الهند البحري (تصوير: نايل جرين).
تتمثل المشكلة في أنه عند النظر إلى الأدلة الموجودة في الجانب الإسلامي لا يبدو هذا التحول المبكر من الزهد إلى التصوف مباشرا على نحو واضح؛ لذلك، بدلا من رؤية الزهاد المسلمين باعتبارهم الأسلاف الطبيعيين للصوفيين، سيكون من الأفضل رؤيتهم باعتبارهم منافسين لهم؛ ففي العقود الحديثة، أثار الفحص الأكثر دقة للمناقشات المتعلقة بالزهد الإسلامي المبكر شكوكا جادة حول هذه الفكرة المتعلقة بوجود تدفق مباشر بين «الزاهد» و«الصوفي»، من خلال إظهار إلى أي مدى أدين تعذيب الجسد، والانعزال، وفوق كل ذلك التبتل، باعتبارها انحرافات عن السنة النبوية.
10
وكما سنرى عند تناول أقدم الأدلة الواضحة المتعلقة بآراء الأشخاص الذين يطلق عليهم الصوفيون، فإن كثيرا منهم كانوا واضحين في إدانة ممارسات الزهد ، واصفين إياها بأنها مظاهر علنية غير ضرورية لما يعد من قبيل التقوى الزائفة. (وعلى الرغم من الاستحسان الكبير الذي لاقاه العديد من زهاد العصور القديمة المتأخرة، فقد كانت النتيجة المثيرة للسخرية هي أن هؤلاء الزهاد كانوا في الواقع يتخذون الزهد حرفة ويتعالون به على غيرهم.) وللتعبير عن الأمر بمزيد من الوضوح، فإنه حتى لو كان الزهاد المسلمون قد قلدوا أسلوب الزهاد المسيحيين، فهذا لا يشير بالضرورة إلى وجود «أصل» مسيحي للصوفيين؛ لأنه نظرا لكون الصوفيين أبعد ما يكونون عن كونهم ورثة مباشرين للزهاد، فإنه من الأفضل فهم الصوفيين على أنهم منافسون ومنتقدون لهم. و«الزاهد» لا يتطور وينضج ليصبح «صوفيا»، بل لقد أخرست أصوات «الزهاد» من خلال تهميش الصوفيين الأكثر نجاحا لهم، وحلولهم محلهم في نهاية المطاف.
حتى الآن شككنا في أهمية أوجه التشابه في المسميات والممارسات بين الزهاد المسيحيين والصوفيين المسلمين. المشكلة الرئيسية في مثل هذه الدراسات الهادفة إلى تتبع الأثر هي أنه على الرغم من وجود الكثير من الأدلة على أوجه التشابه وحتى عمليات التواصل بين المسلمين والمسيحيين، فإنه لا يكاد يوجد أي دليل مباشر على «الاقتباس» الفعلي المفترض أن يكون أساسا لأوجه التشابه. يمكن القول إن هذا ليس بالأمر المفاجئ؛ فنظرا لأن المسلمين كانوا يدركون جيدا ثراء الفكر والممارسة المسيحية في القرون الأولى للإسلام، فقد كان من غير المحتمل أن يعلنوا عن حاجتهم إلى اقتباس أفكار وأساليب من دين من المفترض أن دينهم قد حل محله. ويمكن قول الأمر نفسه عن الأدلة الخاصة بالانتقال الأكثر غموضا للمعتقدات الماورائية والكتابات التي تسرد سير الأشخاص. في هذه المنطقة الأكثر ضبابية، اقترحت طريقة بديلة لتقييم التأثير المسيحي المحتمل، والتي لم تكن تبحث عن تكرار مسألة الانعزال أو اقتراض الكلمات، بل تبحث عن إعادة إنتاج «نسق أو تركيب أو بنية»، وهذا أمر أكثر تعقيدا، ولذلك يقل احتمال كونه عشوائيا.
11
فمن خلال نوع من البنيوية التاريخية، قيل إن تأثر الصوفيين بالمسيحية النسطورية يمكن تتبعه عبر تكرار أنماط العقيدة أو السير الموجودة أولا في الأعمال المسيحية، ولاحقا في الكتابات الصوفية.
12
ومن أمثلة ذلك كتابات المسيحي العراقي المنتمي للقرن السابع، إسحاق النينوي؛ إذ ساد اعتقاد يرى أن نموذجه الثلاثي المتعلق بارتقاء الروح من خلال سلسلة مجموعات ثلاثية من الأنشطة والفضائل، ظهر مرة أخرى لاحقا في توضيحات الصوفيين لفكرهم.
13
وفي محاولة للخروج من مأزق توثيق أوجه التشابه فحسب والاختيار بين ما كان من قبيل الصدفة وما كان دليلا على الاقتباس المباشر، تزعم طريقة البنيوية التاريخية تلك وجود تكرار لأنماط معقدة بالغة التفاصيل على نحو يحول دون تكرارها دون نقل مباشر. إن أكمل ممارسة على هذا المنوال أجريت على الروايات التي تسرد سيرة رابعة العدوية (المتوفاة عام 801)، تلك الزاهدة المسلمة الشهيرة التي عاشت في البصرة في جنوب العراق، التي يزعم الصوفيون أنها واحدة من أسلافهم، وأوضحت بقدر من النجاح كيف أن الأساطير الإسلامية عن رابعة العدوية اعتمدت على روايات سردية مسيحية أقدم عن غانيات تائبات.
14
إلا أننا حتى لو سلمنا بانتقال صور أفكار معينة، فإنه في نهاية المطاف لن يكون لدينا فهم أكثر وضوحا لطريقة حدوث ذلك، وبالنسبة إلى المؤرخين فإن تلك الحاجة إلى تفسير واضح لطريقة حدوث الأمر تعادل أهمية وجود دليل على حدوثه. وكما هو الحال مع النوع الأقدم من التاريخ الفكري الذي سيطر يوما ما على دراسة الصوفية، فإننا دون فهم العملية تصبح أمامنا نصوص من المفترض أنها مترابطة، لكن دون أن يكون لدينا أي فكرة عن القراء الذين من المفترض أنهم يربطونها معا. وحتى في حالة إمكانية تحديد هذه التشابهات البنيوية المباشرة، فهذا مرة أخرى يمكن تفسيره بعملية على أنه نتيجة لمتخيل رمزي أفقي مشترك - «لغة سيميائية مشتركة» - أكثر من كونه نتيجة للنقل الأحادي الجانب المتمثل في أخذ المسلمين عن المسيحيين.
إذا كانت الدراسات الحديثة لا تقدم صورة واضحة عن أصول الصوفية، فهذا يثير تساؤلا حول ما إذا كانت كتابات الصوفيين عن أنفسهم تقدم صورة أفضل. فمع مرور الزمن أصبح الصوفيون بالتأكيد أكثر اهتماما بماضيهم، وأثناء تكوينهم لتقليدهم قدموا كل أنواع قصص السير المتعلقة بأسلافهم التي تعود للماضي لتربط تعاليمهم بالنبي محمد. وكما سنرى بمزيد من التفصيل فيما يلي، فإن المشكلة تتمثل في أن المصادر الرئيسية التي تتناول هؤلاء الأسلاف يعود تاريخها إلى فترة متأخرة إلى حد كبير عن وقت حياتهم (وفي كثير من الأحيان، تكون قد كتبت بعدهم بعدة قرون). وعلى غرار حالة رابعة العدوية، فإن سير أسلاف الصوفيين المزعومين هؤلاء من أمثال إبراهيم بن أدهم (المتوفى عام 777)، وفضيل بن عياض (المتوفى عام 803)، وبشر بن الحارث (المتوفى عام 841) - الذين ينتمون جميعا لوسط آسيا - وذي النون المصري (المتوفى عام 861)؛ أصبحت واقعة في شرك المجازات والموضوعات المكررة المعتمدة على الموروثات الشعبية قدر اعتمادها على الحقيقة.
15
وكما سنرى في الفصل الثاني عندما نأتي لمناقشة السير التي دونت قصص الحياة المفترضة لهؤلاء الأسلاف، سنجد أن الزعم الذي يقول بوجود سلسلة منظمة من الأسلاف يخبرنا عن الترابط النصي للتراث في القرن الحادي عشر أكثر مما يخبرنا عن حياة وظروف الصوفيين الأوائل، الذين عاشوا قبل ذلك بثلاثمائة عام. وكما رأينا بالفعل، ففي منتصف القرن التاسع لم يكن يوجد بعد تقليد صوفي، ولا حتى حركة متماسكة، بل مجرد مجموعة أشخاص في الغالب مميزين جدا يطلق عليهم صوفيون؛ لذلك، فالمسألة إلى حد كبير ليست وجود أشخاص مثل إبراهيم بن أدهم من عدمهم، ولا معرفة إن كانوا جزءا من اتجاه قديم نحو الزهد أم لا، بل تتمثل المسألة أولا: فيما إذا كان من الممكن اعتبار أنهم كونوا بأية طريقة مجموعة متماسكة عبر هذه المسافات الشاسعة. وثانيا: فيما إذا كان من الممكن اعتبار أنهم كونوا اتجاها أو مسارا ورثه الصوفيون لا قمعوه.
من الناحية التاريخية، إن هذه المشاكل المتعلقة بأصول الصوفية تتضخم من ثم من خلال التأكيد على وجود انتقال رأسي قائم على السبب والتأثير، يقدم وراثة الأفكار على رفضها، وانتقال الحركات على قمعها. بيد أن حقيقة الأمر هي أنه على غرار التاريخ المبكر للمسيحية، فقد كانت القرون الأولى للإسلام فترة منافسة شديدة بين مقدمي نسخ دينية متعارضة جذريا في الغالب ، كانت فيها أنماط الولاء السياسي، والنشاط الاقتصادي، وقواعد السلوك اليومية، والقيود القانونية؛ خاضعة لجدل شديد وعنيف في بعض الأحيان. وبدلا من البحث عن انتقال منظم ومتعدد الأجيال من الزهد إلى التصوف، الذي لطالما ميز دراسة التاريخ المبكر للصوفية، فمن خلال إلقاء النظر على كل طبقة زمنية على حدة يمكننا رؤية الانقطاعات والاختلافات التي تسمح لنا بتقييم ما إذا كان مصير أفكار وأفعال الجيل السابق الاستمرار أم الرفض.
دعونا نتناول حالة «الزهاد» باعتبارها مثالا توضيحيا؛ فبدراسة السير اللاحقة التي كتبها الصوفيون أنفسهم، عادة ما اعتبر المؤرخون «الزهاد» «صوفيين منتظرين»، إلا أننا إذا وضعنا هؤلاء الزهاد في سياق ظروف زمنهم، فإننا يمكن أن نرى كيف أنهم خدموا مقاصد مختلفة للغاية، وسعوا نحو أهداف مختلفة تماما مقارنة بالصوفيين الذين ظهروا في القرون اللاحقة. كان القرن الثامن الذي يمثل أوج انتشار «الزهاد» فترة كان فيها المسلمون لا يزالون أقلية في أراضي إمبراطوريتهم، وجعل توسيع فتوحاتهم المناطق الحدودية مهددة باستمرار بإعادة الغزو.
16
في مثل هذه المناطق الحدودية انتشر الكثير من «الزهاد»، مثل إبراهيم بن أدهم، حيث شاركوا في الحروب الحدودية، وجلب لهم ورعهم الديني وزهدهم الشديد النصر في تلك المعارك، وجلب كذلك الشهرة التي ستنقل أسماءهم إلى الأجيال التالية. وعند تناول هؤلاء الزهاد في ضوء واقعهم القاسي في زمنهم، سندرك أنهم كانوا المعادل الإسلامي للمناصرين البيزنطيين الأشداء أتباع القديسين المحاربين المسيحيين، الذين حمت أضرحتهم الجانب الآخر من المناطق الحدودية الإمبراطورية نفسها، أكثر من كونهم مجرد سالكين ساعين إلى الله غير مرتبطين بزمن معين.
17
ونظرا لعمل هؤلاء الزهاد المسلمين المحاربين في هذه المناطق الحدودية الثقافية المتصارع عليها، فقد تأثروا في كتاباتهم السردية وأفعالهم بنظام قيمي متجاوز للعقائد، تشاركوا فيه مع الزهاد المحاربين المسيحيين الموجودين في تلك الفترة.
18
مرة أخرى، إننا ربما لا نركز هنا على مسألة أخذ المسلمين عن المسيحيين بقدر تركيزنا على مسألة وجود ساحة ثقافية ومنطقة جغرافية مشتركتين، تنافس فيهما المسلمون والمسيحيون داخل مجموعة من الأطر المتداخلة، سواء أكانت هذه الأطر سردية أم أخلاقية أم ماورائية.
بطبيعة الحال، لم يكن كل «الزهاد» المسلمين الأوائل محاربين على الحدود، بل على الأرجح قضى كثير منهم وقتا أكبر في التحاور مع المسيحيين بدلا من محاربتهم. لكن ما يتضح عند النظر إلى هذه الشخصيات في ضوء أوقاتهم العصيبة، هو أن الزهاد المسلمين في القرن الثامن لم يكونوا فقط شخصيات أكثر تعقيدا مما كان سيجعلهم الدور الغائي «للمتصوف البدائي»، بل كانوا أيضا شخصيات مميزة على نحو واضح، ولديهم أدوار اجتماعية وأهداف أخلاقية مختلفة تماما عن أدوار وأهداف الأشخاص الذين سيطلق عليهم صوفيون في منتصف القرن التاسع في مدن العراق الأكثر هدوءا، بدلا من المناطق الحدودية في سوريا أو آسيا الوسطى. وكما توضح الكتابات التاريخية اللاحقة للصوفيين أنفسهم، التي سعوا فيها إلى تقديم الزهاد الأوائل باعتبارهم أسلافا لهم، فإن البحث عن نماذج سابقة لهم عادة ما يخبرنا عن السعي إلى اكتساب الشرعية أكثر مما يخبرنا عن العمليات التي من خلالها تشكلت الأفكار والحركات.
19
وبدلا من محاولة تتبع التطورات في إحدى الفترات وفقا لظروفها المختلفة تماما عن الفترات السابقة، دعونا نظل في الفترة والظروف «الأفقية» التي في ظلها اكتسب عدد صغير من المسلمين لقب صوفيين، ونرى ما إذا كنا سنستطيع أن نشرح على نحو أفضل أصولهم في طبقتهم الزمنية بدلا من الطبقات السابقة عليهم. (3) صوفيو العراق (800-900)
في أوائل القرن التاسع، خضع الزهد لجدل موسع بين الدارسين الحضريين الذين تزايدت أهميتهم في المجتمع المسلم أثناء هذه الفترة. وفي تلك الفترة حل محل نموذج المجتمع المسلم القديم الذي يقوده فرد واحد ينتمي إلى آل النبي محمد (أي الخليفة أو الإمام)؛ أفكار جديدة عن السلطة أعطت صياغاتها المختلفة وزنا متفاوتا لكل من العقل والتقوى، ممثلين في الفهم الكامل للنصوص الدينية والقرب الشديد من الله. وكان الفلاسفة المسلمون وعلماء الدين العقلانيون المسمون ب «المعتزلة» - الذين استمدوا ريادتهم من منطلق قراءاتهم في الفلسفة اليونانية الرومانية التي تولي الصدارة للعقل - مؤثرين بنحو خاص في بغداد في القرن التاسع.
20
وفي العقود الأولى من ذلك القرن، كان الفريق العقلاني مؤثرا على نحو كاف فيما يتعلق بتقديمه للعقل على النقل؛ بحيث أقنع قائد الإمبراطورية الإسلامية، الخليفة المأمون (الذي حكم من عام 813 إلى عام 833)، ببدء «محنة» (أي تحقيق تعسفي) في محاولة استمرت على مدار ثماني عشرة سنة لفرض معتقد يقول إن القرآن ليس نصا أبديا، بل مخلوق في زمن سياقي تاريخي.
21
على الجانب الآخر من الجدل، كان يوجد علماء متعددون سعوا إلى الدفاع عن سلطة الوحي، لا سيما أنه بدا أنه يقدم أسسا أكثر ثباتا (أو دستورية إن جاز التعبير) للتشريع، ووجد الكثيرون أنه أقل عرضة للتلاعب به من قبل الطبقة الحاكمة مقارنة بالعقل. واعترضوا بصفة خاصة على مزاعم الخليفة المأمون المتعلقة بموثوقية رؤيته لمعنى النص القرآني. وبالإضافة إلى الدفاع عن مكانة القرآن، كان هؤلاء العلماء مهتمين أيضا بالدفاع عن آلاف الروايات الخاصة بأقوال وأفعال محمد المعروفة بالحديث، وإبراز مكانتها. ووسط هذه الجدالات التي تجمعت بطبيعة الحال في بغداد بصفتها عاصمة الخلافة العباسية، بدأ في الظهور ما يعرف اليوم بالإسلام السني. إن تلك «الكتلة الدستورية» القائمة على افتراض أن المسلمين يمثلون مجتمعا معنويا أكثر منه سياسيا، يربط بين أفراده التزام تجاه رسالة القرآن والسنة النبوية كما هي مدونة في الحديث؛ أعطت بالرغم من ذلك مكانة خاصة لعلماء الدين الذين كانت لديهم خبرة في فهم النصوص الدينية تمكنهم من تحديد ماهية الرسالة الفعلية للقرآن والحديث.
22
على الجانب الآخر، كان يوجد أشخاص ظلوا أوفياء للفكرة الإسلامية القديمة التي ترى تمثل السلطة والمعرفة الدينية في شخص واحد، وعلى الرغم من أن أفكارهم استغرقت أيضا عقودا طويلة حتى تبلورت، فقد احتفظوا بلقبهم القديم وهو الشيعة؛ حيث إنهم كانوا أنصار الإمام علي، قائدهم الأول وصهر النبي محمد. وبعد قرنين من رحيل النبي محمد عن مجتمع المسلمين الذي أسسه، كانت هذه الجدالات محاولات لفهم المصادر التي تركها لذلك المجتمع؛ سواء تلك التي مصدرها الوحي المتمثل في القرآن، أو سنته المتمثلة في الحديث، أو أسرته المتمثلة في نسل علي.
يحظى سياق الجدالات المستمرة والمصادر الثقافية هذا بالأهمية ؛ إذ إنه يمنعنا من الوقوع في شرك اعتقاد أن الصوفيين بصفتهم «متصوفين» كانوا في الأساس أشخاصا يسعون إلى تكوين علاقة مباشرة مع الله؛ ومن ثم لم يكونوا في حاجة كبيرة إلى إرشاد القرآن أو السنة النبوية. وسوف يمنعنا هذا السياق أيضا من افتراض أن الصوفيين منذ نشأتهم كانوا في منافسة مع علماء الدين.
23
على النقيض من ذلك، فمن خلال أقدم المصادر التي لدينا عنهم، بدا أنهم كانوا مهتمين بشدة بالقرآن والسنة النبوية، وهذا الاهتمام بالنصوص المكتوبة هو ما مكننا من كتابة تاريخهم. ونظرا لأنه في هذه الفترة كانت تعاملات معظم هذه الشخصيات مع القرآن والحديث من خلال الحفظ الشفهي بدلا من اللجوء المنتظم إلى الكتب المكتوبة بخط اليد، فإن التركيز يجب أن يتحول من الجانب المكتوب إلى الجانب الشفهي، لكن ستظل الفكرة العامة هي أن الصوفية وعلماء الدين كانوا على حد سواء في اهتمامهم بالنصوص الشفهية والنصوص المكتوبة، مع مجادلة الصوفيين في مدى تبيان التجربة للمعاني الحقيقية لهذه النصوص.
24
ربما كان يوجد في هذه الفترة أشخاص كثر كانت لهم حالات تواصل مباشرة مع الله لم تكن لها علاقة بالقرآن، وكان يوجد بالتأكيد بين الصوفيين الأوائل من زعم أن مسعاهم التجريبي المعروف باسم «التحقيق» قد جعل مزاعمهم المعرفية مقدمة على تلك المعتمدة فقط على النص القرآني. وباستثناء شخصية بارزة سوف نتناولها في القسم القادم، فإننا إلى حد كبير لا نعلم إلا قليلا عن مثل هؤلاء الشخصيات، إما لأنهم لم يكونوا ضمن أعضاء الطبقة المنتجة للنصوص، وإما لأنهم كانوا غير قادرين على كسب دعمهم.
عند وضع الصوفيين الأوائل في سياق زمنهم «الأفقي»، سنحتاج إلى إدراك أن ظهورهم ينتمي إلى عملية تكوين طبقة علماء أوسع نطاقا، لم تكن مزودة فحسب بمعرفة القرآن والحديث والمهارات الخاصة بتفسيرهما، بل كانت أيضا تكتسب نفوذا اجتماعيا متزايدا بسبب امتلاكها لهذه المعرفة النصية أو الشفهية وتطبيق نموذجها القويم. ونظرا لعيشهم في المدن الكبرى، فإنهم لم يكونوا هؤلاء الزهاد المنعزلين ساكني الجبال أو المناطق الحدودية. ولم يكونوا من ساكني الأبراج العاجية المنعزلين عن الواقع في المدينة نفسها؛ لأن معرفة الحلال والحرام والقدرة على إقناع الآخرين من خلال الفتوى أو السلطة الأخلاقية الشخصية كانت لهما تأثيرات عملية هائلة. وعلى الرغم من وجود استثناءات، فإن الحكم العام سيظل كما هو في الأجيال التالية، وهو يتمثل في أن الصوفيين الناجحين، سواء أكانوا علماء أم شعراء أم علماء في الماورائيات أم علماء في الأخلاق، نادرا ما كانوا بمعزل عن العلم والتأليف أو عن الحديث والقرآن؛ تلك الأمور التي وضعت أسس التعلم الإسلامي. وبالرغم من ذلك، فإن الصوفيين الأوائل لم يكونوا مؤلفين فحسب، ويجب أن نرى أن مزاعمهم حول المعرفة التجريبية لا تجعلهم مختلفين بالكامل عن طبقة علماء الدين الناشئة، بل تجعلهم مجموعة فرعية خاصة أو حتى مجموعة منشقة تشترك في الكثير مع هؤلاء العلماء، باستثناء زعم واحد يتمثل في سلطة التواصل المباشر مع العوالم الإلهية.
إذا كان القرآن والحديث هما مصدرا الأشخاص الذين يسمون بالصوفيين، فكيف إذا استخدموا هذين المصدرين في تكوين معتقداتهم وممارساتهم وفي فهم تجاربهم؟ باختصار، فعلوا ذلك عن طريق الحفظ والتطبيق؛ فقد حفظوا كل آيات القرآن عن ظهر قلب، وطبقوا كل ما جاء في الحديث من أخلاق في سلوكهم.
25
والأهم أنهم تبنوا أيضا ألفاظا من القرآن لخلق مصطلحات يجيزها النص القرآني لوصف الممارسات وأشكال التجربة الروحانية التي أضافوها إلى الطقوس الدينية للأعضاء الآخرين في طبقة العلماء؛ لذلك فهذا النوع من المعرفة ليس سلبيا، وإذا كنا قد أكدنا على علاقة الصوفيين بالكتب، فإننا يجب أن نوضح طريقتهم في استخدامها؛ فالكتب بالنسبة إليهم أدوات للتأمل من ناحية، والعمل من ناحية أخرى.
26
وعلى الرغم من أننا أوضحنا أنه بظهور الورق تزايد على نحو كبير إنتاج الكتب في بغداد مقارنة بما كان يحدث في العالم الغربي، فإن هذه الكتب كانت لا تزال تكتب بخط اليد، وتعتبر من المقتنيات الثمينة. وهذه العوامل المادية أثرت على ثقافة القراءة التي نشأت بسببها، لكن كان يوجد عائق واحد يتمثل في أن النصوص الدينية كانت تستغرق وقتا أطول في كتابتها على الورق أكثر مما تستغرقه النصوص غير الدينية؛ كالقصائد والأعمال العلمية وكتب الطهي. وكما هو الحال في مجتمعات المخطوطات الأخرى التي وجد فيها استخدام الكتب داخل إطار أشكال تعلم شفهية أوسع نطاقا، كانت الكتب تقرأ بتعمق وعلى نحو متكرر، وهي عملية كانت تتعقد في بعض الأحيان بالحاجة إلى أن يكتب المرء نسخته الخاصة من الكتاب، أو أن يحفظه عن ظهر قلب كي يحصل عليه. وفي حين كان العلماء أنفسهم يجيدون القراءة والكتابة، فإن بعض أتباعهم لم يكونوا كذلك؛ ومن ثم كانوا يستمعون إلى الكتب في كل مرة تقرأ فيها. وبدلا من تمييز صفحة بقلم تظليل، كان هؤلاء القراء السمعيون معتادين على حفظ واستيعاب المحتويات ذهنيا. وكما سنرى لاحقا، فإن ثقافة القراءة الجهرية للكتب أثرت أيضا على شكل المحتويات؛ فبعد عدة قرون لاحقة كانت معظم كتب الصوفية تشتمل على السرد القصصي الشخصي، أو ذكر النقاط الرئيسية للموضوع بطريقة مسجوعة؛ بحيث يتمكن السامعون من تذكرها بسهولة. إلا أنه قبل اعتياد الصوفيين على تدوين كتبهم، فإنهم كانوا يقرءون القرآن والحديث بهذه الطريقة النشطة والذاتية مثل بقية المتعلمين في هذه الفترة.
هذا المعنى للقراءة باعتباره نوعا من التفاعل النشط مع النص القرآني يمكننا من تناول أحد الجدالات الرئيسية الأخرى المثارة حول أصول الصوفية. إن فكرة نشأة الصوفية عن القرآن لاقت أكبر قدر من المؤيدين لها بين الباحثين الفرانكوفونيين، ومؤخرا بين الأمريكيين، ورأوا غالبا أنها نظير «النزعة الداخلية» لروايات «النزعة الخارجية» التي ترجع أصول الصوفية إلى مؤثرات مسيحية أو غير مسلمة.
27
أظهر تتبع أصول المفردات الخاصة أو المعجم الصوفي الذي طورته الأجيال الأولى من الصوفية في كتاباتها؛ أنها كانت إلى حد هائل مفردات مردها القرآن. واستخدم ذلك بدوره في القول بأن الصوفية كانت منتجا إسلاميا «داخليا» يتميز بالتماسك والترابط، وليست نتيجة لمؤثرات خارجية.
28
بطبيعة الحال، تنطوي الحجة على بعض العيوب الأساسية المتعلقة بالتفريق المسبق بين الكلمات والأمور؛ فمجرد اختيار الصوفيين وصف ممارساتهم أو معتقداتهم بمصطلحات قرآنية لا يعني بالضرورة أن الممارسات أو المعتقدات الفعلية نفسها مصدرها القرآن. استخدم نقاد هذه النظرية أسلوب القرآن الذي رأوا أنه جاف أو طائفي أو سردي، لتوضيح أن القرآن كدليل في حد ذاته لا يمكن أن يكون مصدر معتقدات الصوفيين: «فالنص [القرآني] يتميز بالصرامة والإحكام، وقد اضطر متصوفو الإسلام إلى أن يعملوا جاهدين من أجل استنباط معان باطنية تعكس تواصلهم الشخصي مع الله.»
29
بيد أن جواب هذه المسألة يمكن أن يكمن في كلمات النقد نفسه؛ فقد اضطر الصوفيون بالفعل إلى العمل بكد في معالجة النص القرآني؛ لأن هذا التعاطي التأملي والنشط مع معانيه هو بالضبط طريقة معالجتهم له. وبدلا من صياغة الجدل حول ما يمكن أن نراه كقراء متأخرين في القرآن (الصرامة والإحكام)، والمطالبة بامتلاك النص نفسه بطريقة أو بأخرى للقدرة على خلق معتقدات وحركات في العالم الخارجي، فإنه من الأفضل أن نحول منظورنا نحو التساؤل عما رآه الصوفيون الأوائل أنفسهم في القرآن، وأن نسأل أنفسنا كيف أنتجت أساليب القراءة الفعالة التي اتبعوها تلك المعاني من خلال التفاعل الإبداعي بين حياتهم وظروفهم وبين النص القرآني؛ ومن ثم، لا تصبح المسألة متمثلة فيما إذا كانت «الصوفية» قد نشأت عن القرآن أم لا، بل تصبح متمثلة فيما إذا كان صوفيو القرن التاسع قد استخدموا القرآن باعتباره مصدرا لفهم العالم من حولهم ولخلق طرق تعامل أخلاقي وفكري وعملي مع العالم.
30
لا يوجد خطأ في التساؤل حول ما إذا كان الصوفيون قد جعلوا أفكارهم تنبع من كتاب الإسلام المقدس؛ لأن هذا بالضبط هو طريقة قراءة الكتب المقدسة. استخدم الحديث بطرق مشابهة، واستخدمت جماعات مختلفة آلافا من الروايات المتناقضة غالبا التي تروي أقوال أو أفعال النبي محمد للدفاع عن أفعالهم أو لانتقاد أفعال الآخرين. وكما هو الحال مع القرآن، لم يكن الحديث في حد ذاته «أداة» أو «مصدرا» بالضرورة للحركات الدينية، بل كان مصدرا استخدمه الصوفيون مثلما فعل معاصروهم الآخرون في تكوين تعاليمهم والدفاع عنها. أخيرا، استخدم القرآن أيضا بين الصوفيين باعتباره مصدرا للعبارات المغناة التي كونت ممارسة الإنشاد الصوفي الخاصة بذكر الله (وهو مصطلح مأخوذ أيضا من القرآن). في مثل هذه السياقات، كانت كلمات القرآن ليست مجرد مصدر للمعنى اللغوي، بل كانت مثيرا صوتيا لحالات ذهنية مختلفة.
شكل 1-2: تأمل القرآن: صحيفة للآيتين 199-200 من سورة البقرة تعود للعراق في القرن التاسع (معرض فرير للفنون، مؤسسة سميثسونيان، واشنطن: بيرتشيس، إف194217، إف1937. 6. 7ب).
بهذه الطريقة، يمكننا أن نرى كيف استخدم الصوفيون الأوائل مصادر الماضي الخطابية المميزة (القرآن والسنة النبوية) لتطوير «طريقتهم الدينية» وتأسيسها اعتمادا على مصادر السلطة الشرعية المعترف بها لدى معاصريهم. إن للكلمات تاريخا، ومن ثم تتغير معانيها مع مرور الزمن، وفي الأزمان والأماكن المختلفة التي تقرأ فيها كلمات النص القرآني المحفوظة، تستخدم للإشارة إلى أمور مختلفة في العالم عن تلك التي أشارت إليها في زمان ومكان نزوله؛ ولذلك استخدم القرآن في بغداد في منتصف القرن التاسع باعتباره مصدرا لغويا لمصطلحات كانت لها معان مختلفة وأشارت إلى أنشطة وفضائل ومشاعر مختلفة عما أشارت إليه للقراء المسلمين من الأجيال السابقة. ونظرا لأن العراق في هذه الفترة كان مجتمعا أكثر تعقيدا وعالمية إلى حد كبير عن شبه الجزيرة العربية التي نزل فيها القرآن؛ فقد كانت الأفعال والأفكار التي ارتبطت بمصطلحاته مختلفة بالضرورة في هذا الزمن المتأخر. ونظرا للتبادلات الثقافية اليومية التي حدثت في العراق في القرن التاسع، فإنه سيكون من المفاجئ لو أن بعض الأفعال أو الأفكار التي ارتبطت بكلمات القرآن لم تقتبس من قبل سكان المنطقة غير المسلمين الكثيرين. فعندما تكتب مسيحية أمريكية معاصرة - استجابة لتوصية الكتاب المقدس بالإحسان - شيكا لإحدى المنظمات الخيرية، فإنها لا تعد أقل تدينا لأن مثل هذه الإجراءات المصرفية ابتكرت في الجمهورية الهولندية، وليس في فلسطين الرومانية. إذا، في نهاية المطاف، فإن مسألة ما إذا كانت الصوفية قد نشأت عن القرآن أم عن أمور مقتبسة من المسيحية، هي مسألة زائفة تبسط الطريقة التي قرئ بها النص القرآني، والتي أنتجت بها الأفكار والأفعال الدينية.
بين أوساط مفسري القرآن والحديث المتخصصين، كان الصوفيون الأوائل أقرب إلى اتجاه الدفاع عن الوحي والتقليد وتقديمهما على العقل ؛ فقد كانوا بعيدين كل البعد عن كونهم زنادقة منتهكين لأحكام الشريعة، أو راديكاليين روحانيين؛ لذلك، فإننا على الأرجح يجب أن نراهم باعتبارهم جماعة محافظة بوجه عام. وبدلا من الهروب من المجتمع مثل الزهاد الأوائل، كانوا في الغالب داعمين بشدة للنظام الأخلاقي والقانوني الناشئ. وعلى غرار الحركة السنية الناشئة التي اشتركوا فيها، اتبعوا الأمر القرآني الذي ينص على «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، حتى لو أزعج ذلك من لا يرغبون في التحلي بالأخلاق.
31
وكما هو الحال مع كثير من المفكرين الإسلاميين البارزين الآخرين في هذه الفترة، فقد كان الصوفيون الأوائل مهتمين كثيرا بالأفعال والتوجهات الصحيحة للبشر في هذا العالم الاجتماعي، أكثر من اهتمامهم بمعرفة البشر بما يكمن وراء ذلك العالم وتفاعلهم معه.
ربما يعد المحاسبي البغدادي (المتوفى عام 857) الأهم - وبالتأكيد الأكثر شهرة - بين هذه الشخصيات التي رفضت رياء الزهاد مفضلة سيادة الذات الأخلاقية على الذات الجسدية.
32
يرى البعض أن المحاسبي لا يمكن أن يكون صوفيا؛ لأنه كان عالم دين مهتما بالجانب الأخلاقي وليس متصوفا، وبالفعل في كتاباته التي وصلت إلينا لم يشر إلى نفسه مطلقا بلفظة صوفي.
33
إلا أن هذا يعد إغفالا لسياق الاهتمامات القوية بالاستقامة الظاهرة (إن لم تكن المرائية) الذي ظهر فيه الصوفيون واستمدوا منه معاشهم. علاوة على ذلك، فقد لعب المحاسبي دورا مهما في توفير المصادر الفكرية لتكوين التقليد الصوفي؛ حيث سيزعم صوفيو الأجيال التالية أنه كان واحدا منهم. كان هذا جزءا مهما جدا من العملية التي نتتبعها، الخاصة بتطور «التقليد» الصوفي الذي كان في بعض الأحيان عملية استرجاعية قائمة على الانتساب إلى أشخاص مرموقين وأفكار محترمة أو مفيدة على نحو ما. لهذه الأغراض، كان المحاسبي مهما في تطوير الممارسة الأساسية التي ستميز تدريجيا الصوفيين عن غيرهم من الصالحين الذين وضعناهم في مصافهم. وهذه الممارسة - أي المحاسبة التي منها اكتسب اسمه - تمثلت في المراقبة الدقيقة للذات الدنيا الجسدية التي أشار إليها القرآن باسم «النفس» (لاحظ اللجوء للمصطلحات القرآنية).
34
في هذا الصدد الخطابي والعملي يكمن «الالتفات الداخلي» الذي ميز الصوفيين عن منافسيهم الأكثر ميلا إلى الإظهار الخارجي، سواء أكان هؤلاء المنافسون هم الزهاد أم أهل الحديث المهتمون بالأخلاق. وكما سنرى الآن عندما نلتفت إلى تعاليم الصوفيين الأوائل على نحو كامل، فقد كان هذا التطوير لإطار مقنع لفهم الذات وطرق فعالة لاستكشافها هو ما أكسب الصوفيين الشهرة والتبعية اللتين ستنشران طريقتها الجديدة على نطاق واسع على مدار الأجيال القادمة. ونظرا لأن معتقدات صوفيي بغداد في القرن التاسع والقرن العاشر ستشكل أسس التقليد الصوفي اللاحق، فإن الصفحات القادمة سوف تتبع تلك المعتقدات بقدر من التفصيل؛ لأن المفاهيم الأساسية والمصطلحات العربية التي ارتبطت بها ستنتقل لاحقا إلى الصوفيين في أماكن بعيدة مثل واحات الصحراء الكبرى وجزر التوابل في المحيط الهندي. (4) الخراز البغدادي (المتوفى عام 899)
في منتصف القرن التاسع، في بغداد وكذلك جنوبا في البصرة، كان يوجد عدد كبير من الأشخاص الذين يطلق عليهم الصوفيون، إلا أن أبا سعيد الخراز كان من أهمهم من حيث الشهرة في عصره أو الاقتداء به بعد مماته.
35
ما نعلمه على وجه التأكيد عن حياة الخراز قليل جدا، باستثناء أنه كان كثير الترحال؛ حيث زار مدنا مقدسة مثل القدس ومكة (التي مكث فيها أحد عشر عاما)، وكذلك زار مصر ومدينة القيروان الموجودة فيما أصبحت الآن تونس. ويخبرنا اسمه أنه على الأقل في مرحلة من حياته عمل كإسكافي، وهذا يشير إلى البيئة الحرفية الحضرية التي سنلاحظ تكرارها بين الصوفيين الأوائل الآخرين. إلا أننا في العموم لا يتوافر لدينا إلا قليل جدا من المعلومات المتعلقة بسيرته الذاتية كي يمكننا الاستعانة بها، ومن ثم فما من طريقة ممكنة لوضع الخراز وغيره من شخصيات هذه الفترة المشابهة له في السياق، إلا طريقة خطابية متمثلة في وضع أفكاره وكتاباته وسط الأنماط الأوسع نطاقا، الخاصة بالجدل وإنتاج الكتب التي شهدنا ظهورها في بغداد في تلك الفترة، لكن مع الوضع في الاعتبار أننا ما زلنا في فترة كانت فيها تلك «الكتب» مكونة من شيء أشبه بملاحظات مدونة في مخطوطات، وليست كتبا مخطوطة باليد مرتبة على نحو رسمي. كان الكتاب الأساسي للخراز هو «كتاب الصدق» الذي يبدو أنه ألفه لنطاق أوسع، وليس لنطاق مذهبي ضيق من القراء، على الرغم من أنه كتب أيضا عددا من الأطروحات الأقصر، أو ما يعرف بالرسائل المخصصة للمسائل الأكثر تحديدا وتعقيدا، وكانت على الأرجح موجهة إلى عدد أقل من القراء الذين يتشابهون معه أكثر في التفكير.
ونظرا لميل كثير من الروايات التي تتناول الفكر الصوفي إلى التخلص من القشرة الثقافية بحثا عن النواة التصوفية، فإنه تجدر الإشارة أولا إلى الطابع الإسلامي المميز لكتابات الخراز. وكما في الأعمال الصوفية التي لا تعد ولا تحصى، التي كتبها الصوفيون في الأجيال التالية، أثبت الخراز وجهات نظره من خلال تقديم اقتباسات مؤيدة من مراجع إسلامية قديمة، سواء أكانت من القرآن أم الحديث أم من علماء وزهاد من القرنين السابقين؛ ومن ثم فقد استخدم الماضي الذي وصفناه بالفعل بأنه كان موردا استخدمه هؤلاء الكتاب. وعلى الرغم من أنه لم يكن يوجد بعد تقليد صوفي مميز يمكن الاعتماد عليه - إذ إن كتابات جيل الخراز ستكون هي نفسها المصادر الأولى لتكوين مثل هذا التقليد المميز على مدار الأجيال القليلة التالية - فقد كان يوجد بالفعل تقليد إسلامي زاخر يمكن أن يعتمد عليه المرء في دعم أفكاره. إن إدراك هذا السياق الخطابي الإسلامي أمر مهم؛ إذ يمنعنا من الانسياق بسهولة وراء الميول القديمة المتعلقة بفهم الصوفيين الأوائل، التي ترى أنهم زهاد يبحثون عن تجربة خام. فمن ناحية، إن النظر بعين الاعتبار إلى المحتوى الإسلامي في كتابات الخراز، يمنعنا أيضا من الانسياق بسهولة وراء التخلص من الأمور التي مثلت للخراز وقرائه الأسس الإسلامية لتعاليمه؛ كي نقدم عمله كبنية أفكار مجردة، كي يكون ممكنا الزعم أن «عمله يشبه كثيرا الأطروحات المسيحية التي كتبها إسحاق النينوي.»
36
ومن ناحية أخرى، من خلال إدراك عملية التناص التي عن طريقها طور الخراز وغيره من الصوفيين نصوصهم، عن طريق الاعتماد على النصوص القديمة الموثوق فيها (أو انتحال بعض أفكارها على نحو سافر في بعض الحالات كما سنرى لاحقا)، فإنه يمكننا تجنب افتراض أن الصوفيين بوصفهم «زهادا» قد ألفوا كتاباتهم في الأساس من هذه المادة الخام المستمدة من تجاربهم المتسامية. والسبب في ذلك يكمن في أن تلك التجارب فسرت واكتسبت معانيها من خلال اللجوء للمصطلحات والمفاهيم التي تكونت من خلال قراءة الصوفيين النشطة للقرآن والحديث؛ بحيث كونت تلك التجارب والنصوص جزءا من التسلسل الإبداعي.
إلا أننا نرى الاهتمام بالدفاع عن سلطة التقليد الإسلامي الجمعي في مقابل التجارب الحضورية الفردية في كثير من أعمال الخراز، التي لم تحاول إطلاقا تجاهل المتطلبات الأساسية للشعائر الإسلامية، بل اشتملت على كتاب قديم مخصص لطريقة الأداء الصحيح للعبادات الأساسية. في نفس الإطار، دافع الخراز عن سلطة الأنبياء (الذين كانوا أمواتا) على أولئك الذين زعموا أنهم أولياء الله (الذين كان كثير منهم أحياء). سوف نتحدث بتفصيل أكبر عن هذه الشخصيات الغامضة - ولكن الأساسية لاحقا - لكن في هذه المرحلة هدفنا هو إدراك تقليدية وامتثالية الخراز. وفي حين اعتمد الخراز على هذه الخلفية الملتزمة بالعرف، ووضع نفسه في إطارها، فقد قدم إسهامات مهمة لتطوير ما سيصبح عما قريب الطريقة المميزة الخاصة بالصوفيين؛ ففي «كتاب الصدق»، حدد الخراز مجموعة من الصفات الأخلاقية اللازم على المسلم الحق اكتسابها إذا كان (وفقا لكلمات القرآن كما اقتبسها الخراز) «يرجو لقاء ربه.»
37
وكان اهتمام الخراز ب «الصدق» صدى لنقد الزهد الريائي الذي رأينا ظهوره بالفعل، وأثناء تسجيل ذلك بنفسه كان هدفه توضيح أن الصدق «علم» (أي معرفة نظرية) وفي الوقت نفسه «فقه» (أي معرفة عملية)، مع فهم هذين الجانبين في إطار التصنيفات الإسلامية التي كانت تظهر في ذلك الوقت بين العلماء المسلمين على اختلاف معتقداتهم، بما فيهم الفقهاء.
38
على الرغم من أننا أصبحنا الآن أكثر تعودا على التحدث في ضوء «التطور الروحاني»؛ فإنه من الأفضل على الأرجح تدبر المبادئ التي حددها الخراز شروطا أخلاقية؛ لأن الحديث عن التطور «الروحاني» في غياب عمل مبذول في العالم يعد إساءة فهم للمعنى الكامل لرسالة الخراز التي يوضح فيها أن التطور الروحاني لا معنى له ، إن لم يكن مصحوبا بالعمل الصالح. لا بد أن يكون العمل الخارجي والنية الداخلية متناغمين كل منهما مع الآخر، والصدق الحقيقي يساعد على ذلك. إلا أن هذه كانت بداية الأمر فحسب، وكان «كتاب الصدق» مخصصا لبسط المضامين والجوانب الدقيقة الغامضة لتطبيق هذا المبدأ الدال وإجادته. وبقيامه بهذا، استخدم الخراز ما سيصبح الاستعارة المحورية للمعتقد الصوفي، والتي تتمثل في أن المنهج الصوفي يمكن اعتباره «طريقا»؛ أي دربا يرشد المرء بأمان في رحلته نحو حالة التناغم مع الله، التي هي الإسلام. ومثل أي رحلة طويلة أخرى، فعلى مدار الدرب يمر المسافر بمجموعة من الأماكن أو المحطات التي تسمى «المقامات»، ومن أجل أن يكون المرء صادقا في النية وفي الفعل أيضا، فإنه يجب أن يمر عبر العديد من هذه «الأماكن» المجازية، التي قد يكتسب فيها الجوانب المختلفة من الصدق؛ وهي: التوبة، ومعرفة النفس، وضبط النفس، ومعرفة حيل الشيطان، ومعرفة الحلال والحرام، والزهد، والتوكل على الله، والخوف من الله، والحياء، والشعور بالعرفان تجاه الخالق، وحب الله غير المحدود، والإيمان بالقضاء والقدر، والشوق إلى الله، وأخيرا مقام القرب من الله.
كانت هذه الاستعارة مهمة؛ لأنه كما هو الحال مع أي رحلة، من غير الممكن الوصول لأي مكان دون المرور أولا بالأماكن السابقة عليه بطول هذا الطريق. إن هذا الأسلوب القائم على رسم هذه «الأماكن» على الطريق نحو القرب من الله سيصبح واحدا من الخصائص الكلاسيكية لكتابات الكتاب الصوفيين، ودليلا - كما يجب أن نفترض - على امتلاك هؤلاء الكتاب لنوع من المعرفة الخاصة بهذه الرحلة جعل المريدين يقبلون عليهم. على الرغم من ذلك، يجب أن نفترض أن هذه التعاليم لم تكن نظرية فحسب، كما تبدو في أعمال تقديمية من أمثال هذا الكتاب، بل لقد كانت أيضا عملية وفاعلة. وعلى غرار الطب، فإنها لم تكن مجرد فرع رسمي من فروع المعرفة، بل كانت وسيلة تجلب الشفاء؛ فالصوفيون لم يدلوا الناس فحسب على طريقة فعل الخير، بل دلوهم أيضا كيف يشعرون بالاطمئنان والسعادة من خلال الرضا الذي يجلبه التوكل الكامل على الله.
إذا كانت الطريقة والمحطات المتعلقة بها أحد العناصر الأساسية للمنهج الصوفي التي قدمها الخراز، فقد قدم عنصرا آخر، وهو المفهوم الثنائي المتمثل في «الفناء» و«البقاء». وكما هو الحال مع أي معتقد صوفي آخر، فقد كان دعم فكرة موت الأنا قبل الجسم موجودا في حديث للنبي محمد، الذي قيل إنه نصح أصحابه فيه قائلا: «موتوا قبل أن تموتوا.» وإذا كان السير على الطريقة هو المنهج، فإن الإجراء نفسه هو كبت الغرائز الدنيئة والمتدنية للنفس؛ كي لا يبقى في نهاية الرحلة إلا الروح، التي تكون في حالة من القرب من خالقها.
ناقش الخراز خصائص حالة القرب هذه ونوع الأشخاص الذين وصلوا إليها؛ وذلك في رسائله الأكثر تخصصا. وكانت لغة هذه الرسائل أكثر عمقا وغموضا مما يشير إلى ظهور اللغة الاصطلاحية المتخصصة الموجهة لمجتمعات مغلقة من القراء، والتي تتطلب أيضا وجود تعليق شفهي من معلم لتوضيح المعنى. وفي دائرة الخراز على الأقل، يجب ألا نتخيل أن الصوفيين الأوائل كانوا يخاطبون العامة؛ فمثل «إخوان الصفا» المتأثرين بالأفلاطونية الحديثة، والداعين لاستخدام السحر - الذين ظهروا في البصرة بعد ذلك بنصف قرن - كان الصوفيون الأوائل مولعين بما هو غامض ومعقد التفاصيل. إن انتقادهم للزهاد الذين من المؤكد أن تقشفهم الريائي والمريع في بعض الأحيان قد نال تأييد العامة، يشير إلى أن أمثال الخراز والمحاسبي من قبله مثلوا دائرة من النخبة المثقفة المتحضرة المتخصصة على نحو واضح، التي سعت إلى تحقيق المكانة من خلال الإبداع في الكتب بدلا من السيطرة على الأجساد.
في رسائل الخراز، تمثلت رغبته في التصنيف التي رأيناها بالفعل في عمله «كتاب الصدق»، في تقديمه ل «الطبقات» السبع الموجودة بين النخبة الروحانية، التي وصف رموزها بأنهم «أهل الارتباك والحيرة». سعت كل طبقة من هذه الطبقات إلى الله بطريقة مختلفة، بداية من التفكر في «الإشارات» المبهمة من قبل أصحاب الطبقة الدنيا وحتى الأرواح العليا الذين وصلوا إلى درجة من «القرب» من الجوهر الإلهي؛ بحيث أفنوا صفاتهم تماما في صفات الله.
39
وعلى الرغم من كل محاولات الخراز لتجنب إثارة الجدل، من خلال تأييد أهمية الحفاظ الظاهري على الأعراف الاجتماعية الإسلامية، فقد عجز عن تجنب إثارة الجدل في تخفيفه للفرق بين الله والبشر، ولو لنخبة قليلة منهم. وعلى الرغم من توضيحه وجود سبع طبقات نخبوية من البشر، ففي جوانب أخرى، سعى إلى تقليل مكانة الأشخاص الذين قادهم قربهم من الله وانشغالهم به إلى اعتبار أنفسهم «أولياء» له.
40
وفي حين قبل الخراز بالتأكيد مثل بقية المسلمين في وقته وجود مثل هؤلاء الأولياء، فإنه كان حريصا على ألا تتجاوز مكانتهم مكانة الأنبياء. وكان معنى ذلك أنه بصرف النظر عما كشفه الله لأوليائه، فقد كان هذا الكشف أقل في السلطة والمكانة عما كشفه لأنبيائه؛ فحتى ولي الله لا يمكنه أن يأمر أي شخص بانتهاك قاعدة شرعية، أو إنكار ما أوحى الله به إلى الأنبياء. ونظرا لأن الخراز وسع طرق وأعداد الأشخاص المحتمل أن يكون لديهم تواصل مباشر مع الله، فقد كان من ثم في الوقت نفسه يقلل من السلطة التي منحها ذلك التواصل لهؤلاء الأولياء على بقية أفراد المجتمع. (5) التستري البصري (المتوفى عام 896)
بحلول النصف الثاني من القرن التاسع، كانت مسألة العلاقة بين الأنبياء والأولياء (ومن ثم، المسلمين العاديين الذين كانوا يدينون لهم بالولاء) مسألة ملحة بالفعل. وعلى بعد نحو ثلاثمائة وخمسين ميلا جنوب بغداد في مدينة البصرة، كانت هذه المسألة يواجهها أحد معاصري الخراز، وهو سهل بن عبد الله التستري (المتوفى عام 896). ومثل الخراز وكثير من علماء المسلمين الآخرين في هذه الفترة، فقد كان التستري كثير الأسفار في حياته، وعلى الرغم من أنه نشأ في مدينة تستر الإيرانية التي اكتسب منها اسمه، فقد حج إلى مكة، وأقام في العديد من المدن في العراق، ومن المحتمل أن يكون قد زار ربوع مصر أيضا.
41
وعلى الرغم من أن المؤرخين لديهم النصوص التي تركها الرجال من أمثال التستري كأدلة، فإنه من الصعب جدا تقييم مدى تأثير الحوارات والاجتماعات - التي لا بد أن تكون قد حدثت أثناء أسفارهم - على فكرهم . إن المزاعم اللاحقة التي تقول إن التستري تعلم من الشيخ شبه الأسطوري، ذي النون المصري (المتوفى عام 861)، غير مستبعدة في الأساس، بل فقط من الصعب إثباتها. فنحن نعلم الكثير عن تكون الأفكار في البصرة على مدار العقود السابقة على وصول التستري إليها عام 877، عندما كان بالفعل رجلا عجوزا يناهز الستين، حتى لو بدا من المحتمل أن أفكاره كانت ناضجة بالفعل في هذه المرحلة.
42
وبينما يمكننا الإشارة إلى ارتباطه بمناقشات وأنماط كتابة الجيل أو الجيلين السابقين عليه، وفي حين يبدو محتملا أنه تأثر بتفسير قديم للقرآن لم يعد موجودا الآن، قدمه الإمام الشيعي جعفر الصادق (المتوفى عام 765)؛ فإنه ربما من الأفضل أن نرى أنه كان مبدعا في حد ذاته، ولم يكن يبحث لأفكاره عن مصادر بين الغنوصيين وأتباع الأفلاطونية الحديثة.
43
الأكثر إدهاشا في مصدر إبداع التستري كان ظهور ذلك الإبداع في بيئة تفسيرية خصبة جمعت بين القرآن وتجارب التستري الخاصة. ومن المهم ألا نتجاهل أيا من شقي هذه البيئة؛ لأن التستري لم يكن مجرد متصوف حر التفكير يعتمد على أفكاره المتسامية، ولا مجرد مفسر ناقل يعتمد على تأويلات بسيطة للنص القرآني، بل كان مسلما رأى أن كلمات الله المذكورة في القرآن مصدر معرفة لا ينضب للقارئ المتأمل المتفاعل مع النص القرآني. وبالاستعانة بالقرآن كمرشد له، تفكر في معنى تجاربه التي كانت نتاج سنوات قضاها في إنشاد صيغ الذكر، مثل تلك التي تعلمها أثناء شبابه من خاله الذي كان من علماء الحديث المشهورين. وعلى الرغم من البحث في الصلوات اليسوعية المطولة لدى المسيحيين النسطوريين عن نظائر ومصادر لممارسة الإنشاد تلك؛ فقد كان مصدر هذه الممارسة بالنسبة إلى المسلمين أمثال التستري وخاله إسلاميا تماما. لم تكن الصيغ وحدها مكونة في الغالب من كلمات من القرآن، بل كان المصطلح العام لهذه الممارسات - أي الذكر - هو نفسه مأخوذ من عدة وصايا قرآنية بذكر الله. كان التستري أول شخص نعرف عنه أنه ربط بين ممارسة إنشاد الذكر ومفهوم القلب باعتباره عضو المعرفة، الذي يسمح تطهيره باستضافته لنور الله الأزلي.
على الرغم من أن تفسير التستري للقرآن عبارة عن مجموعة غير منظمة من الملاحظات أكثر من كونه تفسيرا تدريجيا، فإنه يعطي فكرة عامة عن تعاليم التستري، وكذلك لمحة عن دور النص القرآني فيها. وبين النص القرآني والتأمل، طور التستري الفكرة القرآنية القائلة بوجود «ميثاق» أزلي بين الله وعباده؛ حيث استدعيت كل أرواح البشر الذين سيخلقون أمام الله وقبلوا به ربا لهم.
44
إلا أن نسخة التستري من هذا الميثاق امتدت إلى ما قبل فجر الخليقة، فقال إنه قبل أن يخلق الله البشر خلق محمدا أولا.
45
لم يكن محمد ذاك النبي محمد المعروف تاريخيا، بل كان محمدا كونيا خلق من نور صاف نابع عن نور الله الأزلي نفسه. من هذا «النور المحمدي»، خلق الله بعد ذلك بقية البشر بالترتيب التالي: الأنبياء، فأولياء الله الصالحين، فبقية الأرواح البشرية العادية. وليس كل البشر الذين خلقهم الله متساوين. إن أولياء الله ليسوا مقربين من الله بفضل جهودهم الخاصة، لكن بفضل مكانتهم التي قدرها الله سلفا عند لحظة خلقهم، وهذا لا يقلل من شأنهم على الإطلاق. وعلى الرغم من أن المسلمين العاديين بإمكانهم بالتأكيد القرب من الله باستخدام أساليب مثل إنشاد الذكر لتطهير أنفسهم من مشتتات النفس، فإنه لا توجد فرصة لهم للترقي في هرمية الولاية السماوية تلك. في واقع الأمر، قدم التستري هرمية أولياء الله هذه في صورة جماعة مغلقة يسيطر عليها عدد ثابت من «الصديقين» و«الأبدال» و«الأوتاد». وكما سنرى في الفصل الثاني، فمن الناحية الاجتماعية والمكانية، فإن عقيدة الولاية تلك سوف تؤدي مع مرور الزمن إلى تقديس قوي للأولياء الصوفيين الذين ستحول أضرحتهم - مثل ضريح الشيخ يوسف أبي الحجاج في معبد الأقصر الفرعوني القديم في مصر - تدريجيا منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة إسلامية مقدسة.
شكل 1-3: استعراض للمناطق الإسلامية المقدسة: ضريح من فترة العصور الوسطى للشيخ يوسف أبي الحجاج في معبد الأقصر، مصر (تصوير: نايل جرين).
على الرغم من أن التستري أوضح صراحة أنه توجد أربعة مستويات لفهم معاني القرآن (الحرفي، والرمزي، والأخلاقي، والأخروي )، فإن أولياء الله فقط هم من يستطيعون حقا فهم القرآن. وفي حين نرى مرة أخرى الاهتمام بالترتيب والإحصاء الذي ميز أيضا كتابات الخراز؛ فقد حاز أولياء الله بلا شك على حيز كبير في عالم التستري. وفي الوقت الذي كان يشكل فيه الكثير من العلماء المسلمين إسلاما يتسم بالمساواة (أو على الأقل قائم على الجدارة)، كانت فيه المعرفة والسلطة تكتسبان من خلال الفهم الصحيح للقرآن واتباع السنة النبوية؛ فإننا نرى في دائرة التستري ظهور الإسلام الهرمي القديم مرة أخرى، الذي أودعت فيه المعرفة والسلطة في عدد صغير من الناس؛ من خلال الاختيار الإلهي. ونظرا لأن أولياء الله ليسوا نخبة محددة بالنسب كما هو الحال في تكوين السلطة لدى الشيعة المحصور في أولئك المنحدرين من نسل النبي محمد، فقد مثلوا نموذجا أكثر تغيرا، ومن ثم أكثر قابلية للتحوير، كان من المحتمل أن يجذب عددا أكبر من المؤيدين نتيجة لذلك. ولأن أولياء الله هم وحدهم من يعلمون أنهم أولياؤه، فلم توجد من الناحية النظرية طريقة للتأكد مما إذا كان من يزعم أنه من أولياء الله وليا له فعلا أم لا. وكما هو متوقع، فقد زعم التستري أنه نفسه «قطب» الكون الذي يقف في قلب الهرمية الكونية هذه لأولياء الله الذين اختارهم الله منذ الأزل.
على الرغم من أن تفسير التستري للقرآن يعج بالرؤى والاستنباطات الغريبة، فقد مثلت تعاليمه أيضا مصدرا عقائديا للتوجهات البالغة التسلط، التي سنشهد كيف أنها ازدهرت مع سعي الصوفيين إلى كسب مزيد من النفوذ في القرون التالية. وفي زمن التستري، أكسبه زعم كونه من أولياء الله استحسان الآخرين ودعمهم، ويبدو أنه اضطر للهروب من مدينة واحدة على الأقل نتيجة لذلك. وبينما تمكن التستري من كسب عدد كبير من الأتباع في البصرة، انتقل أتباعه بعد وفاته إلى اتجاهات مختلفة، وأسس بعضهم مدرسة عقائدية مميزة أكثر من كونها مدرسة صوفية، تسمى السالمية، وانتقل البعض الآخر إلى بغداد للالتحاق بالحلقة المتجمعة حول الصوفي التالي الذي سوف نتطرق إليه، وهو الجنيد صاحب فكرة «الصحو »؛ ومن ثم، فما نشهد لم يصبح بعد حركة صوفية متماسكة على نحو كامل، بل مجموعة من الحلقات المتمايزة، لكن المتقاطعة المجتمعة حول شيوخ منفردين. وكما نرى في حالة أتباع التستري والجنيد، ففي العراق على أقل تقدير كانت تحظى هذه الحلقات بقدر معقول من التفاعل الاجتماعي بعضها مع بعض، وهذا التفاعل سيخلق تدريجيا على مدار القرنين التاسع والعاشر حركة صوفية أكثر تماسكا، تتشارك في بعض الأفكار والممارسات.
بحلول القرن العاشر، نكون قد تجاوزنا بالتأكيد المرحلة التي كان يمثل فيها مصطلح صوفي مجرد لقب لخليط متنوع من السالكين، وأصبح كثير من الأفكار والمصطلحات والممارسات الأساسية التي ستكون تقليدا صوفيا خاصا قيد التكوين. إلا أننا سنرى من خلال تناولنا للشخصيات القليلة التالية أن وجود الجدالات والخلافات يوضح أننا لم نصل بعد إلى وجود حركة متماسكة، وأنها ما زالت لا ترقى لمنزلة التقليد. (6) الجنيد البغدادي (المتوفى عام 910)
على النقيض من الخراز والتستري اللذين سافرا كثيرا على الرغم من قضاء أكثر فترات حياتهما المهنية نشاطا في العراق، فقد كان الجنيد إلى حد كبير مواطنا طويل الإقامة في بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية.
46
اشتهر الجنيد بلقب الخزاز، وهذا يخبرنا أنه كان يكسب قوته من العمل كتاجر للحرير، وهذا يشير مرة أخرى إلى الخلفية المهنية الحضرية. إن دراسته المبكرة للفقه الإسلامي - الذي كان فرعا معرفيا ناشئا في ذلك الوقت - جعلته بحق في قلب الاتجاه الفكري السائد في بغداد في زمنه أكثر من غيره من الشخصيات التي تناولناها. وتتضح هذه المؤهلات العلمية من عدد الرسائل التي كتبها - التي تزيد عن ثلاثين بحسب إحدى الروايات - ومعرفته بالنقاشات الواسعة النطاق التي كشفتها. سعى الجنيد مثل الخراز والتستري إلى بناء تعاليمه (واستقائها في واقع الأمر) من المصدرين أنفسهما اللذين استخدما لوضع قواعد الشريعة، وهما القرآن والحديث.
47
ومثلما يؤكد الكثير من كتابات الصوفيين المتأخرين الذين أتوا من بعده على التناغم بين البعد «الباطني» أو الداخلي، والبعد «الظاهري» أو الخارجي للوجود، فقد كانت تعاليم الجنيد المتعلقة بطبيعة الروح متممة لقواعد الشريعة، وليست بديلة لها . فبالنسبة إليه، لم تكن «الطريقة» أو المنهج سوى التحقيق الكامل للمبدأ الأساسي في الإسلام المعلن في أذان الصلاة، ألا وهو: «لا إله إلا الله.» ذلك المبدأ المعروف بمبدأ «التوحيد» - أي وحدانية الله في مقابل «التثليث» عند المسيحيين - الذي يعد المبدأ الأكثر أساسية في المبادئ الإسلامية، والذي كان في نظر الجنيد أساس مسعى كل الصوفيين. ولم يكن كافيا مجرد الشهادة بوحدانية الله باللسان، أو القبول بها بالعقل، بل كان لازما العيش بها واختبارها كواقع.
48
واعتمادا على الفكرة القرآنية نفسها القائلة بوجود الميثاق، التي ناقشها التستري في البصرة في الوقت نفسه، زعم الجنيد أن الأرواح البشرية تتوق إلى حالة الوجود الأصلية؛ حيث كانت في حالة وجود سابق لفرديتها في الله.
49
وعلى غرار التستري مرة أخرى، قال الجنيد إن الطريق إلى استعادة هذه الحالة الأصلية يتمثل في عملية «فناء» الروح الفردية الدنيا أو النفس. ويقول الجنيد متحدثا عن تجربته الشخصية فيما يتعلق بهذا الفناء: «استحوذت علي رؤية طاغية، ووهج براق، حفزا في حالة فناء؛ مما جعلني أخلق من جديد بالطريقة نفسها التي خلقني الله بها عندما لم يكن لي وجود.»
50
وتطويرا لمفهوم أساسي آخر سيصبح منسجما لاحقا مع نموذج الطريقة الذي رأيناه بالفعل، والذي يتكون من مجموعة من «الأماكن» التي تميز السبيل إلى «الفناء»؛ أوضح الجنيد أن السالك سيمر بمجموعة من «الأحوال» (أي الحالات) المؤقتة، ولكن التصاعدية. لكن في الفكر الذي سيجعل الجنيد في منزلة مميزة لدى الأجيال التالية من الصوفية، أوضح أيضا أنه على الرغم من أن حالات النشوة والذهول كانت جزءا من الطريقة، فإن السالك الذي شهد «البقاء» بعد أن أفنى نفسه في الله لم يبق في حالة الإثارة المؤقتة تلك، بل تجاوزها وصولا لحالة «صحو» أعلى ودائمة.
51
لذلك، كانت أعلى حالات القرب من الله مصحوبة بالسلوك الخارجي المحافظ، الذي يستطيع المسلمون العاديون تمييزه بوضوح عن حالات النشوة المتسمة بالهذيان أو مظاهر التقشف التي تميز الأشخاص الأقل قربا من الله.
كان الجنيد، مثل غيره من الصوفيين في زمنه، يضع تعاليمه في سياق الجدالات المحتدمة حول الاعتقاد والسلوك الصحيحين. كان أحد أطراف تلك الجدالات الواعظ البغدادي أحمد غلام خليل (المتوفى عام 888)، الذي قيل عنه إنه في عام 877 وجه اتهامات صريحة بالزندقة إلى ما يزيد عن سبعين من أتباع الصوفيين من أمثال الجنيد؛ مما مثل عقبات كبيرة أمام انتشار تعاليمهم التي بدت معارضة لكلمات القرآن أو الحديث بصفة خاصة.
52
وتعود أهمية تقديم معتقد الصحو - الذي يعني الالتزام بالشريعة وضبط النفس ورباطة الجأش - جزئيا على الأقل أيضا إلى كونه ردا على القصص الشائعة عن السالكين وأقوالهم فيما يتعلق بحالة النشوة الدينية التي كانوا يصلون إليها، والتي كانت تصل بغداد من أقاليم الإمبراطورية الإسلامية. وكثير من هذه الشائعات المتعلقة بالعمالقة الروحانيين الجذابين والغامضين كان متعلقا بشخص يقال له أبو يزيد (المتوفى عام 875) من مدينة بسطام، الواقعة في الريف الإيراني البعيد أقصى شرق بغداد. إن ما نعرفه عن أبي يزيد (الذي يعرف أيضا باسم بايزيد) قليل نسبيا، إلا أن كثيرا من «العبارات الخاصة بالنشوة» التي تندرج تحت ما يسمى «الشطح»، والتي زعم أنه قالها أثناء قربه النشوان من الله؛ جمعه أتباعه، ونقل إلى المسافرين على طريق التجارة عبر بسطام، ونوقش في النهاية في الحلقات الدينية الرفيعة في بغداد. ومن الناحية الجغرافية والروحانية أيضا، كان المفكرون الحضريون في العاصمة يرون أن أبا يزيد البسطامي يمتلك جاذبية ساكن الحدود غير المتقيد بأعراف المدينة، والذي لا يخشى المجاهرة بإثارة اكتشافاته. مثلت نوعية العبارات التي زعم أنه قالها - مثل: «سبحوني كما لو كنت أنا الله.» و«انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها، ثم نظرت إلى نفسي فإذا أنا هو!» - ملخصات بليغة لما كان يقوله تقريبا صوفيو بغداد الأكثر مبالغة وحذرا في نظرية الفناء والبقاء في الله خاصتهم، لكنهم كانوا يتجنبون قوله بهذه الصراحة.
إن قصة تعلم أبي يزيد البسطامي على يد رجل يدعى السندي (نسبة إلى بلاد السند الواقعة في شمال الهند)، ستقود أحد الباحثين المعاصرين إلى الزعم بأن تعاليم أبي يزيد كانت «واحدية » مأخوذة من مصادر هندية - أي إنها «فلسفة فيدانتا في عباءة إسلامية» - وكذلك الزعم بأن هذا التأثير الهندي غير إلى الأبد اتجاه الفكر الصوفي.
53
ومن الراجح إلى حد كبير أن صوفيي بغداد لم يتأثروا كثيرا بمعتقدات الآخرين، وأنهم أدركوا (لا سيما الجنيد) أن هذا الرجل الجامح البسطامي لن يساعدهم في قضيتهم بين أوساط النخبة المثقفة الحضرية. وإذا كانت الفكرة التي روجها الصوفيون المتأخرون، القائلة بأن أبا يزيد والجنيد أسسا مدرستين مختلفتين هما مدرسة «السكر» ومدرسة «الصحو»؛ مبالغا فيها على نحو مؤكد، فإننا يمكننا على الأقل رؤية الاختلافات الناشئة عن طريق الاتجاهات العقائدية والأنماط السلوكية.
54
مرة أخرى، نذكركم بأن الصوفيين لم يكونوا مجرد متصوفين يبنون تعاليمهم على التجربة المتسامية، بل كانوا أيضا مفكرين عامين يشاركون في الجدالات البارزة في زمنهم. كانت الأعمال المكتوبة التي تركها لنا الصوفيون الأوائل عبارة عن إنتاجات خطابية تكونت من اشتراكهم في الجدالات الشفهية واقتباساتهم من المراجع المكتوبة، إلا أنها كانت أيضا نتيجة لمحاولات ربط كلمات هذا الخطاب وأفكاره بالتجارب الفردية بطريقة توضح تلك التجارب، لكنها ترفض (على الأقل في حالة المحافظين مثل الجنيد) أن تسمح لهذه التجارب الخاصة بزعزعة الأسس الشرعية والسياسية للحياة الاجتماعية الجمعية. واتباعا لهذا التوسط الحكيم، فقد كان الجنيد حذرا في مناقشة موضوع أولياء الله. وعلى غرار التستري، كان الجنيد يرى أن هذه النخبة موجودة بالفعل، وتحظى بسلطة على عوام المسلمين العاديين. إلا أن الجنيد رأى أن الصحو المقترن بحالة «البقاء» في الله جعل الصوفي المتحقق متشابها خارجيا مع عالم الشريعة:
إنه أحد الخبراء في الشريعة، والحلال والحرام، ومن أفضل العارفين بكل الأمور المتعلقة بالإسلام. إنه يسير على خطى الأنبياء ويتبع أسلوب حياة الأولياء والصالحين، ولا يضل ويتبع البدع (تلك البدع التي لاقت قدرا من الرواج في الإسلام على الرغم من كونها مناقضة له)، ولا يمتنع عن قبول التقليد الإسلامي المجمع عليه ... ويرى أنه لا بد من طاعة المرجع، وإلا فإنه سيعزل نفسه عن جماعته. ويرى أن التمرد على المرجع من أفعال الجاهل ...
55
إن هذا الموقف المحافظ لا يعني أن مسيرة الجنيد كانت خالية من الخلافات، لكن بدلا من أن نرى أن تطوير الصوفيين الأوائل لطريقتهم كان معارضا في جوهره للمدافعين عن الشريعة والدين الإسلامي الحنيف، يجب أن ندرك أنه لم يكن هناك اتفاق إلا على أمور قليلة (حتى إنه كان هناك اختلاف كبير حول الطرق التي كانت تتشكل الشريعة من خلالها). وفي سياق كون فيه المدافعون عن فكرة المجتمع المسلم المتماسك بفضل الالتزام بالسنة النبوية مفهوم «الإجماع» (أي الموافقة الجماعية للعلماء) باعتباره نوعا من أنواع السلطة القائمة على شبه المساواة؛ حاول الجنيد التوفيق بين فكرة السلطة المأخوذة من العلاقة الخاصة مع الله التي يتبناها نخبة الأولياء، وبين التيار الفكري السني الناشئ. فمن خلال تصرف أولياء الله تماما مثل بقية أفراد طبقة العلماء، وعدم مخالفة إجماعهم، سيكون دورهم مقتصرا فقط على نصح الناس بالوفاء بالتزاماتهم الاجتماعية والشرعية العادية، وعدم الإخلال بها. لم يكن الصوفيون من أمثال الجنيد متصوفين منعزلين ومستغرقين في تأمل ذواتهم، بل كانوا مشاركين فاعلين في تكوين المجتمع الإسلامي؛ ومن ثم اشتركوا في جدالات عامة عنيفة تدور حول العلاقة بين السلطة والمسئولية، والسلوك والرضا. لكن وكما سنرى عندما نتناول بعضا من معاصري الجنيد الأقل تبنيا لمبدأ الصحو، سنجد أن تجربة الشعور بالقرب من الله وما تتضمنه من شعور بالاختيار الإلهي لم تكن في كل الأحوال سهلة الترويج. (7) الحلاج البغدادي (المتوفى عام 922)
أشهر صور هذا التوتر الناشئ بين السلطة القائمة على الإلهام الشخصي والسلطة القائمة على الإجماع، هو ما نراه في حياة حسين بن منصور، المعروف بالحلاج (وكلمة حلاج تعني الشخص الذي يندف الصوف).
56
ولد الحلاج في جنوب إيران حوالي عام 857، وأصبح تابعا للتستري، ثم لشيخ صوفي آخر في البصرة يدعى عمرو بن عثمان المكي قبل التحاقه بحلقة الجنيد في بغداد. يبدو أنه كان عاجزا عن الالتزام بأن يصبح مريدا لأي من هؤلاء الشيوخ؛ ربما بسبب أنه كان يطمح في جذب أتباع لنفسه. لقد كان الحلاج كثير الترحال للغاية حتى مقارنة بأكثر معاصريه ارتحالا؛ فلم يتجول عبر إيران فحسب، بل وصل أيضا إلى أقاصي التوسعات الإسلامية في آسيا الوسطى والهند. في هذه الرحلات اختفى الحلاج من آفاق التوثيق التاريخي المحدودة، لكنه معروف لنا على نحو أساسي من خلال وجوده في عاصمة الأدب والفكر في العالم الإسلامي في هذا الوقت؛ حيث أثار جدلا كبيرا حول آرائه في بغداد، وأعدم هناك في النهاية عام 922. ومثل بقية ضحايا الفكر، كان إعدامه تتويجا لمسيرته؛ إذ ضمن تخليده على يد كثير من كتاب السير الذاتية والشعراء الصوفيين في القرون اللاحقة، الذين سيتذكرونه فيما بعد باعتباره شهيدا عظيما أعدم بسبب الحديث عن حقيقة الحب الإلهي.
في الواقع الأليم، كانت الصورة بالتأكيد أكثر تعقيدا وربما أقل جاذبية؛ فعلى الرغم من أن الحب الإلهي النشوان كان جزءا من تعاليم الحلاج، ويظهر على نحو جلي في الشعر المؤثر الذي كتبه، فإن كتاباته النثرية - التي ظلت لفترة قصيرة - تشير إلى قدرة فكرية أكبر على الاستفادة من الأفكار التي طورها شيخه السابق التستري. وكما رأينا، فقد حازت فكرة الفناء في الله على انتشار كبير في حلقات الصوفيين التي تردد عليها في بغداد والبصرة، وكذلك فكرة وجود علاقة خاصة بين الله ونخبة تعرف ب «الأولياء». ورأينا بالفعل كيف كون معتقد الأولياء نموذج سلطة خاصا؛ إذ قدم الولي على أنه يتمتع بقرب خاص من الله، لا يمكن أن يحققه أي قدر من حفظ القرآن أو الحديث. أما من ناحية الاستفادة الاجتماعية من هذا المعتقد، فإن من زعموا أنهم أولياء مثل التستري لم يستخدموا المكانة التي وصلوا إليها من خلال الاختيار الإلهي إلا في جمع حلقات صغيرة من السالكين المتشابهين معهم في التفكير حولهم؛ أما في حالة الحلاج، فقد بدأنا نرى الاستفادة من المقدرة الاجتماعية الكاملة لهذا المعتقد، من خلال تطوير زعم الولاية بالإظهار الخارجي له عن طريق صنع الكرامات. وعندما تعلق الأمر بجذب عدد أكبر من المريدين، كان لتلك الأدلة القائمة على صنع المعجزات لإثبات المكانة الخاصة قدرة أكبر على الحشد، وقد حقق صنع الحلاج العلني لهذه المعجزات هذا الأمر بالضبط. لم يكن الحلاج أول مسلم يعتقد أنه يمتلك القدرة على صنع المعجزات، وكان يوجد بالفعل عدد كبير من الحكايات عن المعجزات التي صنعها الأولياء السابقون والأنبياء، إلا أن الحلاج كان أول صوفي بارز يضم هذه المهارة إلى سجل مهاراته. وعلى غرار الماركسي الذي ينتقل من قاعة ندوات إلى منصة في تجمهر خلوي، فإنه في جمعه للكثير جدا من الأتباع في هذه الأثناء قد غير جذريا الأمور التي كانت مثار جدل في تعاليم الصوفيين.
وكما هو متوقع، فإن الأتباع الكثيرين جدا الذين جذبهم الحلاج إليه جعلوه محط اهتمام سلطات الدولة في بغداد، التي كانت مزاعم شرعيتها - التي أصبحت مبتذلة نسبيا - في ذلك الوقت تتضاءل مع كل جيل من الأفكار الجديدة. وعلى الرغم من أن أسباب القبض على الحلاج وإعدامه في النهاية تضمنت مزيجا كارثيا من المواقف السياسة الحكومية والصراع مع النخب المثقفة، فإن ما جعل الموقف أكثر سوءا كان عبارات الحلاج المتجاوزة، التي ظل بعضها موجودا في كتاباته، وظل بعضها الآخر في اقتباسات موجودة في أعمال كتبها غيره. في هذا الصدد، تجاوز الحلاج النقاش السابق المتعلق بفناء النفس في الله، ليزعم أنه نظرا لأنه لم يتبق شيء الآن من منصور الحلاج، فإن من يتحدث من خلال شفتيه هو الله؛ فنفس الحلاج قد فارقته لتترك فقط روح الله تسكن جسده أثناء سيره بين الشوارع والناس في بغداد. في أكثر مزاعمه شناعة - التي تكتسب قدرا أكبر من الأهمية بسبب اعتقاد المتأخرين أنه قالها بالفعل، وليس لوجود دليل مؤكد على قوله لها - استخدم واحدا من أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين ليقول عن نفسه: «أنا الحق.» ليعلن نفسه فعليا أنه الله. بل الأغرب من ذلك أنه أعرب عن تعاطفه مع الشيطان، الذي رأى رفضه للسجود لآدم فيه نوع من الولاء البطولي لله؛ نتيجة لرفضه الانحراف عن استغراقه في عبادة الله الواحد.
57
على الرغم من ذلك، فإن السبب الرسمي لإعدام الحلاج كان أحد التعاليم المنسوبة إليه، الذي يقضي بأن الحج إلى مكة، الواجب على كل المسلمين القادرين على أدائه، يمكن أيضا أداؤه رمزيا حول طاولة في المنزل. ومن الناحية الضمنية، فإنه كان يقول إن البعد الرمزي أو الباطني للواجبات الدينية أكثر أهمية من الأداء الفعلي أو الظاهري لها. كان هذا المبدأ في حال تعميمه يهدد النسيج الكامل للتكاليف والواجبات التي على أساسها كان يتطور المجتمع الإسلامي على مدار القرون الثلاثة السابقة. ومع تزايد عدد الأتباع، أصبحت آراء الصوفيين تحمل أهمية كبرى. (8) الصوفية في العراق في أواخر القرن العاشر
مع مرور القرن العاشر تزايد عدد الشيوخ المعروفين بالصوفيين، الذين كانوا يجذبون أتباعا لهم في العراق، وقد كتبوا أعمالا استفاضوا فيها في شرح المصطلحات والمفاهيم التي شهدنا تطورها في كتابات الخراز وغيره. وكما هو الحال مع الشيوخ الذين تناولناهم، والذين كانوا يطلعون السالكين على كيفية القرب من الله ومشاركته في علمه وفي قوته في بعض الأحيان، كان لهذه المعتقدات تبعات اجتماعية وسياسية هائلة، حتى لو أنها في ذلك الوقت لم تكن قد تحققت إلا بالمعنى السلبي المتمثل في إعدام الحلاج. ولعل أوضح مثال على ذلك العراقي محمد بن عبد الجبار، المعروف باسم النفري (نسبة لمدينة نفر) المتوفى بعد عام 977، والذي لا يتوافر عن سيرته الذاتية إلا القليل.
في كتاب «المواقف» اعتمد النفري على النزعة الصوفية - التي شهدنا نشأتها فيما سبق - إلى تأويل «المقامات» أو «الأحوال» الكثيرة الموجودة على الطريقة الصوفية. طور النفري فكرة تقول إن الطريقة تحتوي أيضا على «مواقف» (أي نقاط توقف)، وهي على الرغم من أن بعض المسافرين من الممكن أن يتجاوزوها، فإنها في الواقع أماكن يكشف فيها الله جوانب مختلفة عن نفسه للسالكين الشديدي التقوى، الذين يتحلون بالصبر. وفي إشارة إلى أن السالكين الآخرين فاتتهم تلك «المواقف»، أخذ النفري يصف بتفاصيل مدهشة الكشوف التي منحها الله له في كل موقف من هذه المواقف، التي لا تقل عن سبع وسبعين، بادئا مناقشة كل «موقف» بزعم صريح يقول: «أوقفني الله وقال لي ...»
58
بالنسبة إلى النفري، كانت هذه التجربة الرؤيوية المكتسبة في تلك المواقف أعلى من تعلم الكتب، وكذلك من المعرفة المباشرة المكتسبة على عجل، التي يزعم الصوفيون الآخرون أنهم حصلوا عليها من الله. في هذه العروض المتزايدة التفاصيل لطبيعة ومدى الرحلة إلى الله، لن يكون من المستبعد رؤية نوع من محاولة إظهار الأفضلية الروحانية على الغير. ويرى النفري أن التمكن في المواقف في هذه الرحلة له مكافأة عظيمة؛ إذ يستطيع السالك أن يكتسب من هذه المواقف قدرة الله على الخلق، فيأتي بالأشياء إلى الوجود. وحتى في هذه المرحلة المبكرة لم تكن القدرة على صنع المعجزات - أي القدرة على صنع أشياء لا يستطيع فعلها حتى أقوى الرجال - بعيدة مطلقا عن اهتمامات الصوفيين.
قبل أن ننتقل لاستعراض المنطقة الجغرافية الرئيسية الأخرى التي تكونت فيها الصوفية، جدير بنا الانتظار قليلا لإلقاء نظرة على التطورات التي حدثت في العراق في نهاية القرن العاشر. بداية، لقد رأينا تطورا من فترة كان فيها مصطلح «صوفي» أو «لابس الصوف» مجرد لقب لخليط غامض من السالكين، إلى فترة استخدم فيها المصطلح للإشارة إلى طريقة محددة لاكتساب المعرفة أطلق عليها صوفية؛ وهذا يعني أن المصطلحات اكتسبت معنى جوهريا ومحددا أكثر؛ ففي السابق كان يوجد فحسب أشخاص يطلق عليهم صوفيون، والآن أصبحت توجد طريقة عملية ونظرية يطلق عليها الصوفية. كانت العوامل التي أتاحت هذا التطور عديدة، بعضها اتضح بعد قرون، وبعضها كان أكثر غموضا. أما العامل الأكثر وضوحا، فكان إنتاج نصوص طور فيها الصوفيون المصطلحات المفاهيمية التي فسرت أفكارهم وأوضحت تجاربهم وتجارب مريديهم، وربطتهم بمصادر المعرفة الشرعية المتمثلة في القرآن والحديث. وبحلول القرن العاشر تقريبا، تراوحت أنواع النصوص الصوفية ما بين تفسيرات للقرآن، ورسائل حول موضوعات معينة، وشعر عاطفي، وخطابات توجيهية، وأقوال مأثورة موحية، وسرد لتجارب رؤيوية. وفي كثير من الحالات، كانت تلك الأعمال البالغة التعقيد والإيحاء، في أغلب الأحيان، إبداعات نخبة مثقفة تكتب لأتباعها. وفي فترة كانت السلطة الشرعية والأخلاقية على المجتمع الإسلامي يكتسبها تحديدا أولئك المتعلمون الذين أطلقوا على أنفسهم لقب «علماء»، كانت هذه المكانة الاجتماعية للمنهج الصوفي الجديد مناسبة للغاية.
هذا لا يعني أن الأتباع الأوائل للصوفيين كانوا كلهم أعضاء في هذه النخبة المثقفة الحضرية؛ لأن كثيرا من الأشعار والأقوال المأثورة والقصص التي ظهرت في الكتابات انتشرت بسهولة بين غير المتعلمين من خلال الحفظ والكلام. بل المقصود أنه لولا مساعدة هذه النخبة المثقفة ذات النفوذ المتزايد، لأصبح استمرار الصوفية بعد هذه الفترة وتوسعها خارج العراق أكثر صعوبة. إن الكتابات التي أنتجها مثقفو العراق كانت فعالة في حد ذاتها في العملية التي من خلالها انتشرت واستمرت الصوفية؛ فهي لم تنقل الأفكار عبر الزمن فحسب (حيث اكتسبت تلك الإنتاجات مكانة أكبر مع مرور كل جيل من الأجيال، باعتبارها من نتاج عصر روحاني ذهبي)، بل نقلتها عبر المكان أيضا (حيث نشرت طريقة بغداد الجديدة الرائجة في أقاليم إمبراطوريتها). وبقدر ما يمكن اعتبار الصوفية نوعا من «التصوف» تحظى فيه التجربة بأهمية بالغة دائما، فعند تحديد سبب نجاحها لا بد أن ندرك أن الأمر كان أيضا يرجع إلى حد كبير للكتابات. وبالنسبة إلى المؤرخين على الأقل، فإن تلك الأعمال أكثر أهمية؛ لأنه عند انقضاء هذه التجربة الخاطفة يبقى ما يكتب عنها؛ فكما يقال: «الحروف المكتوبة تبقى.»
