Sufism - Origin and Sources
التصوف - المنشأ والمصادر
Publisher
إدارة ترجمان السنة
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٠٦ هـ - ١٩٨٦ م
Publisher Location
لاهور - باكستان
Genres
التَّصَوُّفُ
المنْشَأ وَالمَصَادِر
تأليف الأستاذ
إحسان إلهي ظهير ﵀
١٩٤١م ــ ١٩٨٧ م
إدارة ترجمان السُّنة
لاهور - باكستان
Unknown page
إهداء .
إلى شيخي الذي لا يرتضي أن يُذكرَ اسْمُه كَيلا يضيع أجْرُه يقاسمني همُومي وآلامي، ويقفُ وَرَائي في نوائِب الزّمان والحقِّ وَقفَةَ شَرِيفٍ وكريم.
إنْ لَمْ تُعِنِي خيْلُه وسِلاحُهُ
فمتى أقُودُ إلى الأعَادِي عسْكَرًا؟
أهدي إليه هَذَا الكتابَ إحترامًا لشخصه، وحُبًّا لشمائِله ِ، وتقْديرًا لمواقفه وَوَفَاءً لإخلاصه وإعتزازًا به.
المؤلف
1 / 3
مقدمة:
حمدًا لله على النعمة الظاهرة والباطنة كما يليق بجلاله وجنابه، وصلاة وسلاما على رسوله خير النبيين وأشرف المرسلين، ومن تمسك بسنته، وعض عليها بالنواجذ، واهتدى بهديه من أصحاب من أصحابه وأهل بيته وأتباعه إلى يوم الدين. وبعد:
فإنني قد إشتغلت بكتابي هذا منذ زمن غير قصير، أقدم عليه تاره وأتأخر عنه أخرى، مترددًا بين الإحجام والإقدام.
ولكننا لما رأينا احتياج الناس إلى معرفة هذه الفئة من الناس وأفكارها وآرائها ومعتقداتها، وكونهم مترددين متذبذبين في تقييمها ووضعها في مكانها اللائق الصحيح، خرجنا من ترددنا وتذبذبنا خائفين من وعيد الله وتهديده:
﴿وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون﴾ (١). و﴿ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه﴾ (٢) وقوله: ﴿لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون﴾ (٣).
ويعلم الله أنه لم يكن هذا التحفظ للحفاظ على نفسي وعرضي ومالي لكونها مهددة من قبل الضالين، الغالين، والمبطلين المنتحلين، الذين اكتشفنا أمرهم وكشفناه للناس واهتدينا إلى خباياهم وخفاياهم فأظهرناها أمام الآخرين، وعرضنا صورتهم الحقيقية بإزالة نقاب التقية والتستر عن وجوههم، وإماطة اللثام عن أسرارهم وعقائدهم وتعاليمهم الأصلية الحقيقية، لأن نفسي وجسمي ومالي وعرضي جعلتها فداء لوجه ربي وابتغاء مرضاته:
﴿إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين﴾ (٤).
_________
(١) سورة البقرة ١٤٦
(٢) البقرة ٢٨٣.
(٣) آل عمران ٧١.
(٤) الأنعام ١٦٣.
1 / 5
فنفسي وعرضي ومالي فداء شريعته تعالى وسنة نبيه وصفيه، خير البرية:
فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
وكان ذلك مسلك أحبائه ورفاقه وتلامذته، أصحابه الراشدين وآله الطاهرين والمتبعين لهم بإحسان:
فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدقوا فيهم ظنوني
وإن التحفظ لم يكن حرصا على نفس وعرض ومال، فإن لكل شيء قدرا، وأن أجل الله لآت ﴿ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾ (١) ﴿وكان أمر الله قدرًا مقدورًا﴾ (٢) و﴿كل نفس بما كسبت رهينة﴾ (٣).
كنت أظن أول الأمر أن بعض الغلاة هم الذين أساءوا إلى التصوف والصوفية، وأن الغلو والتطرف هو الذي جلب عليهم الطعن وأوقعهم في التشابه مع التشيع والشيعة، ولكنني وجدت كلما تعمقت في الموضوع، وتأملت في القوم ورسائلهم، وتوغلت في جماعتهم وطرقهم، وحققت في سيرهم وتراجمهم - أنه لا إعتدال عندهم كالشيعة تماما، فإن الإعتدال عندهم كالعنقاء في الطيور، والشيعي لا يكون شيعيا إلا حين يكون مغاليا متطرفًا، وكذلك الصوفي تماما، فمن لا يعتقد إتصاف الخلق بأوصاف الخالق، لا يمكن ان يكون صوفيا ووليا من أولياء الله.
