وتظهر فكرة «مادية الله» بوضوح في التعريف الأول في مستهل الباب الثاني من الأخلاق، إذ يقول: «أعني بالجسم ذلك الحال
mode
الذي يعبر على نحو محدد عن ماهية الله بقدر ما يعد شيئا ممتدا.» وفي القضية الأولى من ذلك الباب نفسه يبرهن اسپينوزا على أن «الفكر من صفات الله؛ أي إن الله كائن مفكر.» وفي القضية الثانية يحيل القارئ إلى برهانه على القضية السابقة؛ لكي يثبت به القضية الموازية: «الامتداد من صفات الله؛ أي إن الله كائن ممتد.» فالله إذن عند اسپينوزا كائن مفكر وممتد وما يقال عنه في مجال الفكر يقال مثله تماما في مجال الامتداد (وله بالطبع صفات لا متناهية بالإضافة إلى هاتين، ولكنا لا ندرك سواهما).
ويدرك اسپينوزا أن هناك اعتراضات متعددة توجه إلى فكرة وصف الله بالامتداد، ولكنه يتولى الرد عليها كلها، ومن هذه الاعتراضات أن المادة متناهية ومنقسمة، وبالتالي لا يمكن أن ينتمي ما هو متناه منقسم إلى الماهية الإلهية. أما اسپينوزا فقد أثبت، على العكس من ذلك، أن المادة لا متناهية، أو على الأصح أن الجوهر المادي لا متناه ولا منقسم. وعلى ذلك فإذا قال المعترضون بعد ذلك: إن وصف المادية لا يليق بالكمال الإلهي، فإنه يرد بأن المادة، بوصفها لا متناهية، لا يمكن أن تكون غير جديرة بالماهية الإلهية، وطالما أنها تابعة - ككل شيء آخر - عن طبيعة الله فلا بد أنها تتمشى بدورها مع الكمال الإلهي. ويعبر اسپينوزا عن ذلك بقوله: «إن جميع من فكروا على أي نحو في الطبيعة الإلهية، ينكرون أن يكون لله جسم. وهم يجدون على ذلك دليلا واضحا في أننا نعني بالجسم كمية متحددة، طولها كذا وعرضها كذا وعمقها أو ارتفاعها كذا، ولها شكل معين. وهكذا تكون نسبة مثل هذا الشيء إلى الله، الذي هو كائن لا نهائي على نحو مطلق، هي أكثر الأمور امتناعا.
21
ومن ذلك نستطيع أن نستخلص المعنى الذي يقصده اسپينوزا من القول إن لله امتدادا؛ فهو لا يعني أن له مقدارا محددا من المادة، ذا أبعاد معلومة وإنما يعني أن الامتداد اللانهائي صفة من صفاته؛ أي وجه من الأوجه التي يمكن أن ينظر بها إليه أو تفهم بها طبيعته. ومن المؤكد أن أحوال الامتداد فقط، أي الأشكال التي يتخذها، هي التي تتعدد وتقبل الانقسام. أما الطبيعة الأصيلة للمادة فلا تقبل انقساما ولا تعددا، وهي لا نهائية مثلما أن العالم، التي هي وجه من أوجه النظر إليه، لا نهائي بدوره.»
وكما قلنا من قبل في صدد تعريف الجوهر وصفاته، فمن الخطأ أن يقال: إن اسپينوزا يقول بوجود صفات مختلفة تتميز بها فكرة الله - أو الجوهر الشامل - بحيث تفسر كل صفة منها جانبا معينا في الفكرة، فأبعد الأمور عما يقصده اسپينوزا هو أن الله، بوصفه جوهرا، «تحمل عليه» صفات معينة، كالفكر والامتداد، وإنما كان هدفه الحقيقي هو أن يؤكد أن كلا من هذه الصفات «هي ذاتها» الجوهر منظورا إليه من الوجه الذي تمثله هذه الصفة. وكل صفة تستغرق الجوهر «كله»، وتمثله تمثيلا كاملا بطريقتها الخاصة؛ وعلى ذلك فحين يقول اسپينوزا إن الله ممتد يعني أن من الممكن النظر إلى فكرة الله من وجه الامتداد بحيث يكون هذا الوجه شاملا لكل جوانب الفكرة، مثلما أن الوجه الفكري يمكنه بدوره أن يشمل كل جوانبها من ناحيته الخاصة.
وهكذا نصل مرة أخرى، على مستوى الكون الشامل، إلى فكرة اسپينوزا الرئيسية القائلة: «إن نظام الأفكار وترابطها هو ذاته نظام الأشياء وترابطها»؛
22
وعلى ذلك «فسواء نظرنا إلى الطبيعة من خلال صفة الامتداد، أو من خلال صفة الفكر، أو من خلال أية صفة أخرى فسوف نهتدي إلى نفس النظام، أو نفس سلسلة العلل؛ أعني أن نفس الأشياء تتعاقب في كل حالة ... وبقدر ما ننظر إلى الأشياء بوصفها أحوالا للامتداد، ينبغي أن نفسر الطبيعة كلها عن طريق صفة الامتداد وحدها، وكذلك الحال في الصفات الأخرى ...»
Unknown page