وفي حين أننا يجب ألا نتجاهل أهمية التجربة الروحانية الفردية ومحاولات التفسير الإبداعي، فقد كانت عمليات الكتابة «الخطابية» بالغة الأهمية؛ لأن الصوفيين الأوائل حرصوا عند بناء معتقدهم الصوفي على المصطلحات والنصوص التي كانت مفهومة للمسلمين الآخرين في هذه الفترة، على أن تكون تعاليمهم محترمة ومن الممكن فهمها على نحو كاف كي تستمر في الأجيال المستقبلية، وتكون مرتبطة بفروع المعرفة المعترف بها الأوسع نطاقا. وعندما دخلت التجربة إلى المعادلة، لم يكن مسموحا لها أن تظل نقية وغير قابلة للوصف، بل كان لزاما تفسيرها وفهمها من خلال المصطلحات الخاصة التي صاغها الصوفيون الأوائل في كتاباتهم وكان مصدرها القرآن بصفته وحيا معبرا عنه بالكلمات.
59
إن هذا التطوير المبكر للمصطلحات الخاصة بالمعتقد والممارسة التي تكتسب قوتها من كونها شرعية، سنرى أهميته الصرفة لاحقا في عملية «الازدواجية اللغوية» المتكررة، التي من خلالها اقترضت المصطلحات العربية الأصلية هذه ، واستمرت في كثير من اللغات الأخرى التي سيتحدث ويكتب بها الأجيال اللاحقة من الصوفيين. إن الإنتاج النصي للصوفيين الأوائل في بغداد، سواء أخذ ككتب كاملة أو كعناصر مكونة من خلال المصطلحات الشرعية الواسعة النطاق، قد أوجد أحد المصادر الأساسية التي من خلالها ستكون الأجيال اللاحقة من الصوفيين «تقليدا»؛ أي مجموعة من المعتقدات والممارسات تستمد الشرعية والمكانة من علاقتها بالماضي المقدس. وإذا كانت النصوص هي أحد المصادر، فإن شخصية منتجي هذه النصوص تعد مصدرا آخر، وكما سنرى لاحقا، فسوف تستخدم الأجيال اللاحقة من الصوفيين حياة الصوفيين الأوائل في العراق لتكوين سلاسل تراجم نسبية، من خلالها يمكن لأي صوفي من الأجيال اللاحقة أن يزعم أنه وريث لواحد أو أكثر من شيوخ بغداد والبصرة؛ لذلك، فإن الصوفيين في العراق في القرن التاسع لم يكونوا مهمين بسبب ما قدموه في عصرهم فقط، بل لأنهم كانوا أيضا مصادر لتكوين التقليد الصوفي؛ ومن ثم، كانوا مهمين نظرا لما تركوه للعصور التالية عن طريق النصوص وهيئة الأسلاف.
بالنظر إلى الاتجاه الزمني المعاكس ومقارنة صوفيي هذه الفترة بحركة الزهاد في القرن السابق، يمكننا أن ندرك أيضا أن إضفاء الطابع الاجتماعي على الزهد كان على الأرجح أهم إنجازاتهم الأخرى، إلى جانب بحثهم عن طريقة تعبير مشروعة. فمن خلال تقديم طريق مقنع إلى الله بدلا من تعذيب الجسد والانصراف عن الحياة الاجتماعية والزواج وحيازة الأملاك، الذي كان يروجه «الزهاد»؛ قدم الصوفيون منتجا دينيا لديه فرصة أكبر كثيرا للتكرار والبقاء. ولم يكن الأمر هكذا فقط بسبب البديهيات العامة المتمثلة في أن أي مجتمع لا يستطيع إعالة سوى عدد محدود من الزهاد غير المنتجين اقتصاديا، وأن حياة الزهد لن تلقى إلا قبولا اجتماعيا محدودا؛ بل كان الأمر كذلك نظرا لسبب محدد ثقافي على نحو أكبر؛ ففي هذه الفترة وهذا المكان كانت «سنة» النبي محمد آخذة في تشكيل أساس النظرية الاجتماعية والأخلاقية، وبدأت تتضاءل مشروعية حياة الزهد الانعزالية من المنظور الإسلامي. لقد كان النبي محمد رب أسرة، وقائدا لمجتمعه ، وتاجرا ناجحا، ولم يمنع أي من ذلك اختياره ليكون نبي الله. وعلى مدار القرون اللاحقة، أثبت التراث الذي خلفته عملية إضفاء الطابع الاجتماعي على الصوفية المبكرة هذه - والتي منحت الصوفيين القدرة على محاكاة النبي من خلال زعم أنهم أولياء لله، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالفرص التي أتاحتها لهم حيازة الأملاك، وتكوين العلاقات الاجتماعية، والتناسل - أنه كان ضروريا في منحهم القدرة على ترسيخ أنفسهم في كل جانب تقريبا من جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمعاتهم.
حتى الآن لا نعلم إلا القليل عن النسق التنظيمي للصوفيين في هذه الفترة المبكرة، الذين يبدو أنهم تجمعوا في حلقات صغيرة حول شيوخهم على نحو مثل انعكاسا لتجمعات العلماء المسلمين الآخرين في هذا الوقت.
60
ولا نرى دليلا على التحول من «حركة» صوفية تضم شيوخا ومريدين متشابهين في التفكير - والتي تكونت بحلول القرن الحادي عشر في العراق - إلى «تنظيم» صوفي يمتلك قواعد جماعية مميزة، وهياكل بنيوية خاصة به؛ إلا عند الالتفات إلى التطورات التي حدثت في أقصى الشرق. (9) البدائل الشرقية: التنافس والاندماج في خراسان
لم يكن الصوفيون على الإطلاق المسلمين الوحيدين الذين طوروا أساليب معرفية باطنية وتصوفية في العراق، إلا أن ما شاهدناه كان بداية صعودهم التدريجي والمحسوب هناك عندما حلوا محل حركة زهدية هامشية (كانت تستمد سلطتها من السيطرة على الجسد)، وانحازوا إلى حركة العلماء السائدة (التي تستمد سلطتها من الفهم الصحيح للكتاب والسنة). وعندما نلتفت إلى المنطقة الشرقية من الدولة العباسية، المعروفة باسم خراسان (وهي كلمة تعني «الأرض التي تشرق منها الشمس»)، سنرى الاحتكاك التدريجي بين ما كان في البداية مجموعة من التطورات الدينية المتوازية والمنفصلة تماما، وبين الحركة الصوفية النابعة من مركز الإمبراطورية في العراق، واستحواذ الصوفية على تلك التطورات في نهاية المطاف. ومن المهم أن نميز بين تلك الحركات المختلفة، وأن ندرك عمليات التنافس والتوافق التي تفاعلت خلالها تلك الحركات، وإلا فسنقع في الفخ نفسه الذي قاد الكثير من الأعمال السابقة التي تناولت الصوفية إلى تصوير أنها ظهرت في الوقت نفسه تقريبا ، في نطاق عريض من الأماكن المتباينة جغرافيا. وعلى غرار الأعمال الحديثة الأخرى التي تحدثت عن بدايات الصوفية، فإن الصورة المقدمة في هذا الكتاب هي عموما صورة انتشار الأفكار والممارسات والمؤسسات الدينية (وفي هذا الصدد قدمت خراسان إسهامها الخاص).
وقعت خراسان - التي تضم مناطق تقع اليوم في شرق إيران وأفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى - في أيدي المسلمين خلال العقود الأولى من الفتوحات التي أعقبت وفاة النبي محمد عام 632. وعلى النقيض من العديد من المناطق الغربية من الدولة العباسية الإسلامية التي كانت في السابق واقعة تحت الحكم المسيحي البيزنطي؛ فقد كانت خراسان خاضعة للحكم الزرادشتي الفارسي، وضمت أيضا جيوبا ذات وجود بوذي ومسيحي. وكما هو الحال في الغرب، فقد كانت عملية التحول إلى النظام الإسلامي وإعادة الاستيطان طويلة، وعلى الرغم من وصول نخبة حاكمة جديدة من المسلمين، فقد احتفظ كثير من ملاك الأراضي الناطقين بالفارسية الكبار في الريف بنفوذهم. ومع انهيار القوة المركزية لبغداد في القرن العاشر، شعرت بعض المدن أيضا بهذا التأثير الثقافي الفارسي.
61
ولم يحل ذلك دون تطوير أنماط حياة اجتماعية وفكرية إسلامية على نحو صحيح في مدن الواحات الزراعية والتجارية الغنية في خراسان، وبقاء أي نوع من الثقافة الفارسية الصرفة التي لا يشوبها شائبة ينتمي إلى تصور القومية الحديثة. وإذا كانت مدن ودولة خراسان بعيدين عن مستنبت الإنتاج والجدل الديني للإمبراطورية الإسلامية في بغداد، فإنه من خلال بذر الأفكار الإسلامية في التربة الثقافية الخراسانية المميزة تمكنت مدن ودولة خراسان - بالرغم من ذلك - من إنتاج أنواع جديدة خاصة بها من الحركات الإسلامية. والسؤال الآن هو: ما علاقة هذه الحركات الخراسانية بالحركة الصوفية الناشئة في العراق، وكيف تفاعلت معها؟
على الرغم من أن كتب السير اللاحقة، من القرن الثاني عشر فصاعدا، ضمت الكثير من الشيوخ الخراسانيين الأوائل إلى التقليد الصوفي الذي كانوا يحاولون تطويره في منطقتهم، فإن الأبحاث المعاصرة أظهرت أنه قليلا ما كان يوجد شخص يطلق عليه «صوفي» في خراسان نفسها في القرن العاشر، وأن القلة الذين كانوا يطلق عليهم هذا اللقب كانوا إما قد هاجروا من العراق وإما سافروا إلى العراق.
62
وإذا كان الزهاد الخراسانيون القدماء في القرن التاسع لم يسموا أنفسهم صوفيين، فإن هذا الأمر ليس مفاجئا على الإطلاق نظرا لبعدهم عن المناطق الغربية التي انتشر فيها هذا اللقب، خاصة إذا قبلنا الفرضية التي تقول إن مصطلح «صوفي» استخدم في الأصل باعتباره جزءا من مصطلحات المسيحيين العراقيين.
63
إن الميل إلى الانصراف عن المجتمع الذي ميز الحركتين الأهم من الحركات الخراسانية المبكرة جعلهما متشابهتين مع حركة الزهاد في سوريا والعراق (لكن غير مرتبطتين بها). كانت الحركة الأولى يطلق عليها الكرامية نسبة لاسم مؤسسها أبي عبد الله محمد بن كرام (المتوفى عام 874)، وفي أغلب الأحيان كان معاصرو أتباع هذه الحركة يسخرون منهم بسبب شدة زهدهم، ناعتين إياهم بلقب «المتقشفة».
64
لقد جمعت معتقداتهم بين الفهم الحرفي للنص القرآني، وزعم أن العمل والكسب المادي عقبتان في طريق الوصول إلى الله. أكسبهم المزيج الناتج من تكوين صورة مجسمة جذابة لله، ووجود قيادة تضاهي في فقرها أفقر فلاح من أتباعهم؛ قاعدة تأييد شعبية كبيرة في خراسان. وعلى الرغم من أن قادة هذه الحركة تشابهوا مع علماء العراق في امتلاك قدر كاف من المعرفة بالقرآن، تسمح لهم بجعل مصدر معتقداتهم القرآن والاشتراك في بعض الحالات في النقاشات العقائدية النابعة من بغداد؛ فقد كانت الحركة في نهاية المطاف حركة للطبقات الدنيا التي ضمت سكانا محليين معتنقين للإسلام، بدأ دخولهم إلى الأمة الإسلامية يتحدى التركيبة الاجتماعية للإسلام في خراسان، التي كانت موجودة سابقا، باعتباره دين النخبة الإمبراطورية المهاجرة.
65
ومنذ القرن التاسع وحتى القرن الثاني عشر، ظلت الكرامية قوة مهمة في الحياة الاجتماعية والدينية في خراسان. كان السبب في هذه الاستمرارية والتأثير تكوين مجتمعات رهبنة كبيرة في أراض خصصها أصحابها لهذا الغرض، حتى يتمكن قاطنوها من اتباع أمر ابن كرام بتجنب العمل وتكريس النفس للزهد والصلاة فحسب. ونظرا لأن عدد قاطني هذه الأراضي كان يصل في بعض الأحيان إلى أربعة آلاف، فقد كانت الأماكن مؤثرة على نحو واضح. وعلى الرغم من أنه بحلول القرن الثاني عشر سيؤدي بزوغ نجم الصوفيين في خراسان إلى أفول نجم الكرامية في نهاية المطاف، فإنه سيثبت التأثير البالغ للنموذج، وكذلك لأسماء المؤسسات المبتكرة - التي أشاروا إليها تارة باسم «خانقاوات» (وهي كلمة فارسية الأصل)، وباسم «مدارس» تارة أخرى - على تطوير الصوفيين لمؤسساتهم.
66
الحركة المنافسة الثانية في خراسان التي يجب أن نتناولها هي «الملامتية»؛ أي «الساعون للوم أنفسهم»، والتي نشأت حول مدينة نيسابور في حلقة حمدون القصار (المتوفى عام 885).
67
بالإضافة إلى كون الملامتية مناهضة للصوفيين الذين ظهروا في بغداد، فإنها على النطاق الأكثر محلية كانت معارضة على نحو أساسي للكرامية الذين اعتبرتهم (تماما مثل رأي الصوفيين في «زهاد» العراق) مروجين مرائين للزهد، يقف استحسان الناس لهم عقبة أمام التقوى الحقيقية. على النقيض من ذلك، فقد سعى الملامتية إلى تقريب أنفسهم من الله، عن طريق تدمير الذات من خلال تجنب أي إظهار علني للتقوى من المحتمل أن يجذب الثناء المثير للفخر، ومن خلال جعل الذات تتذكر الذكريات المستحقة للملامة والمهينة للذات. وفي حين بدا أن الكرامية راقت للطبقات الدنيا من المجتمع، فقد بدا أن الملامتية لقيت رواجا بين الطبقات الحرفية الحضرية؛ حيث أتاحت لهم إمكانية العيش بتقوى دون التخلي عن العمل أو الحياة الاجتماعية.
68
اشترك الملامتية بالتأكيد مع الصوفيين في بغداد في تلك الفترة في كثير من المصطلحات والأفكار، مثل تجنب «الرياء» والسيطرة على النفس، إلا أنه كانت توجد اختلافات حتى وسط هذه التشابهات؛ فعلى النقيض من الصوفيين، اعتقد الملامتية أن النفس لا يمكن تدميرها، وزعموا أن أي تعبير علني عن الإنجاز الروحاني يبطله على الفور. وإذا كان الملامتية يشكون - نتيجة لذلك الاعتقاد - في مزاعم الصوفية بتدمير أنفسهم، ومن ثم إعلان أنفسهم أولياء مقربين لله، فإن تجنب الملامتية إظهار التقوى العلنية تركهم أيضا غير راغبين في الاشتراك في الوعظ العلني و«الأمر بالمعروف» اللذين ربطا الصوفيين بالتيار السني الناشئ.
الحركة الثالثة من الحركات الخراسانية اللازم تمييزها عن الصوفيين الأوائل في العراق كانت حركة الحكماء التي نشأت في مدينتين من مدن الواحات ؛ هما بلخ وترمذ، حول ما يعرف حاليا بالحدود الشمالية لأفغانستان. ونظرا لنجاح الصوفيين لاحقا في ضم قادة تلك الحركة إليهم، فإن مزاعم أن أعضاء تلك الحركة كانوا صوفيين على نحو صريح، وليسوا حركة محلية منفصلة، عادة ما كان يقبلها الباحثون المعاصرون كما هي دون تحقيق. إلا أنه يوجد سبب لتصنيف مجموعة الرجال المعروفين باسم «الحكماء» باعتبارها حركة منفصلة في حد ذاتها، وإن كانت أقل تأثيرا وانتشارا من حركة الكرامية وحركة الملامتية.
69
فعلى الرغم من أن الحركتين السابقتين اجتذبتا في العموم الفلاحين والحرفيين، ففي ضوء المعلومات القليلة التي نعرفها يبدو أن حركة الحكماء كانت ذات طابع «أرستقراطي» إلى حد كبير؛ فلم يكن قادتها من ملاك الأراضي بالوراثة فحسب، بل أعلنوا أيضا أنهم من أولياء الله. في واقع الأمر، كان القادة فقط يعتبرون حكماء، ومن الواضح أن هذا اللقب كان لقبا للقادة وليس لقبا للأتباع. ومن أجل أغراضنا، فإن الشخصية الأكثر أهمية بينهم هي أبو عبد الله محمد، المعروف باسم الحكيم الترمذي، الذي توفي في الفترة ما بين عام 905 وعام 910.
70
ومن الأسباب التي جعلت الترمذي يحظى بأهمية كبيرة في ذاكرة الأجيال اللاحقة، حقيقة أنه استطاع أن يترك طابعه الخاص على التاريخ من خلال كتابة سيرته الذاتية؛ تلك السيرة التي تعتبر أمرا غير لائق بالنسبة إلى المسلمين في فترة ما قبل العصر الحديث، بل تعتبر أيضا متناقضة على نحو شديد مع القيود المهينة للذات، التي وضعها معاصروه من الملامتية والكرامية.
71
وعلى غرار الصوفيين البارزين في بغداد، فقد حفظ الترمذي القرآن في سن مبكرة، وأجاد دراسة الفقه الإسلامي والحديث، وزار كذلك البصرة ومكة. وعلى غرار «كتاب المواقف» للنفري في العراق في الجيل اللاحق، فإن سيرة الترمذي المكتوبة بالعربية تصور تجاربه الرؤيوية الخاصة بتفصيل مدهش، بداية بحلمه بالنبي محمد وهو يدله على الطريق في مدينته.
72
الأمر الأكثر إثارة في سيرته الذاتية هو طريقة وصف الأحلام التي رأت فيها زوجة الترمذي وأصدقاؤه المرتبة الروحانية العالية التي وصل إليها؛ بحيث قدمت أحلام الآخرين باعتبارها دليلا من طرف ثالث على مكانة الترمذي كولي، وهذه وسيلة يبدو أنها كانت ردا على منتقديه الكثيرين الذين نعرف أنهم كانوا موجودين في مدينته. في الواقع، فيما يتعلق بتقديم مصادر أساسية للتكوين اللاحق للتقليد الصوفي، كان الترمذي في غاية الأهمية بسبب تطويره للنظرية الرسمية المعروفة باسم نظرية «الولاية».
في «كتاب سيرة الأولياء» استخدم الترمذي الأسلوب التصنيفي نفسه الذي رأيناه في معالجة الصوفيين في بغداد لمقامات وأحوال الطريقة الصوفية، وعمل فيه على تصنيف وترتيب الطبقات والأنواع المختلفة لأولياء الله؛ فقدم فكرة أنه مثلما يوجد «خاتم الأنبياء» (وهي المكانة التي يحتلها النبي محمد)، فإنه يوجد أيضا «خاتم الأولياء» (وهي مكانة يبدو أن الترمذي نفسه احتلها). وعلى الرغم من أنه سلم بأن الأنبياء ما زالوا أعلى مكانة من الأولياء، فإن الأولياء من الناحية العملية لم يمتلكوا فحسب معظم صفات الأنبياء الخارقة للطبيعة، بل أصبح لزاما أيضا - بسبب انتهاء النبوة بالنبي محمد بصفته خاتم الأنبياء - أن يهتدي البشر الآن بالأولياء الأحياء. إلا أن وجود الأولياء على الأرض ليس الهدف منه مساعدة أتباعهم، بل ليؤدبوهم ويعاقبوهم؛ فالولي هو «موضع نظر الله المتسامح، وسوطه في خلقه.»
73
وفي كتابات الترمذي، نرى أن مزاعم التجربة الرؤيوية لم تكن مجرد شهادات عن الخلاص الشخصي، بل كانت أيضا دليلا بني عليه نموذج هرمي على نحو صارخ للبشرية وقادتها الشرعيين.
لقد تكونت حركات الكرامية والملامتية والحكماء بعيدا عن بغداد على نحو كاف؛ بحيث استمرت قائمة بذاتها حتى القرن الحادي عشر، قبل دمجها وقمعها فعليا مع انتشار الحركة الصوفية شرقا من خلال تأسيسها لمواقع ارتكاز وإعدادها لدعاة لها في خراسان. ولدراسة كيف حدثت عملية التنافس والدمج هذه، يجب أن نلتفت إلى أحد الأزمنة والأماكن الأخرى المهمة في التاريخ الصوفي؛ ألا وهو مدينة نيسابور في الفترة ما بين القرن العاشر والقرن الثاني عشر.
74
كانت نيسابور من أكبر المدن التجارية والواحية، فيما يعرف الآن بالركن الشمالي الشرقي من إيران، ومع ضعف سيطرة الخلافة في بغداد عليها وسقوطها في يد البويهيين الشيعة عام 945، تزايدت أهميتها باعتبارها مركزا للإنتاج الأخلاقي والديني. وعلى غرار عاصمة الخلافة في أوج مجدها، فقد كان هذا المتجر الصحراوي الكبير سوقا وجد فيها منتجو وموردو النماذج المختلفة للإسلام أنفسهم في منافسة بعضهم بعضا منافسة شرسة.
من العمليات الواسعة النطاق التي يمكن الزعم بحدوثها في هذا الصدد عملية استبدال حركات الدمج الداخلي، بما يمكن أن يطلق عليه: حركات التوسع الحدودي. وكما رأينا، فقد كان من أهم سمات حركة الكرامية الدور الذي لعبته في دخول الرعايا غير المسلمين المعروفين باسم «الذميين» إلى الإسلام. إن زيادة الفهم التاريخي للحدود الشرقية لخراسان في القرنين التاسع والعاشر أشارت أيضا إلى دور شيوخ الحدود المحاربين، الذين جمعوا بين «الجهاد» و«الدعوة» لتوسيع الحكم الإسلامي عبر أراضي السهوب في آسيا الوسطى، التي كان يحتلها البدو الأتراك في ذلك الوقت.
75
وبطرق ما، تعكس تلك الصورة للحدود الشرقية ما رأيناه بالفعل في الغرب؛ حيث استقر على الأقل بعض الزهاد في الحدود المضطربة مع الأراضي البيزنطية. ومع اتجاه الحدود الخارجية إلى أقصى الشرق، وتلاشي الحدود الاجتماعية الداخلية، مع زيادة التحول إلى الإسلام وتبني سماته الثقافية؛ انفتح المجال في النسيج الاجتماعي أمام حركات دمج جديدة مهتمة بإضفاء قدر أكبر من الطابع الإسلامي على المجتمع، من خلال «استيطان دائم» يؤكد على القانون والإنتاج الاقتصادي والحياة الاجتماعية القابلة للاستمرار، التي لم تعد مناسبة لها حركة زهاد الكرامية ولا مجاهدي الحدود. وعلى الرغم من أن الحدود الدقيقة لتلك العمليات الريفية الأكبر تظل غير واضحة، فإن الطابع الأكمل للمصادر الحضرية يعني أن لدينا صورة أوضح عن التطورات التي حدثت في مدن مثل نيسابور. في هذا الصدد، سننظر إلى عمليتين منفصلتين لكن متداخلتين، إحداهما خطابية والأخرى مؤسسية. ونظرا لأننا ناقشنا بالفعل الطرق التي من خلالها ساعدت النصوص والجدالات في ازدهار الصوفيين في العراق، فإننا سوف نلتفت أولا إلى المسألة الخطابية المتمثلة في كيف ساعدت الكتب والمناقشات في توسع الصوفية على نحو مشابه في خراسان.
كما رأينا، فإن كثيرا من النصوص والمصطلحات، وحتى الأساليب، التي كانت مستخدمة من قبل الحركات «المحلية» في خراسان؛ كانت متشابهة في كثير من الأمور مع تلك المستخدمة من قبل الصوفيين في العراق؛ فقد كان القرآن والحديث مصدرين مشتركين لهما، وكان يوجد انتشار واسع لمفهومي «الأولياء» و«الطريقة»، وكانت الصلاة وإنشاد الذكر والسماع - بالنسبة إلى البعض - من الممارسات المشتركة. ليست المسألة اشتراك كل السالكين الخراسانيين المحليين في كل هذه الأمور المشتركة، ولا حتى اتفاقهم على المعنى الدقيق للمصطلحات المشتركة أو الأداء الصحيح للأساليب المشتركة، بل تمثلت المسألة المهمة في الوضوح المتبادل للأساليب المتنوعة المتاحة؛ ذلك الوضوح الذي أتاح المناقشات والتفاعلات المثمرة بين أعضاء الحركات المختلفة، والأهم على الأرجح بين «المؤيدين المذبذبين» من أعضائها المحتملين. وعلى مستوى أكثر أساسية، مكن هذا الوضوح وجود أدوات تواصل مشتركة - بما في ذلك اللغة العربية باعتبارها لغة تواصل بين المتعلمين - وتوفر الورق لإنتاج الكتب وحتى لكتابة الخطابات. وعلى الرغم من المسافة الشاسعة بين العراق وكثير من مدن خراسان (فالمسافة من بغداد إلى نيسابور تقريبا هي المسافة بين لندن ووارسو)، مكنت أدوات التواصل تلك المتعلمين من هذه المناطق المختلفة للغاية من مشاركة الأفكار على نحو غير مباشر عن طريق الكتابة. وكما هو الحال بالنسبة إلى دور اللاتينية في العالم المسيحي في العصور الوسطى، فلا بد أن نتوخى الحذر كيلا نعتبر أدوات التواصل المشتركة تلك من المسلمات؛ فعندما سعى الصوفيون لاحقا إلى التوسع في سياقات جغرافية واجتماعية أخرى، احتاجوا إلى اكتساب أدوات ثقافية أخرى مثل اللغات المحلية والأغاني الشعبية. أما في سياق التفاعل الحالي بين سكان المدن في خراسان والعراق، فإننا نلقي النظر على العملية التي من خلالها سافر الصوفيون العراقيون أو أرسلوا كتاباتهم شرقا، وسافر «المؤيدون المذبذبون» الخراسانيون للحركات الصوفية غربا (عادة في طريقهم إلى مكة)، وعادوا إلى وطنهم حاملين في الحالتين ما يمكن أن نطلق عليه الآن وسائل تواصل محمولة في أمتعتهم، متمثلة في الكتب التي أحضروها من أسفارهم (أو على الأرجح نسخوها).
76
إذا كان هذا يساعدنا على معرفة كيف تفاعلت الحركة الصوفية الأصلية مع الحركات المحلية البديلة لها في خراسان، فإن التعرف على سبب تفضيلها في نهاية المطاف على تلك الحركات المحلية أمر أكثر صعوبة. إن السبب في ذلك ليس أننا نتعامل في النهاية مع الكثير من الاختيارات الفردية، التي على الرغم من أنها تسهم في رسم نسق تفضيل شامل، فإن أسبابها المحددة جعلت دوافعها في طي النسيان منذ وقت بعيد. ونظرا لأن دوافع الأفراد من المعروف أنها صعبة التقييم على المؤرخين، فإن الدليل المقدم على دمج الملامتية والكرامية في الصوفية دليل على العداوات والتحالفات الأكثر عمومية. تقول إحدى النظريات الأكثر إقناعا على الأرجح إن الصوفيين في نيسابور والمدن المحيطة ربطوا أنفسهم بالفقه الشافعي، وهذا منحهم «إطارا مؤسسيا يمكن من خلاله تقديم التصوف وممارسته.»
77
إلا أننا قبل الانتقال إلى الأبعاد «المادية» المتمثلة في المؤسسات، دعونا أولا نتناول الأبعاد «المعنوية» أو الخطابية.
كما رأينا، فمنذ فترة ظهور الصوفيين المبكر في بغداد، كانوا إلى حد كبير جزءا من حلقات القرآن والحديث والشريعة؛ ولهذا السبب، يجب أن نحذر من التأويلات الأقدم التي رأت التطورات التي ندرسها الآن باعتبارها عملية شهدت في النهاية التحاق الصوفيين ب «التيار السائد»؛ إذ يعتمد هذا التأويل على مغالطة ثنائية تتمثل أولا في أن الصوفيين كانوا خارج «التيار السائد»، وأنه كان يوجد «تيار سائد» معين يتدفق بالتساوي عبر أماكن مختلفة خلال القرون السابقة.
78
إذا كان الفقه الشافعي على وجه الخصوص، والفقه الإسلامي في العموم، لا يمثلان «تيارا سائدا» طويل الأمد انضم إليه الصوفيون لأول مرة في نيسابور، فإن ما قدمه العلم الفقهي كان طريقة أكثر فاعلية لاكتساب المعرفة بالنص القرآني واستخدامها عمليا، تلك المعرفة التي لطالما اهتم بها المتخصصون من الصوفيين ومن غيرهم، وجعلت هذه الفاعلية الصوفيين والملامتية يلزمون أنفسهم بممارساتها. تمثلت طبيعة هذه الفاعلية في الطريقة التي منح من خلالها المذهب الشافعي لطلابه نظام «إجازة»، كان الشاهد الاجتماعي فيه على مرجعيتهم شهادة مكتوبة من شيوخهم، ومنهجا شرعيا واضحا يمكن تطبيقه، بدلا من حفظ عدد هائل من الأحاديث وتكوين طرق خاصة متفردة لفهمها.
79
هذه الفاعلية الجديدة، التي جعلت ممارسة الفقه أيسر ، وضمنت أيضا التعامل الجدي مع أحكام الفقهاء، كانت نتيجة مكانة معترف بها على نطاق نظام بأكمله، وليس نتيجة سمعة شخصية، وجذبت مختلف الأفراد والحركات ليتبنوا المذهب الشافعي؛ مما أدى إلى اجتماع كل من الصوفية والملامتية على اتباع هذا المذهب وأوساطه الاجتماعية وحلقاتها الدراسية.
بعد أن جذبت الشافعية هاتين الحركتين، أمدت كلتيهما بمزيد من الأدوات الخطابية. كان إحدى هذه الأدوات نموذج نقل المعرفة من خلال التسلسل من الشيخ إلى المريد، الذي أطلق عليه الصوفية «السلسلة»، وهذا ما سوف نناقشه بمزيد من التفصيل لاحقا. وهذا بدوره شجع المريدين على الاقتداء بسلوك شيوخهم بطريقة مثلت محاكاة لفكرة السنة النبوية.
80
وحاز أيضا الفهم التام للحديث الشريف على أهمية متزايدة؛ حيث استخدم الصوفيون الشافعيون في هذه الفترة، أمثال أبي عبد الرحمن السلمي (المتوفى عام 1021)، هذه المعرفة الخبيرة في وضع كتب تجميعية وتفسيرية للسنة النبوية تدعم الصوفية بدلا من الطريقة الكرامية.
81
وهذا لا يعني على الإطلاق قول إن كل الصوفيين في خراسان، أو في غيرها من الأماكن، أصبحوا منذ هذه الفترة أتباعا للمذهب الشافعي. إلا أنه في نيسابور وما حولها خلال القرنين العاشر والحادي عشر أدى اختراق الصوفية للمؤسسة المحلية الصاعدة، المتمثلة في الفقهاء الشافعيين، إلى حصولهم على نقطة انطلاق مهمة في منطقة خراسان، التي كان يسيطر عليها في السابق الكرامية والملامتية.
يوجد أمران واضحان إلى حد كبير بصرف النظر عن مدى إمكانية ارتباطهما المباشر بتوسع المذهب الشافعي في خراسان، وهما أن الصوفيين في المنطقة كانوا إلى حد كبير من أتباع المذهب الشافعي، وظهر بين هؤلاء الصوفيين نموذج لنقل المعرفة وتوثيقها يشبه في فاعليته النموذج الشافعي في هذا الصدد. في نهاية المطاف، إن عواقب هذا التطور - لا أسبابه - هي الأكثر أهمية. فما رأينا ظهوره في نيسابور وما حولها، وانتقاله منها إلى خراسان ونحو الغرب أيضا إلى العراق، وصولا إلى الأندلس؛ كان علاقة جديدة بين الشيخ والمريد، ستغير إلى الأبد طبيعة منهج الصوفية وتربطه بمجموعة قوية من العلاقات الاجتماعية الجديدة. وصف «نموذج نيسابور » هذا بأنه نموذج «يلزم فيه الشيخ المبتدئ، بموجب تعهد، بالطاعة المطلقة، وتنفيذ كل الأوامر، والكشف عن كل أفكاره السرية وحالاته الداخلية دون استثناء ... وفي الوقت نفسه لن يتغاضى الشيخ عن أي خطأ من جانب المبتدئ، ويمكنه أن يوقع في حقه أي نوع يرغب من العقاب.»
82
سيكون من الغباء التاريخي اتباع تأويل أخلاقي قديم يقارن بين فترة مبكرة «صحية»، كان فيها أتباع الصوفيين في بغداد أشبه بطلاب يحضرون دروس الأساتذة، وبين فترة لاحقة «فاسدة» من اتباع الخرافة وتقديس الشيوخ. فأي تناقض صارخ بين «شيخ التعليم» و«شيخ التربية» هو على الأرجح تبسيط للأمور، على الرغم من وجود قدر قليل من الشك في تزايد قوة العلاقة بين الشيخ والمريد.
83
أصبح هذا الارتباط بين المريد والشيخ مصحوبا في ذلك الوقت بيمين مغلظة، أو ما يعرف ب «البيعة»، على غرار تعهدات الولاء الرسمية التي قدمها المسلمون الأوائل إلى النبي محمد. وكما سنرى فيما يلي عندما نتناول الأشكال الأكثر مادية المتمثلة في الجانب المؤسسي؛ فقد كان نموذج «التتلمذ» الجديد يتضمن، بالنسبة إلى كثير من المريدين، التخلي عن حياتهم الأسرية من أجل فترة يحددها الشيخ كي يعيشوا في مأوى صوفي، ويتضمن أيضا قص الشعر، وارتداء ملابس معينة تميزهم كصوفيين.
84
باختصار، لقد دخلنا مرحلة أصبح من الأجدى فيها تقديم الصوفيين باعتبارهم حركة جماعية مميزة داخل المجتمع، يميز أفرادها أنفسهم عن غيرهم، وبعضهم عن بعض، بطقوس الالتحاق، وعهود البيعة، والمظهر الخارجي، واستخدام لغة غامضة. ومن الناحية الاجتماعية والنفسية، بحلول القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر أصبح تحول المرء إلى الصوفية تجربة شاملة إلى حد كبير.
عندما أصبحت الصوفية تعني أمورا لم تكن تعنيها قبل تحولها في خراسان، صارت المتطلبات الرسمية على نحو متزايد المتعلقة بكل من الالتحاق بطريقة والعضوية في حركة؛ يعبر عنها في نوعين جديدين من أنواع الكتب ظهرا بنحو أساسي في خراسان أثناء القرنين الحادي عشر والثاني عشر. تمثل هذان النوعان في الكتيبات وكتب الطبقات، وهما نوعان أدبيان متداخلان كثيرا من الناحية العملية. أشهر الأمثلة المبكرة على الكتيبات هي «كتاب اللمع في التصوف» لأبي نصر السراج (المتوفى عام 988)، و«التعرف لمذهب أهل التصوف» لأبي بكر الكلاباذي (المتوفى عام 990 أو عام 995). ومن الأمثلة الأخرى للكتيبات التي أنتجت في القرن التالي كتاب «الرسالة القشيرية في علم التصوف» لأبي القاسم القشيري (المتوفى عام 1074)، وكتاب «كشف المحجوب» لعلي بن عثمان الهجويري (المتوفى تقريبا عام 1075).
85
كل هذه الكتيبات كتبها مؤلفون في خراسان أو من خراسان. ونظرا لأن أوضح السمات المشتركة لهذه الكتيبات كانت شرعية الصوفيين المؤكدة من خلال التركيز على موافقة معتقداتهم وممارساتهم للقرآن والسنة؛ فقد كان من المألوف وصفها بالأعمال «الدفاعية»، التي كان أكبر إنجازاتها إقناع حراس العقيدة الإسلامية الحنيفة بأن الصوفيين ليسوا زنادقة. أصبح هذا الدفاع ينظر إليه على أنه أكثر إلحاحا بعد إعدام الحلاج عام 922. إلا أن وجهة النظر تلك خاطئة على الأرجح؛ لأن الصوفيين أنفسهم كانوا في أغلب الأحيان هم علماء الحديث والمدافعين عن الشريعة. لكن بالرغم من ذلك، فإن هذه الكتب الجديدة وأغراضها المميزة تحتاج إلى تفسير. في هذا الصدد، تتأكد قيمة معرفتنا السياقية بالحركات المنافسة والإنتاج الديني الوافر، خاصة عندما يتضافر ذلك مع حداثة عهد الصوفيين في خراسان وعدم معرفة الناس بهم في القرن العاشر على الأقل مقارنة بالكرامية والملامتية الأكثر شيوعا والأكثر رسوخا. وبسبب ما قدمته تلك الكتيبات من خطاب مدافع، وشروح وافرة للمعتقد الصوفي، وتفسيرات مفصلة للممارسة؛ فمن الأفضل على الأرجح اعتبارها إعلانات وبيانات عامة موجهة إلى علماء المسلمين في خراسان، الذين كانوا لا يعرفون الوافدين الجدد الصوفيين، ويتوخون الحذر منهم أيضا.
ربما شجعت نية الدعوة تلك على حدوث تطور مهم آخر في نقل الصوفية، نشهده في آخر الكتيبات التي ذكرناها سالفا، وهذا التطور هو استخدام الهجويري الفارسية بدلا من العربية في كتابه «كشف المحجوب». بالإضافة إلى ذلك، فإن علاقة الصوفيين بحركة الحرفيين الحضريين المغمورة المسماة حركة «الفتوة»، من الممكن اعتبارها استراتيجية ذات صلة معنية باستيعاب المنافسين في المنطقة، لعب فيها إنتاج النصوص دور «تغيير المظهر» الذي يشبه الدور الذي رأيناه في حالة «كتاب الفتوة» الذي كتبه السلمي الصوفي النيسابوري.
86
وكما هو الحال في التوجه نحو إضفاء الطابع الاجتماعي على زهاد الحدود المحاربين والكرامية الزاهدين في الدنيا؛ ففي محاولة الصوفيين إعادة توجيه عنف الطبقة الدنيا الخاص بالفتوة وعصابات «العيارين» المرتبطة بهم في مدن وريف خراسان، يمكن أن نرى انعكاسا للحل الوسط المتمثل في الدعوة للأخلاق التي سعى لها صوفيو بغداد، وهذا الانعكاس يتلاءم جيدا مع حقيقة أن كثيرا من كبار الصوفيين في خراسان كانوا أعضاء في الطبقة الحاكمة الحضرية الفقهية وصاحبة الأملاك.
87
النوع الآخر المهم من الكتب التي ظهرت في هذه الفترة كان ما يعرف باسم «كتب الطبقات».
88
وسواء أكان هذا النوع من النصوص في صورة كتاب منفصل، أم في صورة جزء من كتاب أكبر، فقد شهدنا فيه أخيرا ظهور «تقليد» صوفي كامل التطور، محدد بالوعي الذاتي التاريخي لأفراده؛ إذ كانت تلك الكتب وسيلة نصية اكتسبت من خلالها الأنواع الحاضرة من المعرفة الصوفية وممارسيها الشرعية والمكانة؛ من خلال تقديمهم باعتبارهم ورثة لتقليد تسلسلي يصل بسلسلة غير منقطعة عبر الأجيال إلى النبي محمد. من الناحية النصية، تضمنت تلك الكتب تجميعا (وفي بعض الأحيان، يمكن أن نقول اختلاقا) لأخبار الشخصيات التي تربط كل «طبقة» (جيل). في هذا الصدد، كان يوجد عملية ابتكار لتقليد تطلبت تقديم الزهاد والصالحين شبه الأسطوريين المنتمين للقرنين السابع والثامن على أنهم صوفيون، وإظهار أن التعاليم الصوفية نفسها هي المعتقد الأصلي للنبي محمد، المنقول عبر العصور.
وكما هو متوقع، فقد مال كتاب كتب الطبقات هذه إلى إنهاء سلسلة التلقي عند شيوخهم ومن ثم أنفسهم. ومنذ ابتكار هذا النوع الأدبي أخذت تتكرر تلك العملية في كل مرة تكتب فيها نسخ جديدة من تلك النصوص. وهذا الإجراء المتكرر جعل التقليد يمثل نوعا من رأس المال الرمزي المنقول، الذي يستطيع ربط النبي محمد والصوفيين الأوائل في بغداد بخراسان في القرن الحادي عشر، بالسهولة نفسها التي يربطهما بها بالهند في القرن التاسع عشر، أو بأي زمان ومكان يكتب فيه شخص عن سيرة التقليد. إلا أنه في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، عندما كتب أبو عبد الرحمن السلمي في خراسان وأبو نعيم الأصفهاني (المتوفى عام 1038) في وسط إيران أقدم كتب طبقات خاصة بالصوفية باقية، قامت كتب الطبقات بعمليتين أساسيتين؛ أولا: نتيجة لمعرفة الصوفيين بأساليب تعلم النصوص الدينية، فقد اقترضوا من علماء الحديث الطريقة التي من خلالها تحققوا من المعرفة الموثوق فيها بكلام محمد، من خلال «سند» الرواة الذي يعود للنبي محمد نفسه. وقد استنسخ الصوفيون هذا السند في سلاسل السند التي استخدموها لتوثيق كلمات أسلافهم، وفي تصورهم عن «سلسلة» تضم قائمة بشيوخ كل طريقة. ثانيا: كانت تلك الكتب حلقة الوصل بالماضي المبجل للتطور الأحدث عهدا لروابط الولاء والالتحاق بين الشيوخ والمريدين. ومن خلال تكوين سلاسل سير تربط الصوفيين في الأزمان اللاحقة والأماكن البعيدة بالرجال الذين يعتبرونهم أسلافهم الأتقياء، طمأنت كتب الطبقات الصوفيين على أن معتقداتهم وممارساتهم هي تلك التي وصى بها النبي محمد بنفسه، لا أحد غيره. وبين النبي محمد في مكة وأمثال السلمي في نيسابور، كان هناك أمثال الجنيد في بغداد قبل بضعة أجيال، الذين أضحت سيرهم وكتبهم المتذكرة الآن مصادر لتكوين التقليد الصوفي.
89
في هذا الإطار أيضا، وبالكتابة في خراسان التي كان الملامتية فيها ما زالوا يحظون بقدر كبير من الاحترام، أمكن دمج ذكريات الملامتية المحلية الممتعة في هذا الماضي المتذكر، الذي طمست فيه المنافسة بين الحركات المختلفة. ونتيجة لذلك، أضيف شيوخ الملامتية في سلاسل الصوفية، وأسقط تاريخهم المميز؛ حيث أصبحت النصوص لا ترى الملامتية إلا كمجموعة فرعية منبثقة عن الصوفية.
90
وحتى في حالة عدم القراءة الكاملة لنصوص السير، كان الصوفيون يحفظون عن ظهر قلب الهيكل الأساسي لسلاسل المعرفة والتحقق خاصتهم، التي أصبحت بدورها تعتبر موصلات مهمة لا تنتقل خلالها المعرفة المدركة فحسب، بل أيضا قوة البركة الغامضة من النبي محمد لشيوخ الصوفية في كل جيل. من خلال هذه الوسائل الخطابية، فإن هذا التطوير في الخلفية لتقليد متخيل جزئيا على الأقل سمح بالتطوير الفعلي لأشكال تقليد ملموسة أكثر عن طريق تطوير سلاسل النسب، التي سوف نشهد تكونها الكامل في الفصل الثاني عندما نتناول الطرق الصوفية. يعد الارتباط بمذهب فقهي صاعد، وطرح أفكارهم بطرق جديدة، وترويج الأفكار من خلال أنواع جديدة من الكتب، ومحاولة ربط الأنصار الأحياء بماضي مبجل؛ بعضا من الطرق «المعنوية» أو الخطابية التي حاز من خلالها الصوفيون على أتباع في خراسان. وساعد الصوفيين في عملية التوسع والدمج هذه حقيقة أنه في ذلك الوقت أصبح يوجد «كيان» اجتماعي صوفي ملموس أكثر، يمكن أن يندمج فيه الأتباع الجدد عن طريقة المدرسة أو الخانقاه. ويجب أن نلتفت الآن إلى هذا الجانب «المادي» المتمثل في تكوين المؤسسات الصوفية.
لا تقتصر الإثارة في هذا الصدد على اكتساب وتكوين هذه المساحات الملموسة المميزة المخصصة للنشاط الصوفي في خراسان، وحدوث ذلك من خلال اقتباس المؤسسات التي ابتكرها منافسوهم الكرامية، بل تكمن أيضا في أنه مع الانتشار غربا فيما بعد، كانت هذه المساحات بمنزلة قوة موازنة مؤسسية لحركة المعتقدات والأشخاص القادمة من الشرق منذ جيل أو جيلين. هذا يعني أننا يمكننا أن نرى نسقا من التداول؛ فالصوفية التي بدأت في العراق أصبحت شيئا مختلفا بعد انتقالها إلى خراسان، قبل أن تعود بعد ذلك إلى موطنها في الغرب في صورة معدلة إلى الأبد. أولى هذه المؤسسات الجديدة لا تعتبر عادة مؤسسة صوفية على الإطلاق. وإن كانت المدرسة ليست على الإطلاق مؤسسة صوفية على نحو مميز، فقد كانت مؤسسة عمل من خلالها الصوفيون منذ أول ظهور لها في القرن الحادي عشر وحتى يومنا الحاضر. وعلى الرغم من أنه يبدو أن أقدم المدارس كانت مرتبطة بالكرامية؛ حيث كانت أماكن لدراسة «العلوم الإسلامية»، فإن المدارس تدين فعليا بانتشارها إلى توافق طبقة علماء المسلمين مع الأتراك السلاجقة البدو، الذين شنوا غزوا منتظما في منتصف القرن الحادي عشر لمدن خراسان، قبل أن يسقطوا بغداد عام 1055 في نهاية المطاف.
91
ونظرا لحاجة دولة السلاجقة العظام (1037-1157) إلى بيروقراطية متعلمة وعالمة بالشريعة لإدارة الأراضي الشاسعة التي استولوا عليها، وللحصول على الشرعية التي تأتي من الدعم العام للأعراف الاجتماعية الإسلامية، فقد خصصت جزءا من مواردها المادية لإنشاء شبكة كبيرة من تلك المدارس في أنحاء أراضيها؛ ومن ثم ضموا أنفسهم إلى تقليد ديني عبر إقليم كونوه بأنفسهم إلى حد كبير (أو كونوه من الناحية المؤسسية على الأقل).
92
وعلى الرغم من أن المدارس تعتبر عادة أماكن لدراسة القرآن والشريعة، فقد كان الصوفيون البارزون أنفسهم يعتبرون خبراء في هذين المجالين، وذلك كما رأينا بالفعل في معظم الحالات. مرة أخرى، إن وصف الصوفيين ب «المتصوفين» يسلبهم العديد من المهارات التي ساعدتهم في النجاح.
نتيجة للكتب والرسائل التي تضمنها «علم الصوفية» في القرن الحادي عشر، أصبح من الممكن اعتباره الآن في حد ذاته أحد العلوم الدينية إلى جانب النحو العربي، وتفسير القرآن، والأساليب الفقهية. وعلى هذا النحو، أصبح هذا العلم قادرا على أن يجد مكانا بين قراءات المرتبطين بهذه المدارس الجديدة، وإن كان على الأرجح لا يدرس رسميا داخلها. بطبيعة الحال، كانت هذه النسخة الأستاذية من الصوفية من النوعية المعتمدة على الكتب اعتمادا كبيرا، إلا أنه من خلال الارتباط بطبقة رسمية من البيروقراطيين والعلماء الذين يتقاضون رواتب، اكتسبت طريقة المعرفة الصوفية المحترمة هذه (لقد أصبحت محترمة الآن بسبب مكانتها باعتبارها «تقليدا») الزخم الذي سيمكنها في النهاية من دمج منافسيها أو قمعهم.
93
كان أبرز رواد هذه «الصوفية المدرسية» أبا حامد الغزالي (المتوفى عام 1111)، ذلك المفكر العام الذي أوصله تمكنه من العلوم السياسية الأكاديمية والاتجاهات الفكرية إلى أن يكون العالم الأول بالمدرسة النظامية الكبيرة التي تأسست عام 1065 في بغداد.
94
وإذا لم يعد من الضروري اعتبار الغزالي الرجل الذي أدخل الصوفية أخيرا في «التيار السائد» - كما لو أنها كانت من قبل في أي مكان آخر - فإنه يعد مثالا للقوة التي أتت من ارتباط الصوفيين بمؤسسات التعليم الجديدة المدعومة من الحكومة. وعلى الرغم من أن كتابه الرائع «إحياء علوم الدين» ليس أكثر كتب الصوفية أصالة، فقد أدى وظيفة مهمة تتمثل في التنظيم المنهجي لكثير من الأفكار التي كونها الصوفيون الأوائل في شكل متماسك وممكن الفهم. نتيجة لذلك، أصبح الكتاب مقروءا لعدة قرون بعد وفاته وحتى يومنا الحاضر. ومن ضمن مؤلفاته الأخرى الكثيرة (التي تضمنت رسالة قصيرة مؤثرة وافق فيها بين آية النور في القرآن - الآية الخامسة والثلاثين من سورة النور - وأفكار الصوفيين حول النور المحمدي الكوني)، كان أكثر هذه الأعمال فاعلية في ترويج الصوفية سيرة ذاتية بديعة مكتوبة بالعربية، وصف فيها هذا العالم، الأكثر شهرة في زمنه، رحلته إلى الحقيقة بأنها رحلة جرب فيها كل فروع الفلسفة والتعلم من الكتب قبل أن يدرك في النهاية أن الصوفيين هم من يملكون المفاتيح الحقيقية للحكمة.
95
بينما كانت «المدرسة» بالتأكيد منطقة مهمة للتأثير الصوفي، فقد كانت الخانقاه (أي المكان الذي يقيم فيه الصوفيون) هي المؤسسة الصوفية الأشد تميزا، والتي تشكلت في خراسان خلال هذه الفترة، وسيدعمها لاحقا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر السلاجقة أيضا. وعلى الرغم من أنه في كل من الحدود الشرقية والغربية للحكم الإسلامي، سكن في السابق زهاد الحدود في أماكن محصنة عرفت باسم «الرباطات» (وهو مصطلح سوف يستخدم لاحقا أيضا في بعض المناطق للإشارة إلى مساكن الصوفيين)، ففي أغلب الأحيان كان الصوفيون الأوائل في العراق وخراسان يتقابلون في منازل شيوخهم أو في الجوامع العامة.
96
تكونت تجمعاتهم - التي تشبه تجمعات علماء الدين، الذين لم يختلفوا عنهم اختلافا واضحا - من خلال مفهوم «الحلقة» المجتمعة حول عالم معين. وكما رأينا، فإنه يبدو أن معظم الصوفيين الأوائل كانت لديهم وظائف نهارية، سواء أكانوا حرفيين أم علماء. وعلى الرغم من أن بعض الصوفيين الأوائل (مثل الحكيم الترمذي) كانوا أثرياء، فإنهم لم يكونوا أثرياء بسبب تعاليمهم أو بسبب مزاعم مكانتهم الروحانية. وعلى مدار القرون، ما بين القرن الحادي عشر والقرن الرابع عشر تقريبا، تغيرت هذه الصورة جذريا، وأول خطوة في هذا الاتجاه كانت تكوين مؤسسات مخصصة تحديدا للنشاط الصوفي. وعلى الرغم من أننا سنشهد النتائج الأكمل لهذه التطورات في الفصل الثاني، فإن أسسها وضعت بالفعل قبل القرن الثاني عشر.
شكل 1-4: أولى المؤسسات الصوفية: رباط في جواردامار، إسبانيا (تصوير: نايل جرين).
على الأرجح، توجد أقدم النسخ الباقية لأحد هذه المساكن الصوفية في أقصى غرب العالم الإسلامي في فترة العصور الوسطى في إسبانيا؛ وذلك بفضل الاكتشافات القائمة على المصادفة الخاصة بعمليات الحفظ والبحث الأثري أكثر من أي أولوية تاريخية كامنة. هذا هو الرباط الذي يعود للقرن العاشر، والذي استخرج في أواخر ثمانينيات القرن العشرين من الكثبان الرملية الساحلية في جواردامار في المقاطعة الإسبانية المعاصرة فالنسيا، التي كانت جزءا من الخلافة الإسلامية في قرطبة وقت إنشاء ذلك الرباط.
97
تأسس هذا الرباط عام 944 وفقا للكتابة العربية المكتوبة على حجر الأساس خاصته، وكان يتكون من مسجد للصلاة، ومنطقة استقبال كبيرة، وغرف لإقامة الزائرين، وثلاث عشرة صومعة للزهاد المقيمين.
98
وفي إشارة للممارسات الدينية التي كانت تقام في هذا الرباط، كانت تحتوي كل صومعة على محراب صلاة خاص بها، وبقيت الكتابة العربية على الجدران التي تعود إلى أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر، والتي طلب فيها الزائرون الدعوة لهم.
99
يوجد كثير من الجدل حول مدى انتشار هذه الرباطات في الأندلس ومناطق شمال أفريقيا وجنوب صحراء أفريقيا الكبرى، التي كانت الأندلس متصلة بها.
100
على الرغم من ذلك، تشير مصادر عربية من الأندلس إلى وجود شبكة واسعة من الرباطات بحلول القرن الحادي عشر، تمتد من دانية والمرية على الساحل الشرقي وصولا إلى طليطلة وبطليوس في الداخل، وحتى شلب على الأطراف الغربية لشبه الجزيرة الإيبيرية.
101
وعثر أيضا على رباط يعود إلى القرن الحادي عشر في جزر البليار المعروفة حاليا بكونها مكانا تقام فيه حفلات حمام الشمس الصاخبة، وليس كمعتزل للزهاد. وقد عثر على رباط ثالث في صقلية.
102
وفقا لبعض الباحثين، فقد كانت الرباطات مرتبطة بروحانية عسكرية كانت تميز الأندلس، على الرغم من أننا أشرنا بالفعل إلى وجود مثل هؤلاء الزهاد المحاربين على الحدود البيزنطية المسيحية الشرقية، وعلى حدود آسيا الوسطى البوذية المتاخمة للدولة الإسلامية.
103
وما زال من غير الواضح إلى أي مدى كان مرتبطا جهاد الرباطات الحدودي هذا بالتيارات الدينية الأخرى في الأندلس، بما في ذلك الصوفية. بالرغم من ذلك، تشير معاجم السير العربية الخاصة بالأندلس على نحو متكرر إلى الرباطات بوصفها أماكن للزهاد وما شابههم، وشكلت هذه الأماكن على نحو واضح الحياة اليومية للمقيمين فيها، حتى في حالة اشتراكهم في بعض الأحيان في الجهاد.
104
وكما كان الحال في خانقاوات خراسان الناشئة، فقد كانت الأدبيات الدينية تنتج أيضا في الرباطات، كما في حالة شعر الزهد الذي كتبه ابن طاهر الزاهد (المتوفى عام 988).
105
في صدى آخر لما سنراه بعد قليل فيما يتعلق بالروابط التجارية للرباطات التي ظهرت في إيران في نحو ذلك الوقت، قيل أيضا إن الرباطات الساحلية في إسبانيا والمغرب كانت مؤسسات متعددة الأغراض خدمت التجار البحريين وكذلك الزهاد.
106
وفي الغالب، فإن ما نراه في رباطات الأندلس هو مؤسسة دينية إقليمية، أصبحت - بالرغم من ارتباطها بالمحاربين المجاهدين على الحدود البيزنطية الشرقية - مميزة للغرب الإسلامي وكونت ثقافة فرعية دينية خاصة بها هناك. يعكس هذا حقيقة أن الصوفية انتهجت نسقا مختلفا في الأندلس في العموم؛ حيث تعرض منظروها هناك للهجوم بسبب الابتعاد الشديد عن الفهم الحرفي للنصوص الدينية الذي انتهجه المذهب المالكي. بالرغم من ذلك، وحتى في حالة عدم القدرة على التأكد من مدى الارتباط الوثيق بين «الروحانية العسكرية» لهذه الرباطات القديمة وبين الصوفيين الكثر في الأندلس؛ فإن اكتشاف رباط جواردامار يمكننا من أن نفحص بالتفصيل على المستوى الأثري كيف كان يبدو مأوى الزهاد المسلمين الأوائل (وربما يكونون صوفيين بالاستدلال). والسبب في ذلك يرجع إلى أنه مع مرور الزمن فقدت الرباطات أبعادها العسكرية القديمة، وأصبحت في الغالب أماكن لتعبد الصوفيين. وحتى إن لم نتمكن بسهولة من ربط الأجيال الأولى من ساكني الرباطات بالصوفيين في الأندلس، فإن رباط جواردامار يظل اكتشافا قيما على نحو هائل في تقديم أقدم آثار مادية لمساكن جماعية للصوفيين - أو أشباه الصوفيين - متاحة في أي مكان آخر في العالم، في فترة كانت تظهر فيها لأول مرة هذه المساكن المبنية لغرض معين في عدة أماكن إسلامية.
بالعودة إلى الشرق الأوسط، سنجد أن أقدم الشخصيات البارزة التي يمكن ربطها بتطور المساكن الجديدة الصوفية على نحو واضح، عاش في جنوب إيران، التي بسبب قربها الكبير من بغداد كونت على مدار القرن العاشر شكلا من الصوفية يشترك في كثير من الصفات مع الوعظ الأخلاقي، القائم على فكرة الصحو الخاص بالجنيد.
107
هذه الشخصية هي أبو إسحاق الكازروني (المتوفى عام 1035)، الذي سمي بهذا الاسم نسبة إلى مدينة كازرون - الموجودة جنوب إيران - التي عاش فيها، ودونت أفعاله في سيرة باللغة الفارسية ألفها ابن خليفته.
108
وفي حين أن الكازروني، مثل بقية الصوفيين الأوائل في إيران، يبدو أن تعاليمه تركز أكثر بعض الشيء على موضوع الحب بين البشر والله؛ فقد كان أيضا مهتما بالوعظ الأخلاقي على نحو كبير. بيد أنه فيما يخص أغراضنا الحالية، فإن أهمية الكازروني تكمن في أنه أسس شبكة مكونة مما لا يقل عن خمسة وستين مسكنا صوفيا عبر جنوب إيران. وفي حين يبدو أن مجموعة صغيرة من مريديه الأساسيين كانوا يسكنون على نحو دائم في هذه المساكن، فإن هذه المباني كان الهدف الأساسي منها أن تكون ملاجئ خيرية للمسافرين والفقراء. وعلى هذا النحو، يجب اعتبارها تطورا مميزا نسبيا عن نموذج الرباط الذي تطور في وقت أبكر في الغرب الإسلامي، وعن نموذج الخانقاه الذي تطور في خراسان في الوقت نفسه تقريبا؛ إذ إن الخانقاوات كانت في الأساس مساكن تربوية للصوفيين، كان يتعهد المقيمون فيها بالالتزام بمجموعة قواعد للإقامة بها، والتي كانت معقدة على نحو متزايد. لم يترك الكازروني مثل هذا النوع من نظام القواعد، إلا أن شبكة المساكن التي تركها تشير إلى تطور مهم في علاقة الصوفيين بالمجتمع الأوسع نطاقا؛ حيث نرى واحدة من أوائل عمليات المبادلة الكثيرة التي تفاوض من خلالها الصوفيون مع مجموعات اجتماعية مختلفة، من أجل تحقيق فائدة متبادلة. فنظرا لوقوع مساكن الكازروني على بعض من أهم طرق التجارة في الشرق الأوسط، كان كثير من ضيوفه المسافرين من التجار (وهذا يحاكي الوضع في إسبانيا)، وهؤلاء بدورهم قدموا نظير ضيافته لهم تبرعات جعلت التوسع الإضافي في شبكة المساكن ممكنا. وخلال فترة قصيرة، امتدت مساكن الكازروني من وسط إيران حتى مدن الموانئ في شرق الصين. ومع الكازروني، كان الصوفيون يجذبون لأول مرة استثمارا ماليا كبيرا لأنفسهم كصوفيين، ذلك الاستثمار الذي مول بدوره مزيدا من الدعاية لحركتهم. ونظرا للوعظ الأخلاقي المميز للكازروني ونشأته بين وعاظ مسلمين للزرادشتيين المحليين، فإنه يبدو من المعقول اعتبار شبكته نوعا من المساعدة الاجتماعية التي يقدم فيها الطعام مقابل ترديد بعض الأدعية. ومع تراجع الحاجز الثقافي، برزت هنا حركة دمج داخلي أخرى عمقت بدورها الالتزامات الإسلامية للسكان الريفيين والتجار العابرين في صحاري وجبال إيران.
كان أبو سعيد بن أبي الخير (المتوفى عام 1049) من الشخصيات الأخرى التي لا تقل أهمية، والتي ساهمت في هذه التطورات المؤسسية «المادية»، وهو شيخ خراساني أقام لبعض الوقت في نيسابور، لكنه قضى معظم حياته في مكان شبه ريفي في ميهنة، فيما يعرف الآن بتركمانستان.
109
وفي ذلك المكان أسس خانقاه، لكن على النقيض من خانقاوات الكازروني، كانت التربية الروحانية للنزلاء هي هدفها الأساسي؛ ولهذا الغرض أعد أبو سعيد قائمة من عشر قواعد يتوجب على مريديه النزلاء الالتزام بها. لم تكن هذه القواعد جديدة في حد ذاتها على الإطلاق - فقد تضمنت على سبيل المثال: الحفاظ على الطهارة، وأداء كل الصلوات المفروضة، وأداء صلوات إضافية ليلا، وتلاوة القرآن وأداء الذكر يوميا - لكن اجتماعها معا أشار إلى التحول إلى مؤسسة «التربية» الصوفية الأكثر رسمية التي شهدنا تطورها بالفعل. كان هذا التحول مهما؛ لأن قواعد التربية هذه مع أبي سعيد أصبحت مرتبطة أيضا بمؤسسة سكنية. ولم يكن أبو سعيد حالة فريد من نوعها في خراسان حتى في ذلك الوقت؛ ففي أقصى الجنوب في مدينة هراة الموجودة فيما يعرف اليوم بأفغانستان، حدد معاصره عبد الله الأنصاري (المتوفى عام 1089) مجموعة قواعد مشابهة باللهجة الفارسية المحلية، كان الهدف منها - على ما يبدو - أن تكون سهلة الحفظ على أتباعه.
110
بالرغم من ذلك، كان أبو سعيد شخصية مثيرة أكثر من الأنصاري أو الكازروني؛ فهو لم يكن رجلا ثريا فحسب (إذ إن هذا الأمر لم يكن فريدا في حد ذاته مقارنة بالخلفية الخراسانية التي تضم شخصيات مثل الترمذي)، بل كان رجلا لا يرى تعارضا بين التباهي بهذه الثروة مع الاستمرار كصوفي. وهو يرى أن «الفقر» الذي منحه الصوفيون السابقون أهمية كبيرة كان حالة داخلية ورمزية؛ ومن ثم فإن امتلاك الأصول المادية، بل والاستمتاع بها، ليسا عقبة أمام التقدم الروحاني. في هذا الصدد، يوضح أبو سعيد التناقضات الأخلاقية والمجابهات الاجتماعية التي كانت لا تزال تميز الإسلام كثيرا في خراسان في هذه الفترة.
في حين كان أبو سعيد سعيدا باقتراض مؤسسة الخانقاه من الكرامية، فإن استمتاعه بالحياة الطيبة كان مناقضا على نحو مباشر لتركيزهم الشديد على الفقر. وعلى الرغم من أنه بوضع مجموعة قواعد دينية لنزلاء الخانقاوات كان يعكس الامتثالية الظاهرية مع الاتجاه السني، التي رأيناها بين الصوفيين في نيسابور وفي بغداد، فإن اهتمامه بالعروض الموسيقية وحفلات العشاء الفاخرة أكسبه سمعة سيئة بين كثير من معاصريه. وعلى الرغم من أن بعضا من القصائد الماجنة عن الخمر وحب الغلمان والأغاني قد يكون منسوبا إليه زيفا، فإنه بلا شك أولى اهتماما كبيرا بممارسة «السماع»، التي تضمنت في هذا الصدد أغاني حب منشدة بمصاحبة الطبول والنايات، التي تجعل الجمهور يشعرون بنشوة يعبرون عنها بالرقص الجامح. ويمكننا أن نرى في هذه الممارسات دمجا مهما يحدث بين الكلمات وما تشير إليه، توسع من خلاله - مع انتقال الكلمات إلى مواقع اجتماعية جديدة - المدى الدلالي للمصطلحات الفنية القديمة المحترمة التي تطورت في العراق، ليشير إلى الممارسات التي من المحتمل أنها لم تخطر قط على بال المستخدمين الأصليين لهذه الكلمات؛ ومن ثم، يكسب تلك الممارسات الاحترام. على سبيل المثال: على الرغم من مناقشة كلمة ومفهوم السماع في بغداد منذ وقت طويل، فإن الممارسات الفعلية التي شهدنا تطورها حول أمثال أبي سعيد في خراسان القرن الحادي عشر، لم تكن على الأرجح مقترضة من صوفية العراق على الإطلاق، بل كانت مقترضة من الهوايات العلمانية للطبقة الأرستقراطية الريفية في خراسان، الذين كان يشبههم أبو سعيد كثيرا في أسلوب الحياة والمكانة.
111
إن هذه العملية الخاصة بإضفاء بنية فوقية لغوية ومفاهيمية على الهياكل الاجتماعية الأكثر عمقا للحياة في بيئات مختلفة؛ ساعدت الصوفية في ترسيخ نفسها في المجتمعات الجديدة التي انتشرت فيها منذ القرن العاشر، في خراسان أولا، ولاحقا في الهند والأناضول وغيرهما من الأماكن.
توجد أنشطة على نحو وافر في السيرتين اللتين تناولتا أبا سعيد وكتبتا في القرن الذي تلا وفاته؛ منها: الإقامة في مسكن صوفي كان هو السيد فيه، والعيش وسط مجموعة من الرجال الذين أقسموا على طاعة كل أوامره، وحماية الفقراء الذين سعوا للعيش تحت مظلته، واستقبال علية القوم والأمراء كما لو كان واحدا منهم، والاستمتاع بمتع بلاط الملوك المتمثلة في الموسيقى والشعر.
112
من ناحية، في القصص الكثيرة الموجودة في السيرتين، التي تروي المساعدة الشديدة للفقراء، نجد أن الصوفية - أو الصوفيين الأقوياء على الأقل - قد اكتسبوا استحسانا جديدا من قبل الجماعات الاجتماعية الريفية. ومن الناحية الأخرى، نرى الصوفي باعتباره مؤسسا لمسكن سيتوارثه خلفاؤه (من عائلته في الغالب)، ويبقى حتى الأجيال المستقبلية عندما يموت الصوفي ويتحول إلى ولي. لقد رأينا بالفعل تكون مفهوم «أولياء الله»، وفي هذه الفترة كان هذا المفهوم يكتسب رأس المال المؤسسي الذي سوف يحوله من الفئة الخطابية إلى الفئة الاجتماعية؛ بحيث يصبح الولي الحي أرستقراطيا روحانيا، ويبجل الولي الميت لدرجة التقديس.
مرة أخرى، كان التفاعل بين النصوص والمصادر المادية لسياقاتها ضروريا جدا لهذا التطور؛ ففي السير التي كتبها من ورث رأس المال والمكانة من مؤسسي مساكن الصوفية، كان الصوفيون أمثال أبي سعيد والكازروني يحظون بالتبجيل من حيث وصفهم بأولياء الله، وأوضحت هذه السير أن مكانتهم الروحانية وقدرتهم على صنع المعجزات تورثان بالإضافة إلى أملاكهم. وإذا كانت هذه التطورات لم تكتمل بعد بنجاح في القرن الحادي عشر نفسه، عندما كان كل ما نراه فحسب هو تأسيس مساكن الصوفية لأول مرة؛ فمن المهم أن ندرك من هذه المرحلة المبكرة العلاقات الخفية والسببية بين تأسيس المساكن وتأسيس الأضرحة. لم تصبح المساكن أضرحة للأولياء من خلال عملية تدهور و«أزمة روحانية» طويلة الأمد مثلما اعتقد جيل سابق من المؤرخين، بل كانتا - أي المساكن والأضرحة - منذ بدايتهما مظاهر مرتبطة للمؤسسات نفسها.
113
فلقد دفن رجال مثل أبي سعيد والكازروني والأنصاري في المساكن التي أسسوها، وحتى أثناء حياتهم في القرن الحادي عشر وصف معاصرهم الهجويري زياراته التي قام بها لقبور الصوفيين الأوائل في كتيبه - المحافظ على نحو حذر - عن الممارسة الصوفية.
114
إذا فما نراه في إنشاء المساكن هو مزج مثير بين رأس المال الرمزي المتمثل في الولاية، ورأس المال المادي المتمثل في المساكن الصوفية. في الفصول القادمة، سوف نتتبع التبعات الهائلة لهذا التطور مع انتشار هذه المساكن والأضرحة من خراسان إلى كل أرجاء العالم الإسلامي.
ملخص
ما لدينا منذ القرون الأولى للتاريخ الصوفي هو تقريبا أدلة نصية فحسب، معظمها غامض للغاية ولا يشير إلا يسيرا إلى السياقات المحددة التي كتبت فيها. وفي سعينا لإيجاد طرق يمكننا من خلالها ربط تلك الأدلة المكتوبة بالعالم الذي نشأت فيه، كانت مهمتنا إلى حد ما تتمثل في محاولة فهم جاذبية الكتابات التي سمحت للصوفية بالتطور والانتشار بعيدا عن أتباعها الأوائل. ومن أجل فعل ذلك، تتبعنا على مدار الصفحات السابقة سلسلة من التطورات التي ما بين منتصف القرن التاسع والقرن الثاني عشر، ضمنت أن مصطلح «صوفي» كان يشير إلى نطاق من الأشخاص والأفكار والأنشطة والمؤسسات، بحلول القرن الثاني عشر، يفوق كثيرا ما كان يشير إليه عند استخدامه لأول مرة من قبل المسلمين قبل ذلك بثلاثة قرون.
أول هذه التطورات الكبرى التي شهدناها يمكن أن نصفه بأنه خطابي، ومن خلاله استخدم الصوفيون الأوائل المصادر النصية المتمثلة في القرآن والسنة من أجل تطوير مصطلحات صوفية مبجلة يصفون بها الأفكار والأنشطة التي روجوها. وسواء أشارت هذه المصطلحات الصوفية إلى أشخاص معينين مثل «أولياء الله»، أم إلى أنشطة محددة مثل «الذكر»، أم إلى توجهات اجتماعية معينة مثل «التوكل على الله»، فإنها ربطت الصوفيين منذ بدايتهم بالتطورات الأوسع نطاقا في الاتجاه السائد في الفكر الإسلامي. وبالإضافة إلى كون هذه المصطلحات مبجلة، يجب أيضا أن نستنتج أن الأتباع الذين التفوا على نحو متزايد حول الشيوخ الصوفيين وجدوا هذه المصطلحات مفهومة ومفيدة؛ مما سمح لهم بفهم تجاربهم الخاصة أثناء التأمل والصلاة؛ ومن ثم تعميق التزامهم بالرؤى النفسية والاجتماعية الأوسع نطاقا، التي كان يكونها المسلمون في هذه القرون. وكما رأينا، فإن هذه المصطلحات وأنواع النصوص المختلفة التي استخدمتها لشرح المعتقدات المتعلقة بالطريقة الصوفية والأولياء كانت مفهومة في كل من خراسان والعراق؛ مما ساعد في اكتساب الحركة - العراقية الأصل - أتباعا في المناطق الشرقية التي قد كونت في السابق حركات دينية خاصة بها. وفي هذه المناطق الشرقية وجدنا أكمل الأدلة النصية على تحول الصوفية من فكرة إلى تقليد، وهذه عملية رأينا فيها دورا محوريا في أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر لأعمال السير التي استخدمت إطارا من النسب، لتوضح أن المعتقد الصوفي توارثته الأجيال (الطبقات) منذ وقت النبي محمد وحتى وقت كاتب السيرة. وفي هذا الصدد، نشهد عملية كانت فيها الكتابات والسير المتذكرة للصوفيين الأوائل في العراق (بالإضافة إلى الزهاد شبه التاريخيين في فترة سابقة) بمنزلة «ماض قابل للاستخدام»؛ أي تاريخ يمكن توظيفه استراتيجيا لبناء تقليد مرموق وشرعي.
ساعدت هذه المكانة المرموقة والشرعية الصوفيين على كسب المزيد من المؤيدين وحمايتهم من إمكانية انتقادهم بسبب ابتداعهم المنحرف. وبالإضافة إلى ذلك، وضعتا طرقهم مباشرة في إطار معرفي سائد اعتبر فيه التقليد والوحي أعلى مكانة من الابتكار والعقل.
115
إن محاولات الصوفيين المتكررة لربط أنفسهم بالماضي الموثوق فيه - سواء أكان ذلك من خلال استخدامهم للقرآن والحديث أم من خلال أنساب شيوخهم - تشير مرة أخرى إلى خطر فكرة رؤية الصوفيين باعتبارهم «متصوفين» يهتمون في الأساس بالسعي وراء التجربة. وعلى الرغم من أن السعي وراء التجربة - الذي أصبح يشير إليه كثير من الصوفيين في نهاية هذه الفترة باسم «الذوق» - كان سمة مهمة في النشاط الصوفي، فإننا يجب أن نتذكر أن الصوفيين كانوا منهمكين في صراع دائم لربط هذه التجارب بمفاهيم التقليد المشروعة، التي تعبر عنها المصطلحات القديمة. هذا لا يعني أن الصوفيين أصبحوا «عالقين» بعض الشيء في هذه المصطلحات وهذا التقليد؛ لأننا في الفصول القادمة سوف نرى أنه على الرغم من بقاء المصطلحات القديمة، فإن معناها وما تشير إليه قد توسعا كثيرا على يد الكتاب المتأخرين؛ فالتقليد في النهاية مصدر قابل للتعديل.
في أثناء عملية التنافس والدمج، التي من خلالها توسع الصوفيون من ساحتهم الأولى في العراق، ساعدهم أيضا اندماجهم في الأطر المؤسسية الأوسع نطاقا للتيار السني (مثل: المذهب الشافعي والمدارس)، وكذلك تطويرهم لآليات مؤسسية خاصة بهم (مثل: العلاقة السلطوية بين الشيخ والمريد والخانقاوات). ومقارنة بمتطلبات المتصوفين القاسية مثل الزهاد والكرامية، فإن جاذبية الرسالة الصوفية ربما ساعدها أيضا الاهتمام بالامتثال الاجتماعي والاعتدال؛ إذ على الرغم من أنه كان هناك بالتأكيد صوفيون زهاد اكتسبوا شهرة في هذه الفترة، بين أوساط العلماء وبين العوام، فقد كانت مواءمة الصوفيين لتعاليمهم الروحانية مع الهياكل الدنيوية للحياة الاجتماعية والاقتصادية والأسرية؛ هي ما منحهم الدعم اللازم للاستمرار والانتشار على نحو يفوق حركات الزهد والحركات الباطنية الأخرى التي ازدهرت في وقتهم واضمحلت.
في نهاية الفترة ما بين منتصف القرن التاسع والقرن الثاني عشر، نرى أيضا أن فكرة كون الصوفيين أولياء لله، يستطيعون بصفة خاصة التمتع بقوة الله، قد مكنتهم من اكتساب طيف أكبر من الأتباع بين صفوف العوام، الذين كانت التدخلات الإعجازية في حياتهم العادية ذات أهمية أكثر إلحاحا من رؤيتهم المباشرة لله. إن هذا الانتشار للفكر الصوفي - الذي شهدناه في سير رجال مثل أبي سعيد الميهني - خارج دائرة العلماء والحضر ليصل إلى الأميين والريفيين؛ يجب ألا نعتبره عملية «تدهور»، بل شهد ذلك الانتشار النتائج الاجتماعية لأفكار الولاية التي استعرضها بعض المنظرين الصوفيين الأوائل. وكما سنرى في الفصل الثاني، فعلى الأرجح كان إطلاق العنان الكامل لهذا الانتشار للفكر الصوفي هو التطور الأهم في التاريخ الصوفي. وعلى الرغم من أننا لم نصل بعد إلى نهاية القصة، نتيجة لما سلف ذكره، فإننا يمكننا في الوقت الحاضر على الأقل القول في العموم إن الفترة ما بين منتصف القرن التاسع والقرن الثاني عشر شهدت تطور الصوفية من مجرد لفظة مستخدمة محليا للإشارة إلى «لابسي الصوف»، إلى طريقة معرفية مفصلة في عدد متزايد من النصوص، وأخيرا إلى تقليد حاز على التمكين من خلال الآليات المؤسسية المتمثلة في الانتساب الجماعي وإعادة الإنتاج.
الفصل الثاني
إسلام الأولياء والطرق (1100-1400)
(1) سياقات متغيرة
في القرون ما بين منتصف القرن التاسع والقرن الثاني عشر، شهدنا ظهور الصوفيين باعتبارهم مجموعة من مجموعات إسلامية كثيرة تعمل في العراق وتكتسب أتباعا، وأيضا إحساسا واعيا بالتقليد، وأسلوبا تنظيميا مؤسسيا أكبر من خلال توسعهم شرقا في إيران وآسيا الوسطى. وفي حين ركز الفصل السابق على المنطقتين الأساسيتين للإنتاج الصوفي المبكر، المتمثلتين في العراق وخراسان، فإنه بحلول القرن الثاني عشر أصبح للصوفيين وجود كبير أيضا في الغرب الإسلامي في إسبانيا وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى بدايات توسعهم المؤثر على نحو هائل في الهند. وبعد أن أسس الصوفيون نقاط الانطلاق المؤسسية خاصتهم عبر منطقة واسعة، شهدت الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر - التي سوف نتطرق إليها الآن - تحقيق الصوفيين صعودا هائلا لمكانة تمثلت في أنهم كانوا من المغرب إلى البنغال محاور اجتماعية وفكرية، في مختلف المجتمعات التي اخترقوها عبر هذه المنطقة الشاسعة. وبحلول القرن السادس عشر، كان الصوفيون حماة للملوك وتابعين لهم في آن واحد، وكانوا كذلك مهمين لحياة المجموعات المنتمية للطبقة الدنيا في المدن وفي الريف أيضا، وقد عزز تلك المكانة الدور الذي لعبوه في تحويل جماعات البدو والمزارعين إلى الإسلام عند توسيعهم للمناطق الحدودية.
لقد رأينا بالفعل كيف أن دراسة القرآن والحديث كانت المنهج المؤسس للصوفيين الأوائل، وكيف أن الصوفيين مع مرور الوقت حرصوا على التوافق مع أعراف الإسلام السني الناشئة. وفي حين كان الاتجاه السائد هو البيئة الطبيعية للصوفية، كان المتمردون أمثال الحلاج الذي حكم عليه بالإعدام هم الاستثناء وليسوا القاعدة. لكن إذا كان الصوفيون نادرا ما يخالفون أعراف الفترة، فقد عجزوا عن أن يكونوا سلطات دينية مسيطرة في قرونهم الأولى، لكنهم تمكنوا من أن يصبحوا كذلك في مناطق متعددة في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر. جزئيا، كان هذا ثمرة المزج الفكري والمؤسسي الذي شهدنا بدايته في القرن الحادي عشر، عندما تكون علم رسمي للصوفية إلى جانب المناهج الدراسية والمدارس التي ظهرت من خلال العقيدة الإسلامية الحنيفة التي دعمها الأتراك السلاجقة، وهي عملية تجسدها تعاليم الغزالي (المتوفى عام 1111) وحياته المهنية.
1
إن التوسع المستمر لنظام المدارس والخانقاوات ساعد بالتأكيد الصوفيين في القرون التي تلت القرن الثاني عشر، ليس فقط في الأراضي العديدة التي بسط عليها السلاجقة نفوذهم بين الأناضول وخراسان، بل أيضا كجزء من عملية «إحياء المذهب السني» المتعمدة في مصر وسوريا، بعد سقوط حكم الشيعة الإسماعيلية فيهما لصالح الحكم الأيوبي عام 1171.
2
وبينما ظل هذا الرابط بين الصوفيين والسلاطين والمؤسسات السنية عاملا مهما، فإن التوسع غير المسبوق للنفوذ الصوفي في القرون التالية يعود أيضا إلى حد كبير لحدوث تطورات جديدة. إن هذه التطورات - المتمثلة في التنويع وإنشاء المؤسسات، واكتساب القداسة، وإضفاء الطابع المحلي على تعاليم الصوفية - هي التي يركز عليها هذا الفصل من أجل أن نفهم السبب وراء هذا العدد المتزايد من الأشخاص والأماكن، المنضم تحت لواء الإسلام الصوفي، في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر. ونظرا لأن المؤرخين رأوا في السابق أن هذه الفترة كانت فترة «انحطاط» صوفي، كان فيها التصوف الحقيقي قربانا على مذابح الولاية، فمن المهم أن ندرك علاقة كل عملية من هذه العمليات بما حدث قبلها. لقد كانت مؤسسات الطرق الصوفية الأكثر رسمية، ومعتقدات الولاية الأكثر تعقيدا التي ميزت هذه الفترة الثانية؛ تعتبر في السابق أعراض انحدار روحاني، إلا أننا عندما نرى علاقتها بالأفكار والممارسات التي كونها الصوفيون قبل القرن الثاني عشر، سوف نستطيع أن نرى كيف نشأت التطورات الجديدة عن استخدام الصوفيين المتأخرين لمصادر تقليدهم، أثناء محاولتهم الجاهدة فهم الظروف الاجتماعية الجديدة التي كانوا يعملون في ظلها والاستفادة منها.
قبل الالتفات إلى هذه التطورات، من المهم التأكيد على مدى الاختلاف بين الظروف القديمة والظروف الجديدة؛ فلقد رأينا بالفعل كيف أن الأتراك السلاجقة في منتصف القرن الحادي عشر اكتسحوا غربا في سلسلة من الغزوات امتدت من آسيا الوسطى حتى الأناضول. وكما هو الحال مع الكثير من الأسر الحاكمة التركية في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر؛ فقد دخل السلاجقة البدو في الأصل في تحالف مع طبقة علماء المسلمين المستقرة، الذين عملوا موظفين في إدارة الدولة، فحموا وناصروا في النهاية الأسس الشرعية والعلمية للحياة الإسلامية الحضرية. لم ينطبق الأمر نفسه على المجموعة البدوية الرئيسية التالية التي توسعت غربا؛ ففي عهد جنكيز خان وأبنائه، ما بين عشرينيات وستينيات القرن الثالث عشر، دمرت فعليا الجيوش المغولية الشامانية كثيرا من مدن خراسان (بما فيها نيسابور)، وغزت بغداد في نهاية المطاف؛ حيث وضعوا نهاية لنظام الخلافة الذي كان قد منح القيادة الرمزية على الأقل للمجتمع الإسلامي منذ وفاة النبي محمد. وقد تجاوز الشعور بما خلفته غزوات المغول من رعب ودمار المناطق التي تعرضت لهذا التأثير مباشرة؛ ففي كل من الحدود الغربية والشرقية للتوسع المغولي، استحوذ الجنود العبيد المعروفون باسم المماليك - الذين كانوا مكلفين بحماية سلاطينهم - على سوريا ومصر والهند. واستقبل الشرق والغرب على حد سواء تدفقات هائلة من اللاجئين، كان من بينهم الكثير من عائلات العلماء والصوفيين.