ومن الطرائف أن ظني ذلك كان يجعلني ويحثني على أن أسمي مجموعة الكتابة عن المتصوفة (التصوف بين الإعتدال والتطرف) ولكنني لما كتبت وجدت أن هذا الاسم لا يمكن أن يناسب تلك المجموعة من الناس لعدم وجود الاعتدال مع محاولتي أن أجده لأدافع عنهم وأجادل، وأبرر بعض مواقفهم، وأجد المعاذير للبعض الأخرى، ولكني بعد قراءتي الطويلة العميقة العريضة لكتب الصوفية ومؤلفات التصوف، وجدت نفسي، إما أن أجادل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وأتبع كل شيطان مريد - ولا جعلني الله منهم - وإما أن أقول الحق ولا أخاف في الله لومة
_________
(١) الأعراف ٣٤.
(٢) الأحزاب ٣٨.
(٣) المدثر ٣٨.
1 / 6
لائم، وأتقي الله وأكون مع الصادقين، جعلني الله منهم ورزقني الاستقامة والثبات عليه،.
أما بعد: فهذا كتاب جديد نقدمه إلى القراء في موضوع جديد وقديم، جديد حيث أنه يبحث عن التصوف والصوفية، وقديم لأنه من نفس السلسلة التي كتبنا عنها وعاهدنا الله ﷿ أن نكتب ونتحدث عنها، ونتكلم فيها، ونزنها بميزان الكتاب والسنة، ونضعها في معيار النقد والتجزئة والتحليل ما دمنا أحياء نستطيع الكتابة والخطابة، وما دام في أنا ملنا قدرة في إمساك القلم، وفي اللسان رمق للتفوه والتكلم، لنؤيد الحق وندعمه، ونعلي كلمته ونرفع علمه، ولنبطل الباطل ونرد عليه، ولندحض شبهاته ونفند مزاعمه.
وإننا كنا نقصد أول ما بدأنا في الكتابة عن التصوف أن نقدم دراستنا فيه بصورة كتاب متوسط الحجم لا يزيد على ثلاثمائة صفحة، ويشتمل على تاريخ التصوف، بدايته، منشأه ومولده، مصادره وتعاليمه، عقائده ونظامه، سلاسله وزعمائه وقادته، ولكننا رأينا بعد المضي في الكتابة أن الأمر يتطلب أكثر من كتاب، وعلى الأقل كتابين.
الأول يشتمل على نشأة التصوف ومصادره، وقلّ من تطرق إليها بتفصيل، وكل الكتاب الذين بحثوا التصوف مروا عليها كعابر سبيل مع أن أهمية المصادر والمآخذ لطائفة وجماعة لا تقل عن أهمية تلك الجماعة وأفكارها، بل قد تزيد عليها بفارق كبير حيث إن المصادر والمآخذ كثيرا ما تحسم النزاع في معتقدات وعقائد، وتجعل تلك المعتقدات والعقائد تابعة لتلك المصادر.
وعلى هذا فقد فصلنا القول في ذلك، في كتاب مستقل نضعه اليوم بين أيدي الباحثين والقراء راجين أن ينال رضاهم، ولعلنا سددنا بذلك ثغرة كانت في احتياج لأن تسد ولو أنها تتطلب المزيد، كما أننا نظن أننا في بحثنا عن مصادر التصوف استطعنا أن نضع النقاط على الحروف، وخاصة بمقارنة النصوص والعبارات عند الأخذ بالنصوص والعبارات عند المأخوذ عنه، ومقارنة المقتبس بالمقتبس منه، من الكتب المعتمدة والمصادر الموثوق بها لدى الأطراف المعنية كلها، وخاصة في الباب الثالث عن التصوف والتشيع.
ومع إعترافنا بأننا قد سُبقنا إلى هذا البحث من قبل بعض الباحثين الذين كتبوا في هذا الموضوع سيجد القارئ ويلاحظ الباحث أننا أضفنا إليه أشياء
1 / 7
واستدركنا عليهم أشياء كثيرة في مختصرنا هذا لم يتطرق واحد منهم إليها، مع المقارنة الواضحة، والمشابهة الصريحة، والموافقات الجليلة، والنصوص الكثيرة من كلا الطرفين بدون تصنع وتكلف واستنتاج بعيد واستشهاد شارد غريب، وأعرضنا عن الأشياء التي كان يمكن إيداعها وإيرادها في هذا المبحث، ولكن بالكلفة والإستنباط فاخترنا ما لا يسع أحد إنكاره.
فنحن إستدركنا على السابقين مباحث هي أكثر أهمية وأكبر وزنا وأعظم شأنا مما اشتركنا في إيرادها، ولم يذكروها البتة، من إشتراك الشيعة والصوفية في إجراء النبوة بعد محمد صلوات الله وسلامه عليه، ونزول الوحي، وإتيان الملائكة، وتكليم الله إياهم، وعدم خلو الأرض من شخص به ثبات الأرض ووجودها، وعدم قبول العبادة بدونه، وتفضيل الوصي على النبي وونسخ الشريعة، ورفع التكاليف، وإباحة المحظورات وإتيان المنكرات وغيرها من المواضيع الهامة العديدة، فالحمد لله على ذلك.
