فأي مخترع لم تكن عدته الصبر؟ وأي فنان مبدع يستطيع أن يخرج للناس رائعة إذا لم يستعن بالصبر؟ وهل أعظم من اصطبار الأم على أولادها لتقوم ما اعوج من سلوكهم وتخلق منهم رجالا؟ وهل من صبر أعظم من صبر المثال على الحجر ليدب إليه جدولا من ينابيع الحياة؟
والمؤلف المبدع ألا يظل سنوات يكتب ويمزق ويكتب وينقح ليخرج للناس كتابا يقرءونه في بضع ساعات؟ أما بقي مونتسكيو يكتب ويفكر عشرين عاما حتى أخرج كتابه الخالد «روح الشرائع»؟
وكم بات دوستوفسكي وغوركي على مضض! وكم قاسيا من شقاء وآلام! وكم صبرا على الفاقة والمرض حتى أخرجا كتبهما الخالدة!
اسمع يا صاحبي إذا كنت من الفاشلين، أراك كأنك تقول لي: «الحكي هين، والصبر ما الصبر؟ الدنيا حظ.» لا يا عزيزي، لا تعز فشلك إلى سوء بختك، بل انسبه دائما إلى قلة جلدك وانصرافك عن عملك، فعدم ثباتنا هو الذي يحول دون التقائنا بالحظ، فنقصر عن إدراك العظائم، وقد يطرحنا في أبعد مهاوي البؤس واليأس، فلنثبت بوجه المصاعب تندحر هي أمامنا، كما قال شاعرنا:
قد هون الصبر عندي كل نازلة
ولين العزم حد المركب الخشن
مختصر مفيد
يقول العوام: «مختصر مفيد» وهم يعنون بذلك أن يكون كلامهم ضمن حدود البلاغة القائمة على قول الفصحاء: «خير الكلام ما قل ولم يمل.»
إن أكثر الناس يعرفون هذا، ومع ذلك تجد بعضنا إذا صادفك في الشارع يمد من ذراعيه سياجا في طريقك ليوقفك بين زحمة من السيارات وهدير الترام واصطدام المارة بالمناكب والتفاف الساق على الساق، ثم لا يعنيه إلى أين يكون المساق ... يستوقفك ليبدي على قارعة الطريق أشواقه القلبية، ويظهر لك في ذلك المحشر عواطفه الأخوية، ولا يعنيه إن كانت الشمس تكوي العصفور، يبتدرك أولا بالسؤال عن صحتك الغالية: كيف صحة الجناب؟ كيف حال العائلة الكريمة؟ فتجيب، ثم يعيد الكرة: الهمة مليحة إن شاء الله؟
ثم يرجع إلى الصحة يستفسر عنها باهتمام زائد، حتى إذا ما اطمأن إليها توغل في أدغال العيال وشئون البيت وشجونه ليطمئن قلبه المحروق ... ومن أهل البيت لا بد من الانتقال إلى أولاد العم وأولاد الخال، وإذا كان يعرف أحدا من الجيران فلا بد من أن يستطلع أخبار الجميع واحدا واحدا، أليس الكريم من يسأل عن جيرانه؟
Unknown page