وحتى في الوقت الذي دمر فيه جزء كبير من مهد الصوفية في العراق وخراسان، كانت توجد فرص جديدة. إن رغبة الحكام المماليك في إثبات شرعيتهم الدينية جعلتهم يرعون الكثير من المساكن الصوفية الجديدة في المدن، أو يمنحون الأراضي في الريف، في حين زاد تدفق اللاجئين من سرعة انتشار التعاليم الصوفية. وقد استغرق الحكام المغول الجدد للأراضي الإسلامية الوسطى قرابة قرن حتى يدخلوا في الإسلام، وعندما اعتنقوه وجدوا في الصوفيين حماة وشيوخا لهم. وإذا كانت قرون الاضطراب تلك قد أسفرت عن مجتمعات مختلفة جدا عن تلك التي ظهرت فيها الصوفية لأول مرة، فإنها أتاحت أيضا فرصا للصوفيين لربط أنفسهم بنطاقات من المؤيدين أكبر من أي وقت مضى؛ فكسبوا قلوب وأموال الحكام البدويين «الخانات»، وأيضا سكان الحضر والفلاحين الذين حكموهم؛ فقد وصل الصوفيون من خلال تنويع معتقدهم، وإضفاء الطابع المحلي على تعاليمهم، وتكوين الطرق والطوائف، وتبجيل الأولياء؛ إلى نقطة أصبح فيها الإسلام فعليا لا يمكن فصله عن رموزهم وأفكارهم ومؤسساتهم. (2) تنويع المعتقد الصوفي
النجاح يولد نجاحا، وما حققه الصوفيون بحلول القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر من مكانة راسخة، شجع عددا أكبر من المسلمين على ترديد أفكارهم الدينية؛ باستخدام المصطلحات المحترمة التي ابتكروها على مدار القرون السابقة. وقد أصبحت الصوفية الآن في حد ذاتها تقليدا له نسب يعود إلى زمن النبي محمد، في حين عززت علاقات كثير من ممثليها البارزين بالطبقة الحاكمة تأثيرهم في الوقت الحاضر ودورهم في تشكيل مستقبل مجتمعاتهم. إن المكانة الراسخة التي وصلوا إليها لا تعني أن حركتهم استنفدت طاقة استمراريتها، بل يمكن أن نرى أن الاحترام الذي اكتسبه الصوفيون في الفترة الأولى قد أتاح عملية التنويع التي نراها في القرون ما بين القرن الثاني عشر والقرن الرابع عشر. وبالنسبة إلى الصوفيين، كانت هذه القرون ذات إنتاج نصي هائل، ليس فقط بسبب وجود عدد أكبر من الصوفيين، بل لأنهم كانوا يوسعون أيضا نطاقهم الأدبي خارج حدود الكتابة باللغة العربية. كانت مجموعة الأفكار المتنوعة التي استعرضت في هذه الفترة مذهلة في حد ذاتها، فضلا عن الردود والاستجابات، والتأملات والتعليقات التي أثارها كل عمل من هذه الأعمال البارزة. ولفهم ما كان جديدا وسط هذا العدد الهائل من المؤلفات، سوف نلقي نظرة على الطريقة التي تنوع من خلالها إرث القرون الأولى، من خلال فحص موضوعات أساسية مثل النور والوجود والولاية، بالإضافة إلى الشخصيات الأساسية التي ارتبطت بها. لقد أصبحت هذه الموضوعات والمعتقدات، والنصوص التي فصلت فيها، مواد مهمة في الترسيخ الخطابي للتقليد الصوفي.
شكل 2-1: تنويع المعتقد: مخطوطة من العصور الوسطى لكتاب «المشارع والمطارحات» ليحيى السهروردي (المتوفى عام 1191) (تصوير: حسين ضيائي، بإذن من مكتبة جامعة لايدن).
كان «النور» أول هذه الموضوعات؛ وكما رأينا في الفصل الأول، كان النور بالفعل موضع نقاش بين الصوفيين أمثال التستري والغزالي، أما في كتابات شهاب الدين السهروردي (المتوفى عام 1191)، فقد خضعت الأفكار السابقة للتنظيم والمراجعة، وقدمت في صورة رؤية فلسفية متماسكة كان النور فيها أساسا لعلم الوجود وعلم المعرفة؛ فكل شيء في الكون موجود على هيئة نور، وكل عمل معرفي يعد تعبيرا عن النور.
3
ونظرا لميلاد السهروردي في شمال إيران، فقد كان يرى نفسه وريثا لتقاليد عديدة من «الحكمة»، وقدم نظامه على أنه توضيح لما كان معروفا في السابق للإغريق الوثنيين والإيرانيين الزرادشتيين وأيضا الصوفيين الأوائل.
4
وعلى الرغم من أن احتمالية اعتباره هو نفسه صوفيا مسألة محل شك، فإنه بالتأكيد قد قضى وقتا كبيرا بصحبة الصوفيين، واستفاد من أفكارهم السابقة، وأثر على أفكارهم اللاحقة.
5
كان أعظم أعمال السهروردي هو «كتاب حكمة الإشراق»؛ في هذا الكتاب، وضع إطار ما أطلق عليه حكمة «الإشراق» (في إشارة إلى فكرة النور الأساسية)؛ حيث إن الشرق هو المكان الذي تشرق منه الشمس على الأفق الداخلي والأفق الخارجي؛ حيث يشرق نور المعرفة.
6
يرى السهروردي أن الكون وكل سكانه يتكونون في الأساس من النور المنبعث من الله، الذي هو نفسه ليس إلا نورا صافيا ذاتي الوجود. وأسفل الله يوجد الكون في صورة هرمية مكونة من كائنات نورانية، نورها (ومن ثم وجودها) نابع تماما من نور الله ومعتمد عليه. وكل كائن نوراني في هذه الهرمية السماوية يستمد النور من فوق ويعكسه لأسفل؛ أي يستمده من الله من خلال العوالم الملائكية إلى عالم البشر، ثم يرسله لأسفل إلى مستويات الحيوانات والنباتات والجمادات، كما أن كل شيء في الكون يوجد كدرجة من النور المستمد من الله، المنقول عبر هرمية الأنوار الكونية. ويرى السهروردي أن الهدف البشري - سواء أكان هدف أفلاطون في أثينا أم هدف الجنيد في بغداد - هو ارتقاء هذه الهرمية من خلال التواصل مع كل كائن من كائناتها النورانية واحدا تلو الآخر. وهذه الكائنات النورانية هي ما يطلق عليها الأشخاص العاديون ملائكة، وأهم ملك فيهم - بحسب رأي السهروردي - هو جبريل الذي نزل بالقرآن على النبي محمد، وهو «العقل الفعال» الذي ناقشه الفلاسفة. في هذا الصدد، نجد إعادة تشكيل لنموذج الطريقة الصوفية المكونة من أماكن على طريق رحلة عبر مراحل الوجود، التي هي نفسها عبارة عن أشكال من النور المتزايد النقاء الموصوف في آية النور في القرآن، والتي كتب الغزالي فيها رسالة قصيرة قبل ما يقل عن قرن.
وضع السهروردي بين العالم المادي والعالم الملائكي عالما وسيطا أطلق عليه «عالم المثال». كان هذا العالم الذي يمتلك شكلا ولا يمتلك جوهرا هو مكان التقاء البشر والكائنات الملائكية، وكان أيضا المكان الذي يذهب إليه البشر عندما يشاهدون الرؤى والأحلام. وكان لمكان الالتقاء الشفقي هذا بين الملائكة النورانية والأرواح الظلية للبشر أهمية محورية في نظام السهروردي؛ ففي هذا المكان يمكن للبشر أن يبدءوا في جمع «العلم الحضوري» (أي: المعرفة الناتجة عن التجربة)، الذي اعتبره أعلى من «العلم الحصولي» (أي: المعرفة المحصلة من الكتب والدروس)؛ لأن المعرفة في الرؤي لم تكن معلومات مكتسبة على نحو سلبي، بل تجربة حدثت على نحو نشط.
7
وعلى نحو يجمع ما بين وصف التجارب الشخصية والقصص الرمزية لنظامه الفلسفي، وفي بعض من الأمثلة المبكرة لكتابات نثرية مكتوبة بالفارسية، كتب السهروردي سلسلة من «الرسائل الرؤيوية» وصف فيها اجتماعاته مع الكائنات الملائكية النورانية.
8
وعلى الرغم من أن كتاباته المذهلة قدمت إسهامات في مجالات متنوعة مثل المنطق وطب العيون، فإن أهم هذه الإسهامات هي إعلاؤه المعرفة المكتسبة عن طريقة التجربة التصوفية على المعرفة الأقل شأنا المكتسبة من الكتب، وهذا على الأرجح انحراف جذري عن محاولة المنهج الصوفي السائد إخضاع التجربة الشخصية إلى سلطة التقليد، على النحو المبين في القرآن والحديث وتفسيرهما النصي عن طريق الشريعة. ونظرا لإعلانه هذه المزاعم في حلب، إحدى القواعد الرئيسية للإحياء السني، حيث كان كثير من الصوفيين سعداء بامتثاليتهم، فعلى الأرجح ليس بالأمر المفاجئ أن السهروردي حكم عليه بالإعدام وهو في سن الثامنة والثلاثين؛ فنموذجه الخاص بالمعرفة، ومن ثم السلطة، مثل تهديدا لمركزية النص القرآني الموحى به والعلماء والصوفيين التقليديين الذين كانوا مفسريه.
على الرغم من ذلك، ومنذ وقت السهروردي نجد عددا متزايدا من الصوفيين يتجرءون على وصف تجاربهم الرؤيوية بتفاصيل واضحة وصادمة على الأرجح في زمنها.
9
صحيح أن بعض الصوفيين الأوائل قد وصفوا تجاربهم التصوفية، كما رأينا في العراق في «كتاب المواقف» للنفري، وفي روايات أحلام زوجة الترمذي، إلا أن هذه الأوصاف كانت عادة إما مختصرة (كما في حالة الترمذي) وإما مراوغة للغاية (كما في حالة النفري)، أما الروايات النادرة الأكثر جرأة (مثل روايات عروج أبي اليزيد البسطامي إلى السماء)، فيشوبها الجدل. لكن بداية من القرن الثاني عشر، فإننا نجد أوصافا لهذه التجارب ليست فقط أكثر وضوحا، لكنها اكتسبت أيضا مكانة كافية بحيث تستخدم كدليل على كون صاحبها من أولياء الله. وقد وصفت روايات هذه الأحلام والرؤى على نحو صحيح بأنها «خطاب ولاية» جديد، عزز عملية تقديس الأولياء الأوسع نطاقا التي سنتناولها فيما يلي.
10
على سبيل المثال: في كتاب «كشف الأسرار» الذي كتبه روزبهان البقلي (المتوفى عام 1209) في جنوب إيران، يرى القراء مجموعة من الرؤى المجسمة لله على نحو مذهل. في إحدى هذه الرؤى، يظهر الله أمام روزبهان في صورة تركي فاتح البشرة يعزف على الناي نغمات بكى روزبهان من حلاوتها.
11
وفي رؤية أخرى، يقابل روزبهان النبي محمدا ويراه مرتديا رداء ذهبيا وعمامة ذهبية، يجلس سكران وسط بحر خمر أحمر، يغترف قدحا تلو الآخر، وقد سقى روزبهان حتى جلسا ثملين معا.
12
كتب الكثير من اليوميات التي تسرد مثل هذه الأحلام والرؤى، من بينها الأحلام المائة والتسعة، التي كتبت بعد قرنين على يد الصوفي الجزائري محمد الزواوي (المتوفى عام 1477).
13
الأمر المثير في أحلام الزواوي هو علاقتها بالعالم المادي الذي تنقل خلاله؛ لأن الفترة الأشد تأثيرا في هذه الأحلام حدثت أثناء رحلة لمصر، وفي هذه الرحلة لعبت هذه الأحلام دورا في إضفاء السمو على تجاربه الواعية في الأماكن التي زارها، والتأكيد على حقيقتها بطريقة ما. وفي هذه الفترة كانت مصر تعج بأضرحة الصوفيين، وكان الزواوي بعد زيارة تلك الأضرحة نهارا، يعود ليلا في أحلامه للتحاور مع سكانها من الأموات، الذين يؤكدون له مكانته العالية ويعطونه حلل المكانة السماوية.
بهذه الطرق، شكل الوصف والتنظير المتزايدان للأحلام والرؤى وسيلة لاكتساب المعرفة والسلطة، يمكن على نحو بديل أن تكمل أو تعارض المعرفة والسلطة المكتسبتين من خلال التمكن من التراث النصي للتقليد. وهذا لا يعني أن الصوفيين من خلال هذه الأحلام والرؤى رفضوا تأكيدهم على التقليد، بل يعني أن هذه التجارب كونت وسيلة بديلة وأعلى في الغالب للوصول للتقليد، وبالطبع التفاعل معه. وكما سيشهد عدد متزايد من الصوفيين في كتاباتهم، فقد كان من الممكن لقاء أي شيخ من شيوخ الصوفية السابقين، وحتى الأنبياء، عن طريق تلك الوسائل الرؤيوية. إن ما نراه يحدث في هذا الصدد هو استخدام الحلم والرؤية باعتبارهما تقنية ثقافية تمكن الصوفيين من تجاوز حدود الزمن ومعرفة الأمور الغامضة في النص القرآني، من أجل أن يطرحوا بوضوح الأسئلة على رسل الله وجها لوجه. أما المشكلة المعرفية لهذه الأحلام - المتمثلة في أن الطبيعة الشخصية لهذه التجارب جعلت مزاعم المعرفة التي قالوها بطبيعتها من الصعب التأكد منها - فتغلبوا عليها من خلال الاستناد إلى حديث قال فيه النبي محمد: «من رآني فقد رآني حقا.» واعتبر معنى هذا الحديث أن الشيطان لا يستطيع أن يتمثل في صورة النبي؛ وهذا يعني أن مشاهدة النبي في أي رؤية أو حلم هي حقيقية بالضرورة، وباستخدام السلطة النصية لهذا الحديث، أصبحت هذه الأحلام والرؤى ذاتية التأكيد. لقد رأينا زوجة الحكيم الترمذي تحلم بأن زوجها أصبح من أولياء الله في وقت مبكر في القرن التاسع، وفي الأدبيات الرؤيوية الأكثر عددا التي تعود للقرن الثاني عشر فصاعدا، قدم قليل من الصوفيين على أنهم مفتقرون إلى هذه البراهين الرؤيوية المبينة لمكانتهم العالية وحكمتهم الكبيرة.
كان هذا ينطبق بصفة خاصة على المنظر الصوفي الأكثر تأثيرا في فترة العصور الوسطى، وربما في أي فترة أخرى، محي الدين بن عربي، المولود في الأندلس، والذي (توفي عام 1240). ولد ابن عربي في مرسية لأسرة عربية من النخب تعمل في مجال القضاء، وقضى سنوات تكوينه بين الصوفيين في الأندلس ومنطقة شمال أفريقيا الملاصقة لها ثقافيا، قبل الانتقال إلى منطقة شرق البحر المتوسط في أواخر ثلاثينياته.
14
واستقبل هناك بجدل بين العلماء وبحفاوة بين الأمراء، ونظرا لوصوله إلى سوريا بعد عقد من إعدام السهروردي، فقد كان أوفر حظا في صداقاته، وتوفي في دمشق في سن كبيرة ناهزت الخامسة والسبعين. زعم ابن عربي - الشيخ الأعظم بين كل الصوفيين أصحاب الرؤى - أنه يمتلك القدرة على استحضار أي روح من أرواح الأموات أمامه في أي لحظة، وزعم أنه تحدث بانتظام إلى أرواح الأنبياء عيسى ومحمد وموسى. وفي صدى واع لنزول الوحي بالقرآن على محمد، زعم ابن عربي أنه قد أوحي إليه بكتابه الرائع «الفتوحات المكية» في أثناء طوافه بالكعبة في مكة المكرمة.
15
ظهرت هذه الجرأة في كل أفكاره، وكما سنرى لاحقا، فإن كتابته المطولة عن نزول الوحي على محمد، ظهر صداها عندما زعم أن الولاية أعلى مكانة من النبوة، ولبت هذه النظرية جيدا الحاجة إلى إعادة إنتاج سلطة دينية في عصر كان يرى فيه أن النبوة انتهت للأبد.
16
ومن جانبه، رأى ابن عربي نفسه «خاتم الأولياء» الذي تحقق في كيانه المحيطي إبداع الله اللانهائي تحققا كاملا.
بينما تمثلت أهمية السهروردي في التنظيم المنهجي لأفكار النور في الجيل السابق، فإن أكبر إسهامات ابن عربي هي فكرة «الوجود». فبسبب تأثيره، اندرج الاهتمام الصوفي السابق بالأخلاق العامة والتقوى النافلة والبحث عن معرفة معينة داخل رؤية أوسع للوجود الكوني، كان محور الاهتمام فيها التحقيقات اللانهائية للكائن المبدع. لم يقدم ابن عربي بالضرورة مفاهيم جديدة، ومثل غيره من الصوفيين قبله وبعده، كتب داخل الإطار الخطابي للتقليد الإسلامي، وكانت المواد الخام لأعماله هي القرآن والحديث والمصطلحات الخاصة التي وضعها أجيال الصوفيين الأوائل، وباستخدام هذه المصادر استكشف مضامين «الحديث القدسي» الذي قال الله فيه: «كنت كنزا مخفيا فخلقت الخلق.» وباستخدام المصطلح القرآني «برزخ» - الذي أخذه ابن عربي على الأقل بمعنى «حائل» أو «حاجز» - كون فكرة أن الوجود البشري كان في حد ذاته هذا الحائل بين المادة والروح اللتين كانتا المحورين البعيدين للخلق.
17
ومن ثم، كان الإنسان المكان القرآني المسمى «مجمع البحرين» الذي يمكن أن تجتمع فيه كل مستويات الوجود، وكل أشكال المعرفة، وكل التجارب الممكنة، على نحو لم يكن ممكنا حتى للملائكة (ولهذا السبب، أمر الله الملائكة بالسجود لآدم).
18
وبينما لا يمتلك كل البشر هذه الإمكانيات الرفيعة - التي تفرق العوام عن الأولياء والأنبياء - فإن الأشخاص الذين يمتلكون تلك الإمكانيات هم سبب الخلق؛ لأنهم وفقا لكلمات الحديث القدسي هم من اكتشفوا الكنز الإلهي من خلال إدراك كل إمكانيات أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين. واعتمادا على فكرة السهروردي المتمثلة في عالم المثال الذي يلتقي فيه الصوفي مع عوالم الوجود الأخرى، تحدث ابن عربي على نحو مطول في الفكرة القائلة: إنه من خلال القدرة الخلاقة للخيال وصل الله والبشرية كل منهما للآخر.
19
ونظرا لأنه قيل عنه إنه كان يملأ دفترا في كل يوم من حياته الراشدة، وإن كتاب «الفتوحات المكية» وحده يقع فيما يزيد عن 15 ألف صفحة، فإن حياته المهنية كانت تعبيرا حقيقيا عن الإيمان بالقوة الخلاقة للخيال. وكانت فكرة «أن كل الوجود هو في نهاية المطاف وجود الله» في صميم فكره؛ تلك الفكرة التي تجمع معا الاستقصاءات المتعلقة بالوجود الإلهي، التي رأى أن التاريخ البشري بأكمله يشتمل عليها. أصبحت هذه الرؤية ملخصة في مصطلح «وحدة الوجود»، على الرغم من أن ابن عربي نفسه لم يستخدم هذا التعبير مطلقا، وهذا المفهوم نوع من الواحدية الكونية التي سيلخصها كثير من الصوفيين الفارسيين لاحقا في عبارة: «الكل هو الله!»
وعلى الرغم من أن هذه الأفكار قد تبدو غامضة، فربما كان لها الكثير من الفوائد الاجتماعية الملموسة؛ على سبيل المثال: اعتقد أن فكرة وحدة الوجود آلية تمكين للتناغم بين الأديان مع المجموعات المختلفة التي صادفها المسلمون. وكثير من الشعراء (بمن فيهم ابن عربي نفسه) قالوا إنه إذا كان الله موجودا في كل مكان، فإنه يمكن أن يوجد في مكان عبادة الأصنام مثلما يوجد في المسجد.
20
بطبيعة الحال، كان الخطر الواضح لفكرة أن البشر مكونون مما مكون منه الله هو هدمها للفرق بين الخالق والمخلوق، بالإضافة إلى هدم التهديد بالعقاب الإلهي الذي يقوم عليه النظام الأخلاقي. وفي حين كان ابن عربي في نظر أتباعه «الشيخ الأكبر»، كان في عيون منتقديه «الشيخ الأكفر».
21
على الرغم من ذلك، فقد انتشر فكر ابن عربي انتشارا واسعا على نحو مذهل؛ من ناحية بسبب الزيادة التدريجية لتأثيره، ومن ناحية أخرى بسبب جهود مجموعة من أتباعه المجتهدين، الذين ضموا صدر الدين القونوي (المتوفى عام 1274) في الأناضول، وفخر الدين العراقي (المتوفى عام 1289) في الهند، ومحمود الشبستري (المتوفى عام 1340) في إيران، ومحمد وفا (المتوفى عام 1363) في مصر، وعبد الكريم الجيلي (المتوفى عام 1408 أو 1428) في العراق، ومحمد بن سليمان الجزولي (المتوفى عام 1465) في المغرب.
22
ومن ناحية الأفكار النظرية، إن لم يكن بالضرورة من ناحية التنظيم الاجتماعي ووسائل التواصل، فإن الصوفية بعد القرن الرابع عشر كانت مدينة على نحو هائل لعمق تفكير وإنتاجية ابن عربي، ابن الأندلس.
حدثت هجرة ابن عربي إلى منطقة شرق البحر المتوسط على خلفية سقوط مسقط رأسه مرسية في يد مملكة قشتالة، ومن المناسب القول بأن العقود الأخيرة من حياته قضاها بأمان في عاصمة صلاح الدين الأيوبي، قاهر الصليبيين العظيم. وكانت الحياة المبكرة للعظماء الآخرين من منوعي الفكر الصوفي في هذه الفترة شاهدة على نحو مشابه على تراجع القوة الإسلامية؛ ففي مقابل هروب ابن عربي إلى الشرق، هرب جلال الدين الرومي (المتوفى عام 1273) في صباه إلى الغرب، بسبب التقدم المغولي باتجاه خراسان، ليعيش في أمان قونية عاصمة السلاجقة في الأناضول. وإذا كان ابن عربي عادة ما يعتبر أعظم منظري الصوفية، فإن الرومي يعتبر عادة أعظم شعرائها.
23
وبينما سنتطرق إلى الجوانب الأكثر أدبية في عمل الرومي، عندما نناقش لاحقا موضوع إضفاء الطابع المحلي على الصوفية، فالمهم هنا هو الطريقة التي من خلالها جعل الحب محوريا في نسخته من الطريقة الصوفية. صحيح أن الرومي لم يكن على الإطلاق أول الصوفيين الذين طرحوا فكرة أهمية الحب بين البشر، بيد أننا لا نتعامل مع سياق ثقافي كانت تعتبر فيه الأصالة والابتكار من الفضائل. هذا لا يعني أن الناس كانوا غير قادرين على ابتكار أفكار جديدة، بل يعني أنهم كمشاركين في تقليد يتمتعون بالوعي الذاتي قدموا أنفسهم في صورة من يستخلص الحقائق نفسها التي أدركها الأنبياء والشيوخ الصوفيون السابقون. هذا ما حدث في حالة تصوف الحب الذي قدمه الرومي الذي نشأ عن مناقشات قديمة عن الحب قدمها صوفيون؛ مثل أبي الحسن الديلمي (المتوفى في القرن العاشر)، وأبي الفتوح أحمد الغزالي (المتوفى عام 1126).
24
يمكن تلخيص هذا التحول في الأفكار على أنه تحول للحب من صفة مكتسبة لا بد أن يكنها السالك إلى الله، إلى صفة مطلقة لله نفسه، التي من خلال الانهماك فيها يصل السالك إلى أبعد نقطة في الطريقة الصوفية. وعلى النقيض من السهروردي وابن عربي، لم يكن الرومي منظرا، والسبب في شهرته يعود إلى حد كبير إلى إنتاجه الشعري مقارنة بإنتاجه الفكري، على الرغم من أنه عندما استخدم أشكال الشعر السردي، كما سنرى لاحقا، أصبح الشعر نفسه وسيلة لنقل تعاليمه. وبينما لا يعدو الرومي عن كونه واحدا من عدد من الصوفيين الذين طرحوا، بداية من القرن الثاني عشر، فكرة الحب باعتباره وسيلة وغاية للطريقة الصوفية، فإنه من خلال تكوين خلفائه طائفة صوفية أصبح الأكثر تأثيرا بين متصوفي الحب هؤلاء. وحتى بعيدا عن التأثير المباشر لطائفته، فإن انتشار نسخ وإنشاد مخطوطات قصيدته السردية الرائعة - التي سيطلق عليها لاحقا «القرآن الفارسي» - جعل كثيرا من الصوفيين من الأناضول حتى الهند وآسيا الوسطى يعتبرون طريقة الرومي في الحب الطريقة الأسمى (وإن كانت الأكثر غرابة) من بين الطرق العديدة للوصول إلى الله.
ومع تنويع الصوفيين لأفكارهم في القرون التالية للقرن الثاني عشر، استمروا على نحو واع في الاعتماد على التقليد القديم الذي اعتبروا أنفسهم ورثة له. كان الصوفيون دءوبين للغاية في محاولات السير على الطريقة التي وضعتها الأجيال السابقة التي عرفوها من خلال سلاسلهم وسيرهم، لدرجة أن صوفيي فترة العصور الوسطى كانوا غالبا ما يدرسون معاجم خاصة تسرد المصطلحات الفنية المقدسة.
25
وكما سنرى لاحقا، فحتى عندما بدءوا الكتابة بلغات أخرى غير العربية - لغة القرآن ولغة الصوفيين الأوائل في العراق - استخدموا المصطلحات العربية هذه بصفتها كلمات مقترضة في اللغات التي تتنوع في نهاية الأمر من الفارسية والتركية إلى اللغة الولوفية واللغة الملايوية. مرة أخرى، فإن هذا التوجه التقليدي لم يمنع حدوث تطورات جديدة، ولا يظهر ذلك على نحو أكثر وضوحا إلا في جماعات «القلندريين» (وكلمة «قلندر» تعني «الخارج عن الأعراف»)، التي تكونت تقريبا منذ القرن الثالث عشر على صورة مجموعات من الصعاليك الصوفيين المتجولين.
26
وسواء من خلال التجول عرايا، أو تعاطي المخدرات والخمر علنا، أو تعذيب الأجساد بالمسامير والجنازير، رفض القلندريون عمدا كل الأعراف الاجتماعية بطريقة كانت مناقضة تماما للتيار الصوفي السائد الملتزم. وعلى الرغم من زعمهم أن الطريقة الصوفية الحقيقية تكمن في التخلي عن كل شيء، بداية من الممتلكات والاحترام وحتى العائلة والقانون، فقد استخدموا أيضا مصطلحي الفقر وإذلال الذات، اللذين قد أصبحا في ذلك الوقت من المصطلحات الصوفية التقليدية، كي يزعموا أنهم الصوفيون الوحيدون الذين ينفذون الأفكار النظرية عمليا. إذا كانت المجازات والمصطلحات نفسها تتوارث، فمن الممكن أن تتغير على نحو كبير السبل التي تستخدم بها؛ فالتقليد عبارة عن مصدر مرن. وأوضح مثال على ذلك هو تغير الطريقة الصوفية نفسها، التي أصبحت منذ القرن الثاني عشر تشير إلى تكوينات اجتماعية لم تكن موجودة في السابق. في الفصل الأول، شهدنا بالفعل حدوث تطورات مؤسسية معينة في خراسان ستجعل التقليد مصدرا أكثر استقرارا وقابلية لإعادة الإنتاج. إلا أنه ما بين القرن الثاني عشر والقرن الرابع عشر ستكتمل هذه العملية من خلال الدمج المفاهيمي والتنظيمي للطريقة في مجموعة من «الطرق أو الطوائف» الصوفية. وإلى هذه المؤسسات الجديدة لا بد أن نلتفت الآن. (3) إضفاء الطابع المؤسسي على الطريقة الصوفية
رأينا في الفصل الأول كيف قدم الصوفيون الأوائل منهجهم في صورة «طريقة»، وكيف اكتسبت تلك الطريقة على مدار القرن الحادي عشر سمتا رسميا على نحو أكبر من خلال وضع قواعد لها، وكيف اكتسبت طابعا مؤسسيا على نحو أكبر من خلال تأسيس الخانقاوات. سوف نلتفت هنا إلى العملية التي من خلالها ترسخت وتوسعت هذه التطورات، لا سيما التطورات التنظيمية والمفاهيمية ذات الصلة، التي واجه قادة الصوفيين من خلالها العقبات الأساسية المتمثلة في إعادة الإنتاج عبر الزمان والمكان، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بقدر من الاتساق؛ من خلال تكوين آليات لتوحيد الممارسة والمعتقد.
27
رأينا بالفعل كيف أن تكوين إحساس بوجود «تقليد» قد شجع الصوفيين على أن ينظروا إلى طريقتهم باعتبارها شيئا موروثا عن شيوخهم، الذين عاشوا في أزمنة سابقة وفي أماكن أخرى. إلا أن إدراك وجود تقليد ليس مثل وجود آلية فعلية له؛ فمن الممكن أن يعتقد المرء أنه ينقل تعاليم القدماء دون أن ينقلها في واقع الأمر. ما نشهد ظهوره بين منتصف القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر هو آليات التقليد الأكثر رسمية.
هذا لا يعني القول إن تلك الآليات لم تكن موجودة تماما بين الصوفيين الأوائل، الذين كانوا غالبا مهتمين جدا بوسائل نقل المعرفة التي طورها حفظة القرآن وجامعو الحديث. إلا أن وسائل نقل المعرفة تلك لم تكن آليات تقليد صوفية مميزة؛ فبينما كانت السبل الرسمية للتعليم والانتساب والتنظيم، التي شهدنا ظهورها حول نيسابور، مميزة إلى حد كبير (على الرغم من أنها لم تكن كذلك على نحو كامل)، فقد كانت على الرغم من ذلك وسائل محددة نسبيا مختصة بشيوخ معينين في أماكن معينة؛ فهي لم تكن قد تطورت بعد لمستوى آليات التقليد القادرة على إعادة إنتاج الطريقة الموحدة والخاصة بأحد الصوفيين عبر الزمان والمكان. ومن أجل فعل ذلك سيحتاج الصوفيون إلى تكوين شبكة توزيع جغرافي أكثر رسمية، ونظام توارث عابر للأجيال، بالإضافة إلى آليات «وسم» مميزة على نحو أكبر قادرة على تمييز تقليد كل شيخ عن تقليد الشيوخ الأخرى. وكان تكوين هذه الآليات هو السبب وراء ما يراه المؤرخون عادة تكوينا ل «الطرق» أو «الطوائف» الصوفية، ذلك التكوين الذي كان إدراكه صعبا بسبب استخدام الصوفيين أنفسهم مصطلح «الطريقة» للإشارة إلى كل من الطريقة الصوفية المصاغة على نحو غير محكم في القرون الأولى، وإلى الطرق الصوفية المنظمة التي تعود للفترات اللاحقة.
ونظرا لأن المؤرخين قد اختلفوا حول وقت ظهور تلك «الطرق» ذات الطابع الرسمي (وربما حول ظهورها من الأساس)، فمن المفيد الانتباه إلى أننا نتناول في الأساس تكوين آليات إعادة إنتاج التقليد، ووفقا لأغراضنا على الأقل، فإن تلك الآليات الثقافية هي التي نشير إليها عند الحديث عن الطرق الصوفية؛ إذ على الرغم من أن بعض جوانب هذه الآليات كانت تنظيمية ومؤسسية على النحو الذي يوحي به عادة مصطلح الطريقة الصوفية، فإنها حازت على التمكين، وخضعت لتأثير عمليات التقليد غير الملموسة والأكثر تأثيرا في نهاية المطاف على أنها آلية مفاهيمية ورمزية؛ ومن ثم، يجب ألا نتوقع أن تكون الطرق الصوفية في تلك الفترة مؤلفة من منظمات معقدة ذات أعضاء رسميين وهرميات إدارية فعالة. وبينما كانت تلك الطرق بكل تأكيد أفضل تنظيما في بعض المناطق عن غيرها، فإن هذه الأنواع من التنظيمات الصوفية الأكثر تعقيدا كانت تنتمي في الغالب للإمبراطوريات البيروقراطية في فترة أوائل العصر الحديث، التي سأتناولها في الفصل الثالث. إن غياب هذا التعقيد لا يعني أننا لا نستطيع الحديث عن طرق صوفية على الإطلاق في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر، ولا يعني عدم حدوث تطورات تنظيمية في هذه السنوات؛ بل يعني أن السبب في تماسك أعضاء تلك الطرق عبر الأجيال والمسافات الفاصلة بينهم كان روابط ارتباط مفاهيمية بقدر ما كانت مادية. وفي فترة العصور الوسطى، عملت تلك الطرق بالأساس كمجتمعات تنظيمية على المستوى المحلي، أو على مستوى المنطقة التي كان للسلطة القانونية أو لسلطة الاتصال المباشر فيها فرصة نجاح واقعية. وعندما احتاجوا إلى تقليل المسافات الكبيرة الفاصلة، سواء زمنيا أو مكانيا، اضطروا إلى العمل إلى حد كبير كمجتمعات مفاهيمية كانت فيها التبعية قائمة على روابط الذاكرة والخيال على نحو يفوق الروابط البيروقراطية والاتصال المباشر.
ونظرا للمدى المحدود للجوانب التنظيمية لآليات إعادة إنتاج وتوحيد التقليد، تلك التي أطلقنا عليها طرقا، دعونا نتطرق إليها أولا.
28
شهدنا بالفعل تكوين رؤية رسمية جديدة للطريقة الصوفية في خراسان في أواخر القرن العاشر وفي القرن الحادي عشر، والتي منها انتشر كثير من سماتها غربا بسبب إدارة السلاطين السلاجقة والسلاطين الأيوبيين من ناحية، وبسبب حركة الأفراد الصوفيين من ناحية أخرى. في واقع الأمر، في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر، كانت المساكن والأضرحة - التي جمعت منها الطرق الصوفية أتباعها في المدن والقرى - وسيلة مؤسسية لنشر المذهب السني؛ إذ منحت الديمومة للسياسات الدينية للحكام السلاجقة والأيوبيين والمماليك، الذين سعوا من الأناضول حتى مصر لتثبيت فتوحاتهم في أراضي المسيحيين البيزنطيين والشيعة الفاطميين، من خلال رعاية مؤسسات دائمة وسنية على نحو واضح، كان من بينها المساكن الصوفية.
29
ما بدأ في خراسان باعتباره تحالفا مؤقتا بين السلاجقة البدو الحديثي العهد في السلطة، وبين طبقة صاعدة من علماء الصوفية؛ أصبح تحالفا دائما ومتكررا بين الدين والدولة، سيصل في النهاية إلى منطقة تمتد من شواطئ البحر المتوسط حتى غابات البنغال. وحتى مع انهيار الكيانات السياسية الواسعة النطاق مع ظهور السلطنات الإقليمية والاضطرابات المتكررة الناجمة عن غزوات البدو، كون النسيج المفاهيمي والتنظيمي للطرق الصوفية شبكة مميزة، ستسمح للرحالة أمثال ابن بطوطة الشمال أفريقي (المتوفى عام 1368) بالعثور على رفقاء يشبهونهم في التفكير، ومساكن مرحبة في بيئات مختلفة على نحو مذهل بين المغرب والهند.
30
ومن خلال الأدلة المعمارية المحدودة الباقية، يمكننا أن نعلم أنه بحلول القرن الثاني عشر كانت بعض هذه المساكن تشيد بالفعل على طراز فخم، كما نرى في التزيين الجصي الرائع الذي بقي على المسكن المهيب المسمى رباط علي بن كرماخ (المتوفى تقريبا عام 1180)، والموجود بالقرب من مدينة ملتان في دولة باكستان حاليا.
31
كانت عناصر هذه الصوفية القائمة على الطرق الأكثر رسمية متعددة، ولم يكن يعاد بالضرورة إنتاجها كلها معا. كانت أهم تلك العناصر هي «العقدة» (أي رابطة الولاء) بين الشيخ والمريد التي تعقد عن طريق القسم، وهي علاقة اكتسبت صفة رسمية في بعض الحالات، من خلال وجود ميثاق «قواعد» يتعين على المريد طاعتها. وقد ارتبطت سلطة الشيخ وقواعد المريد بإنشاء مجمعات سكنية معينة، أصبحت مع انتشارها في مناطق مختلفة تعرف بأسماء متعددة هي «الخانقاوات»، و«الرباطات»، و«الزوايا»، و«التكايا». وبدأ يظهر بين مريدي الشيوخ أو ساكني المساكن الصوفية في السابق إحساس بالهوية الجمعية، دعمته قواعد الرفقة الاجتماعية أو «الصحبة» وطقس الانضمام «البيعة». وحاز كل تطور من هذه التطورات بدوره على الإجازة من خلال ارتباطه بالتقليد، ذلك التقليد الذي كان فيه الماضي المتذكر من خلال النصوص المكتوبة والروايات المتناقلة دعامة للحاضر. ما نرى حدوثه هنا من خلال تأسيس الطرق في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كان إلى حد ما ترسيخا وتوسيعا ل «نموذج نيسابور» للطريقة الصوفية، الذي رأيناه في الفصل الأول. وبوجه أكثر خصوصية، فإننا نشهد عملية «وسم» لنسخ متميزة من هذه الطريقة الأكثر رسوخا، وإعادة إنتاجها من خلال «كيانات» تحمل أسماء مؤسسيها المزعومين، وتوزيعها على «العملاء المناصرين».
انطوت عملية «الوسم» أو التمييز التخصيصي للطرق المميزة على مكونات عديدة؛ فأصبحت القواعد أكثر تفصيلا وتعقيدا، مما أدى إلى تكوين نوع جديد من الكتب، وهو «كتب آداب المريدين»، الذي لم يقتصر الهدف منه على ضمان التربية الصحيحة للملتحقين بالطرق، بل عمد أيضا من خلال تقديمه في صورة دليل تربوي إلى توحيد هذه التربية.
32
وتكونت ممارسات الطرق المختلفة عن طريقة اختيار وسائل معينة للذكر (بعضها جهري، والبعض الآخر سري)، وأساليب محددة للمراقبة، وطقوس محددة للانضمام إليها. ووضعت آليات جديدة لتمييز الهوية الجماعية للأعضاء من خلال تعديل المظهر الخارجي، سواء من خلال ارتداء رداء ملون يعرف باسم «الخرقة»، أو حلق الرأس، أو ارتداء أقراط، أو حمل أشياء مميزة. وهكذا، فإن غياب الوسائل غير الشخصية والرسمية للتنظيم الجماعي عوضته مظاهر التعريف الشخصي وغير الرسمي، التي كان يقوم بها أعضاء طريقة معينة. وفي مظاهر تعريف ذاتي مشابهة، أدرج المريدون أنفسهم في سلاسل البدء التي امتدت من شيوخهم وحتى الأجيال الموصوفة في كتب الطبقات؛ ومن ثم إلى النبي محمد نفسه. أما الحدود مع الطرق الصوفية الأخرى فلم يحددها المظهر الخارجي فحسب، بل حددتها أيضا التوجهات المختلفة تجاه المال أو الموسيقى أو حتى تعاطي المخدرات. وارتبطت الممتلكات المكتسبة من خلال الرعاية بطرق صوفية معينة، كونت أماكن إقامة أو اجتماع لمريديها، وأصبحت في المدن الكبرى تشمل مساكن خاصة بالصوفيات.
33
وبدأ الشيوخ في تعيين «خلفاء» (أي نواب) لهم لزيادة نشر طريقتهم الخاصة. ومع رأس المال الرمزي المتمثل في السلطة، ورأس المال المادي المتمثل في الممتلكات، بدأت أنظمة التوارث في الظهور أيضا، وفيها نافس حق الميلاد الانتساب كوسيلة مناسبة للإرث.
منحت هذه التطورات الصوفيين آليات التناسخ الأفقي والرأسي التي سمحت لهم بالتوسع في مناطق جغرافية جديدة، وسمحت أيضا بالاستمرار بعد وفاة شيوخ معينين. أما تكوين شبكات من النواب فقد مكن الطرق الصوفية من الانتشار في مناطق جديدة، في حين سمح التعرف على ورثتها بالاستمرارية من جيل إلى آخر. ومن الناحية النظرية - لكن ليس دائما من الناحية العملية - حقق أسلوب التعلم القائم على العلاقة بين الشيخ والمريد وقراءة ما يعرف بكتب آداب المريدين، قدرا من التوحيد في المعتقدات التي كان يعتنقها أعضاء الطريقة الواحدة، وكذلك الممارسات التي كانوا يمارسونها؛ وذلك عبر المسافة الفاصلة بين الأجيال والمناطق الجغرافية. مرة أخرى، إن ما نشهده في هذا الصدد هو التطور المستمر لتقليد يتسم بالوعي الذاتي، كان فيه اتباع الماضي والجماعة معيارا أكثر أهمية من الابتكار والفردية. وحتى عند السعي وراء التجربة التصوفية، كان السعي لها وفهمها يتمان داخل إطار ما فهم الصوفيون أنه يمثل الممارسات والأطر المفاهيمية الراسخة منذ زمن طويل. لم يحقق أي من هذه التطورات تأثيرا فوريا، ونظرا لكونها نشأت في أزمنة مختلفة بين طرق مختلفة، فلا يمكن تحديد تاريخ محدد لظهور أي منها. ونظرا لكون الطرق الصوفية آليات للتقليد في الأساس، فقد تطورت بالضرورة عبر الزمان؛ ومن ثم كان كل من ترسيخها وتوسعها عملية متعددة الأجيال بطبيعتها، اعتمدت فيها الأجيال المختلفة بعضها على بعض في لعب أدوار مميزة لكنها ضرورية، كمؤسسين ومحافظين وورثة وموزعين. وسيكون من السهل اعتبار الرجال الذين سميت كبرى الطرق الصوفية على أسمائهم المؤسسين الحقيقيين لتلك الطرق؛ ومن ثم تأريخ ظهورها وفقا لحياتهم الفعلية ، وهؤلاء الرجال هم: أبو نجيب السهروردي (المتوفى عام 1168)، وعبد القادر الجيلاني (المتوفى عام 1166)، وأحمد بن الرفاعي (المتوفى عام 1182)، وأحمد يسوي (المتوفى نحو عام 1166)، ونجم الدين الكبرى (المتوفى عام 1221)، ومعين الدين الجشتي (المتوفى عام 1236)، وأبو الحسن الشاذلي (المتوفى عام 1258)، وجلال الدين الرومي (المتوفى عام 1273)، وبهاء الدين نقشبند (المتوفى عام 1389). وفي حالة بعض هؤلاء الرجال، نمتلك أدلة على وجود أنواع جديدة من الأنشطة التنظيمية، لكننا في العموم نرى رجالا حققوا من خلال الكتابة أو الوعظ شهرة وتبعية في حياتهم ورثهما مريدوهم، وفي أغلب الأحيان عائلاتهم، وحافظوا عليهما بعد وفاتهم.
34
فهم ليسوا مجرد مؤسسين لطرق دام بعد ذلك وجودها المستمر عبر الزمان، بل من الأفضل رؤية هؤلاء «المؤسسين» باعتبارهم رجالا جمعوا المصادر - سواء الرعاة والممتلكات أو التعاليم والجاذبية - التي يمكن توارثها واستخدامها من قبل خلفائهم لتأسيس الطرق التي سميت على أسمائهم؛ ولذلك أصبحوا مؤسسين فقط عبر الزمن عندما حدث الربط بينهم وبين ما تكون من إرثهم، وما بقي بعد وفاتهم على يد الأجيال اللاحقة التي رأى أفرادها أنهم أتباع طريقة «الشيخ المؤسس».
35
على سبيل المثال: دعونا نلقي نظرة على إحدى أهم الطرق التي ظهرت في القرن الثاني عشر من التربة الخصبة في بغداد. هذه الطريقة هي الطريقة السهروردية، التي سميت على اسم أبي نجيب السهروردي (المتوفى عام 1168)، الذي يعد أحد الصوفيين المهمين العديدين، الذين نشئوا في بلدة سهرورد الإيرانية. الأمر المدهش على نحو مباشر في هذا الشيخ هو شبهه بالشيخ الغزالي الذي رأيناه في الفصل الأول يستفيد من رعاية السلاجقة للمدارس؛ ليروج علنا لنموذج ملتزم من الصوفية مكث بأريحية في إطار الأعراف الفكرية والمؤسسية لزمنه.
36
وعلى الرغم من أن الحياة العامة لأبي نجيب كانت أكثر تقلبا من حياة الغزالي، فقد شغل منصبا مهما كان يدرس فيه الفقه في المدرسة النظامية الكبيرة في بغداد، وبعد أن فقد منصبه بسبب خلاف سياسي استمر في تدريس دراسات الفقه والحديث في مدرسة أسسها هو بالقرب من المسكن الصوفي خاصته في المدينة. كان أبو نجيب شخصية عامة مشهورة في زمنه (فقد كان واعظا مشهورا ورفيقا للخلفاء أيضا)، وبالإضافة إلى كتاباته عن الحديث، فقد اشتهر بسبب نسخته من نوعية كتب آداب المريدين الصوفية التي شهدنا تكونها في الفصل الأول؛ ففي كتابه الذي حمل عنوان «كتاب آداب المريدين»، أظهرت مقدمته لحياة الصوفيين اهتماما قليلا بالصوفية كمعتقد ما ورائي وتجربة تصوفية، وركزت بدلا من ذلك على السلوك الخارجي أو الآداب المفترض أن يتبعها المريدون.
37
وبالنسبة إليه، كان جمع حلقة من المريدين في الأساس وسيلة للتربية على أعراف السلوك الإسلامي التقليدية، وهذا لا يشير إلى تاريخ التصوف قدر ما يشير إلى تاريخ الأخلاق. وبينما سيعتبر المريدون المتأخرون أبا نجيب مؤسس الطريقة السهروردية، فإن تلك الطريقة كانت حقا إلى حد كبير مشروع ورثته (لا سيما ابن أخيه أبو حفص عمر السهروردي المتوفى عام 1234)، الذين استطاعوا الاستفادة من المصادر التي تركها لهم أبو نجيب في صورة حلقة من المؤيدين المؤثرين، وكتاب للآداب، وسمعة ذائعة الصيت بالتقوى. ونظرا لوراثة عمر السهروردي لجزء من الشهرة العامة من عمه، فقد دخل مثله الأوساط السياسية، وأصبح كاتم أسرار مقربا جدا من الخليفة العباسي الناصر (الذي حكم من عام 1180 إلى عام 1225)، ورسوله السياسي الرسمي، واستعان به في تنفيذ مشروعه الخاصة بتربية شباب بغداد الجامح في تنظيمات «فتوة» كانت تشبه كثيرا في طابعها الطرق الصوفية الناشئة نفسها.
38
عندما وجد عمر نفسه محاطا بحلقة كبيرة من الأتباع، ومدعوما بالمعجبين في البلاط الملكي، كتب مثل عمه كتابا عن آداب المريدين، كانت فيه الواجبات والمعتقدات الواجبة على المريدين مذكورة بقدر أكبر بكثير من التفصيل، مقارنة بما كان عليه الحال في الآداب القديمة التي وضعها أبو سعيد والأنصاري منذ قرن ونصف مضيا في خراسان.
39
وكان عمر، وليس عمه أبا نجيب، هو من وضع الأسس التنظيمية والمفاهيمية للطريقة السهروردية؛ من خلال تأسيس شبكة من المساكن، والدفاع عن الصوفيين بصفتهم الورثة الشرعيين الوحيدين للنبي محمد.
40
بالرغم من ذلك، كان التأسيس في بدايته فحسب، واحتاج إلى الجيل التالي من الأتباع، لا سيما نجيب الدين برغش (المتوفى عام 1279)، وبهاء الدين زكريا (المتوفى عام 1262)؛ لنشر الطريقة شرقا إلى إيران وشمال الهند.
41
وسيلعب كل جيل من الأجيال المتعاقبة دورا في ترسيخ المصادر الرمزية والمادية للطريقة والمساهمة فيها، فيكبرون جاذبية مؤسسها، ويحشدون الرعاة من أجل تأسيس مساكن جديدة.
عندما أدى استيلاء المغول على بغداد عام 1258 إلى إنهاء نظام الخلافة الإسلامية بعد ستة قرون من ترسيخه، كانت شبكة المريدين المنتسبين لطريقة السهروردي تنتشر بالفعل انتشارا واسعا، وعلى الرغم من أن عمر السهروردي لم يشر بنفسه إلى خلفائه بلقب «خليفة»، فإنه في طريقته وغيرها من الطرق المشابهة، وفي غضون بضعة أجيال، سوف يطلق نواب ورثته على أنفسهم هذا اللقب بالتأكيد.
42
وعلى الرغم من أنه لم يعد يوجد خليفة واحد في بغداد، فقد أصبح يوجد الآن الكثير من هؤلاء الخلفاء في عدد متزايد من المدن، من المغرب إلى الهند، وانتساب هؤلاء إلى «سلسلة» طرقهم قدمهم في صورة ناقلين جذابين يرتبطون مباشرة بالنبي محمد، وقد كانت سلطتهم تظهر من خلال ارتداء أردية مميزة.
43
وعلى الرغم من أن سياق «المؤسس» كان مكونا مهما لأي طريقة، فإن سياقات أجيال الورثة القليلة الأولى، التي أعادت إنتاج تراث المؤسس وشكلته بفاعلية، كانت من ثم أكثر أهمية، في إشارة إلى السبيل الذي من خلاله ظهرت الطرق المنتشرة في عدة مناطق، والممتدة لعدة أجيال مثل الطريقة السهروردية نتيجة للتفاعل التنظيمي والمفاهيمي بين أزمنة وأمكنة مختلفة؛ على سبيل المثال: عند تأسيس أحد مريدي عمر السهروردي، الذي يدعى بهاء الدين زكريا، الطريقة التي ينتمي إليها في مدينة ملتان البعيدة، الواقعة في شمال الهند، جلب معه مكانة بغداد، التي كانت أكثر قوة، على الرغم من بعد المسافة الجغرافية الشاسعة. ومن خلال أدوات طريقته، جلب معه أيضا آليات الالتحاق والتربية من أجل إعادة إنتاج بركة وسلوك أشهر الأولياء في سلسلة الطريقة.
إن النظر للطرق الصوفية باعتبارها نتاج عمل فرد عبقري، وليس نتاج عملية جماعية، لا يقلل منها، بل هو إشارة إلى الطبيعة الجماعية للاستثمارات العاطفية والعملية التي سمحت للطرق بالعمل بكفاءة شديدة في نشر الصوفية في مناطق جديدة. والسبب في ذلك يرجع إلى أن عمليات الالتحاق والطقوس والتعاليم - التي يدخل من خلالها أي مريد جديد إلى طريقة ويتماهى معها - كانت بطبيعتها قابلة للنقل وإعادة الإنتاج، مما سمح لخلفاء الطرق بالانتقال إلى مناطق جديدة، وتأسيس ما يمكن أن نسميه «فروعا» جديدة للطرق. في بعض الحالات، عندما كانت توجد أنماط اتصال منتظمة امتلكت تلك الشبكات قدرا من التماسك التنظيمي الملموس، خاصة عبر طرق التجارة والحج، أو داخل المناطق الجغرافية أو السياسية المحددة بدقة. إلا أنه في معظم الحالات كان مؤسسو وورثة تلك الفروع هم شيوخ أنفسهم، وكانت الطريقة بالنسبة إليهم مصدرا لإعادة إنتاج أنفسهم أكثر مما كانت تسلسل قيادة تنظيمية يخضعون لها. مرة أخرى، يلزم أن نتذكر أنه في هذه الفترة قدمت الطرق آلية ثقافية مفاهيمية بالقدر نفسه الذي قدمت به هيكلا تنظيميا ملموسا. ومن خلال وسائل مشابهة خاصة بتوافق الأجيال المتعددة، ظهرت الطريقة القادرية المسماة نسبة إلى واعظ عام صوفي يدعى «عبد القادر الجيلاني» (المتوفى عام 1166)، والذي كان من بغداد، التي كانت متخيلة قدر ما كانت حقيقية، وانتشرت بعد قرن من نهاية الخلافة إلى سوريا ومصر واليمن، ثم انتشرت في القرون اللاحقة في الهند وجنوب شرق آسيا وأفريقيا.
44
نظرا لأن «السلسلة» التي كان ينتسب إليها المريد الجديد عند التحاقه بالطريقة كان يعتقد أنها تكون قناة ما ورائية تنقل بركة النبي محمد، سواء في أدغال الهند أو في سهوب تركستان؛ فقد قدمت الطرق وسيلة للمريدين كي يعتبروا أنفسهم - على نحو ذي مغزى - مرتبطين بتعاليم وبركة نبي عاش منذ قرون بين أشخاص غرباء أقاموا على بعد آلاف من الأميال. وحتى في المناطق القريبة من المدن المقدسة في شبه الجزيرة العربية مثل مصر وسوريا، جعلت الأمية الجماعية تحصيل المعرفة الدينية منشودا من خلال الأشخاص وليس من الكتب، وقدمت الطرق الآليات التي من خلالها يستطيع الناس أن يقرروا أي المسلمين هم الورثة الشرعيين للنبي محمد. وإذا كانت النظرية القائلة بظهور الطرق الصوفية ردا على إنهاء المغول للخلافة عام 1258 تولي أهمية كبيرة لما كان بالفعل مؤسسة خلافة غير فعالة منذ زمن، وبالنسبة إلى معظم المسلمين بعيدة للغاية، فإنه في ظل غياب مؤسسة تضاهي الكنيسة في المسيحية منحت الطرق الصوفية المسلمين العاديين المنضمين لها كلا من الإطار المفاهيمي والإطار المؤسسي، اللذين من خلالهما ربطوا أنفسهم بمجتمع المؤمنين المعاصر، وبتقليد الأسلاف المباركين الماضي.
45
ومن خلال تجسيد جاذبية وتعاليم النبي محمد في الوجود المادي لشيخ حي يمكن للمرء التحدث معه ومصافحة يده عند التعهد بالالتحاق بطريقة ما، ومن خلال توفير أضرحة للزيارة كانت أقرب كثيرا من مكة، تمكن ممثلو الطرق الصوفية المحليون من إلغاء المسافة الزمنية والمكانية والثقافية التي فصلت مسلمي فترة القرون الوسطى عن زمن النبي محمد وموطنه البعيدين. إن ما كانت تنقله الطرق في نهاية المطاف هو الإسلام نفسه، وهي عملية تصبح أكثر وضوحا عندما نضع في اعتبارنا أن أولى متطلباتها كانت في الغالب هي الالتزام بالمعتقدات والممارسات الرسمية للإيمان.
شكل 2-2: بناء الطرق الصوفية: صورة تعبدية لعبد القادر الجيلاني (المتوفى عام 1166) (الصورة من مجموعة صور المؤلف).
من العناصر المذهلة في عملية نقل التقليد هذه الأسلوب الذي من خلاله نشرت الطرق المعتقدات والممارسات التي نشأت في الأصل في «مراكز الإنتاج» الصوفية المبكرة في العراق وخراسان، وأعادت إنتاجها في أماكن بعيدة مثل الهند وأفريقيا وتركستان وأرخبيل الملايو. لم تكن هذه العملية سريعة على الإطلاق (إنها في الواقع مستمرة حتى يومنا الحاضر)، ولم تكن كذلك عملية موحدة. ولكي نأخذ فكرة عن طريقة عملها، دعونا نلقي نظرة على مثال انتشار الطريقة الجشتية في الهند. تكونت هذه الطريقة المسماة على اسم بلدة جشت الخراسانية (الموجودة في أفغانستان حاليا)، التي نشأت فيها على نحو فعال من التراث الذي تركه معين الدين الجشتي (المتوفى عام 1236)، الذي هاجر في أعقاب غزوات الغوريين في تسعينيات القرن الثاني عشر إلى أجمير في منطقة راجستان الواقعة غرب الهند.
46
وفي غضون قرن بعد وفاة معين الدين نشر ورثته في الأجيال القليلة التالية طريقته على نطاق جغرافي هائل، متبعين توسع سلاطين دلهي ليكونوا فروعا من طريقتهم في أماكن بعيدة ؛ مثل: راجستان والبنجاب ودلهي والبنغال وهضبة الدكن.
47
هذا النسق من التوسع الحدودي جعل الجشتيين يتمركزون ليس فقط في المناطق التجارية والإدارية في المدن الهندية، ولكن أيضا - بعد حصولهم على منح على هيئة أراضي زراعية - في البيئة الزراعية المتزايدة في الغابات التي أزيلت.
48
وكان تأثير الجشتيين في هذه البيئات المتنوعة متنوعا بالتبعية؛ فبين غير المسلمين من السكان القبليين وساكني الغابات في المناطق الزراعية، أثار تقديم الجشتيين للمؤسسات الإسلامية - كجزء من حزمة جمعت بين الزراعة في الأراضي المملوكة لهم والتجارة في موالد شيوخهم - عملية تحول إلى الإسلام؛ من خلال التكيف الثقافي التدريجي للمزارعين مع الأعراف الإسلامية في المأكل والملبس والقانون والتسمية وكذلك العبادة.
49
وعلى النقيض من ذلك، في أوساط النخب من التجار والإداريين المسلمين في المدن، قدم لهم الجشتيون الإرشاد الأخلاقي باعتبارهم علماء في القرآن والحديث، علاوة على ذلك، وكما سنرى في القسم القادم، فقد شجعوا الشعراء والبيروقراطيين في سلطنة دلهي على كتابة تعاليمهم وتحويل المفاهيم الإسلامية إلى مصطلحات مفهومة محليا.
50
وقد خلدت أضرحة الشيوخ الجشتيين الراحلين، التي كانت تستمد استمراريتها من الخانقاوات الخاصة بها، وجودهم المادي عبر الزمن، وجعلتهم قبلة للزيارة. وبوضع تلك الأضرحة لأساس أشكال تعبدية جديدة من الإسلام، فإنها جعلت الصوفيين في بعض النواحي أكثر أهمية في موتهم عنهم في حياتهم. ومع مرور الأجيال تكونت هذه الممارسات التعبدية، ليس فقط حول أضرحة الصوفيين الجشتيين، بل أيضا حول أضرحة الكثير من الطرق الأخرى في الهند. وأسفر ذلك عن تكوين نسخة محلية مميزة من الإسلام كانت مدينة في وجودها إلى الطرق التي منحت الصوفيين - من خلال الحفاظ على الأضرحة، وإقامة الموالد، وتخليد سير الأولياء - وجودا دائما في المشهد الاجتماعي، حتى بعد موتهم. ولقد أثرت الطريقة الجشتية في البيئة الهندية وتأثرت بها أيضا، وقدمت طريقتها باعتبارها نوعا مميزا من الصوفية جعلته السمات التي تميزه مختلفا عن الطرق الأخرى التي دخلت الهند. وفي هذا الإطار، استخدموا الموسيقى، وكرهوا تكوين علاقات مع السلطة، وأظهروا انفتاحا في التعامل مع الهندوس، مما جعل طريقتهم جذابة لبعض المسلمين في الهند وغير جذابة للبعض الآخر.
51
وعلى الرغم من أن الطريقة الجشتية في القرن الثاني عشر كانت تتكون مما لا يزيد عن تجمع من الرجال في قرية جشت الجبلية نفسها، فمن خلال تناسخها بين أجيال خلفائها المهاجرين تمكنت في منتصف القرن الخامس عشر من إنشاء مراكز لها تقريبا في كل المدن والبلدات الصغيرة الموجودة في شبه القارة الهندية.
تبدو صورتنا عن الطريقة الصوفية مختلفة كثيرا إذا التفتنا إلى حالة الطريقة الخواجكانية النقشبندية في آسيا الوسطى.
52
وبينما ظهرت الطريقة الجشتية في الهند في فترة توسع الحكم الإسلامي، فإن شيوخ الخواجكانية (الذين سيدمج تقليدهم لاحقا في الطريقة النقشبندية الأكثر شهرة) ظهروا على النقيض من ذلك بعد وفاة الشخص «المؤسس» للطريقة؛ عبد الخالق الغجدواني (المتوفى عام 1220)، في القرن الذي شهد حكم المغول الوثنيين لآسيا الصغرى في الفترة ما بين عشرينيات القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر. وفي حين كان الجشتيون يؤسسون مساكن رسمية بارزة اجتماعيا مدعومة من النخب المسلمة في البلدات الهندية؛ فإنه نظرا لعمل الأعضاء الأوائل في الطريقة الخواجكانية في منطقة يحكمها غير مسلمين، فقد كانوا يضمون على الأرجح «الفقراء المهذبين»، الذين تربوا على مقت أصحاب الثروات والمناصب العليا واتباع ممارسة «الخلوة في الظاهر»؛ أي اعتزال الناس إلى حد كبير.
53
سعت الخواجكانية إلى زيادة أتباعها من خلال النقد الشديد للجماعات الصوفية الأخرى؛ فقدمت منافسيها في صورة المنحلين أخلاقيا، وقالت إن امتلاك الخانقاوات يعد دليلا على الاهتمام بالأمور المادية.
54
وبطبيعة الحال، يجب أن ندرك أن ادعاءات الخواجكانية النقشبندية على منافسيها كانت استخدامات استراتيجية خطابية وليست أوصافا حقيقية موضوعية، وقد بذل المؤرخون محاولات مضنية لوضع تسلسل للأحداث من المصادر المشكك فيها على نحو متبادل، الخاصة بهذه الفترة. على الرغم من ذلك، يبدو في العموم أنه مع تحسن الظروف بعد تحول المغول إلى الإسلام، ووسط ازدهار وانهيار سلسلة مضطربة من الدول الإسلامية القبلية، ظهرت طريقة أكثر تنظيما وتفاعلا اجتماعيا استحوذت تدريجيا على أتباع الخواجكانية ومكانتها، واحتوتها بطريقة مماثلة لتلك التي احتوى بها الصوفيون في السابق الكراميين في خراسان.
55
وتحت قيادة «المؤسس الثاني» للطريقة بهاء الدين نقشبند (المتوفى عام 1389)، وبصفة خاصة تحت قيادة ورثته في الأجيال القليلة التالية، غيرت الطريقة الخواجكانية النقشبندية الجديدة هذه موقفها العقائدي جذريا، وأصبحت تسعى حثيثا إلى تكوين علاقات مع القادة السياسيين، وتشجع على اكتساب الثروة، وأصبحت ترى هذا الأمر علامة على فضل الله على أوليائه.
56
ومن خلال مجموعات علاقات مع حكام آسيا الوسطى الضعفاء، الذين كانت تقاليدهم وشرعيتهم في ذلك الوقت أقل عمقا من تقاليد وشرعية شيوخ الطريقة الخواجكانية النقشبندية الموجودة منذ أمد طويل؛ وصل فرع الطريقة الذي يقوده عبيد الله أحرار (المتوفى عام 1490) إلى مكانة هائلة؛ حيث أصبح أكبر مالك للأراضي في آسيا الوسطى. وفي إجراء عملي لصناعة التقليد خضع ضريح «المؤسس الثاني» بهاء الدين نقشبند للتجديد في هذه الأثناء.
57
وفي الوقت نفسه، حافظت الطريقة على «أسلوبها» المميز؛ إذ اعتمدت على نحو كبير على الشريعة، وانتقدت الاستخدام الديني للموسيقى، وروجت الأشكال الخاصة بها من الذكر السري.
كانت الجشتية والنقشبندية الخواجكانية طريقتين صوفيتين مختلفتين؛ وقد تبنتا نتيجة لذلك مناهج مختلفة جدا في التعامل مع المسائل الأساسية المتمثلة في الثروة والتنظيم والممارسة والمعتقد. فتجنبت الأولى الحكام، وسعت إلى الله من خلال الموسيقى، وتقبلت الهندوس؛ في حين كونت الأخرى علاقات مع الحكام، وأدانت الموسيقى، وحثت بانتظام على الجهاد ضد الكفار. وفي الوقت نفسه، فقد اشتركت هاتان الطريقتان في النسيج التنظيمي والمفاهيمي الأساسي، المتمثل في وجود سلسلة ذات جاذبية كبيرة منحدرة من النبي محمد. في كلتا الحالتين، كانت تستخدم تلك السلسلة لتكوين رابطة من «المريدين المتبعين لشيخ»؛ من خلال طقوس الالتحاق، والبيعة للممثل الحي للنبي محمد، والأولياء الذين تدفقت بركتهم عبر مئات السنوات وآلاف الأميال من خلال السلاسل الخاصة بهم لتصل إلى مريديهم، سواء في الهند أو في آسيا الوسطى.
فيما بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر، اخترقت الطرق الصوفية مجتمعات بعيدة؛ مثل إسبانيا وموريتانيا في الغرب، والبنغال وتركستان في الشرق، مع تركزها الشديد في المناطق الوسطى التجارية الثرية في مصر وسوريا .
58
وفي المناطق الكثيرة التي ازدهرت فيها تلك الطرق، قادتها الظروف المحلية إلى تبني طرق وأساليب متنوعة؛ مثل طرق وأساليب الخواجكانية النقشبندية والجشتية. إلا أن كل طريقة تشاركت في السمات الأساسية نفسها التي وصفناها، المتمثلة في آليات التناسخ والتوحيد التي مكنتها من الاستمرار والتوسع، مع الحفاظ على الاتساق ذي المعنى الذي تعتز به باعتبارها تقليدا خاصا بها. وعلى الرغم من الاختلاف الشديد لتاريخ كل طريقة، فمن الممكن القول إنه في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والخامس عشر أدت عملية تكوين الطرق المتعددة الأجيال إلى نسق عام من التنظيم الأكبر والأكثر مركزية بحلول القرن الخامس عشر، يفوق ما كان موجودا في القرون الأربعة السابقة عليه. في الفصل التالي، سوف نعاود الالتفات إلى الطرق الصوفية؛ لنرى كيف استجابت للتطور المتمثل في المجتمعات الأكثر تنظيما ومركزية في ظل إمبراطوريات فترة أوائل العصر الحديث التي غزت معظم العالم الإسلامي بعد القرن السادس عشر. أما الآن، فلا بد أن نلتفت إلى ثاني أكبر عملية ميزت فترة العصور الوسطى بعد تنظيم الطرق، وهي عملية تبجيل الشيوخ الصوفيين باعتبارهم أولياء. (4) تقديس الأولياء
كان شائعا في السابق أن يناقش المؤرخون تطور الفكر الصوفي، والطرق والمساكن الصوفية التي نما من خلالها، دون الإشارة إلى تحول الصوفيين البارزين إلى أولياء. في الواقع، كانت هذه العملية تعتبر في وقت ما عملية منفصلة تماما تنتمي لفترة تدهور لاحقة، تحول فيها «التصوف» إلى «دجل».
59
لكن نتيجة لأبحاث جديدة أجريت على مدار العقود القليلة المنصرمة، فإنه من الواضح أن القول بالتدهور لا يناسب الحقائق كما تظهر حاليا. فكما رأينا في الفصل الأول، ومن حيث النسيج العقائدي للفكر الصوفي، كانت فكرة كون صوفيين بعينهم «أولياء» لله - وهي علاقة مقدرة سلفا على الأرجح، وتمنح بالتأكيد معرفة وقدرات خاصة - مثار جدل منذ الفترة المبكرة، وفي بعض الأحيان كان يحتدم الجدل القائل بوجود خطر كبير بالفعل في اكتساب هذه المكانة في هذه الفترة المبكرة.
60
وقد كتبت شخصية مثل الجنيد البغدادي الذي يتسم بالصحو والمحافظة عن نظرية الولاية، وسيكون من الأفضل ملاحظة أن الجنيد، من بين كل الصوفيين الأوائل، كان الشخصية الأكثر دمجا في سلاسل الأسلاف التي تكونت لاحقا على يد الطرق.
61
أما من ناحية النسيج المؤسسي للطرق، فقد كانت فكرة الولي محورية للطرق باعتبارها كيانات مفاهيمية ومادية؛ من خلال تبجيل الشيوخ السابقين لسلاسلها، وتشييد الأضرحة في وسط المساكن الصوفية.
على الرغم من أن نظرية الولاية كانت موجودة منذ زمن بعيد، فما أضحى جديدا بحلول القرن الثاني عشر هو عملية تقديس متعددة الطبقات لم تتضمن فحسب نموذجا نظريا للولاية، بل تضمنت أيضا مجموعة أدوات أكثر اكتمالا تمثلت في بناء الأضرحة، وكتابة السير الذاتية، وزيارة أضرحتهم. فما كانت في السابق فكرة بين أوساط المثقفين تحولت إلى أماكن وقصص وأفعال بين أوساط العوام؛ وهذه العملية هي ما نطلق عليها «التقديس».
62
ونظرا لوجود الكثير من مؤسسات القديسين المسيحيين في الغرب الإسلامي، واعتبار المسلمين لها أماكن للزيارة منذ فترة مبكرة، فمن الممكن أن يكون لهذه الممارسات التقديسية وجود في الإسلام منذ فترة مبكرة جدا.
63
وأوضحت الأبحاث الجديدة التي تناولت التاريخ المبكر للإسلام أن تبجيل الأضرحة وآثار الموتى والأشخاص الصالحين له تاريخ طويل لدى المسلمين أكثر مما كان متخيلا في السابق.
64
إلا أنه حتى في حالة وجود تلك الممارسات القديمة، التي من خلالها أولى المسلمون تبجيلا للأضرحة وذكرى القديسين المسيحيين ومؤسسي المجتمع الإسلامي، فما يهمنا - فيما يخص أهدافنا - هو الطريقة التي أصبحت من خلالها هذه الممارسات بداية من القرن الثاني عشر متعلقة على نحو متزايد بالصوفيين. وعند محاولة فهم كيفية حدوث ذلك، نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجهة دور الطرق الصوفية كآليات للتناسخ؛ فنظرا لكونها سلاسل نسب ومؤسسات لجمع المال، فقد كانت قادرة على إعادة إنتاج شيوخ جدد في كل جيل، وإمدادهم بساحات عامة يدفنون فيها عند وفاتهم. كان يوجد بطبيعة الحال مجموعات عديدة من المقومات في هذه العملية، وتضمنت إحدى هذه المجموعات المقومات المفاهيمية التي من خلالها كان ينتسب أحد الصوفيين إلى «سلسلة» روحانية، ويعتبر أحد أولياء الله؛ وكانت مرتبة الولاية تتحقق إما من خلال الإنجازات الشخصية (الوعظ، والصلاة، والكتابة) وإما ببساطة بالوراثة من خلال الانتساب لأسر تضم قادة الطرق. وضمت مجموعة مقومات أخرى نشر شائعات متعلقة بالمعجزات التي كانت كثيرا ما تمنح الدعم الرسمي، من خلال كتابة السير التي كان ينقل سردها إلى الوسط الشفهي من خلال عمل المرشدين المحترفين، الذين كانوا يصطحبون الزائرين لزيارة عدد متزايد من الأضرحة.
65
هناك مجموعة مقومات ثالثة تضمنت تكوين طقوس تمكن من خلالها الزائرون من الحصول على «البركة» التي يعطيها الولي، تلك الطقوس التي قد تأخذ - اعتمادا على مدى دمج ضريح معين في شبكات زيارة أوسع نطاقا - طابعا محليا أو عبر إقليمي. وتضمنت مجموعة مقومات أخيرة الآليات المالية التي من خلالها جمع المال لتأسيس الأضرحة التي كانت مركز نشاط التبجيل، والتي بحلول القرن الخامس عشر بدأت تنافس الأضرحة المشيدة للمسئولين السياسيين والحكام.
نظرا لامتلاك الطرق الصوفية قدرا وافرا من المقومات الضرورية المتمثلة في الجاذبية وإحياء الذكرى ورأس المال؛ فقد كانت مؤسسات بالغة الفاعلية في صناعة الأولياء؛ فبعد الدليل المفصل المبكر الذي عرضناه على تجمع تلك المقومات لدى أشخاص مثل أبي سعيد في خراسان القرن الحادي عشر، نجد أنه بعد توسع الطرق، على مدار بضع مئات من السنين التالية، أعيد إنتاج النمط نفسه ليصل إلى مرحلة أدى فيها تقديس الأولياء إلى تخصيص ضواح بأكملها لدفنهم فيها - مثل القرافة في مصر، وشاه زنده في آسيا الوسطى، وخلد أباد في جنوب الهند - حيث تنافس الأثرياء على بناء أضرحتهم بالقرب من أضرحة الأولياء.
66
وعلى الرغم من أنه في إسلام العصور الوسطى لم يكن كل ولي نال التبجيل صوفيا، مثلما لم يكن كل صوفي وليا، فقد أصبحت أفكار ومؤسسات الصوفية متداخلة على نحو معقد مع الممارسات المتعلقة بالأولياء التي أصبحت تلعب دورا محوريا في إسلام المؤمن العادي. وكما هو الحال مع تكوين الطرق الصوفية، فقد كانت عملية التبجيل هذه مشروعا متعدد الأجيال بطبيعة الحال، فاكتسبت الأضرحة المكانة ورأس المال على نحو متزايد مع مرور القرون.
67
وعلى الرغم من فشل الكثير من عمليات تبجيل الأضرحة الأخرى أيضا، فإن المعنى الأكثر عمومية لهذه العملية المتعددة الأجيال هو أن الأضرحة القديمة كانت تميل لأن تكون أكثر شهرة وثراء من الأضرحة الأحدث. بعبارة أخرى: إن كثيرا من الأضرحة التي ظهرت في فترة العصور الوسطى التي نتناولها سيطر على الأضرحة الأحدث في مناطق نفوذها، منذ تلك الفترة وحتى يومنا الحاضر.
68
وعلى الرغم من أن الهيكل التنظيمي والمفاهيمي للطرق لعب دورا محوريا في انتشار تبجيل الأولياء الصوفيين، فإنهما لم يكونا عاملي التمكين الأساسيين الوحيدين؛ فقد حظي عاملان آخران بأهمية حيوية؛ وهما زيادة تفصيل المعتقد الذي كون أيديولوجية قوية تقوم على الهرمية البشرية المحددة إلهيا، وتكوين التحالفات السياسية التي منحت كبار الصوفيين المال من خلال علاقات الرعاية. أشهر المتحدثين عن هذا الإعلاء لشأن أولياء الله كان الصوفي الأندلسي الكبير ابن عربي (المتوفى عام 1240)، الذي نشرت كتاباته المطولة ونشر مريدوه المتنوعون أفكاره عبر شبه الجزيرة العربية، وسوريا، والأناضول، وإيران، والهند، وجنوب شرق آسيا. وفيما يتعلق بأهدافنا الحالية، فإن أهمية ابن عربي تكمن في ترويج أفكار تقول إن الولاية في نهاية المطاف أهم من النبوة، وإن الكون يقوم على هرمية من الأولياء، وإنه يدين بسبب وجوده ووجوده المستمر إلى وجود «قطب» يسمى «الإنسان الكامل».
69
لم يكن ابن عربي على الإطلاق الشخص الوحيد الذي روج مثل هذه الأفكار، وعلى مدار القرن التالي روجت أفكاره عن الولاية والإنسان الكامل، وفصلت على يد الكثير من الصوفيين الآخرين، لا سيما محمد وفا (المتوفى عام 1363) في مصر، وعبد الكريم الجيلي (المتوفى عام 1408 أو 1428) في العراق. وسرعان ما أصبح في كل بقعة في العالم الإسلامي من ادعى أنه القطب الكوني الحي الذي يحفظ الكون، وبعضهم حظي باعتراف الناس بأنهم كذلك، بينما لم يحظ بهذا البعض الآخر. أما الذين عدوا أقطابا في حياتهم من قبل جهات متمتعة بالنفوذ، فقد صارت أضرحتهم في أغلب الأحيان مزارات بعد وفاتهم.
إلى جانب عملية زيادة تفصيل المعتقد هذه، كانت توجد وتيرة متزايدة من التحالفات بين الصوفيين وأعضاء النخبة الحاكمة، وهم الأشخاص الذين يمتلكون الموارد المالية اللازمة لتوصيل أحد مدعي الولاية إلى المكانة والشهرة العريضة اللتين يتطلبهما التقديس. من نواح كثيرة، كان هذا الأمر استمرارية لممارسة رعاية الصوفيين العلماء عن طريق المدارس، ورعاية الصوفيين أصحاب الجاذبية عن طريق الخانقاوات التي انتهجها السلاجقة. وعندما دخل المغول الإسلام أخيرا في ثلاثينيات القرن الرابع عشر، أدركوا أيضا الفوائد المحتملة لتلك الرعاية.
70
وفي القرنين الرابع عشر والخامس عشر شيد في المناطق الشرقية من العالم الإسلامي، في إيران وآسيا الوسطى تحت حكم المغول وخلفائهم القبليين، بعض من أكبر الأضرحة الصوفية المزينة بالزخارف وأكثرها إثارة للدهشة على الإطلاق، والتي كانت في بعض الأحيان مؤسسات الإقامة الوحيدة التي تتعامل معها الجماعات البدوية.
71
ويعد مجمع أضرحة الشيخ محمد بن بكران (المتوفى عام 1303، والمعروف أيضا باسم بيربكران) - الذي اكتمل تشييده نحو عام 1312، ويقع على بعد عشرين ميلا تقريبا من مدينة أصفهان الإيرانية - واحدا من أجمل المباني الباقية التي شيدت في إطار رعاية المغول للصوفيين.
72
عندما أصبحت تلك العلاقات مع الجماعات الحاكمة أكثر شيوعا، وأصبحت مزاعم الصوفية بالعلو الكوني أكثر مبالغة، بدأت أضرحة الأولياء الصوفيين تقتبس طراز المقابر الملكية، بل في بعض الحالات بدأ الحكام يتركون مقابر أسلافهم كي يدفنوا بالقرب من الأولياء.
73
وبعد أن كان الصوفيون جماعة من جماعات مسلمة كثيرة تزعم القيادة الدينية قبل القرن الحادي عشر، أصبحوا فيما بين القرن الثاني عشر والخامس عشر المتحدثين باسم الله على الأرض، وفي الوقت نفسه بطانة الملوك.
شكل 2-3: من البداوة إلى الإسلام: ضريح برعاية مغولية للشيخ محمد بن بكران (المتوفى عام 1303) (تصوير: نايل جرين).
لا داعي لرؤية هذا التطور من منظور الندم أو التدهور؛ فتحول الصوفيين إلى أولياء يبدو منطقيا جدا عندما ينظر إليه المؤرخ - إن لم يكن بالضرورة عالم الدين - في ضوء السياق الاجتماعي الذي حدث فيه. ويصبح هذا الأمر أكثر وضوحا عندما ننظر إلى أنواع المعتقدات والأفعال والعواطف التي جعلها تقديس الصوفيين ممكنة، ليس فقط بالنسبة إلى النخب الحاكمة، بل أيضا إلى الأشخاص العاديين في وقتهم . دعونا نتطرق لعواقب هذه الولاية بالترتيب، أولا من خلال رؤية كيف تأثرت حياة النخب ثم حياة العوام بعلاقتهم مع الصوفيين كأولياء. كما رأينا في السابق، فمنذ عهد السلاجقة فصاعدا، دخل الصوفيون في علاقات رعاية مع حكام زمانهم، اكتسبوا من خلالها الموارد المادية اللازمة لتشييد مؤسسات مادية يعيشون فيها ويتربون. إلا أنه من المهم فهم جانبي تلك العلاقات، وكي نرى ما حصل عليه السلاطين والنخب الأخرى في مقابل رعايتهم للصوفيين، يجب أن نلتفت إلى النوع الخاص من الموارد الذي اعتقد أن كبار الصوفيين يمتلكونه في حياتهم ومماتهم. ونظرا لأن دور الصوفيين لم يقتصر على كونهم أدوات لإعطاء الشرعية الدينية للحكام من خلال العمل العام في مدارسهم أو قبول الهدايا في خانقاواتهم، فقد كان على القدر نفسه من الأهمية المعتقد المتمثل في أن الصوفيين البارزين بصفتهم أولياء الله يمتلكون قوة غامضة فعالة على نحو هائل تسمى «البركة»، والتي يستطيعون توجيهها لأي اتجاه يختارونه من خلال قدرتهم على صنع الكرامات.
إذا كانت العلاقة بين الولي والسلطان علاقة أخذ وعطاء، لكنها مبادلة لموارد غير متشابهة متمثلة في الأموال والأراضي في مقابل المعجزات والبركة. وبداية من القرن الثاني عشر فصاعدا، بدأنا نسمع في كل أرجاء العالم الإسلامي تقريبا عن الكثير والكثير من القصص، التي نرى فيها استخدام الأولياء الصوفيين بركتهم كوسيلة للتدخل فيما يمكن اعتباره من الناحية العلمانية أمورا سياسية؛ فقد شفوا الملوك وأعضاء حاشيتهم من أمراض خطيرة، وكانوا يقررون نتائج المعارك الحاسمة، وكانوا يعدون ورثة الحكام الذين ليس لديهم أبناء بتولي الحكم، وكانوا يتسببون في انهيار أو ازدهار المدن، وكانوا يجلبون الوباء أو الرخاء إلى الإقطاعيات الخاضعة للضرائب. وكما هو متوقع، فإن أغنى مصادرنا عن هذه القصص هي سير الأولياء التي كتبها أتباعهم (وفي كثير من الأحيان ذريتهم)، لكن لا يمكن القول إن هؤلاء الورثة الذين نشروا القصص كانوا - ولو بقدر قليل - «متعهدين» (بلفظ بيتر براون الذي استخدمه لوصف تبجيل القديسين في المسيحية) لأعمال أقاربهم وشيوخهم. ولقد رأينا بالفعل هذا التطور في سير الأولياء التي كتبتها عائلة أبي إسحاق الكازروني (المتوفى عام 1035)، وقد كانت قصصا ناجحة على نحو كان كافيا لجذب الحكام المحليين. نتيجة لذلك، سمى شرف الدين محمود شاه حاكم جنوب إيران - الذي كان من بني إينجو (المتوفى عام 1336) - ابنه الأصغر أبا إسحاق على اسم الولي أبي إسحاق الكازروني، وفي عام 1334 دفع الحكام الإينجويون لبناء مدرسة بجوار قبر الكازروني.
74
ولم يكن هذا التعامل مع الملوك مثار خجل؛ فقد سجلت بكل فخر عائلة أبي سعيد بن أبي الخير (المتوفى عام 1049) في خراسان الكثير من القصص التي تروي التدخلات الخارقة لجدهم الولي في شئون الدولة.
75
والأكثر إثارة ربما هو أن هذه القصص لم تنتشر عن طريق سير الأولياء التي كتبتها أسرهم، بل انتشرت عن طريق كتب التاريخ التي ألفت برعاية القصر الملكي وليس المسكن الصوفي. وليس المقصود هنا الإشارة إلى وجود حد فاصل بين حاشية الملوك والصوفيين؛ لأن الصورة الأكثر ثراء التي يكونها الباحثون عن التفاعل الاجتماعي في عواصم فترة القرون الوسطى، المتمثلة في شيراز وهراة وقونية ودلهي، تشير إلى أنه لم تكن توجد جبهة قوية من المشتغلين بالصوفية طوال الوقت، بل كانت توجد كيانات أكبر من الأتباع الذين كانوا يتنقلون ما بين البلاط الملكي والخانقاه.
76
عندما نشر هذا العدد المتزايد من الأتباع المؤثرين تلك القصص المبالغ فيها؛ بسبب القيل والقال والتوقعات، زادت مكانة الصوفيين والإيمان بقدراتهم؛ فإذا كان معروفا عن أحد الأولياء قدرته على إلحاق الهزيمة بجيوش كاملة نيابة عن السلطان، فإن المسلم العادي المنتمي لطبقة اجتماعية أقل من الممكن أن يكون واثقا، على نحو معقول، بأن هذا الولي لديه القدرة على شفاء ابنته المريضة. وعلى الرغم من أن أدلتنا معتمدة في الأساس على نصوص الكتاب المنتمين لمجموعات صغيرة نسبيا من النخب الدينية أو السياسية، فإن محتويات تلك النصوص استمدت أيضا من نطاق أوسع من القصص الشفهية، وأضافت إليها كي تصل إلى عدد أكبر من الناس.
77
شكل 2-4: تسلسل التقليد: «سلسلة» شيوخ إحدى الطرق الصوفية (تصوير: نايل جرين).
إن نتائج هذا الاعتقاد بأن الصوفيين أولياء يصنعون المعجزات لم تقتصر على إنتاج القصص؛ فعلى غرار عمر السهروردي في بغداد، وفي الكيانات القبلية الانقسامية في أقصى الشرق، فإن انتساب العائلات الصوفية للأولياء جعلهم رجالا مباركين محصنين مناسبين تماما للعمل كدبلوماسيين ووسطاء.
78
أما في الأماكن الأخرى، كما هو الحال مع الأسرة النعمتلاهية الإيرانية المهاجرة في عاصمة السلاطين البهمنيين في جنوب الهند (الذين حكموا فيما بين عامي 1347 و1527)، نجد أن الصوفيين كانوا يختارون الملوك رمزيا في طقوس التنصيب الملكية. وكان السلاطين البهمنيون مرتبطين في الموت كما في الحياة بالأولياء التابعين لهم؛ إذ كانوا يدفنون في أضرحة كبيرة متجاورة في ضواحي العاصمة بيدار.
79
وفي تلك السياقات، يمكن اعتبار قصص المعجزات مفيدة قدر إفادة نصوص المديح؛ فهي بمنزلة مواثيق سردية توضح شتى أنواع العلاقات بين الصوفيين وحلفائهم من الحكام وحاشيتهم؛ فهي تفسر، على سبيل المثال، لماذا تزوج سلالة حاكمة معينة بناتها لأبناء ولي معين، ولماذا تبجل قبيلة معينة ضريحا معينا دائما. قدم كثير من قصص المعجزات أجوبة لهذه الأسئلة، مانحا المصداقية والإجازة لتحالفات معينة استمرت عبر فترة طويلة بين الأولياء ومناصريهم، بحيث يمكن أن يرث التحالف بين أمير معين وصوفي معين ورثة الطرفين، حتى في حالة انتقالهم إلى مناطق جديدة؛ فبين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر قدمت الروابط التي تكونت في آسيا الوسطى بين القبائل التركية القوية وأولياء الطريقة اليسوية إلى الأناضول، مع اتجاه أسلاف كل من الأولياء ورجال القبائل نحو الغرب، إلا أن هذا التفسير لهذه الهجرة المزدوجة أصبح مؤخرا محل شك.