وكذلك يجد القارئ في الباب الثاني من هذا الكتاب عند بحثنا عن المسيحية باعتبارها أحد المصادر الهامة للتصوف أننا قد انفردنا بإيراد نصوص مسيحية أصلية لمقارنتها بالنصوص الصوفية شهادة على الآخذ والمأخوذ عنه.
وقد إخترنا في هذا المبحث مسلكا ذا أبعاد ثلاثة:
أولا: لا نكتفي بإيراد النص الصوفي بل نورد معه النص الذي يشابهه من الديانات الأخرى على خلاف ما تعوده الكتّاب الثقة منهم بأن القارئ والباحث يعرف ذلك، فليس بضروري أن يكون القارئ متخصصا في هذا الموضوع حتى يكون له إلمامة بنصوص تلك الديانات.
ثانيا: أوردنا تأييدات من قبل الباحثين والكتاب من المسلمين والمستشرقين الذين إشتغلوا في دراسة التصوف بإعتبارها شهادات خارجية بعد الشهادات الداخلية الناتجة من مقارنة النصوص نفسها.
وثالثا: جمع النصوص من المتصوفة المتقدمين والمتأخرين المشهورين بالأعتدال والموثوق لدى العامة، وكذلك نصوص الآخرين من المتصوفة غير المعتدلين وغير الغلاة أيضا.
وحاولنا أن تكون هذه النصوص من الكتب المختلفة والمتفاوتة زمنا ومنهجا كي يكون الموضوع شاملا وكاملا، وافيا شافيا قدر الإستطاعة، وعلة لم يجتمع هذا العدد
1 / 8
من النصوص في مختصر آخر مثل مختصرنا هذا.
فالحمد لله الذي بتوفيقه ومدده وتأييده تتم الأعمال وهو ولي الهداية والرشاد.
ويجدر بنا أن نذكر ههنا أن الكتاب الثاني سيشمل على عقائد وتعاليم صوفية كما يشمل هذا الكتاب على أصلها ومنشأها ومصادرها ووليس معنى هذا أن هذا الكتاب خال عن معتقداتهم، بل ان أعظم قسط منه يشمل على العقائد والمعتقدات وإننا لم نبحث عن مصادر التصوف ومآخذه تاريخيا وسردنا لذلك شهادات وتوثيقات، بل أوردنا فيما أوردنا عقائد القوم، الخاصة بهم، وتعاليمهم التي إمتازوا بها عن غيرهم، ثم ذكرنا عمن أخذوا هذه المعتقدات، وأقتبسوا هذه التعاليم، واحدة بعد واحدة على أنها شهادات داخلية، فعلى ذلك هذا الكتاب مع عنوانه (المنشأ والمصادر) لم يبحث في الحقيقة والأصل إلا العقائد والمعتقدات، بهذا لا يكون هذا الكتاب موضوعيا صرف، بل يؤدي رسالته لبيان حقيقة هذه العصابة من الناس وكنهها ولإرجاع الأمور إلى نصابها، ووضع الأشياء في محلها ومقاديرها، وذلك هو العدل.
والنقطة الأخرى التي أشرنا إليها قبل قليل، ونريد أن نركز عليها هي أننا ما بنينا حكمنا، ولا وضعنا احتجاجنا واستدلالنا إلا على المتصوفة المشهورين المعروفين، والموثوق بهم المعتدلين لدى الجميع، وذلك أيضا استشهادا، لا استدلالا، كما يلاحظ الباحث أننا لم نورد في كل هذا القسم من الحلاج، ولا من طائفته وجماعته رواية واحدة، لا استدلالا ولا استشهادا، كي لا يتهمنا متهم أننا اخترنا الغلاة ورواياتهم للحكم على التصوف، لأنه في رأينا كما قلنا آنفا لا إعتدال في التصوف ولدى المتصوفة، اللهم إلا الزهاد الأوائل فإنهم ليسوا منهم، ولا هؤلاء من أولئك.
فإن التصوف امر زائد وطارئ على الزهد، وله كيانه وهيئته، ونظامه وأصوله، قواعده وأسسه، كتبه ومؤلفاته ورسائله ومصنفاته، كما أن له رجالا وسدنة وزعماء وأعيانا.
فإن الزهد عبارة من ترجيح الآخرة على الدنيا، والتصوف اسم لترك الدنيا تماما.
