ضلال الآباء والأبناء
كثيرا ما أسمع من الأب أو القائم مقام الأب هذه الكلمة: أنا والله متحير بأمر هذا الصبي، أنهى دروسه وحاز الشهادات ولا أدري ما أختار له من الأعمال!
حقا إن الحيرة لا تستولي علينا إلا عند مفارق الطرق، هناك نقف ولا ندري من أية بنيات الطريق نتوجه، قد ينفق بعضنا كل ما يملك راجيا أن تتفجر الثروة من بين يدي ولده، ولكنه متى بلغ المحجة وقف في ظلمة الحيرة يترقب بزوغ فجر الألم فيرى احمرارا واشقرارا وأما الصبح فيظل منه بعيدا.
يريد الأب أن يوجه ولده كما يشاء هو ليرضي كبرياءه، مع أن هذا لا يعنيه، فصاحب الحق الأول هو «المحروس» أقر الله عينه به! إن آفتنا نحن الشرقيين، بل آفة جميع العالمين هي أن الأب يريد أن يورث ابنه مهنته كما يورثه العقار والسجاد والخرثي من متاع البيت، فصرنا نرى ابن القسيس قسيسا، وابن الإمام إماما، وابن الحداد حدادا، وهكذا دواليك حتى سميت الأسر بأسماء المهن فصارت لهم نسبا وحسبا.
أما أنت يا قارئي الحبيب فلا تفعل ذلك إذا شئت أن يفلح ابنك، دعه وما يميل إليه لأنه سيعود أخيرا إلى العمل الذي انتدبته إليه ميوله وطبيعته، فخير لك ولابنك أن يكون بناء ماهرا من أن يكون أستاذا يهزأ به تلاميذه، وسياسيا يضحك ذوو الدهاء على ذقنه، وحاسبا لا يعرف الخمس من الطمس، وعالما لا يعرف الكوع من البوع، ومحاميا يضيع حقوق الناس، وطبيبا يفني ويعمي، فتتذكر كلما رأيته قول ابن الرومي:
فإذا مررت رأيت من عميانه
أمما على أمواته قراء
لست أستطيع أن أستعرض لك الجيوش الجرارة من أعاظم الرجال الذين اختاروا مهنا لا تلائم فطرتهم فأخفقوا، ولم يفلحوا إلا حين لبوا نداء ميلهم فكانوا من عباقرة الدنيا.
فمن هؤلاء موليير المسرحي العظيم، شاء حين غادر المعهد أن يكون محاميا ولكنه أخفق في تمثيل دور المحامي على مرسح القضاء، ولما انصرف إلى العمل الذي يحسنه لمع نجمه وما زال ساطعا في نظام المسرح.
وفولتير هجر كتب اللاهوت والقانون ليكون فيلسوفا وكاتبا وشاعرا فقوضت كتاباته عرش الملكية، وشبت نار الثورة الفرنسية، وخلقت عالما جديدا يكون فيه الفرد كما يجب أن يكون الإنسان.
Unknown page