80
وفي القرن الخامس عشر تكونت الروابط نفسها بين أولياء الطريقة النقشبندية والحكام التيموريين في آسيا الوسطى، وكما سنرى في الفصل التالي فقد تكررت هذه الروابط عبر المكان والزمان عندما غزا فرع من السلالة التيمورية (المعروف عادة باسم المغول) الهند عام 1526، ودعوا الأولياء الذين حموا أسلافهم كي ينضموا إليهم في أراضيهم الجديدة.
81
عززت قصص المعجزات، من خلال ارتباطها بهذه المجتمعات الأكبر حجما، الآليات الأوسع نطاقا، التي من خلالها تمكنت الصوفية من تخليد نفسها عبر الزمن؛ نظرا لأن تلك القصص الخاصة بالأولياء السابقين لا تحقق أهدافها في ظل غياب ورثة أحياء لقوة الأولياء عبر أجيال المستقبل، أو عدم وجود موقع زيارة دائم يمكن من خلاله الحصول على هذه القوة، أو جماعة أو أسرة باقية مرتبطة منتسبة لهؤلاء الأولياء. كل هؤلاء الورثة كانوا مهتمين بضمان تذكر وتوارث تلك القصص. إلا أنه على الرغم من المزايا المحتملة للروابط بين الصوفيين والسلاطين، فقد كانت تلك الروابط أيضا مدمرة في بعض الأحيان؛ إذ إن القرب الشديد من إحدى الأسر الحاكمة جعل أسرة الولي على نحو حتمي محل شك في عيون الأسرة الحاكمة التي تحل محلها. وتعامل الصوفيون على اختلافهم بطرق مختلفة مع تلك المعضلة المتمثلة في الحاجة الحتمية إلى الرعاية المادية، والمخاطر الكامنة في الارتباط الشديد بإحدى الأسر الحاكمة. وكما رأينا في حالة الطريقة الجشتية والطريقة النقشبندية؛ فإنه في بعض الحالات اتخذت الطرق المختلفة أساليب مميزة للتعامل مع المشكلة. أما بالنسبة إلى الطرق التي تأسست على كراهية صحبة الملوك، فقد كان وجودهم المؤسسي يقتضي الحاجة إلى ميزانية تشغيلية أساسية على الأقل.
82
ومن ثم فإن الجشتيين - الذين كانوا يتجنبون صحبة الملوك نظريا في شمال الهند في فترة العصور الوسطى - وجدوا أنفسهم يضعون إرشادات أخلاقية معقدة أملوا من خلالها (سدى على الأرجح) أن يتجنبوا انتهاك مبادئهم؛ فازدروا كسب القوت لصالح نظام من العطايا، أو ما يسمى «الفتوح» التي يمكن قبولها حتى من الملوك، شريطة عدم طلبها، وشريطة توجيهها إلى الأنشطة الجماعية للخانقاه.
83
مع ذلك، وعلى الرغم من اهتمام الجشتيين الكبير بتجنب ذكر الملوك في كتاباتهم العامة، فإننا نعرف من سجلاتهم الخاصة أنهم لم يتجنبوا على الإطلاق تلقي العطايا الملكية التي سمحت لمؤسساتهم بالعمل.
84
على الرغم من ذلك، لم يكن الملوك المصدر الوحيد للدعم المادي لتوسيع المؤسسات الصوفية في هذه الفترة؛ إذ توجد أدلة كافية على زيادة ثراء بعض الخانقاوات على الأقل من خلال رعاية التجار لها، وإن كانت هذه العملية ما زالت غير مفهومة على نحو كبير. ففي حالة ضريح أبي إسحاق الكازروني الذي يقع على أحد أهم طرق التجارة في إيران في فترة العصور الوسطى، نعلم أن التجار القادمين من مناطق بعيدة مثل الهند والصين، أقاموا في الخانقاه أثناء مرورهم في المنطقة. ووفقا لابن بطوطة الرحالة ابن شمال أفريقيا، في منتصف القرن الرابع عشر كانت قواعد المسكن الصوفي تلزم هؤلاء التجار بالبقاء لمدة ثلاثة أيام على الأقل، وفي هذه الأثناء، كانوا يطعمون يخنة تسمى «كيشكيك» مصنوعة من اللحم والقمح ونكهات دهن الضأن الغنية. وعندما منح التجار نوعا من الضمان الماورائي للمرور الآمن لبضاعتهم، تعهدوا بتقديم مبالغ مالية للولي، والتي كانوا يرسلونها عند عودتهم لموطنهم بأمان إلى كازرون مع التاجر التالي المسافر إلى هناك.
85
وفي المناطق الأكثر جفافا حول مدينة يزد التجارية المركزية الإيرانية بعد ذلك بقرن، كان معروفا بالمثل عن خانقاوات الطريقة النعمتلاهية استضافتها للتجار من بلاد بعيدة، مثل شبه الجزيرة العربية وآسيا الوسطى. وتعويضا عن حقيقة أن الولي المؤسس للطريقة كان مدفونا في مدينة ماهان البعيدة وليس في إحدى الخانقاوات الموجودة في سهل يزد، فقد حاول النعمتلاهيون جذب هؤلاء التجار من خلال تأسيس حدائق مريحة في الخانقاوات للاحتماء من شمس الصحراء، وشيدوا أيضا ضريحا آخر للولي نفسه، الذي كان يمنحهم بركات بالوكالة.
86
وعلى الرغم من أن تلك الأساليب المستخدمة في جذب التجار كانت منتشرة على الأرجح، فإنه يبدو أن المصادر المكتوبة تحدثت أكثر عن رعاية الحكام مقارنة برعاية التجار. مرة أخرى، يجب عدم الحكم على المسألة حكما أخلاقيا؛ فلا توجد مؤسسة دينية يمكنها الاستمرار طويلا دون مصدر منتظم للدعم المالي، وفي الفترة التي نتناولها كانت الثروة مركزة في فئات قليلة في المجتمع. بالطبع، كان يوجد صوفيون تجنبوا أي اتصال مع جماعات النخب، وكانت قبورهم في الأساس ملجأ للفقراء من الحضر والريف، إلا أن هؤلاء الصوفيين المحدودين كانوا يفتقرون القدرة على القراءة والكتابة اللازمة لكتابة النصوص، وكذلك المال اللازم لتشييد الأضرحة؛ ومن ثم كان من النادر أن يظهر هؤلاء الأولياء المناصرون للفقراء في صفحات التاريخ، إلا إذا جذب أحدهم مجموعة جديدة من الأتباع. وحتى عند معرفتنا بأفراد من الصوفيين في هذه الفترة سطروا أنفسهم في التاريخ من خلال جهودهم الأدبية - سواء شهاب الدين السهروردي (المتوفى عام 1191)، أو ابن عربي (المتوفى عام 1240)، أو علاء الدولة السمناني (المتوفى عام 1336) - فإن هذا كان في الغالب نتيجة لقبولهم رعاية وحماية الحكام.
87
وحتى إن لم تكن هذه المساعدة منشودة أو مقبولة، فقد كان من النادر أن يتجرأ أحد الصوفيين على تحدي حكام زمانه على نحو علني. ومن الحالات النادرة في هذا الشأن عين القضاة (المتوفى عام 1131) من بلدة همدان بغرب إيران، الذي كتب من محبسه - إثر اتهامه بالهرطقة - كتاب «شكوى الغريب»، ودافع فيه عن تعاليمه.
88
ولو كان تحدي الحكام إحدى طرق تخليد الذكرى، فإن قليلا من الصوفيين قد اختاروا سلوك هذا الطريق.
إذا كان التمرد أكثر ندرة من التحالف مع الطبقات الحاكمة، فقد كان يوجد مجال كبير لطريق وسط وهو المنافسة.
89
فعلى الرغم من عدم وضوح الأصول الدقيقة لممارسة المنافسة، فإنه بداية من القرن الخامس عشر في المنطقة التي تمتد ما بين الأناضول والهند، نجد الكثير والكثير من الأولياء يوصفون بمصطلحات تخص الملوك؛ فقد أطلق عليهم «شاهات» (أي أباطرة)، وأطلق على أضرحتهم «دارجا» (أي البلاط الملكي)، واعتبرت عمائمهم «تيجانا»، وهذه أوصاف من المحتمل أن تكون قد نشأت بين أتباع «شاه» نعمة الله ولي (المتوفى عام 1431) في شرق إيران. ومع اكتساب مجتمعات الأضرحة الكبرى في فترة العصور الوسطى مزيدا من المكانة، مع مرور الأجيال، أصبحت سلالات الأولياء في كثير من المناطق طبقة «صاحبة نفوذ» أكثر ديمومة وأطول عمرا من سلالات الملوك الأقصر أجلا. وفي الفصل القادم، سوف نرى كيف أنه بعد القرن السادس عشر ظهر هذا الصراع على المكانة في عدة اتجاهات مختلفة، بدءا من إطاحة الصوفيين بالسلاطين حتى يتقلدوا الحكم، وحتى أنواع جديدة من الدول في أوائل العصر الحديث الساعية إلى سيطرة أكثر صرامة للصوفيين على أراضيهم. أما في فترة العصور الوسطى التي نتناولها الآن، فقد كانت الصورة الكلية تمثل صعودا كبيرا للصوفيين، باعتبارهم أولياء يكتسبون من خلاله النفوذ والثروة في بعض الحالات على نحو جعل وصف أتباعهم لهم بالشاهات ليس مبالغة من باب التقوى على الإطلاق.
وراء نظرية ومصطلحات الولاية المعروفتين عبر المناطق الشاسعة، يبدو من المحتمل وجود اختلافات جوهرية في طريقة تصرف الأولياء وذرياتهم ومؤسساتهم في الشرق التركي الفارسي وفي الغرب التركي العربي، خاصة مع بلوغ الأولياء أوج تأثيرهم الاجتماعي والاقتصادي في مناطق الشرق التركي الفارسي، إلا أنه حتى الآن لم يؤلف عمل مقارن حقيقي بين عملية تقديس الأولياء في الشرق والغرب الإسلاميين. وإلى حد ما على الأقل، يعزى جزء من تفسير هذا الاختلاف إلى التأثير الأكبر على مجتمعات الشرق الإسلامي من قبل الجماعات القبلية والبدوية التي كانت تولي أهمية بالغة للأولياء الصوفيين. وظهر ذلك على نحو بالغ الوضوح في تحول قبائل بأكملها إلى الإسلام نتيجة تحالف شيخ القبيلة مع أحد الصوفيين. في هذا الصدد، لا بد أن نضع في اعتبارنا أنه باستثناء شمال أفريقيا فقد كان العالم الإسلامي من الأناضول إلى الهند في معظم فترة العصور الوسطى تحكمه الجماعات القبلية التركية والمغولية. وفي كثير من الحالات، يكون ما نتناوله في حديثنا عن العلاقات بين الولي والقبيلة قصصا عن الولي قدر ما هي أفعال قام بها، وهي روايات سردية من النوع الذي رأيناه بالفعل يؤثر على نحو هائل على التوجهات الشعبية تجاه أضرحة وعائلات الأولياء. أما ما يحظى بأهمية خاصة هنا، فهو روايات التحول إلى الإسلام، التي عن طريقها كون نطاق كامل من الجماعات القبلية عبر آسيا الوسطى وإيران والهند هويتهم العرقية، على أساس قصص تحول أسلافهم المؤسسين إلى الإسلام على يد أحد الصوفيين.
90
وحتى في البيئات الزراعية في مناطق مثل مصر، كان القرويون الذين عاشوا حول أضرحة الأولياء الصوفيين يعتبرون هؤلاء الأولياء أسلافا مؤسسين لقراهم.
91
وبالانتقال من قصص الأولياء إلى أعمالهم، فإن الأدلة الموجودة تشير إلى أن هذه التفاعلات بين الأولياء والقبليين كانت بعيدة كل البعد عن «الروحانية» الصرفة، وفي أحيان كثيرة، كانت تتضمن تفاعلات مادية متمثلة في الزواج والجنس والتوالد، فنجد أن كثيرا من الجماعات القبلية تسرد أصولها العرقية على أساس اعتمادها على ذرية أحد أكابر القبيلة وابنة أحد الأولياء الصوفيين، أو ولي صوفي وابنة أحد أكابر القبيلة، هذا على الرغم من أن هذه العملية ليست مفهومة على نحو كامل، ليس فقط لأن القبائل لا تنتج وثائق مكتوبة إلا بعد استقرارها وتعرضها لتأثيرات حضرية، ورعايتها لآخرين كي يكتبوا تاريخها نيابة عنها؛ لذلك، يعتبر الفرع التيموري من قبيلة جهار أيماق - الموجودة في غرب أفغانستان حاليا - أنفسهم من سليل زواج سيد أمير كلال النقشبندي (المتوفى عام 1370 تقريبا) وابنة الغازي القبلي العظيم تيمور (المتوفى عام 1405)، ويدعم هذا التقليد في هذا الصدد ظهوره في السيرة الفارسية المكتوبة في فترة العصور الوسطى «مقامات أمير كلال».
92
وبين قبائل المغول التابعة للقبيلة الذهبية فيما يعرف حاليا بجنوب روسيا وكازاخستان، كان يوجد على نحو مماثل صوفي مغمور ينتمي للقرن الرابع عشر يعرف باسم بابا توكلاس، والذي اعتبر السبب في دخول القبيلة الذهبية في الإسلام، بل اعتبر أيضا مؤسسها.
93
إن ما نتناوله في أي من الحالتين السابقتين ليس تصوف ماورائيات معقدة مجردا، بل صوفية زواج وتناسل وبناء مجتمعات، تنتقل فيه «البركة» وحماية الجد الولي من خلال الوسائل المادية، وكذلك عن طريق الميلاد والقرابة. بهذه السبل، حصل الصوفيون على التقديس من خلال دمجهم في أساطير التكوين العرقي وهياكل الحياة القبلية، وأصبحوا أولياء من خلال إحياء ذكرى وتبجيل القبليين الذين اعتبروا أنفسهم منحدرين من نسلهم. ويجب ألا نتخيل بالضرورة أن هؤلاء الصوفيين كانوا تلك الشخصيات المهتمة بالعلم التي رأيناها في مدارس الغرب الإسلامي، بل إننا في كثير من الحالات نتعامل في هذا الصدد مع شخصيات ذات جاذبية أكثر جموحا، من المحتمل أكثر رؤيتها ترتدي جلود وقرون الحيوانات بدلا من عباءة وعمامة العلماء. وقد قيل كثيرا إن هؤلاء الصوفيين كانوا أقرب إلى شامانية السهوب التقليدية من إسلام المدن، وإن «إسلامهم الشاماني» ساعد في جعل التحول إلى الإسلام مستساغا لدى أتباعهم القبليين.
94
إلا أنه على الرغم من أن هذه النظرية تتمتع بالقبول بكل تأكيد، فإن الفحص الدقيق لأنواع الصوفيين المرتبطين بالقبائل أظهر أن كثيرا منهم كانوا في واقع الأمر منتسبين رسميين لطرق صوفية، مما يشير إلى أن إسلامهم كان أكبر من التنكر الظاهري في مظهر الشامانات.
95
لم تكن كل سمات عملية التقديس محصورة داخل النطاق التركي المغولي فحسب؛ فقد ربط انتشار الإسلام في عالم الملايو في القرنين الرابع عشر والخامس عشر بتحول حكام الملايو المحليين إلى الإسلام، على يد الصوفيين البحارة القادمين من شبه الجزيرة العربية والعراق. بالرغم من ذلك، يقال إن الروايات متأخرة كثيرا عن الأحداث؛ ولذلك فإنه من المحتمل مرة أخرى أننا نتعامل مع الأولياء كفاعلين على الجانب السردي وليس الفعلي.
96
وحتى بين الكيانات السياسية الأكثر استقرارا في الغرب الإسلامي، نجد أن فكرة انتقال البركة عن طريق القرابة تجد طريقها في النهاية إلى الهيكل الاجتماعي لملاك الأراضي الزراعية على طول حافة الصحراء الكبرى؛ لأنه بالنسبة إليهم أدت الأنساب المباركة هذه إلى تعزيز الحاجز العرقي بين العرب ملاك الأرض وبين العبيد الأفارقة.
97
وإذا كانت جاذبية الأولياء تعتبر في أغلب الأحيان موردا غير ملموس ورمزيا، فإنه من خلال ربط البركة بالقرابة في كثير من هذه البيئات من آسيا الوسطى إلى أفريقيا، أصبحت البركة من الأصول المادية القابلة لإعادة الإنتاج.
وإذا ابتعدنا عن النخب ونظرنا إلى العوام، فسنجد أن الأثر الأكبر لتبجيل الصوفيين تمثل في وضعه أسس إسلام تعبدي وفر فيها تبجيل الأولياء - الذي عد أكثر سهولة من تبجيل إله بعيد - وسيلة للتعبير الديني الشعبي. وكما هو الحال مع المظاهر الأخرى للثقافة الشعبية في فترة العصور الوسطى، فإن مصادرنا مقتصرة إلى حد كبير على الملاحظات المدونة عن الممارسات الشعبية التي كتبها المتعلمون، سواء المنتقدون المزدرون للعوام، مثل عالم الفقه الصوفي ابن تيمية (المتوفى عام 1328)، أو كتاب السير الصوفية المهتمون بخصائص السكان المحليين.
98
على الرغم من ذلك، فإن حقيقة أن وجود الأولياء كان جزءا من دين الشعب قدر ما كان جزءا من دين النخبة؛ تعني أننا يجب ألا نتخيل وجود أي تناقض صارخ بين إسلام «العوام» وإسلام «النخب»، كان فيه تبجيل الأولياء مقتصرا فقط على العوام.
99
فإن ما رأيناه عن تكون المعتقدات والمؤسسات المتعلقة بالأولياء بين العلماء والسلاطين يشير إلى أن تبجيل الأولياء ظهر في قمة الهرم الاجتماعي، وانتقل إلى ما دون ذلك. على الرغم من ذلك، فإن آليات إعادة الإنتاج الخاصة بالطرق الصوفية أدت إلى الانتشار التدريجي لشبكة هائلة من الأضرحة المشيدة لتبجيل الممثلين المحليين لمختلف الطرق الصوفية. وسمح تشييد هذه الأضرحة بالتواصل مع الله من خلال التفاعل مع أماكن مادية، وليس فقط من خلال النص القرآني أو حتى الأشخاص المقدسين أو الأماكن المقدسة؛ فلقد خلق إسلاما حلوليا وملموسا في بيئاته المحلية. وإن تبجيل الأولياء الصوفيين قد سمح باستخدام مجموعة كاملة من الأشياء المادية باعتبارها وسائل وأدوات للإسلام، بداية من أجزاء من كسوة ضريح، والتراب المكنوس من المقابر، إلى التذكارات المجلوبة من زيارات الأضرحة؛ مثل ماء الورد، أو الزهور، أو حتى ريش الطاووس الذي كان يعتقد أنه يحمل البركة من خلال احتكاكه بالضريح. ومن خلال هذا التوسيع لنطاق طرق التعبير عن الإسلام والتفاعل معه، زادت مشاركة الجماعات الاجتماعية الأقل اطلاعا نسبيا على القرآن الكريم، لا سيما النساء.
لم تكن النساء وحدهن اللاتي تعرفن على الإسلام بهذه السبل، فعلى الرغم من أنه لطالما سادت حالة من الجدل حول ما إذا كان الإسلام دينا حضريا في الأساس، فإن ممارسة منح الأراضي الزراعية للصوفيين من المغرب وحتى فلسطين وآسيا الوسطى والهند، في فترة العصور الوسطى، جعلت أول تواصل لكثير من الريفيين مع المؤسسات الإسلامية يحدث من خلال القنوات الصوفية؛
100
ففي الريف وليس دائما في المدن، كان الإسلام فعليا هو الصوفية، وكانت الصوفية بدورها إسلاما يتم التواصل فيه مع الله من خلال وساطة الأولياء المحليين الممثلين لله. وفي هذه السياقات، اتخذ تبجيل الأولياء أشكالا محلية مميزة من خلال دمج المفاهيم الإسلامية العامة مع المصطلحات اللغوية والطقوس المحلية إلى حد كبير. وعلى الرغم من أن التعبير عن هذا التبجيل للأولياء كان يتم بالتأكيد من خلال اللغات المحلية، فلم يبق من هذا الأدب الشعبي إلا القليل، أو لم يبق منه شيء مطلقا قبل القرن الخامس عشر. إلا أنه من خلال ما نعرفه يبدو أن الأولياء كانوا مصورين بطرق مناسبة بدقة للأعراف السائدة لمناصريهم؛ ففي جنوب الهند - على سبيل المثال - نجد المحليين يعبرون عن تبجيلهم للأولياء من خلال التهويدات المحلية الريفية، وأغاني العمل المبهجة الخاصة بطحن القمح.
101
في حالات أخرى، أدى القرب الشديد بين المسلمين والمسيحيين والهندوس إلى تطوير أشكال «توفيقية» للطقوس والكلام، مكنت غير المسلمين من المشاركة في تبجيل الأولياء دون الدخول رسميا في الإسلام.
102
فعندما انتقلت الأناضول من حكم البيزنطيين إلى حكم السلاجقة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كانت المساكن الصوفية ساحات للتأمل لكل من المجتمعات المسيحية الأقدم والبدو التركمان الوافدين حديثا.
103
وفي الأماكن المرتبطة بمناطق أخرى عن طريق طرق التجارة المكتظة، نجد عادة أن التعبير عن هذه التوفيقية والمحلية يحدث دون إغفال ارتباطات الأولياء بممارسات الإسلام الأوسع نطاقا. أما في المناطق الأكثر بعدا أو غير المتصلة بغيرها على نحو جيد، فكان شائعا أن نجد مستويات هائلة من الاختلاف عن الأعراف الإسلامية السائدة، ومع انتشار الصوفيين في هذه المناطق الريفية فقدوا في بعض الأحيان هم أو أتباعهم التزامهم الصوفي السابق بالشريعة والقرآن والحديث. وفي بعض الحالات، كما في حالة تبجيل الشيخ عدي بن مسافر من قبل اليزيديين في جبال كردستان، فإن إضفاء الطابع المحلي المنفصل عن الإسلام جعل تبجيل أضرحة الصوفيين يعزز تدريجيا تكوين أديان جديدة مستقلة.
104
على الرغم من ذلك، في أغلب الأحيان كانت نتيجة تحول الصوفيين إلى أولياء، الذين أصبح وجودهم دائما في مجتمعاتهم المضيفة من خلال بناء الأضرحة، أن أصبحوا يمثلون وسيلة لعدد لا يحصى من الأشخاص العاديين للتعبير عن تبجيلهم لله وطلب خدمات من أوليائه. في النهاية، كان التبجيل وطلب الخدمات وجهين لعملة واحدة؛ فمن خلال توفير الصوفيين كأولياء سبيلا لصنع المعجزات، حققوا أهدافا عملية للغاية. وبينما توسل الأمراء إليهم من أجل الانتصار في المعارك، توسل الفلاحون من أجل عودة المياه إلى الآبار. ومع اكتساب معتقد الولاية القديم زخما مؤسسيا، بداية من القرن الحادي عشر فصاعدا، أدت نتائجه العملية إلى نيل الصوفيين استحسانا واسع النطاق على كل مستويات الطبقات الاجتماعية. وعلى الرغم من أن مكانة الأولياء الصوفيين سوف تتغير بالتأكيد في القرون التالية (بصفة خاصة في فترة العصر الحديث التي سنتناولها في الفصل الرابع)، فمن المهم أن ندرك أن تبجيل الأولياء الصوفيين ما زال يشكل أساس الحياة الدينية لملايين كثيرة من المسلمين حتى يومنا الحاضر. (5) إضفاء الطابع المحلي على التعاليم الصوفية
تناولنا في هذا الفصل حتى الآن عمليتين تمكن من خلالهما الصوفيون في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والخامس عشر من رفع مكانتهم وزيادة أتباعهم على نحو هائل؛ من خلال التأسيس المفاهيمي والتنظيمي للطرق، وتحولهم لأشخاص محل تبجيل بصفتهم أولياء. وانعكاسا للنطاق الجغرافي والاجتماعي الشاسع الذي كان يعمل فيه الصوفيون في ذلك الوقت، شهدت فترة العصور الوسطى أيضا تطورا مهما ثالثا تمثل في تزايد إضفاء الطابع المحلي على الأفكار الصوفية، فاصطبغت بلغات المناطق الكثيرة التي كان الصوفيون قد دخلوها في تلك الفترة. وبلا استثناء تقريبا، كتب كل المنظرين الصوفيين المؤسسين - الذين تحدثنا عنهم في الفصل الأول، سواء أكانوا في العراق أم في خراسان - أعمالا باللغة العربية. وحتى إذا نحينا جانبا قيود الأمية، فإننا يجب أن نتذكر أن التحدث باللغة العربية كان مقتصرا على المناطق الموجودة جنوب العراق، وحتى في هذه المناطق تنافست العربية خارج المدن مع لغات أخرى تراوحت ما بين الكردية والتركية والأمازيجية. وبالاتجاه إلى أقصى الشرق، كانت اللغة العربية لغة المتعلمين فحسب، وكانت الغالبية العظمى من المسلمين تتحدث لغات كانت مختلفة في بنيتها عن العربية قدر اختلاف الإنجليزية عنها، على الرغم من اقتراضها لقدر كبير من مصطلحاتها من اللغة العربية وحروفها من الأبجدية العربية (عندما بدأت في النهاية تستخدم في الكتابة). ومن الواضح أنه من أجل أن تتطور الصوفية لتصبح شيئا أكبر من مجرد إسلام النخبة، كان لزاما أن تحرز تقدما في عوالم اللغات المحلية التي كان يعيش ويفكر فيها الغالبية العظمى من المسلمين شرق العراق ، خاصة في جنوب وجنوب شرق آسيا. وعبر عملية الترجمة هذه للتعاليم الصوفية إلى نطاق من اللغات التي تتحدثها مجتمعات المسلمين الجدد، انتقلت مجموعة من المصطلحات الدينية، إما باللغة العربية الأصلية وإما بتعديل في اللغة العربية يتفق مع علم الأصوات الخاص باللغة المحلية؛ ومن ثم تكونت «مصطلحات إسلامية معيارية عبر إقليمية في مجتمعات المسلمين في جنوب وجنوب شرق آسيا.»
105
وبالإضافة إلى المصطلحات القرآنية الأساسية الخاصة بالصلاة والألوهية، فقد تكونت المصطلحات المعيارية هذه إلى حد كبير من كلمات مأخوذة من المعجم الصوفي العربي الذي شهدنا تكونه في الفصل الأول.
106
ونظرا لأن الصوفيين كانوا محوريين في تكوين المجتمعات الإسلامية الجديدة في مناطق مختلفة في هذه الفترة، فقد زعم مؤخرا أنه يجب اعتبار هذه الأعمال المتعلقة بالترجمة المحلية جزءا لا يتجزأ من عملية التحول إلى الإسلام الموازية لها؛ لأنه «من خلال الترجمة، تدريجيا، أنشأت وتبنت وراكمت المجتمعات الجديدة الموارد الثقافية، التي جعلت الحديث عن الماضي الإسلامي والوجود الإسلامي المعاش ممكنا.»
107
شكل 2-5: تعبيرات باللغات المحلية: مخطوطة صوفية باللغة الملايوية (صفحة نصية واحدة غير مرقمة لإحدى المخطوطات، من مجموعة مخطوطات اللغة الملايوية 106 (مجموعة ماكسويل، الجمعية الآسيوية الملكية). صفحة أولى غير مرقمة من المخطوطة منشورة بإذن الجمعية الآسيوية الملكية).
على الرغم من ذلك، لم تكن عملية إضفاء الطابع المحلي هذه هي إنجاز الصوفيين وحدهم؛ فإذا كان يبدو في بعض المناطق أن الصوفيين كانوا رواد الكتابة باللغات المحلية، فإنهم في مناطق أخرى كانوا يقلدون أساليب الحكام في تبني اللغات المحلية. في المجمل، يمكننا لهذا السبب الإشارة إلى ثلاثة أنماط عامة من هذه العملية، وهي: نمط الحكام الذي ظهر من خلال رعاية السلالات الحاكمة للإنتاجات الأدبية الراقية، ونمط أكاديمي اعتمد على ترجمة الصوفيين للأعمال التي تتناول المعتقد والآداب للأتباع المحليين، ونمط فولكلوري ظهر من خلال اقتباس أجناس أدبية فولكلورية منخفضة المستوى. في القرون السابقة على القرن السادس عشر، اعتمد النمط الأول على اللغة الفارسية (وعلى اللغة الهندية في إحدى الفترات القصيرة)، واعتمد النمط الثاني على اللغة الأردية الدكنية وربما لغة الملايو، واعتمد النمط الثالث على عدة لغات أخرى تواصل بها بعض الصوفيين على الأقل مع أتباعهم، لكن الأدلة الوحيدة المتبقية على هذا النمط مكتوبة بأشكال معينة من اللغة التركية والأردية الدكنية مرة أخرى، وربما لغة الملايو. وجعلت تلك العلاقة بين اللغة والسلطة والنص اللغة الفارسية الأكثر استخداما إلى حد كبير في النصوص المكتوبة؛ لذلك فهناك المئات من الكتب الصوفية المكتوبة بالفارسية، التي تعود إلى ما قبل القرن السادس عشر، في حين أننا لا نجد نصوصا مكتوبة باللغات المحلية الأخرى إلا مجموعة من أشعار المناسبات.
كان الاستخدام الأدبي للغة الفارسية التي كانت في ذلك الوقت لغة محلية غير مكتوبة موجودا بالفعل قبل القرن الثاني عشر؛ إذ بدأ في وقت مبكر في القرن التاسع أو العاشر في الدول الإسلامية المحلية التي ظهرت مع تفتت الإمبراطورية العباسية في خراسان؛
108
ففي عام 1010 كان الشاعر أبو القاسم الفردوسي (المتوفى عام 1020) قد أكمل ملحمته «الشاهنامة» (أي «كتاب الملوك»)، الذي روى فيها الأعمال البطولية لحكام إيران القدماء، مستخدما نظما مزدوجا فارسيا سهل الحفظ. وعلى الرغم من أن الشعر الفارسي تكون أولا، فسرعان ما تبعه النثر، فقد كان الصوفيون في إيران وخراسان يستخدمون الفارسية بالفعل في زمن الفردوسي. في الفصل الأول ذكرنا بالفعل أول كتاب نثري بالفارسية، وهو «كشف المحجوب» الذي كتبه الهجويري في العاصمة التركية الجديدة في شمال الهند في لاهور. وبعد إدراك ملاءمة هذه اللغة المحلية الرائدة، اختار المزيد والمزيد من الصوفيين على مدار القرون اللاحقة الكتابة بها، مقترضين كلا من الأنواع الأدبية واللغة المتخصصة لأسلافهم الصوفيين الذين كتبوا باللغة العربية، لغة القرآن والعلوم الدينية الأخرى الأعلى مكانة. وبينما أدى تكوين الأدب النثري الفارسي إلى اتساع النطاق الاجتماعي للأفكار الصوفية، وقدم وسيلة أيسر استطاع من خلالها الصوفيون في شرق العالم الإسلامي نشر أفكارهم، فمن أجل شرح النجاح المتزايد للصوفيين في فترة العصور الوسطى، يجب أن نلتفت إلى وسيلة الشعر الذي كان أكثر رواجا وأكثر تذكرا. فعلى الرغم من أن الصوفيين كانوا بالتأكيد يؤلفون القصائد بالفارسية في زمن الفردوسي، فإننا لدينا أدلة قليلة نسبيا، باستثناء الرباعيات المنسوبة إلى شخصيات مثل بابا طاهر (المتوفى نحو عام 1020) الذي كان من همدان غرب إيران، وأبي سعيد بن أبي الخير (المتوفى عام 1049)، الذي كان من ميهنة والذي رأيناه في السابق ينظم حفلات موسيقية مسائية في الخانقاه خاصته في خراسان.
109
وكانت هذه القصائد تشبه ما يمكن أن نعتبره اليوم شعرا غنائيا؛ حيث كان مقصودا أن تغنى بصحبة الموسيقى، وقد شكلت أساس ممارسة السماع الصوفية التي رأينا بالفعل أنها كانت مثار جدل. وتصبح الطبيعة المثيرة للجدل للسماع أكثر وضوحا عندما ننظر إلى الموضوعات والأفكار التي تناولها الكثير من هذه الرباعيات؛ مثل: السكر، والوجد، والارتحال، والجنون، وبصفة خاصة، الجمال الجسدي للغلمان والسقاة.
على الرغم من أنه لاحقا أصبح من المعتاد أن يقول المعلقون الصوفيون إن المعاني «الحقيقية» للشعر الفارسي المبكر هذا كانت معاني باطنية وروحانية - فالسكر كان معناه الانشغال بالله لا بالخمر، والشباب الجميل كان مجازا للكمال الإلهي، وهكذا - فإنه لا يبدو من الوجيه إلى حد كبير الشك في أن كثيرا من جمهور هذه الأغاني في فترة العصور الوسطى (إن لم يكن معظمهم) كانوا يستمتعون بها بمعناها الظاهر؛ إذ كانت تمثل احتفاء بالخمر والجنس والغناء. وعند مقارنة موضوعات المتع الدنيوية التي ميزت الأجيال الأولى من الشعر الفارسي، بالموضوعات الباطنية التي سيطرت لاحقا على كل أنواع الشعر الفارسي، باستثناء شعر المديح؛ ذهب أحد الباحثين بعيدا إلى حد الحديث عن «استعمار صوفي للأدب الفارسي».
110
فمن الناحية الاجتماعية، كان هذا الشعر يستخدم في تبرير سلوك الشعراء الصوفيين الغريب الأطوار في بعض الأحيان؛ من خلال مواراة أفعالهم في لباس بلاغة الماورائية الباعثة على الغموض والمحترمة على الرغم من ذلك.
111
الأمر الأهم هو أن القوة الجمالية وكذلك الاجتماعية لهذه القصائد ترجع إلى السبل المتعددة التي يمكن بها فهم معانيها؛ إذ إن الغموض والتورية اللذين اتسم بهما الأداء الحماسي لهذا الشعر المغنى قد منحا الصوفيين وسيلة فعالة للوصول إلى المجتمع والدعاية لنفسها. في هذا الصدد، يجب أن نضع في اعتبارنا أنه في المجتمعات ما قبل الصناعية التي كانت الموسيقى فيها عروضا مباشرة بالضرورة، كانت فرصة سماع الموسيقى متعة نادرة بالنسبة إلى معظم الناس؛ ومن ثم، فإن تزايد ميل الخانقاوات إلى رعاية الحفلات الموسيقية، أو ما يطلق عليه «محافل السماع»، شكل عامل جذب مهما لمجتمعاتها المحيطة.
بطبيعة الحال، فإن الهوس بالآداب الرسمية الذي رأينا أنه سمة مميزة للغاية للصوفيين، كان معناه وضع قواعد رسمية للاستماع اللائق للموسيقي (التي كانت تتضمن غالبا منع النساء من الحضور)، بالرغم من أنه يبدو معقولا استنتاج أن بعض التجمعات كانت أقل رسمية عن غيرها. وفي إيران وخراسان في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر، اقتبس الصوفيون من البلاطات الملكية النوع الأدبي المعروف باسم «الغزل»، الذي كانت العلاقة فيه بين المسلم والله مقدمة في شكل علاقة بين المحب والمحبوب، مما سمح للشعراء بتخيل الله في صورة مادية واضحة؛ مثل غلام أشقر، أو امرأة لعوب ذات قبعة مائلة، أو فتى أمرد مخنث. وباقتباس الشعر الرومانسي الذي كان رائجا في البلاط الملكي، قدم الصوفي نفسه في مظهر جديد مشابه؛ فقدم نفسه في صورة المحب أو الأبله أو المجنون الذي يتأرجح ما بين التمني والعذاب بسبب حضور الحبيب تارة وغيابه تارة أخرى. وتزايد تقديم الصوفي في صورة القلندر، وهي شخصية مشبوهة وخارجة على القانون سنتحدث عنها بتفصيل أكبر لاحقا.
112
ونظرا لبذاءة الصور المجازية الموجودة في أجود أمثلة الغزليات «الصوفية» هذه في أعمال شعراء؛ مثل: السنائي الغزنوي (المتوفى عام 1131)، وسعدي الشيرازي (المتوفى عام 1292)، وحافظ الشيرازي (المتوفى عام 1390)، فإن من الصعب تحديد ما إذا كان الغرض من أشعارهم هو التفسير الباطني أم مجرد إمتاع الأمراء الشباب. في حالات أخرى، مثل تلك الأشعار الغنائية التي كتبها صوفيون خالصون؛ مثل: فخر الدين العراقي (المتوفى عام 1289)، وجلال الدين الرومي (المتوفى عام 1273)، يوجد قدر أقل من الغموض حول نوايا الشاعر. إلا أننا في نهاية المطاف نجد أن مسألة نية المؤلف أقل أهمية من حقيقة أن الصوفيين استخدموا لأغراضهم الخاصة النوع الأدبي والتصوير الشعري المميزين لشعراء البلاط الملكي . مرة أخرى، نرى كيف تمكن الصوفيون من دمج الناس وكتاباتهم في تقليدهم الخاص، ومنحوا بهذه الطريقة لأعمال الآخرين معاني متوافقة مع معتقداتهم الصوفية. ومثلما صنع الصوفيون القدماء معاني تصوفية من القرآن، فقد وجدوا لاحقا تأكيدا مشابها في أغاني الحب المثيرة في فارس في فترة العصور الوسطى.
منذ عصر الرومي في القرن الثالث عشر، أصبحت الاحتمالات الغامضة التي يثيرها الشعر الغنائي الفارسي راسخة باعتبارها الوسط المفضل للتعبير عن الأفكار الجريئة. وفي حالة الرومي، تضمنت هذه الأفكار الجريئة بصفة أساسية إعلان أن جلال الله يشرق من وجه صديقه الحميم، شمس الدين التبريزي. إلا أنه على الرغم من لوعة وإثارة غزليات الرومي التي يقدم فيها طريقة الصوفية على أنها طريق حيرة ونشوة الحب، فإنه في قصيدته السردية الضخمة والمطولة المسماة «مثنوي» (أي: النظم المزدوج المقفى) قدم أكبر إسهام في نشر الأفكار الصوفية. وعلى الرغم من أن أنواع النظم الأقصر المتمثلة في الرباعيات والشعر الغنائي كانت مناسبة للأجواء الغنائية التي كانت تهدف إلى استحضار «التواجد»، الذي يؤدي إلى حالة النشوة المرتبطة بالوصول لله، فإن هذا النظم القصير كان وسيلة ضعيفة لعرض المعتقد الصوفي؛ ولهذا السبب، استخدم الصوفيون القصيدة السردية الفارسية. ومثل بقية أنواع الشعر الفارسي، ظهر الشعر السردي في قصور حكام خراسان، وفيما يتعلق بتطور السرد الديني - وبصفة خاصة الصوفي - فقد كانت الشخصية المحورية هي أيضا السنائي في بلاط السلاطين الأتراك في غزنة (أفغانستان حاليا) في أوائل القرن الثاني عشر.
113
وعلى الرغم من أنه من الأفضل اعتبار السنائي شاعر بلاط عن اعتباره من المتصوفين - إذ تراوحت قصائده ما بين الاحتفاء بالخمر إلى تقديم المواعظ حول السلوك الجيد؛ نظرا لأنها كانت تغنى وفقا للحالة المزاجية لأسياده - فإن قصائده المطولة وضعت أسس استخدام الشعر كوسيلة تعليمية؛ ففي أعمال مثل «حديقة الحقيقة وشريعة الطريقة» و«سير العباد إلى المعاد»، حول السنائي القوافي إلى خرائط رمزية للكون تكشف رحلة الروح عبر العوالم الكونية المتعددة.
114
في أغلب الأحيان، أدى ثراء المفاهيم والمصطلحات الصوفية المتخصصة في قصائد السنائي إلى اعتبارها «موسوعة» المعتقد الصوفي، إلا أنه نظرا لكون السنائي فنانا ماهرا ومبدعا، فقد كان متنوعا أكثر مما كان منهجيا. وعلى الرغم من أن الصوفيين أخذوا قصائده ومنحوها تفسيرات باطنية، فإن مصادره كانت أكثر تنوعا؛ إذ كانت تعكس مزيجا من الفلاسفة والعلماء والمتصوفين الذين ترددوا على البلاط الغزنوي. وبعد قرن، وفي خراسان أيضا، منح فريد الدين العطار (المتوفى عام 1220 تقريبا) مزيدا من الاتساق العقائدي للقصيدة السردية التعليمية الفارسية التي كتب منها العديد من النماذج المهمة.
115
وكان «منطق الطير» أبرز هذه القصائد، وفيها ضربت أنواع مختلفة من الطيور مثلا لأنواع البشر، وكان بحثها عن «سلطان الطير» عبر الوديان السبعة التي حملت أسماء مثل «العشق» و«الحيرة» يرمز إلى المقامات الموجودة على طريق الوصول إلى الله. وربما في أشهر التوريات في الأدب الفارسي كله على الإطلاق، يدرك الثلاثون طائرا (سي مرج بالفارسية) التي تصل إلى وجهتها النهائية أنها نفسها كانت متطابقة مع الكائن الأسطوري الجرفين الذي سماه «سيمرج» الذي كان ملكها؛ أي إنه عندما يدمر الصوفي نفسه الدنيا من خلال اتباع الطريقة، فإنه لا يبقى في نهاية الرحلة إلا الله.
من منظور قياس الانتشار الناجح للصوفيين، الذي كان سمة محورية للغاية في إسلام فترة العصور الوسطى، من المهم أن ندرك أنه في ظل السياقات الثقافية في عصر ما قبل التصنيع مثلت تلك القصائد نوعا من أنواع الترفيه؛ فهذه القصائد التي كان يحفظها الشعراء المحترفون شكلت ساعات من الترفيه التي يمكن بسهولة نقلها وإعادة إنتاجها للجمهور الذي سيكتسب فكرها بالإضافة إلى التسلية. وإذا نظرنا إلى جلال الدين الرومي من منظور زمنه، فسنجد أن هذا الأمر ينطبق عليه بصفة خاصة، فهو أعظم شعراء السرد الصوفيين، الذي اعتمد في عمله «مثنوي» بأريحية كبيرة على التراث والحكم والفكاهة الشعبية؛ بحيث بلغ به الأمر أن ارتكزت إحدى قصصه الرمزية على افتتان جارية بقضيب حمار.
116
وكما في حالة القصائد الغنائية المعدة لأن تكون مصحوبة بالموسيقى، فمن خلال النكات والقصص التي نسجها الصوفيون في شعرهم تمكنوا من ربط رسالتهم بوسائل رحب بها العوام وغير المتعلمين في قراهم. ومقارنة بالكتيبات العقائدية، وحتى بالرسائل المتهورة وإن كانت معقدة، فقد كانت تلك القصائد تلقى قدرا أكبر من الاستحسان والفهم الفوريين. وإذا كان الأدب النثري العربي الذي رأينا الصوفيين يكتبونه منذ أوائل أيامهم في بغداد قد ساعدهم في الحفاظ على مكانتهم في الطبقة الدينية المسيطرة، فإن استخدامهم لأنواع الترفيه المحلية هذه مكنهم من الوصول إلى جمهور عام أكثر. وإذا كان تقديس الأولياء قد أكسبهم تبعية هائلة قائمة على القوة والاحترام، فإن إضفاء الطابع المحلي على تعالميهم ضمن أن تكون هذه العلاقة أيضا علاقة تملؤها العاطفة ويغذيها على الأقل قدر من الفهم.
إن الحياة الفعلية لشعراء مثل العطار والرومي تؤدي بنا إلى سمة أخرى مهمة من سمات انتشار الفارسية، مع خروج اللاجئين الهاربين من خراسان في أعقاب الغزو المغولي.
117
لم يكن العطار محظوظا للغاية؛ ففي وقت ما قرب عام 1220 اختفى الشاعر في مجزرة عظيمة لا يعرف فيها أسماء الضحايا، مثله مثل آلاف غيره من رفاقه القرويين في نيسابور. أما الرومي الصغير الذي قضى طفولته في بلدة فخش ثم بلدة بلخ في خراسان، فقد كان أوفر حظا، وكان والده العالم يتمتع بعلاقات مكنته من الحصول على منصب في عاصمة الأتراك السلاجقة الجديدة في أرض الروم أو الأناضول، التي منها اكتسب الرومي اسمه. وعندما ذبح المغول المنظر الصوفي صاحب رؤى النور و«مؤسس» الطريقة الكبروية نجم الدين الكبرى، هرب بعض أتباعه إلى الأناضول أيضا، وفي مدينة قيصري لخص تلميذه نجم الدين الرازي (المتوفى عام 1256) تعاليم شيخه في رسالة نثرية باللغة الفارسية، حملت عنوان «مرصاد العباد من المبدأ إلى المعاد».
118
أما بقية أتباع نجم الدين الكبرى، فهربوا إلى الهند، ونشروا التعاليم والطريقة التي تحمل اسمه لجمهور كان متحمسا لحكمة خراسان، التي أصبحت مشهورة في ذلك الوقت.
119
وهكذا، لم يضع المغول نهاية للصوفيين ولا لولعهم الجديد باللغة الفارسية. وكما رأينا، فعندما بدأ المغول اعتناق الإسلام منذ نهاية القرن الثالث عشر، أصبحوا أيضا مناصرين مثابرين للصوفيين ، مثل البدو السلاجقة السابقين الذين كانوا من قبلهم. إلا أنه في الفترة ما بين ظهور المغول في آفاق خراسان في عشرينيات القرن الثالث عشر، وتكيفهم مع الإسلام بعد دخول القائد المغولي محمود غازان خان في الإسلام عام 1295، أثاروا أزمة لاجئين عززت الشتات الخراساني الذي أدت عاداته وثقافته إلى تكوين صيغ إبداعية للغاية في أوطانهم الجديدة المتعددة. وهرب آلاف من الأشخاص سواء إلى الغرب حيث الأناضول، أو إلى الجنوب حيث الهند، فارين من خراسان التي نمت تقاليد الصوفية المميزة، وكانت رائدة الاستخدام الأدبي للغة الفارسية أيضا.
على الرغم من أن الفارسية كانت موجودة بالفعل في شمال الهند، فإن الدور الذي لعبته دلهي بوصفها «قبة الإسلام» الحارسة التي تحمي هؤلاء اللاجئين، جعلها تكون أدبا نثريا فارسيا ثريا يشبه كثيرا أدب خراسان. مرة أخرى، ليس من الحكمة اعتبار ذلك الأمر افتقارا للإبداع؛ فبقدر ما كان الإبداع مفهوما معروفا لدى الناس، فقد كان مكروها وكانوا يفضلون عليه التقليد، وإلى حد كبير اعتبر صوفيو الهند أتباع الطريقة الجشتية والطريقة الكبروية أنفسهم ورثة تقليدي خراسان اللذين تأسست فيهما هاتان الطريقتان المميزتان. على الرغم من ذلك، فقد دفع الهنود ورثة هذا الخروج الخراساني بالأنواع الأدبية التي ورثوها إلى اتجاهات جديدة، ونخص بالذكر منها توسيع نطاق الممارسة القديمة المتمثلة في اقتباس أقوال الشيوخ، لتصبح نوعا أدبيا جديدا تماما يقوم على «تدوين الحوارات»، وعرف هذا النوع باسم «الملفوظات». ومنذ عصر الصوفي الجشتي نظام الدين أولياء الذي أقام في دلهي (المتوفى عام 1325) فصاعدا، أصبحت الملفوظات تقنية ورقية لإعادة إنتاج الكلمات الحية الدقيقة للشيخ الملهم بعد وفاته بزمن طويل. ومع انتشار صوفيي سلطنة دلهي في جنوب وشرق الهند وأيضا شمالها، أصبحوا أيضا مروجين حكماء للغة الفارسية، ومنتجين متحمسين لأعمال مكتوبة بها. وعن طريق إلهام شعراء بلاط مثل أمير خسرو (المتوفى عام 1325)، نجح الصوفيون في تطويع الصيحات الأدبية في بلاط دلهي وفقا لأهدافهم، بطريقة ماثلت ما حدث في السابق في البلاطات الملكية في خراسان قبل غزو المغول.
120
وبهذه الوسيلة، وضعوا أساس مجموعة ثرية من الأعمال الأدبية تنوعت ما بين سير الأولياء والرسائل المتخصصة ومجموعات الخطابات المعروفة باسم «المكتوبات»، والتي أعادت إنتاج أنواع التعبير الصوفي الفارسي التي تشكلت في السابق في إيران وآسيا الوسطى في البيئة الجديدة.
121
على الرغم من أنه من الناحية الأدبية كانت الفترة السابقة على القرن الثاني عشر تنتمي في الأساس إلى اللغة العربية، وأن الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر تنتمي في الأساس إلى العربية والفارسية، فإنه في مواقف معينة استخدمت في الكتابة والتأليف لغات أخرى. فإن كانت الفارسية قد استخدمت كلغة محلية في أجزاء كبيرة من آسيا الوسطى وإيران، وكانت مفهومة على نحو كبير بين أوساط المتعلمين أو المهاجرين في الأناضول والهند، فإنها في المنطقتين الأخيرتين لم تكن لغة محلية على الإطلاق. ومثلما استغرقت الفارسية عدة قرون لتثبت أهليتها كلغة أدبية خارجة من ظل اللغة العربية، استغرقت الأشكال المختلفة من اللغتين التركية والهندية/الأردية وقتا للخروج من ظل الفارسية. وعلى الرغم من أن المرحلة الثانية هذه من عملية إضفاء الطابع المحلي على الفكر الصوفي كانت قيد التنفيذ بالتأكيد منذ فترة العصور الوسطى، فإنها لم تكتمل إلا متأخرا في القرن السابع عشر. وحتى إذا لم يدون استخدام الصوفيين للغات الهندية والتركية إلا نادرا في هذه الفترة المبكرة، فإنه يوجد لدينا دليل كاف يسمح لنا برؤية أن أسلوب الصوفيين في نشر أفكارهم بلغات العوام قد بدأ بالفعل في التوسع من الفارسية إلى الهندية والتركية وحتى الملايوية. وبطبيعة الحال، احتاجت الفارسية إلى رعاية الحكام كي تستخدم في الكتابة، وفي النهاية سيكون السلاطين والدول - لا الصوفيون والفلاحون - هم المسئولون عن استخدام اللغتين التركية والهندية في الكتابة. على الرغم من ذلك، فإننا نمتلك أمثلة كافية على استخدام الصوفيين لهاتين اللغتين المحليتين الأقل مكانة، ليشيروا إلى استعدادهم لتبني أي لغة ضرورية للوصول إلى نطاق أكبر من الجمهور، وإن كانت عادة هذه الأمثلة متمثلة فقط في الأجزاء المضافة المقحمة في النصوص الفارسية. في أغلب الأحيان كان ينطوي الأمر على تسوية لغوية، وتمثلت تلك التسوية في أننا نجد الصوفيين، في كثير من الحالات، يدخلون في هذه اللغات الأخرى المصطلحات العربية الدالة على مفاهيمهم التي شهدنا تكونها كمصطلحات متخصصة للصوفيين في بغداد. كانت هذه التسوية انعكاسا لعلاقة تبادل النفوذ على صعيد الازدواجية اللغوية بين اللغة العربية واللغات المحلية الأخرى - بداية من الفارسية، ووصولا إلى الهندية والتركية والملايوية وغيرها في نهاية المطاف - التي حملت مصطلحات مؤسسي التقليد الصوفي، التي أصبحت تحظى بالتقدير في ذلك الوقت.
122
على الرغم من ذلك، لم يقتصر استعداد كثير من الصوفيين على استخدام اللغات المحلية فحسب، بل كانوا مستعدين أيضا لاستخدام المصطلحات والقصص المألوفة لجماهير تلك اللغات؛ ففي الهند يرتبط أقدم الأدلة على ذلك بشيخ الطريقة الجشتية فريد الدين كنج شكر (المتوفى عام 1265)، الذي انتقلت أشعاره المكتوبة بشكل قديم من اللغة البنجابية شفهيا عبر الأجيال، قبل أن تجد لنفسها في نهاية المطاف موطنا غير متجانس معها تمثل في الكتاب المقدس لدى السيخ، المعروف باسم «أدي جرانت»
123
في الجيل التالي، بدا شاعر البلاط المنتمي للطريقة الجشتية أمير خسرو (المتوفى عام 1325) يكتب أغاني صوفية تعبدية بلغة هندية مبكرة، إلا أن هذه الأشعار ظلت غير مكتوبة لقرون أيضا.
124
وبين الجشتيين أيضا ظهر أول عمل نثري عن الصوفية مكتوب بالهندية/الأردية، وكان هذه المرة في جنوب الهند، وحمل اسم «معراج العاشقين»، وكتبه محمد الحسيني «كيسو دراز» (أي طويل الشعر) الذي هاجر من شمال الهند إلى جنوبها. وألف الحسيني الكتاب في عاصمة السلاطين البهمنيين، الذين بنوا له بعد وفاته عام 1422 ضريحا ضخما من الحجر.
125
ولعب البلاط الملكي دورا أكثر مباشرة في أول قصيدة سردية صوفية أو «مثنوية» مكتوبة باللغة الهندية قبل القرن السادس عشر؛ لأن مؤلفها كان شاعرا من شعراء الحاشية الملكية يحظى برعاية حاكم إقليمي في شرق الهند. وفي محاكاة لاستخدام الرومي للحكايات الشعبية المحلية في الأناضول، في منطقة أوده اقتبس المريد الجشتي وشاعر البلاط الملا داود واحدة من أكثر القصص الغرامية شعبية في المنطقة، وكذلك لهجة المنطقة، ليكتب عام 1379 عمله «تشاندايانا».
126
في ذلك الوقت ، لم تقتصر نافذة الاطلاع على المسعى الصوفي على قصص الطيور الرمزية التي ألفها العطار بالفارسية، بل امتدت لتشمل حكايات غراميات ومغامرات حظيت باستحسان القادة المحاربين ساكني القصور، وفهمها أيضا العوام في الريف؛ حيث من الممكن افتراض أن هذه القصائد انتشرت حاملة معها عبق البلاط الملكي. وعلى الرغم من أنه لم يبق مثنويات هندية أخرى من هذه الفترة، فقد شهد القرن السادس عشر والقرن السابع عشر كتابة الكثير من قصائد المثنويات الغرامية الصوفية باللغة الهندية.
127
ونظرا لانغماس الصوفيين في المناظر الطبيعية الهندية وأبطال الهند والخيال الهندي الجامح، فقد بلغوا بحلول القرن الخامس عشر مبلغا استثنائيا في إضفاء الطابع المحلي على تعاليمهم، ورأى كثير من الصوفيين أن هذه العملية تعد خلطا للإسلام بالوثنية. ولكن في ظل القدر الكبير من التكيف الذي أظهرته الطريقة الجشتية مع بيئتها الثقافية، أبدى أمثال أمير خسرو والملا داود استعدادهم لخوض غمار هذه المخاطرة.
كان استخدام اللغة التركية ثالث أكبر توجه فيما يتعلق باستخدام اللغات المحلية الذي نجده في هذه الفترة. ونظرا للقوة السياسية التي تمتعت بها الجماعات التركية على تنوعها، فإنه من المفاجئ مبدئيا أنهم لم يرعوا إلا قدرا قليلا من الأعمال الأدبية المكتوبة بالأشكال المختلفة للغتهم. إلا أن العلاقات التي تكونت بين المحاربين الترك وطبقة المتعلمين - الأقدم منهم - صاحبة النفوذ، جعلت الترك يختارون في الغالب دعم استخدام اللغتين العربية والفارسية الأرقى مكانة. ويعد ابن الرومي نفسه، الذي أقام في قونية عاصمة السلاجقة في الأناضول، المثال الأبرز في هذا الشأن، وبالرغم من ذلك فإنه توجد بعض الأدلة على استخدام الصوفيين اللغة التركية في فترة العصور الوسطى، حتى إن كانت هذه الأشعار لم تدون لعدة قرون. وأهم هذه الأمثلة الرباعيات، المعروفة باسم «حكمت» (أي الحكمة) المنسوبة إلى الصوفي أحمد يسوي - الذي كان يقطن آسيا الوسطى (المتوفى عام 1166 تقريبا) - والتي ناصرت حياة الزاهد واحتفت بمعجزات الأولياء. وإذا كان كثير من مجموعة أشعار اليسوي المزعومة يعود على الأرجح إلى فترة لاحقة ومنسوبة زورا لهذا الولي، فإنه يبدو على الرغم من ذلك أن الهدف الجمعي لهذه الأشعار كان نشر الإسلام (لكن بنسخته الصوفية) بين الأتراك البدو ساكني السهوب، الذين كانوا آنذاك لم يعتنقوا الإسلام بعد، ودعم القصائد في هذه العملية ارتباطها بالضريح العظيم المشيد حول قبر أحمد يسوي في كازاخستان الحالية.
128
وبعد قرن ونصف قرن عندما ثبت الأتراك أقدامهم في الأناضول، ساهم شعر يونس إمره (المتوفى عام 1321 تقريبا) في نشر صوفية تقوم على الإنسانية والحب، عن طريق أنواع الشعر الشفهي المعقدة غالبا، التي قدمها هو إلى التركية الأناضولية.
129
ومن الأمثلة المهمة الأخرى عاشق باشا (المتوفى عام 1333) صاحب الكتاب البارز «غريب نامه» (أي كتاب الغريب)، المكون من نحو 12 ألف بيت شعري مكتوب بالتركية، والذي ساهم في نقل المعتقد الصوفي المعقد إلى النطاق المحلي.
130
وعلى الرغم من أن يونس بدا درويشا متجولا أكثر منه شيخا مقيما ذا مكانة رسمية مرموقة، فقد كانت اللغة التركية تستخدم أيضا من حين لآخر من قبل رعاة الأضرحة الأثرياء؛ تلك الأضرحة التي كانت تشيد في الأناضول كجزء من رعاية السلاجقة والعثمانيين الأوائل للمؤسسات الإسلامية. وكان المثال الأهم في هذا الشأن هو سلطان ولد (المتوفى عام 1312) ابن جلال الدين الرومي ومروج أعماله، والذي ضمت إنتاجاته المدونة العديد من القصائد المكتوبة بالتركية، وعددا أقل من الأشعار المكتوبة باليونانية، التي ما زال ينشدها معظم المسيحيين في المنطقة.
131
وعلى الرغم من أن عدد القصائد التركية التي كتبها سلطان يتضاءل أمام أشعاره المكتوبة بالفارسية، التي تناهز أربعين ألف بيت شعري، فإن وجود هذه القصائد التركية يعد دليلا على أن الصوفيين في فترة العصور الوسطى سعوا حثيثا إلى الوصول إلى الجماهير التي لا تتقن اللغة العربية أو الفارسية. وكانت هذه الاستراتيجية ناجحة؛ لأنه من خلال التحول إلى أنماط التعبير المحلية - لا سيما أنواع الشعر والغناء الشفهية والمعتمدة على الأداء - تمكن الصوفيون من الوصول إلى قطاع أكبر من الجمهور يفوق ما كان من الممكن أن يصلوا إليه دون استخدام هذه الطريقة؛ فاكتسبوا أتباعا ليس فقط من سكان المدن ومن المتعلمين، وإنما أيضا من الأميين البدو والفلاحين الذين تعرفوا على الإسلام أولا من خلال كلمات الصوفيين.
ملخص
في الوقت الذي تزايد فيه استخدام الصوفيين للغات المحلية الأكثر سهولة لاستعراض التفاصيل الأدق لأفكارهم، استمر الصوفيون المتعلمون في كل المناطق في استخدام اللغة العربية. وبعد فترة مبكرة سيطرت عليها الرسائل القصيرة والكتيبات الأكثر طولا، ندخل بعد القرن الثاني عشر فترة توسع فيها الإنتاج الأدبي الصوفي المكتوب بالعربية من حيث الطول والأنواع الأدبية؛ ففي اللغة العربية واللغة الفارسية المساعدة لها، أسفر التوسع في اللغات المحلية غير المكتوبة عن غزارة أدبية هائلة تمثلت، على سبيل المثال لا الحصر، في السير، وأدلة زيارة المقامات، والمكتوبات، والملفوظات، والقصائد الملحمية، واليوميات الخاصة بالأحلام. وعلى صعيد الأنواع الأدبية والصعوبة، وكذلك الطابع العام والموضوع، فإنه فيما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر أصبحت المصطلحات والمفاهيم الأساسية، التي تكونت في أولى فترات تطور الصوفية، أكثر تنوعا على نحو كبير، بحيث صارت تلبي احتياجات نطاق أكبر بكثير من المسلمين عبر المناطق والطبقات الاجتماعية المختلفة وتعكس عوالمهم. إلا أن الصوفيين عند التوسع من الاستخدام المبكر للعربية إلى استخدام الفارسية واللغات الأكثر محلية غيروا أيضا، على نحو فعال، متطلبات الالتحاق بطرقهم، من المعرفة الدقيقة بالقرآن وطرق الذكر والخلوة الخاصة إلى منهج أكثر سهولة بكثير، تطور من غناء الأغاني المحلية التي كتبها يونس إمره، ووصل إلى التفكير في تفسيرات للقصص الرمزية التي كتبها العطار. وعلى غرار شائعات المعجزات التي انتشرت بين زوار أضرحة الأولياء الصوفيين، فمع مرور الوقت تمكنت الأنواع الشعرية هذه المنقولة شفهيا من اختراق خيال العوام، وتشكيله على نحو لم يستطعه القرآن. ونظرا لأنه مع مرور الوقت أصبحت العربية لغة القرآن أكثر بعدا عن لغات الإسلام الكثيرة المتحدث بها، فقد ساهمت الأغاني وأضرحة الصوفيين في رأب المسافة المتزايدة بين المؤمن وزمن نزول الوحي على النبي محمد. وبالنسبة إلى أعداد المسلمين المتزايدة في مناطقهم البعيدة، فقد كان ما يعرفونه عن الإسلام هو ما نقل لهم عبر ألسنة الصوفيين في مجتمعاتهم ومقابرهم.
ومن ثم، كان تبجيل الأولياء - الذي من خلاله تميز الصوفيون في العمارة والطقوس والسرد - الجسر الأساسي بين الصوفية كطريقة باطنية تنتمي لحركة محدودة حتما، مكونة من متطلعين روحانيين ملتزمين، وبين الصوفية كمنهج متجدد يفي بالاحتياجات الدينية لمناصرين عددهم هائل. ولما كان الأولياء الصوفيون «المقدسون» ذوي مكانة عالية ومن الممكن التواصل معهم عبر أضرحتهم التي يسهل الوصول إليها، فمن الممكن أن يكونوا وسطاء بين القوة البشرية المحدودة النطاق وبين قوة الله غير المحدودة. وهذا الترتيب الذي أعيد إنتاجه في أبنية الأضرحة من المغرب حتى تركستان كان مفيدا للفلاحين قدر ما كان مفيدا للسلاطين؛ حيث أسهم كل منهما في نفقات الأضرحة، مما وضع الصوفيين في أنماط المبادلة التي ربطتهم بجماعات المناصرين لهم، عن طريق شبكة جمائل متبادلة. ونظرا لبعد هذه التطورات عن نموذج الصوفية كمسعى تصوفي شخصي للاتحاد مع الله؛ فقد اعتبرت في وقت ما إيذانا بنهاية الصوفية «الحقيقية» في فترة العصور الوسطى. إلا أن هذا التفسير يعد إغفالا للفكرة الأساسية للولاية والاستراتيجيات الاجتماعية التي من خلالها تمكن الصوفيون من البقاء وإعادة إنتاج تقليدهم عبر الزمن؛ فالأضرحة لم تكن مؤسسات منفصلة عن غرف التربية ومساكن الإيواء وأماكن الخلوة التي كان يحدث فيها «التصوف»، بل كانت عنصرا في مجمعات أكبر يشترك فيها الزوار اليوميون والصوفيون الدائمو الإقامة. ومن المنطقي أن نعتقد أن هذه الأضرحة المقدسة الموجودة في تلك المجمعات مثلت الواجهة العامة الجامعة للزوار للمجتمعات الأوسع نطاقا، التي اعتمد عليها الصوفيون في الحصول على الدعم المادي.
كما رأينا، فإن تقديس الصوفيين لم يأت من فراغ بل استند إلى أسس عقائدية في النظرية التي نوقشت في كتابات الصوفيين المبكرة، التي تقول إن لله أولياء. وفيما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر، استخدمت هذه الأفكار القديمة، بصفتها مصادر للتقليد، من أجل تفسير طريقة اجتماعية دينية قائمة على «حكومة خفية» هرمية محددة، مكونة من الواجدين الأولياء. ومن المنطقي اعتقاد أن تطور تبجيل الأولياء نتيجة منطقية للاستثمار المادي المتزايد في هذه الأيديولوجية، الذي حدث مع اكتساب الصوفيين أتباعا كثيرين من النخب بداية من القرن الثاني عشر فصاعدا، من خلال تحالفهم مع الحكام البدويين المستقرين في الشرق، ومناصري حركة الإحياء السنية من الحكام في الغرب. وهذا التقديس لم يحدث في حالة فراغ مؤسسي، بل رافق الخدمات العامة للصوفيين كأولياء خدمات أخرى أكثر خصوصية للطرق الجديدة التي حدث فيها التقديس كجزء من النتيجة المباشرة للبناء المؤسسي، الذي من خلاله نال مؤسسو الطرق التقديس عن طريق تبجيل أعضاء الطرق لهم. وعملت آليات التقديس والتقليد على نحو متوافق؛ حيث تطلبت المكانة المرموقة للمعرفة والبركة المتوارثتين عبر سلاسل شيوخ الطرق أن تعتبر كل شخصية في السلسلة من الأولياء، وإلا فستصبح سلسلة الأولياء غير كاملة، وتصبح المعرفة والبركة المنقولة عبرها غير ذات قيمة؛ ومن ثم، فإن منطق التقليد - واستخدامه للأساس المفاهيمي للطرق - أصبح في حد ذاته دافعا لإنتاج الأولياء.
مثلت الطرق الصوفية - باعتبارها مؤسسات تنظيمية ومفاهيمية مرتبطة بمجمعات الأضرحة الذائعة الصيت والمدرة للمال - وسيلة لربط أفكار وممارسات الصوفيين بالجماعات الفعلية التي يمكن زيادة توسيع عضويتها من خلال طقوس الالتحاق البسيطة التي تتم على يد شيخ. وعلى الرغم من أنه سيكون من الخلط الزمني اعتبار أن هذه الطرق تشبه المؤسسات الحديثة ذات الهرميات المتكاملة، التي تتمتع بوسائل اتصال فعالة بين مراكزها الجغرافية العديدة، فإن هذه الطرق في عملها كشبكات مفاهيمية (وإن لم تكن تنظيمية دائما)، تمكنت من تكوين مؤسسات متماثلة (وإن لم تكن مترابطة بالضرورة) في البيئات الكثيرة المختلفة التي عاش فيها مسلمو فترة القرون الوسطى. ومن خلال إعادة إنتاج هذه المؤسسات المتماثلة عبر مسافات تقدر بآلاف الأميال، خلقت هذه الطرق آليات تفاعل وترابط ومزاملة بين المسلمين، الذين كان سيتزايد تفرقهم بسبب الخلاف السياسي والاختلاف العرقي لولا هذه الطرق. ومن خلال صنع هؤلاء الأولياء والطرق ووصفهم بالمصطلحات العربية نفسها في مناطق بعيدة، مثل خليج البنغال وساحل شمال أفريقيا المطل على المحيط الأطلنطي، جعل الصوفيون الإسلام ملموسا في بيئاتهم المحلية ومتسقا عبر العالم الأوسع نطاقا. وبهذه الطريقة، جعلت هذه التطورات الصوفية جزءا لا يتجزأ من الإسلام نفسه، بالنسبة إلى ملايين عديدة من مسلمي فترة القرون الوسطى .
الفصل الثالث
الإمبراطوريات والحدود والمجددون (1400-1800)
(1) تمهيد
في الفصل الثاني، رأينا نفوذ وامتداد الصوفيين ينتشر في عدة اتجاهات اجتماعية وجغرافية. ونظرا لأن الصوفية تراوحت ما بين سلاسل من النظم الماورائية والأغاني المؤلفة باللغات المحلية والشبكات الاجتماعية والحماية عن طريق المعجزات، فإن الأمور المختلفة التي كانت تعنيها في فترة العصور الوسطى ضمنت قبولها بين أوساط الأمراء والفلاحين، والبدو والحضريين، والمتعلمين والأميين. وبطبيعة الحال، فإن هذا الانتشار المؤثر للأشخاص والممارسات كان يعني وجود منتقدين لأنواع معينة من الصوفية وممارسيها، وكان أشهر هؤلاء المنتقدين العالم الشامي ابن تيمية (المتوفى عام 1328). إلا أن هذه الانتقادات كانت إلى حد كبير موجهة لجوانب معينة - ومتعلقة بالجماهير بصفة خاصة - من تبجيل الأضرحة، وليس إلى البناء الماورائي والأخلاقي الكامل المرتبط بالأولياء. كان ابن تيمية عنيفا بصفة خاصة في انتقاده للموالد التي تقام حول مقابر الأولياء الصوفيين؛ إذ اعتبرها «بدعة» منحرفة عن السنة النبوية.
1
بالرغم من ذلك، من الممكن أن يكون ابن تيمية نفسه من الصوفيين، وقد كان من محبي عبد القادر الجيلاني (المتوفى عام 1166)، الذي كان أعظم صوفي في بغداد.
2
أما الانتقادات التي وجهها الآخرون، فكانت على الأرجح حالات هجوم «شخصي» على صوفيين بعينهم، وليست على مجموعات متحدة من الصوفيين في العموم، وكانت الانتقادات في شكل هجوم من قبل مسلمين معينين (غالبا ما كانوا صوفيين) على مسلمين معينين آخرين.
على الرغم من أنه في أحيان قليلة جاءت حالات الهجوم تلك من جهات مؤثرة بدرجة كافية على نحو يمكنها من استخدام سلطات الدولة (كما في حالة إعدام شهاب الدين السهروردي في حلب عام 1191)، فقد شهدت فترة العصور الوسطى في أغلب الأحيان ممثلين للدولة يدعمون بقوة الصوفيين والمؤسسات الصوفية. وإلى حد كبير، فإن النفوذ الهائل الذي تحقق للصوفية جاء من خلال تحالف ممثليها مع السلطنات الإقليمية التي كانت شرعيتها معتمدة على الدعم العام للإسلام؛ وأدى هذا إلى استثمار كبير في الأضرحة والمساكن الصوفية، جعل الصوفية طوال فترة العصور الوسطى راسخة مكانيا في المدن والقرى، بدءا من ساحل أفريقيا المطل على المحيط الأطلنطي، حتى خليج البنغال. وإذا كان انتقاد صوفيين معينين جزءا من إيقاع الجدل الديني في فترة العصور الوسطى، فإنه لم يكن يوجد هجوم كامل على الصوفية، وما كان يمكن أن يوجد هجوم؛ لأن «الصوفية» لم يكن لها وجود محدد كفئة بالمعنى المعاصر، وهذا يعني أن مهاجمة الصوفية ككل ستكون هجوما على الإسلام نفسه؛ ومن ثم فمن المهم أن ندرك أن الصوفية إلى حد كبير جدا كانت تمثل صورة الإسلام في فترة العصور الوسطى؛ أي إسلام الأولياء والمعجزات المدعوم ليس فقط بالجهود الفكرية المقدمة من العلماء، وإنما أيضا بالحماس الشديد تجاهه من قبل رجال القبائل. وبالرغم من الاستخدامات المعتادة لمصطلح «الصوفية» من قبل الأكاديميين والناشرين، فإن مصطلح «الإسلام الصوفي» أكثر فائدة على الأرجح منه.
على الرغم من أنه سيكون من التبسيط المخل تقديم مسار واحد للمصائر التي لاقتها الصوفية في المناطق المختلفة تماما، التي انتشر فيها ذلك «الإسلام الصوفي»، فإنه من الممكن ملاحظة حدوث تطورات معينة شائعة أو واسعة النطاق في القرون ما بين القرن الخامس عشر والقرن التاسع عشر. وإلى حد كبير، تتعلق هذه التطورات بتغيرات كبرى في العلاقة بين الصوفية والدولة، وكانت هذه التغيرات نفسها معتمدة على ظهور أنواع جديدة من الدول المنتمية لأوائل العصر الحديث، التي كانت أكثر بيروقراطية ومركزية وثقة في سلطتها. ومع التداول السريع للحكم بين الأسر الحاكمة في قرون غزو القبائل في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر تقريبا، لم تكن سمة تفاعلات الدولة مع الدين التقلب فحسب، بل كانت هذه التفاعلات أيضا مؤيدة في الغالب لاستقلال الطبقات الدينية؛ لأن الأسر الحاكمة القبلية الوافدة حديثا سعت إلى اكتساب الشرعية من خلال رعايتها للصوفيين، الذين كانوا يتمتعون بتأثير كبير على الشعب. وبالإضافة إلى استخدام هبات «الوقف» التي ضمنت استمرار هذا الاستثمار في دعم العائلات الصوفية عبر الأجيال في المستقبل، فقد كان أثر ذلك من الناحية العملية أن كانت المؤسسات الصوفية أكثر استقرارا في الغالب من مؤسسات الدولة؛ فقد كانت هذه الأسر الحاكمة القبلية تعتلي سدة الحكم وتسقط من الحكم بقصورها وسياساتها في تعاقب سريع، إلا أن الأضرحة والمساكن التي منحتها للصوفيين استمرت بعد رحيل تلك الأسر لتكون السمة الأكثر ديمومة على الصعيدين المادي والاجتماعي. ومن خلال العمارة المهيبة والمعمرة في أغلب الأحيان لأضرحة الصوفيين، اكتسبوا نوعا من الخلود الحجري؛ إذ تحولت أجسادهم إلى أحجار الأضرحة التي أصبحت جزءا دائما من المناطق الحضرية والريفية التي عاش ومات فيها المزيد من المسلمين الفانين.
في ضوء هذه الخلفية، ليس من العجيب انتشار فكرة أن الصوفيين هم الحكام الحقيقيون للمناطق المحيطة بأضرحتهم؛ لأن «ولاية» الولي تعني أيضا سلطته الروحانية على النطاق أو «الولاية» الإقليمية خاصته، وقد اتضحت هذه الأيديولوجية في العديد من الأعمال السردية التي تصف الأولياء وهم يمنحون ممالك للسلاطين الذين كانوا مجرد حكام مرئيين لهذه الممالك. وتظهر أيضا الاستمرارية النسبية للصوفيين مقارنة بالسلاطين في أمور متعلقة بالسلالة؛ فلقد رأينا بالفعل الطرق الصوفية تدعم نموذج سلسلة نسب الشيوخ؛ حيث يرث كل شيخ البركة والمعرفة والسلطة من أسلافه. وفي ظل عصر كانت فيه سلسلة النسب (سواء المختلقة أو الحقيقية) ضرورية للمطالبة بأي سلطة، سواء سياسية أو دينية، استطاعت أسر الأولياء الكبيرة - التي ظهرت في فترة العصور الوسطى - زعم امتلاك سلاسل نسب لا يمكن انتقادها. واستخدم للإشارة إلى هذه السلاسل المصطلحات نفسها التي استخدمها السلاطين؛ إذ يمكن استخدام المصطلح الصوفي «سلسلة» للإشارة إلى «سلالة» ملكية ودينية على حد سواء. وقد لعبت الأسر والطرق الصوفية الكبيرة - التي ظهرت في فترة العصور الوسطى، واتسمت بالثراء بسبب ممتلكاتها، وأثارت خشية الناس بسبب قدراتها الغريبة - أدوارا محورية في مجتمعاتها؛ فقد كانوا، باختصار، طبقة متحكمة ذات نفوذ واسع. وكما هو الحال مع كل الطبقات أصحاب النفوذ، فقد كانوا يحافظون على مكانتهم من خلال مكانهم المحوري في شبكة العلاقات التي ربطتهم بأتباعهم في كل قطاعات المجتمع.
سنرى في هذا الفصل التخلي التدريجي عن هذه الأوضاع القديمة؛ نظرا لظهور كيانات دولية أكبر وأكثر نجاحا، سمح طول بقائها وسيطرتها الأكثر فاعلية على مواردها بفرض تغييرات مؤسسية في الهياكل الدينية لمجتمعاتها على مدار فترات أطول. وعلى الرغم من أن كل إمبراطورية من الإمبراطوريات التي ظهرت في أوائل العصر الحديث طبقت هذه السياسات لأهداف مختلفة، فإنها في كل حالة أحدثت تغييرا في العلاقة بين الصوفيين والدولة. وأدت هذه التغييرات، التي كانت مصحوبة في الوقت نفسه بتقوية الروابط بين الدولة والمجتمع، التي كانت ضعيفة في السابق مقارنة بالروابط بين الصوفيين والمجتمع، التي كانت أقوى في السابق؛ إلى تحول تدريجي في ميزان القوة بين النخب الدينية والنخب الحاكمة، ولم يضعف هذا بالضرورة الصوفيين؛ لأنهم، كما سنرى، أصبحوا في حالات كثيرة أكبر المستفيدين من السيطرة الأكثر كفاءة للدولة على مواردها. ونظرا لأن هذه الموارد تضمنت توظيف أعداد أكبر من الموظفين الحكوميين، فسنرى في سياقات عديدة أن الطرق الصوفية أصبحت مرتبطة ارتباطا وثيقا بسلطات معينة في الدولة. ونرى أحد الأبعاد المهمة لهذه العملية في تزايد دور الصوفيين في سكن الحدود؛ حيث لعبوا دورا كبيرا في توسيع الأراضي الجديدة الواقعة على أطراف نطاق سيطرة الدولة واستيطانها. ولم يحدث ذلك فقط على الحدود في فترة العصور الوسطى، مثل جبال جنوب شرق أوروبا وغابات البنغال، بل امتد في ذلك الوقت نحو الحدود الجديدة الآخذة في الاتساع في أفريقيا وجنوب شرق آسيا؛ نظرا لأن الدول الإسلامية الجديدة التي ظهرت كسماسرة للتجارة العالمية المزدهرة في الذهب والتوابل والرقيق استخدمت الصوفيين كمستوطنين ومديرين لأراضيهم الجديدة؛ ومن ثم، إذا كانت الصورة الجديدة تتمثل في تغيير مكانة الصوفيين بين الدولة والمجتمع أكثر من كونها تحولا بسيطا في المصائر، فإنها شهدت دخولهم في علاقات جعلتهم أكثر اعتمادا على الدول، وأكثر تأثرا بالتغيرات في سياسات أو مصائر الدول المرتبطين بها في نهاية المطاف.
في الصفحات التالية، سوف نتتبع الدور المتناقض الذي لعبته الصوفية في الإمبراطوريات والسلطنات الإقليمية البارزة في فترة أوائل العصر الحديث، من خلال فحص الطرق التي من خلالها كانت الصوفية لهذه الدول وسيلة لتحقيق السيطرة العقائدية، والترابط الاجتماعي، والتوسع الإمبراطوري، وفي الوقت نفسه وفرت سبلا للتحريض على التمرد وتحديد نطاق الانقسامات. أول نسق عام نستنتجه هو استخدام الأفكار الصوفية والصوفيين كموارد لبناء الدولة، وأوضح تمثيل لهذا النسق نجده في استخدام أنماط السلطة الصوفية من قبل الحكام، واستخدام أنماط السلطة السياسية من قبل الصوفيين. ونظرا لأن الأباطرة أنفسهم سعوا إلى تقديم أنفسهم في صورة صوفيين، فربما من الجائز قول إن القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر شهدا أعلى ذروة للتأثير الصوفي حتى وقتنا الحاضر؛ حيث اقترضت اللغة الإنجليزية كلمة
sophy (المأخوذة من اسم الطريقة الصفوية)، وتسربت هذه الكلمة حتى إلى معجم شكسبير ومؤلفي مسرحية «رحلات الإخوة الإنجليز الثلاثة»، واستخدمت كلقب للملوك الفرس، وليس للشخصيات الدينية. إلا أن هذا النجاح الكبير انطوى على الحاجة إلى التقليل من تأثيره؛ لأن الأشخاص الموجودين خارج زمر الصوفيين أصحاب النفوذ قلقوا من اطلاعهم على الموارد المالية للدولة ومعارفها؛ لذلك مع مرور الوقت أصبح هذا التواطؤ بين السلطة السياسية والسلطة الصوفية يعتبر ذا نتائج عكسية، بل مهددا أيضا لاستمرارية سلطة الدولة على المدى الطويل مقارنة بالاستيلاء الأصلي على السلطة، واتضح ذلك الأمر من خلال تزايد قدرة دول معينة على تكوين نموذج ل «العقيدة الإسلامية الحنيفة» وفرضه على مواطنيها.
النسق العام الثاني الذي سوف نناقشه يتعلق بازدياد انتقاد الفقهاء لأشكال معينة من الصوفية، وهذا الانتقاد إن كان يعود إلى حد كبير إلى التحاق الفقهاء بمناصب في الدولة، فإنه يعد أيضا انعكاسا ل «حملة تصحيح» أكبر لازمت بداية الألفية الإسلامية عام 1591. وعزز التأثير الثقافي لهذا الحدث الأخير ارتباطه بخطاب طويل الأمد، يحتفي ب «التجديد» الديني و«المجددين» الدينيين الذين يأتون مع مرور كل قرن ومع مرور الألفية بصفة خاصة.
3
بطبيعة الحال، كانت بداية هذه الألفية أكثر أهمية؛ من حيث الزمن الثقافي مقارنة بالزمن الطبيعي أو العملياتي الذي يهتم به المؤرخ. أما ما أكسب هذه الألفية الأهمية، فتمثل في أن القرن الذي أعقبها - أول قرن في الألفية الثانية بالزمن الثقافي الإسلامي - تزامن مع مجموعة تطورات في الزمن العملياتي الذي يهتم به المؤرخ. أثرت هذه التطورات على مناطق إسلامية مختلفة بطرق متعددة ومميزة، والتي شملت زيادة عدد السكان، التي غيرت العلاقات الديموغرافية بين المجموعات الاجتماعية المختلفة؛ وزيادة التحضر، الذي أدى إلى ازدياد التفاعل بين أهل الحضر والفلاحين والبدو؛ وتوسع التجارة، الذي مكن مجموعات التجار وأدى إلى تزايد التعاملات مع الشعوب غير المسلمة؛ والتغيرات البيئية الطبيعية أو البشرية الصنع؛ التي أسفرت عن عمليات هجرة واستيطان لمناطق جديدة، وفترة جديدة من المواجهات العسكرية مع كيانات وثنية ومسيحية في أوراسيا وأفريقيا، هذا بالإضافة إلى أمر آخر لا يقل أهمية على الإطلاق؛ ألا وهو تكوين دول إمبراطورية جديدة لها أجندات بيروقراطية جندت القادة الدينيين والخطابات الدينية في خدمة الحكم على نحو متزايد. كان لكل من هذه التطورات على صعيد التاريخ الاجتماعي أثره على تطورات أخرى على صعيد التاريخ الديني، مما جعل أفرادا معينين أو جماعات معينة من الصوفيين - الذين يعملون في نطاق متنوع من المناطق - يشعرون أن المسلمين من حولهم فقدوا مبادئهم الأخلاقية أو الروحانية الأساسية. وعلى الرغم من أن قدوم الألفية الإسلامية الجديدة لم يكن سلسا، وكان سيرها معقدا، فإن تزامن الزمن الثقافي للألفية الإسلامية الجديدة مع الزمن العملياتي للحداثة المبكرة كان له أهمية كبرى. وعلى الرغم من كون مصطلح «حملة تصحيح» مثيرا للجدل، فقد استخدمناه في هذا الفصل في محاولة لإدراك أهمية هذا التزامن العام والمتنوع الجوانب بين المسارين الزمنيين على الصعيدين العام والمقارن.