والزهد هو تجنب الحرام، والاقتصاد في الحلال، والتمتع بنعم الله بالكفاف، وإشراك الآخرين في آلاء الله ونعمه وخدمة الأهل والأخوان والخلان.
1 / 9
والتصوف تحريم الحلال، وترك الطيبات، والتهرب من الزواج ومعاشرة الأهل والإخوان، وتعذيب النفس بالتجوع والتعري والسهر.
فالزهد منهج وسلوك مبني على الكتاب والسنة، وليس التصوف كذلك، لذلك إحتيج لبيانه إلى (التعرف لمذهب أهل التصوف) و(قواعد التصوف) و(الرسالة القشيرية) و(اللمع) و(قوت القلوب) و(قواعد التصوف) و(عوارف المعارف) وغيرها من الكتب، وسيأتي تفصيل ذلك في الكتاب القادم إن شاء الله.
فعندما نكتب نكتب عن هذا المذهب أي مذهب التصوف لا عن الزهد، لأن الزهد كما ورد في حديث الترمذي (ليس الزهد بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك) لأن الله تعالى يقول: ﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم﴾ (١).
وهذا الأمر أي عدم وجود الاعتدال في التصوف ينطبق على التشيع، وهذا هو القدر الآخر المشترك بينهما لأننا في بحثنا الطويل في التشيع لم نجد طائفة يمكن أن توصف بالاعتدال، فالغلو والتطرف من لوازم مذهب التشيع كما قاله الرجالي الشيعي المشهور، المامقاني في تنقيحه، فكذلك التصوف لا يعرف إلا الغلو والتطرف.
فالله أسأل أن يجعلنا أمة وسطا حقا ومن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، يتمسكون بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ويعضون عليها بالنواجذ، ويدافعون عن حرمات الله وحرمات رسوله، وأعراض أصحاب محمد وأهل بيته، ويذبون عن المسلك القويم المستقيم ومنهج السلف الصالحين، ويردون كيد الضالين المنحرفين، ومكر المبطلين المنتحلين، لا يهابون جموعهم المتكاثرة، وأحزابهم المتكالبة، وفرقهم المعاضد بعضها بعضا، ويقولون للغاضبين الناقمين الحاسدين ما قاله أصفياء الله وأخياره ﴿قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ ١٩٥ إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ١٩٦﴾ (٢) ... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إحسان إلهي ظهير
ابتسام كاتيج - شادمان - لا هور
فبراير ١٩٨٦ الموافق
جمادى الآخرة ١٤٠٦هـ
_________
(١) فتاوى شيخ الأسلام ج ١٠ ص ٦٤١ ط الرياض
(٢) الأعراف ١٩٥ - ١٩٦
1 / 10
الباب الأول
التّصَوّفُ نشأته، تَاِريخُه وَتَطَوّرَاته
الفصل الأول
إن الإسلام دين البساطة ودين الفطرة التي فطر الناس عليها، أنزله الله على قلب سيد الخلق لهداية البشر.
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ٣٣﴾ (١).
وأمر سبحانه جل وعلا أن يتمسك به، ويقدمه إلى الناس ليعرفوه ويتمسكوا به بدورهم.
وأنه عبارة عن الإقرار بوحدانية الله ﷿ لا شريك له، والشهادة بأن محمدا عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وإقامة الصلوات الخمس، وإيتاء الزكاة بعد مرور عام على ملاك النصاب، وكذلك صوم شهر رمضان من اثني عشر شهرا، وحج البيت إن إستطاع إليه سبيلا، كما ورد في حديث جبريل ﵊ أنه جاء يوما من الأيام يسأل النبي ﷺ الإسلام، فقال:
(الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن إستطعت إليه سبيلا) (٢).
أو كما ورد في حديث أعرابي جاء صلوات الله وسلامه عليه فقال له: (دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة).
قال: (تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)، قال: (والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا ولا أنقص منه)، فلما ولّى، قال النبي ﷺ: (من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) (٣).
_________
(١) التوبة الآية ٣٣
(٢) رواه مسلم
(٣) متفق عليه
1 / 11
أو بتعبير آخر أن الإسلام يعبّر عن التمسك بأوامر الله وأوامر رسوله ﷺ، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله ﷺ،وقضاء حياة مثل ما قضاها رسول الله، واختيار الطرق والسنن التي اختارها أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه كما أمر به الرب ﵎ في كلامه المحكم:
﴿َأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ١٣٢﴾ (١)
و﴿أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ٢٠﴾ (٢)
و﴿َمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ١٣﴾ (٣)
و﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ٦٣﴾ (٤)
و﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ (٥)
﴿وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ٧١﴾ (٦)
و﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ٢١﴾ (٧)
و﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ١٥﴾ (٨).
وأوامر الله ورسوله، وكذلك نواهي الله ونواهي رسوله موجودة محفوظة في الكتاب والسنة، والكتاب المنزل على سيد البشر وخاتم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليه، المعبر عنه بالذكر الحكيم والفرقان الحميد والقرآن المجيد، الذي جعله الله شفاء وهدى ورحمة للمؤمنين، وسنة رسول الله المعبر عنها بالحكمة في قوله جل وعلا: ﴿ويعلمكم الكتاب والحكمة﴾ وبالحديث النبوي الشريف، ما ثبت عنه وصح من أقواله وأفعاله وتقريراته، الكتاب والسنة اللذين ذكرهما الرسول ﷺ في قوله حيث حرّض أمته، وحثهم على التمسك والتشبث بهما قائلا: (تركت فيكم أمرين لن
_________
(١) آل عمران ١٣٢
(٢) الأنفال ٢٠
(٣) الأنفال ١٣
(٤) التوبة ٦٣
(٥) الحشر ٧
(٦) الأحزاب ٧١
(٧) الأحزاب ٢١
(٨) لقمان ١٥
1 / 12
تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله) (١).
ثم ربّى أصحابه وتلامذته في ظلهما وضوئهما تربية نموذجية لكي يكونوا قدوة لمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، ومثلا عليا لمن أراد أن يهتدي بهدي الله جل وعلا وهدى رسوله ﷺ. فكانوا صورة حية لتعاليم الرب ﵎ وإرشادات رسوله ﷺ متبعين مقتدين، غير مبتدعين محدثين، متقدمين بين يدي الله ورسوله، مبتغين مرضات الله، ومقتفين آثار رسول الله ﷺ مهتدين بهديه، سالكين بمسلكه، منتهجين منهجه، غير باغين ولا عادين، ولا مفرطين ولا مفرّطين في أمور دينهم ودنياهم: ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ (٢).
وكان خيار هؤلاء كلهم - وكلهم خيار الخلق أجمعين - أصحاب بيعة الرضوان الذين بايعوا رسول الله ﷺ على الموت وهم في الحديبية، فأنزل الله لهم البشرى برضوانه وجعل يده فوق أيديهم: ﴿لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة﴾ (٣).
و﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم﴾ (٤).
وفاقهم في المنزلة والشأن أهل بدر، الذين اطلع الله عليهم فقال: (اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة) (٥).
وزاد على هؤلاء فضلا ومنقبة ومكانة من رفعهم الله بتبشيره إياهم بالجنة واحدا واحدا بالاسم والمسمى على لسان نبيهم الناطق بالوحي، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو ألا وحي يوحى، الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، العشرة المبشرة ﴿لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله، وذلك هو الفوز العظيم﴾.
ولو أنه زادهم رفعة وعظمة من قال في حقهما سيدنا علي بن أبي طالب ﵁: (خير الخلائق بعد نبي الله أبو بكر ثم عمر) (٦).
_________
(١) رواه مالك في الموطأ
(٢) الأنعام ٩٠
(٣) الفتح ١٨
(٤) الفتح ١٠
(٥) متفق عليه
(٦) هذا الحديث رواه البخاري عن علي، وأطرف من ذلك أن هذا الحديث ورد في كتب الشيعة أيضا - أنظر لذلك كتابنا الشيعة وأهل البيت.
1 / 13
فمن أراد أن يرى الإسلام المتجسد في شخصهم، وذواتهم، وخلقهم، وعاداتهم، وأقوالهم، وأفعالهم، فلينظر إلى هؤلاء، فإنهم كانوا ممثلي الإسلام الصحيح، الكامل، غير المشوب بشوائب البدع والمحدثات، والخرافات والضلالاات التي لحقت الإسلام بعد أدوار وأطوار، فإنهم كانوا تلامذة المدرسة الإسلامية الأولى التي كان أستاذها والمعلم فيها سيد ولد آدم، المحفوظ بحفظ الله، والمعصوم بعصمة الله، والمؤيد بوحي الله، والهادي إلى الصراط المستقيم ﷺ.
ولأجل ذلك حصر الله رضاه والدخول في الجنة لمتبعيهم بإحسان لكل من يأتي بعدهم، ﴿والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ (١).
فهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لأنهم هم الذين حبب إليهم الإيمان وكرَه إليهم الكفر والفسوق والعصيان وأولئك هم الراشدون.
وهم القدوة الحسنة والمحك والمعيار لمعرفة الحق من الباطل، والهدى من الزيغ والضلال.