في معظم الأحيان، لم يعبر على نحو صريح عن حملة التصحيح التي رافقت التغيرات الاجتماعية المتعددة الجوانب التي حدثت في أوائل العصر الحديث، فيما يتعلق بالألفية الجديدة، بل عبر المطالبات العديدة بالتأمل الذاتي أو التجديد التي انطلقت من جنوب شرق آسيا وحتى غرب أفريقيا. ولم تحدث تلك الحملة في وقت واحد في كل المناطق، بل اعتمد توقيتها على عوامل محلية متعلقة بالتغيير الاجتماعي والتحرك الفردي. وعند استحضار الألفية على نحو صريح استخدمت أهميتها الدلالية لأهداف استراتيجية وبلاغية؛ سعيا لتحقيق أجندات معينة. وعلى الرغم من ذلك، يمكن استنتاج بعض الاتجاهات العامة. وفي كل المجالات تقريبا ، شهدت حملة التصحيح محاولات لتقليل تأثير الأفراد أو الحركات التي اعتبرت على نحو متزايد «متعارضة مع العقيدة الإسلامية الحنيفة» في نظر الدولة، لا سيما الحركات ذات الجاذبية، التي كانت قادرة على تأجيج التمردات ضد السلطة الحاكمة. وللأسباب نفسها، عندما كان حماس الفقهاء الزائد يهدد السلام الاجتماعي، لم تكن الدول في هذه الفترة أقل رغبة في قمع الفقهاء المنتقدين للصوفيين. وسواء أتعلق الأمر بالحركات ذات الجاذبية أم بالفقهاء، فقد تمثل النسق الأكبر في تزايد سيطرة الدولة على الساحة الدينية التي استحسنت أو استهجنت بالتبادل جماعات مختلفة صوفية أو مناهضة للصوفية في الفترات والأماكن المتنوعة التي سوف نتناولها في هذا الفصل. في العموم، ما سنراه في هذا الفصل هو تصوير للإمبراطوريات الإسلامية في أوائل العصر الحديث، والتي ربطت نفسها في البداية بأشكال الصوفية الجذابة في القرن السادس عشر، ثم تزايد ابتعادها عنها مناصرة للإسلام الأكثر التزاما بالشريعة (سواء الصوفي أو غيره) في القرن السابع عشر.
على الرغم من ذلك، إذا نظرنا إلى الجانب الآخر من «منظور الدولة» هذا، فسنتعلم الكثير من الأمور من المنظور الأصغر نطاقا، المتعلق بأفعال الجماعات الصوفية الصغيرة والأفراد الصوفيين. فبينما كانت الدول في أوائل العصر الحديث تلعب دورا أكثر تأثيرا في تاريخ الصوفيين مقارنة بالقرون السابقة، فهذا لا يعني أن الصوفيين كفوا عن كونهم عناصر فاعلة في صناعة تاريخهم. وإذا غيرنا المنظور كي ننظر إلى أنشطة الطرق الصوفية وحتى العائلات الصوفية (إذ يبدو من الممكن أننا نستطيع أيضا تمييز شخصيات صوفية باعتبارهم أفرادا وليسوا أنماطا في ذلك الزمن)، فإننا نستطيع أن نرى كيف تكيف الصوفيون مع الظروف الجديدة في فترة أوائل العصر الحديث. مرة أخرى، كان التناقض هو السمة السائدة؛ فمن ناحية، تواطأ الصوفيون مع الدول، وعملوا بإرادتهم ك «إمبرياليين» (وإن كان ذلك في الغالب على نحو غير رسمي) في خدمة الدولة، ومن ناحية أخرى استخدموا الفرص الوفيرة للغاية المتاحة لهم في هذه الفترة لتكوين نطاقات خاصة بهم ذات نفوذ يفوق نفوذ الدولة، بصفتهم نخبا متنقلة تتجاوز حدود الإقليم.
وأخيرا، في سياق تقلص الإمبراطوريات وانتشار الاضطرابات الاجتماعية منذ منتصف القرن الثامن عشر، سوف نتتبع في هذا الفصل ظهور سلسلة من الطرق الصوفية الفرعية الجديدة، التي سعت إلى فرض النظام على المجتمعات التي رأت أنها تنهار. وكان نجاح تلك الطرق الفرعية في فعل هذا في حد ذاته نتيجة للحركة المتزايدة في أوائل العصر الحديث، والشرعية المنتقلة من فترة العصور الوسطى للتقليد المستمر الذي زعم الصوفيون نقله، إلى القرن الثامن عشر المتسم بالاضطراب. مرة أخرى، فإن فكرة الصوفية كآلية «تقليد» قادرة على التكيف وإعادة إنتاج نفسها عبر الزمان والمكان، تساعدنا على فهم كيف كانت الصوفية ردا فعالا للغاية على انهيار أشكال التنظيم الاجتماعي اللوجستية والأيديولوجية الأخرى. (2) العلاقات المتناقضة بين الإمبراطوريات والطرق الصوفية فيما بين عامي 1400 و1600 تقريبا
في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر، سيطرت القبائل الرحل أو الاتحادات القبلية على تكوين الدول في معظم الشرق الأوسط ووسط وجنوب آسيا. وكانت معظم هذه الجماعات القبلية لديها ارتباطات مميزة مع عائلات أو طرق صوفية معينة، وعلى الرغم من ذلك، كان ثمة اختلاف في نوع الصوفيين الذين اختار حكام تلك القبائل الارتباط بهم في فترات مختلفة من مسيرتهم؛ فمن خلال ارتباط الصوفيين بالمرحلتين اللتين كانت تمر بهما أي قبيلة تنجح في تكوين دولة، يمكننا تقسيمهم على نحو فضفاض إلى صوفيين «قبليين» وصوفيين «مستقرين». في الفصل الثاني، رأينا جلال الدين الرومي (المتوفى عام 1273)، الذي يعد أشهر مثال على «الصوفي المستقر» المتعلم والمثقف، الذي يلقى مناصرة من كيان قبلي في أثناء فترة استقراره؛ حيث بزغ نجمه بدعم من الأتراك السلاجقة بعد استقرارهم في عاصمتهم قونية. أما في هذا الفصل، فاهتمامنا منصب أكثر على «الصوفي القبلي» الذي ارتبط بالجيل التالي من القبائل، الذين كانوا لا يزالون في مرحلة البداوة. لقد قابلنا بالفعل هذا النوع من الصوفيين على نحو وجيز في الفصل الثاني، عندما ناقشنا كيف تمثل أحد جوانب إضفاء الطابع المحلي على الصوفية في ظهور أولياء ذوي شخصيات جذابة، كانوا يرتدون جلود وقرون الحيوانات، ويعملون على حماية عشائر أو قبائل بعينها. كان هذا الارتباط مناسبا؛ حيث تخصص كثير من هؤلاء الصوفيين في توظيف قدراتهم الخارقة للطبيعة لصالح متطلبات قبلية تقليدية؛ مثل اكتشاف مصادر المياه، أو التدخل في الصراعات المتعلقة بأراضي الرعي.
4
ونظرا لأن هذه القبائل الناجحة كانت ثرية بثرواتها المتنقلة المتمثلة في الماشية والعبيد وسبائك الذهب أو الفضة، فقد كانت هذه الارتباطات مفيدة للطرفين. وفي حالات عديدة، وجدنا هؤلاء القبليين يعطون البيعة لهؤلاء الحماة الصوفيين، الذين استطاعوا نتيجة لذلك الإطاحة بسلطة شيوخ القبائل. ونظرا لكون هذه العملية نتيجة للتركيب الاجتماعي الانفصالي للقبائل أكثر منها نتيجة لعمليات الجاذبية المستقلة، فإنها قد اكتسبت أهمية خاصة من خلال قدرتها على توحيد جماعات قبلية مختلفة تحت لواء قائد صوفي مشترك؛ إذ إن الصوفي، بصفته «غريبا» مولودا خارج الجماعات التي تنتسب لها القبائل، كان قادرا على توحيد أعضاء القبائل المختلفة المتنافسة بفاعلية أكبر، مقارنة بما يستطيع أن يفعله أي عضو ينتمي لأي منها. وحتى عندما لم يدخل الصوفيون القبليون في تلك التحالفات، فإن كثيرا منهم برزوا كقادة للجماعات القبلية البدوية، أو لمجتمعات المرتفعات شبه الرعوية التي سكنت السهوب والجبال فيما بين الأناضول وآسيا الوسطى.
من المهم أن ندرك العواقب التي لحقت بالحياة الاجتماعية لدين بهذه الخلفية القائمة على وحدات اجتماعية مقطعة ومستقلة؛ ذلك لأن في مثل هذه البيئات لم يكن يوجد شخص أو مؤسسة تتمتع بسلطة دينية مهيمنة، ولا أساس عقائدي مشترك، وفي كثير من الحالات لم تكن توجد وسيلة عامة للاطلاع على القرآن. ونظرا لأن كل جماعة قبلية امتلكت راعيا دينيا خاصا بها، فما ظهر وسط هذه المجتمعات المتناثرة والمتفرقة كان نظاما من اللاسلطوية الدينية، كان فيه ولي كل قبيلة هو مصدر السلطة. إذا كيف أصبحت المعتقدات والطرق الصوفية التي شهدنا تطورها في السابق جزءا من هذا السياق؟ يمكننا مرة أخرى أن نعثر على إجابة هذا السؤال في نموذج الصوفية باعتبارها «تقليدا»، والطرق الصوفية لا باعتبارها منظمات في الأساس، بل آليات لإعادة إنتاج التقليد وتوثيقه. وعلى الرغم من أن مفهوم التقليد يقدم محتواه في صورة المحتوى الذي لا يتغير (وهذا هو الهدف منه في واقع الأمر)، فإن اختصاصيي علم الاجتماع لطالما أدركوا أن التقليد في الحقيقة مورد يتسم بالمرونة الشديدة. وعند استخدام هذا النموذج في المجتمعات القبلية المتنقلة والمنقسمة الموجودة خارج المدن، فإن ما سيوضحه هو أنه على الرغم من أن الأولياء في القبائل اشتركوا في التقليد الصوفي فيما يتعلق باستخدام مصطلحاته، وتكييف طقوسه، ومنح الانتساب إلى طرقه؛ فلقد فعلوا ذلك على طريقتهم، وليس تحت قيادة شيخ يوجد في مكان آخر، وفعلوا ذلك بما يتفق مع احتياجات مناصريهم القبليين. وعلى أي حال، فإنه في مثل هذه البيئة «اللاسلطوية» لم يكن يوجد ما يمنع الصوفيين القبليين من تكوين أشكال من الصوفية متفردة خاصة بهم من مصادر التقليد التي ورثوها؛ نظرا لأنه لم يكن يوجد كيان صوفي يماثل «الفاتيكان» يضمن وجود تعاليم عقائدية عامة يلتزم الجميع بها.
5
وعلى الرغم من أن كثيرا من العلماء وصفوا الصوفيين القبليين بأنهم «غير متبعين للعقيدة القويمة» أو «مبتدعون»، فإنه في الحقيقة لم توجد في زمنهم عقيدة قويمة ذات سلطة مركزية يمكن مقارنتهم بها. وكما سنرى لاحقا في هذا الفصل، فإن هذه «العقائد القويمة» (التي تغيرت مقوماتها في كل دولة إمبراطورية) لم تظهر إلا كنتيجة فرعية لمركزية إمبراطوريات أوائل العصر الحديث، التي أعقبت الحقبة القبلية الأكثر تقلبا في القرن الخامس عشر.
عانى مؤسسو الدول الجديدة القبليون، من البلقان إلى الهند في الفترة بين منتصف القرن الخامس عشر ومنتصف القرن السادس عشر، من أجل تحويل أنفسهم من غزاة إلى حكام. وتضمن هذا التحول أيضا تغيرا في أشكال الإسلام التي دعموها؛ لأنهم لم يصبحوا مسئولين عن مصائر أتباعهم القبليين فحسب، بل أصبحوا مسئولين أيضا عن السكان الذين يحكمونهم، الذين يتسمون بتركيبة أكثر تعقيدا وتنوعا؛ فقد كان لزاما أن تجري النخب الحاكمة في الإمبراطورية الصفوية، والإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية المغولية؛ هذا التحول، وكان للأساليب المختلفة التي حققوا بها هذا التحول عواقب مهمة على مصائر الصوفية في بلادهم . إن بيئة السهوب والجبال التي تتسم بالترحال، والتمرد، واللاسلطوية الدينية، وكثرة القبائل الطموحة، والتعاقب السريع للكيانات السياسية المستقرة؛ هي ما أسفر عن كل من الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية. لقد كانت بيئة اضطر حكامها الجدد في نهاية المطاف إلى مواجهة أشكالها الدينية في إطار محاولاتهم السيطرة على الأراضي الجامحة التي نشئوا منها. وعلى الرغم من أن حالة المغول أكثر تعقيدا؛ لأنهم عندما صعدوا إلى السلطة انطلقوا من السهوب ذات الطبيعة المترحلة إلى مجتمع الهند الزراعي المستقر، فإنهم عندما حكموا منطقة الهند ذات الطبيعة التعددية إلى حد كبير، واجهوا أيضا مشكلة كيفية الانفصال عن ولائهم القديم في السهوب للطريقة النقشبندية. (3) منطقة البحر المتوسط: الإمبراطورية العثمانية المبكرة
لكي نرى كيف حدث هذا التحول المضطرب من دعم الصوفيين «القبليين» إلى دعم الصوفيين «المستقرين»، ينبغي أن نلتفت أولا إلى الحالة العثمانية؛ ففي الفترة ما بين القرن الرابع عشر والقرن السادس عشر، تضمن تطور الدولة العثمانية من زعامة قبلية قليلة الشأن إلى إمبراطورية بيروقراطية معقدة تربط جنوب أوروبا بالأناضول ومصر وفي نهاية المطاف شبه الجزيرة العربية؛ تحولا مضطربا عن أنواع الولاء الديني القبلي والمستقر. وكما رأينا في الفصول السابقة، فإن البعد التعليمي والبعد الأدبي للصوفية تطورا بارتباط وثيق بدراسة القرآن وتطبيق الشريعة الإسلامية. وقد اعتبر الحكام العثمانيون - مثل الحكام السلاجقة والأيوبيين والمماليك السابقين عليهم - النسيج المؤسسي للطرق الصوفية في المدن عاملا مهما في الحفاظ على النظام الاجتماعي.
6
ونتيجة لذلك، شهد التوسع العثماني إعادة تأكيد على دور الطرق الصوفية المتعلمة والمسالمة في الحياة الحضرية، سواء أكان ذلك من خلال دعم الطرق الموجودة قبلهم، أم من خلال تقديم طرق أو طرق فرعية جديدة تتمتع بعلاقات وثيقة على نحو كبير مع العثمانيين أنفسهم. وتعد الطريقة الخلوتية مثالا على الطريقة المتفقة مع الشريعة، التي لا يربطها بالأناضول إلا أقل القليل.
7
فكونت الطريقة الخلوتية علاقات وثيقة مع كل من السلاطين العثمانيين وكبار مسئوليهم؛ مما أدى إلى تأسيس مقر كبير للطريقة عام 1574 في قلب إسطنبول على يد الصدر الأعظم صقللي محمد باشا .
8
بالإضافة إلى ذلك، دعمت الإمبراطورية الجديدة توسع طريقة الرومي المولوية ذات «الدراويش الدوارة»، التي أصبحت الطريقة المفضلة لدى البيروقراطيين العثمانيين. وهذا بدوره جعل تنظيم الطريقة المولوية متمركزا بمزيد من الفاعلية حول مجمع الضريح المشيد حول قبر الرومي في قونية. بطبيعة الحال، لم تحدث رعاية الطرق المفضلة هذه في خواء اجتماعي، وشهد تزايد تأثير هذه الطرق المفضلة تضاؤلا مصاحبا في تأثير الطرق التي فضلها الحكام السابقون على العثمانيين؛ فقد شهد استيلاء العثمانيين على سوريا ومصر من أيدي المماليك فيما بين عامي 1516 و1517، على سبيل المثال، الاستبدال التدريجي للصوفيين البارزين المرتبطين بالمماليك لتحل محلهم طريقة صوفية جديدة أكثر ارتباطا بالنظام الجديد.
9
واتضحت هذه الأجندة «الاستعمارية» عندما أعلن حسن الرومي - بعد أن ترك الأناضول متوجها إلى مصر في أعقاب الغزو العثماني - شروط الوقف لمسكن صوفي جديد مشيد في القاهرة على الطراز العثماني؛ حيث أكد على ألا يكون أي من موظفيه من العرب المحليين.
10
ومن خلال رعاية تشييد مساكن وأضرحة صوفية جديدة، اكتسبت الجغرافية المقدسة لهذه الأراضي التي غزاها العثمانيون «الطابع العثماني» تدريجيا.
11
في واقع الأمر، إن رعاية الإمبراطورية العثمانية للمؤسسات الصوفية الجديدة في الأراضي التي غزوها حديثا في جنوب شرق أوروبا وفي الشام، جعلت العديد من المؤرخين يصفون الصوفيين بأنهم لعبوا دور «المستعمرين» و«المستوطنين».
12
وفي البيئات الحضرية مثل حلب أو القاهرة، تضمنت هذه العملية تفضيل مجموعة من المسلمين على غيرها، مثلما حلت طرق صوفية أو أفراد صوفيون مرتبطون بالعثمانيين محل أولئك الذين كانوا محل تفضيل من المماليك. أما في السياقات الأخرى (خصوصا الريفية)، فيبدو أن هذا الأمر تضمن تكوين ما يمكن وصفه بنقاط انطلاق صوفية عن طريق المستوطنات الإسلامية في الأراضي المسيحية في الأساس. كانت الوسيلة الأساسية لسياسة الاستيطان تلك هي نظام «الوقف»، الذي من خلاله كان يعطي السلطان أو أي مسئول بارز في الإمبراطورية للشيخ الصوفي أرضا كافية لإعالة نفسه ولجذب جماعة أتباع أكبر.
ونظرا لأن الصوفيين بصفتهم متبعين للسنة النبوية، كان من المتوقع منهم أن يتزوجوا ويتناسلوا، فقد عنى هذا تزايد أعداد المستوطنين الأصليين هؤلاء تدريجيا مع مرور الزمان. ونرى مثالا على ذلك في عام 1516، عندما وهب السلطان سليم الأول لأحد الصوفيين أحد الأديرة المسيحية وما حوله من مزارع عنب وبساتين زيتون في قرية دير البعنة في الجليل، التي شكل المسيحيون السواد الأعظم من سكانها.
13
وحيث إن المساكن الصوفية كانت تحتوي في الغالب على أماكن إقامة، وتمثل في بعض المناطق شبكة رسمية بنحو أو بآخر لدعم المسافرين، فقد جذبت أيضا التجار المسلمين الذين عززوا اقتصاد المنطقة المحيطة.
14
لم تكن تلك السياسة موجهة فقط للمناطق المسيحية، وكما في حالة فروع الطريقة البكتاشية في الأناضول، فقد كانت تستخدم أيضا للسيطرة على المناطق الريفية التي يسكنها قبائل مسلمة غير مستقرة.
15
ومن ثم، لم تقتصر رعاية الإمبراطورية العثمانية للصوفية على كونها مسألة دعم لمؤسسات جعلت السكان أكثر نظاما وطواعية للحكم بسبب دورها في «عملية التحضر»، بل كانت أيضا مسألة دعم لمؤسسات ساعدت في استيطان أراض جديدة في أعقاب غزوها، وسيكون من الخطأ اعتبار هذه المستوطنات جزءا من مسار طويل الأمد من الصراع بين المسلمين والمسيحيين؛ فعلى الرغم من أنه على الأرجح كان يوجد في حالات كثيرة مسيحيون استاءوا وحرموا من حقوقهم كمواطنين، بسبب وصول الصوفيين الذين تجمعهم صداقات بأشخاص أصحاب مناصب رفيعة، كما حدث بالفعل في حالة المستوطنات الصوفية المبكرة في فترة العصور الوسطى، فإنه مع مرور الوقت أصبحت المجتمعات الدينية المختلفة يتقبل بعضها بعضا، وتخلق تراكيب جديدة من الممارسات الدينية.
16
وكما سنرى مرة أخرى في حالة الإمبراطورية المغولية، فإن فترة أوائل العصر الحديث لم تكن لهذا السبب فترة مواجهات فقط، بل أنتجت أيضا أنواعا جديدة من المزج الديني الذي لعب فيه الصوفيون دورا مهما.
على الرغم من أن محاولة العثمانيين تعيين صوفيين مختارين في المدن والقرى كانت في جزء منها صدى لنسق سابق تمثل في دعم الدولة للمذهب السني الذي رأيناه في الفصل الثاني؛ فقد تطورت هذه المحاولة في حالة العثمانيين إلى سياسة أكثر جدية، تهدف إلى تحقيق مركزية في التعيينات الدينية، والسيطرة على الجماعات الصوفية الهدامة، لا سيما القبلية منها. ويقال إن العثمانيين شجعوا توطين الصوفيين النقشبنديين المهتمين بالشريعة في أراضيهم كجزء من محاولة نشر الالتزام بالإسلام السني المعياري إلى حد كبير، والقائم على أحكام الشريعة بين القبائل التركمانية في الريف.
17
وعلى الرغم من تشكيك الأبحاث الحديثة في هذا الأمر، فإنه لا يوجد مجال كبير للشك في أن رعاية العثمانيين للنقشبنديين أسهمت في الطابع السني الأكثر ثباتا للمجتمع العثماني الذي ظهر على المدى الطويل.
18
والسبب في ذلك يعود إلى أنه في الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر ظهرت بيروقراطية دينية رسمية، كانت التعيينات فيها - سواء كمدرسين في المدارس، أو وعاظ في المساجد، أو شيوخ في المساكن الصوفية - تتحكم فيها إدارة مركزية تعود إلى مركز الحكم في إسطنبول عاصمة الإمبراطورية العثمانية.
وبفضل وجود هذه الإدارة، تمكن المؤرخون من استخدام سجلات الإمبراطورية العثمانية في جمع بيانات إحصائية عن الحياة الاقتصادية في المساكن الصوفية في كل من إسطنبول والمقاطعات الريفية؛ حيث بدا أن الأراضي والثروة - اللتين كانتا مملوكتين لتلك المساكن - كانتا أكبر بكثير مما كان عليه الحال في المدن.
19
لقد توسع جمع البيانات توسعا كبيرا لدرجة أن جماعات الدراويش المتجولين الخارجين عن الأعراف وجدوا أن مساكنهم أصبحت ضمن نطاق البيروقراطية العثمانية، بل حتى أنشطة الزهد في الدنيا المتمثلة في التسول والتجول أصبحت أيضا مقننة نسبيا في هذه العملية.
20
إلا أن تلك الدولة المتقدمة نسبيا لم تتمكن مطلقا من السيطرة على كل المساكن الصوفية في أراضيها، ولا على كل الأفراد الصوفيين. وربما نظرا لوصول الطريقة النقشبندية متأخرا نسبيا إلى الأناضول، فقد عملت في العموم في الأراضي العثمانية ضمن إطار مؤسسي أقل تنظيما؛ من خلال حلقات غير رسمية في المساجد أو في المساكن الصوفية الممولة من قبل تجار من وسط آسيا، وليست من قبل الأوقاف الممنوحة لهم من قبل الإمبراطورية.
21
وعلى المستوى الفردي، تظهر مسيرة نيازي المصري (المتوفى عام 1694) أنه كان يوجد صوفيون مستعدون لاستخدام نفوذهم الاجتماعي في التعبير عن انتقادهم الواضح للحكام العثمانيين.
22
وعلى الرغم من أن السلطات الحاكمة قررت أنه ليس من الحكمة إعدام هؤلاء المنتقدين، فقد كانت تمتلك القدرة على فعل ذلك؛ ففي حالة نيازي المصري اختارت استخدام نفوذها من خلال آلية أكثر تحفظا تمثلت في نفيه إلى جزيرة رودس، ثم إلى جزيرة ليمنوس؛ ومن ثم كانت نتيجة اعتماد الدولة العثمانية على حنكتها التنظيمية وطول بقائها أن حققت في العموم قدرا غير مسبوق من السيطرة على المجالس الصوفية الهرمية في المدن والمساكن الصوفية، التي تمكنت من خلالها من السيطرة على القرى. ومن ثم، فلا عجب في أن بالي أفندي (المتوفى عام 1553) - ذلك الصوفي البارز التابع للطريقة الخلوتية، الذي تربطه علاقات قوية بالنظام الإمبراطوري - قد اكتسب لقب «جاسوس المشايخ».
23
لم يكن العثمانيون أولى السلالات الحاكمة التي تدعم جماعات صوفية متعلمة ومسالمة في الأراضي التي حكمتها، إلا أنهم من خلال محاولات السيطرة على الحماس الديني الريفي والقبلي قد أعربوا عن الطموحات الجديدة للدولة (إن لم تكن دائما القدرات). وفي هذه السياقات القبلية، يكشف التفاعل الغامض بين الصوفية والمؤسسة الإمبراطورية الحاكمة عن نفسه على أفضل وجه؛ ذلك أن العثمانيين في فترة توسعهم المبدئي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر كانوا سعداء كثيرا بالاعتماد على مساعدة جماعات المحاربين الرحل التي يقودها «الصوفيون القبليون» الذين وصفناهم. وقد أوكل العثمانيون إلى تلك الجماعات غزو معظم الأراضي التي غزوها في البلقان والروملي (أي وسط اليونان وتراقيا الشرقية في العصر الحديث) على هذا النحو بالضبط.
24
اعتمد هؤلاء المحاربون الصوفيون على فكرة «غزو» أراضي المسيحيين الكفار، وهي أيديولوجية للعنف المشروع كانت أكثر مرونة من معتقد «الجهاد» المحكوم بضوابط شرعية أكثر.
25
وفي بعض الحالات، نشهد ضم هذه الغارات الصوفية على نحو رسمي إلى الجيوش العثمانية الأكثر تنظيما، مع إلحاق صوفيين معينين بوحدات الجيش؛ من خلال تعيينهم في منصب «شيخ الجيش».
26
ولم يكن هؤلاء الصوفيون شخصيات حدودية مؤثرة في حياتهم فقط، بل كانوا كذلك بعد موتهم؛ حيث دونت أساطيرهم، وتحولت قبورهم إلى مراكز للزيارة، وساعد هذا في نشر شهرتهم خارج حدود زمان ومكان المجتمعات الحدودية التي حققوا فيها هدف الإمبراطورية الأصلي؛ ومن ثم خلدوا تصوراتهم العنيفة والغريبة عن الإسلام في فترة الاستيطان التي روجت فيها الدولة العثمانية الصوفية الأكثر مسالمة، التي كانت موحدة كثيرا في كل أراضيها.
27
إن هذه المحاولة لاحتواء العوامل نفسها التي ساعدت في تأسيس الإمبراطورية العثمانية كانت إحدى المعضلات المستمرة في التاريخ العثماني، ولم يكن الأمر على الإطلاق مقتصرا فقط على حدودها مع أوروبا المسيحية، وأوضح مثال على ذلك نراه في تاريخ الطريقة البكتاشية، التي سميت نسبة لصوفي قبلي تقليدي يدعى الحاج بكتاش ولي (المتوفى عام 1337).
28
ومثل بقية منتجات البيئة التي تنتهج اللاسلطوية الدينية الموجودة خارج المدن، فقد كانت الصوفية التي روجها الحاج بكتاش تتكون من مزيج فريد من عناصر متعددة مأخوذة من التقليد الصوفي وبيئته القبلية؛ فقد كانت خليطا من الأفكار الصوفية، والتراث الشاماني للقبائل التركمانية، والشيعية الشعبية، والمسيحية الريفية للأناضول.
29
وعلى غرار الطرق الحدودية لشخصيات مشابهة؛ مثل صاري صالتق (المتوفى عام 1298) في البلقان، فقد كانت طريقة الحاج بكتاش مرتبطة في البداية بالمستوطنين الجدد المتحدثين بالتركية فحسب، سواء أكانوا محاربين قبليين أم مزارعين حديثي الاستيطان.
30
ومع مرور الوقت، ومنذ أواخر القرن السادس عشر فصاعدا، حافظت طريقة الحاج بكتاش على ارتباطها بالعسكرية (أو اكتسبته) من خلال علاقاتها بالجيش العثماني الأكثر تنظيما. وعلى الرغم من ذلك، فقد بدأت محاولات فرض المركزية والسيطرة على البكتاشيين فيما بعد في وقت مبكر، يعود إلى عام 1501 عندما عينت الدولة بالم سلطان (المتوفى عام 1516) الموالي للعثمانيين كرئيس للبكتاشيين، والذي عين في منصب «الشيخ الثاني» كوريث رسمي ل «الشيخ المؤسس» الحاج بكتاش.
31
وقد اتخذت هذه المحاولة لسيطرة الدولة على البكتاشيين - التي لم تكن تسعى لقمع هذه الطريقة (إذ لو حدث هذا، لكان أمرا بالغ الخطورة) - شكل تقنين تنظيمها لتنتقل من كونها جماعة صوفية قبلية إلى طريقة صوفية رسمية لها قيادة معينة، بطريقة مركزية، ولها مساكن في المدن وليس في الريف. وبينما كان السلاطين الأوائل مناصرين كرماء، ومتحمسين لضريح الحاج بكتاش، فبعد حكم بايزيد الثاني (الذي حكم من عام 1481 إلى عام 1512) أصبح دعم الإمبراطورية للضريح أقل انتظاما إلى حد كبير.
32
وعلى نحو ينطوي على مفارقة نسبيا، فإنه في الفترة التي حاولت فيها الدولة العثمانية ترويج إسلام موحد ومسالم إلى حد كبير، ضمنت هذه السياسة انتشار وتخليد كثير من سمات إسلام القبائل اللاسلطوي القديم، عن طريق المساكن البكتاشية التي أنشئت في كل مدينة في الإمبراطورية العثمانية. أما على صعيد الإطار الأوسع للتاريخ الصوفي، فقد أدى تدخل الدولة العثمانية المركزية في الشئون الصوفية إلى تحول الطريقة البكتاشية من مزيج متنوع من القبلية والتقليد إلى منظمة ذات تقليد تتسم بقدر أكبر من البيروقراطية، وسيتكرر هذا النسق من القرن السادس عشر فصاعدا في محاولات فرض التنظيم والبيروقراطية التي سوف تنتهجها الدولة العثمانية مع الطرق الصوفية البارزة الأخرى في أراضيها.
شكل 3-1: ولي وإمبراطور إيراني: ضريح صفي الدين في أردبيل (تصوير: نايل جرين).
لم تكن محاولات السيطرة هذه على سلطة واستقلال الصوفيين القبليين ببساطة جزءا من مسار محدد لبناء الدولة، وقد شكلتها على نحو كبير أحداث الفترة. وعلى الرغم من أن القرن الخامس عشر شهد قيادة الصوفيين القبليين لحملات عسكرية كثيرة ناجحة لتوسيع نطاق الدولة العثمانية، فقد شهد أيضا محاولات تمرد منهم (تعد محاولة الشيخ بدر الدين التي قام بها عام 1416 الأبرز من بينها)، ومع مرور القرن أصبحت محاولات التمرد تلك أكثر تكرارا.
33
وكان الحراك المكاني والحماس الديني اللاسلطوي لهذه الحركات يعني أن إمكانية مقاومتهم لأهداف الإمبراطورية تساوي إمكانية مساعدتهم في تحقيقها، بل إنه في عام 1493 حاول أحد الصوفيين المنتسبين للطريقة الحيدرية الخارجة عن الأعراف أن يغتال الإمبراطور بايزيد الثاني.
34
وكان التوتر بين الصوفية القبلية والصوفية المستقرة انعكاسا للعناصر المتعددة لمجتمع غير متجانس يضم جماعات مختلفة من البدو والحضر. وفي مثل هذه السياقات، كانت الطرق الصوفية أدوات مهمة للترابط الاجتماعي والتفاعل بين الجماعات المختلفة؛ ولهذا السبب كانت الحكومة المركزية ترى فكرة تعيين قادة صوفيين، ودعم هياكل تنظيمية أكثر تماسكا للطرق التي يقودها هؤلاء الصوفيون، جذابة على نحو واضح. وحتى إذا ظلت هذه المحاولات جزئية وغير كاملة، فإنها على مدار القرن السادس عشر والقرن السابع عشر جعلت الطرق ترتبط بعلاقات وطيدة أكثر مع الدولة العثمانية، حتى إن لم تتصف هذه العلاقات مطلقا بالولاء التام. (4) إيران: الإمبراطورية الصفوية المبكرة
لم تكن أقدار الصوفية داخل الأراضي العثمانية انعكاسا للشئون الداخلية فحسب، بل شكلتها أيضا الحاجة إلى الرد على التطورات الواقعة في المناطق المجاورة. في هذا الصدد وفي غيره، لم يوجد حدث في فترة أوائل العصر الحديث أكثر أهمية من الغزو السريع لإيران، على يد جماعة صوفية قبلية نشأت في الحدود الشرقية الجبلية للحكم العثماني؛ ففي عام 1501، غزا مراهق أصبح شيخا صوفيا بالوراثة مدينة تبريز الإيرانية بمساعدة جيش من أتباعه القبليين، وعلى مدار العقد التالي، غزا بقية إيران ليضع أسس إمبراطورية ستمتد في أوج اتساعها من شرق الأناضول إلى حدود الهند. وحملت الإمبراطورية الحاكمة التي أسسها المراهق إسماعيل الصفوي (1487-1524) حتى انهيارها عام 1722 اسم أسرته الصوفية الصفوية.
اكتسبت الأسرة والطريقة الصفوية أتباعها في الأساس من قبائل المناطق المحيطة بضريح مؤسس الطريقة، الشيخ صفي الدين (المتوفى عام 1334)، الموجودة في المرتفعات بشمال غرب إيران حاليا، على الرغم من أن ثروتها ومكانتها اعتمدتا أيضا على ما تمتلكه من أراض، وعلى أتباعها أصحاب النفوذ من أبناء الحضر، إلا أن أتباع الصفوية من القبليين كانوا الأكثر تأثيرا في ظهور الدولة الصفوية. وعلى غرار الحركات الصوفية القبلية الأخرى؛ ففي القرن الخامس عشر اكتسب جنيد وحيدر حفيدا الشيخ صفي الدين عددا متزايدا من الأتباع التركمان القبليين، الذين سخروا طاقاتهم في الغزو المصحوب بمباركة دينية، الذي رأينا أنه كان أيضا سمة الحدود العثمانية في الفترة نفسها.
35
وكان الأتباع القبليون، الذين عرفوا باسم «القزلباش» أو «أصحاب العمائم الحمراء»، يدينون بالولاء الشديد لشيوخهم الصفويين. وعلى الرغم من أننا ليس لدينا أي مصادر تعطينا معلومات عن هؤلاء القبليين، كما هو الحال مع غيرهم من القبليين، فمن خلال شعر مؤسس الإمبراطورية الصفوية الشاه إسماعيل، يبدو أنهم بجلوه بصفته التجسد الحي لله.
36
ونظرا لأن المشروع التنظيمي والعاطفي، المتمثل في تأسيس دولة جديدة وتوحيد شعبها حول حاكم صاحب شخصية جذابة ، لم يكن أمرا مقتصرا على الدول الإسلامية في فترة أوائل العصر الحديث، فربما من المفيد مقارنة «اللاهوت السياسي» للصفويين الأوائل بالتصورات الأوروبية في الفترة نفسها المتمثلة في جسد الملك المقدس.
37
لم يكن تصور الملوك صانعي المعجزات مقتصرا على التجربة الأوروبية فحسب، وظهر بناء على مطالبات سياسية جماعية لقادة المجتمعات الأكثر تعقيدا التي نشأت عبر منطقة أوراسيا في هذه الفترة، واستمر من خلال الأداء الطقسي، وكذلك المعتقد المكتوب، وانتشر من خلال الشائعات التي تتحدث عن القدرات الشفائية الإعجازية للمسة الملكية، وخلد من خلال بناء أضرحة دينية خاصة بالسلالات الحاكمة. واعتراضا على وجهة النظر القائلة إن الشاه إسماعيل زعم أنه الله في صورة بشرية، قيل إن شعره ليس استحضارا لمعتقد جديد متعمد متمثل في التجسد أو «الحلول»، قدر ما هو مجاز شعري لمعتقد قديم أكثر قبولا، متمثل في وصول الصوفي إلى حالة اتحاد مؤقت مع الله من خلال تدمير صفاته الشخصية، فيما يعرف بمفهوم «الفناء».
38
وعلى الرغم من أن أفكار الشاه إسماعيل كانت مشابهة بالتأكيد لأفكار الفترات المبكرة، فإن السياق الريفي والقبلي الذي استخدمت فيه كان مختلفا كثيرا عن السياق الذي شهدنا فيه ظهور المصطلحات والأفكار الصوفية في السابق.
سمحت البيئة الدينية غير المحكومة بالقوانين، التي ظهر فيها الصفويون، باستخدام موارد فكرية من التقليد الصوفي مثل المصطلحات الخاصة بولاية الشيوخ وقدرات الأولياء لخدمة أهداف تعظيم الذات هذه دون وجود معارضة حقيقية. وفي واقع الأمر، يبين عدد من الروايات شبه المعاصرة كيف أن القبليين القزلباش في حالات عديدة التهموا لحوم أعداء شيخهم الشاه إسماعيل.
39
وقد قال أحد السفراء الهنود المسلمين للبلاط الصفوي: «لقد تقرر أنه يجب على كل مؤمن معتقد بين صفوف الغزاة العظماء أن يتناول قطعة من الجسم البشري المشوي كنصيب له. واحتشد جمع مخيف من آكلي لحوم البشر، والتهم الجسم لدرجة أنه لم تبق منه أي قطعة لحم أو عظمة.»
40
كان هذا دليلا ماديا على الولاء الذي لا يتزعزع، الذي يكنه القبليون لإله لم يكن هو نفسه أقل مادية في الهيئة عند التجسد في جسم الشاه إسماعيل. وفي السياقات التي قدم فيها الشاه إسماعيل نفسه على أنه أداة الله في الأرض، لم تكن ثمة سلطة مركزية للدولة أو للدين تمنعه من فعل ذلك، وإذا كان أتباعه القبليون قد اختاروا تفسير قصائده باعتبارها تأكيدات على ألوهيته التي سوف تحميهم في ساحة الحرب؛ فهذا يعني أنه لم يكن يوجد ممثلون للعقيدة الصوفية أو غيرها من العقائد الإسلامية «القويمة» ليخبروهم أن معتقداتهم «ضالة». ومن الناحية التاريخية، كانت الحركة الصفوية إلى حد كبير نتيجة بيئتها القبلية والجبلية التي لم توجد بها مؤسسات دولة لوضع ضوابط للإسلام المرتكز على الأولياء الصوفيين ذوي الشخصيات الجذابة.
في هذا الصدد، يتشابه الصفويون الأوائل كثيرا مع البكتاشيين الأوائل والحركات القبلية المشابهة التي رأيناها في أراضي العثمانيين، وكانت هذه هي المشكلة بالتحديد؛ والسبب في ذلك لا يقتصر على ظهور الطريقة الصفوية على التخوم الشرقية المنفلتة للإمبراطورية العثمانية، بل يتمثل أيضا في أن استحسانها من قبل القبليين - الذين يدينون اسميا بالولاء للعثمانيين - أسفر عن انتفاضات من جانبهم، مناهضة للعثمانيين ومؤيدة للصفويين، وزاد ذلك من احتمالية انفصال المقاطعات العثمانية الشرقية وانضمامها إلى الكيان الصفوي الجديد المجاور. ونظرا لأن الشاه إسماعيل أعلن أيضا عام 1501 أن دولته سوف تتبع تعاليم الإسلام الشيعي وليس الإسلام السني، فقد منح التنافس بين العثمانيين والصفويين أيضا لكل إمبراطورية منهما مسوغات التحدث بحماسة عن دفاعها عن الإسلام الحقيقي ضد مخربيه من السنة أو من الشيعة. وأدى نجاح الأسرة الصفوية في توجيه ولاء القبليين القزلباش إلى تأسيس الدولة الجديدة؛ إلى محاولة مقابلة لم تهدف فقط إلى قمع المتعاطفين مع الصفويين على نحو مباشر، بل أيضا إلى قمع كل الحركات المشابهة الموجودة بين قبائل الأناضول العثمانية. وكجزء من محاولة احتواء التهديد الصفوي، أقدم كل من السلطان العثماني بايزيد الثاني (الذي حكم من عام 1481 إلى عام 1512)، والسلطان العثماني سليم الأول (الذي حكم من عام 1512 إلى عام 1520) على عدة محاولات لقمع وجود القبليين القزلباش في أراضيهم.
41
إلا أننا عند مقارنة مساري الصوفية في ظل الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية، سنجد أن الأمر لا يتمثل فحسب في انتصار للصوفية القبلية في الأراضي الصفوية أدى إلى قمع مقابل للصوفية القبلية ودعم للصوفية المستقرة في الإمبراطورية العثمانية؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنه مثلما رأينا في السابق معاناة الدولة العثمانية نفسها في احتواء جماعات الصوفية القبلية التي أسهمت بفاعلية في كل توسعاتها؛ فقد كان لزاما على الصفويين، من أجل تأسيس نظام مستقر للدولة الصفوية، إعادة تقييم جدوى أتباعهم الصوفيين القبليين. وفي حالة الدولة الصفوية، كانت عاقبة الصوفيين أكثر كارثية على نحو هائل من محاولة العثمانيين تحجيم الطرق الصوفية من خلال فرض قدر أكبر من التنظيم عليها؛ ذلك لأنه على مدار القرن السادس عشر حول هذا التغيير إيران الصفوية من دولة أوصلتها الصوفية إلى سدة الحكم إلى دولة تضطهد الصوفيين حتى شفا الانقراض.
شكل 3-2: الصوفي كجندي: بلطة درويش إيراني من أوائل العصر الحديث (بلطة درويش (إيران، القرن الثامن عشر تقريبا)، رقم القطعة: 3376. الصورة منشورة بإذن متحف الإثنولوجيا الوطني في ميونيخ (تصوير: ماريتا فايدنر)).
وعلى الرغم من أن القزلباش أثبتوا كفاءتهم في تقديم العنف اللازم لتوصيل كبار الطريقة الصفوية إلى العرش، فإنهم على المدى الطويل كانوا أقل فائدة في الحفاظ على الحكم المستقر للإمبراطورية الصفوية؛ إذ إنه كما أدركت كل إمبراطورية جديدة من إمبراطوريات هذه الفترة، ليست عوامل الترحال والعنف والولاء المطلوبة لغزو الأراضي كافية مطلقا لحكم تلك الأراضي؛ وهذا بدوره تطلب تعديل العلاقات الدينية عند التحول من غزو الأراضي إلى حكمها؛ ففي بداية الفترة الصفوية كان القزلباش آمنين بنحو أو آخر في مكانتهم الخاصة باعتبارهم المريدين الروحانيين للرجل الذي جعلوه ملكا. أما في العقود التالية، فقد رأى الحكام الصفويون أن علاقتهم الخاصة بالقزلباش تبعد عنهم الأعيان المقيمين وأصحاب النفوذ الآخرين، الذين كانوا في حاجة إلى كسب ولائهم، وأدركوا أيضا أن إطار الطريقة الصوفية لم يكن كافيا في نهاية الأمر للحفاظ على تلاحم الشعب.
42
وأدى ذلك إلى تضاؤل دور القزلباش القبليين تدريجيا في الحكم، إلى أن وجدوا أن ولاءهم للدولة في نهاية الأمر قد أسيء استغلاله، لدرجة أنهم أصبحوا جلادي الدولة، الذين يلتهمون أنوف وآذان المحكوم عليهم بالإعدام.
43
أما انعكاس ذلك على إيران في العموم، فقد تمثل في إقرار الإسلام الشيعي تدريجيا باعتباره «دين الدولة»، وهو مصطلح بدأ يتبلور منذ فترة أوائل العصر الحديث.
ونتيجة لذلك، فقد تعرض الصوفيون الذين رفضوا قبول الإسلام الشيعي لقمع وحشي أدى، على سبيل المثال، إلى قتل ما يقرب من أربعة آلاف عضو من الطريقة الكازرونية في جنوب إيران في بداية القرن السادس عشر. وخلال عقود قليلة ظهرت عقيدة جديدة مدعومة من الدولة؛ نظرا لتغير نوع الإسلام المدعوم من الدولة الصفوية إلى نوع الإسلام الشيعي الأكثر اعتمادا على الفقه والعلماء، وهاجمت طبقة العلماء الصاعدة حماس وعنف القزلباش وتبجيلهم للأسرة الصفوية، واعتبرت صوفيتهم القبلية نوعا من «التطرف» أو «الغلو». وعلى النقيض من صوفية القزلباش القبلية - التي كغيرها من الأنواع الناتجة عن المرتفعات الحدودية، بدت بدائية بل مهرطقة أيضا بالنسبة إلى النخب الحضرية التي كان يتعامل معها الصفويون في ذلك الوقت - فقد امتلك الإسلام الشيعي العلماء الفقهاء، والرؤية المنهجية للنظام الاجتماعي، والاحترام الدولي؛ مما منح الإمبراطورية، التي أصبحت مستقرة في ذلك الوقت، بديلا يحظى بقدر أكبر من الاحترام للإرث الحدودي. (5) الهند: الإمبراطورية المغولية المبكرة
عندما نلتفت إلى الإمبراطورية الإسلامية المنتمية لفترة أوائل العصر الحديث، التي أسسها الحكام المغول في الهند، سنجد أوجه تشابه واختلاف مع وضع الصوفيين في ظل العثمانيين والصفويين في القرن السادس عشر؛ فعلى الرغم من أن المغول أنفسهم لم يصلوا إلى الحكم كأسرة صوفية مثلما حدث مع الصفويين، فإنهم مثل غيرهم من الحكام المغول الأتراك، كونوا في تاريخهم المبكر في آسيا الوسطى تحالفات مع أولياء الطريقة النقشبندية.
44
وفي تشابه مع العثمانيين والصفويين، فإن المنطقة التي آل حكمها إلى المغول بعد غزوات مؤسسها بابر (الذي حكم من عام 1526 إلى عام 1530) ضمت جماعات صوفية ترتبط بعلاقات مؤثرة مع السكان، لم يكن من السهل تهميشها لصالح حلفاء المغول النقشبنديين. ونظرا لإدراك قوة المؤسسة الصوفية التي كانت موجودة بالفعل في الهند منذ قرون، فقد كانت أول خطوة لبابر في غزو دلهي هي القيام بزيارة رسمية إلى أضرحة أوليائها الصوفيين الجشتيين.
45
وعلى الرغم من ذلك، فإنه توجد أدلة على الدور الفعال الذي لعبه الصوفيون، عندما أطيح بهمايون بن بابر، عن طريق انتفاضة الأفغان الذين لاقوا تهميشا في ظل النظام الجديد بسبب ارتباطهم بالنظام الحاكم السابق؛ حيث كانوا سببا في فترة الحكم الأفغاني الذي تبع الانتفاضة، ثم كانوا سببا في إنهائه في نهاية المطاف.
46
ولذلك، إذا مثلت بداية الحكم المغولي استمرارية للأمر الذي شهدنا ظهوره في الفصل الثاني المتمثل في وقوف الأولياء الصوفيين على قدم المساواة مع السلاطين، فإنه مع استقرار حكم المغول في الهند تغير ميزان القوة لصالح الدولة. وعلى الرغم من أن المغول لم يحاولوا مطلقا فعل أي شيء فيما يتعلق بالتنظيم المركزي للطرق الصوفية الذي وجدناه لدى العثمانيين، فإن المغول يجمعهم أوجه شبه مهمة مع العثمانيين والصفويين تتعلق بطريقة تعامل المغول مع الصوفيين والرموز الصوفية. وكما هو الحال مع دول تلك الفترة الأخرى، فقد مثل التقليد الصوفي موردا قيما يمكن للدولة الاستحواذ عليه. وأبرز مثال تتجلى فيه الصوفية كمورد للدولة هو المعجم الجغرافي العظيم للإمبراطورية المغولية، الذي يحمل عنوان «الدستور الأكبري» (الذي كتب تقريبا عام 1590)، والذي صنفت فيه أضرحة الصوفيين وأوليائهم في الأراضي المغولية ضمن الممتلكات الإمبراطورية الأخرى.
47
شكل 3-3: النفوذ الصوفي: تجمع الصوفيين والعلماء أمام الإمبراطور المغولي، عام 1635 تقريبا (معرض فرير للفنون، مؤسسة سميثسونيان، واشنطن: بيرتشيس، إف194217، إف1937. 6. 7ب).
يمثل الإمبراطور جلال الدين أكبر (الذي حكم من عام 1556 إلى عام 1605)، الذي رعى هذا العمل، أجرأ محاولة مغولية لتوجيه الصوفية نحو تحقيق أهداف تخدم الإمبراطورية. وأول مظاهر ذلك يتمثل في قراره بناء عاصمة جديدة للإمبراطورية في فتح بور سيكري حول منزل سليم الجشتي (المتوفى عام 1572) - الذي سرعان ما أصبح قبره - ذلك الصوفي الذي منح «أكبر» ابنا ووريثا من خلال معجزاته.
48
وفي صدى لرعاية الصفويين لمجمع ضريح وقصر حول قبر الشيخ صفي الدين خلال العقود السابقة، كان تأسيس المغول لمجمع مشابه حول قبر أحد الأولياء من بعض النواحي علامة على المكانة الرفيعة للصوفيين.
49
إلا أن إحاطة الضريح بجدران عالية من الحجر الرملي كان يمثل أيضا نوعا من الحصار؛ ومن ثم إشارة صريحة على سياسة احتواء ودمج الصوفيين الأكثر أهمية في الإمبراطورية. وعلى الرغم من غزو أكبر للبنغال وراجبوتانا وكجرات وكشمير، فإن طموحه كان أكبر من ذلك؛ ما قاده (أو قاد وزيره أبا الفضل) إلى ترويج نظام ديني اجتماعي جديد، امتزجت فيه عناصر من الدين الإسلامي والدين الهندوسي لتكوين «دين إلهي» جديد.
50
وكان هذا الدين الإلهي في جوهره عبارة عن دين إمبراطوري استخدمت فيه المصطلحات الصوفية التي أصبحت راسخة منذ أمد طويل؛ للإشارة إلى الإمبراطور نفسه، الذي وصف بأنه «الإنسان الكامل» و«المرشد» لحلقة من المريدين الصوفيين الأوفياء، الذين لم يكونوا سوى أفراد حاشيته.
51
ونظرا لاهتمامات أكبر المتنوعة المتعلقة بالألفية الإسلامية، فإنه يوجد أيضا سبب لربط تصوره للدين الإلهي ببداية تلك الألفية في منتصف عهده. وعلى الرغم من أن كثيرا من المسلمين الآخرين سوف يرون الألفية الجديدة فرصة للعودة إلى السنة النبوية؛ فقد كانت بالنسبة إلى أغنى إمبراطور في هذا العصر فرصة لخلق تركيبة دينية جديدة تماما.
على الرغم من ذلك، فقد كانت توجد عدة سوابق للأيديولوجية الصوفية الإمبراطورية للمغول، خاصة في إيران؛ فقبل قرن، كتب الجامي الهراتي (المتوفى عام 1492) قصة رمزية صوفية شعرية بعنوان «سلامان وأبسال»، قالها في نصيره السلطان يعقوب سليل أسرة آق قويونلو (المتوفى عام 1490)، قدم فيها أيضا الحاكم القبلي في صورة «الإنسان الكامل» الصوفي، الذي كان على هذا النحو حاكما مثاليا لغيره من المسلمين الأقل مكانة.
52
ومن السوابق الأخرى طقس «عصا الطريق»، وهو طقس كان يقام في بلاط الحكام الصفويين الأوائل في إيران؛ حيث كان القبليون القزلباش يضربون رمزيا؛ تعبيرا عن الامتثال لشيخهم الملكي والروحاني.
53
وفي صدى للقصائد والطقوس الموجهة إلى الحكام، فقد كان الهدف من الدين الإلهي المغولي ونموذج المرشد والمريد خاصته أن يكونا وسيلة لتعزيز الولاء في البلاط الملكي، أكثر من أن يكونا نظاما يروج في المجتمع الهندي في العموم. وعلى الرغم من أن قصر أمد استمرار الدين الإلهي قلل من شأنه لدرجة اعتباره نزوة ملكية، فإن اللغة الصوفية التي وصفت الإمبراطور ب «المرشد» ووصفت الحاشية ب «المريدين» سوف تستمر في ظل الحكام المغول اللاحقين؛
54
فعلى سبيل المثال: في عهد جهانكير (الذي حكم من عام 1605 إلى عام 1627) الذي خلف أكبر، جمع شخص من الحاشية يدعى عبد الستار حوارات الإمبراطور في صورة كتاب ملفوظات من النوع المخصص عادة لحوارات الشيوخ الصوفيين.
55
وباستخدام المصطلحات الصوفية أشار عبد الستار على نحو معبر إلى مجموعة الحوارات هذه باسم «ملفوظات جهانكيري»، هذا بالإضافة إلى وصف جهانكير بصانع معجزات يحمل اللقبين الصوفيين «المعلم والمرشد».
56
ولم يكن المغول الحكام الوحيدين في جنوب آسيا في فترة أوائل العصر الحديث الذين استخدموا نماذج السلطة الصوفية هذه لأغراض البلاط الملكي خاصتهم، فبعد قرن من حكم جهانكير كون الحاكم الهندوأفغاني محمد خان بنكش (الذي حكم من عام 1713 إلى عام 1743)، من مملكته الجبلية الصغيرة إلى شمال دلهي، لنفسه شخصية مشابهة، مزجت ما بين صورة الشيخ الصوفي وصورة الغازي، وشجع كل فرد من أفراد حاشيته على اعتبار نفسه من مريديه الصوفيين؛ ومن ثم، كانت نماذج السلطة الصوفية من السهل نقلها إلى حد كبير.
57
وكما هو الحال مع الصفويين والعثمانيين، فقد عبرت الثقة الجديدة لدولة المغول عن نفسها، في أوائل العصر الحديث، في استعدادها لمواجهة واحتواء الجماعات التي هدد استخدامها للتقليد الصوفي السلطة الإمبراطورية. ومثلما سعى العثمانيون والصفويون في نهاية المطاف إلى قمع الصوفية القزلباشية القبلية، ففي عهد جلال الدين أكبر قوبلت بقمع شديد الحركة الروشنية الموحدة للقبائل التي قادها الصوفي صاحب الشخصية الجذابة بايزيد الأنصاري (المتوفى عام 1585) وسط القبائل الأفغانية على الحدود الشمالية.
58
في العموم، تعكس تعاملات البلاط المغولي مع الصوفية الأدوار المختلفة التي لعبتها الصوفية في المجتمع الهندي في العموم خلال فترة الحكم المغولي.
59
وتفوقت الإمبراطورية المغولية على غيرها من الإمبراطوريات الأخرى في هذه الفترة، في تجميع عدد من الجماعات العرقية والدينية المتنوعة معا، وعلى الرغم من خضوع هويات هذه الجماعات للتغير على مر الزمان، فقد وجدت اختلافات وتحزبات واضحة فيما بينها. وأدت تعددية المجتمع المغولي وتعقيده إلى توجيه الطرق والطوائف الصوفية إلى اتجاهين مختلفين، كان أحدهما يرى أن الانتماءات الصوفية تضاهي وتحاكي أشكال الارتباط العرقي أو اللغوي أو الطبقي، والاتجاه الآخر كان يرى أنها بمنزلة وسيط للتفاعل بين الجماعات المختلفة يؤدي إلى لم الشمل الاجتماعي. من ناحية، نجد أن الأشخاص الذين تجمعوا حول أحد الصوفيين كانوا في الأساس من الجماعة العرقية التي ينتمي إليها الصوفي نفسه، وقد ظهر هذا العامل من سياق الهجرة والتهجير، الذي كان من سمات المجتمع الإمبراطوري.
60
ومن الناحية الأخرى، نجد حالات كثيرة يكون فيها الشيوخ الصوفيون الأحياء أو أضرحتهم وسائل للاندماج الاجتماعي، من خلال تجميع أعضاء من جماعات عرقية وحتى دينية مختلفة معا.
61
ويقال إن معتقد «وحدة الوجود» لعب الدور الأساسي في هذا الصدد، والذي قد رأيناه في الفصل الثاني ينشأ في الأساس من تعاليم ابن عربي (المتوفى عام 1240). وفي السياق الهندي، ربما كان هذا المعتقد أداة تمكين للوحدة الاجتماعية، جعلت المسلمين والهندوس يعتقدون أن آلهتهم وممارساتهم المختلفة تمثل جزءا من وحدة كونية أكبر.
62
على الرغم من صعوبة معرفة كيفية إثبات هذا التعميم، فإن معتقد وحدة الوجود مكن كثيرا من الشعراء المسلمين (ومستمعيهم) من تخيل أنفسهم يدخلون المعابد ويسجدون أمام تماثيلها، وحيث إنه من الممكن أن نعزو هذا الدور الأيديولوجي إلى هذا المعتقد في الهند، فإن الدعم الذي تمتع به هذا المعتقد أيضا في الإمبراطورية العثمانية التي تشبه الهند في تعددية الأديان كان له أثر كبير. إلا أن هذه التسوية بين أعضاء الجماعات الدينية المختلفة لم تكن ناتجة عن الفكرة فحسب، بل كانت ناتجة أيضا عن الوسيلة؛ فيجب ألا نقلل من الدور الذي لعبته اللغة الفارسية في تمكين نشر المصطلحات الصوفية بين الجماعات المختلفة التي اطلعت على ثقافتها الأدبية في الهند المغولية؛ حيث كانت الفارسية تروج بين كل الجماعات المرتبطة بالدولة، بما في ذلك الكثير من الهندوس من طبقات الكتاب الذين مثلوا دعامة البيروقراطية المغولية.
63
وبعيدا عن الفارسية، فقد رأينا بالفعل كيف أدى إضفاء الطابع المحلي على التعاليم الصوفية إلى انتشارها، ولم يختلف الأمر في الهند. وفي حالة شعراء البنجاب، أمثال شاه حسين (المتوفى عام 1599)، وسلطان باهو (المتوفى عام 1691)، وبلهى شاه (المتوفى عام 1757)؛ وشعراء السند أمثال شاه عبد اللطيف (المتوفى عام 1752)، شهدت فترة المغول انتقال المصطلحات الصوفية إلى المستوى الريفي، تلك التي كانت حكرا إلى حد كبير على الطبقات الحضرية قبل القرن السادس عشر.
64
وهذا الانتشار الريفي لم يقدم الأفكار الدينية فحسب إلى الجمهور الريفي، بل قدم أيضا آليات التحكيم والسيطرة؛ حيث أصبح الصوفيون دعائم مهمة للنظام الاجتماعي الريفي، سواء فيما يتعلق بتعنيف ووعظ مخالفي القانون، أو تسوية النزاعات، أو تعليم السلوك اللائق. وعلى الرغم من أن الصوفيين في الهند المغولية لم يكونوا قريبين على الإطلاق من الدولة كما حدث في عهد الإمبراطورية العثمانية، وحتى إن كانوا بعيدين جدا عنها، فقد حافظوا كثيرا على النظام والتناغم الاجتماعيين في الهند.
65
وعلى الرغم من أنه كان يوجد الكثير من الصوفيين الفقراء الذين عاشوا على هامش المجتمع والدولة أيضا، فإنه لن يكون من المبالغة القول بأن الصوفية في الغالب كانت إلى حد كبير جزءا من المؤسسة المغولية الحاكمة.
نرى تشابها مهما آخر بين علاقة الصوفيين بالدولة في الأراضي العثمانية والأراضي المغولية، في الدور الذي لعبه الصوفيون في توسيع الحدود الإمبراطورية. لقد رأينا بالفعل أهمية الصوفيين «المستوطنين» في التوسع العثماني في جنوب شرق أوروبا والشام، وفي الهند المغولية كانت توجد عملية مشابهة. ولم تكن العملية نفسها بجديدة على الهند؛ فقد ساعد الصوفيون في توسيع رقعة الاستيطان الإسلامي على طول سهل نهر الجانج الخصب طوال فترة سلطنة دلهي (1206-1526)، سواء في صورة ساكني الحدود الذين يساعدون أنفسهم أو عن طريق حصولهم على الأراضي الممنوحة من السلطان.
66
واستمر النمط القديم هذا المتمثل في توظيف الصوفيين في توسيع الحدود الزراعية في ظل المغول، الذين منحهم غزوهم لمنطقة غابات البنغال الشاسعة عام 1574 قدرا هائلا من الأراضي يمكن منحها للرعايا الأتقياء والموالين لهم. وعندما تسلم الصوفيون هبات الأراضي الممنوحة لهم في الغابات، وظفوا الحطابين المحليين لإزالة الأشجار لتصبح الأراضي صالحة للزراعة؛ وبهذه الطريقة، قدموا لسكان الغابات الأصليين الإسلام في صورته الصوفية؛ مما أدى إلى توسيعهم لحدود الإمبراطورية، وكذلك تنفيذ عملية «الدعوة للإسلام عن طريق المحراث».
67
وبينما وسع هذا الأمر جزئيا نطاق التعليم الإسلامي الرسمي، فإنه أيضا دفع عملية إضفاء الطابع المحلي على التعاليم الصوفية إلى مستويات دمج جديدة؛ فأصبحت موضوعات الأدب الصوفي البنغالي مأخوذة من التنترية وأساطير الغابات القديمة.
68
لم يكن هذا النسق المتعلق بالاستحواذ على الأشخاص الصوفيين والمصطلحات الصوفية وإعادة توجيههم من قبل الدول في أوائل العصر الحديث؛ مقتصرا على الإمبراطوريات الثلاث الكبرى في هذه الفترة، ويمكن رؤيته في عدد من البيئات الأخرى. وفي كثير من الحالات، تضمن هذا الأمر انتقال أسر صوفية من النخبة من المراكز القديمة المرموقة إلى البيئات الحدودية، التي كان فيها علمهم ومكانتهم الوجودية كأولياء لله - اللذان يمثلان رأسمالهم الرمزي - موردين نادرين. ويساعدنا دمج هؤلاء الأولياء المتنقلين في الدول الجديدة الموجودة على الحدود البحرية للمحيط الهندي في ربط تاريخ الصوفية في المناطق المختلفة بعضه ببعض. وتعد السلطنات الإقليمية في منطقة الدكن الواقعة جنوب الهند أحد الأمثلة في هذا الشأن؛ فقد جذب السلاطين البهمنيون في منطقة الدكن أسرة الصوفي الإيراني المقدس شاه نعمة الله (المتوفى عام 1431) إلى عاصمتهم في بيدار، كجزء من سياسة أكبر تفضل النخب المهاجرة على النخب المحلية.
69
ونظرا للدعم الهائل الذي تلقاه النعمتلاهيون من قبل الأسرة الحاكمة نفسها، وتحالفها معهم عن طريق الزواج، فقد أصبحوا شخصيات أساسية في البلاط الملكي، ولم يقتصر دورهم على قيادة مراسم تتويج السلاطين، بل منحوا أيضا السلطان أحمد شاه (الذي حكم من عام 1422 إلى عام 1436) مرتبة «الولي» الصوفية؛ كي يضيفها إلى ألقابه الرسمية الملكية الأخرى. وتصف سيرة فارسية نادرة لشاه نعمة الله، تعود إلى فترة السلاطين البهمنيين، كيف أن أحمد شاه قبل أن يصل إلى الحكم رأى شاه نعمة الله في الحلم يضع تاجا على رأسه، وبعد أن استيقظ استلم خطابا منه يزيد طمأنته على نجاحه في المستقبل.
70
واستكمالا لهذه العلاقات بين الأولياء والسلاطين في الأجيال التالية، كرر هذه القصة مؤرخ جنوب الهند العظيم فرشته (المتوفى عام 1620)، في حين أهديت سيرة أخرى لشاه نعمة الله للسلطان البهمني التالي، علاء الدين أحمد شاه الثاني (الذي حكم من عام 1436 إلى عام 1458)، الذي وصف في الإهداء بأنه «سلطان العرفاء».
71
وشهدت أيضا سلطنات أخرى في جنوب الهند تقوية للعلاقات بين الصوفيين والدولة، كما في حالة الزيادة الكبيرة في منح هبات الأراضي، أو ما يعرف ب «الإنعام» والمعاشات، أو ما يعرف ب «اليوميات» للصوفيين على يد سلاطين سلالة عادل شاه الذين حكموا بيجابور في القرن السابع عشر.
72
وعلى غرار السياقات الأخرى في أوائل العصر الحديث، فإنه يبدو أن الهدف من ذلك كان خلق مؤسسة دينية مستقرة وموحدة موالية لمناصريها الذين يمثلون الدولة؛ نظرا لاعتمادها عليهم.
73 (6) جنوب شرق آسيا: سلطنات الملايو
إذا كان الوضع في هضبة الدكن يشبه كثيرا النموذج العثماني، فقد كانت توجد أيضا أمثلة على كيانات إقليمية أصغر انتهجت الاستحواذ الكامل على المصطلحات الصوفية، الذي شهدناه في حالة الشاه إسماعيل في إيران وجلال الدين أكبر في الهند؛ فقد حدث أيضا أن قدم الملك في صورة الولي أو في صورة الإنسان الكامل في السلطنات الموجودة في جنوب شرق آسيا؛ مما أسفر عن ملوك صناع معجزات في جزيرتي جاوة وسومطرة اللتين تشتهران بالتوابل. وتظهر المصادر الملايوية المبكرة مثل «حكايات ملوك باساي» كيف أنه حتى في السلطنات الإسلامية المبكرة التي تأسست في المنطقة، كان يصور السلاطين على أنهم يتشاركون في القدرة على صنع المعجزات مع الصوفيين.
74
ومثلما استضافت الهند نفسها الصوفيين الرحالين القادمين من المراكز المرموقة القديمة في آسيا الوسطى وإيران، فإن الممالك الصغيرة في أرخبيل الملايو الإندونيسي رحبت بدورها بالصوفيين الذين كانوا تجسيدا للمكانة المرموقة وقوة تلك الأماكن الروحانية البعيدة. وعلى الرغم من أن جنوب شرق آسيا لطالما وصف بأنه الطرف السلبي في هذه الشراكة؛ نظرا لاستقباله هذه الهجرات الصوفية، فإنه يلزم الانتباه إلى الأخبار التي تقول إن العلماء المسلمين من جنوب شرق آسيا كانوا يدرسون في شبه الجزيرة العربية منذ وقت مبكر يعود للقرن الرابع عشر، كما هو الحال مع أبي عبد الله بن مسعود الجاوي.
75
وفي قصائد المديح المتأخرة استخدمت «جاوة»، وطن ابن مسعود المفهوم على نحو غامض، الذي كان يعتبر بالغ الثراء بالنسبة إلى المدن البعيدة في شبه الجزيرة العربية، لربطه مجازيا بالتوابل والعطور الباهظة الثمن التي يشتهر بها جنوب شرق آسيا على نحو أساسي.
76
إن هذه الارتباطات الخيالية ليست مبالغة تبجيلية فحسب، بل إنها تشير إلى الاعتماد المتبادل بين الدين والتجارة، الذي أفسح مجالا أمام «الواردات» الصوفية في أوائل العصر الحديث. وعلى الرغم من أن هذه العملية يمكن لمحها فقط في الأعمال السردية التي تتحدث عن المعجزات المحفوظة في السجلات الملكية، فإن تحول الحكام الملايويين في الدول التجارية الحديثة، التي ظهرت في جنوب شرق آسيا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، إلى الإسلام؛ عزي كثيرا إلى بركة وتعاليم هؤلاء الصوفيين الرحالين، الذين أبحروا إلى المنطقة من مراكز قديمة مثل بغداد، على الرغم من أن الأبحاث الأحدث تظهر أن الهند كانت المصدر المرجح أكثر لهؤلاء الأولياء.
77
والروايات التي تسرد قصص التحول إلى الإسلام المحفوظة في السجلات الملايوية تتسم عادة بالإثارة البالغة؛ حيث تروي ختان الملوك بطريقة إعجازية أثناء نومهم، أو إنقاذهم أثناء سكرهم من الشياطين التي تتبول في كئوسهم. وتظهر أدلة انتشار الإسلام في أعماق جنوب شرق آسيا وجود تطورات مشابهة؛ حيث ارتبط تحول جاوة إلى الإسلام بقصص «الأولياء التسعة» المشهورين وأضرحتهم. وبالمثل، فإن أقدم الأدلة الأدبية المهمة على الإسلام الجاوي، مثل كتيب «بريمبون» الجاوي الذي يعود إلى القرن السادس عشر، يوثق انتشار إسلام صوفي النوع في جوهره في جاوة.
78
ومن جنوب شرق آسيا في القرن السادس عشر، توجد أدلة من كتابات الصوفيين أنفسهم، الذين كانت أعمالهم شاهدة على إدراكهم الشديد التعقيد للتفاصيل الدقيقة الماورائية في حدود المحيط الهندي هذه. وعكس هذا التعقيد ظهور طبقة من العلماء الصوفيين المتنقلين في المنطقة؛
79
ففي حالة حمزة الفنصوري (المتوفى عام 1527 أو 1590)، نجد صوفيا ولد في جنوب شرق آسيا يسافر إلى مكة وبغداد وحتى فلسطين، قبل أن يعود إلى التدريس في وطنه؛ مما يشير مرة أخرى إلى نموذج التداول الثنائي الجانب، أكثر مما يشير إلى مجرد الانتقال من المركز إلى الحدود،
80
فترجح إعادة تقييم حديثة للأدلة المتعلقة بالحياة المهنية لحمزة الفنصوري أنه كان عضوا في الطريقة القادرية التي تأسست في بغداد، وكان يستقطب المريدين في بلاط ملوك باساي في سومطرة؛ حيث إن حاكمها في حوالي عام 1270 اعتنق الإسلام.
81
وقد عكس وجود الفنصوري الكونية التي تسببت فيها معدلات التجارة في المنطقة؛ فعندما زار الرحالة الشمال أفريقي ابن بطوطة (المتوفى عام 1368) مملكة باساي، تحدث عن أنه وجد عالمين إيرانيين خبيرين في الفقه الإسلامي يعملان في خدمة السلطان.
82
وفي عصر الفنصوري؛ أي بعد قرن من هذه الزيارة، كانت باساي قد أصبحت ملتقى دينيا وتجاريا نقل منه الفنصوري ومريدوه التقليد الصوفي إلى مناطق جغرافية جديدة. ومن خلال استخدامهم اللغة الملايوية لغة للكتابة، وصلت تعاليم الصوفي الأندلسي الكبير ابن عربي (المتوفى عام 1240) إلى جماهير لم يكن ليحلم بها مطلقا؛ مما أدى إلى توسيع نطاق عملية إضفاء الطابع المحلي على التعاليم الصوفية التي شهدناها في الفصل الثاني إلى آفاق جديدة. وتعد كتابات الفنصوري الشعرية والعقائدية الغزيرة المكتوبة باللغة الملايوية أهم الأمثلة المبكرة في هذا الشأن.
83
وفي الوقت الذي بحث فيه الفنصوري عن مرادفات ملايوية للمصطلحات الصوفية أثناء عملية إضفاء الطابع المحلي على التعاليم الصوفية، اقترض المصطلحات الأساسية العربية الأصلية التي استخدمها الصوفيون الأوائل في بغداد ليستخدمها في الصوفية الملايوية؛ مما ساعد في الحفاظ على صلة هذه الصوفية الجديدة بالتقليد الصوفي القديم.
84
وفي وقت متأخر نسبيا، اقترضت أيضا كلمات أساسية مثل «ولي» إلى اللغة الجاوية نقلا من المصطلحات الصوفية العربية.
وعلى غرار الصورة الأكبر للتفاعل بين الدول والصوفيين في أوائل العصر الحديثة، فقد حدث تكييف للتقليد الصوفي وفقا للسياق الثقافي الملايوي الجديد هذا، في إطار أجندات أيديولوجية أوسع نطاقا. ونظرا لأن الصوفيين من أمثال الفنصوري كانوا مدعومين من مناصريهم من الحكام، فإنه ليس من المفاجئ أن الصوفية التي دعمها هؤلاء المناصرين كانت تعزز سلطتهم ولا تقلل منها. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يجب القول إن ظروف الفنصوري وكذلك زمن حياته المهنية يبقيان محل خلاف؛ ومن ثم، يمكننا الحديث بمزيد من الوضوح عن التفاعل بين الصوفيين والدولة في جنوب شرق آسيا في القرن السابع عشر فقط، كما سنرى فيما يلي. (7) آسيا الوسطى: مجتمعات الأضرحة
إذا كانت الصورة في جنوب شرق آسيا ضبابية أثناء القرن السادس عشر، فإننا نمتلك توثيقا أكثر كمالا للعلاقة بين الطرق الصوفية والدولة في آسيا الوسطى. كما رأينا في الفصل الثاني، في منطقة كانت الهياكل التنظيمية للسلالات القبلية الحاكمة فيها ترتبط مع المجتمع الأوسع نطاقا بروابط ضعيفة نسبيا؛ فقد شهد القرن الخامس عشر ظهور قائد ينتمي لأحد فروع الطريقة النقشبندية، أصبح أكبر مالك للأراضي في آسيا الوسطى، وأيضا حاكما لدولة موازية استمرت بعد زوال حكام الدولة التيمورية والدولة الشيبانية، وفاقت حدودهما في المنطقة. وتمثل الطريقة النقشبندية حالة مهمة؛ لأنها تظهر كيف يمكن أن تصبح الطريقة نفسها مختلفة للغاية في الأماكن المتعددة الموجودة بها؛ مما يشير إلى التفاعل بين التقليد والمشاركين فيه وبيئته. وإذا ظلت النقشبندية في الأراضي العثمانية شبه منظمة طوال فترة أوائل العصر الحديث، فإنه لم يكن من الممكن أن يصبح حالها أكثر اختلافا في المدن الواحية في آسيا الوسطى؛ فبعد تكوينها هيكلا تنظيميا مركزيا تحت قيادة عبيد الله أحرار (المتوفى عام 1490)، أسست (أو بالأحرى أسس أتباع عبيد الله أحرار) فعليا دولة خاصة بها، وانتهجت نظام «الحماية» الذي تلقى من خلاله أعضاؤها البركات الروحانية، وكذلك مساعدة ملموسة متمثلة في العمل في الأراضي الزراعية الشاسعة التي يمتلكها أحرار.
85
وروج السلاطين التيموريون (لا سيما حسين بايقرا الذي حكم من عام 1469 إلى عام 1506) لتلك السياسة القائمة على التوسع الزراعي، من خلال استخدام الوقف لمنح الأراضي الزراعية غير المستغلة على نحو كاف لأسر الأولياء، وعندما انهارت الدولة التيمورية نفسها، تمسكت أسر الأولياء بمواردها الزراعية الثرية.
86
وعلى مدار القرنين الخامس عشر والسادس عشر، منحت الطريقة النقشبندية أعضاءها الكثر الموجودين بين الفلاحين والحضريين المستقرين الخدمات التي تقدمها الدول لرعاياها مثل الحماية من غارات الغزاة البدو، أو امتيازات مثل الإعفاء من الضرائب.
87
ونظرا لامتلاك شيوخ الطريقة ونوابهم قدرات روحانية ومادية، فقد احتفي بهم في الحكايات التي صورتهم وهم يعاقبون على نحو خارق للطبيعة أعداء الأتباع الموجودين تحت «حمايتهم».
88
وبعد أن ظهرت تلك الطريقة في القرن الثاني عشر كطريقة هادئة وفقيرة وشبه منظمة، أصبحت في القرن السادس عشر تنظيما فاحش الثراء، وشديد المركزية، تربطه صلات قوية بكل أسرة حاكمة صادفته. وتوثق الخطابات الباقية التي كتبها عبيد الله أحرار وأعضاء تنظيمه البيروقراطية البالغة الكفاءة التي ضاهت - بل فاقت أيضا في بعض الحالات - سلطة حكام المنطقة الرسميين.
89
وتظهر الخطابات الكثيرة الباقية، العملية الطابع على نحو مذهل، أن الطريقة كانت آلية لحل نزاعات الملكية والنزاعات القانونية؛ إذ كانت تقدم «تصاريح سفر» للمسافرين، وتقدم هبات نقدية للفلاحين وتخفيضات ضريبية للتجار.
على الرغم من أن عبيد الله أحرار وورثته النقشبنديين كانوا أنجح من انتهج نظام «مجتمعات الأضرحة» هذا، فإنهم بالتأكيد لم يكونوا الوحيدين؛ فقد شهدت فترة أوائل العصر الحديث انتشار هذا النظام في كل أنحاء أراضي سهوب آسيا الوسطى الشاسعة، وكان لطول بقاء المؤسسة الصوفية أثره في تمكين الصوفيين من إدارة نظام بيئي زراعي ضعيف بفاعلية أكبر بكثير، مقارنة بسلالات السلاطين القصيرة الأجل.
90
وفي أقصى الشرق على طول طريق الحرير، كانت ذرية عبيد الله النقشبندية أكثر نجاحا في مساعيها لتأسيس الدول؛ فقد وسع أحمد الكاساني (المتوفى عام 1543)، أحد أبناء عبيد الله نفسه، نطاق الطريقة، فامتدت إلى قشغر في الصين الغربية في الوقت الحاضر، وإلى التبت في نهاية المطاف، محاولا تكرار النجاح الذي حققته الطريقة في السابق عندما قدمت للقبائل التركية في السهوب الضوابط الأخلاقية الشرعية. وفي عام 1531، وفي إطار ما بدا أنه مزاوجة مناسبة بين التوسع التبشيري للطريقة ومزايا طرق التجارة الثرية التي عبرت جبال الهيمالايا ، أعلن أحد مريدي الكاساني المنتمي للسلالة الشيبانية الجهاد ضد التبت .
91
ولاحقا في هذا الفصل سوف نتناول تأسيس أحد أحفاد الكاساني دولة نقشبندية جديدة، فيما أصبح الآن الصين الغربية. (8) شمال أفريقيا: المملكة المرينية والمملكة السعدية
في عهد السلالة المرينية (1215-1465) والسلالة السعدية (1509-1659) اللتين حكمتا المغرب، شهدت منطقة شمال أفريقيا شغل الصوفيين مكانة مرموقة أيضا. وعلى الرغم من أن الصوفية واجهت في السابق الكثير من المنتقدين في شمال أفريقيا، فقد شهدت فترة المملكة المرينية مكاسب مستمرة صبت في جانب مكانة صوفيي المنطقة. ومن ناحية، تحقق هذا الأمر من خلال ارتباط الصوفيين بالعلماء الذين تلقوا تعليمهم في مدرسة القرويين التي مولها المرينيون في عاصمتهم فاس كي تمد حكومتهم بالإداريين.
92
بالرغم من ذلك، لم يكن الصوفيون أداة طيعة في يد الدولة، وأدى عجز الدولة المرينية عن الدفاع عن أراضيها ضد الإمبراطوريتين الإسبانية والبرتغالية الناشئتين؛ إلى ظهور جبهة داعمة للحرب يقودها الصوفيون الرافضون للأسرة الحاكمة، الذين دعوا أتباعهم للجهاد ضد المسيحيين؛ على سبيل المثال: عندما غزا البرتغاليون طنجة، ساعد محمد بن سليمان الجزولي أحد أتباع الطريقة الشاذلية (المتوفى عام 1465) في الدفاع عن الأراضي الإسلامية، حاشدا اثني عشر ألف صوفي وقبلي تحت قيادته.
93
وأدت الانتفاضة إلى الإطاحة بالسلالة المرينية على يد الجبهة الداعمة للحرب، التي كانت تتكون من السلالة الوطاسية المنحدرة من نسل النبي محمد وحلفائهم الصوفيين أتباع الطريقة القادرية. ولم يكن كل الصوفيين سعداء بتولي الوطاسيين الحكم، لا سيما أولئك الذين كانوا يشغلون مناصب في الإدارة المرينية، مما أدى إلى مغادرة الصوفيين من غير أتباع الطريقة القادرية مدينة فاس، مثلما تركها أحمد الزروق (المتوفى عام 1493) وقضى مدة طويلة في القاهرة.
94
لعب نموذج السلطة السياسية للجزولي، المعتمد على الاتحاد ما بين الأولياء الصوفيين والسلاطين الذين كانوا من «الأشراف» (أي من نسل النبي محمد)؛ دورا أساسيا في إضفاء الشرعية على السلالة السعدية (1509-1659) التي حلت محل الدولة الوطاسية.
95
وعلى غرار الدولة العثمانية والدولة الصفوية في الوقت نفسه، تمكنت الدولة السعدية من السيطرة على سكان الحدود القبليين الواقعين تحت إمرتها لدرجة غير مسبوقة؛ فقد كان رجال مثل الجزولي مساعدين مهمين في تكوين ما سيصبح في نهاية المطاف الدولة القومية المغربية، من خلال الحصول على ولاء القبليين ورفع مكانة مواقع الزيارة الصوفية في الأراضي السعدية (مقارنة بتلك الموجودة في مصر وشبه الجزيرة العربية). وبحلول القرن السادس عشر، أصبح صوفيو شمال أفريقيا يمتلكون قدرا بالغا من الوعي الذاتي بنفوذهم السياسي كورثة للنبي محمد، لدرجة أنهم كانوا يشيرون إلى أنفسهم علنا بلقب «أقطاب الدولة»، وهو مصطلح يدمج بين المصطلحات الصوفية والمصطلحات السياسية.
96
وكون الجزولي وخلفاؤه فكرة أن الصوفي هو «البديل» الذي يمتلك السلطة شرعيا في غياب النبي محمد؛ ومن ثم حصلوا لأنفسهم على مكانة مهمة، ليس فقط في البلاط الملكي، لكن أيضا في المجتمعات الريفية في شمال أفريقيا.
وعلى غرار السلالة الصفوية في إيران في الفترة نفسها؛ فقد استعملت السلالة السعدية عند صعودها إلى السلطة التوقعات الألفية الخاصة بالفترة، واعتمدت على الموضوعات الأخروية الموجودة في كتابات الجزولي بصفة خاصة. وكما هو الحال في المناطق الأخرى؛ فقد شهدت العقود القريبة من بداية الألفية الإسلامية في عام 1591 هموما ألفية في المغرب، سعى كل من الصوفيين والسلاطين إلى توجيهها لخدمة مزاعمهم بأنهم المخلصون الذين سيؤدون إلى سعادة العالم.
97
وصيغت شرعية السعديين الأوائل في هذا الإطار تحديدا؛ فقد اعتمد اسم الدولة السعدية (أي الدولة المخلصة) على فكرة «السعادة» (أي النعمة والخلاص) في تعاليم الجزولي، وتضمن الوعد الألفي المتمثل في تكوين مجتمع إسلامي مثالي يقوم على طرد البرتغاليين الكفار، والحكم المشترك للسلالة المنحدرة من نسل النبي محمد والأقطاب الأولياء أتباع الجزولي.
98
ومنذ وقت مبكر في عهد السعديين، تجلت الأهمية التي أولوها للصوفيين في التبجيل الذي أولاه مؤسس الدولة السعدية محمد القائم بأمر الله (الذي حكم من عام 1509 إلى عام 1517) للجزولي نفسه؛ الذي بلغ به الأمر أن طلب أن يدفن بجواره؛ وأدى هذا إلى قيام أحمد الأعرج (الذي حكم من عام 1517 إلى عام 1544) خليفة القائم بأمر الله باستخراج جسد الجزولي بعد وفاته وإعادة دفنه في ضريح شيد خصوصا في مراكش عاصمة السعديين، جنبا إلى جنب مع مؤسس الدولة السعدية ، في رمز واضح لاتحادهما.
وتضمن صعود السعديين إلى السلطة أيضا الصراع من أجل السيطرة على الحدود الجنوبية شبه الإسلامية التي يسكنها قبائل البربر وتمر بها طرق القوافل المزدهرة. وهنا أيضا لعبت المساكن الصوفية الريفية دورا مهما في زعم انتماء المنطقة للإسلام؛ ومن ثم أحقية السعديين في حكمها بصفتهم من سلالة النبي محمد.
99
وعلى غرار الأراضي الزراعية الغنية في آسيا الوسطى، فإن هذه المزاعم شجعت محاولات إضفاء المركزية على فرع الجزولي من الطريقة الشاذلية، فطالب عبد الله الغزواني (المتوفى عام 1529) خليفة الجزولي بعقد اجتماعات في الجنوب القبلي لتوحيد قادة المساكن الجزولية المختلفة وراء الأسرة السعدية.
100
ولم يقتصر دور المراكز التعليمية الكثيرة، التي أسسها أتباع الجزولي في الريف والمدن على حد سواء، على نشر القراءة والكتابة من خلال الأهمية التي أولتها لدراسة القرآن والفقه، بل منحت أيضا أتباع الجزولي المؤهلات التي مكنتهم من الالتحاق بالبيروقراطية السعدية على نحو مناظر لمكانة الصوفيين المتعلمين في البيروقراطية العثمانية.
101
على الرغم من ذلك، وكما شهدنا في بيئات أخرى في الفترة نفسها، فإن المشاركة في البلاط الملكي لها مخاطرها؛ فعلى نحو مشابه لمصير الصوفيين الصفويين وأتباعهم القزلباش في إيران، رأى الحكام السعديون عام 1550 تقريبا أن مزاعم السلطة التي يزعمها الجزوليون تمثل تهديدات أكثر مما تحمله من فوائد؛ ومن ثم تحركوا لاضطهاد شركائهم الصوفيين السابقين.
على الرغم من ذلك، فإن سلطة الصوفيين العاملين في الدولة الآخذة في التوسع هذه، تحققت ليس فقط في البيئات الحضرية في «بلاد المخزن» المغربية (أي المناطق الخاضعة للدولة)، بل تحققت أيضا من خلال تأسيس مساكن صوفية ريفية بين قبائل البربر في «بلاد السيبة» الحدودية (أي المناطق التي لم تكن للدولة سيطرة كبيرة عليها). وكما هو الحال مع المناطق الأخرى التي تناولناها، فقد ازداد نفوذ الصوفيين الريفيين من خلال الممتلكات الزراعية التي سيطر عليها الصوفيون. ووسط ترك الأراضي الزراعية والمجاعات اللاحقة التي صاحبت حروب القرنين الخامس عشر والسادس عشر، قدم ملاك الأراضي الصوفيون هؤلاء العمل والمساعدة المادية للفلاحين والقبليين المهجرين. وفي هذه الأثناء، أعادوا زراعة الأراضي المتروكة، التي لم تكن مزروعة في السابق، وكانت هذه التطورات مشابهة لدور النقشبنديين في المناطق القبلية والزراعية المضطربة في آسيا الوسطى في الوقت نفسه، التي جعلت الصوفيين قادة لما بلغ منزلة الإقطاعيات الحدودية الصوفية الزراعية.
102
وستشهد أيضا سياسية التنمية هذه التي حدثت في أوائل العصر الحديث شراء عبيد أفارقة للعمل في الأراضي؛ مما أسفر عن تكوين اقتصاد ديني طويل الأمد، قائم على الأولياء العرب والعبيد الأفارقة، استمر حتى الأوقات المعاصرة.
103 (9) أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى: إمبراطورية سونجاي وسلطنة الفونج
شهد القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر أيضا دخول الصوفية إلى الدول الإسلامية الحديثة الناشئة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وعلى الأرجح كان ذلك هو الوضع في الدولة الإسلامية الأفريقية الأقدم في هذه الفترة؛ وهي إمبراطورية سونجاي (1464-1591)، الواقعة غرب أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ حيث استخدمت الرموز الإسلامية لتبجيل الإمبراطور الذي منح قدرات إعجازية.
104
وعلى الرغم من أن دور الصوفيين في هذه التطورات غير واضح بسبب عدم توفر مصادر مبكرة عن إمبراطورية سونجاي، فإننا نعرف أن كثيرا من صوفيي شمال أفريقيا استقروا في مركز العلم والتجارة الرئيسي المتمثل في تمبكتو أثناء عصر إمبراطورية سونجاي. وسواء في الطرف الغربي أو الطرف الشرقي لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فقد كان اتجاه انتشار الصوفية من الشمال إلى الجنوب، خاصة بطول طرق التجارة والهجرة الرعوية التي وصلت شمالا من خلال الصحراء الكبرى إلى المغرب ومصر؛ ونتيجة لذلك، فقد كانت الطرق الصوفية ذات الوجود الكبير في شمال أفريقيا، مثل الشاذلية والقادرية، هي نفسها التي نقلت جنوبا.
105
على سبيل المثال: قدمت الطريقة الشاذلية إلى السودان النيلي على يد حمد أبو دنانة (الذي ازدهر نشاطه عام 1450)، التابع للجزولي الصوفي الشمال أفريقي.
106
إننا في هذا الصدد نتحدث فعليا عن مسافرين من التجار أو العلماء على حد سواء، جلبوا من الشمال مرة أخرى الانتساب إلى الطرق الصوفية وأفكارها. ومن هذا المنطلق، فقد كان وجود الصوفية الشاذلية والقادرية المبكر ممثلا في أفراد مهاجرين منتسبين لها وليس طرقا منظمة؛ ومن ثم، فما نشهده يتكون في أفريقيا هو «طرق» عائلية؛ أي عائلات مقدسة ذات نفوذ محلي، مرتبطة من حيث النسب بالطرق الأوسع نطاقا، المنتشرة في العديد من المناطق؛ مثل طريقة القادرية التي اكتسبت منها تلك العائلات المكانة في بيئاتها المحلية، مع استقلالها عنها من الناحية التنظيمية.
107
وكما هو الحال عند أسلمة المناطق الأخرى في العالم في أوائل العصر الحديث؛ فقد لعب دورا مهما في هذه العملية الصوفيون المهاجرون المنتمون إلى السلاسل الصوفية المرموقة، التي تربطهم بطرق منطقة البحر المتوسط الإسلامية، لا سيما طرق المغرب ومصر. ويصف أحد المؤرخين الأمر قائلا:
كانت السمة المميزة للوجود الإسلامي في دولة الفونج ودولة دارفور (في السودان في أوائل العصر الحديث) هي السلالة المقدسة التي كانت تعود عادة إلى مهاجر تزوج من المحليين. احتكرت هذه السلالة التعليم والطب والسحر في منطقتها المحلية، وعززت قوتها باستمرار بالحصول على «الجاه»؛ تلك المكانة التي تجعلها معفاة من الضرائب، أو بالحصول على «حاكورة» أو «إقطاع» (أي أراض خاصة الملكية) من الحكام.
108
وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، كما هو الحال في غيرها من المناطق في الفترة نفسها، تفاوض الملوك والصوفيون، وعقدوا تحالفات عملية. كانت الصوفية في تلك المنطقة تمتاز أيضا بالتركيز الشديد على التعليم المكتوب، وهذا يمثل من ناحية انعكاسا للصوفية الفقهية التي شهدنا ازدهارها في شمال أفريقيا في هذه الفترة، ومن ناحية أخرى انعكاسا لندرة معرفة القراءة والكتابة في السياق الأفريقي في هذه الفترة، وفي كثير من المناطق، كان يطلق على الصوفيين «فقهاء»، في إشارة إلى المجال المرموق الذي تخصصوا فيه أيضا.
شكل 3-4: واحات الأولياء: مستوطنة ضريح زراعية، شمال غرب الصحراء الكبرى (تصوير: نايل جرين).
على الرغم من وصول بعض الحكايات إلينا، التي ترى أن الصوفيين تنقلوا عبر منطقة السودان خلال هذه الفترة، فإن صورة الأنشطة الصوفية لم تصبح أكثر وضوحا إلا بظهور سلطنة الفونج (1504-1821)؛ فقد ظهر الإسلام لأول مرة في السودان النيلي من خلال تدفق الرعاة العرب أثناء القرنين الثالث عشر والرابع عشر؛ مما أدى إلى انهيار مملكتي مقرة وعلوة المسيحيتين. وأثناء فترة حكم الفونج، كان العلماء من مدارس مصر وشمال أفريقيا وشمال السودان منتسبين على نحو كبير إلى الطرق الصوفية، وقدمت الطبقة الحاكمة في سلطنة الفونج فرص رعاية ثرية للعلماء الراغبين في الارتحال جنوبا عبر الصحراء. وفي السودان، عمل هؤلاء الصوفيون المسلحون ب «بركة» أنسابهم المقدسة وإجادتهم للكتابة كشخصيات وسيطة جعلتهم مكانتهم المرموقة أعمدة النظام الاجتماعي في دولة كان نفوذها على سكانها ضعيفا.
109
وكان حكام الفونج يمنحون رعايتهم عادة في صورة أرض شاسعة غير مستغلة، وهكذا، على غرار محاولات الحكام التي رأيناها لاستيطان المناطق الحدودية، منح الصوفيون في السودان الأراضي، وأسسوا قرى زراعية عرفت باسم «الخلوات»؛ ومن هناك، ومن خلال توظيف المحليين والزواج منهم، تسببوا في تحولهم تدريجيا إلى الإسلام، الذي كان لا ينفصل عن الصوفيين الذين نقلوه لهم.
110
وكما هو الحال في المناطق الأخرى، فقد صاحب نمط التأقلم التدريجي مع أساليب الحياة الإسلامية من جانب الأفارقة عملية تكيف إسلامي موازية مع أساليب الحياة الأفريقية.
111
ومن خلال قدرات الصوفيين الإعجازية، ومهارتهم في كتابة الأحجبة العربية، وتحول قبورهم بعد وفاتهم إلى أضرحة مقدسة، كانوا محوريين في تنفيذ نسق الأسلمة الثنائي الجانب هذا. (10) حملة تصحيح: الفقهاء والمجددون، من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر تقريبا
سواء من حيث الأشخاص أو المؤسسات أو الأفكار، رأينا في هذا الفصل حتى الآن كيف أن الصوفية بلغت قدرا من التأثير جعلها مندمجة في أساليب الحكم التي تنتهجها الدولة، أو جعلها حتى تحل محل الدولة تماما. لقد تغلغلت الأفكار والمؤسسات الصوفية في كل مستويات المجتمع في أوائل العصر الحديث في معظم أنحاء العالم الإسلامي، لدرجة أنه أصبح من الصعب في الغالب التمييز بين الصوفي وغير الصوفي. مارس المسلمون العاديون الصوفية، سواء عن طريق تبجيل الأضرحة أو غناء أغنية صوفية رائجة، أو الانتساب لطريقة صوفية انتسابا رسميا على يد شيخ حي، وأصبحت الصوفية إلى حد كبير لا يمكن تفريقها عن الإسلام في العموم. وبحلول القرن السابع عشر أصبح التقليد المدعوم من الصوفيين - ذلك التقليد الذي يزعمون أنه منقول عن النبي محمد من خلال الصوفيين الأوائل أمثال الجنيد ومؤسسي الطرق حتى وقتهم - متنوعا على نحو كاف، لدرجة أنه أصبح ثمة مجموعة متنوعة محيرة من الممارسات والمعتقدات والمنظمات الصوفية. كان الصوفيون على اختلافهم يفعلون أمورا مختلفة على نحو مدهش للغاية في أغلب الأحيان، وأثار نطاق المعتقدات والممارسات هذا التساؤل حول إمكانية أن تكون كل هذه الممارسات والمعتقدات التقليد الحقيقي الذي تركه النبي. وفي القرن السابع عشر، درس الفقهاء الصوفيون في كل أرجاء العالم الإسلامي، وكان أول الأسئلة الأساسية في هذه الدراسة هو: أي طريقة تربط المسلمين على أفضل وجه بالسنة المحمدية؟ ونظرا لأنه كان واضحا أن كثيرا من الصوفيين كانوا يقومون بأمور لم يفعلها النبي قط، فكان السؤال الثاني هو: أي ممارسات الصوفيين التي تعد «بدعا حسنة» مقبولة، حتى إن لم تكن جزءا من السنة النبوية، وأيها يعد «بدعا سيئة» يجب قمعها؟ كانت فكرة «البدعة» هذه أداة النقد الأساسية التي استخدمها الصوفيون وغير الصوفيين في نقد من يرون أنه منحرف عن سنة النبي وتقليد الصوفيين الأوائل الذين تبعوه.
توجد أسباب كثيرة لحدوث «حملة تصحيح» القرن السابع عشر في ذلك الوقت، فكما رأينا في تمهيد هذا الفصل، فإنه على الرغم من أن توقيت هذه الحملة يمكن إرجاعه جزئيا إلى بداية الألفية الإسلامية عام 1591 (أي عام 1000 في التقويم الإسلامي)، فإن الزمن الثقافي للتقويم الإسلامي لم يكن العامل الوحيد، بل يجب الأخذ في الاعتبار أيضا الزمن العملياتي الذي يستخدمه المؤرخون. وكما رأينا في السابق، فقد تزامن القرن الأخير في الألفية الإسلامية الأولى، والقرن الأول في الألفية الإسلامية الثانية، مع الزمن العملياتي الذي حدثت فيه مجموعة تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية، جعلت المؤرخين يشيرون إلى هذه الفترة بأنها تنتمي لأوائل العصر الحديث. والآثار الكبيرة لهذا التزامن بين الزمن الثقافي والزمن العملياتي هي ما تجعلنا نقول إن هذه الفترة تميزت بحملة تصحيح أثرت على جماعات كثيرة، وليس على الصوفيين وحدهم.
إلا أن مرور الوقت أثر على الصوفيين أيضا من نواح أكثر تحديدا، خاصة من خلال التوتر بين حملة التصحيح الأكثر عمومية هذه، وبين نتاج مرور الوقت المتمثل في تكوين فيض من الأفكار والممارسات والمؤسسات، التي تزعم جميعها أنها تمثل التقليد الصوفي الحقيقي. وقد وصفنا في السابق هذا التطور بأنه عملية تنويع. وأثناء حملة التصحيح في هذه الفترة، وصفت أشكال كثيرة من هذ التقليد الصوفي المتنوع بأنها «بدع» منحرفة عن السنة النبوية، وكان ذلك جزءا من نقد تدريجي وتراكمي، بدافع الرغبة في التصحيح، ظهر في القرن السابع عشر، وازدهر بوضوح بالغ في القرن الثامن عشر، عندما أدت الضغوط المتزايدة في أوائل العصر الحديث إلى انهيار كثير من الدول الإسلامية؛ ومن ثم، فإن أحد الأسباب التي جعلت العلماء الصوفيين وغير الصوفيين ينتقدون كثيرا من الممارسات التي كانت موجودة في القرن السابع عشر، هو أنه في هذه الفترة كان يوجد ببساطة أشكال من الممارسات الصوفية أكثر تنوعا بكثير من تلك التي تطورت في القرون السابقة؛ وذلك عن طريق عمليات إضفاء الطابع المحلي على الصوفية، التي تناولناها في الفصل الثاني. وأيا كانت الأبعاد الدينية لحملة التصحيح، فإنه يمكن اعتبارها من الناحية التاريخية نتيجة ل «النجاح» الهائل لعملية الأسلمة، وليست نتيجة لفشلها، كما زعم العديد من علماء الدين المنتقدين للصوفيين في اتهاماتهم؛ فالكثير من الطقوس التي انتقدت باعتبارها ذات أصول «وثنية» تعود لفترة ما قبل الإسلام، كانت نسخا محلية من الإسلام، أو ممارسات إسلامية قديمة أصبحت محل جدل في أوائل العصر الحديث؛ ومن ثم، يمكن جزئيا توصيف ممارسة انتقاد «البدع» على أنها رد فعل ديني تجاه عملية إضفاء الطابع المحلي التاريخية التراكمية، ذاك الذي اكتسب زخما من حملة التصحيح الأكثر عمومية، التي أثرت على نطاق عريض من المسلمين أثناء التغيرات العنيفة التي حدثت في تلك الفترة.
إن انتشار انتقاد «البدع» منذ القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر يمكن أن يكون مرتبطا بدوره بزيادة «الوعي» بهذا التنوع في الممارسات. وقد حدث هذا الوعي المتزايد بالتنويع المزعج للتقليد مع سفر أعداد متزايدة من العلماء المسلمين إلى مناطق إسلامية أخرى (لا سيما خارج الشرق الأوسط) كجزء من التفاعلات الأوسع نطاقا بين المناطق المختلفة التي ميزت تلك الفترة. كذلك من الممكن أن نربط بين انتشار انتقاد البدع والتفاعل المتزايد بين مناطق معينة، الذي ميز هذه الفترة أيضا. فمع انتقال أهل الريف إلى المدن الناشئة في إمبراطوريات تلك الفترة، جلبوا معهم إسلامهم المحلي المميز. ومع انتقال أهل الحضر المتعلمين في بعثات حكومية إلى المناطق الإقليمية أو الريفية، فإنهم صادفوا بدورهم أشكال الإسلام الصوفي المتنوعة الموجودة في الريف. وفي هذا الصدد أيضا، كانت التفاعلات الاجتماعية هي السبب في إثارة المشاكل الدينية؛ حيث استخدم العلماء المسلمون (سواء أكانوا صوفيين أم غير صوفيين) مفهوم «البدعة» أثناء محاولة فهم المشكلة المفاهيمية المتمثلة في عدم إمكانية أن تكون كل ممارسة إسلامية حافظوا عليها نابعة من تعاليم النبي محمد. ويمكن مقارنة العواقب الدينية لهذا الحراك المتزايد بين مسلمي الحضر ومسلمي الريف بظهور نظرية قامعة ل «ممارسة السحر» في أوروبا المسيحية في الفترة نفسها، كرد فعل على تفاعلات مشابهة بين أهل الريف وأهل الحضر. ومثلما كان ممكنا استخدام الاتهام بممارسة السحر والعلم به لإدانة ممارسات وأحوال متنوعة على نحو مدهش في عدد من الأماكن المختلفة، كان مفهوم «البدع» على نحو مماثل قابلا للنقل من حيث تطبيقه، وسلطويا من حيث تناسقه. وعلى الرغم من أن حملة التصحيح الجديدة هذه أدت من ثم إلى انتقاد البدع على نطاق جغرافي واسع، فإنها باستثناء حالات قليلة (أبرزها في إيران) لم تتضمن هجوما كاملا على قدرة الصوفية بشكلها هذا على نقل تراث النبي محمد، بل كانت في القرن الأول من الألفية الإسلامية الجديدة تدور حول تحديد سمات التقليد الصوفي المفيدة، وتلك الهادمة للحياة الإسلامية الصحيحة. وتطلب الأمر انتظار حركة الإصلاح الإسلامي الكبيرة، التي حدثت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حتى ترى أعداد كبيرة من المسلمين أن الصوفية بكل صورها عاجزة عن ربطهم بالنبي.
على الرغم من أن الباحثين الغربيين كانوا يعتبرون الصوفيين خصوما متصوفين لعلماء الإسلام - كما أوضح الفصلان الأول والثاني - فإنه في كثير من الحالات كان الصوفيون والعلماء الأشخاص أنفسهم، وحتى عندما لم يكونوا كذلك، فقد كانت توجد بينهم اهتمامات متشابهة متمثلة في الشريعة والقرآن والسنة. وعلى الرغم من ذلك، ظهر في القرن السابع عشر توجه جديد نحو الالتزام بالشريعة في كل إمبراطورية من إمبراطوريات أوائل العصر الحديث. إلا أنه بدلا من البحث عن التوترات الكامنة بين المعرفة التصوفية والمعرفة الشرعية المجردة، اللتين تمثلان السلطة الشرعية والسلطة التصوفية، فإنه من المفيد أكثر من الناحية التاريخية أن ندرك أن هذا التحول نحو الالتزام بالشريعة وحملة التصحيح المسببة له، ينطويان على جماعات معينة تتخذ رد فعل تجاه ظروف معينة. وعندما نرى المعرفة التصوفية والعلم الشرعي كنوعين من السلطة يمكن توحيدهما في شخص واحد، أو مناصرتهما على نحو منفصل من قبل أشخاص متنافسين، سيساعدنا هذا النهج المعتمد على السياق في التعامل مع تناقضات الصورة القديمة الثابتة المتمثلة في «التعارض بين المتصوفين والعلماء»؛ إذ ما ننظر إليه في الغالب هو صورة الصوفيين الذين يستخدمون الشريعة، إما لانتقاد بعضهم البعض، أو لانتقاد العوام (على الرغم من أننا سنرى أمثلة مهمة لعلماء ليست لديهم علاقة بالصوفيين يستخدمون الشريعة لانتقاد الصوفيين في العموم). في الصفحات المقبلة، سوف نلتفت إلى دراسات حالة لما وصل في القرن السابع عشر إلى منزلة المعارضة الواسعة النطاق للصوفية من قبل علماء الشريعة في كل أنحاء العالم الإسلامي تقريبا. وإذا كان كثير من هؤلاء العلماء هم أنفسهم صوفيون يسعون إلى التقليل من شأن إخوتهم الذين استخفوا بالشريعة، فإننا سنرى في حالات أخرى تزايد مكانة طبقة العلماء الذين لا يرتبطون بصلة بالصوفيين على الإطلاق. (11) منطقة البحر المتوسط: العثمانيون المتأخرون
دعونا نلتفت أولا مرة أخرى إلى الإمبراطورية العثمانية في استعراضنا هذا لحملة التصحيح التي حدثت في القرن السابع عشر، سنجد أنه على الرغم من اعتناء الإمبراطورية العثمانية بتدريب طبقة من علماء الشريعة، فقد شهدت الفترة تقريبا ما بين عام 1620 وعام 1685 استخدام جماعة من هؤلاء العلماء لمكانة علمهم في نشر بذور الشقاق في المجتمع الذي كانوا يعتبرونه فاسدا أخلاقيا ، بدلا من جعل علمهم مسخرا لتحقيق التناغم الاجتماعي، وانتقدت هذه الجماعة المعروفة باسم «حركة قاضي زاده» الصوفيين الذين كانوا جزءا لا يتجزأ من المجتمع العثماني. وعلى هذا النحو؛ فقد مثلت المجادلات التي دخلها هؤلاء مع الخصوم الصوفيين صراعا بين أطراف مختلفة داخل النظام العثماني.
112
إن المسألة أبعد بكثير من كونها مجرد مثال بسيط على الخلاف بين الصوفيين والعلماء؛ إذ احتفظ كثير من العلماء بعضويتهم في الطرق الصوفية، لا سيما تلك الأكثر التزاما بالشرعية؛ مثل الطريقة الخلوتية، والطريقة النقشبندية. ونظرا لأن حركة «قاضي زاده» جعلت العلماء ينقسمون على أنفسهم، فقد وصفت الخلافات التي أثارتها وصفا مناسبا هو: «انقسام قلب المؤسسة الدينية ... على نفسه.»
113
كان قاضي زاده محمد (المتوفى عام 1635)، مؤسس حركة قاضي زاده الذي سميت الحركة على اسمه، ابنا لقاض بسيط في إحدى المقاطعات جاء إلى إسطنبول بحثا عن وظيفة في البيروقراطية الدينية الإمبراطورية المعروفة باسم «العلمية»، وعلى الرغم من أن قاضي زاده محمد حاول الارتباط بالطريقة الخلوتية صاحبة العلاقات القوية، فإنه لاحقا حمل الصوفيين مسئولية إضلال سكان الدولة وإبعادهم عن السنة النبوية، وبعد أن تدرج في هرمية الوعظ الرسمية، وأصبح «واعظا» (وهي إحدى المراتب الدنيا في «العلمية»)، استخدم تأثيره كواعظ في أكبر مساجد إسطنبول لنشر رؤيته عن العصر المنحط أخلاقيا، الذي يحتاج إلى «تجديد الإيمان»، وكان نطاق انتقاده واسعا؛ إذ لم يقتصر على معتقد وحدة الوجود، بل امتد ليشمل الحفلات الموسيقية الصوفية، والطقوس الشائعة المتعلقة بتبجيل الأولياء الصوفيين، ومجموعة من الأنشطة المنحطة (مثل: تدخين التبغ، وشرب الخمر أو القهوة) التي اعتبر الصوفيين المنحلين أخلاقيا مسئولين عنها. وكما أشرنا بالفعل، فقد كانت فكرة «البدع» هي الأداة النقدية الأساسية التي استخدمها لتقديم تقليد الصوفيين باعتباره انحرافا عن الإيمان الحقيقي. ونظرا لأنه كان خطيبا مشعلا للحماسة، فقد أثار قدرا كافيا من الغضب الديني في نفوس مستمعيه، لدرجة أن الجماعة التي كان ملهمها أصبحت فعليا ميالة إلى الاقتصاص الأخلاقي؛ مما أدى إلى تخريب الممتلكات الصوفية، وضرب الصوفيين أنفسهم، وقتلهم في بعض الأحيان أثناء عشرينيات وثلاثينيات القرن السابع عشر (وبين الحين والآخر على مدار نصف القرن التالي). وبطبيعة الحال، رد الصوفيون ودافعوا عن الممارسات التي أدانتها تلك الجماعة، إلا أنه لا يمكن إخفاء حقيقة أنه بعد قرون من تزايد النفوذ الصوفي في كل من المجتمع والدولة، نشأت جماعة اجتماعية جديدة أو حتى حزب اجتماعي جديد، استخدم تهمة البدعة ونفوذ الشريعة ليمكن أعضاءه من معارضة سلطة الصوفيين، الذين كانوا في كثير من الحالات أعضاء مميزين في الطبقة الحاكمة العثمانية.
114
شكل 3-5: «دراويش المولوية»: طقوس موسيقية لورثة الرومي في الإمبراطورية العثمانية (الصورة من مجموعة الصور الخاصة بالمؤلف).
الأمر المثير في جماعة قاضي زاده هو الطريقة التي أظهرت بها الانقسامات داخل البيروقراطية الدينية في الإمبراطورية العثمانية، وكذلك الأساليب التي استخدمت بها أشكال معينة من الإسلام كوسائل لتحقيق مصالح جماعات معينة. فكما رأينا، كان كثير من كبار مسئولي الدولة والعلماء منتسبين لطرق صوفية. علاوة على ذلك، كانت النخبة الحاكمة ترى أن مهمة البيروقراطية الدينية ليست فرض الإسلام فرضا صارما، بل الحفاظ على النظام الاجتماعي من خلال التفسير العملي وليس الحرفي للشريعة الإسلامية. وقد كان يرى في البداية أن جماعة قاضي زاده لا تحافظ على الإطلاق على التناغم الاجتماعي، بل كانت تعكر صفوه، لكن مع مرور الوقت أدى ازدياد أتباعها إلى أن أصبح أعضاؤها لاعبين سياسيين مهمين، وحاول بعض كبار المسئولين استخدامهم لخدمة أهدافهم الخاصة. ولم يكن الصراع بين أتباع تلك الجماعة والصوفيين صراعا عقائديا فقط حول ما يمثل السنة المحمدية الحقيقية، بل كان أيضا صراعا على فرص التوظيف؛ فقد كان الصوفيون في العموم يعملون في كثير من الوظائف السهلة المريحة للغاية في النظام العثماني؛ فمثلا: على النقيض من أصحاب المراكز الأقل من الوعاظ والقضاة، الذين كانوا يحتفظون بوظائفهم عن طريق نظام يشبه العقد القصير الأجل الحديث، كان شيوخ المساكن الصوفية يعينون عادة في وظائف يستمرون فيها طوال حياتهم، وتظهر الإحصائيات أن فترة ازدهار جماعة قاضي زاده ما بين عام 1621 وعام 1685، كان يمنح فيها ما يقرب من نصف وظائف الوعاظ إلى أعضاء الطرق الصوفية المفضلة لدى كبار المسئولين الذين يقومون بالتعيينات.
115
وفي المستويات الدنيا من السلم الوظيفي، كان أتباع الجماعة يتقلدون المراتب الدنيا في وظائف الوعظ في البيروقراطية الدينية، وكان الصوفيون المميزون يحصلون على أفضل وظائف الوعظ؛ ومن ثم، فلا عجب من أن الصوفيين كانوا مكروهين ومنتقدين بسبب كونهم مترفين خارجين عن الدين الصحيح.
على الرغم من ذلك، كانت هناك مشكلات أخرى غير الوظائف الحكومية؛ فالتعاطف الذي وجدته جماعة قاضي زاده في الشوارع يشير إلى أنهم لم يكونوا مجرد طائفة ساخطة، وأنهم جزء من حملة التصحيح الأوسع نطاقا، المهتمة بالشاغلين المتلازمين المتمثلين في التدهور الأخلاقي والحاجة إلى التجديد؛ فقد كان كثيرون يعتبرون الصوفيين أساس المشكلة، بالإضافة إلى ذلك، فإن شعبية الحركة الماشيحانية بين يهود الإمبراطورية العثمانية، التي تركزت حول اليهودي شبتاي تسيفي (المتوفى عام 1676)، الذي زعم أنه الماشيح (المسيح المخلص) تشير إلى أن الرغبة في التجديد لم تكن مقتصرة على المسلمين، وأنها ربما نجمت عن توترات اجتماعية وسياسية أعمق أثرت على كل الجماعات في الإمبراطورية.
116
وحتى بعدما وهنت قوة جماعة قاضي زاده في ثمانينيات القرن السابع عشر، عاودت حملة التصحيح هذه الظهور في مناطق عديدة في الإمبراطورية العثمانية. وربما يكون هذا الانتشار مرتبطا بالمناطق الإسلامية الأخرى التي انتشرت فيها تلك الحملة، من خلال شبكات الكتب والمعلمين التي لم يتتبعها المؤرخون بعد؛ فعلى سبيل المثال: في عام 1711 أعلن أحد الوعاظ في القاهرة أن الأولياء الصوفيين غير قادرين على صنع المعجزات، وأنهم مفتقرون إلى أي معرفة خاصة محجوبة عن بقية المسلمين؛ ومن ثم، شجع مستمعيه على منع حلقات الذكر الصوفية، وتدمير أضرحة الأولياء الصوفيين، وتحويل المساكن الصوفية إلى مدارس؛
117
ونتيجة لذلك، تعرضت جماعة من الصوفيين العرب إلى الضرب، ودمر العديد من الأضرحة على يد مجموعة مكونة من ألف جندي تركي مسرح، كانوا من بين مستمعي الواعظ. وعلى غرار جماعة قاضي زاده، فإن ذلك الهجوم على الصوفية لا يمكن فصله عن مصالح من شنوه ، سواء أنظرنا للهجوم من منظور المطالبة بتحويل الممتلكات الصوفية إلى مدارس، أم من منظور الصراعات حول رواتب الجند التي أدت إلى وفاة أربعة آلاف شخص في القاهرة في العام نفسه الذي حدث فيه الهجوم.
118
على الرغم من ذلك، وكما في حالة عمر الفؤادي (المتوفى عام 1636) الصوفي الأناضولي المنتمي إلى الطريقة الخلوتية، فقد تمكن الصوفيون في الأراضي العثمانية من التغلب إلى حد كبير على هجمات جماعة قاضي زاده، ووجدوا مناصرين للطرق ومؤسسات الأضرحة الجديدة التي أسسوها في القرن السابع عشر.
119
إلا أنه على الرغم من أن انتقادات العلماء للبدع والتجاوزات الصوفية لم تكن مقتصرة على تلك الفترة، فإنها بداية من القرن السابع عشر وجدت لها صدى اجتماعيا أعمق؛ لأن جماعات معينة في المجتمع اختارت الارتباط بحركة نقد عقائدي، كانت لها عواقب ملموسة مرتبطة بتوزيع النفوذ والمنافسة والفرص، وإذا كنا رأينا في سلطنة مغول الهند كيف أن صوفية الترابط الاجتماعي استطاعت الجمع بين الهندوس والمسلمين، فإننا في هذا السياق العثماني نرى كيف أن بروز الأضرحة الثرية، ونفوذ الطرق ذات العلاقات القوية، كانا من مسببات التفسخ الاجتماعي؛ حيث أصبحا ملاذ الجماعات الساخطة والمحرومة.
في مصر في القرن الثامن عشر، كان الصوفيون العثمانيون أتباع الطريقة الخلوتية يروجون صوفية كانت تجربة «الحقيقة» المطلقة فيها متناغمة بدقة مع أحكام الشريعة،
120
وبدلا من حدوث انفصال بين الصوفيين والعلماء، كانت نتيجة ذلك أنه بحلول منتصف القرن الثامن عشر أصبحت الخلوتية الانتماء المفضل لدى علماء الجامع الأزهر، الذي يعد أهم جامعة دينية للعلماء السنيين في الشرق الأوسط.
121
ولم تكن حملة التصحيح مقتصرة على مدن مثل القاهرة وإسطنبول، بل وصلت إلى الحدود القبلية للحكم العثماني في منطقة نجد في شبه الجزيرة العربية. شهد أيضا النصف الثاني من ذلك القرن ظهور منتقد البدع الصوفية الأكثر تأثيرا على الإطلاق محمد بن عبد الوهاب (المتوفى عام 1787).
122
كان الاهتمام الرئيسي لابن عبد الوهاب هو مهاجمة كل أنواع البدع وأشكال الوثنية، التي أبعدت المسلمين عما رآه التعاليم الأصلية للنبي محمد، وهذا بدوره جعله يدين ممارسات مثل تبجيل الأضرحة، واعتبار الأولياء الصوفيين وسطاء بين الإنسان والله . وعلى الرغم من أن اتجاه «الوهابية» الأوسع نطاقا (والفضفاض كثيرا) سيصبح في نهاية المطاف هجوما على كل أنواع الفكر الصوفية، وكذلك كل أنواع الممارسات الصوفية، فإن نقد ابن عبد الوهاب نفسه كان أضيق نطاقا؛ فنظرا لأن الصوفية في أوائل العصر الحديث كانت جزءا لا يتجزأ في العديد من الجوانب من الإسلام نفسه، فلم يكن الرفض الفوري والكامل لكل ما يقوله ويفعله الصوفيون ممكنا، وابن عبد الوهاب على أي حال لم يستخدم مصطلح «الصوفيين» في انتقاداته.
123
وعلى الرغم من أن صعود آل سعود إلى سدة الحكم في شبه الجزيرة العربية سيؤدي فيما بعد إلى تطوير أفكار ابن عبد الوهاب إلى أجندة كاملة مناهضة للصوفية، فإن فترة ابن عبد الوهاب نفسها كانت جزءا من حملة التصحيح الأوسع نطاقا، المطالبة بالعودة إلى السنة النبوية ورفض البدع. وإذا كان ابن عبد الوهاب يعد الأكثر تطرفا في هذا الاتجاه (مما جلب له كثير من المنتقدين، والمؤيدين أيضا)، فإنه على الرغم من ذلك كان رجلا من عصر كان من الممكن فيه إصلاح الصوفية، وكان من الصعب رفضها بالكامل. (12) إيران: الصفويون المتأخرون
بينما شهد القرن السابع عشر في الإمبراطورية العثمانية تزايد وتضاؤل نفوذ العلماء المناهضين للصوفية، على حسب التحالفات التي عقدوها ضد الصوفيين الذين وصفوهم بالأعداء، فقد شهدت إيران تطورات مماثلة في الوقت نفسه. لقد رأينا بالفعل كيف أن السلالة الصفوية، بعدما وصلت إلى الحكم كحركة صوفية قبلية مدعومة بالقزلباش القبليين، وجدت نموذج الطريقة الصوفية مقيدا للغاية، لدرجة تحول دون تحقيق الترابط بين شعوب الإمبراطورية المتنوعين، وعلى مدار العقود اللاحقة، جلب الصفويون علماء شيعة من منطقة جبل عامل في لبنان، الذين نشروا نقدهم للصوفيين على نطاق واسع في المجتمع الإيراني من خلال جذب الطلبة، وكتابة كتب فقهية بلغة فارسية بسيطة.
124
وكان لدعم الدولة الرسمي لهذا النوع الفقهي من الشيعية تبعات متنوعة على الصوفيين، وعلى الرغم من أن المصطلحات الصوفية ظلت تتردد في الثقافة الشعبية والأدبية في إيران ، فقد تزايد تهميش الطرق الصوفية نفسها باعتبارها وسيلة للنفوذ الديني ؛
125
ففقدت الأضرحة التي كانت محورية للغاية في شعبية الصوفيين وثروتهم الرعاية وزيارة الأتباع لها، وحلت محلها تدريجيا الأضرحة المنافسة، ولا سيما الأضرحة الشيعية المعروفة باسم «إمام زاده» (أي ذرية الإمام)،
126
وتعرضت الطرق ذات الارتباطات السنية الشديدة (مثل: القادرية والنقشبندية) إما للقمع أو النفي على أطراف الإمبراطورية. وأما قادة الطرق الذين لم يمانعوا إعلان أنهم من الشيعة (مثل النعمتلاهيين)، فلقوا معاملة أفضل. إلا أنه في حالة الطريقة النعمتلاهية أيضا، كان مصير شيوخها إما التعيين كحكام إقليميين، وإما التقاعد في العزب الريفية، وعلى هذا النحو حدث تحجيم لهم كمصدر سلطة بديل للعلماء الشيعة.
127
على الرغم من أن الصوفيين الشيعة الجدد هؤلاء نجحوا في البقاء أثناء معظم القرن السادس عشر، وازدهروا في بعض الأحيان في إيران، فإنهم في عهد الشاه عباس الأول (الذي حكم من عام 1587 إلى عام 1629) تضاءل نفعهم السياسي شيئا فشيئا؛ ومن ثم بدأت دورة قمعهم. وعن طريق تكوين جيش من العبيد حرر الصفويون أنفسهم من الاعتماد العسكري على القزلباش القبليين المنتمين للصوفيين، في حين أدى استجلاب العلماء الشيعة من لبنان إلى منح السلالة الحاكمة السلطة التي لم تعد معتمدة على الأصول الصوفية لأسرتهم الصفوية. وفي حين استمرت الدولة العثمانية في النظر إلى الطرق الصوفية باعتبارها أدوات مفيدة في الحكم والتوسع، أصبحت التنظيمات نفسها غير ضرورية في إيران. وفي عام 1593 تفاقمت الأمور عندما تمرد أتباع الحركة النقطوية على الحكم الصفوي، تلك الحركة التي كونت تركيبة ألفية من عناصر التقليد الصوفي والميول التناسخية لدى سكان الحدود. وكان إخماد هذا التمرد وحشيا ومطولا، ولم يسفر فقط عن تدمير النقطويين، بل أسفر أيضا عن إعدام آخر بقايا الطريقة الصوفية القزلباشية الصفوية القديمة عام 1615. وعلى الرغم من أن الشاهات احتفظوا باللقب الصوفي «المرشد الكامل»، فمنذ ذلك الحين أصبحت سلطتهم كحكام شيعة في الأساس متحالفة مع العلماء الذين كانوا متحمسين للغاية لتشويه منافسيهم الصوفيين المهزومين.
128
قرابة مطلع القرن الثامن عشر، أدى تقلد كل من محمد باقر المجلسي (المتوفى عام 1699) الفقيه المناهض للصوفيين على نحو متعصب، وخليفته محمد حسين الخاتون آبادي (المتوفى عام 1739)، منصب كبير الفقهاء في الدولة؛ إلى طرد الصوفيين من العاصمة أصفهان.
129
ولما كانت حملات الطرد هذه قاصرة في النهاية على الصوفيين المنتمين إلى الطرق في المدن، فقد أنهت التدهور الطويل للنفوذ الصوفي في إيران وما صاحبه من ظهور نوع فقهي من الشرعية الشيعية، الذي تميز بعدد هائل من الأضرحة والممارسات الشعبية الجديدة، التي حلت محل الأضرحة والممارسات الصوفية. على الرغم من ذلك، منح انهيار الإمبراطورية الصفوية في عشرينيات القرن الثامن عشر فرصا جديدة للصوفيين، وشهدت العقود الأخيرة في القرن الثامن عشر عودة العديد من شيوخ الطريقة النعمتلاهية لإيران بعد حوالي ثلاثة قرون من طلب أسلافهم الرعاية من بلاط سلاطين بهمن في الهند.
130
وكما سنرى لاحقا في أفريقيا وجنوب شرق آسيا على حد سواء، فإنه على الرغم من تزايد قوة الدولة، فقد ظلت فترة أوائل العصر الحديث فترة امتلكت فيها النخب الصوفية المتنقلة قدرا كافيا من المكانة والجاذبية، مكنها من التغلب على أصعب المحن التي تعرضوا لها. (13) حدود آسيا الوسطى والصين
في النصف الأول من هذا الفصل، رأينا الدور السياسي المهم الذي لعبه النقشبنديون في آسيا الوسطى تحت قيادة شخصيات مثل عبيد الله أحرار (المتوفى عام 1490) وأحمد الكاساني (المتوفى عام 1543)، وفي القرن السابع عشر، نجد واحدا من ذرية الكاساني يدعى آفاق خواجه (المتوفى عام 1694) يجعل النقشبنديين يلعبون دورا أكثر تأثيرا في المنطقة. فعندما رأى آفاق خواجه توسع سلالة تشينج الصينية نحو الغرب منذ أربعينيات القرن السابع عشر، وتفكك خانات جغتاي المغولية، استخدم دور النقشبنديين الأقدم كوسطاء سياسيين للسفر إلى منطقة التبت، والدخول في مفاوضات مع الدالاي لاما الخامس، نجوانج لوبسانج جياتسو (المتوفى عام 1682)، الذي جعلته مصادر القوة العسكرية التي يمتلكها حاكما لتبت موحدة.
131
ومن خلال تلقي المساعدة الدبلوماسية من التبت البوذية، وتلقي الدعم العسكري من أفراد قبيلة القلميق، تمكن آفاق خواجه عام 1680 من انتزاع السلطة من الحكام الجغتائيين، وتأسيس نظام حكم سياسي نقشبندي في منطقة قشغر، استمر حتى سقوطه في عام 1760، على إثر غزوات إمبراطورية تشينج الصينية. وكانت تلك الدولة الصوفية تعرف باسم «إيشانات»، وهي كلمة فارسية تعني «هم» الدال على الاحترام الذي كان يستخدم للإشارة إلى قادتها، وفي أوج ازدهارها أدارت «اقتصادا روحانيا حقيقيا»، تولت فيه هرمية الطريقة إدارة الضرائب وامتلاك الأراضي في الوقت نفسه الذي تولت فيه الإرشاد الأخلاقي والروحاني لأتباعها، عن طريق النسق النقشبندي المميز المعروف باسم «الصحبة»، التي تعني ملازمة الشيخ.
132
في الوقت نفسه، كان لوجود دولة صوفية على أطراف النطاق الثقافي للصين أثره في نقل أعمال مثل «مثنوي معنوي» للرومي و«نفحات الأنس» للجامي إلى الشرق، تلك الأعمال التي قد أصبحت في ذلك الوقت تمثل الأعمال الكلاسيكية من الشعر والنثر الصوفي الفارسي.
133
وفي القرن السابع عشر، كان العلماء المسلمون الصينيون الذين يعملون في أقصى الشرق في قلب الصين الثقافي لا يترجمون الأعمال الصوفية إلى الصينية فحسب، بل يكتبون أيضا كتبا أصلية عن النظرية الصوفية باللغة الصينية الأدبية. وفي تجسيد صيني لعملية إضفاء الطابع المحلي، التي شهدنا حدوثها في البيئات التركية والملايوية والهندية، وجد العالم وانج داي يو (المتوفى عام 1657 أو 1658)، من محل إقامته في نانجينج عاصمة سلالة مينج الجنوبية، صعوبة في استخدام المصطلحات المفاهيمية الصينية الموجودة مثل مصطلح «تشن» (أي حق) للتعبير عن أفكار إسلامية؛ مثل التوحيد ووحي القرآن الفريد؛ ونتيجة لذلك، كون مصطلحات جديدة مثل «تشن شو» (الإله الحق) و«تشن تشينج» (الفريد الحق) في عمله الرائد «العلم الشامل للنقي والحق».
134
وكان ليو تشي (المتوفى عام 1730) من الكتاب المسلمين الصينيين الآخرين في هذه الفترة المقيمين في نانجينج، وبالإضافة إلى تأليفه كتاب «عرض خفاء العالم الحق» - الذي يعد النسخة الصينية من كتاب «اللوائح» الفارسي الذي كتبه الشاعر النقشبندي عبد الرحمن الجامي (المتوفى عام 1492) - كتب أيضا سيرة شهيرة للنبي محمد باللغة الصينية.
135
ما نشهده في هذه الكتب ليس فقط طريقة انتقال الصوفية إلى الصين عبر كتب آسيا الوسطى من المراكز الصوفية القديمة في خراسان، لكن نرى أيضا أنه في زمن ليو تشي كان تعلم المعتقد الصوفي يعتبر جزءا لا يتجزأ من تعلم الإسلام في العموم. ويعد هذا الترويج لصوفية مرتبطة ارتباطا وثيقا بحياة النبي محمد القدوة صدى لأنماط يمكن رؤيتها في القرن الثامن عشر في كل أنحاء العالم الإسلامي. (14) الهند: المغول المتأخرون
بالرجوع إلى الهند تحت حكم المغول، رأينا في القرن السابع عشر سمات معينة من الفكر الصوفي (لا سيما معتقد وحدة الوجود) تتيح إمكانية تفسير الأفكار الدينية لغير المسلمين على أنها جزء من تجليات الله غير المحدودة، على سبيل المثال: في كتاب «حقائق هندية» جمع عبد الواحد بلجرامي (المتوفى عام 1608) قاموس أغان تعبدية للإله فيشنو منحت فيها التراتيل الهندية معاني إسلامية كي تصبح مناسبة للحفلات الموسيقية الصوفية. وبعد قرن، ظهر في كتاب «مرآة الحقائق» لعبد الرحمن الجشتي (المتوفى عام 1683) ترجمة فارسية متعاطفة للبهاجافاد جيتا السنسكريتية، رأت رسالة كريشنا متوافقة مع تعاليم الإسلام.
136
وأبدى صوفيون كثر آخرون، مثل ولي العهد المغولي الأمير دارا شكوه (المتوفى عام 1659)، اهتماما بتعاليم الحكماء الهندوس، الذين اعتبروهم «موحدين هنودا»، إلا أن هذا التكيف الصوفي مع البيئة الهندية خلف توترات في حد ذاته، ولاقى هجوما واسعا في الجزء الأخير من هذه الفترة. والسبب في ذلك أننا نرى في الهند أيضا ظهور نقد العلماء، الذي يرى بعض الممارسات الصوفية «بدعا» منحرفة عن السنة النبوية. مرة أخرى، لقد كان السياق السائد هو سياق حملة التصحيح التي أعقبت بداية الألفية الإسلامية.
ظهر توجه التصحيح الألفي هذا بوضوح بالغ في حالة الصوفي النقشبندي الهندي أحمد السرهندي (المتوفى عام 1624). ولد السرهندي المعروف لدى أتباعه باسم «مجدد الألف الثاني» في مقاطعة البنجاب المغولية عام 1564 تقريبا، وانتسب للطريقة النقشبندية في دلهي على يد مروجها خواجه باقي بالله (المتوفى عام 1603) المهاجر من آسيا الوسطى.
137
وعندما علم السرهندي بدوره بعض مريديه، وأرسلهم إلى أماكن مهمة في الإمبراطورية المغولية، شهدت العقود الأولى من القرن السابع عشر اكتساب النقشبنديين مكانة ثابتة في المجتمع الهندي؛ حيث كون المريدون أمثال هاشم الكشمي (المتوفى عام 1644) علاقات مع النخبة الحاكمة.
138
ولم يكتب السرهندي أي عمل كبير، وانتشرت أفكاره في الأساس من خلال الخطابات التي كتبها لأتباعه عن نطاق مدهش من الموضوعات. وجمع ما يزيد عن خمسمائة خطاب في أحد «المكتوبات»، الذي حاول من خلاله العلماء إعادة تكوين معتقد عام متماسك. وعلى الرغم من ذلك، توجد موضوعات أساسية واضحة في هذا العمل، أحد هذه الموضوعات التي وجدناها بالفعل في أماكن أخرى هو نقد البدع والحاجة إلى العودة إلى السنة النبوية، وهذا الموضوع متعلق بالأهمية الكبرى التي أولاها السرهندي للشريعة. وقد رأى السرهندي أن الأخلاق في عصره أصبحت منحلة بسبب ترك السنة والشريعة؛ ومن ثم فإنه يتطلب مجددا ليعيد المسلمين إلى طريق الخلاص. ولم يقلق السرهندي مطلقا من إعلان أنه هذا المجدد، وعندما زعم لنفسه هذا الدور الكبير اكتسب الكثير من المريدين.
كان خطر إساءة فهم تعاليم ابن عربي من المواضيع الأخرى المهمة التي تناولتها خطابات السرهندي. وعلى الرغم من أن السرهندي اعتبر نفسه مفسرا على نحو صائب لأعمال ابن عربي وليس مهاجما لها، فإنه كان مدركا لمخاطر إساءة تفسيرها. وكانت هذه هي الحالة بصفة خاصة فيما يتعلق بمعتقد وحدة الوجود، الذي زعم محقا أنه شجع بعض المسلمين على تقليل الفرق بين الإسلام والأديان الأخرى، أو الفرق بين الله وأنفسهم، وبدلا من ذلك المعتقد، روج السرهندي لمعتقد «وحدة الشهود»، الذي يقول إن الصوفي في أعلى درجات النشوة قد يشعر كما لو أنه أصبح متوحدا مع الله؛ لأنه بالنسبة إلى الأشخاص (أمثال السرهندي) الذين قطعوا شوطا كبيرا في سيرهم على الطريقة، قد كان واضحا أن الله مغاير دائما لمخلوقاته، وأن وحدة الوجود ليست إلا محض وهم كبير على طريق الإدراك الأكمل لغيرية الله. وعلى النقيض من الشخصيات التي رأيناها تساوي التعاليم الإسلامية بالتعاليم العليا للهندوس، فقد كان السرهندي يرى دائما فارقا واضحا بين الإسلام وأديان الكفار.
واعتمادا على الخطابات التي كتبها السرهندي لأعضاء البلاط المغولي، فقد ساد اعتقاد يقضي بأنه كان مسئولا عن تحول في سياسة الإمبراطورية، تمثل في التخلي عن تجارب الامتزاج الديني التي قام بها جلال الدين أكبر، وحلول الالتزام المجدد بالشريعة في عهد أورنجزيب (الذي حكم من عام 1658 إلى عام 1707) محلها.
139
وكما في حالة جماعة قاضي زاده، فقد كان الوضع في واقع الأمر أكثر تعقيدا؛ حيث اعتبر حماس السرهندي الفقهي وانتقاده للأغلبية غير المسلمة تهديدا لاستقرار الدولة الذي اعتمد على ولاء الأعداد الشاسعة من رعاياها الهندوس، بالإضافة إلى الموظفين الحكوميين والمحاربين المسلمين. وفي عام 1619، بلغ الحد بالإمبراطور جهانكير جد أورنجزيب إلى سجن السرهندي. وفي عام 1679، منع أورنجزيب نفسه تداول خطاباته، ودعم حقه في ذلك بطلب الدعم الفقهي من مكة.
140
إذا كانت أفكار السرهندي قد أثارت جدلا، فإنها كانت جذابة على نحو كاف لاكتساب عدد كبير من الأتباع. وعلى غرار جماعة قاضي زاده في الإمبراطورية العثمانية؛ ففي القرن الأول من الألفية الجديدة، كان انتقاد الطريقة النقشبندية للمجتمع الضال يلقى رواجا بين قطاع كبير من النخبة الإسلامية الهندية. واعتبر إدخال أورنجزيب لجوانب متعددة من الشريعة إلى الحكم المغولي مرتبطا بسياسات الحكم أكثر من ارتباطه بتأثير السرهندي.
141
إلا أن التحول الفقهي الجديد في عهد أورنجزيب يمكن أيضا أن يكون مرتبطا بحملة التصحيح التي سادت هذا العصر، والتي دعمها أيضا رجال مثل السرهندي والقاضي الإيراني المؤثر المناهض للصوفية محمد باقر مجلسي (المتوفى عام 1699)، الذي زار الهند عدة مرات ما بين ستينيات وتسعينيات القرن السابع عشر، ومن المحتمل أن يكون قد تراسل مع أورنجزيب.
142
وعلى الرغم من انجذاب كثير من المسلمين في الهند إلى الصوفية التي تجعل الإسلام متكيفا مع التعددية الدينية في البيئة الهندية، فقد كان يوجد أيضا مسلمون راقت لهم مطالبة السرهندي بمعاملة الهندوس كالكلاب، وإهانتهم من خلال ذبح أبقارهم المقدسة، وفرض الجزية عليهم.
143 (وشهدت السنوات الأولى من عهد أورنجزيب الإعدام العلني للصوفي العاري المناهض للأعراف، والمتحول عن اليهودية كما يقال؛ سرمد كاشاني.)
144
وعلى غرار الخلافات المشابهة بين العثمانيين، فإنه يجب فهم انتقاد السرهندي للهندوس في ضوء سياق كان يمنح فيه العديد من المناصب الرئيسية، في البيروقراطية التي اعتبرها السرهندي إمبراطورية إسلامية، للهندوس بدلا من المسلمين. وعلى الرغم من كل مزاعم السرهندي الكبيرة بأنه «مجدد العصر»، فإنه لم يتوان عن إرسال خطابات يطلب فيها رواتب ومناصب حكومية لأتباعه. وعلى الرغم من انتقادات السرهندي للصوفيين الذين عجزوا عن اتباع الشريعة، فقد كان على الرغم من ذلك مؤمنا بفكرة أن الصوفية تقليد يربط المسلمين بتعاليم النبي محمد؛ مما يعكس اتجاهات أوسع نطاقا في أجزاء أخرى من العالم الإسلامي؛ ومن ثم، فإن رسالة تجديد الألفية الجديدة خاصته لم تكن طريقة نقشبندية خاصة ضيقة النطاق، بل كانت جزءا من حملة تصحيح أوسع نطاقا، تشاركها مع معاصريه في أماكن أخرى.
ونظرا لأن البيروقراطية المغولية لم تكن مطلقا على القدر نفسه من المركزية أو «الإسلامية» مثل البيروقراطية الدينية العثمانية، فإن المهارات العملية المتمثلة في إجادة القراءة والكتابة والتشريع، التي امتلكها كثير من الصوفيين، مكنتهم من الالتحاق ببيروقراطية الإمبراطورية المغولية التي كانت - مثل نظيرتها العثمانية - تفضل بطبيعتها صوفية مستقرة ومتوقعة، تقدم الشريعة على الوحي. وعندما انهارت الإمبراطورية المغولية أثناء القرن الثامن عشر، أصبحت هذه المهارات الفقهية أكثر أهمية، والسبب في ذلك يعود جزئيا إلى أن تضاؤل دور الدولة كمصدر للنظام الاجتماعي أبرز أهمية مصادر السيطرة الاجتماعية المنبثقة عن الدولة. وإلى حد ما، كان السبب في ذلك هو تفسير انهيار الإمبراطورية التي تسيطر عليها نخبة مسلمة على أنه عقاب إلهي على انحلال أخلاق المسلمين، إلا أنه عندما صور المسلمون على أنهم ضالون، كانت الطريقة الصوفية لا تزال ترى على أنها تمثل الحل، لكنها الصوفية في صورتها الملتزمة بالشريعة، التي روجها ورثة السرهندي وعبد الحق الدهلوي، وورثتهم. ونظرا لأن القرن الثامن عشر شهد نهب العاصمة الإمبراطورية القديمة على يد مجموعة من الغزاة الهندوس والمسلمين، فإن الصوفيين البارزين أمثال شاه ولي الله الدهلوي (المتوفى عام 1763)، وميرزا مظهر جان جانان (المتوفى عام 1781) من أتباع طريقة النقشبندية في دلهي، والجشتي البنجابي نور محمد مهاروي (المتوفى عام 1791)؛ استمروا في دفع الانتقادات الفقهية التي ظهرت في القرن السابع عشر، خاصة من خلال تأسيس مدارس من أجل نشر تعاليمهم.
145
كان تفضيل هؤلاء الصوفيين الإحيائيين في القرن الثامن عشر لتأسيس المدارس على الخانقاوات، وكذلك الأسس الفقهية لتعاليمهم، دالا على تمسكهم بجذورهم في القرن السابق. كان شاه ولي الله الدهلوي مهتما بصفة خاصة بالبدع، وعلى مدار عصر تعرضت فيه دلهي على نحو متكرر للتدمير على يد الغزاة، تزايد انتقاده الصارم لتبجيل الناس للأضرحة الصوفية،
146
ولم يعتبر ذلك رفضا للتقليد الصوفي؛ لأن الدهلوي كان مدركا تماما لمنصبه كوريث لسلالة من الشيوخ الصوفيين السابقين،
147
بل تمثل الأمر في كونه جزءا من النسق الأوسع نطاقا الذي شهدناه، والذي أثار فيه تنوع الممارسات الصوفية الكبير المشكلة المنطقية المتمثلة في عدم إمكانية كون كل هذه الممارسات على القدر نفسه من المشروعية. كان الدهلوي يرى أيضا أن الشريعة هي الأساس الأكيد الذي يميز التقليد المشروع عن الإضافات غير المبررة. والمنطق نفسه كان موجودا في دلهي في حلقات خواجه محمد ناصر عندليب (المتوفى عام 1759) وابنه مير درد (المتوفى عام 1785)، الذي سعى بالمثل، عند تأسيس شكل من الصوفية أشاروا إليه ب «الطريقة المحمدية»، إلى إعادة توجيه الممارسات الصوفية؛ بحيث تتناغم مع سلطة وسنة النبي محمد. وعلى غرار التركيز المتزايد على دراسة الحديث، تزايد دور النبي نفسه في الممارسة الروحانية؛ إذ أصبح المريد يسعى إلى الفناء فيه قبل الوصول إلى الله.
148
كانت التطورات في الهند أيضا جزءا من الصورة العالمية الأوسع نطاقا، التي شهدت كذلك نشر فكرة «الطريقة المحمدية» في شمال أفريقيا على يد أشخاص مثل أحمد التيجاني (المتوفى عام 1815) بعد بضعة عقود، لكن بدلا من أن تكون هذه الصوفية ظاهرة جديدة في القرن الثامن عشر، أو «صوفية جديدة» مميزة كما أطلق عليها بعض العلماء، فإن التركيز على النبي محمد والسنة النبوية كان ذروة صحوة التجديد العامة، التي ظهرت في القرن السابق.
149
وتظهر الأمور المرتبطة بحملة التصحيح الأوسع نطاقا هذه في حقيقة أن مصطلح «الطريقة المحمدية» نفسه استخدم لأول مرة على يد العالم العثماني محمد البركلي (المتوفى عام 1573) في كتابه «الطريقة المحمدية والسيرة الأحمدية»، الذي ألهم أيضا جماعة قاضي زاده بسبب هجومه على تبجيل الناس للأضرحة، وحثه على التمسك بالسنة النبوية .
150
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الأنماط المنتشرة في عدة مناطق ظهرت فقط من خلال استحسان رسالتها في سياقات محلية محددة. ومثلما دعم الانتشار الواسع للأفكار والمؤسسات الصوفية مجموعة من الممارسات أزعجت الدولة العثمانية المحافظة شرعيا، فإنه بالمثل في الهند أدى التكيف المحلي للصوفية لتتناسب مع الأنماط الأوسع نطاقا للحياة الاجتماعية، وحتى الترفيه، إلى وضع أصبحت الأضرحة الصوفية تستضيف فيه عروضا لشعر الغزل الصوفي، تقدمها مغنيات عاهرات من الطبقة الدنيا، عرفن باسم «الطوائف» (أي الغجر). ويحفظ كتاب «مرقعة دهلي» - الذي يتناول الفترة قرابة عام 1750 - أوصافا لثقافة أضرحة أصبحت فيها الخدمات الثقافية للصوفية لا تنفصل عن مكان مشبوه يقدم حفلات موسيقية في وقت متأخر من الليل، بالإضافة إلى أوصاف للأفعال الطائشة الممتعة لعاصمة إمبراطورية في مرحلة الأفول.
151
ولهذا السبب، من المهم عدم تضخيم تأثير العلماء الصوفيين، خاصة على الصعيد المحلي للصوفية، الذي استمر في التطور في الهند طوال هذه الفترة. وفي البيئات الريفية في السند والبنجاب تضمنت أشعار شاه عبد اللطيف (المتوفى عام 1752)، وبلهي شاه (المتوفى عام 1757)، الكثير من التعليقات الساخرة من العلماء المسلمين. وقد غنى شاه عبد اللطيف ساخرا من دارسي الكتب الكلاسيكية في الشريعة والنحو، فقال:
إذا قرأت كنز الدقائق، ومختصر القدوري، والكافية، وفهمتها كلها، فحالك يشبه نملة عرجاء سقطت في حفرة وأخذت تنظر إلى السماء.
152 (15) جنوب شرق آسيا: التجديد في دول الملايو
عندما نلتفت إلى الوضع في جنوب شرق آسيا في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، سنجد الكثير من الأمور المشتركة مع صورة الصوفية الفقهية الهندية هذه، التي انتشرت أيضا في البلاط الملكي لحكام الملايو. لقد رأينا من قبل حمزة الفنصوري ينشر أفكار ابن عربي باللغة الملايوية في بلاط آتشيه عند الطرف الغربي للأرخبيل الإندونيسي. وفي القرن السابع عشر، تقلد تلميذه شمس الدين السومطراني (المتوفى عام 1630)، الذي كان من باساي في شمال سومطرة، منصب «شيخ الإسلام» (مما جعله في المكانة التالية مباشرة للسلطان) في بلاط السلطان علاء الدين رعاية شاه (الذي حكم من عام 1588 إلى عام 1604)، وعمل كالشيخ الصوفي للسلطان إسكندر مودا (الذي حكم من عام 1607 إلى عام 1636)، الذي صحبه عادة في كل المناسبات التي تخص الدولة.
153
هكذا كانت مكانة هؤلاء الصوفيين أصحاب النفوذ المؤثر، لدرجة أنهم ذكروا في روايات أسفار البحارة الأوروبيين في المحيط الهندي. ويبدو أن المستكشف الإنجليزي جون دافيس كان يشير إلى شمس الدين السومطراني، عندما وصف عام 1599 بلاط آتشيه الملكي قائلا: «هناك نبي في آتشيه يجلونه كثيرا، ويقولون إنه يمتلك روح النبوة مثلما امتلكها الأقدمون. وهو يتميز عن البقية في ملابسه، ولديه حظوة كبيرة عند الملك.»
154
وفي مصادر من سلطنة آتشيه نفسها، نجد فكرة «الإنسان الكامل»، التي ظهرت في تعاليم ابن عربي وحمزة الفنصوري على حد سواء، مستخدمة في تعظيم السلطان إسكندر مودا.
155
وعلى غرار ما رأيناه بالفعل في إيران والهند، فإن هذا الاستخدام من جانب الملوك للمصطلحات الصوفية، يمكن أن نراه في إحدى قصائد مديح السلطان إسكندر مودا المكتوبة بالملايوية، التي اقترضت من المصطلحات الصوفية العربية الأصلية لتصف السلطان بأنه «القطب الملكي، الكامل تماما، الولي المتحد تماما مع الله، والملك العارف.»
156
ومثلما بدا إسكندر مودا متأثرا بالألقاب الصوفية التي استخدمها معاصروه المغول، أمثال جلال الدين أكبر وجهانكير، كان هذا التقديم للملك على أنه «القطب» أو «ولي الله» الصوفي معمولا به أيضا في الدول الإسلامية الجديدة الناشئة على حدود الأرخبيل، سواء في ماتارام في جاوة، أو في جاوا في سولاويسي.
157
ونظرا لأن شمس الدين السومطراني كان واحدا من أوائل السومطريين الذين يكتبون باللغة العربية، فقد أوضحت كتاباته بالمثل تأثير الأفكار الهندية على الخيال الملايوي، لا سيما أفكار محمد بن فضل الله (المتوفى عام 1620) المولود في برهان بور في وسط الهند، صاحب كتاب «التحفة المرسلة إلى روح النبي»، الذي انتشر لاحقا على نحو أعمق في جنوب شرق آسيا بسبب ترجمته إلى اللغة الجاوية.
158
وعلى الرغم من أن محور الاهتمام الأساسي لهذا الكتاب هو الأفكار الوجودية المتعلقة بالطبيعة الحقيقية للوجود البشري والوجود الإلهي، فقد هدف فيه فضل الله أيضا إلى التأكيد على أهمية الشريعة في السيطرة على أفعال حتى أقرب أولياء الله. وكما هو الحال في المناطق الأخرى التي تناولناها؛ فقد شهد القرن السابع عشر في جنوب شرق آسيا أيضا محاولات لكبح سلطة أولياء الله الصوفيين الجامحة والعنيدة، من خلال نسخة من المعتقد الصوفي أكثر تقييدا من الناحية الشرعية. وكما ظهر هذا التوجه بالفعل في انتشار كتابات فضل الله، رأيناه أيضا في تعاليم صوفيين من جنوب شرق آسيا مثل نور الدين الرنيري (المتوفى عام 1658)، الذي استغل توليه منصب شيخ الإسلام في آتشيه لمهاجمة العديد من الصوفيين الذين اعتبرهم متهمين بالزندقة، ووثق هذه الاتهامات في كتابه المثير للجدل «حجة الصديق لدفع الزنديق»، وتشير نشأة الرنيري في منطقة كجرات الهندية إلى ضرورة رؤية أفكاره أيضا في ضوء التيارات الأكبر التي كانت تجتاح الهند في عصره، فمن الممكن أن يكون انتقاد الرنيري لتعاليم سلفه الصوفي في آتشيه حمزة الفنصوري (لا سيما ما يتعلق برؤية الفنصوري لوحدة الوجود) معتمدا على الهجوم على المعتقد نفسه، الذي رأينا أحمد السرهندي يشنه في الهند أثناء شباب الرنيري.
159
والأدلة على ارتباط الرنيري بالطريقة العيدروسية أكثر من واضحة، وتنتمي هذه الطريقة إلى منطقة حضرموت في اليمن، وأدى انتشارها عبر المحيط الهندي إلى نشر صوفية ملتزمة بالشريعة.
160
لم يكن العيدروسيون أمثال الرنيري الصوفيين الوحيدين الذين يروجون للصوفية الشرعية هذه في جنوب شرق آسيا في القرن السابع عشر؛ فبعد أن درس الصوفي الآتشي عبد الرءوف السنكيلي (المتوفى عام 1693) في المدينة على يد الصوفي الكردي إبراهيم الكوراني (المتوفى عام 1690)، عاد إلى سومطرة ليدرس منهجا كانت فيه الصوفية غير منفصلة عن دراسة الشريعة والقرآن.
161
وأدت تقوية علاقات جنوب شرق آسيا بشبه الجزيرة العربية في أوائل العصر الحديث أثناء القرن الثامن عشر؛ إلى انتشار هذه الصوفية الشرعية أكثر من خلال حركة مزيد من الصوفيين من حضرموت، ونقل تعاليمهم حتى شمال أفريقيا. وكان هؤلاء الصوفيون الرحالة هم من ربطوا مسلمي الملايو بتيارات العصر الأوسع نطاقا.
162
ويبدو ممكنا أن تكون زيادة تداول هذه الأفكار مرتبطة بزيادة حركة الملاحة البحرية التي صاحبت نمو التجارة في تلك الفترة. وأدى أيضا ازدهار القوة التجارية الهولندية في جنوب شرق آسيا إلى تقديم الإسلام إلى جنوب أفريقيا، عن طريق نفي الصوفي الملايوي الشهير يوسف التاج الخلوتي المقاسري (المتوفى عام 1699) إلى المستعمرة الهولندية في كيب تاون.
163
وحتى في أغلال الأوروبيين، استمر الصوفيون في اختراق الحدود الجديدة نشرا للإسلام. (16) الشريعة في الصحراء الكبرى
يمكن رؤية أنماط مشابهة في شمال أفريقيا وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أثناء هذه الفترة، ولقد رأينا حقا كيف شهد القرن الخامس عشر في المغرب ظهور صوفية شرعية تمتلك وعيا ذاتيا بفضل جهود شخصيات مثل الجزولي وأحمد الزروق. وعلى الرغم من ضرورة وضع هؤلاء الرجال في سياق بيئاتهم المحلية في المقام الأول، فإن اهتماماتهم كانت صدى للمشكلة الأكبر المتمثلة في التنوع الكبير في الممارسات الصوفية، الذي ظهر في أوائل العصر الحديث؛ ما أثار مخاوف حول عدم إمكانية أن تكون جميعها متفقة مع السنة النبوية؛ فعلى سبيل المثال: كتب أحمد الزروق كتابا بعنوان «الرد على أهل البدع»، هاجم فيه البدع الصوفية المعيبة مثل: حلق الرأس، وارتداء عباءات معينة، وتفاخر الحشم الذين يتبعون الشيوخ الصوفيين المشهورين.
164
وفي أعمال الجزولي مثل كتاب «العقيدة»، أعرب أيضا عن اهتمامه بإظهار السلوكيات الحميدة، مطالبا المجتمع برفع معاييره الأخلاقية. وعلى الرغم من أن الجزولي كانت له تعريفاته الخاصة بمعنى الطريقة المحمدية، فإنه كان واحدا من الصوفيين الكثيرين في هذه الفترة الذين تحدثوا عنها، والتي كان يجب أن تتقيد فيها كل الممارسات الصوفية بمثال أفعال النبي. وفي شمال أفريقيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، استمرت محاولات توحيد مزاعم المرجعية الصوفية والفقهية من خلال نموذج «الصوفي الفقيه»، الذي جمعت معرفته وسلوكه بين تقاليد الصوفيين وتقاليد النبي، ونرى ذلك بصفة خاصة في سيرة شخصيات مثل أحمد التيجاني (المتوفى عام 1815)، وأحمد بن عجيبة (المتوفى عام 1809)، اللذين أكملا نموذج الصوفية المقيدة بالشرع. وفي إطار محاولة إرجاع الممارسات الصوفية إلى السنة النبوية، زعم التيجاني أن بعض الأغاني الخاصة التي يعلمها للمريدين ألفها النبي نفسه ونقلها له من خلال رؤية،
165
وعن طريق توسيع التيجاني لدائرة أتباعه، من خلال ضم المسافرين الذين كانوا يأتون إلى مركزه التعليمي في مدينة فاس المغربية، تمكن من توسيع نطاق مريديه غربا ليمتد إلى غرب أفريقيا، وهناك سوف تتكون واحدة من أكثر المنظمات الإسلامية تأثيرا في القرن التاسع عشر.
166
وفي شمال أفريقيا نفسه، كان لهذا التوسع في الصوفية الملتزمة بالشريعة، التي لا مكان ل «البدع» فيها، صدى في سياسات حكام مغاربة أمثال سيدي محمد بن عبد الله (الذي حكم من عام 1757 إلى عام 1790)، ومولاي سليمان (الذي حكم من عام 1792 إلى عام 1822) الذي اعتبر كثيرا من الطرق الصوفية عقبات تقف في طريق التجديد الديني الذي سعى إلى تحقيقه في مملكته.
167
وعلى الرغم من ذلك، شهدت تلك الفترة في شمال أفريقيا اكتساب الطرق الصوفية ثروة جديدة عندما لعبوا دورا بارزا في التجارة المزدهرة بين أوروبا وشمال أفريقيا والصحراء الكبرى؛ مما جعل قادتها من أكثر الشخصيات ثراء ونفوذا في مجتمعاتهم. ولما كانت الطريقة النصيرية تتمتع بأعضاء تجمع بينهم الثقة المتبادلة، فضلا عن انتشارهم على نطاق واسع، فقد استخدمتهم كشبكة لها، وأدارت جزءا كبيرا من التجارة الأوروبية عن طريق فرض رسوم لحماية القوافل التجارية، ونشر معلومات حول السوق وظروف السفر، والتحكم في التواصل مع النخب السياسية؛ واستثمرت الثروة التي جنتها بدورها في شراء الأراضي أو إقراض الأموال.
168
وعن طريق توفير شبكات ثقة وتواصل وائتمان واسعة النطاق - سواء عن طريق الطريقة النصيرية في شمال الصحراء الكبرى، أو عن طريق تجار قبيلة كنتة في مناطق جنوب الصحراء الكبرى المنتسبين إلى الطريقة القادرية - عملت الطرق الصوفية كآليات تمكين للتجارة المتزايدة عبر الصحراء الكبرى التي ربطت أفريقيا بأوروبا.
169
وفي الوقت نفسه، كانت طرق التجارة هذه طرقا للمعرفة أيضا، نقل من خلالها الصوفيون تعلم اللغة العربية، ومناهج الطريقة النصيرية المتمثلة في الدراسة الفقهية والصوفية، إلى مستوطنات الواحات التي أصبحت حاليا موريتانيا ومالي والنيجر والسودان.
170
وفي صحراء السودان الكبير ومناطق ضفاف النيل بها، نجد بعضا من أبرز تفاعلات الصوفيين مع بيئاتهم المحيطة في هذه الفترة؛ إذ شهد القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر توسعا كبيرا في النفوذ الصوفي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، الذي من خلاله أصبح التراث القديم للصوفيين المتعلمين والأولياء المستقلين مندمجا في الشبكات والأنساب الممتدة عبر مناطق متعددة، التي تخص طرقا مثل الطريقة القادرية.
171
وعلى الرغم من أن هذه الشبكات كانت عشوائية بعض الشيء، فقد كانت قادرة على ربط أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بالممارسات والجدالات الناشئة في شمال أفريقيا ومصر وأفريقيا. وحدث هذا التوسع للطرق نحو الجنوب عن طريق دمج أنسابها وتعاليمها في الهياكل الاجتماعية والجماعات التعليمية الموجودة، وخضعت الانتماءات الصوفية المتعددة المناطق للتعديل بما يتماشى مع السياقات المحلية، عن طريق الجماعات القبلية وعائلات العلماء، وزاد انتشار الانتماءات الصوفية عبر طرق التجارة التي عبرت الصحراء الكبرى وربطت سكانها بشمال البحر المتوسط. وكما هو الحال بالنسبة إلى الطرق الأخرى المتعددة المناطق مثل الطريقة النقشبندية، لم تكن هذه العلاقات الجديدة مركزية، وظلت فعليا حتى القرن التاسع عشر فروعا مستقلة. وخلال منتصف القرن السابع عشر، انتشرت الانتماءات الأفريقية للطريقة القادرية على يد تاج الدين البهاري، الذي كان من بغداد في الأصل، وحاول ضم العائلات السودانية الكبيرة الموجودة إلى الطريقة القادرية.
172
أسس فرع مستقل آخر من الطريقة القادرية في هذا الوقت تقريبا على يد إدريس بن محمد الأرباب (المتوفى عام 1650)، الذي نجح في جذب نخب سلطنة الفونج، وعمل أيضا مثل بقية الصوفيين في هذه الفترة كوسيط دبلوماسي، في هذه الحالة في الخلافات بين الفونج وأعدائهم.
173
وفي إطار نشر عملية التقديس في أفريقيا، شيد ضريح على قبر إدريس في مدينة العيلفون جنوب الخرطوم حاليا في السودان، وتحولت المدينة إلى مركز زيارة يقصده سكان المنطقة المتأثرون نسبيا بالإسلام. ومن خلال خلط زيارة الأضرحة والزراعة والتعليم معا، أصبح صوفيون آخرون أمثال حسن ولد حسونة (المتوفى عام 1665) - الذي هاجر جده عبر الصحراء الكبرى مما يعرف حاليا بتونس - مؤسسين للقرى. وعلى مدار فترة تقدر بعدة أجيال، أصبحت هذه القرى الواقعة في قلب أفريقيا عوالم إسلام صوفية صغيرة، يجمع سكانها المترابطين السلف المشترك، المتمثل في الشيخ الصوفي وأتباعه الأوائل.
ومع توسع فروع الطرق المستقلة هذه عبر القرن الثامن عشر، نجد في بعض الحالات أن العضوية فيها كانت تقوم على معيار العرقية أو القرابة المشتركة. وفي حالات أخرى، أوجدت الطرق أنماط تآلف جديدة تجاوزت الحواجز العرقية. وفي كل الحالات، ربطت الطرق الأشخاص بالمجتمعات اعتمادا على رؤية مشتركة يحددها شيوخها. وكان كثير من هؤلاء القادة ينتمون إلى العائلات المقدسة نفسها؛ مما جعل الطرق آليات سيطرة تمكنت من خلالها عائلات أو جماعات عرقية معينة من تخليد مكانتها عبر الزمن. وفي أفريقيا الإسلامية كما في غيرها من الأماكن، كون هؤلاء القادة الصوفيون طبقة حاكمة اكتسبت الثراء من خلال الأراضي التي تمتلكها، والهدايا الممنوحة لها من الأتباع. وبهذه السبل، منح التقليد الصوفي شعوب الصحراء الكبرى مجموعة موارد قابلة للتعديل لتأسيس سلام اجتماعي، بداية من نماذج للسلطة والتنظيم، إلى الطقوس الجماعية الباعثة على الوحدة، وتقديس تراث تاريخي ربط المؤسسة الصوفية الأفريقية بمراكز حضرية مرموقة مثل القاهرة وبغداد ومكة.
شكل 3-6: هل هي صوفية قبلية؟ الصوفي الرحال في مقاطعات الإمبراطورية العثمانية أو الصفوية، تقريبا في القرن السابع عشر (بإذن مجلس المكتبة البريطانية).
وكما هو الحال في المناطق الأخرى في الفترة نفسها، أولى العديد من الصوفيين البارزين في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أثناء القرن السابع عشر، والقرن الثامن عشر بصفة خاصة، اهتماما خاصا بالشريعة؛ ففي سلطنة الفونج في السودان، أدى اغتصاب نبلاء الهمج السلطة عام 1762 إلى أزمة شرعية حاول الهمج حلها من خلال سياسة الترويج للشريعة، وهذا بدوره تطلب منهم عرض مناصب في البلاط الملكي والبيروقراطية على الصوفيين، أو على غيرهم من العلماء المؤهلين لتطبيق هذه السياسة.
174
ونتيجة لذلك، زاد نفوذ الصوفيين الفقهاء، وفي نهاية القرن الثامن عشر انتشر عبر السودان هجوم كبير على الممارسات الصوفية أو الممارسات الشعبية الأخرى التي تنطوي على بدع. وعلى نحو محاك لأجندات الصوفيين النقشبنديين بين سكان الواحات وقبائل آسيا الوسطى، تظهر المخطوطات العربية المتبقية من الجيوب الحضرية في الصحراء الكبرى أن صوفيي هذه الفترة كانوا المروجين الأساسيين للشريعة، ومن أمثلة هؤلاء السوداني أحمد الطيب البشير (المتوفى عام 1824)، الذي انتسب خلال رحلاته إلى شبه الجزيرة العربية في أواخر خمسينيات القرن الثامن عشر إلى الطريقة السمانية، المنبثقة عن الطريقة الخلوتية ذات التوجه الشرعي الصارم، التي سبق أن رأينا نفوذها الكبير في الإمبراطورية العثمانية. وقد روج البشير تعاليم الطريقة السمانية عند عودته إلى وطنه، وهناك منحه واحد من أواخر حكام سلطنة الفونج عزبة زراعية في الأراضي المطيرة الخصيبة السودانية.
175
نظرا لتزايد العلاقات هذا بين الصوفيين في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وأفريقيا البحر المتوسط في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فإن دور الصوفيين كمقدمين للشريعة ومؤسسين للمجتمعات يشير إلى الأساليب التي من خلالها اشتركت أفريقيا في تطورات توحيد السلوك الأوسع نطاقا في هذه الفترة، من خلال تعويد الجماعات المختلفة على مجتمعات الطقوس المشتركة، التي مكنت بدورها تأسيس وحدات اجتماعية أكبر. وبحلول النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وصلت هذه التطورات مستويات جديدة، عندما تجاوز صوفيون بارزون من شمال أفريقيا مثل أحمد التيجاني (المتوفى عام 1815)، وأحمد بن إدريس الفاسي (المتوفى عام 1837)، شعوب الصحراء الكبرى المستعربة، وأدخلوا أعدادا كبيرة من الأفارقة السود في طرقهم الجديدة. وعلى الطرف الغربي لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى فيما يعرف اليوم بموريتانيا، شهدت الفترة أيضا سفر محمد الحافظ الشنقيطي (المتوفى عام 1830) إلى مكة وفاس؛ حيث انتسب إلى الطريقة التيجانية على يد التيجاني، قبل أن يعود عبر الصحراء الكبرى لينشر نوعا من الصوفية حازت فيه دراسة الحديث والسنة النبوية على مكانة محورية.
176
وفي أواخر القرن السابع عشر، استخدم الصوفيون في كل أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى السنة النبوية لوصف الحكام والأخلاق والقوانين العرفية في هذه المنطقة الشاسعة بأنها من صور الكفر الوثني والبدع. وغالبا كان هذا الانخراط الصوفي الشديد للغاية في الإصلاح الاجتماعي جزءا لا يتجزأ من الإصلاح السياسي، مما قاد الصوفي ابن الطريقة القادرية عثمان دان فوديو (المتوفى عام 1817) إلى دعوة رفاقه من قبيلة الفولاني إلى سلسلة من عمليات الجهاد المشروع، التي أسفرت عام 1809 عن تأسيس «خلافة» سوكوتو.
177
وعلى الرغم من أنه قيل إن فوديو اعتبر الصوفية وسيلة للتطهير الشخصي التي كانت منفصلة عن مصادر رؤيته السياسية، تظل حقيقة أن الصوفيين - وإن لم تكن الصوفية في كل الأحوال - كانوا مسئولين عن تأسيس دول جديدة بارزة في أفريقيا.
178
على الرغم من ذلك، يجب ألا نرى ذلك بمثابة صورة فحسب للتأثير الصوفي على أفريقيا، بل يجب أن نراه أيضا صورة للتأثير الأفريقي على الصوفية، وعلى نحو أكثر تحديدا يجب أن ندرك العملية التي من خلالها زودت الصوفية الأفارقة بالمصطلحات الدينية، والنموذج التنظيمي، ووسائل نقل المعرفة التي مكنتهم من تصدير سمات من الممارسة الدينية الأفريقية إلى العالم الإسلامي الأوسع نطاقا. وإلى حد كبير، كان هذا ممكنا بسبب التهجير الجبري للعبيد إلى شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية والهند؛ حيث مثلت الصوفية وسيلة مفهومة ومشروعة لاستمرار الممارسات الأفريقية التقليدية، المتمثلة في الغشية الموسيقية واستحضار الأرواح. ويمكن ملاحظة هذه العملية بين أوساط السيديين الذين كانوا عبيدا في السابق ومنحدرين من نسل أفريقي، الموجودين في الهند وفي الطريقة الحمدوشية والطريقة الكناوية في المغرب.
179
وجعل السيديون ذكرى ماضيهم الأفريقي حية من خلال طقوس تؤدى أمام ضريح سلفهم الأفريقي المزعوم، بابا جور، في كجرات.
180
وشرحت الطريقة الحمدوشية طقوسها المميزة في استحضار الأرواح من خلال أساطير مؤسسها سيدي حمدوش (المتوفى عام 1718)، الذي سافر إلى السودان وأحضر لدى عودته الناي الذي يستخدمونه في الطقوس، المعروف باسم «العواد»، وكذلك الدف والجنية عيشة قنديشة.
181
وفي كلتا الحالتين، ظلت الجذور الأفريقية لمجتمعات أو ممارسات الشتات حية، من خلال التقاليد المتذكرة للأسلاف في المدن البعيدة في المغرب أو في الهند. وإذا كانت أعداد الصوفيين الرافضين لهذه الأنشطة قد تزايدت في أواخر القرن الثامن عشر، ووصفوها بالبدع المذمومة، فإن الشعبية الهائلة لهذه الطقوس الموسيقية والسلوى التي منحوها للمكتئبين والمهجرين، كان معناها أنها سوف تستمر إلى العصر الحديث، على الرغم من كل انتقادات المصلحين.
ملخص
في هذا الفصل، شهدنا فترة من العلاقات الغامضة بين الصوفيين والدول، أسس فيها الصوفيون أنفسهم دولا تارة، وجذبتهم الدول تحت قبضة سيطرتها الشديدة تارة أخرى. وفي فترة كان فيها الإسلام لا يزال يتوسع في أجزاء كبيرة من العالم، لعب الصوفيون أيضا دورا في استيطان الحدود، وأدت المؤسسات الصوفية دور الدول البديلة عندما تكونت المجتمعات الإسلامية حولها. وعلى الرغم من أنه بطبيعة الحال ظل بين الصوفيين أعداد كبيرة من الدراويش المتجولين الفقراء، فإن العلامة الفارقة في التاريخ حدثت على يد النخب الصوفية الرحالة، الذين مكنهم علمهم، وأنسابهم المرموقة، وقدراتهم على صنع المعجزات، وفي بعض الحالات خلفيتهم العرقية، من توظيف الموارد لتأسيس الدول أو لتولي المناصب المهمة داخل الكيانات السياسية القائمة. وعلى الرغم من أن الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر يوحدها الانتشار المستمر للنفوذ الصوفي بين عدد متزايد من الشعوب، فإنها يمكن تقسيمها إلى فترتين تفصل بينهما بوجه عام بداية الألفية الإسلامية عام 1591. وعلى الرغم من أن هذه التطورات كانت تدريجية، فإنه في أول قرنين من الألفية الجديدة حازت الاستقامة الأخلاقية الملتزمة بالشريعة التي أبداها الصوفيون على الاهتمام، وأصبحوا قدوة اجتماعية تروق للقائمين على إدارة الدولة. وإذا كان الصوفيون والسلاطين قد كونوا في أول الأمر تحالفات في فترة العصور الوسطى، فإن الصوفيين في قرون فترة أوائل العصر الحديث ركنوا إلى الأمان المستمد من كونهم لاعبين أساسيين في النظام الاجتماعي والسياسي على حد سواء، خاصة في الإمبراطوريات الأطول أجلا. وإذا كانت الفترة قد شهدت تزايد محاولات تنظيم الأبعاد الأكثر انحرافا في السلوك الصوفي من خلال معايير شرعية موحدة، فإن هذا في نهاية الأمر، فيما عدا في بيئات استثنائية مثل إيران الشيعية، كان علامة على النفوذ الهائل الذي اكتسبه الصوفيون في هذه الفترة، من خلال الإشارة إلى الأمور العديدة التي أصبحت محفوفة بالمخاطر عندما أضل الصوفيون أتباعهم أخلاقيا.