فكل عمل يخالف عملهم وكل قول يعارض قولهم، وكل طريق في الحياة يناهض طريقهم مردود مرفوض مطرود، لأنهم شاهدوا من رسول الله ما لم يشاهده غيرهم، وسمعوا من نبي الله ما لم يسمعه الآخرون، ورباهم من لم يرب هؤلاء، وتتلمذوا على من لم يتتلمذ عليه أولئك، فهم أشبه الناس في أقوالهم وأفعالهم، وأخلاقهم وعاداتهم، وعباداتهم ومعاملاتهم، ومعاشرتهم ومعاشهم برسول الله صلوات الله وسلامه عليه من غيرهم، فلذلك أُمر المؤمنون باتباعهم، وإلى ذلك أشار نبي الرحمة ﷺ في قوله (ما أنا عليه وأصحابي) حيث جعلهم معه على طريقة واحدة ومنهج واحد، ولم يُدخل في هذا الاختصاص أحد غيرهم ولم يخصهم بهذه المزية والفضيلة إلا بأمر من الله وإيعازه حيث أنزل عليه في محكم كتابه أن يقول: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني﴾ (٢) ... .
ولم يرد من قوله (ومن اتبعني) آنذاك إلا صحابه ورفاقه، تلامذته الراشدين وأوفيائه الصادقين، الهادين المهديين ﵃ أجمعين.
ففي ضوء الكتاب والسنة، وأسوة الرسول وسيرته، وعمل أصحابه وحياتهم
_________
(١) التوبة ١٠
(٢) يوسف ١٠٨
1 / 14
توضع وتوزن أعمال المسلمين المتخلفين وأقوال من جاء بعدهم، فما وجد لها سند ودليل يحكم عليها بالصحة والصواب، قطع النظر عمن صدرت عنه، وممن وردت.
وما لم يعاضدها الكتاب ولم تناصرها السنة، ولم يوجد لها أثر في حياة الصحابة وأفعالهم يحكم عليها بالفساد والبطلان، سواء وردت من صغير أو كبير، تقي أو شقي، لأن (أحسن الكتاب كتاب الله، وخير الأمور أوسطها، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) (١).
وقال ﵊: (من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد) (٢).
وإن المسلمين لملزمون أن يؤمنوا بأن الله لم يترك خيرا لأمة محمد ﷺ إلا وقد بينه لرسوله ﷺ، ولا شرا إلا وقد نبهه عليه، ثم رسول الله ﷺ لم يكتم بيانه، ولم يقصّر في تبليغه إلى الناس، فأخبر الخلق بكل ما أخبر عن الله ﷿ لصلاحهم وفلاحهم، ولم يخصّ شخصا دون شخص ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ (٣).
وكان مأمورا من الله بأن يبلغ كل ما نزل إليه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (٤).
وكما أن المسلمين مطالبون أيضا أن يؤمنوا بأن الدين قد كمل في حياة رسول الله ﷺ، ولم يتوفه الله إلا بعد إتمام الإسلام ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (٥).
ومن يعتقد أن شيئا من الدين لو صغيرا بقي ولم ينزله الله على نبيه، أو لم يبينه صلوات الله وسلامه عليه فإنه لا يؤمن بكمال الدين على رسوله ﷺ، ولا تمام الإسلام في حياته، لأنه بدون هذا ينقص الدين ولا يكمل، وهذا معارض لقول الله ﷿، ومناف لختم نبوة محمد صلوات الله عليه وسلامه عليه.
ويتضح بذلك جليا أنه لا بد من الأعتقاد أن كل شيء لا يوجد في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فليس من الدين - وهو محدث وبدعة وضلالة، وهذا هو الصحيح
_________
(١) رواه أبو داوود
(٢) متفق عليه
(٣) التكوير ٢٤
(٤) المائدة ٦٧
(٥) المائدة ٣
1 / 15
الثابت عن الله وعن رسوله - أما اعتقاد أنه من الدين وأن الدين لم يكمل بعج، فهذا هو عين الكفر والضلالة، وقائله ليس من المؤمنين والمسلمين بالإتفاق، فلا بد من أحد الأمرين، إما هذا أو ذلك، ولا يمكن الجمع بينهما ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (١). و﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (٢).
ومن هذا المنظور والرؤية نرى التصوف، وننظر في الصوفية، ونبحث في وقواعده وأصوله ونحقق أسسه ومبادئه، ومناهجه ومشاربه، هل لها أصل في القرآن والسنة، أو سند في خيار خلق الله أصحاب رسول الله الذين هم أولياء الله الحقيقيون الأولون من أمة محمد، الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ (٣)
و﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ٢٠ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ٢١ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ٢٢﴾ (٤)
و﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (٥).
فإن كان كذلك فعلى المؤمنين كافة الإقرار والتسليم، والتمسك والإلتزام، وليس لهم الخيار في الترك أو القبول، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ (٦).
وأيضا ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ (٧).