إذا تناولنا فترة أوائل العصر الحديث في مجملها، فسنجد أنها شهدت جذب التقليد الصوفي في اتجاهين متعارضين لكنهما متداخلين. فمن ناحية، شهدت الفترة توظيف واستخدام التقليد على نحو تنافسي على يد العديد من القادة مؤسسي القبائل أو الدول، الذين استخدم الكثير منهم عناصر مميزة منه على نحو انتقائي على حسب متطلبات وضعهم. وعلى أي حال، فإنه نظرا لما تدعيه الصوفية من مزاعم السلطة، بالإضافة إلى ما تمتلكه من آليات الولاء والانتماء، فقد أصبحت وسيلة قوية للتنظيم الجماعي والتضامن المجتمعي. ومن الناحية الأخرى، شهدت الفترة عملية مقابلة (لكنها وثيقة الصلة في نهاية المطاف)، تمثلت في زيادة دمج مصطلحات ورموز التقليد القوية هذه في طرق صوفية منظمة ومقننة، والتي أصبح سلوكها على هذا النحو أكثر استقرارا، ومن الممكن توقعه على نحو أكبر. وعلى الرغم من أن هذه العملية كانت متقطعة بالتأكيد، فإنه منذ هذه الفترة أصبحت الطرق أشبه بالمنظمات الأكثر ترابطا منها بآليات إعادة إنتاج التقليد التي ميزت فترة العصور الوسطى. وما دام القدر الأكبر من تنظيم الطرق نتج جزئيا من تفاعلها الوطيد مع الدول الأكثر طموحا وتنظيما في هذه الفترة، فإن الهدف من ترويج الحكومات لها كمؤسسات اجتماعية مستقرة ومستوطنة وملتزمة بالشريعة، والتقليل من شأن الصوفية البدوية «اللاسلطوية» القائمة على المعجزات والمرتبطة بالجماعات القبلية الريفية؛ كان واضحا. وحتى في أبرز حالات قمع الصوفية في إيران الصفوية، كان العامل الأساسي هو استبدال الصوفية القبلية الانفصالية القديمة، وأن يحل محلها نموذج الإسلام الشيعي الموحد والفقهي الذي يستطيع توحيد كل السكان، على النقيض حتى من أكبر الطرق الصوفية.
في أغلب الأحيان، قدم القرن الثامن عشر على أنه «عصر إصلاح» مميز، روجت فيه طرق صوفية أجندة جديدة، محورها النبي محمد، لصوفية ملتزمة بالشرع، إلا أن ما شهدنا في هذا الفصل يشير إلى أن الألفية الإسلامية التي بدأت عام 1591 مثلت نقطة التحول الأكثر أهمية. بطبيعة الحال، إن انتشار محاولات تصحيح التردي وانتقاد البدع تقريبا في كل منطقة من المناطق الإسلامية لم يكن ناتجا عن التاريخ وحده، وكان نجاح العلماء في كل منطقة في هذا الشأن معتمدا على الظروف الاجتماعية والسياسية المحلية. وعلى الرغم من أن جماعات مثل قاضي زاده استخدمت الاتهام بالابتداع المنحرف عن السنة النبوية كوسيلة لانتقاد منافسيها الصوفيين أصحاب الامتيازات، فقد كان الصوفيون أنفسهم هم عادة من استخدموا السنة والشريعة لانتقاد صوفيين آخرين. وفي بعض الحالات، كان هذا جزءا من أشكال عقائدية أطول عمرا مدعومة من طرق معينة لطالما أكدت على أهمية الالتزام بالشريعة مهما كان تواصل الفرد الخاص مع الله باعثا على النشوة. وبدلا من أن تشهد فترة أوائل العصر الحديث ككل تلاشي الصوفيين تحت وطأة هجوم طبقة منفصلة من العلماء، على الرغم من المواءمات مع أنظمة الدول الأكثر قوة (أو حتى بسببها أيضا)، فقد شهدت من تمبكتو إلى سولاويسي تزايدا في انتشار النفوذ الصوفي على حياة المسلمين بدلا من تضاؤله. وبينما لم يكن الصوفيون بلا معارضين، فإنهم كانوا على الرغم من ذلك الطبقة الدينية المسيطرة إلى حد كبير.
الفصل الرابع
من الاستعمار إلى العولمة (1800-2000)
(1) تمهيد
ليست الصوفية باستثناء للقاعدة العامة التي تقضي بضرورة وضع تأثير الاستعمار الأوروبي في الاعتبار عند فهم أي جانب من جوانب التاريخ الإسلامي الحديث. ففي حين شهد النصف الثاني من القرن الثامن عشر وقوع أعداد كبيرة من المسلمين تحت السيطرة الأوروبية في شبه جزيرة القرم والبنغال في حالة الإمبراطورية الروسية، و«إمبراطورية الشركة» المتمثلة في شركة الهند الشرقية البريطانية، فإن القرن التاسع عشر شهد أكبر توسع أوروبي في المناطق الإسلامية. ومن المهم إدراك نطاق هذه التطورات.
1
فتحت أسماء إدارية مختلفة، تضمن الاستعمار البريطاني الاستحواذ التدريجي على ما يعرف اليوم بالهند وباكستان وبنجلاديش، وماليزيا وسنغافورة، ونيجيريا والسودان والصومال، وزنجبار وكينيا، وأوغندا وجنوب أفريقيا، ومصر، ولفترة أقصر فلسطين والأردن. وتحت أسماء متنوعة مماثلة، تضمن الاستعمار الفرنسي الاستحواذ على الجزائر وتونس والمغرب، والسنغال وموريتانيا ومالي، وتشاد والنيجر، ولفترة أقصر سوريا ولبنان. وتضمن الاستعمار الهولندي غزو أرخبيل الجزر الشاسع الذي يضم إندونيسيا حاليا. وتضمن الاستعمار الروسي غزو شبه جزيرة القرم ومناطق الفولجا، والقوقاز (لا سيما الشيشان)، والتوسع الهائل في وسط آسيا فيما يشكل الآن جمهوريات كازاخستان، وتركمانستان، وأوزبكستان. علاوة على ذلك، عاشت أعداد أصغر من المسلمين تحت الحكم النمساوي المجري في البلقان، وتحت الحكم الإسباني في شمال وغرب أفريقيا، بينما شهد التوسع الغربي لإمبراطورية تشينج في وسط آسيا حكم أسرة هان الصينية للمسلمين في المنطقة التي ظلت حتى يومنا الحاضر منطقة سنجان أويغور ذات الحكم الذاتي، التي يسيطر عليها الصينيون. وفي عشرينيات القرن العشرين، كانت أفغانستان وإيران والدولتان القوميتان الجديدتان المتمثلتان في تركيا والسعودية، هي المناطق الكبيرة الوحيدة التي نجت من الحكم الاستعماري، وإن كانت القوة الأوروبية فيها أيضا محسوسة بقوة، وإن كان على نحو غير مباشر.
في الفصل الثالث رأينا كيف كانت الصوفية عند تكوين الدول الجديدة والأوسع نطاقا في أوائل العصر الحديث كامنة في عدة مستويات في الحياة الاجتماعية والسياسية. وهذا الإسلام الصوفي الذي لم يكن ظاهرة «تصوفية» محدودة النطاق، أصبح من الناحية المؤسسية والعقائدية أساس المجال الإمبراطوري والزراعي والتجاري والبيروقراطي بجانب الديني. ورأينا أيضا كيف أنه بعد قرنين من الألفية الإسلامية الجديدة في عام 1591 انتشرت حملة تصحيح تطالب بالتجديد الديني، استخدمت فيها السنة النبوية والشريعة لمواجهة عملية التنويع التي حدثت في القرون السابقة. في بعض الحالات (كما في حالة الإمبراطورية العثمانية)، حدث انتشار هذه الصوفية الأكثر التزاما بالشريعة داخل إطار مؤسسات الدولة القائمة، بينما في حالات أخرى (مثل حالة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى)، أسهمت هذه الصوفية في تكوين دول حدودية جديدة. ولم يسفر تدهور أو انهيار الكثير من تلك الدول، وحلول الإمبراطوريات الأوروبية الممتدة عبر مناطق إقليمية متعددة محلها؛ عن تقليل النفوذ الصوفي على نحو فوري، بل على النقيض من ذلك، كانت التغيرات في السلطة مصحوبة بإعادة توزيع الموارد، وتكوين تحالفات جديدة؛ حيث سعت القوى الجديدة، سواء الاستعمارية أو المحلية، إلى كسب الشرعية النابعة من التعاون مع ورثة النبي الصوفيين. وفي فترة شهدت تغيرات اجتماعية وسياسية سريعة، اكتسبت استمرارية التقليد الذي يمثله الصوفيون رأسمالا رمزيا أكبر قدرا. وحتى عندما بدأ العلم الحديث يهدد مزاعم صحة أنماط المعرفة الإسلامية والمسيحية القديمة، كان يوجد الكثير من الصوفيين الذين رأوا فرصا في التقنية العملية للعلوم الجديدة. وفي مثالين من أبرز الأمثلة على ذلك ، أدى ظهور الطباعة في العالم الإسلامي منذ عشرينيات القرن التاسع عشر، والتوسع في السفر منذ خمسينيات القرن التاسع عشر عن طريق السفن والقطارات التي تعمل بالمحركات البخارية؛ إلى وصول الصوفيين إلى جماهير جديدة في أمريكا الشمالية وأوروبا، بالإضافة إلى مناطقهم القديمة.
على الرغم من ذلك، كانت توجد على المدى الطويل عدة نتائج للتغيرات الاجتماعية والسياسية الهائلة التي صاحبت الاستعمار التدريجي لمعظم أجزاء العالم الإسلامي. لقد كان الاستعمار مشروعا خطابيا إلى جانب كونه مشروعا مؤسسيا؛ ومن ثم تضمن مواجهة عنيفة مع أشكال المعرفة المحلية التي قابلها الأوروبيون. ولم تكن أشكال المعرفة الصوفية - بما في ذلك أسسها المعرفية القائمة على الرؤى والطقوس والوساطات - استثناء في هذا الشأن. وفي هذا السياق الاستعماري صاغ الإنجليز لأول مرة المقابل الإنجليزي لمصطلح «صوفية»، وذلك عندما زاد تفاعل الأوروبيين مع المسلمين في أماكن مثل البنغال.
2
في البداية كانت التعريفات والصفات التي أعزيت لهذا المصطلح إيجابية؛ وذلك بين ورثة التنوير المتحمسين أمثال السير ويليام جونز (1746-1794)، ويوهان فولفجانج فون جوته (1749-1832)؛ حيث كان يعتبر الصوفيون واحديين متسامحين لديهم ذوق رفيع في الشعر والموسيقى والخمر.
3
وحتى المسيحيون الإنجيليون أمثال المبجل هنري مارتن (1781-1812) - الذي يعد أول المبشرين في إيران - رأوا الصوفيين بطريقة إيجابية؛ إذ اعتبروهم متنورين على نحو كاف، يجعل تحولهم إلى المسيحية ممكنا. إلا أنه مع توسع الاستعمار مع مرور القرن التاسع عشر، أصبح من المحتمل وجود التفاعلات الأوروبية مع الصوفيين في ساحة المعارك، مثلما من المحتمل وجودها على صفحات الشعر الفارسي؛ ونتيجة لذلك، اكتسب مصطلح «الصوفية» - وبصفة خاصة المصطلحات المقترضة الدالة على المنتسبين لها مثل «فقير»، و«درويش» و«مرابط» و«مريد»، التي دخلت لغات مثل الإنجليزية والفرنسية والروسية - دلالات سلبية تمثلت في التعصب والاحتيال.
4
وعلى الرغم من ذلك، حتى في أوج العصر الاستعماري لم تكن التوجهات الأوروبية تجاه الصوفية سلبية على نحو موحد، وفي أواخر القرن التاسع عشر، أسفرت الاختلافات بين مختلف الأوروبيين حول الإسلام عن خلق تعريف للصوفية استمر حتى يومنا الحاضر. والسبب في ذلك يرجع إلى أنه بينما نظر السواد الأعظم من ممثلي الاستعمار إلى المسلمين كمتعصبين ، استخدم الجناح الأكثر ليبرالية - المتمثل في مفكري أواخر العصر الفيكتوري والعصر الإدواردي - خطاب التصوف الجديد الرائج لتصوير الصوفيين على أنهم المقابل الإسلامي لحكماء اليوجا والبوذية الأكثر مسالمة. وبهذا الأسلوب، سلط هؤلاء الباحثون الاستعماريون المتعاطفون الاهتمام على الأمور محل المقارنة والعامة، بدلا من التركيز على الأمور السياقية والخاصة. بالإضافة إلى ذلك، سعوا في ظل البيئة الجدلية المناهضة للإسلام التي كانوا يكتبون فيها إلى إثارة التعاطف مع المسلمين من خلال تهميش الأبعاد الإسلامية في الصوفية على نحو ينطوي على التناقض، وهذا التركيز على الجانب التصوفي والمتسامي في الصوفية تضمن أيضا تهميش الطقوس والمؤسسات الصوفية التي بدت «مرتبطة بالخرافات» أو «باباوية» على نحو مستهجن في عين البروتستانت أو غيرهم من الأوروبيين المناهضين للمؤسسات الدينية. وعلى نحو ينطوي على مفارقة، كانت العوامل التي همشها هؤلاء المدافعون عن الصوفية بنية حسنة لجعل الصوفية أكثر استحسانا لدى الجمهور الأوروبي والأمريكي، هي نفسها بالضبط تلك التي أبرزها في الوقت نفسه المصلحون المسلمون المناهضون للصوفية كأسباب تدفع المسلمين أنفسهم للتخلي عن التقليد الصوفي. والسبب في ذلك هو أنه في بداية القرن العشرين وجد كل من البعد المنتقد للصوفية والبعد المدافع عنها في التصور الاستعماري للصوفية صداه بين المصلحين المناهضين للصوفية من ناحية، وبين المجددين الصوفيين المحدثين من ناحية أخرى.
إذا كانت الفرص التي جاءت مع التعاون الاستعماري والتقنيات الصناعية تشير إلى ضرورة عدم اعتبار أن الصوفيين هم الخاسرون الواضحون في عصر الاستعمار والحداثة، فإنهم بالتأكيد ليسوا الجماعة الإسلامية الوحيدة التي انتهزت الفرص التي قدمتها الظروف الجديدة. فالنسق الذي بدأ كإصلاح صوفي فقهي التوجه في أوائل العصر الحديث نأى بنفسه تدريجيا مع مرور القرن التاسع عشر عن أصوله الصوفية تحت ضغوط الاستعمار، وأصبح حركة إصلاح مناهضة بشدة للصوفية، قدمت الصوفيين على أنهم العقبة الأساسية في سبيل تجديد الإيمان وليسوا الوسيلة له.
5
وتزايد الهجوم القديم على البدع في أواخر القرن التاسع عشر ليتحول إلى مطالبة بإصلاح كامل للإيمان، وكان هذا إلى حد ما استجابة لقراءة دينية للتاريخ رأت أن الاستعمار وانهيار القوة الإسلامية عقاب على الانحراف عن طريق الإسلام الحق. وفي كثير من الحالات السابقة كان قادة حركات الإصلاح هذه هم أنفسهم من الصوفيون، وكانت وسائلهم التنظيمية هي الطرق الصوفية، واعتمادا على تطورات القرن الثامن عشر من خلال مزايا السفر بوسائل النقل البخارية، أصبحت بعض هذه الطرق الإصلاحية عالمية النطاق حقا؛ فربطت أفريقيا وشبه الجزيرة العربية وجنوب شرق آسيا وأوروبا داخل إطار سيرة أفراد منفردين.
6
ونظرا لأن الأنماط الاستعمارية المتغيرة للتجارة العالمية خلقت حالات تدهور مقابلة في المناطق الخارجة عن السيطرة الاستعمارية، أو نظرا لأن ظروف الحكم الاستعماري عززت التحرر من سطوة القادة الصوفيين المتمرسين؛ تمكنت الطرق الإصلاحية من الاستفادة من المطالبة الجديدة بالتغيير الديني، مع التعهد في الوقت نفسه بتقديم النسخة الأصلية من التقليد الصوفي.
7
على الرغم من ذلك، وبالنظر في التجربة التاريخية المتمثلة في انهيار القوة الإسلامية، فإنه في أوائل القرن العشرين اتخذ المتحدثون الرسميون للحركات الإصلاحية الأخرى، والأكثر نجاحا في نهاية المطاف، خطوة كارثية تتمثل في ترك التقليد الصوفي بالكامل. ونظرا للخلفية الصوفية لكل كبار مؤسسي حركات الإصلاح المناهضة للصوفية، يمكن الزعم بأن الطرق الإصلاحية التي ظهرت في القرن التاسع عشر كانت بمنزلة حصان طروادة، الذي سمح بتفريغ الصوفية تدريجيا من الداخل؛ ففي فترة شهدت ظهور الحركات «الأصولية» في عدد من أديان العالم، زعمت حركات التجديد التي ظهرت في مناطق إسلامية مختلفة أن العودة إلى أسس الإسلام المتمثلة في الكتاب والسنة تتطلب التخلص من كل ما يقف بين المسلم المعاصر وبين القرآن والحديث. ونظرا لأن الصوفية هي مجموع الطقوس والتأملات والمؤسسات التي تكونت أثناء هذه القرون المتخللة - أي أنها تقليد - فقد كانت الضحية المطلوبة للعودة الإصلاحية المباشرة هذه إلى الأصول.
وجد هذا الرفض للتقليد مؤيدين كثر، خاصة بين الطبقة الوسطى من الحضريين والمتعلمين الذين مقتوا ما اعتبروه أبهة وامتيازات وفتورا وكسلا من جانب الصوفيين الذين عاشوا معتمدين على الشحاذة في الشوارع أو على المعاشات في عزبهم. وفي أوائل القرن العشرين، كانت تحولات الحداثة تخلق سكانا مسلمين جددا ، إما معزولين عن المؤسسات الصوفية القديمة المتمثلة في الأضرحة والطرق، وإما غير مرتبطين بها. وعن طريق المدارس الحديثة والأفكار العلمية، كانت تنتشر أيضا بين المسلمين المؤسسات وأنواع المعرفة الجديدة التي تجاهلت الصوفيين أو تحدت الأسس المعرفية لتعاليمهم، وكان هذا راجعا جزئيا إلى تأثير الاستعمار. وبالنسبة إلى كثير من المسلمين الذين نشئوا في هذه الظروف الجديدة مثل الصوفيون نوعا من الإسلام غير مناسب، إن لم يكن زائفا. ومع ظهور الحركات القومية المناهضة للاستعمار عزز قرب كثير من الصوفيين البارزين من القوى الاستعمارية أو من النخب غير المؤتمنة في المناطق الإسلامية القليلة المستقلة؛ الأبعاد المناهضة للصوفية، المميزة لهذا النوع من التدين المتحرر من الوهم.
على الرغم من ذلك، لم يكن هذا المسار المألوف بعض الشيء للحداثة المناهضة للتصوف سوى جزء من القصة، وعلى الرغم من التوقعات العلمانية لمنظري الحداثة في منتصف القرن العشرين، فإن الصوفية لم تختف في النصف الثاني من القرن في أعقاب نهاية الاستعمار؛ فعن طريق الحوار الجدلي للصوفيين مع منتقديهم الإصلاحيين والحداثيين ظهرت أيضا حركة مناهضة للإصلاح، حاولت إصلاح أو تحديث الصوفية بدورها. وفي حالات كثيرة، اختار المنتسبون لهذه الحركات المناهضة للإصلاح عدم وصف أنفسهم بالصوفيين المنتمين للطرق الصوفية، بل وصفوا أنفسهم - كما هو الحال مع الحركة البريلوية البالغة النجاح في الهند وباكستان - بالمسلمين الملتزمين المنتمين إلى «أهل السنة والجماعة»، الذين تعلموا في المدارس بدلا من المساكن الصوفية المميزة.
8
ومن ثم عند تتبع الورثة المعاصرين للتقليد الصوفي الذي يعود لقرون طويلة، يجب أن نضع في اعتبارنا أن كثيرا من هؤلاء الورثة اختاروا عدم وصف أنفسهم ب «الصوفيين». ومع تحول العصر الاستعماري إلى عصر عولمة ما بعد استعماري، لم تبق فقط المؤسسات الصوفية القديمة التي قاومت عواصف القرنين الماضيين من خلال التحالفات الذكية والاستثمارات المربحة، بل ظهرت أيضا في كاليفورنيا وكذلك في القاهرة أشكال جديدة من الصوفية راقت للاحتياجات والأذواق الحديثة، وكان من السمات الجذابة الضرورية لهذه الصوفية الجديدة تقديمها في صورة جديدة كممارسة «تصوفية» صرفة، متمثلة في مجموعة أساليب يحقق الفرد من خلالها التواصل الشخصي مع الله، دون المشتتات المتمثلة في الطقوس والمعتقدات؛ ومن ثم فإن هذه الصوفية المعزولة عن السياسة وعن جذورها الأصلية، والتي أصبحت تصوفا صرفا من خلال قطع علاقاتها بطوائف تبجيل الأولياء القائمة على الخرافة والدول الراعية «الفاسدة»، كانت نفسها نتيجة لعملية تاريخية متمثلة في الاستمرارية التراكمية للتقليد، التي طالها الرفض في النهاية هي وتأثير الأيديولوجيات الحديثة من قبل النقد الاستعماري والإصلاح الإسلامي. وكما سنرى في الصفحات المقبلة، فإنه فيما يتعلق برفض الصوفية وإعادة اختراعها، كان ظهور كل منهما في القرنين التاسع عشر والعشرين ردا على التجربة التاريخية في الفترة المعاصرة والسابقة له. (2) من المقاومة إلى التوافق: الصوفية تحت حكم الاستعمار، منذ حوالي عام 1800 إلى عام 1950
نظرا لأن تأثير الاستعمار على الصوفية يمكن تتبعه فعليا من خلال تفاعلات الإمبراطوريات الاستعمارية مع المؤسسات الصوفية والصوفيين، فإن الصفحات المقبلة ستركز كثيرا على هذه التفاعلات الملموسة إلى حد كبير قبل الالتفات إلى توجهات كل من الأوروبيين والمسلمين الذين استولوا على الصوفية أو رفضوها، أو أعادوا اختراعها بطرق مختلفة في عصر ما بعد الاستعمار. في العموم، يمكن رؤية تاريخ التفاعلات الاستعمارية مع الصوفيين على أنه نسق ثنائي الاتجاه، يقوم على الثورات على الاستعمار والتحالفات المؤيدة له، وهذا النسق يمكن رؤيته في حالات كثيرة كتطور تدريجي لثورات فاشلة سمحت بتحالفات قائمة على التفاوض.
9
لذلك، في أوقات مختلفة لم تقمع الإمبراطوريات الأوروبية الصوفيين فقط، بل ناصرتهم أيضا في بعض الأحيان. وكما هو الحال مع التفاعلات السابقة التي تتبعناها بين الصوفيين والإمبراطوريات الإسلامية السابقة للاستعمار، فمن أجل فهم نوعي السياسات التي انتهجهما الاستعمار يجب أن ندرك الاختلافات الداخلية بين الصوفيين أنفسهم، نظرا لاختلاف ردود أفعال الصوفيين باختلاف أنواعهم تجاه الوجود الاستعماري، واختلاف معاملة الحكام الاستعماريين لهم في المقابل. في العموم، بدأ سياسة التمرد والمقاومة صوفيون هامشيون نسبيا، كانوا يقودون أتباعا قليلين أو يحظون بسلطة قليلة موروثة قبل قيادة التمردات التي قاموا بها. واستمرارا لنهج القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، مال أيضا هؤلاء الصوفيون المتمردون للانتماء إلى الاتجاه الشرعي الذي كان في الغالب مهما للمسلمين وللطبقة الاستعمارية الحاكمة على حد سواء. وعلى النقيض من ذلك، كانت سياسة التحالف والتوافق ينتهجها صوفيون راسخون يمتلكون بالفعل السلطة والمكانة في مجتمعاتهم المضيفة، بالإضافة إلى الأراضي الممنوحة لهم من قبل القوى ما قبل الاستعمارية. وفي بعض الأحيان، يمكن ملاحظة عملية تحول بين هذين الطرفين؛ نظرا لأن ورثة الصوفيين - الذين اكتسبوا الأتباع والمكانة من خلال قيادة التمردات التي كانت غير ممكنة الاستمرار في نهاية المطاف - كونوا تحالفات مع القوى الاستعمارية نفسها التي هزمت آباءهم أو أجدادهم. (2-1) الإمبراطورية البريطانية
مع زحف الإمبراطورية البريطانية على المناطق الإسلامية في شمال الهند في بداية القرن التاسع عشر، كانت أبرز حركات «المقاومة» التي واجهتهم على نحو مباشر هي حركة الجهاد بقيادة سيد أحمد بريلوي (1786-1831)، وعلى الرغم من أن بريلوي يعتبر أحيانا مناهضا للصوفية، أو «وهابيا»، فقد تلقى تعليما صوفيا على يد الصوفي النقشبندي شاه عبد العزيز الدهلوي (المتوفى عام 1823)، ابن شاه ولي الله الدهلوي (المتوفى عام 1763)، الذي رأيناه في الفصل الثالث يدعم مكانة الشريعة في الحياة الصوفية.
10
الأمر المهم في بريلوي هو تبنيه مصادر التقليد الصوفي من أجل تأسيس حركة جديدة سماها «الطريقة المحمدية» (في محاكاة للاستخدامات السابقة للاسم المذكور)، وعلى الرغم من أن بريلوي انتسب إلى العديد من الطرق الصوفية التي كانت موجودة من قبل (مثل الجشتية والنقشبندية)، فيبدو أن هدفه من تأسيس الطريقة المحمدية كان إنشاء مؤسسة جامعة قادرة على جذب الأتباع من أي من الطرق الموجودة، عن طريق زعم أنها «الطريقة» النبوية الأصلية. وعلى الرغم من إعلان بريلوي انفصاله عن الطرق القائمة، والاتهامات الشرسة بالابتداع التي وجهها هو وأتباعه إلى منافسيهم الصوفيين، فإن الطريقة المحمدية تبنت الكثير من الأساليب التنظيمية والمعتقدات الصوفية، فكان أعضاؤها ينتسبون لها عن طريق البيعة الصوفية المعروفة، ويدرجون في السلسلة الروحانية. وإذا كانت تلك المؤسسة تقدم الشريعة على أنها أساس التقوى الإسلامية، فقد ظلت تعلم أنماط الذكر الصوفية.
11
ومن الناحية التنظيمية، كانت هذه الطريقة تحاكي هيكل الطرق الموجودة سابقا؛ من حيث إنها كانت تدار من قبل الولي المحوري صاحب الشخصية الجذابة سيد أحمد بريلوي، وخلفائه المعينين المعروفين. ونظرا لفرض السيطرة البريطانية على دلهي عام 1803، وأسفار بريلوي وأتباعه البارزين إلى كبرى المدن الاستعمارية مثل كلكتا وبومباي، أدرك أتباع الطريقة المحمدية تمام الإدراك غلبة السلطة «المسيحية» الجديدة على الأراضي المغولية القديمة، وفي منتصف مسيرة بريلوي، أصبحت خسارة السلطة الإسلامية هذه تحتل مكانة محورية في فكره. وعندما عاد بريلوي من الحج في مكة في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر، مشبعا بحماس جديد لقمع «البدع» التي تسللت إلى الإيمان، تعهد بتأسيس دولة إسلامية جديدة قائمة على الالتزام بالشريعة. وأثناء وجوده في مكة، كان اثنان من أتباعه قد سافرا بالفعل إلى كلكتا لاستخدام التقنية الاستعمارية التي كانت تتطور هناك من أجل الطباعة باللغات الإسلامية، وفي عام 1823 نشرا كتاب «الصراط المستقيم» الذي ضم تعاليم بريلوي.
12
ولما كانت الطباعة تمثل تحولا في وسائل نقل المعرفة الصوفية من الأنماط القديمة المتمثلة في التلقين والتداول المحكوم للمخطوطات، فإن طباعة هذا الكتاب تشير إلى التفاعل المعقد بين الصوفيين المناهضين للاستعمار، والفرص الجديدة التي أتاحها الحكم الاستعماري للجماعات الدينية. ونظرا لأن معظم الكتاب كان مخصصا لمهاجمة البدع الآثمة للصوفيين الأكثر شهرة من منافسي بريلوي، فقد كانت توجد مفارقة معينة في الاستخدام الاستراتيجي للتقنية الجديدة التي اعتبرها علماء مسلمون آخرون بدعة في حد ذاتها. وعلى الرغم من سعادة بريلوي باقتباس تقنية الطباعة هذه، فإن الموقف الذي اتخذه تجاه التوسع البريطاني (وظهور مملكة رانجيت سينج السيخية في البنجاب)، كان موقف مواجهة وليس موقف مواءمة. وعلى غرار دول «الجهاد» الأخرى التي سنشهد فيما يلي تكونها في الوقت نفسه على حدود الحكم الفرنسي والحكم الروسي، فإن بريلوي في منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر وطد أقدامه على حدود سلطة الدولة الاستعمارية في الأطراف الشمالية الغربية من شبه القارة الهندية، ومن هناك شن حربا على المملكة السيخية، وكان هدفه النهائي الوصول إلى الأراضي البريطانية التي كانت تضم حينها دلهي العاصمة القديمة للمغول . مني هذا الجهاد بالفشل، وفي عام 1831 استشهد بريلوي في معركة ضد قوات رانجيت سينج. وعلى الرغم من ذلك، اعتقد أتباعه أنه لم يمت بل انسحب إلى أحد الكهوف التي سيعاود الظهور منها سريعا في صورة «المهدي المنتظر»، الذي يدل على نهاية العالم. ونجد أن تحولات بريلوي في حياته وفي مماته من صوفي نقشبندي إلى مؤسس الطريقة المحمدية ومحارب مجاهد، وإلى مهدي منتظر في نهاية المطاف، تظهر الاتجاهات الجديدة التي يمكن أن يتوجه إليها التقليد الصوفي على أطراف التوسع الاستعماري.
وعلى مدار العقود التالية، وجدت روح مقاومة حكم «الكفار» للمسلمين - التي أوجدها بريلوي - العديد من المنافذ الأخرى لها (وإن كانت هامشية على نحو متزايد) في الهند، وعلى الرغم من أن الانتفاضة الهندية الكبرى عام 1857 ضمت نطاقا من المشاركين الهندوس والمسلمين، أصحاب الأهداف المختلفة للغاية، فقد كان من بينهم أيضا مشاركون صوفيون. وفي حين أن المعلومات المتعلقة بحجم اشتراك الصوفيين في هذه الانتفاضة فقدت في خضم الحرب والدعاية، فإن أبرز الصوفيين المؤكد أنهم شاركوا في القتال في هذه الانتفاضة كان الشيخ الجشتي الحاج إمداد الله (المتوفى عام 1899)، الذي لجأ إلى مكة بعد فشل الانتفاضة على غرار عدد من المتمردين الآخرين، وفي المنفى كتب رسائل بالفارسية عن التأمل الصوفي مثل «ضياء القلوب». وفي إشارة إلى تحول المقاومة إلى الداخل نحو المساحة الشخصية المتمثلة في الجسد المسلم، كتب إمداد الله قصائد بالأردية تمدح «الجهاد الداخلي» ضد جسد وروح المرء.
13
وفي الهند نفسها، نجد أن الكثير من الصوفيين البارزين المرتبطين بشاه ولي الله والحاج إمداد الله والنقشبنديين الدهلويين، الذين رأيناهم يؤسسون الطريقة المحمدية في الفصل الثالث، تبنوا استراتيجية التجنب بدلا من التعاون. لحق بعضهم بالحاج إمداد الله في مكة، أو انتقلوا إلى الولايات الأميرية الهندية الإسلامية الحكم؛ مثل ولاية حيدر أباد، وكون البعض الآخر نظريات تفصل الشريعة (ومن ثم، حياة المسلم في العموم) عن كل ما يتعلق بالدولة الاستعمارية، وذهب البعض إلى حد بعيد تمثل في منع أتباعهم من ارتداء القبعات والأحذية ذات العنق الطويلة البريطانية الطراز.
14
وفي حالة شبكة المدارس الديوبندية في جنوب آسيا، التي تطورت تدريجيا عن المدرسة التي أسسها أتباع المصلح الصوفي المناهض للاستعمار الحاج إمداد الله عام 1867، حذفت الأصول والانتماءات الصوفية لمؤسسي المدارس تدريجيا من تاريخها؛ كنوع من الهجوم على جوانب الاحتفالات الشعبية والجوانب القائمة على الأضرحة من التقليد الصوفي، والذي قد تطور تدريجيا ليصبح هجوما على الصوفية ككل.
15
وإذا كان التجنب أكثر جدوى من التمرد في بلدات السهول، ففي الأطراف الجبلية لشبه القارة الهندية، تمكن الشيخ الصوفي عبد الغفور (المتوفى عام 1877) من مقاومة التوسع البريطاني لمدة أربعين سنة تقريبا في الأراضي التي تمكن من تحويلها إلى إقطاعية صوفية خاصة به في سوات. وفي وقت متأخر في ثلاثينيات القرن العشرين، قاد الصوفي الجذاب «فقير إيبي» تمردا ضد قبائل وزيرستان على حدود الهند البريطانية مع أفغانستان،
16
أما في المنطقة الهندية الوسطى المسيطر عليها أكثر من قبل الاستعمار البريطاني، فلم توجد أي مقاومة صوفية بارزة معتمدة على العنف بعد عام 1858، وبدلا من ذلك سار الصوفيون الهنود على خطى الحاج إمداد الله في مكة، فأحكموا سيطرتهم على النطاق الخاص المتمثل في أجساد مريديهم وعقولهم.
17
إذا كانت المقاومة المباشرة أو غير المباشرة أحد جوانب الصورة في الهند، فإن التعاون كان الجانب الآخر؛ ففي منطقة متعددة الأديان كانت فيها العائلات الصوفية المتوارثة، التي ترعى أضرحة أسلافها الأولياء، تتلقى بسعادة الرعاية من الحكام الهندوس والسيخ، فإنه قبل ظهور الوعي القومي الهندي الجديد منذ بداية القرن العشرين لم يكن يوجد شيء استثنائي في استعداد تلك العائلات لتلقي الرعاية المباشرة أو الحماية المباشرة لمصالحها من البريطانيين المسيحيين.
18
ونظرا لأن كل الدول الاستعمارية بحثت عن وسطاء محليين متمتعين بالنفوذ ليكونوا وسيلة لبسط سلطتها على الشعوب، بدت عائلات الأضرحة الصوفية المتوارثة في شمال الهند بصفة خاصة مرشحا مثاليا، وعن طريق ممارسة البيعة المميزة للصوفية، حصلت تلك العائلات الصوفية المتوارثة على ولاء آلاف الأشخاص؛ نظرا لأن عائلات بأكملها جعلت تلك البيعة جزءا من نسيج ممارسة الأسلاف. وفي حالات كثيرة، عزز روابط الولاء تلك أن العديد من الشيوخ الصوفيين كانوا أيضا يتحكمون في أقوات كثير من أتباعهم؛ حيث كان هؤلاء الأتباع موظفين في ممتلكاتهم الزراعية؛ ففي أواخر القرن التاسع عشر، كان ضريح بابا فريد كنج شكر الشيخ الجشتي، الذي يعود لفترة القرون الوسطى في باكباتان في البنجاب، يسيطر على ما لا يقل عن 43 ألف فدان من الأراضي في منطقة واحدة فقط؛
19
ومن ثم، فإن حاجة هؤلاء الصوفيين الملحة إلى الحفاظ على الأراضي المملوكة لهم، عن طريق استمرار اعتراف الدولة بشرعيتهم، جعلتهم يحتاجون إلى البريطانيين قدر احتياج البريطانيين لهم. ثبت أن هذه الشراكة ممتازة لكلا الطرفين (وإن لم تكن كذلك بالضرورة للفلاحين الموجودين في الخلفية). ومع مرور الوقت، وصل الأمر بهذا التحالف إلى تعيين الصوفيين المتوارثين في المجالس الإقليمية الاستعمارية، وتعليم ورثة الصوفيين في أرفع المعاهد وكليات الحقوق الاستعمارية، ودخولهم إلى السياسة الحزبية الحديثة عندما التحق كثير من العائلات الصوفية بالحزب الاتحادي الداعم للحكم البريطاني.
20
وعلى غرار الدول الإسلامية السابقة، في هذه التحالفات فضلت الإمبراطورية البريطانية في الهند نوعا معينا من الصوفيين، وكانت توجد مواصفات معينة لأنواع الصوفيين الذين ستشجعهم الإمبراطورية من أجل الوصول إلى العوام المزارعين في البنجاب، أو الحفاظ على الروح المعنوية للجندي المسلم في جيش الاستعمار، وهذه المواصفات هي أن يكونوا متسمين بالصحو، بالإضافة إلى إمكانية توقع تصرفاتهم، وكذلك اعتمادهم على المعرفة المأخوذة عن الكتب الصوفية.
21
وإذا كانت الصوفية المرتكزة على الأضرحة تمثل تدهورا متدنيا من عصر ذهبي مثالي للتصوف الحقيقي بالنسبة إلى كثير من المعلقين الاستعماريين (وبالنسبة إلى المصلحين المسلمين الذين حذوا حذوهم)، فإن حقيقة الأمر تمثلت في أن الأضرحة والأراضي المملوكة كانت الأسس المؤسسية الأساسية اللازمة لنقل التقليد الصوفي؛
22
فقد كانت الأضرحة - والمكتبات والمساكن والمدارس التي كانت ملحقة بها عادة - هي الترسيخ الفعلي للتقليد في البيئة الحضرية السكنية. إلا أن التقليد كان يتسم بالهشاشة؛ ومن ثم، فعندما نزعت ملكية بعض الأضرحة الهندية أو دمرت - سواء من خلال أحداث العنف عام 1857، أو التدهور التدريجي في قيمة الأوقاف - اختفت معها قرون من المعرفة الصوفية المحلية التي نقلتها عبر الأجيال. وعندما كتب أحد أصدقاء الشاعر الذي يكتب بالأردية ميرزا غالب (المتوفى عام 1869) خطابا يطلب منه الكتب الصوفية التي كتبها شاه كليم الله، أجابه غالب قائلا: إنه لا يجد من يطالبه بإرسال كتابات هذا الولي؛ نظرا لنهب ضريحه أثناء حصار دلهي عام 1858، وهروب ساكنيه في ظل هذه الفوضى.
23
وكما كان يعلم غالب جيدا، فإن تقاليد الصوفيين كانت تحفظ وتنقل من خلال الأحياء، ومن أجل فعل ذلك كان يحتاج هؤلاء الأشخاص إلى تأمين مؤسساتهم؛ ولذلك، فيما بين العنف الذي صاحب إعادة الاستيلاء على دلهي عام 1858، وإبرام التحالفات مع الصوفيين ملاك الأراضي في الريف، أطاح الاستعمار بعناصر مختلفة من التقليد الصوفي في الهند تارة، وعززها تارة أخرى.
وحتى في الأماكن التي لم يساعد فيها الاستعمار الصوفيين أو يعيقهم على نحو مباشر، أوجدت مجموعة كبيرة من الظروف الاجتماعية التي تسبب فيها الحكم الاستعماري فرصا جديدة كبيرة للصوفيين. كان انتشار الطباعة من الأمثلة التي ذكرناها سابقا، وقد ساعد كثيرا في التغلب على توقف بعض أشكال التواصل الشخصي ونسخ المخطوطات التي كانت تتم فيما سبق في مؤسسات الأضرحة، وكانت من خلالها تنقل التعاليم الصوفية في عصر ما قبل الاستعمار. ونظرا لأن الناشرين الهنود وجدوا أنهم يستطيعون جني المال من طباعة الأعمال الصوفية الكلاسيكية، فقد أصبحت نسخ شعر الرومي أو السير الذاتية للأولياء التي كتبها الجامي تباع بسعر زهيد، مقارنة بتكلفة المخطوطات اليدوية التي كانت تكتب سابقا. وبسبب هذا القدر الهائل من الأرباح، أصبح رجال الأعمال من كل الخلفيات مستعدين للاستثمار في هذا المجال، وكان أهم من طبع الأعمال الصوفية في الهند في القرن التاسع عشر (وربما في العالم الإسلامي كله) هو الناشر الهندوسي نوال كيشور (1836-1895)، الذي كانت تصدر أعماله أيضا إلى أماكن بعيدة مثل إيران وأفريقيا وآسيا الوسطى.
24
ومع مرور الوقت، خلق الصوفيون في الهند (وفي كل مكان في النهاية) أنواعا أدبية جديدة مطبوعة لنشر أفكارهم إلى جماهير المجال العام الجديدة، التي تقرأ الأعمال المطبوعة، وكانت «المجلة» الصوفية أحد هذه الأنواع الجديدة، والتي من أمثلتها المجلة المكتوبة بالأردية «أنوار القدس» التي نشرت فيما بين عامي 1925 و1927 على يد محمد ذوقي شاه (المتوفى عام 1951)، رائد الأعمال الصوفي الجشتي.
25
عززت منافذ المناقشة الجديدة الرخيصة هذه انتشار الأفكار والممارسات الجديدة؛ فلم يتوارث فحسب تقليد الشيوخ القدماء، بل أعيد أيضا تفسيره وأضيف إليه، فوجدت ممارسات هامشية في السابق مثل ممارسة «تصور الشيخ»، القائمة على تأمل صورة شيخ المرء، رواجا غير مسبوق بسبب انتشار الصور الفوتوغرافية للشيوخ الصوفيين.
26
بالإضافة إلى ذلك، استخدمت محاولات المبشرين المسيحيين لتحويل المسلمين الهنود إلى المسيحية لصالح الصوفيين؛ حيث إن آلة الأرغن المحمولة ذات المفاتيح التي استخدمها المبشرون في غناء تراتيلهم، استخدمها الصوفيون في غناء أغاني «القوالي» الصوفية؛ مما أدى إلى بث حياة جديدة في «محافل السماع» التي شهدنا ظهورها في خراسان منذ ألف سنة. وفي عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وصلت موسيقى القوالي الصوفية إلى عدد أكبر من الجماهير، من خلال تسجيل الأسطوانات واستخدامها في السينما الغنائية الهندية الناشئة.
27
وبسبب السمات الجذابة للموسيقى ورغبة الغرب في التعرف على «الشرق التصوفي»، التي كانت نتيجة فرعية لتكوين الإمبراطورية، نجد في حالة عنايت خان (1882-1927) موسيقيا صوفيا هنديا يستخدم طرق السفر الصناعية الجديدة للإبحار من بومباي إلى لندن ثم إلى نيويورك، وفي نيويورك أصبح من أوائل من حملوا المعتقدات الصوفية إلى الجمهور الأمريكي.
28
وتعد مدينة بومباي الصناعية الكبرى نموذجا للفرص التي نالها الصوفيون؛ بسبب التغيير الذي أحدثه الاستعمار، فقد تزامنت هجرة عدد هائل من القوى العاملة الريفية المسلمة للعمل في مصانع وترسانات بومباي، مع وصول شيوخ صوفيين إليها من كل أنحاء المحيط الهندي، وتوفر السفر عبر وسائل النقل البخارية والطباعة باللغات المحلية لنشر رسالتهم.
29
ومكنت البنية التحتية الصناعية لبومباي الشيوخ الصوفيين الإيرانيين، وكذلك العرب والهنود، من الإنتاج الواسع النطاق لملخصات تعاليمهم، والإعلانات الخاصة بقدراتهم الإعجازية، وذلك باللغات المحلية؛ فكان ذلك عامل جذب لتبعية العمال متقاضي الأجور في بومباي نفسها، وكذلك جماهير مسلمة أكبر عددا كان سبيل الوصول إليها هو شبكات الاتصال الخاصة بمدينة بومباي في أماكن بعيدة؛ مثل جنوب أفريقيا وإيران. وسواء من بومباي أو من غيرها من موانئ الاستعمار البريطاني كما في حالة سنغافورة، نجد أن الصوفيين استغلوا هذه التقنيات الصناعية، ومن خلالها حصلوا على ولاء أتباع جدد (وتنافسوا على نحو متزايد على كسبه). وفي عصر بلغت فيه هجرة العمالة مبلغا هائلا، كان تأسيس فروع لأضرحة الأسلاف الصوفيين أو طباعة قصص معجزاتهم الباعثة على الطمأنينة، يقدم السلوى التي تهون معاناة العمل الشاق التي كان يتكبدها هؤلاء الأتباع الجدد، الذين كان من بينهم مزارعون وعمال مناجم هنود هاجروا بعيدا عن وطنهم. ونرى أمثلة ذلك في تأسيس ضريح في بينانج في ماليزيا في أوائل القرن العشرين لشاه عبد الحميد، الصوفي الشهير ولي المسلمين التاميليين، وتأسيس ضريح لصوفي صاحب (المتوفى عام 1911) في ديربان، ذلك المبشر الصوفي المبعوث إلى العمال الهنود العاملين بعقود طويلة الأجل في ناتال.
30
وعلى هذا النحو، خلق انتشار الرأسمالية تحت الإدارة الاستعمارية متطلبات وفرصا جديدة للصوفيين؛ لأن التغيرات السريعة في حياة الأشخاص العاديين زادت من تعطشهم لاستقرار التقليد، والروابط التي يمنحها للتراث الذي بدا وكأنه يفلت من بين أيديهم مع بعد المسافات.
وإذا انتقلنا إلى المستعمرات البريطانية في أفريقيا، فسنجد أنماط مقاومة وتعاون مشابهة، خلقت بدورها فرصا للشيوخ الصوفيين الجدد؛ فعلى سبيل المثال: في الصومال، أدى تمرد محمد بن عبد الله حسن (1856 / 1864؟-1920) إلى تأسيس «دولة دراويش» قصيرة الأجل، استخدمت فيها - على غرار دول الجهاد في المناطق الأفريقية الأخرى في فترة ما قبل الاستعمار - مؤسسات وسلطة الطريقة الصوفية في تكوين نظام دولة هرمي ومركزي حول الشيخ الصوفي، تقوم إدارته على تفسير هذا الشيخ للشريعة.
31
ولم يكن النفوذ البريطاني هو فقط ما عارضه محمد بن عبد الله حسن؛ فنظرا لأنه أثناء حجه إلى مكة انتسب إلى الطريقة الصالحية الجديدة، التي أسسها الصوفي السوداني المنفي محمد بن صالح (المتوفى عام 1917 أو 1919)، فقد كان معارضا أيضا للمؤسسة الصوفية القادرية التي كانت قائمة من قبل، وكان يرى أن أعضاء هذه الطريقة متهاونين في التمسك بالشريعة، ويبالغون في قبول تأمل الأولياء الأموات.
32
ونظرا لأن أويس محمد البراوي (1847-1909)، الذي كان الهدف الأساسي في الطريقة القادرية لانتقادات محمد بن عبد الله حسن، كان يجمع أتباعه لقيادة المقاومة ضد الاستعمار الألماني في تنجانيقا (تنزانيا حاليا)، فربما يبدو هذا العداء المدمر ذا نتائج عكسية، إلا أنه كان جزءا من الصراعات العرقية المحلية والمنافسة على الأتباع، التي شكلت خلفية النضال ضد الأوروبيين.
33
وعلى الرغم من ذلك، لم تكن جاذبية محمد بن عبد الله حسن كافية في النهاية للصمود في وجه هجوم استعماري جديد نقلت فيه أسلحة طورت أثناء الحرب العالمية الأولى - تمثلت في البنادق الآلية من طراز فيكرز، وقاذفات القنابل من طراز هافيلاند دي إتش 9 - إلى الساحة الترابية الموجود بها هذا «الملا المجنون»، وعلى الرغم من هزيمته، فإن الشعر الذي ألفه باللغة الصومالية جعل ذكراه وإلهامه يلعبان دورا قياديا في تكوين القومية الصومالية.
34
وعلى نسق سنراه واضحا فيما يلي في سياقات استعمارية أخرى، فإن التوترات السياسية التي سببها الاستعمار قدمت فرصا للشيوخ الصوفيين الجدد، هؤلاء الساعين إلى تحدي الطبقة الدينية المسيطرة؛ فعلى سبيل المثال: أفرز أيضا التغير الاجتماعي السريع الذي شهدته الموانئ العالمية إلى حد كبير على الساحل الصومالي، وكذلك انتشار طرق التجارة في الداخل؛ جماهير جديدة للشيوخ الصوفيين الطموحين، الذين قدموا «حلولا إيمانية» لحالات الانهيار الاجتماعي التي صاحبت دخول الأفارقة إلى معترك الرأسمالية العالمية.
35
في شمال وغرب أفريقيا نجح التوافق بين البريطانيين والصوفيين أصحاب النفوذ في تجنب حدوث تمرد، من خلال انتهاج مسعى المصالح المشتركة على نحو محاك لما رأيناه في الهند؛ ففي مصر وحتى قبل وصول البريطانيين، أسس الحاكم المصري محمد علي، في وقت مبكر يعود لعام 1812، هرمية رسمية مدعومة من الدولة من الصوفيين البارزين،
36
وفي فترة شبه استعمار مصر من قبل البريطانيين عام 1882، نجد أن عبد الباقي البكري الرئيس الرسمي لهرمية الطرق الصوفية المصرية، الذي كان معتادا بالفعل على العمل مع القوى الحاكمة بدلا من مناهضتها، أقام مأدبة كبيرة على شرف الجنرال السير جارنت ولسلي، قائد القوات البريطانية.
37
وعام 1903 على مكانة أعضاء الهرمية الصوفية وامتيازاتهم، وأسفرت هذه الامتيازات الناتجة عن هذه المكانة الراسخة عن أنواع جديدة من التفاعلات بين النخب الصوفية ونظرائهم الاستعماريين، وعلى غرار ما حدث في الهند، أدت هذه التفاعلات إلى ظهور وسائل جديدة للتعبير عن التقليد الصوفي. وفي حالة قوت القلوب (1899-1968)، وهو اسم الشهرة لوريثة العائلة الدمرداشية الصوفية المصرية، أدت هذه التفاعلات إلى تأليفها عددا من الروايات الفرنسية من منفاها في أحد الفنادق الفاخرة في روما، وفي روايات مثل «ليلة القدر» (في إشارة إلى ليلة القدر المذكورة في القرآن)، احتفت قوت القلوب بالموالد الصوفية الشعبية بصفتها جوهر الثقافة القومية المصرية النابض بالحنين.
38
وعلى الرغم من كل حنينها، فإن ارتباطاتها بالمؤسسة الصوفية القديمة تسببت في نفيها على يد رفاقها من القوميين المصريين، الذين اعتبروها مثالا راقيا ولكن فاسدا على التدهور الصوفي الهائل.
شكل 4-1: الدراويش والإمبرياليون: المعركة بين المهدي السوداني والبريطانيين، عام 1885 (الوقفة الأخيرة للجنرال جوردون، صورة من كتاب كاسيل «تاريخ إنجلترا المصور لكاسيل» (نقش) (صورة بلون البني الداكن)، المدرسة الإنجليزية (القرن العشرين)/مجموعة الصور الخاصة/مجموعة ستابليتون/مكتبة بريدجمان للفنون).
وفي السودان المجاور، أصبح كثير من الصوفيين من أتباع الحركة المهدية الألفية، التي أسست في الفترة ما بين عامي 1881 و1898 دولة جديدة هرمية اعتمدت على بركة مؤسسها والشريعة. وهكذا نجد في هذا المثال الأفريقي على عملية دمج الاستعمار للمتمردين الصوفيين تدريجيا؛ أن الهزيمة والاستسلام جعلا ورثة الحركة المهدية في الجيل التالي يتفاوضون على قدر أكبر من النفوذ في المرحلة السياسية النهائية الخاصة بإنهاء الاستعمار والحكم المستقل في السودان.
39
على النقيض من ذلك، في غرب أفريقيا، عندما غزا البريطانيون خلافة سوكوتو عام 1903 في نيجيريا حاليا، نجد أن الصوفيين أتباع الطريقة التيجانية ساعدوا بالفعل البريطانيين في المعركة قبل أن يتقلدوا المناصب في الإدارة الاستعمارية من خلال نظام الحكم غير المباشر.
40
وبينما رأينا في الجانب الشرقي من الصحراء الكبرى محمد بن عبد الله حسن يعتمد على معتقد الجهاد في التحريض على التمرد في الصومال، اعتمد الصوفي التيجاني سيدو نورو تال في نيجيريا في الغرب على معتقد «المصلحة» البديل، ليقول إن التمرد على الغازي البالغ القوة لا يصب في مصلحة المسلمين؛ ومن ثم، يعد اعتراضا على إرادة الله.
41
في هذا الصدد، لا نرى فحسب أن الصوفيين كانوا قادرين على حماية مصلحة مجتمعاتهم الأوسع نطاقا، وليس فقط مصالحهم الشخصية، بل نرى أيضا أن الإسلام يقدم مجموعة كبيرة بالقدر الكافي من المعتقدات التي استخدمتها المرجعيات الصوفية في الدفاع عن التعاون مع الاستعمار أو مقاومته. وفي حين كانت توجد عمليات مشتركة في ردود الأفعال الصوفية تجاه الاستعمار، فإنه لم يوجد موقف عقائدي صوفي واحد في مسألة الاختيار ما بين مقاومة الحكم الاستعماري وقبوله. (2-2) الإمبراطورية الفرنسية
واجهت الإمبريالية الفرنسية في شمال وغرب أفريقيا نطاقا مشابها من المواقف الصوفية؛
42
ففي عام 1830 قوبل غزو فرنسا للجزائر بحركة مقاومة قوية بقيادة الصوفي المنتمي للطريقة القادرية عبد القادر الجزائري (1808 -1883)،
43
وعلى غرار كثير من قادة المقاومة الصوفية الآخرين، بدأ عبد القادر حياته المهنية كشخصية هامشية بدلا من أن ينشأ في أسرة صوفية ذات نفوذ، ولم يكتسب الشهرة إلا أثناء العقد الذي قضاه في تحدي الفرنسيين. إن عبد القادر في استخدامه هياكل الطريقة الصوفية في تأسيس إدارة قائمة على الشريعة في الأراضي النائية الصحراوية، الواقعة تحت السيطرة الفرنسية، عكس أنماطا أوسع نطاقا للصوفيين الذين أسسوا دولا في بيئات الحدود القبلية، التي لم تنجح الإمبراطوريات الإسلامية في أوائل العصر الحديث في استيعابها، وبعد استسلام عبد القادر في النهاية في عام 1847، قضى خمس سنوات مسجونا في فرنسا، وخلال هذا الوقت تراسل مع باحثين فرنسيين بارزين، ومن خلالهم عرف الكثير عن أوجه التقدم العلمي في أوروبا، وبعدما أقسم على عدم التمرد مرة أخرى أطلق سراحه عام 1852 وأعطي معاشا كبيرا، وسمحت له السلطات العثمانية بالاستقرار في دمشق؛ حيث سيكون أقل إثارة للمتاعب بدلا من الإقامة في العاصمة إسطنبول التي تتوفر بها وسائل الاتصال على نحو أفضل. وفي دمشق خصص العقود المتبقية من حياته لتأليف عمله «كتاب المواقف»، الذي سعى فيه إلى إحياء تعاليم منظر الصوفية الكبير المنتمي لفترة العصور الوسطى ابن عربي، وتقديمها لزمن كانت فيه حتى المعرفة المستلهمة من الله تحتاج إلى أدلة مادية لتأكيد صحتها.
44
وعندما مات عبد القادر عام 1883 دفن بجوار ابن عربي في الضريح الذي شيده الإمبراطور العثماني سليم الأول قبل ثلاثة قرون، وكان أتباعه في الجيل التالي - الذين أضافوا إلى تعاليمه وعكسوها في النهاية - من ضمن مؤسسي الحداثة الإسلامية الجديدة، الذين نبذوا في النهاية التقليد الذي حاول عبد القادر أن يجعله مستساغا بالنسبة إلى العصر الحديث.
45
وعلى الرغم من هزيمة عبد القادر ونفيه، فإنه لم يكن على الإطلاق آخر صوفي من شمال أفريقيا يناهض الاستعمار الفرنسي في المنطقة؛ ففي المغرب المجاور الذي تفادى الحكم الفرنسي حتى عام 1912 بدأ الصوفي محمد الكتاني (1873-1909)، في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر، برنامجا دعائيا للمقاومة المعنوية والمادية للتدخل الفرنسي،
46
وعندما رأى الكتاني أن السلطان عبد الحفيظ بن الحسن أصبح بسبب الديون والتحالفات أكثر اعتمادا على الفرنسيين على نحو أدى إلى معاهدة فاس في عام 1912، التي قبل بمقتضاها الحكم الفرنسي للمغرب؛ أصبح الكتاني صوتا بارزا للمعارضة الدينية والسياسية لكل من الفرنسيين وتابعيهم من العائلة المالكة المغربية، ووسع الكتاني أتباعه من خلال طباعة سبعة وعشرين عملا من أعماله، حتى إنه أسس صحيفة بعنوان «الطاعون»، وبهذه الطريقة حول تقنية الطباعة - التي لم تقدم إلى المغرب من خلال أوروبا إلا في منتصف ستينيات القرن التاسع عشر - إلى أداة فعالة لترويج معارضة الاستعمار،
47
وإلى حد ما، كانت تلك استراتيجية تعبئة عالية الكفاءة؛ حيث شجعت أعدادا كبيرة من المغاربة على الاستعداد للجهاد، إلا أن حركة المقاومة تلك التي تقودها الصوفية انهارت في النهاية بعد إعدام الكتاني بأوامر ملكية عام 1909، واختيار خليفته في قيادة الطريقة الكتانية المتعاون مع الحكام الفرنسيين الجدد.
48
إذا كان عبد القادر والكتاني مثلا الجبهة المقاومة للفرنسيين؛ فقد اختارت شخصيات صوفية أخرى مثل خليفة الكتاني جني ثمار التعاون مع الاستعمار الفرنسي. ومن خلال النجاح في التعاون مع الفرنسيين دون الظهور بمظهر الخاضع للفرنسيين، نجح في تونس سيدي محمد بن أبي القاسم (1823-1897) في تأسيس مجمع زاوية كبير عند ملتقى طرق التجارة العابرة للصحراء الكبرى على أطراف الحكم الفرنسي، وضم المجمع مدرسة ودار إيواء كبيرين لأتباعه، الذين كان الكثير منهم يعملون في الأراضي الزراعية المروية جيدا، التابعة للزاوية في مقابل تنويرهم الروحاني.
49
ونظرا لانتساب سيدي محمد بن أبي القاسم للطريقة الرحمانية الجديدة نسبيا، فإنه لم يكن مجرد أحد الصوفيين الآخرين الذين ارتفعت مكانتهم في الحراك السياسي؛ فقد مثل أيضا اتجاهات جديدة في نقل التقليد الصوفي، فبدلا من نقل التراث الصوفي من خلال الطباعة أو كتابة الروايات، تمثل الاتجاه الجديد هنا في الزعامة النسائية؛ فعندما سمح سيدي محمد بن أبي القاسم لابنته لالة زينب (تقريبا 1850-1904) بخلافته كرئيسة للزاوية، اتخذ خطوة عملية، إن لم تكن كبيرة، في تحدي أنماط الزعامة الأبوية الصوفية القديمة. ومن خلال نقل هذا التوارث النسائي من الحدود إلى مركز الثقافة الاستعمارية الفرنسية، نقلت لالة زينب بدورها تعاليم صوفية معينة إلى الفنانة الرحالة السويسرية إيزابيل إيبرهارت (1877-1904)، التي مثلت القصص القصيرة التي كتبتها بالفرنسية النظير الأوروبي لروايات قوت القلوب الدمرداشية.
50
لم تكن لالة زينب وإيزابيل إيبرهارت على الإطلاق المثال الوحيد في الإمبراطورية الفرنسية على نقل المعتقدات الصوفية إلى المتعاطفين الأوروبيين مع الصوفية أو المتحولين منهم إليها؛ ذلك أن الحداثة الرأسمالية أنتجت متحمسين جددا للرسالة الصوفية في العواصم العالمية في أوروبا وفي الموانئ الصناعية المطلة على المحيط الهندي، ومثلما تحولت وسيلة نقل الرسالة الصوفية إلى الكتب المطبوعة القابلة للشراء في الهند، لعبت صناعة النشر في أوروبا أيضا دورا مهما في هذه العملية من خلال مكتبات مثل «مكتبة الروائع»، التي كان يديرها في باريس السويدي إيفان آجيلي (1869-1917)، الذي تحول إلى الصوفية، وأصبح اسمه الشيخ عبد الهادي عقيلي؛ فقد تجمع حول مكتبة آجيلي في أوائل القرن العشرين مجموعة رومانسية من السالكين الأوروبيين، الذين وجدوا تعاليم الصوفيين متشابهة مع تعاليم الفيدانتا الهندوسية والتاو تي تشينج. ومن خلال تأملاتهم الكونية والمشوشة في بعض الأحيان، ظهر هناك نوع من الصوفية يتسم بأنه هجين و«منسلخ عن الإسلام» في بعض الحالات ، نقل التقليد القديم إلى جمهور غربي جديد.
51
في بعض الحالات، كان يوجد نوع من النقل المباشر للتقليد إلى الأوروبيين، كما في حالة اللقاءات التي تمت بين إيبرهارت ولالة زينب، وبين مروج الصوفية السويسري فريتجوف شوان (1907 -1998) والصوفي الجزائري أحمد العلاوي (1869 -1934). وفي حالات أخرى أشهرها حالة الكاتب الفرنسي التابع للمدرسة «التقليدية» رينيه جينو (عبد الواحد يحيى 1886-1951)، كان التفاعل المباشر مع الصوفيين غير الأوروبيين قليلا جدا، ومثلت الكتب المطبوعة مصادر فكره الصوفي الأساسية. في جزء لاحق من هذا الفصل سنناقش مسارات هذه «الصوفية الغربية» في فترة ما بعد الاستعمار، أما النقطة الأساسية هنا فهي كيف أسفر دمج المجتمعات الإسلامية والمسيحية، في ظل الاستعمار الفرنسي في الأراضي التي سيطر عليها في شمال أفريقيا، عن زيادة الوعي بالصوفيين في أوروبا، من خلال إتاحة فرص جديدة تمثلت في السفر والتفاعل. وإذا كان يوجد قدر كبير من الرومانسية (وحتى «الاستشراق») في توجهات السالكين الأوروبيين، فقد كان يوجد أيضا قدر كبير من الصدق، وفي بعض الحالات التعاطف السياسي المناهض للاستعمار؛ فالرسام السويدي آجيلي لم يعتنق الإسلام اعتناقا كاملا فحسب، بل أيضا عندما انتقل إلى القاهرة التي كانت واقعة تحت الاستعمار البريطاني في أوائل القرن العشرين، انضم إلى اللاسلطوي الإيطالي إنريكو إنساباتو، وأحد القوميين المصريين الموالين للثائر الجزائري عبد القادر الجزائري يسمى عبد الرحمن عليش، وأسسوا مجلة ثنائية اللغة تصدر باللغتين العربية والإيطالية سموها «النادي»، وعلى صفحاتها الممنوعة، امتزجت تعاليم ابن عربي مع النظرية اللاسلطوية والسياسات المناهضة للبريطانيين.
52
وفي غرب أفريقيا الذي كان تحت الاستعمار الفرنسي، كان أحمدو بامبا مباكي (1853-1927) في السنغال المثال الأكثر إثارة على هذا التفاعل بين المقاومة والتوافق؛
53
فنظرا لأن مباكي ولد في أسرة صوفية تنتمي للطريقة القادرية في منطقة رأينا في الفصل الثالث كيف أسس فيها الصوفيون سلسلة من دول الجهاد، في العقود نفسها التي كان الفرنسيون يوسعون فيها سيطرتهم على الداخل السنغالي؛ فقد اكتسب ولاء مجموعة من الزعماء القبليين والأكابر المحليين. وفي أعقاب الثورة الجزائرية ونظام جمع المعلومات السرية المشبوه الذي اتبعه الحكم الفرنسي ، تعود المسئولون الاستعماريون على رؤية القادة «المرابطين»، قادة الطرق الصوفية الوراثية في الغالب، في صورة أعداء لدودين للحكم الفرنسي؛ ونتيجة لذلك، نفي مباكي في تسعينيات القرن التاسع عشر إلى موريتانيا، وفي العقد الأول من القرن العشرين إلى الجابون،
54
وزادت مكانته إثر ذلك. وفي القصيدة البالغ عدد أبياتها 1344، المعروفة باسم «جزاء الشكور» المكتوبة في أوائل القرن العشرين باللغة الولوفية على يد «موسى كا» أحد أتباع مباكي، نجد قصص المعجزات القديمة - التي رأيناها تتكون في السابق من خلال النوع الأدبي العربي المعروف باسم «مناقب الأولياء» - تستخدم في سياق أفريقي استعماري جديد للحديث عن مباكي.
55
ومثلما انتشرت في الهند البريطانية شائعات عن هروب الصوفيين على نحو إعجازي من أماكن احتجازهم الاستعمارية، فقد تحولت أخبار سجن مباكي إلى قصص، مثل قصة إثارته غضب الحراس عندما قفز من أعلى ظهر السفينة التي كان محتجزا فيها ليؤدي الصلاة على سجادة كانت تطفو على الأمواج، أو قصة احتسائه الشاي بعفوية أثناء وجوده في الفرن المشتعل الذي ألقاه فيه الفرنسيون الأشرار.
56
إلا أن قصة مباكي لم تكن فقط قصة عن المقاومة المنطوية على معجزات، بل كانت أيضا قصة تنطوي على توافق براجماتي استفاد فيه هو وسجانه من مزايا التعاون مع الحكام الفرنسيين؛ فبعد أن عاد مباكي من منفاه عام 1912، قاد أتباعه في الطريقة المريدية من أجل تأسيس مركز ديني في الداخل السنغالي في مدينة توبا، وهي مدينة جديدة اكتسبت الثراء من خلال زراعة الفول السوداني وتصديره عبر السكك الحديدية التي ربطت المزارع باقتصاد الاستعمار الفرنسي.
57
لم تكن هذه استراتيجية بسيطة للإثراء الذاتي، بل مشروعا يضع المثل الصوفية في صورة عملية، وتضمنت هذه العملية حتما بعض التسوية، وتمثلت النتيجة العامة في تقديم مباكي بديلا جذابا ل «مهمة التمدين» الفرنسية؛ ففي الوقت الذي سمح فيه الفرنسيون للزعماء المحليين، الذين تحكموا من خلالهم في الريف، بالاستمرار في الاحتفاظ بالعبيد، قدم المجتمع الريفي الذي أسسه مباكي في مدينة توبا ملاذا للعبيد الهاربين؛ وبهذه الطريقة قدم بديلا دينيا جديدا وعمليا لنماذج الحكم المحلي والاستعماري.
58
شكل 4-2: متمرد وولي: صورة فوتوغرافية تعود لعهد الاستعمار الفرنسي لأحمدو بامبا السنغالي. (2-3) الإمبراطورية الروسية
يمكن أن نرى أنماطا مشابهة في تاريخ الصوفيين في الإمبراطورية الروسية؛ ففي الفترة نفسها التي كان يواجه فيها الفرنسيون في الجزائر تمرد عبد القادر الجزائري، شهد التوسع الروسي في القوقاز في عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر مقاومة شرسة من الأتباع النقشبنديين للإمام غازي محمد الغيمراوي (تقريبا 1795-1832)، والإمام شامل الداغستاني (1797-1871). ومثل عبد القادر الجزائري في شمال أفريقيا، فإن قائدي المقاومة القوقازية لم يكونا من أبناء المؤسسة الصوفية الدينية ذات النفوذ في وطنهم الجبلي، وبعد أن جذبا الأتباع عن طريق نجاحهم السابق في منع تقدم الروس والتحكم في إحباطات وطاقات شباب الوديان، تمكنا من تأسيس دولة جهاد قصيرة الأجل ازدهرت في الفترة ما بين عامي 1828 و1859 على أطراف الإمبراطورية الروسية. وباستخدام النظام الهرمي الخاص بالطريقة الصوفية أسس الإمام شامل نظام إدارة ناجحا، يقوم على تفويض السلطة المعروف لستة عشر نائبا خصصت لهم السيطرة على المناطق الأربع التي قسمت إليها الدولة الجبلية الصوفية.
59
لم يكن مشروع الإمام غازي محمد الغيمراوي والإمام شامل الداغستاني نوعا من المقاومة البسيطة من جانب ثقافة محلية جامدة، بل كان مشروعا مبتكرا سعى إلى فرض سلطة الشريعة على القوانين المحلية العرفية؛ مما أدى إلى ظهور عدد كبير من المعارضين له بين المسلمين المحليين وبين الروس أيضا.
60
قابل الحكام العثمانيون والإيرانيون المبعوثين الذين أرسلهم الإمام شامل إلى كافة الأنحاء من معقله الجبلي بالرفض؛ حيث نظروا إليه نظرة الريبة، ولم يحظ على قدر من الدعم من بين كل القوى الإسلامية الراسخة إلا من الحاكم المصري محمد علي (الذي حكم من عام 1805 إلى عام 1848)، الذي كان مثله يناضل من أجل منع تقدم الأوروبيين.
61
وعلى الرغم من أنه في منتصف القرن التاسع عشر بدأت السياسة الروسية في دمج المؤسسات الدينية الإسلامية في النسيج البيروقراطي ل «دولتها الطائفية» قدر الإمكان، فإن الهزيمة التي ألحقتها روسيا في النهاية وبشق الأنفس بالإمام شامل خلفت إرثا من عدم الثقة في الطرق الصوفية لدى السلطات الروسية.
62
إلا أنه في كثير من الحالات، كانت محاولات روسيا - الرامية إلى تشجيع المحافظة الدينية كجزء من دور الدولة الطائفية في جعل الرعايا أكثر نظاما وقابلية للسيطرة - تصب في مصلحة الصوفيين الساعين إلى توسيع نطاق الالتزام بالشريعة.
63
وعلى نحو مشابه لما رأيناه في الأقاليم الزراعية في الهند البريطانية وإن كان مميزا عنه، فإن كثيرا من الأئمة المحليين المعينين من قبل الروس كانوا صوفيين (أو من أتباع الصوفيين) أيدوا كلا من الالتزام الشديد بالشريعة والدولة الروسية بصفتها المسئولة عن تطبيقها؛ ومن ثم حققوا اتحادا بين أجندة الصوفيين وأجندة الإمبرياليين المتباينتين.
64
وعلى غرار الهند البريطانية مرة أخرى، كان أحد أهم إسهامات الحكم الروسي في الحياة الفكرية الصوفية والإسلامية في العموم هو تقديم الطباعة؛ ففي وقت مبكر يعود لعام 1797 أسست مطبعة لنشر الكتب الإسلامية في قازان؛ العاصمة الإدارية لمنطقة الفولجا والأورال.
65
وتحت قيادة مسئول الطباعة أبي الغازي بوراس أوغلي المعين من قبل الروس، شهد عام 1802 على الأرجح أول حالة نشر لعمل صوفي على يد ناشر مسلم، تمثلت في نشر القصيدة السردية المكتوبة باللغة الجغتائية التركية «ثبات العزيزين»، التي كتبت في الأصل قبل قرن على يد صوفي الله يار (المتوفى عام 1712)، أحد أتباع الطريقة النقشبندية في آسيا الوسطى.
66
وفي القرن التاسع عشر، وحتى بعيدا عن الطباعة، شهد حكم الروس لمنطقة الفولجا والأورال تجدد نسخ وتأليف السير التاريخية الإقليمية على يد المسلمين التتار والباشكير. وفي تلك الأعمال التي تناولت الأرض وسكانها مثل كتاب «تاريخ البلغار»، الذي ألفه تاج الدين يالتشيجول أوغلي (1768-1838) في عام 1805، استخدمت قصص الأضرحة الصوفية القديمة لربط سكان منطقة الفولجا والأورال بالأرض التي سكنوها، من خلال قصص الأولياء القدماء الذين اعتنقوا الإسلام، المدفونين في مدينة بلغار التي تضم أضرحتهم، والتي سمي السكان على اسمها.
67
وفي فترة شهدت فيها الخانات الإسلامية السابقة في الإمبراطورية الروسية تدفق المستوطنين الألمان والروس، وكان فيها المسيحيون الأرثوذوكس الروس يكتبون سيرا تاريخية مقدسة مشابهة استخدمت أضرحة مسيحية مهجورة كدليل مزعوم على قدم ملكية المسيحية الأرثوذوكسية للمقاطعات الإسلامية الجنوبية في الإمبراطورية؛ استخدمت قصص الأضرحة المؤلفة في القرن التاسع عشر هذه تراث المنطقة الصوفي المعماري والسردي لتأكيد ملكية المسلمين للأرض في مواجهة المستوطنين المسيحيين الجدد.
68
وفي هذا الصدد، كان يوجد أيضا نوع من المقاومة الصوفية. واعتمادا على مزاعم ملكية الأرض القائمة على هذه النصوص، اتخذ الصوفيون في أواخر القرن التاسع عشر موقفا قوميا أكثر بالمعنى الحديث؛ حيث احتفى شعر المفكر النقشبندي محمد علي الشقوري (1826-1889) بوطنية «بلغار الفولجا» الجديدة، ومن منطلق عدم الرغبة في إغضاب النظام الروسي الحاكم المتخوف، فإن الشاعر بالرغم من ذلك ربط الوطنية بحكم القياصرة السلمي.
69
وفي حين أحكم الروس قبضتهم على منطقة الفولجا والأورال ومنطقة القوقاز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنهم غزوا أيضا مدن وسهوب آسيا الوسطى التي رأيناها سابقا معاقل للطريقة النقشبندية العريقة في أوائل العصر الحديث. وفي هذه الأماكن، أسفرت سياسات الغزو عن زعم مجموعة من الصوفيين المحليين أنهم الأسلاف الحقيقيون لأحمد يسوي (المتوفى عام 1166 تقريبا)؛ ومن ثم، فإن لهم حصة في الأراضي الشاسعة المحيطة بضريحه.
70
وعلى الرغم من أن الأراضي التابعة لأضرحة المنطقة ظلت مصونة في العقود الأولى من الحكم الروسي، فإن الثروة المحبوسة في هذه الأوقاف التي تعود لفترة العصور الوسطى جعلت الحكام الجدد يشرعون في التحقيق في الأمر، الذين كانوا حريصين على إخلاء الأراضي للمستوطنين الروس والألمان الذين رأوا أنهم مهمون لتحقيق أقصى استفادة اقتصادية من المنطقة.
71
وعندما تحولت الإمبراطورية الروسية إلى الاتحاد السوفييتي بعد عام 1917، انتزعت أخيرا هذه الأراضي الشاسعة من مالكيها الصوفيين، وبالإضافة إلى القمع السوفييتي الرسمي للطرق الصوفية، وحظر الأدب الصوفي «الإقطاعي»، فإن خسارة موارد الدعم المادي تلك تسببت في توقف تام لنقل التقليد الصوفي في آسيا الوسطى.
72
ومع تحول أضرحة الأولياء النقشبنديين الكبيرة إلى متاحف ذات دعاية مناهضة للدين، انفصل المسلمون في الاتحاد السوفييتي عن تراثهم الصوفي بدرجة أكبر بكثير من إخوانهم في الإمبراطوريات الأوروبية الأخرى. (3) تراجع المؤسسة الصوفية: ما وراء نطاق الاستعمار، من عام 1800 تقريبا إلى عام 1950
على الرغم من التأثير الهائل للاستعمار على كل من الصوفيين ومنافسيهم أثناء القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فإننا يجب أن نحذر المبالغة في المدى العالمي للقوة الاستعمارية؛ ففي جبال بامير الشاهقة البعيدة، التي توجد على أطراف الحكم الروسي، عاش الشاعر الصوفي مبارك الوخاني (تقريبا 1840-1903) في عزلة، لدرجة أنه اخترع عودا ضخما يشبه آلة الرباب مكونا من تسعة عشر وترا ليصاحبه في غناء قصائده، واضطر إلى صنع آلة لتصنيع الورق كي يكتب قصائده عليه. لقد كان الاستعمار الروسي بعيدا كل البعد عن تفكيره، وتظهر معاناته في أبيات مثل: «أحاسيسي وأفكاري متعلقتان بالورق.»
73
وعلى الرغم من أن أعضاء الطرق الصوفية الذين عقدوا تحالفات مع الحكام الاستعماريين كانوا بالتأكيد تحت مراقبة سلطات الاستعمار، فإن هذا لم يمنع الصوفيين في نهاية المطاف من الاستفادة من شبكات السفر الجديدة، التي اعتمد عليها أيضا الحكم والتجارة الأوروبيان؛ فافتتاح طرق عبر إقليمية مكن المسلمين في المناطق البعيدة من التواصل حول العالم بعضهم مع بعض بمزيد من السهولة والانتظام.
74
في بعض الحالات، ساعدت البنية التحتية الجديدة هذه، المتمثلة في طرق السفر، في تأسيس طرق صوفية جديدة نشطة، ونشرها سريعا من المناطق الإسلامية التي كانت نائية في السابق. وفي حالة الطريقة الرشيدية الأحمدية، نجد أن الشيخ السوداني إبراهيم الرشيد (1813-1874) جدد التقليد الذي ورثه عن شيوخه، من خلال طريقة جديدة سرعان ما انتشرت في شبه الجزيرة العربية وسوريا ومصر والسودان وليبيا وغرب أفريقيا ودول الملايو وبورنيو وسنغافورة، وفي نهاية المطاف تايلاند وكامبوديا.
75
وإلى حد ما كان هذا الانتشار الهائل ناجما عن توفر آلات الطباعة، التي من خلالها أصبح من الممكن طباعة كتب الطرق الجديدة بأعداد كبيرة لتوزيعها على نطاق عالمي. وفي الغالب كانت توجد تلك المطابع في مراكز النقل الرئيسية، مثل إسطنبول أو بومباي أو سنغافورة، وكانت الكتب توزع في مقاصد الحج العالمية مثل مكة.
76
تظهر تلك التحركات عبر المناطق الواقعة تحت الاستعمار أن الصوفية قدمت أشكالا من الإلهام والتنظيم قوية على نحو كاف لمقاومة الضغوط الاستعمارية، ولعل الأهم من هذا الانتشار لطرق جديدة عبر المناطق الواقعة تحت الاستعمار أن أجزاء من العالم الإسلامي ظلت بمنأى عن الاستعمار الأوروبي. فمن المهم أن نقارن ما رأيناه من التجربة الاستعمارية بمصائر الصوفيين في تلك المناطق غير الخاضعة للاستعمار؛ ذلك لأنه بالنظر إلى تاريخ الصوفيين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في الإمبراطورية العثمانية وإيران وأفغانستان، نجد أنه توجد عدة أنماط عامة تشبه سياسات الدول الاستعمارية من أوجه معينة. وهذا بدوره يشير إلى ضرورة وضع السيناريوهات الاستعمارية التي تناولناها في إطار الأنماط التاريخية الأطول أجلا، المتعلقة بالتفاعل بين الصوفيين أصحاب النفوذ القوي والقوى الدولية، سواء أكانت قوى «استعمارية» أم قوى «محلية».
من بين أهم المناطق الإسلامية التي لم تطلها يد الاستعمار إلا بعد الحرب العالمية الأولى، ظلت الإمبراطورية العثمانية، التي بدأت أراضيها في التضاؤل وإن ظلت مساحتها شاسعة بالرغم من ذلك، تمثل ساحة مهمة للصوفيين، وكانت أيضا من المناطق التي تشابهت فيها تفاعلات الصوفيين مع الدولة وتفاعلاتهم في المناطق الواقعة تحت سيطرة الاستعمار. كان الحدث الصوفي الأهم في أوائل القرن التاسع عشر هو الإلغاء الرسمي للطريقة الصوفية البكتاشية عام 1826، بالإضافة إلى فرقة الإنكشارية العسكرية، التي لطالما كانت قاعدة الدعم الأساسية لها على مدار ما يزيد عن ثلاثة قرون،
77
وجاء في صيغة «الفرمان» الذي أعلنت فيه الإمبراطورية العثمانية الإلغاء المشترك ما يلي: «الأولى عدو للدولة، والأخرى عدو للدين.»
78
ونظرا لأن طقوس البكتاشية لطالما ضمت ممارسات مشبوهة مثل شرب الخمر، فإن قرار الإلغاء يمكن أن يعتبر - إلى حد ما - جزءا من التوجه الطويل الأمد، الذي يهدف إلى ترويج أشكال الصوفية الأكثر التزاما بالشريعة، ويؤكد وجهة النظر تلك تزامن سقوط البكتاشية مع الظهور السريع للفرع الملتزم بالشريعة الجديد من الطريقة النقشبندية المجددية، التي أسسها الصوفي الكردي الرحالة الشيخ خالد النقشبندي (المتوفى عام 1827) في أوساط النخبة العثمانية.
79
وكانت العوامل السياسية المتعلقة بتغير المكانة هذا، ما بين البكتاشية والنقشبندية المجددية، متعلقة بحملات الغزو الاستعماري التي رأينا أنها أدت إلى زيادة مكانة الطرق الصوفية الملتزمة بالشريعة في شمال الهند والجزائر والقوقاز في العقد نفسه؛ ذلك أن ما أدى مباشرة إلى قمع البكتاشية كان اندلاع الثورة اليونانية عام 1821، ومجموعة الهزائم التالية التي لحقت بالجيوش العثمانية، التي انتهت باستقلال اليونان بعد ذلك بعقد. ونظرا لأن أجزاء من اليونان كانت تحت السيطرة العثمانية لما يزيد عن أربعة قرون، فقد أثارت الخسارة المفاجئة للأجزاء الغربية من الإمبراطورية العثمانية غضبا عارما، ليس فقط على الجيوش، بل على التردي الأخلاقي الذي اعتقد الكثيرون أنه أضعف الإمبراطورية من الداخل. وبسبب طقوس البكتاشيين المريبة، وثرائهم المؤسسي، وعلاقاتهم بصفوة جنود الإمبراطورية العثمانية، فقد كانوا أهدافا واضحة للسخط الشعبي، ولسخط البلاط الإمبراطوري أيضا، وبالإضافة إلى ذلك، منح القضاء على البكتاشية الفرصة للدولة للاستيلاء على الأملاك الوقفية العديدة التي جمعتها الطريقة على مدار قرون.
80
وفي محاكاة عثمانية لردود الأفعال تجاه التوسع الأوروبي في المناطق الإسلامية الأخرى، شهدت العقود التالية ظهور صوفيين أدانوا علنا التدني الأخلاقي للبكتاشية، كان أبرزهم أعضاء طريقة النقشبندية المجددية التي أسسها الشيخ خالد النقشبندي. وحتى سبعينيات القرن التاسع عشر، ظل ورثة الشيخ خالد النقشبندي يتقلدون منصب «شيخ الإسلام» الذي يعد أعلى منصب ديني في البيروقراطية الإمبراطورية، بالإضافة إلى تقلد مناصب الوعاظ في أكبر مساجد إسطنبول.
81
في خمسينيات القرن التاسع عشر ساعدت أزمة عثمانية أخرى - حرب القرم في هذه المرة - في ظهور جماعة إصلاحية أخرى لم تجد حتى أن الصوفيين الملتزمين بالشريعة يقدمون حلا كافيا لها في مواجهة الانتصارات الأوروبية التي أتاحها العلم.
82
إلا أن الازدهار الوجيز لمصلحي تلك «التنظيمات»، الذي حدث ما بين عام 1839 وعام 1876، لا يدل على الإطلاق على انتهاء النفوذ الصوفي في الأراضي العثمانية؛ إذ إن الهزيمة التي ألحقها الروس بالعثمانيين في الفترة ما بين عامي 1877 و1878 سحبت البساط من تحت أقدام مصلحي التنظيمات أيضا، مما أدى إلى الحكم الرجعي للسلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909). وبعد الإصلاحات الدستورية في العقود السابقة، دفعت حاجة السلطان عبد الحميد الثاني إلى الشرعية، أثناء محاولة احتكار السلطة في يديه بصفته السلطان، إلى طلب المساعدة من الصوفيين، وكان أبو الهدى الصيادي (1850-1910) شيخ الطريقة الرفاعية رئيس مراسم سياسة إضفاء الشرعية هذه، من خلال رعاية المؤسسات الإسلامية الصوفية القديمة. وقد أشرف الصيادي على عملية حشد بالغة الكفاءة للصوفيين من خلال «سياسة الدمج»، وفيها تمكن السلطان عبد الحميد الثاني من الاعتماد على التطورات الدينية المركزية التي انتهجتها الإمبراطورية العثمانية في السابق، والتي تناولناها في الفصل الثالث.
83
وبالإشراف على ما يمكن أن نطلق عليه «مجلسا استشاريا» - الذي كان مؤلفا من ثلاثة شيوخ صوفيين آخرين، تربطهم علاقات بشمال أفريقيا وجنوب الهند - نظم الصيادي مشروعا دعائيا عابرا للقوميات، قدم فيه السلطان عبد الحميد الثاني في صورة خليفة كل مسلمي العالم، أو قائدهم.
84
وكان يوسف النبهاني (1850-1932) الصوفي الفلسطيني التابع للطريقة القادرية من الشخصيات البارزة الأخرى في هذا التجديد للتحالف القديم بين الصوفيين والحكام؛ حيث تدرج سريعا في مناصب الخدمة القضائية العثمانية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، بعد أن قضى عامين في القضاء في إسطنبول.