_________
(١) الأنفال ٤٢
(٢) التغابن ٢
(٣) الأنفال ٧٤
(٤) التوبة ٢٠، ٢١، ٢٢
(٥) الأعراف ١٥٧
(٦) الأحزاب ٣٦
(٧) النساء ٦٥
1 / 16
وشمل قول الله ﷿ في الآية القرآنية الأخرى أصحاب نبيه ﷺ لكونهم قدوة متبعون بعد الله ورسوله حيث قال:
﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا﴾ (١).
وما لم يكن كذلك فتركه واجب، والألتفاف إليه حرام، يقطع النظر عمن قاله وعمل به.
وبمثل ذلك قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي في إعتصامه:
(والثاني: إن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، لن الله تعالى قال فيها: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾.
وفي حديث العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله ﷺ موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ قال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى إختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) الحديث.
وثبت أن النبي ﷺ لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة.
فإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها، لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمد ﷺ خان الرسالة، لأن الله يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ فما لم يكن يومئذ دينا، فلا يكون اليوم دينا.
والثالث: إن المبتدع معاند للشرع ومشاقٌ له، لأن الشارع قد عين المطلب العبد طرقًا خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد
_________
(١) النساء
1 / 17
وأخبر أن الخير فيها، وأن الشر في تعدِّيها - إلى غير ذلك، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول ﷺ رحمة للعالمين. فالمبتدع رادٌ لهذا كله، فإنه يزعم أن ثمَّ طرقا أخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ماعينه بمتعين، كأن الشارع يعلم، ونحن أيضا نعلم. بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع، أنه علم ما لم يعلمه الشارع.
وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود، فهو ضلال مبين.
وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العبد العزيز ﵁، إذ كتب له عديُّ بن أرطاه يستشيره في بعض القدرية، فكتب إليه.
(أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتِّباع سنة نبيه ﷺ، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ، قد كفوا وهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل كانوا فيه أحرى. فلئن قلتم: أمر حدث بعدهم، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم، ورغب بنفسه عنهم، إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا منه ما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصر عنهم آخرون فقلوا وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم).
ثم ختم الكتاب بحكم مسئلته.
فقوله: (فإن السنة إنما سنها من قد عرف مافي خلافها) فهو مقصود الأستشهاد.
والرابع: إن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع، لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سنتها، وصار هو المنفرد بذلك، لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون. وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع، ولم يبق الخلاف بين الناس. ولا احتيج إلى بعث الرسل ﵈.
هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا، حيث شرع مع
1 / 18
الشارع، وفتح للاختلاف بابًا، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك) (١).
وبعد هذه التوطئة المختصرة والمهمة أيضا ننتقل إلى المقصود والمطلوب، وهو معرفة التصوف والصوفية، وجعل الشرع حاكما عليهما، وعرض آرائهما وأفكارهما عليه. وبالله التوفيق.
_________
(١) الاعتصام للشاطبي ص ٤٨ إلى ٥١ ط مطبعة السعادة مصر
1 / 19
الفصل الثاني
أصْلُ التّصَوّفِ وَاشْتقاقهِ
قبل أن بحث في التصوف ونشأته وتاريخه نريد أن نذكر أصل اشتقاقه، من أين اشتق؟ وكيف كان اشتقاقه؟ واختلاف الباحثين فيه والصوفية أنفسهم أيضا، ولقد سئل الشبلي: لم سميت بهذا الاسم؟.
فقال: (هذا الاسم الذي أطلق عليهم اختلف في أصله وفي مصدر اشتقاقه) (١).
ولا زالوا مختلفين فيه حتى اليوم.
فلقد نقل الطوسي أبو نصر السراج (٢) في كتابه الذي يعد أقدم مرجع صوفي، عن صوفي أنه قال:
(كان في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك، فقيل: صوفي - وبمثل ذلك نقل عن أبي الحسن الكناد: هو مأخوذ من الصفاء) (٣).
وينقل الكلاباذي أبو بكر محمد الصوفي المشهور (٤) عن الصوفية أقوالا عديدة في أصل هذه الكلمة واشتقاقها، فقال:
قالت طائفة: إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها، ونقاء آثارها. وقال بشر بن الحارث: الصوفي من صفت لله معاملته، فصفت له من الله ﷿ كرامته.
وقال قوم: إنما سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله ﷿ بارتفاع هممهم إليه، وإقبالهم عليه، ووقوفهم بسائرهم بين يديه.
_________
(١) (أبحاث في التصوف) للدكتور عبد الحليم محمود، المدرجة في مجموعة مؤلفاته ص ٥٥ ط دار الكتاب اللبناني الطبعة الأولى ١٩٧٩ م. هو أبو بكر محمد الكلاباذي الملقب بتاج الإسلام قيل في شأن كتابه (التعرف): لولا التعرف لما عرف التصوف (مقدمة كتابه).
(٢) هو أبو النصر عبد الله بن علي السراج الطوسي الملقب بطاووس الفقراء، توفي في رجب سنة ٣٧٨ هـ.
(٣) انظر (كتاب اللمع) ص ٤٦ بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود طه عبد الباقي سرور ط دار الكتب الحديثة بمصر ١٩٦٠ م.
(٤) هو أبو بكر محمد الكلاباذي الملقب بتاج الإسلام قيل في شأن كتابه (التعرف): لولا التعرف لما عرف التصوف (مقدمة كتابه).
1 / 20
وقال قوم: إنما سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة، الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ. وقال قوم: إنما سموا صوفية للبسهم الصوف.
وأما من نسبهم إلى الصفة والصوف فإنه عبّر عن ظاهر أحوالهم، وذلك أنهم قوم قد تركوا الدنيا، فخرجوا عن الأوطان، وهجروا الأخدان، وساحوا في البلاد، وأجاعوا الأكباد، وأعروا الأجساد، لم يأخذوا من الدنيا إلا من الدنيا إلا ما لا يجوز تركه، من ستر عورة، وسد جوعة.
فلخروجهم عن الأوطان سموا غرباء. ولكثرة أسفارهم سموا سياحين.
ومن سياحتهم في البراري وإيوائهم إلى الكهوف عند الضرورات سماهم بعض أهل الديار (شكفتية) والشكفت بلغتهم: الغار والكهف.
وأهل الشام سموهم (جوعية) لأنهم إنما ينالون من الطعام قدر ما يقيم الصلب للضرورة، كما قال النبي ﷺ (بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه).
وقال السري السقطي، ووصفهم فقال: أكلهم أكل المرضى، ونومهم نوم الغرقى، وكلامهم كلام الخرقى.
ومن تخيلهم عن الأملاك سموا فقراء.
قيل لبعضهم: من الصوفي؟ قال: الذي لا يَملك ولا يُملك. يعني لا يسترقه الطمع.
وقال آخر: هو الذي لا يملك شيئا، وإن ملكه بذله.
ومن لبسهم وزيّهم سموا صوفية، لأنهم لم يلبسوا لحظوظ النفس ما لان مسه، وحسن منظره، وإنما لبسوا لستر العورة، فتجزَّوا بالخشن من الشعر، والغليظ من الصوف.
ثم هذه كلها أحوال أهل الصفة، الذين كانوا غرباء فقراء مهاجرين، أخرجوا من ديارهم وأموالهم، ووصفهم أبو هريرة وفضالة بن عبيد فقالا: يخرون من الجوع حتى تحسبهم الأعراب مجانين. وكان لباسهم الصوف، حتى إن كان بعضهم يعرق فيه فيوجد منه رائحة الضأن إذا أصابه المطر.
1 / 21
هذا وصف بعضهم لهم، حتى قال عيينة بن حصن للنبي ﷺ: إنه ليؤذيني هؤلاء أما يؤذيك ريحهم؟.
ثم الصوف لباس الأنبياء، وزي الأولياء.
وقال أبو موسى الأشعري عن النبي ﷺ: (إنه مرَّ بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت العتيق).
وقال الحسن البصري: كان عيسى ﵇ يلبس الشعر، ويأكل من الشجرة، ويبيت حيث أمسى.
وقال أبو موسى: كان النبي ﷺ يلبس الصوف، ويركب الحمار، ويأتي مدعاة الضعيف.
وقال الحسن البصري: لقد أدركت سبعين بدريًا ما كان لباسهم إلا الصوف.
فلما كانت هذه الطائفة بصفة أهل الصفة فيما ذكرنا، ولبسهم وزيهم زي أهلها، سموا صُفية وصوفية.
ومن نسبهم إلى إلى الصفة والصف الأول فإنه عبر عن أسرارهم وبواطنهم، وذلك أن من ترك الدنيا وزهد فيها وأعرض عنها، صفَّى الله سره، ونور قلبه.
قال النبي ﷺ: (إذا دخل النور في القلب انشرح وانفسح)، قيل: وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: (التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله).
فأخبر النبي ﷺ أن من تجافى عن الدنيا نور الله قلبه.
وقال حارثة حين سأله النبي ﷺ: ما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت بنفسي عن الدنيا، فأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وإلى أهل النار يتعادون.
فأخبر أنه لما عزف عن الدنيا نور الله قلبه، فكان ما غاب عنه بمنزلة ما يشاهده. وقال النبي ﷺ: (من أحب أن ينظر إلى عبد نور الله قلبه فلينظر إلى حارثة، فأخبر أنه منوّر القلب.
وسميت هذه الطائفة نورية لهذه الأوصاف.
وهذا أيضا من أوصاف أهل الصفة، قال الله تعالى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾.
1 / 22