85
ومن منصبه في بيروت كتب أعمالا دعائية تحتفي بإنجازات السلطان وتدافع عن أهدافه الاستبدادية، وتهاجم في الوقت نفسه المناهضين للصوفية ومناصري الحداثة، واصفا إياهم بمعول أوروبا الذي سوف يضعف الأسس الإسلامية للمجتمع العثماني. وفي سلسلة من الأعمال الجدلية، هاجم قادة الفكر في حركة الإصلاح السلفية الناشئة المناهضة للصوفية، ووصف جمال الدين الأفغاني بأنه «مرتد»، ومحمد عبده بأنه «شيطان»، ومحمد رشيد رضا بأنه «شرير»،
86
إلا أن النبهاني لم يكن ألعوبة بيد سلطان حكمه غير مستقر، ومن خلال مطبوعاته الكثيرة صاغ استجابة محافظة لكن متماسكة للتغيرات الاجتماعية والدينية التي صاحبت تقلص الإمبراطورية العثمانية. وفي حين كان يرى الإصلاحيون أمثال عبده أن الاستجابة المناسبة لهذه الظروف هي ترك التقليد الصوفي، من خلال «الاجتهاد» وتقديم تفسير جديد كامل للنصوص المقدسة التي تمثل أسس الإسلام؛ كان يرى النبهاني أن «إعادة فتح أبواب التفسير» في هذه الأوقات العصيبة يعد أخطر من أي وقت مضى.
ولم يكن النبهاني فقط هو الذي تبنى هذا الموقف؛ ففي العديد من المدن الإقليمية في كل أنحاء ملك عبد الحميد الثاني كانت توجد كتلة محافظة أكبر من الصوفيين العثمانيين المتأخرين ، المدعومين بالتعيينات الحكومية أو بالمعاشات المالية، والذين لم يكن التقليد بالنسبة إليهم مجرد أمر واقع يدافعون عنه بكل غال ونفيس، بل كان مجموعة موارد عقائدية ومؤسسية يمكن أن تواجه تحديات العصر الحديث وكذلك تعاليم الحداثيين. لكن لم يحل هذا التوجه المحافظ دون حدوث تطورات جديدة؛ فمنذ ثمانينيات القرن التاسع عشر في دمشق، كان أتباع الثائر الجزائري السابق المنفي عبد القادر الجزائري مضطلعين بإحياء الاهتمامات الأدبية والتاريخية التي ستسفر في النهاية عن «النهضة» العربية.
87
أما على صعيد الحركة السلفية التي ظهرت في سوريا ومصر العثمانيتين، في بداية القرن العشرين تقريبا، فكان ثمة رجال - مثل محمد عبده (1849-1905) الذي كان من طنطا، وأتباع عبد القادر الجزائري في دمشق - أداروا ظهورهم لنشأتهم الصوفية عندما نضجوا، مفضلين إسلاما عقلانيا رفضوا فيه الطقوس والمعجزات الصوفية؛ لأنها غير متوافقة مع عالم المعرفة العلمية الحديث، الذي يجب أن يكون فيه الدين قائما على تفسيرات عقلانية للنص، وليس على قبول تقليد محرف.
88
وكان التحول السريع من الإسلام الصوفي إلى الإسلام السلفي في مناطق كثيرة من العالم (لا سيما الشرق الأوسط)، من أكبر التغيرات الاجتماعية والدينية في التاريخ الإسلامي الحديث.
وبقدوم الجيل الثاني من السلفيين، أصبحت الشخصيات السلفية البارزة أمثال محمد رشيد رضا (1865-1935) منذ أوائل القرن العشرين أكثر ضراوة في إدانة الفساد وفرط التمجيد في الذات والفسق لدى الصوفيين العثمانيين، وفي واحدة من أكثر المقالات المنشورة تأثيرا، وصف رضا الشهوانية المنحطة في أحد العروض الصوفية، فقال عنهم: «غلمان مرد حسان ... يلبسون ملابس ناصعة البياض كملابس العرائس، ويرقصون بها على نغمات الناي المثيرة للمشاعر.»
89
ومن المراكز الرئيسية للسلفيين في الشرق الأوسط، نشروا نقدهم المناهض للصوفيين في كل الأنحاء، من خلال أسفار تلاميذهم وإصدار صحف مثل صحيفة «المنار».
90
وبسبب أن تلك الحقبة قد تميزت بالصراع الشديد، فعندما كانت الغلبة للإصلاحيين من خلال ثورة تركيا الفتاة عام 1908، اعتبروا الصوفيين أكثر من أي وقت مضى أعداء للتقدم يخدمون مصالحهم فحسب ، ومدمرين لتعاليم النبي الصحيحة؛ لذا في عام 1909 طرد النبهاني من منصبه القضائي. على الرغم من ذلك، فإن القومي التركي المتحمس بشدة للحداثة ضياء جوك ألب (1876-1924) استطاع أن يرى أن الأبعاد الفكرية وكذلك الاجتماعية للصوفية تمثل أصولا قيمة، زاعما أن تعاليم ابن عربي (المتوفى عام 1240) سبقت فلسفة بيركلي وكانط ونيتشه،
91
وبحلول عام 1918 كان كل شيخ صوفي في إسطنبول قد تلقى نموذجا مطبوعا يطالبه بذكر مؤهلاته، وتاريخه الوظيفي، وعدد الأتباع والبيعات.
92
وعندما سقطت الإمبراطورية العثمانية رسميا عام 1922، كنتيجة للقتال في الصف الخاسر في الحرب العالمية الأولى، أخذ مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938) في النهاية الخطوة الجذرية التي تمثلت في حظر الطرق الصوفية عام 1925 حظرا كاملا.
93
وعلى الرغم من أن كثيرا من الصوفيين قبلوا نظام الحكم الجديد، فقد تحدى غيرهم أتاتورك وجمهوريته العلمانية الجديدة، من خلال رفض تقلد الوظائف الحكومية وممارسة طقوسهم سرا في منازلهم. وكان أحد هؤلاء الصوفيين الشيخ سعيد البالوي، الذي قاد تمرد قبائل الزازا الكردية قبل أن يلقى القبض عليه ويعدم عام 1925 إثر ذلك.
94
لكن بالرغم من الدفاع القوي عن علمانية الجمهورية التركية، فإن اختفاء الصوفية من الحياة العامة في ذروة العصر الجمهوري لم يسفر على الإطلاق عن انتهاء التأثير الصوفي في الحياة التركية.
بالعودة إلى إيران، رأينا في الفصل الثالث كيف أدى ظهور طبقة رجال الدين الشيعة في الإمبراطورية الصفوية إلى قمع الصوفيين في إيران في نهاية المطاف، وبالرغم من ذلك، شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر عودة ورثة الطريقة النعمتلاهية من الهند إلى إيران، وكانت تلك الطريقة قد انتشرت في السابق من إيران في القرن السادس عشر إلى السلطنة البهمنية في جنوب الهند،
95
ومن خلال الشيوخ الرحالة أمثال نور علي شاه (المتوفى عام 1797) وأتباعهم في الجيل التالي، أشرف هؤلاء الصوفيون المهاجرون على حدوث إحياء صوفي كبير في إيران، ولفعل ذلك، اقترحوا عقيدة جذابة ترتكز على تجارب النشوة القائمة على مشاعر رفيعة مثل «الحب»، و«العشق»، و«الود»، و«الهوى»، يمكن استحضارها بغناء قصائد الحب الفارسية القديمة التي كتبها الرومي وبابا طاهر بمصاحبة الموسيقى.
96
وبلغت جاذبية الصوفيين مبلغا كبيرا، لدرجة أنهم في ثلاثينيات القرن التاسع عشر اكتسبوا أتباعا من المجتمع اليهودي في مدينة مشهد، وهناك استخدم الحاخامات اليهود الأفكار الصوفية في تفسيراتهم للتوراة، ومن خلال رؤى أبي القاسم القشيري (المتوفى عام 1074) ابتدعوا روابط متخيلة مع التقليد الصوفي الخاص بفترة العصور الوسطى في منطقة خراسان المجاورة.
97
على الرغم من أن الإحيائيين الصوفيين في إيران قوبلوا بمعارضة شديدة من المؤسسة الدينية الشيعية، مما أدى إلى إعدام العديد من «المبشرين» بالطريقة النعمتلاهية، فقد وجد الصوفيون دعما كافيا من التجار الأثرياء؛ بحيث انتشروا سريعا عبر المدن التجارية داخل إيران. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، وجد الصوفيون الدعم أيضا من البلاط الملكي الإيراني، وبصفة خاصة من خلال تقلد الصوفي المنتمي إلى الطريقة النعمتلاهية حاج ميرزا أقاسي (1783-1848) منصب الصدر الأعظم في عهد الحاكم القاجاري محمد شاه (الذي حكم من عام 1834 إلى عام 1848)، وتحت رعاية أقاسي حدث ترميم وتوسيع للأضرحة المتداعية المقامة لكبار الصوفيين في إيران في فترة العصور الوسطى - أمثال أبي يزيد البسطامي وشاه نعمة الله ولي - بالإضافة إلى منح الصوفيين معاشات أو تمليكهم للأراضي.
98
ومن خلال عقد هذه التحالفات الاستراتيجية مع السلالة القاجارية الجديدة، المنحدرة من القبائل التركمانية السابقة، التي لم تكن مختلفة تماما عن القوى الاستعمارية في فقدان الشرعية، استعاد أبناء الطريقة النعمتلاهية للصوفيين حصة في المجتمع الإيراني لم يتحصلوا عليها منذ مائتي سنة. ومع مرور القرن، تمسك الصوفيون بهذه المكانة المستعادة من خلال الحفاظ على علاقاتهم بالتجار الإيرانيين، وبصفة خاصة مجتمع التجار الإيرانيين الثري، الذي ظهر في بومباي المستعمرة.
99
وعلى غرار القرون السابقة، فقد استغل الصوفيون الشبكات العالمية الدولية لتجاوز سيطرة القوى الوطنية.
ومن ثم أسفرت التغيرات في المناطق الاستعمارية عن نتائج غير مباشرة تصب في صالح الصوفيين الموجودين في مناطق خارج السيطرة الاستعمارية، وكانت تلك النتائج في بعض الحالات تصب في صالح جماعات صوفية معينة؛ فبعد أن نشأ الصوفي الإيراني البارز صافي علي شاه (المتوفى عام 1899) التابع للطريقة النعمتلاهية في أصفهان، أطلق حياته المهنية من خلال فترة إقامته في بومباي، التي اكتسب منها دعم التجار الإيرانيين في الشتات هناك، وكذلك طبع فيها قصيدته الواقعة في كتاب بعنوان «زبدة الأسرار»، التي رسخت سمعته لدى عودته إلى الوطن.
100
وفي عصر الطباعة الجديد مثلت أشعار صافي علي شاه استيلاء على التقليد الصوفي القديم وامتدادا له، من خلال المحاكاة المتعمدة لأسلوب أشعار العظيم جلال الدين الرومي التي تعود لفترة العصور الوسطى.
101
إلا أنه بعد شهور من وفاة صافي علي شاه عام 1899، تحولت طريقته إلى منظمة تميل إلى الحداثة على نحو متعمد، تعرف باسم «أنجمان أخوت» (أي جمعية الأخوة)، مزجت التقليد الصوفي بالتصوف المأخوذ من الماسونية.
102
ومن خلال حفلات العشاء الخيري التي كانت تقيمها تلك الجمعية، ومن خلال وسائل الحداثة الأخرى مثل المجلات والأكاديميات الفلسفية، نجد أن الصوفيين الإيرانيين في أوائل القرن العشرين ربطوا أنفسهم في عصر الحداثة بطموحات نخبة قومية جديدة. وعن طريق توجيه إرثهم المتمثل في الكتابة بالفارسية وفقا للأيديولوجية الجديدة المتمثلة في القومية الإيرانية، وعن طريق تعديل الدور الصوفي القديم المتمثل في الوعظ الأخلاقي لمواجهة مخاوف العصر الحديث المتعلقة بتعاطي المخدرات وحقوق المرأة؛ ظل الشيوخ الصوفيون في إيران حتى الثورة الإسلامية عام 1979 يجدون الرعاية لدى أعلى المستويات في الدولة، بما في ذلك الإمبراطورة فرح ديبا.
103
شكل 4-3: أولياء الموانئ البحرية الاستعمارية: ضريح أحمد بن علي في نقطة التقاء البواخر، عدن (الصورة من مجموعة صور المؤلف).
وفي الوقت نفسه، في جنوب آسيا وآسيا الوسطى، أدى بقاء الولايات الأميرية والدول «الحاجزة» على أطراف الهند البريطانية إلى استمرار التحالفات القديمة بين الحكام المسلمين والمؤسسة الصوفية في القرن العشرين أيضا، ونجد أنه في حيدر أباد (وهي ولاية أميرية هندية في حجم فرنسا تقريبا) أدى وجود طبقة مسلمة حاكمة إلى استمرار تقديم الرعاية للأنشطة الصوفية، خاصة أثناء حكم نظام محبوب علي خان (الذي حكم من عام 1869 إلى عام 1911)، الذي أدى كرمه إلى استضافة حيدر أباد لصوفيين من أماكن بعيدة عن سواحل الهند. وفي ظل الحماية من التغيير الذي أحدثه الاستعمار في النظام الاجتماعي، أكمل الصوفيون في حيدر أباد تقليدهم الأدبي القديم من خلال كتابة كتب طبقات مثل «مشكاة النبوة» المكتوب بالعربية، للمؤلف غلام علي قادري (المتوفى عام 1842)، الذي ربط الصوفيين الأحياء في حيدر أباد بالأولياء القدماء في خراسان وبغداد من خلال سلاسل الانتساب.
104
وعندما تسللت حركات الإصلاح المناهضة للصوفية السائدة في الهند البريطانية عبر الحدود إلى حيدر أباد، استطاع صوفيو حيدر أباد كما في حالة معين الله شاه (المتوفى عام 1926)، بمساعدة أصحاب المصانع المحليين، تكييف أنفسهم مع مفهوم الإصلاح الجديد وتمرير تعاليمهم، حتى بعد اندماج حيدر أباد عام 1948 في الهند المستقلة.
105
شكل 4-4: ولاءات أفغانية: مسكن وضريح صوفي في كابل (تصوير: نايل جرين).
في أفغانستان الواقعة شمال غربي الهند البريطانية، كان الحكام الأفغان المناصرون للحداثة يجاهدون في أوائل القرن العشرين لتأكيد سلطتهم الهشة على القبائل الجامحة ورجال الدين المعارضين، مما دفعهم إلى عقد اتفاق مشابه مع الصوفيين البارزين.
106
وفي منطقة كان فيها الولاء القبلي للأسلاف من الأولياء الصوفيين أقوى من الولاء لملك بعيد يقيم في كابل، وجد حكام أفغانستان المركزيون في أوائل القرن العشرين أنه من الحكمة استخدام الصوفيين كجسور للوصول إلى رعاياهم الممانعين.
107
وفي عام 1919، تضمن هذا السعي الملكي إلى السلطة أيضا إعلان الجهاد على الإمبراطورية البريطانية، التي كانت في أعقاب الحرب العالمية الأولى أضعف من أن ترد ردا كاملا. وعندما أعلن الملك أمان الله (الذي حكم من عام 1919 إلى عام 1929) رسميا هذا الجهاد غير المحتمل بعد صراع عائلي على السلطة أعقب اغتيال أبيه الحاكم، حرص على وقوف الشيخ النقشبندي الجليل شاه أغا (المتوفى عام 1925) إلى جانبه قبل أن يبعث هذا الشيخ وأخاه شير أغا بصحبة قواته إلى المعركة،
108
ومقابل ما قدمه الأخوان من دعم، حصلا على أراض كبيرة في ضواحي كابل، وألقاب شرفية مثل «شمس المشايخ»، وعندما أطيح بالملك أمان الله في انقلاب، عين خلفه نادر شاه (الذي حكم من عام 1929 إلى عام 1933) شير أغا رئيسا للجنة القومية لعلماء الدين الجديدة، وأرسل أخاه الصوفي الثالث جول أغا سفيرا لمصر.
109
وعلى الرغم من أن النفوذ الصوفي كان لا يزال كبيرا في ثلاثينيات القرن العشرين، فقد شهدت العقود التالية تراجع النفوذ الصوفي في أفغانستان؛ فكما هو الحال في مناطق أخرى، فضل آخر الملوك الأفغان زاهر شاه (الذي حكم من عام 1933 إلى عام 1973) الحداثة العلمانية على التحالف مع الأولياء الأحياء، وفي الوقت نفسه بدأ المفكرون في الطبقة الوسطى الأفغانية الصغيرة يتأثرون بالأفكار الشيوعية القادمة من آسيا الوسطى السوفييتية المجاورة؛ ومن ثم اعتبروا الصوفيين عملاء للملوك، وبالرغم من ذلك كانت الصوفية لا تزال راسخة على نحو كاف في النظام الاجتماعي الأوسع نطاقا، لدرجة جعلت تحجيم النفوذ الصوفي أجندة للمصلحين الأفغان الدينيين والعلمانيين على السواء،
110
إلا أن الريف الجبلي الأفغاني ظل محتفظا بكثير من سمات الأشكال الإقليمية المحلية من التقليد الصوفي التي كانت اختفت في ذلك الوقت، في ظل ضغوط التحديث أو الإصلاح التي أعادت تشكيل البلدان الإسلامية الأخرى في القرن العشرين.
111
وفي مدينة تاشقرغان (المعروفة أيضا باسم خلم) الواقعة في شمال أفغانستان، بقيت أشكال محلية من التقليد الصوفي توارثتها الأجيال عبر كتيبات باللغتين الفارسية والأوزبكية، ربطت النجارين والدباغين وغيرهم من الحرفيين بطقوس وسلالات أولياء معينين، وربطت صناع الحلوى ببابا فريد كنج شكر، ابن مدينة ملتان.
112 (4) التوسع والرفض: الصوفيون فيما بعد الاستعمار وفي ظل العولمة، تقريبا من عام 1950 إلى عام 2000 (4-1) الصوفيون في العالم الإسلامي «القديم»
من نواح كثيرة، شهد القرن التاسع عشر بلوغ الصوفيين ذروة التوسع الاجتماعي في تاريخهم؛ حيث استعانوا بتقنيات السفر والطباعة الحديثة، وحافظوا على مكانتهم المؤثرة، من خلال تحالفاتهم الماكرة التي عقدوها مع الأطراف الحاكمة في البيئات الاستعمارية وغير الاستعمارية. وشهدت العقود الافتتاحية من القرن العشرين اكتساب الإصلاحيين المناهضين للصوفية والحداثيين المسلمين نفوذا متزايدا، وكان ذلك من ناحية رد فعل تجاه رغد العيش الذي تميزت به الطبقة الصوفية وإذعانها للاستعمار، ومن ناحية أخرى رد فعل على المتطلبات الدينية التي ظهرت من جراء التعرض لأفكار علمية جديدة. لقد شاهدنا في الأقسام السابقة كيف أن الصوفية في أوائل القرن العشرين كانت تقمع للمرة الأولى في مناطق معينة لصالح تكوين الدول القومية. وكما رأينا بالفعل ، في مناطق آسيا الوسطى التابعة للاتحاد السوفييتي، وكذلك في تركيا الجمهورية، كانت الصوفية تتعرض للقمع باسم الحداثة الاشتراكية أو القومية. وفي مناطق أخرى، خاصة في الشرق الأوسط العربي، اشتدت هجمات الحداثيين الأيديولوجية على الصوفيين، معتبرين إياهم فاسدين أو عملاء أو دجالين، أما من الناحية المؤسسية فقد شهدت سياسات القومية في العديد من الدول العربية في فترة ما بعد الاستعمار توسع عملية طويلة الأجل، تمثلت في تقنين الدولة أوضاع الطرق الصوفية.
113
وفي شبه الجزيرة العربية فسر النظام السعودي الجديد تعاليم ابن عبد الوهاب، المصلح الذي ظهر في القرن الثامن عشر، على أنها تدين الصوفية إدانة كاملة، واتخذ هذه التعاليم كأيديولوجية للدولة الجديدة. وسبق أن رأينا كيف أن مصطلح «الصوفية» نفسه ابتكره الباحثون الأوروبيون في الفترة الاستعمارية، وكيف اكتسب في نقاشاتهم معاني كانت في كثير من الأحيان متعارضة مع فهم الصوفيين لتقليدهم، وعندما بدأ المسلمون في بيئات أواخر الفترة الاستعمارية مثل الهند ومصر يعرفون ما كتبه الباحثون الأوروبيون عن الصوفيين، أصيب الذين أخذوا فهم الأوروبيين بجدية بصدمة من مبالغات الصوفيين، في حين غضب الذين نظروا بعين الريبة إلى الخبرة الأوروبية من إساءة تفسير روح التعليم الصوفي؛ ولذلك نجد في الهند في نهاية الفترة الاستعمارية أن الشاعر الإصلاحي السير محمد إقبال (1877-1938)، عندما كتب مجموعة من الأشعار الفارسية والأردية ملهمة بكل المقاييس، استوعب انتقاد الباحثين الاستعماريين عندما وصفوا الصوفيين المعاصرين بأنهم دجالون كسالى، وفي الوقت نفسه قبل مديحهم للصوفيين في فترة العصور الوسطى، الذي وصفهم بأنهم آخر «المتصوفين» المسلمين الحقيقيين.
114
ستصبح أفكار محمد إقبال شديدة التأثير على التوجهات نحو الصوفية في دولة باكستان، فيما بعد الاستعمار، التي ساعد في إنشائها. وبالمثل، في مصر في أواخر فترة الاستعمار وما بعد الاستعمار تأثر الباحثون العرب باعتقاد الباحثين الأوروبيين القائل إن الصوفية نشأت بين «مؤثرات» خارجية مسيحية وهندوسية، وأنها على أي حال تجل إسلامي لفئة «التصوف» العالمية؛ مما دفعهم إلى «إعادة أسلمة» الصوفية كوسيلة لاستعادة السيطرة على تراثهم الديني.
115
كما هو الحال مع المحاولات الكثيرة الأخرى التي جرت فيما بعد الاستعمار لاسترجاع تراث ما قبل الاستعمار؛ فقد تضمن مشروع إعادة أسلمة الصوفية قدرا من إعادة الابتكار للتقليد يفوق مجرد نقله؛ ذلك لأنه قبل أن يشير الباحثون الاستعماريون إلى وجود مصادر هندوسية أو حتى بوذية للأفكار الصوفية، كانت فكرة «الصوفية الإسلامية» إسهابا غير ضروري. علاوة على ذلك، شهد القرن العشرين في كل أرجاء العالم الإسلامي تنوعا غير مسبوق في أشكال السلطة الدينية والمعتقد الديني، من خلال تزايد فرص الالتحاق بالتعليم (سواء العلماني أو الديني)، واستخدام الوسائل الإعلامية الجديدة (سواء الطباعة أو البث الإذاعي وخلافه)، والانضمام إلى الأشكال التنظيمية الجديدة (سواء الجمعيات الدينية أو الأحزاب السياسية). وساهم النطاق المتزايد من أنواع الإسلام المتاحة أمام المسلمين في جعل تعاليم الصوفيين نسبية، وتهميش طرقهم الصوفية في المناطق التي لطالما كانوا فيها لاعبين مسيطرين أو بارزين. باختصار، بحلول منتصف القرن العشرين كانت توجد أساليب كثيرة يمكن من خلالها أن يكون المرء مسلما، وعندما وجد المسلمون خيارات كثيرة بديلة عن اتباع أحد شيوخ الصوفية، اختار الملايين منهم عبر العالم إما اتباع أحد الشيوخ الجدد غير الصوفيين، وإما التخلي عن السلطة الخارجية واتباع ضميرهم وحده.
وعلى الرغم من أن التأثير الصوفي تراجع على نحو لا يمكن إنكاره، فقد ظل تقليد القرون السابقة يتوارث من خلال الكثير من الأشكال المختلفة، وإن كانت في بعض الأحيان حديثة على نحو مميز. وكما شاهدنا من قبل، فقد كان يوجد صوفيون إصلاحيون عدلوا تعاليمهم استجابة لمنتقديهم المناهضين للصوفية، وفي المواقف التي وصف فيها هؤلاء النقاد جوانب كثيرة من التقليد الصوفي بأنها ليست إلا «خرافة»، نجد أن الإصلاحيين الصوفيين تخلوا عن كثير من جوانب الممارسة الصوفية، لا سيما ممارسة عمل الأحجبة أو المعالجة بالقرآن والأدعية النبوية، التي قل عليها الطلب على أي حال بسبب ظهور الطب الحديث. وفي المناطق الإسلامية الأكثر حداثة وثراء تقلصت الأنشطة الصوفية كثيرا؛ لأن الناس بدءوا يرفضون مجموعة كبيرة من الممارسات الصوفية - من تبجيل الأضرحة إلى قصص المعجزات وطلاسم التحصين - لأنها أمور منفصلة عن الحداثة، إلا أنه بصرف النظر عن التوقعات الموثوق فيها النابعة عن نظريات العلمانية، التي صاغت المناقشات التي تناولت الصوفية في منتصف القرن العشرين، فإن الحداثة لم تسفر عن تحرر كامل من تلك الممارسات الصوفية. وفي مناطق عديدة، لا سيما تلك التي نجح فيها الصوفيون في الاحتفاظ بمكانتهم الاجتماعية ورأسمالهم المتمثل في المؤسسات، استمر نقل التقليد الصوفي بالرغم من تزايد هجمات الإصلاحيين المناهضين للصوفية. وحتى في أكثر المناطق حداثة في العالم، شهد النصف الثاني من القرن العشرين استجابة الصوفيين للتحولات الذاتية وتحولات المجتمع، من خلال تكوين أنماط تنظيمية أو نماذج مفاهيمية جديدة، لينقلوا من خلالها تعاليمهم. ومع دنو القرن العشرين من نهايته ظهرت أشكال جديدة من الصوفية في بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية، حققت تفاعلا وتداولا متزايدا مع المناطق الإسلامية القديمة.
دعونا نتفقد بعض دراسات الحالة لهذه الطرق المختلفة لتطور الصوفية، بداية من خمسينيات القرن العشرين فصاعدا، فبينما أضعفت الحكومات في الهند وباكستان في فترة ما بعد الاستعمار المؤسسة الصوفية؛ من خلال فرض سيطرتها على الأراضي الكثيرة المملوكة للصوفيين، استمر نقل التقليد بطريقة أقل تقلصا بكثير مما حدث في الشرق الأوسط، الذي اكتسبت فيه القومية العلمانية والإصلاح الديني تأييدا اجتماعيا أوسع نطاقا.
116
وعلى الرغم من ذلك، فقد استعانت كل من الهند وباكستان بالصوفية في تكوين الكيان القومي الجديد خاصتها في فترة ما بعد الاستعمار؛ فعلى سبيل المثال: في الهند حظيت أشكال معينة من الصوفية (لا سيما العروض الموسيقية وأضرحة الطريقة الجشتية التي تجمع مختلف الطوائف) بالترويج؛ لأنها تمثل الأسلاف المتسامحة للجمهورية الهندية العلمانية المتعددة الطوائف، وحظيت موالدها بالتغطية على التليفزيون الوطني، وناصر تاريخها أساتذة الجامعات. أما في باكستان، فنظرا للشرعية المحدودة لحكومات ما بعد الاستعمار فيها، فقد اعتمدت مجموعة كبيرة من السياسيين على مكانة وعلاقات الصوفيين في محاكاة للسياسات الاستعمارية القديمة في المنطقة، ووفقا للأيديولوجيات المتباينة للأحزاب السياسية المعنية، فقد كان الصوفيون يقدمون في باكستان على أنهم إما وعاظ إسلاميون مبشرون، وإما مناصرون اشتراكيون للفلاحين، وألحقت «مراكز بحثية» أو منافذ طبية بالأضرحة المشيدة في فترة العصور الوسطى، كتعبير مادي عن التحالف الجديد بين الصوفيين والرئيس الباكستاني.
117
وفي كتابات القائد العسكري والشيخ الصوفي الباكستاني السابق النقيب وحيد بخش رباني (المتوفى عام 1995)، وجهت ذكرى الأولياء الصوفيين المنتمين لفترة العصور الوسطى لخدمة أهداف قومية على نحو أكثر صراحة؛ ففي كتابه «القوة الدفاعية الباكستانية العظيمة الشأن» المكتوب بالأردية، قدم دراسة رومانسية الطابع عن التاريخ العسكري والثقافي لباكستان بصفتها أمة إسلامية أسسها في الأصل الصوفيون، ومقدرا لها من خلال عظمة هؤلاء الأولياء الصوفيين والجنود الذين يحمونهم أن تكون منارة للعالم الإسلامي أجمع.
118
ومثلما أدت النماذج التي قدمها الأوروبيون عن الصوفية إلى «إعادة أسلمة» الأفكار الصوفية في مصر، نجد أن وحيد بخش رباني رد بالمثل في باكستان على صور الصوفية التي قدمها الأوروبيون، في عمل كتبه بالإنجليزية حمل عنوان «الصوفية الإسلامية»، وفي هذا الكتاب نفى أفكار المستشرقين القائلة بالأصول الخارجية للصوفية كي يظهر توافق التعاليم الصوفية مع القرآن والشريعة، وفي الوقت نفسه اعتمد على مجموعة مختارة غير معتادة من العلماء الفرنسيين والكتاب الأمريكيين من أتباع حركة العصر الجديد؛ ليثبت تناغم الصوفية مع العلم.
119
وفي حين ابتكر الصوفيون في كل من الهند وباكستان تصورات عقائدية جديدة، ردا على المخاوف الكثيرة التي سادت في فترة ما بعد الاستعمار، فقد ظلت تعاليم الصوفيين وأضرحتهم في المنطقة تحظى بأهمية بالغة لدى ملايين كثيرة من المسلمين (والهندوس أيضا) حتى اليوم، وعلى الرغم من هجوم الأصوليين الهندوس والمسلمين على حد سواء على الممارسات القديمة المتمثلة في تبجيل الأضرحة الصوفية من قبل الهندوس والمسلمين، فما زال مئات الآلاف من الزوار من كل الخلفيات الدينية يتوافدون كل عام على ضريح معين الدين الجشتي (المتوفى عام 1236)، الذي يعود إلى فترة العصور الوسطى والموجود في الهند.
120
وفي جنوب شرق آسيا، كان لمثل هذه المشاريع الهادفة إلى تأسيس أمم حديثة أثرها على الصوفية في الدول الجديدة التي تكونت بعد الاستعمار مثل إندونيسيا وماليزيا؛ فعقب تحقيق الاستقلال من هولندا عام 1949، فرض على إندونيسيا في الفترة ما بين عامي 1965 و1998 «نظام جديد» غير متهاون أسفر عن نشأة مواطنين عصريين متعلمين، وانتقلت الصوفية إلى اتجاهات محددة أثناء هذه السنوات؛ فاتجهت نحو الساحة العامة الجديدة المتمثلة في الأحزاب السياسية الإسلامية، أو انسحبت نحو الساحة الخاصة المتمثلة في الجماعات «الباطنية» التي وعدت أتباعها بالقوة الخفية بدلا من القوة السياسية.
121
إلى جانب انتقادات الإصلاحيين المناهضين للصوفية، فإن هذا التحديث جعل النسق التنظيمي الصوفي القديم غير جذاب في أعين الأجيال الجديدة من الإندونيسيين، الذين أصبحوا يعتبرون الطرق الصوفية القديمة سرية على نحو مريب، وغير ديمقراطية وسلطوية؛
122
ونتيجة لذلك قطع الشيوخ الصوفيون في إندونيسيا صلتهم على نحو جذري بالمؤسسات القديمة منذ سبعينيات القرن العشرين، من خلال تكوين أنماط تنظيمية جديدة للوصول إلى بني جلدتهم المتعلمين العصريين، فأقاموا الندوات والورش والخلوات. وبحلول تسعينيات القرن العشرين أصبحت تعاليم الصوفية متاحة من خلال العروض التقديمية المعتمدة على برامج عرض الشرائح، التي يقدمها صوفيون يرتدون بذلات، ويؤكدون على حداثة تعاليمهم من خلال استخدام مصطلحات مثل «الصوفية الجديدة» و«الصوفية العملية» و«التصوف الإيجابي»؛ ونتيجة لذلك، وبالرغم من الجدل المناهض للصوفية، نجح الصوفيون في استعادة أعداد متزايدة من الإندونيسيين المنتمين للطبقة الوسطى ومن النساء، إلى شكل من الإسلام يعد بمزيج جذاب من السعادة الشخصية والنجاح المهني. بالإضافة إلى ذلك، فإن تلك «الصوفية العصرية» تتمتع بصفة جذابة أخرى تتمثل في تجنب الانتماء للإسلام السياسي، على عكس المنظمات الدينية الأخرى في إندونيسيا.
حتى في آسيا الوسطى التي شهدت فيها الصوفية قمعا وحشيا على مدار سبعة عقود من الحكم السوفييتي بصفتها «إقطاعا إسلاميا»، أسفر ظهور الجمهوريات الجديدة في تسعينيات القرن العشرين عن إحياء هائل للنشاط الصوفي الذي كان مدعوما من الدولة والأفراد أيضا.
123
ونظرا لأن حكم الإمبراطورية الروسية والحكم السوفييتي من بعده قطعا الصلات على نحو حاسم مع التراث القديم، فإن ما عاود الظهور إلى السطح في تسعينيات القرن العشرين كان مزيجا غريبا من التقاليد الشعبية الريفية المتذكرة، وابتكارات قومية جديدة لطوائف الأولياء .
124
وعزز انقطاع الصلة بالتقليد استخدام السوفييت للحروف السيريلية بدلا من الحروف العربية، وترويجهم للغة الأوزبكية كلغة قومية؛ مما جعل - على غرار ما حدث في تركيا المعاصرة - الكتابات الصوفية القديمة التي ألفت في المنطقة، والمكتوبة بالفارسية والعربية، من غير الممكن قراءتها إلا من خلال محاولات ترجمتها التي لا تتم كثيرا، ونظرا لتعرض معظم العائلات الصوفية القديمة للاضطهاد، وسلب تراثهم منهم، فإن من عملوا على إحياء التقليد الصوفي من جديد بعد سقوط الحكم السوفييتي كانوا أساتذة جامعات متدينين، أمثال الكاتب الأوزبكي صدر الدين سالم بخاري، الذي كان متخصصا في دراسة أعمال الشاعر الألماني جوته.
125
منذ بداية سبعينيات القرن العشرين، شهدت تركيا ظهور الطريقة النقشبندية في الحياة التركية من جديد، خاصة تحت الستار المؤسسي للأحزاب السياسية المحافظة اجتماعيا.
126
وعلى غرار المناطق الأخرى، اتخذت التقاليد الروحانية والفكرية وكذلك المؤسسية للصوفيين أشكالا جديدة - كما هو الحال مع الحركة النورسية التي أسسها سعيد النورسي (1878-1960) المسجون المؤيد للطريقة النقشبندية - تجنبت وصف نفسها بأنها صوفية؛ بسبب الوصمة التي اكتسبتها الصوفية من جراء انتقادات القوميين العلمانيين والإصلاحيين الدينيين لها.
127
وفي تركيا كون فتح الله جولن (1941-...) تقاربا أكثر انفتاحا مع الصوفية، من خلال التأكيد على أهمية المعتقدات الصوفية وليس مؤسساتها،
128
وبسبب ارتباط حركة جولن برجال الصناعة المتدينين، وليس المعاشات والأراضي التي كانت تمنحها الإمبراطوريات للصوفيين في السابق، وتأسيسها مدارس كان فيها الإسلام الصوفي متوافقا تماما مع التعليم العلمي، توسعت بحلول تسعينيات القرن العشرين وجاوزت أصولها القومية، ودخلت الأسواق الدينية التي فتحت في آسيا الوسطى بسقوط الاتحاد السوفييتي الذي قمع الطرق الصوفية لمدة سبعين عاما.
129
نظر قادة تركيا إلى نجاح حركة جولن نظرة متضاربة، وفي عام 1998 هاجر جولن إلى الولايات المتحدة، ومثل هذا القرار لحظة عالمية جديدة في عملية نشر تعاليمه، وعلى غرار الأمثلة الإندونيسية، إذا كانت حركة جولن في صورها المادية تمثل كيانا مختلفا تماما عن الطرق والأضرحة الصوفية التي ظهرت في العصور السابقة، فمن حيث جاذبيتها للطبقة الوسطى المسلمة المتعلمة والليبرالية، فإنها تنقل إلى الوقت الحاضر نقلا بالغ الكفاءة لتقليد صوفي مبتور.
في الشرق الأوسط العربي، شهد النصف الثاني من القرن العشرين جدلا مستمرا بين الصوفيين والإصلاحيين المناهضين للصوفية، وعلى الرغم من ذلك يرى كثير من أتباع الطرق الصوفية أن القرون التي تمتعت فيها الصوفية بالمنزلة الرفيعة مكنت شيوخها من الحفاظ على مكانتهم كناقلين للتقليد.
130
وعلى الرغم من توقعات الزوال الحتمي للصوفية في الشرق الأوسط أثناء ذروة القومية العربية، وعلى الرغم من المشروع الإصلاحي الطويل المتمثل في السلطة الدينية الفردية، فإن شيوخ الطرق الصوفية في الشرق الأوسط ظلوا حتى نهاية القرن العشرين يحظون بتقدير كاف لجذب أتباع من خلفيات مختلفة. ويتراوح أتباع الطرق الصوفية في شمال سوريا ما بين أساتذة جامعيين ورجال صناعة أثرياء وبين عمال يدويين فقراء يقودهم شيوخهم عبر طقوس انضمام شاقة، تتضمن حمل ثعابين حية، وأكل فحم مشتعل، وطعن أجسادهم بأسياخ.
131
وفي حين سعت قوانين الدولة في مصر إلى منع مثل هذه الممارسات الشنيعة من موالد الأولياء، فإن حكومة الرئيس مبارك ما زالت تستخدم هذه الموالد كمنصات للنشرات السياسية والتنظيم الشعبي؛ إذ إنها كونت تحالفات مع القادة الصوفيين الإصلاحيين أصحاب مصانع الكيماويات، والحاصلين على مؤهلات علمية من دول أوروبا الشرقية الشيوعية،
132
أما خلف الأبواب المغلقة، فقد ظلت العروض الصوفية القائمة على النشوة جزءا مهما من حياة المسلمين في مصر. وكما هو الحال مع الطريقة الجديدة التي تأسست عام 1952، بعد أن ظهر النبي محمد في المنام للموظف الحكومي جابر حسين الجزولي (1913-1992)، فقد استمرت التنظيمات الجديدة في الظهور، والتي تنقل التقليد حاليا من خلال وسائل رخيصة، تتمثل في الأشرطة الصوتية، والأقراص المدمجة، ومواد الدراسة المنزلية المعدة للاستخدام في حلقات الذكر الجماعي التي ظهرت لأول مرة منذ ما يزيد عن ألف سنة.
133
وفي كل أنحاء الشرق الأوسط نجحت الصوفية في الحفاظ على جاذبيتها، من خلال تسجيل موسيقاها. وعلى الرغم من أن هذه الأمر يحول التقليد إلى سلعة، فإنه سمح بوصول الشعر المكتوب منذ قرون إلى جماهير الشباب الحضري، الذين أقدم بعضهم بدورهم على خطوة الانتساب رسميا إلى إحدى الطرق الصوفية.
134
وعلى الرغم من تزايد القوانين الحكومية التنظيمية، فقد ظلت موالد الأولياء بالنسبة إلى كثير من المصريين العاديين مناسبات للترفيه والتنفيس العاطفي، وإذا لم تكن العروض والممارسات المصاحبة لتلك الموالد هي الإسلام الصوفي المتخيل في كثير من الروايات الغربية عن الصوفية، فإن هذه الأمور تمثل عناصر مهمة من عناصر الصوفية بالرغم من كل ذلك. وبالنسبة إلى الكثير من المسلمين في المدن الصغيرة والقرى في مصر والمغرب، ما زالت أضرحة الأولياء الصوفيين مزارات للاستجمام والتبرك؛ حيث تصطحب النساء أقاربهن للتنزه، ويشترين في الوقت نفسه وصفات علاجية شعبية رخيصة الثمن، ويطلبن من الولي المساعدة في التغلب على مصاعب الحياة اليومية.
135
وكنوع مشابه للتحالفات القديمة بين الدولة والصوفيين، دعمت أنظمة عربية عديدة في العقود الأخيرة من القرن العشرين الجماعات الصوفية كقوة مضادة لتنظيمات الإسلام السياسي الحديثة المعارضة لحكمها مثل جماعة الإخوان المسلمين، وفي بعض الحالات أدى ذلك إلى ظهور أشكال جديدة لنقل التقليد الصوفي، فضلت، كما في الأمثلة السابقة في أماكن أخرى، ألا توصف بأنها صوفية؛ وذلك كي تقدم نفسها في صورة إسلامية صرفة، أو ربما في صورة عصرية، ومن أمثلة هذه الأشكال في لبنان «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية»، التي أسسها الشيخ الإثيوبي المنفي عبد الله الهرري الحبشي، والتي قد لاقت استحسانا كبيرا بين المسلمين اللبنانيين الذين ضاقوا ذرعا بالإسلام السياسي.
136
والمخاطر في هذه المنافسة شديدة حاليا، ومثلما أدت المعارضة الصوفية للجبهة الإسلامية للإنقاذ الأصولية في الجزائر أثناء تسعينيات القرن العشرين، إلى قتل الكثير من المسلمين الصوفيين وأتباعهم، فإنه بعد تقديم تلك الجمعية لمرشحين لها لخوض الانتخابات الوطنية في لبنان عام 1992، أسفرت معارضتها الصريحة للجماعات الإسلامية عن اغتيال رئيسها.
إن التنافس مع تنظيمات الإسلام السياسي كان أيضا إحدى سمات التاريخ الصوفي في أفريقيا فيما بعد عصر الاستعمار، ولقد رأينا بالفعل صوفيين بارزين يلعبون دورا قياديا في الحياة السياسية في السنوات التي أعقبت استقلال السودان عام 1956. إلا أنه منذ سبعينيات القرن العشرين أدى ظهور تنظيمات إسلام سياسي، مثل الإخوان المسلمين والجبهة الإسلامية القومية، إلى تهميش دور الصوفيين السودانيين في الحياة العامة، وفي حين جذب الإسلاميون السودانيون استثمارات أموال النفط الثرية، من خلال آليات الصيرفة الإسلامية العالمية الجديدة، لم يبق مع الصوفيين الذين ازدهروا في ظل الإمبراطورية الفونجية والإمبراطورية البريطانية على حد سواء إلا موارد مستنزفة، متمثلة فيما يمتلكونه من أراض زراعية، وأتباع مهمشين اقتصاديا.
137
وتبدو الصورة مختلفة كثيرا في مناطق أخرى من أفريقيا، فنجد في غرب أفريقيا أن ورثة الطرق الصوفية التي كانت موجودة من قبل استمروا في الازدهار من خلال تكوين تحالفات استراتيجية مع التنظيمات السياسية الحديثة، ويعد فرع الطريقة التيجانية الذي يقوده الشيخ إبراهيم نياس (1900-1975) أحد الأمثلة على ذلك؛ فقد كون الشيخ تحالفات ماكرة مع الكثير من قادة الاستقلال الأفارقة والعرب في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وأصبح نائب رئيس رابطة العالم الإسلامي، وجمع تعاليمه في كتاب «كاشف الإلباس»، التي ثبت في النصف الثاني من القرن العشرين مدى تأثيرها الهائل في غرب أفريقيا.
138
وفي بقية الأماكن في المنطقة، واكب أتباع السجين السابق في سجون الاحتلال الفرنسي أحمدو بامبا مباكي التغيرات التي حدثت في مجتمع غرب أفريقيا في العقود الحديثة، من خلال جذب أتباع جدد بين الفلاحين الذين هاجروا إلى مدن السنغال النامية،
139
وفي ظل خلفاء مباكي، واكبت الحركة المريدية السنغالية أيضا التطورات الحادثة في تكنولوجيا الاتصالات للحفاظ على ولاء أتباعها، حتى في مجتمع الشتات التجاري الكبير الذي خلقته العولمة في أوروبا وأمريكا.
140
وفي حين تدهور وضع الصوفيين في السودان مقارنة بمنافسيهم الإسلاميين بسبب قلة استثماراتهم مقابل استثمارات الإسلاميين، فإن الطريقة المريدية في السنغال جذبت تدفقات مالية متزايدة عندما روجت لمفهوم متدين للعمل، يشجع الأتباع على اعتبار رحلات العمل الدولية التي يقومون بها جزءا لا يتجزأ من تقدمهم الروحاني.
141
وفي تسعينيات القرن العشرين ظلت الصوفية حية بالقدر نفسه في مالي المجاورة للسنغال، عن طريق ظهور قادة صوفيين شباب جذابين، حققوا نجاحا هائلا في الترويج لأنفسهم بين غيرهم من الشباب الحضري في مدن مثل باماكو وسيجو.
142
وفي حالة الشيخ صوفي بلال، تضمن الأمر عمل جدائل شعر الراستا الرائجة، ونشر كتيبات عن تعاليمه، وشراء أوقات بث للترويج لنفسه في محطات الإذاعة المحلية. وكما هو الحال في بيئات ما بعد الاستعمار الأخرى، التي انفصل فيها المواطنون العصريون عن التقاليد الأدبية لأسلافهم بسبب سياسات اللغة التي فرضها الاستعمار، نجد أن كتابات الصوفيين أمثال صوفي بلال كانت باللغة الفرنسية، وليست باللغة العربية التي كتب بها الصوفيون قاطنو الصحراء الكبرى في العصور السابقة. لكن إذا كان هذا ينطوي بالتأكيد على إعادة صياغة للتقليد، فإن الحقيقة الذرائعية للأمر تتمثل في أن اللغة الفرنسية، لا اللغة العربية، هي ما جعلت هؤلاء الصوفيين جذابين في أعين جماهيرهم الحضرية العريضة. وكنوع من إضفاء الطابع المحلي في فترة ما بعد الاستعمار، أصبحت لغات مثل الفرنسية والإنجليزية من لغات الإسلام الصوفي الجديدة، لتحلا محل اللغتين الفارسية والتركية، اللتين كانت لهما القيادة في السابق. (4-2) الصوفية في الغرب
في سياق العولمة نجد أن ظهور اللغات الأوروبية كوسيلة للتعبير الصوفي يمكن رؤيته أيضا في انتشار الطرق الصوفية في العصر الحديث في أوروبا وأمريكا. وعند انتقال الصوفية إلى هذه السياقات الاجتماعية الجديدة، تغيرت هي نفسها في بعض الأحيان بسبب احتياجات السكان المختلفين الذين خاطبتهم؛ إذ كانت لدى بعضهم رغبة في «تصوف» عالمي وليس الإسلام. وكما رأينا في السابق، فإن الصوفيين كانوا قد بدءوا بالفعل في الانتقال إلى أوروبا وأمريكا أثناء فترة الاستعمار، سواء من خلال رحلات شمال أفريقيا التي قام بها الباطنيون السويسريون أمثال فريتجوف شوان، أو الرحلات الأمريكية التي قام بها الصوفيون الهنود أمثال عنايت خان. لقد تزايد هذا الانتشار الجديد في النصف الثاني من القرن العشرين المتأثر بالعولمة تأثرا شديدا.
يمكن ملاحظة ثلاثة أنماط عامة وسط هذا العدد المتزايد من الجماعات الصوفية التي تكونت في الغرب في فترة ما بعد الاستعمار؛ أما النمط الأول الذي كان يضم ما يمكن وصفهم بأنهم «الصوفيون المهاجرون»، فتضمن جلب جماعات صوفية كجزء من عملية أكبر متمثلة في تأسيس مجتمعات المهاجرين. وفي هذه الحالات، تنوعت أشكال الصوفية وفقا للخلفيات الإقليمية والطبقية والتعليمية لمجتمع المهاجرين ذي الصلة، وخضعت للتعديل مع تغير التفضيلات الدينية للمهاجرين أنفسهم نتيجة لتجاربهم في أوطانهم الجديدة. وعلى الرغم من أن البيئات نفسها التي وجد فيها هؤلاء الصوفيون كانت جديدة في حد ذاتها كما رأينا في الفصول السابقة، فإن نمط هجرة الصوفيين في أعقاب التحركات السكانية الواسعة ليس بالجديد وإنما أكثر قدما. أما النمط الثاني الذي كان يضم ما يمكن وصفهم بأنهم «الصوفيون الرياديون»، فتضمن صوفيين لم يكن لديهم مجتمع هجرة مضيف موجود من قبل، وجمعوا أتباعا كانوا في الأساس إما من مناطق إسلامية مختلفة عن مناطقهم وإما غربيين متحولين حديثا إلى الإسلام. مرة أخرى، على الرغم من أن البيئة كانت مختلفة، فإن النمط نفسه كانت له سوابق متعددة، خاصة في القرن التاسع عشر الذي اتسم بالحراك بسبب السفن البخارية والسكك الحديدية؛ حيث شهدنا صوفيين روادا مشابهين قادمين من أفريقيا وشبه الجزيرة العربية، يجمعون أتباعا من مجموعات عرقية مختلفة في جنوب آسيا وجنوب شرقها. أما النمط الثالث الذي يضم ما يمكن وصفهم بأنهم «الصوفيون المندمجون»، فتضمن صوفيين من أصول مسلمة أو من أصول غير مسلمة تربوا في دول غربية، وجذبوا أتباعا كانوا مثلهم إما متحولين إلى الإسلام وإما مسلمين مولودين في الغرب. ونظرا لكون هؤلاء الصوفيين متأثرين كثيرا بالأفكار والتوقعات الأوروبية الأمريكية، فقد تشكلوا في كثير من الحالات من خلال حركة العصر الجديد، أو الاتجاهات الباطنية الرائجة في السوق الديني. وعلى الرغم من أن هذا النمط الأخير ظهر بالتأكيد بسبب التفاعلات الاستعمارية التي رأيناها بين السالكين الأوروبيين وشيوخ شمال أفريقيا أو شيوخ الهند في بعض الأحيان في أوائل القرن العشرين، فإنه لم تكن له سوابق مهمة قديما.
143
وتعرض الصفحات التالية أمثلة على كل نمط من هذه الأنماط الثلاثة؛ لندرك تنوع الجماعات الصوفية المتضمنة في هذا التوسع الغربي الثلاثي الأشكال.
إذا التفتنا إلى النمط الأول، فسنجد أننا رأينا بالفعل أحد الأمثلة المهمة على الصوفيين المهاجرين عندما تناولنا أتباع الطريقة المريدية في غرب أفريقيا، الذين حملت تجارتهم المتنقلة حول العالم ممارساتهم إلى مجتمع الشتات السنغالي المنتشر بأعداد قليلة في كل الدول الأوروبية تقريبا. وعندما انتشر المريديون في فرنسا وما وراءها بعد ذلك، استمرت شبكة التجارة التي أسسها في الأصل مباكي وأسرته مع اقتصاد الاستعمار الفرنسي حتى فترة ما بعد الاستعمار، على يد أتباع الطريقة المريدية الذين جلبوا معهم - إلى جانب مصنوعاتهم اليدوية الأفريقية والساعات المقلدة - تقليدهم، بما في ذلك إنشاد الذكر، وتعليق ملصقات مباكي أينما عملوا.
144
وفي حالة الصوفيين المهاجرين من جنوب آسيا، أدت هجرة الباكستانيين إلى بريطانيا إلى ظهور أنماط معقدة من التداول الديني؛ لأن الطرق الصوفية التي نشأت في الأصل في الوطن الآسيوي اتخذت أشكالا جديدة في بريطانيا قبل تصديرها بدورها مرة أخرى إلى باكستان.
145
ومن أمثلة ذلك طريقة زنده بير التي ظهرت عند التلال السفحية لجبال الهيمالايا القاحلة في مدينة كوهات الباكستانية، في خمسينيات القرن العشرين، وانتشرت تدريجيا بين الباكستانيين البريطانيين من خلال جهود الجندي السابق وعامل المسبك صوفي صاحب في برمنجهام. وفي ثمانينيات القرن العشرين، نجد أن الطريقة التي كانت في الأصل مهمشة اجتماعيا في كل من باكستان وإنجلترا تطورت إلى شبكة شتات باكستاني عالمية، يتدفق من خلالها الزوار والأموال، وكذلك التقاليد الطقسية، وطلاسم التحصين، والممارسات التأملية. وعلى الرغم من أن تلك الطريقة كانت مقتصرة على مجتمع الشتات الباكستاني على وجه الخصوص، شأنها شأن بقية أشكال الصوفية المهاجرة الأخرى في الغرب، فإنها من خلال تقديم عقيدة تصوفية متماسكة، وكذلك جلسات لطرد شياطين «الجن»، حازت على إعجاب الأطباء المتعلمين، وكذلك ربات البيوت غير المتعلمات، الذين مثلوا الجالية الباكستانية العالمية في نهاية القرن العشرين.
يمكن أن نجد أشكالا مشابهة لهذا التبادل القائم على التداول في صوفية مجتمع المهاجرين الأتراك في ألمانيا؛ حيث إن نشأة هؤلاء المهاجرين في الريف الأناضولي في الأساس جعلت ارتباطهم بالتقليد الصوفي أكثر قوة مقارنة بالأتراك الحضريين الأكثر علمانية؛ ومن أمثلة ذلك طريقة الشيخ النقشبندي سليمان حلمي طوناخان (المتوفى عام 1959)، وخليفته كمال كاتشار (المتوفى عام 2000)، وعلى الرغم من تعرض تلك الطريقة للتمييز من جانب كل من الحكومة التركية والحكومة الألمانية، فقد شهدت انتشارا هادئا لكنه سريع ومتزامن في كلا البلدين؛ بسبب نسق «الهجرة والعودة» المنتظم، الذي ميز نموذج هجرة العامل الوافد في ألمانيا، الذي يعد في حد ذاته نوعا من العولمة.
146
أما إذا تطرقنا إلى الصوفيين المهاجرين في إيطاليا، فسنجد أن عملية الهجرة أعادت تشكيل الممارسات الصوفية لغجر الروم المقدونيين، أعضاء الطريقة الخلوتية، الذين هاجروا إلى إيطاليا في تسعينيات القرن العشرين. لقد واجه هؤلاء انتقادات من المسلمين العرب المتأثرين بالإسلام الوهابي المناهض للصوفية، الذين كانوا مقيمين بالفعل في إيطاليا؛ حيث قالوا إن أسلوب الصوفية «الغجري» ليس هو الإسلام الحقيقي؛ ونتيجة لذلك هجروا ممارسات معينة مثل تقبيل يد شيخهم.
147
وفي هذه الحالات، أصبحت أوروبا نفسها مكانا لتغيير التقليد الصوفي قدر ما أصبحت مكانا لنشره.
إذا تطرقنا إلى النمط الثاني من الصوفيين في الغرب، فسنجد أن أحد أنجح الأمثلة على الصوفيين الرياديين هو شيخ الطريقة النقشبندية الجذاب الشيخ ناظم الحقاني. ولد الشيخ ناظم في جزيرة قبرص عام 1922، واكتسب العلم الصوفي في إسطنبول ودمشق بعد أن درس أولا الهندسة الكيميائية.
148
وإلى حد ما كانت الظروف تستثير الطابع المتجاوز للقوميات الذي يميز أتباعه لدرجة أنه ربما طرد من تركيا نفسها في ذروة التوجه الجمهوري العلماني خاصتها في منتصف ستينيات القرن العشرين. وفي حين حقق الشيخ ناظم نجاحا هائلا في تكوين أتباع له في تركيا وسوريا ومصر، فقد كان مميزا للغاية بسبب نجاحه في أوروبا والولايات المتحدة، الأمر المدهش بصفة خاصة فيه هو قدرته على جذب أتباع له على مستوى عالمي؛ فهم لم يكونوا فقط من بلاد مختلفة، بل من مناطق ثقافية مختلفة وأصحاب لغات مختلفة أيضا. وفي أوروبا كان ناجحا بصفة خاصة في جذب الألمان المتعلمين من الطبقة الوسطى، بينما في الولايات المتحدة نجح كثيرا في جذب الأمريكيين ذوي الأصول اللاتينية والأفريقية، الذين شكلوا في العقود الأخيرة الكتلة الأساسية من الأمريكيين المتحولين إلى الإسلام.
149
وعلى النقيض من بعض «الصوفيين المندمجين» الذين سنتطرق إليهم فيما يلي، ظل الشيخ ناظم ملتزما بالتقليد النقشبندي في التمسك بأهمية الشريعة في حياة الصوفي، إلا أنه كان في الوقت نفسه منفتحا على نحو مدهش مع غير المسلمين؛ حيث قبل أتباعا دون اشتراط دخولهم المبدئي في الإسلام. وعلى الرغم من أن توقعاته بنهاية العالم التي لم تتحقق على نحو متكرر في أعوام 1996 و1997 و1998 قللت من مصداقيته، فإن ريادته الجذابة جعلته يستخدم نطاقا من وسائل الإعلام الحديثة لجذب الأتباع، وعن طريق السماح للمريدين الجدد بأخذ قسم البيعة التقليدي له عبر الإنترنت، والسفر حول العالم لإعطاء دروس الصحبة البالغة التنظيم، وبيع مجموعة من المنتجات الصوفية المنتجة على نطاق واسع؛ سعى بدهاء إلى إعادة إنتاج التقليد باستخدام آليات العولمة، وأثبت أيضا عبقريته كمدير لجماهيره المختلفة، وقد حقق ذلك من خلال تعديل درجة الاختلاط بين الذكور والإناث، وصرامة أعراف اللبس، وتجنب القضايا السياسية (أو الترويج لها)، على حسب مجموعة الأتباع التي يخاطبها. وشأن الأشكال الأخرى من الثقافة المتسمة بالعولمة، فمن الممكن الاعتقاد بأن التقليد الصوفي تعرض للإضعاف أو للدقرطة، إلا أن ما يبدو واضحا هو زيادة مصداقية التقليد في زمن المستحدثات الزائفة.
حصرت المجموعات الصوفية الريادية الأخرى انتشارها في الغرب في مناطق معينة؛ مثل الطريقة البودشيشية المغربية، فتحت رعاية سيدي حمزة بن العباس بودشيش (المولود عام 1922) استخدم قادة الطريقة البودشيشية ندوات شبيهة بندوات عالم الأعمال؛ لتسويق الطريقة على أنها بديل حقيقي للإسلام السياسي لكنه بديل تقدمي.
150
لم تجذب الطريقة المواطنين الفرنسيين من أصل شمال أفريقي فقط، بل جذبت أيضا السالكين الروحيين الفرنسيين في العموم، وعلى هذا النحو نجحت في زيادة شهرتها عن طريق الأنشطة الثقافية للأتباع المشاهير؛ ومن أمثلة هؤلاء المشاهير: المفكر العام الفرنسي فوزي الصقلي الذي ساعد في تأسيس مهرجان فاس السنوي للموسيقى الروحانية، ونجم الراب الفرنسي - الكونغولي المولد - عبد الملك، الذي أرخ من خلال موسيقى الهيب هوب والسيرة الذاتية رحلته إلى الصوفية من المخدرات والجريمة في ضواحي المدن.
151
وأثناء ثمانينيات القرن العشرين تكونت بالمثل في ألمانيا فروع محلية من الطرق الصوفية الأقدم على يد ألمان متحولين إلى الإسلام على دراية واسعة بالمتطلبات النفسية لزملائهم من بني وطنهم،
152
ومن أمثلة هذه الطرق طريقة لها اسم باللغتين العربية والألمانية ، وهي «طريقة السفينة» أو «شيفس فيك»، التي تأسست بعد أن أقام بشير أحمد دولتس (المولود عام 1935) - الألماني الذي اعتنق الإسلام - لفترة طويلة في ليبيا، وبعد العودة إلى بون عام 1983 أسس دولتس العديد من المؤسسات المخصصة للحوار بين الأديان.
153
بالإضافة إلى تأسيس تلك الجماعات الصوفية الألمانية مؤسسات متأثرة بالعلاج النفسي، مثل معهد الأبحاث الصوفية الموجود في برلين، فقد حققت نجاحا هائلا في جذب الأتباع السابقين للحركات الدينية الجديدة المنبثقة من الهندوسية، لدرجة أن صحيفة التابلويد الألمانية التي تحمل اسم «بيلد» كتبت في عنوانها الرئيسي: «ذهب الإله بهاجوان الهندوسي، وحل محله الله.»
154
أما في سياق أمريكا الشمالية، فقد كان محمد رحيم باوا محيي الدين (المتوفى عام 1986) واحدا من أهم الصوفيين الرياديين،
155
فبعد أن انتقل إلى الولايات المتحدة من موطنه سريلانكا عام 1971، جذب إلى خلوته الريفية التي أسسها خارج فيلادلفيا أتباعا كانوا في الأساس من البيض المنتمين للطبقة الوسطى، واستخدم النمط الجذاب الرائج المتمثل في نمط الحياة النباتي، وتسجيل ألبوم لصالح شركة فوكواي ريكوردز للتسجيلات، وتقديم نفسه في صورة معلم روحاني - كما في الهندوسية - تصادف أنه مسلم. وفي أول أعماله بالإنجليزية «الحكمة الإلهية المضيئة المبددة للظلام»، المنشور في الولايات المتحدة عام 1972، جمع بين التعاليم الإسلامية والروحانية المقتبسة عن الهندوسية التي كانت رائجة في الثقافة المضادة الأمريكية.
156
إلا أنه حتى هذه الصوفية الريادية ذات الحراك العالمي كانت خاضعة للعولمة أيضا، ومع مرور الوقت اكتسبت فيلادلفيا سكانا من المهاجرين المسلمين، الذين شجعوا محيي الدين على إبراز الجوانب الإسلامية الأكثر رسمية في تعاليمه، وفي عام 1984 انضم المتحولون إلى الصوفية الذين كانوا بين صفوف أتباعه القدماء المولودين في أمريكا إلى المهاجرين المسلمين المستجدين، وأسسوا مسجدا لمجتمع المسلمين في فيلادلفيا، الذي أصبح في ذلك الوقت مجتمعا كبيرا. ومنذ ستينيات القرن العشرين اكتسب الكثير من هؤلاء الصوفيين الرياديين أتباعا من كل أنحاء الولايات المتحدة، ووصفت دراسة حديثة ثلثي المؤسسات الصوفية البارزة بالنشطة هناك، وكان يقود معظم هذه المؤسسات قادة صوفيون مهاجرون، لكن بعضها كان يقوده متحولون إلى الإسلام ينتمون إلى نمط «الصوفيين المندمجين» الذي سنتطرق إليه الآن.
157
أما النمط الأخير للتوسع الصوفي في أوروبا وأمريكا الشمالية، فيتمثل في «الصوفيين المندمجين». بوجه عام، نشأ هؤلاء في البلاد الغربية (سواء لعائلات مسلمة أو غير مسلمة) وجذبوا أتباعا كانوا مثلهم، إما متحولين إلى الإسلام أو مسلمين تربوا في بلاد غربية، وفي بعض الحالات كان القادة الصوفيون المندمجون هؤلاء هم أنفسهم من المتحولين إلى الإسلام؛ ونظرا لأن الكثير من هؤلاء الصوفيين كانوا أكثر تأثرا من غيرهم من الحركات الصوفية بالتركيز على «الروحانية» و«الباطنية» في أعقاب ستينيات القرن العشرين، فقد تطرف العديد منهم لدرجة فصل الصوفية تماما عن إطارها الإسلامي، مع استمرار الاعتماد على سمات معينة من التقليد الصوفي.
158
وبينما يمكن على هذا النحو أن يزعم الصوفيون المهاجرون والرياديون في عصر العولمة أنهم لم يتخلوا تماما عن التقليد الصوفي؛ فإن الصوفية المندمجة المنسلخة عن الإسلام تمثل بوضوح ردا جديدا على انتقائية السوق الدينية العالمية. ويعد إدريس شاه (1924-1996) أقدم الأمثلة وأكثرها إبهارا في هذا الإطار؛ حيث تربى في إنجلترا بعد أن ولد لأم اسكتلندية وأب هندي من أصل أفغاني، وبعد نشره كتابا عن السحر بعنوان «سحر الشرق» في عام 1956، وكتاب رحلات إلى مكة كانت شخصيته فيه تشبه كثيرا شخصية البريطاني الاستعماري المتعجرف؛ أصبح في أوائل الستينيات سكرتيرا لجيرالد جاردنر؛ متعهد سحر الوثنية الجديدة.
159
ومع انصراف حماس الحركة الهيبية عن الامتزاج بالثقافة المغربية والهندية وتحوله إلى الأديان الشرقية، اعتمد إدريس شاه على خلفيته الأسرية، ليعيد تقديم نفسه كوريث لسلالة قديمة من الأرستقراطيين والشيوخ الصوفيين الأفغان، تعود إلى ماضي بلاد فارس القديم. ومن خلال أخذ أجزاء سهلة الفهم من المعتقدات الموجودة في الأعمال الصوفية الكلاسيكية وتحويلها إلى كتيبات حققت أعلى مبيعات، ومن خلال جذب مساعدين طليعيين مثل الروائية دوريس ليسينج والشاعر روبرت جريفز؛ اكتسب إدريس شاه في نهاية ستينيات القرن العشرين نطاقا كبيرا من الأتباع، بالإضافة إلى قاعدة مؤسسية عن طريق إنشاء دار نشر، وكذلك مؤسسة خيرية سماها معهد الأبحاث الثقافية. وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة التي طالت إدريس شاه، فقد كان - نظرا لبراعته في الترويج لنفسه - مسئولا أكثر من غيره عن زيادة وعي الغرب بالصوفية (وإن لم يكن دائما زيادة فهم الغربيين لها). وبالاعتماد على الطرق الاستعمارية والعولمة، نجد على الأقل في العالم الناطق باللغة الإنجليزية أن الصوفيين الذين لديهم أصول عائلية في مناطق كانت واقعة تحت الحكم البريطاني، هم من استطاعوا في كثير من الحالات تكوين شبكات في الغرب، كما حدث مع إدريس شاه، وينطبق ذلك بصفة خاصة على الصوفيين الذين تربطهم علاقات بالأراضي الهندية التي كانت واقعة تحت الاستعمار، سواء إدريس شاه أو سلالة عنايت خان (1882-1927) الذي رأيناه سابقا في هذا الفصل ينتقل من الهند إلى بريطانيا ثم إلى أمريكا. وعلى الرغم من أن سيرة عنايت خان بصفته مهاجرا صوفيا يعظ الجماهير الغربية تماثل سير الصوفيين الرياديين في الغرب، ففي الأجيال التالية لموته انتقل التراث الذي خلفه إلى أستراليا على يد الصوفيين المندمجين. وبحلول التسعينيات كان ورثة عنايت خان هؤلاء، الذين كانوا من أصل أوروبي لا من أصل آسيوي، قد عدلوا تعاليم شيخهم الهندي الراحل لتناسب أعراف مجتمعهم، وأكدوا على العفوية والمساواة والنسوية، لدرجة سببت توترات مع نسل عنايت خان، الذين زعموا أيضا أنهم ورثته الروحانيون.
160
وهكذا يتضح أن الصوفية المندمجة، التي ظهرت نتيجة لقاء الصوفية بالسوق الدينية المعتمدة على العولمة في أواخر القرن العشرين، اختبرت مبادئ النظام والانضباط الأساسية التي مثلت الأساس التنظيمي للتقليد الصوفي على مدار قرون.
إلا أن العولمة لم تقدم مسارا واحدا للتطور الديني؛ فلقد أتاحت أيضا فرصا جديدة لوصول تعاليم الصوفيين إلى جماهير جديدة بلغات جديدة، سواء من خلال ترجمة تعاليم أعمدة التقليد - أمثال الرومي وابن عربي - إلى اللغات الغربية، أو من خلال تأليف أعمال صوفية جديدة تماما بهذه اللغات. وأسهمت كل الجماعات الصوفية العاملة في الغرب في تكوين تراث صوفي ثري باللغات الأوروبية، وساعدت في جعل اللغة الإنجليزية بصفة خاصة لغة الإسلام العالمي، إلا أن الصوفيين المندمجين، أمثال إدريس شاه، والصوفي الإنجليزي المقيم في كاليفورنيا لويلين فون لي (1953-...)، كانوا هم الأكثر كفاءة في دخول سوق النشر التجاري.
161
وإذا كان يمكن القول إن تلك الكتابات تمثل محاولة للاستيلاء على التقليد أكثر مما تمثل سعيا لاستمراريته، فإن عملية تكوين التقليد التي رأيناها على مدار القرون المنصرمة كانت أيضا في بعض الأوقات عملية استيلاء وإعادة بناء، بل كانت أيضا ابتكارا. وأيا كان تقييمنا لكتابات الصوفيين المندمجين الغربيين هؤلاء، فإنها الآن تعد قنوات مبدئية مهمة لكثير من المواطنين العالميين الساعين إلى استكشاف تراث الصوفية الثري.
ملخص
وسط الانهيار المدوي للقوة الإسلامية في العصر الاستعماري، وجدت جماعات صوفية كثيرة، من غرب أفريقيا حتى آسيا الوسطى والهند، نفسها في مواجهة التوسع الأوروبي؛ لذا استفادت من ولاء الأتباع والتنظيم اللوجستي المميزين للطرق الصوفية، لتكوين أنواع من المعارضة المسلحة للغزو الاستعماري في بعض الأوقات. وعلى الرغم من ذلك، في أغلب الأحيان كان قادة المقاومة الصوفية هذه شخصيات ليس لديها سلطة كبيرة. ومثلما كان الصوفيون مرتبطين بالدول الحاكمة من خلال مفاوضاتهم السابقة مع الإمبراطوريات الإسلامية في عصر ما قبل الاستعمار، كان أعضاء المؤسسة الصوفية في كثير من المناطق أكثر استعدادا لإيجاد وسيلة توافق مع حكامهم الاستعماريين الجدد، على الرغم من أن بعض الحكام الاستعماريين (لا سيما الفرنسيين والروس) قد أبدوا عدم الثقة في الطرق الصوفية؛ ولذلك تمكن الصوفيون، في كثير من البيئات الاستعمارية وأيضا في المناطق المستقلة مثل إيران والإمبراطورية العثمانية، من الحفاظ على روابطهم مع الحكام الاستعماريين وتوسيعها في بعض الحالات، ليدخلوا القرن العشرين في زمرة المؤسسات الإسلامية القليلة المنتمية لعصر ما قبل الحداثة، التي نجت من الاستعمار دون أن يمسها أذى على نحو كبير. وسواء أكانت هذه التحالفات مع الطبقات الحاكمة تتم في ظل حكم إسلامي أو حكم أوروبي، فقد كانت في النهاية تحقق نتائج عكسية، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر جعلت سياسات الإصلاح الإسلامي المعارضة هذه المؤسسة الصوفية هدفا طبيعيا للانتقاد، وفي الوقت نفسه، تعرضت مكانة الصوفيين للتهميش على يد مزاعم المرجعية الدينية من قبل مؤسسات جديدة وأفراد جدد رافضين للتقليد الصوفي، ونموذجيه البركة والسلطة المتوارثين. وكثير من هؤلاء القادة الإسلاميين الجدد انتموا لمهن الطبقة الوسطى الجديدة، مثل التدريس في المدارس أو الصحافة أو الطب، وهذه المجموعة المتنوعة من الإصلاحيين والحداثيين رفضت الصوفية؛ لأنها مثال للتقليدية المتدنية، التي سمحت باستعمار المسلمين؛ ومن ثم وضعوا الصوفية بداية من أوائل القرن العشرين تحت الهجوم الأكثر استمرارية ونجاحا في تاريخها.
وعلى الرغم من توقعات الباحثين في منتصف القرن العشرين باختفاء الصوفية سريعا في ظل موجة أشكال الإسلام الأكثر «حداثة» هذه، فمن خلال سلسلة من التكيفات مع التقنيات والمجتمعات السكانية الجديدة في القرن العشرين، نجت الصوفية من هجوم منتقديها، حتى وإن فقدت عددا هائلا من أتباعها في هذه العملية. أما في بيئات العولمة في القرن الحادي والعشرين، فما يربط كل الحركات الصوفية النشطة الآن في أوروبا وأمريكا الشمالية، بالإضافة إلى المناطق الإسلامية القديمة، هو استخدامها الفعال للتقنيات الحديثة والأنماط التنظيمية الجديدة لنشر رسالتها؛ ففي مدن المغرب، يقابل الشيوخ الصوفيون مريديهم في أغلب الأحيان في أماكن أكثر شبها بقاعات المؤتمرات، التي تعقد فيها ندوات عالم الأعمال، منها بالتجمعات الطقسية التي كانت تميز الفترات القديمة، في حين أصبح من الأرجح أن تجد تجمعات طقوس الموسيقى والغناء الصوفيين في لوس أنجلوس وليس في شيراز. وفي بيئة تتأثر بالعولمة على نحو متزايد، تتضاءل جدوى فكرة التفريق بين صوفية العالم «الغربي» وصوفية العالم «الإسلامي»؛ فنظرا لأن الطريقة الحقانية النقشبندية الخاصة بالشيخ ناظم القبرصي وحركة القائد الروحاني التركي فتح الله جولن، تعملان بصفتهما مشاريع متجاوزة للقوميات في جوهرها، فإنه توجد دلائل كثيرة على أن الصوفية سوف تحتفظ بحصة معقولة في السوق الدينية العالمية. وإذا كانت حركات الإصلاح الإسلامي المناهضة للصوفية في القرن العشرين قد جعلت ورثة التقليد الصوفي لا يقدمون دائما أنفسهم على نحو رسمي في الوقت الحاضر باعتبارهم «صوفيين»، فإن إعادة استيعاب هذه الصوفية غير المميزة في تصور أكبر للإسلام في العموم، تمثل من جوانب كثيرة عودة إلى الفكرة القديمة المتمثلة في كون التقليد الصوفي جزءا لا يتجزأ من دين الإسلام.
شكل 4-5: الغناء مدحا في الأولياء: مداحون يستخدمون تقليد القوالي الموسيقي في الهند (تصوير: نايل جرين).
على الرغم من فترات توقف نقل التقليد التي تسببت فيها الحداثة، وعلى الرغم من توجهات الدمج الرائجة في السوق الدينية العالمية، فمن خلال التأكيد على مرجعية الشيوخ القدماء وتعاليمهم التي أورثوها عبر العصور، يعد كثير من الصوفيين في العالم في الوقت الحاضر الحملة الحقيقيين لتقليد تكون من ذكرى وتراث الصوفيين الأوائل في بغداد. وفي حين يقدم بعض الصوفيين «الرياديين» أو «المندمجين» نسخا من التقليد مبتكرة أو مستولى عليها على نحو واضح للغاية، فإنهم ما زالوا يعتمدون على منطق التقليد ليربطوا أنفسهم بأقوال وممارسات الشيوخ الصوفيين القدماء. وعلى الرغم من أنه يوجد بلا شك أكثر من شكل متاح من الإسلام ليختار من بينها المسلمون، وأن المؤسسة الصوفية القديمة لا توجد بين هذه الأشكال إلا في صورة متضائلة للغاية، فإنه بالنسبة إلى ملايين كثيرة من المسلمين ما زالت تعاليم الصوفية تنير الطريق إلى التناغم مع الإله الذي خلقهم. وفي حين تغيرت السياقات الاجتماعية للصوفية جذريا على مدار تاريخها الذي يزيد قليلا عن ألف سنة، فإن الصوفية كتقليد ظلت متماسكة عن طريق روابط النصوص والمصطلحات، والأنساب والشيوخ، والطقوس والعهود التي من خلالها تعهد الصوفيون الأحياء في كل جيل بالالتزام بالأخلاقيات والممارسات والمعتقدات التي يحافظون عليها بوصفها المعتقد السري للنبي. ونظرا لأن هذا الكتاب عمل تاريخي يعتمد فقط على الأدلة المكتوبة والآثار المعمارية، فقد افتقر بلا شك إلى التطرق للتجربة الشخصية التي يعيشها الصوفيون، والنشوة التي يشعرون بها، اللتين تمثلان شريان التقليد بالنسبة إليهم. إلا أن الكلمات والأماكن التي تناولناها هنا لم تكن مجرد الوسائل الثقافية التي ربطت الصوفيين بالعالم من حولهم؛ فقد كانت أيضا أدوات التقليد التي سمحت لهم بتجاوزه. وإذا كنا لم نستطع تتبعهم في أفعال التسامي تلك، فهذا بسبب أننا قرأنا أعمالهم بطريقة مادية لا بطريقة تأملية، فعندما طالعنا النصوص العديدة المنتمية إلى فترات متعددة، وقعنا في خطر عدم التطرق إلى الفعل الأول الذي انطلق من خلاله الصوفيون في عمليات صعودهم وتساميهم، وهو: تأمل حرف الباء في البسملة (بسم الله)، التي تمثل الكلمة الافتتاحية في القرآن، وإذا كانت النقطة الموجودة تحت حرف الباء هنا تمثل للصوفيين إشارة تتجاوز التاريخ لتدل على التفرد الكوني الذي تبدأ وتنتهي فيه كل الأشياء، فإن ما تناولناه في هذه الصفحات هو القصة المتعددة الأوجه والبشرية للغاية للصوفيين في العالم.
مسرد المصطلحات الصوفية
آداب:
قواعد السلوك الرسمية للحياة الصوفية.
الإنسان الكامل:
معتقد عن الولي الكامل الذي يمتلك معرفة كاملة عن الله.
أولياء:
الشيوخ الصوفيون البارزون المبجلون وهم أحياء أو أموات.
باطن:
البعد الخفي أو غير المرئي من الحياة.
بدعة:
فعل أو معتقد ليس له سند في «السنة» (انظر «السنة»).
برزخ:
الشخص أو نقطة الوجود التي يلتقي فيها العالم الإلهي بالعالم البشري.
البركة:
قوة الأولياء المقدسة.
البقاء:
تجربة الوجود المطلق بعد «الفناء» (انظر «الفناء»).
بيعة:
عهد بالولاء للشيخ الصوفي.
تجديد:
الإحياء الدوري للإسلام كل قرن وكل ألفية بصفة خاصة.
تذكرة:
سيرة لأحد الأولياء.
تصوف:
أن يصبح المرء صوفيا، أن يلبس المرء الصوف، الصوفية.
تفسير:
أحد تأويلات القرآن.
تكية:
مسكن صوفي.
توحيد:
معتقد يرى أن الله واحد غير قابل للانقسام.
حال (الجمع: أحوال):
تجربة تصوفية.
الحديث:
الروايات الشفهية عن أقوال النبي محمد وأفعاله.
خانقاه:
مأوى وسكن صوفي (عادة في إيران وآسيا الوسطى والهند).
خرقة:
عباءة صوفية طقسية، ذات لون أو تصميم مميز غالبا.
خلوة:
ممارسة الانعزال عن العالم.
خليفة:
نائب يعينه الشيخ الصوفي له.
ذكر:
طقس الإنشاد الصوفي.
ذوق:
التجربة الروحانية المباشرة.
رباط:
مسكن محصن للزهاد المحاربين أو للتجار في شمال أفريقيا والأندلس، وأصبح لاحقا مصطلحا دالا على المسكن الصوفي.
رسالة:
كتاب قصير أو أطروحة.
روح:
ذات عليا.
زاهد (الجمع: زهاد):
ناسك، ممارس «الزهد» (انظر «زهد»).
زاوية:
مكان إيواء وسكن الصوفيين (عادة في شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى).
زهد:
إنكار صارم للذات، وكبح الجسد.
زيارة:
الحج إلى أحد الأضرحة الصوفية.
سلسلة:
تسلسل نسب طريقة صوفية أو سلالة ملكية.
سماع:
ممارسة صوفية تتمثل في الاستماع إلى الموسيقى أو الشعر المغنى.
السنة:
مجموعة الروايات التي تصف حياة النبي محمد.
سيد:
سليل آل النبي محمد.
الشريعة:
القانون الإسلامي المصاغ من تفسيرات القرآن والحديث (انظر «القرآن» و«الحديث»).
شطح:
العبارات الحماسية أو حتى المهرطقة التي يطلقها الصوفي أثناء الحال (انظر «حال»).
شيخ:
لقب لاحترام المرشد الصوفي.
طبقات:
مراتب النخبة الروحانية أو أجيال الصوفيين المسرودة في نصوص السير.
طريقة (الجمع: طرق):
الطريق الصوفي، والطائفة الصوفية.
ظاهر:
البعد الواضح أو المرئي من الحياة.
عرس:
ذكرى وفاة أحد الأولياء.
عقدة:
رابطة الولاء بين شيخ صوفي وأحد مريديه، التي تتم عن طريق القسم.
علماء:
ممثلو الشريعة وغيرها من تقاليد العرف الإسلامي.
فقير:
زاهد، صوفي.
الفناء:
تجربة تلاشي الهوية الشخصية.
القرآن:
الكتاب المقدس للمسلمين الذي أوحي به إلى النبي محمد.
قطب:
ولي يمثل محور الكون بأكمله، ويوجد على قمة هرمية «الأولياء» (انظر «أولياء»).
قلندر (كلمة فارسية):
صعلوك صوفي متنقل.
كتاب:
نص مكتوب بالعربية أو بغيرها من اللغات الإسلامية.
كرامة:
معجزة يقوم بها ولي صوفي.
مثنوي:
قصيدة تقوم على نظم مزدوج مقفى، مكتوبة بالفارسية بصفة خاصة.
مدرسة:
مكان لدراسة العلوم الإسلامية.
مرشد:
شيخ صوفي.
مريد:
تابع لشيخ صوفي.
مقام (الجمع: مقامات):
محطة على الطريق الروحاني الموصل إلى الله.
ملفوظات:
كتاب عن التعاليم الشفهية لشيخ صوفي.
نفس:
ذات دنيا.
نور (الجمع: أنوار):
ضوء، لا سيما نور الله.
وحدة الوجود:
معتقد وضعه ابن عربي (المتوفى عام 1240).
ولاية:
معتقد قداسة الولي.
ولي (الجمع: أولياء):
شيخ صوفي.
ملاحظات
مقدمة
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
قراءات إضافية
التاريخ الصوفي المبكر
Julian Baldick,
Mystical Islam (London: I.B. Tauris, 1989).
Ahmet Karamustafa,
Sufism: The Formative Period (Berkeley: University of California
التاريخ الصوفي في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث
Vincent Cornell,
Realm of the Saint: Power and Authority in Moroccan Mysticism (Austin: University of Texas Press, 1999).
Carl W. Ernst,
Eternal Garden: Mysticism, History, and Politics at a South Asian Sufi Center (Albany: State University of New York Press, 1992).
التاريخ الصوفي الحديث
Arthur F. Buehler,
Sufi Heirs of the Prophet: The Indian Naqshbandiyya and the Rise of the Mediating Sufi Shaykh (Columbia: University of South Carolina
Itzchak Weismann,
Taste of Modernity: Sufism, Salafiyya, and Arabism in Late Ottoman Damascus (Leiden: E.J. Brill, 2001).
الصوفية المعاصرة
Martin van Bruinessen & Julia Day Howell (eds),
Sufism and the “Modern” in Islam (London: I.B. Tauris, 2007).
Embodying Charisma: Modernity, Locality and the
(London: Routledge, 1998).
الصوفيون في الغرب
Jamal Malik & John Hinnells (eds),
Sufism in the West (New York: Routledge, 2006).
The Anthropology of a Global Sufi Cult (London: Hurst & Co., 2003).
الطرق الصوفية
J.M. Abun-Nasr,
Muslim Communities of Grace: The Sufi Brotherhoods in Islamic Religious Life. (New York: Columbia University Press, 2007).
Carl W. Ernst & Bruce B. Lawrence,
Sufi Martyrs of Love: The Chishti Order in South Asia and Beyond (New York: Palgrave Macmillan, 2002).
العقيدة الصوفية
William C. Chittick,
The Sufi Path of Knowledge (Albany: State University of New York Press, 1989).
Henry Corbin,
Creative Imagination in the Sūfism of Ibn al-'Arabī (Princeton: Princeton University Press, 1969).
كتابات نقدية مناهضة للصوفية
F. de Jong & Bernd Radtke (eds),
Islamic Mysticism Contested: 13 Centuries of Controversies and Polemics (Leiden: E.J. Brill, 1998).
Elizabeth Sirriyeh,
Sufis and Anti-Sufis: The Defence, Rethinking and Rejection of Sufism in the Modern World (Richmond: Curzon Press, 1999).
الشعر الصوفي
Franklin D. Lewis,
Rumi: Past and
(Oxford: Oneworld, 2000).
Annemarie Schimmel,
As Through a Veil: Mystical Poetry in Islam (New York: Columbia University Press, 1982).
الموسيقى والفنون الصوفية
Regula Burckhardt Qureshi,
Sufi Music of India and Pakistan (Cambridge: Cambridge University
Raymond Lifchez (ed.),
The Dervish Lodge: Architecture, Art, and Sufism in Ottoman Turkey (Berkeley: University of California Press, 1992).
Unknown page