77
ومن الملاحظ أولا أنه ليس من الروح العمية في شيء أن يبني المرء حكما عاما على نص واحد، ويتجاهل آلاف النصوص الأخرى التي تشهد بطريقة قاطعة على خروج اسپينوزا على التراث اليهودي، بل وعلى كل تراث لاهوتي بوجه عام. وثانيا، فمن الضروري لفهم هذا النص، أن يوضح رأي اسپينوزا الخاص في فكرة «المملكة أو الإمبراطورية»، وفكرة «اختيار الله لليهود»، وهو رأي عرضه اسپينوزا مرارا في هذا الكتاب نفسه، ويختلف تماما عن المعاني التي يستخلصها «كايزر» وأمثاله منه - معاني العودة إلى الدولة القديمة وإحياء مجد إسرائيل! وثالثا، فإن هذا النص السابق، الذي استشهد به، كما قلنا، عدد كبير من شراح اسپينوزا اليهود، منتزع من سياق لا شأن له على الإطلاق بتمجيد اليهود، بل إنه على العكس من ذلك يتضمن انتقادا مريرا لهم.
أما معنى «اختيار الله لليهود» فإن اسپينوزا لا يكف عن القول بأن هذا الاختيار لا يرجع إلى امتيازهم في الفضيلة أو العقيدة أو في أية صفة أخرى، وإنما كان المعنى الوحيد لهذا الاختيار هو أن دولتهم القديمة خضعت لقوانين تكفل تنظيما سليما للمجتمع فحسب؛ فالاختيار هنا لا يعني إلا سلامة نظام الحكومة فحسب. أما فكرة امتياز شعب على شعب - أو على بقية الشعوب - فإن اسپينوزا يرفضها بشدة. ويقول اسپينوزا في هذا الصدد: «وهكذا نستنتج أنه، لما كان الفضل الإلهي يعم جميع الناس على السواء. ولما كان الله لم يختر العبريين إلا من حيث تنظيمهم الاجتماعي وحكومتهم، فإن اليهودي الفرد، إذا ما نظر إليه بمعزل عن تنظيمه الاجتماعي وحكومته، لا يملك أية موهبة يخصه بها الله عن سائر البشر، ولا يوجد فارق يميز اليهودي عن غير اليهودي.»
78
وسنورد فيما يلي السياق الذي ورد فيه النص الذي استشهد به «كايزر» لتأييد مزاعمه: «... لا يوجد على الإطلاق في الوقت الحالي أي شيء يستطيع به، اليهود أن يباهوا به غيرهم من الشعوب.
أما استمرار اليهود كل هذا الوقت بعد تشتتهم وضياع ملكهم، فليس فيه ما يدعو إلى العجب؛ إذ إنهم قد انفصلوا عن كل أمة أخرى إلى حد جلب عليهم كراهية الجميع، ولم يتحقق ذلك الانفصال فقط عن طريق طقوسهم الخارجية، وهي طقوس تتعارض مع شعائر الأمم الأخرى، بل تحقق أيضا عن طريق علامة الختان التي يحرصون كل الحرص على مراعاتها.»
79
ويضرب اسپينوزا بعد ذلك مثلا بيهود إسبانيا الذين أرغموا على التحول إلى المسيحية، ثم عوملوا معاملة حسنة، فاندمجوا في السكان بمضي الزمن، بحيث تلاشت كل الفوارق بينهم وبين هؤلاء. أما يهود البرتغال الذين أرغموا أيضا على التحول إلى المسيحية، ولكنهم اضطهدوا وعوملوا معاملة سيئة؛ فقد ظلوا محتفظين بهويتهم. وفي هذا الصدد يأتي النص الذي اقتبسه «كايزر» من قبل، وتسبقه العبارة الآتية: «إن علامة الختان وحدها لها من الأهمية ما يجعلها تكاد تكون كافية، في اعتقادي، لحفظ الأمة إلى الأبد، بل إنني لأذهب إلى حد الاعتقاد بأنه ...» (إلى آخر النص الذي سبق اقتباسه.)
80
وإذن؛ فقد ورد هذا النص في سياق انتقد فيه اسپينوزا اليهود بشدة، وأكد فيه أن ما يسمونه «بمعجزة البقاء» عبر العصور الطويلة لا ترجع إلا إلى ما جلبوه على أنفسهم من كراهية الآخرين؛ فهي ليست معجزة على الإطلاق وإنما هي مظهر اعتلال وانحراف. وقد دلل اسپينوزا على ذلك بمقارنته بين يهود عوملوا معاملة حسنة فتلاشوا - بوصفهم يهودا، لا بوصفهم أفرادا - بينما احتفظ آخرون بهويتهم عندما اضطهدوا؛ أي إن هذه الكراهية التي يجلبها اليهود على أنفسهم، والتي تسبب اضطهاد الآخرين لهم، هي التي تعمل على بقائهم، ولولاها لاندمجوا كغيرهم من الشعوب المتطورة عبر التاريخ. وليس معنى الاندماج على الإطلاق أن تتلاشى الشعوب، وإنما أن تخضع فقط لتطور التاريخ خلال الزمان، وتستفيد من مزايا الاختلاط والانصهار مع غيرها، كما حدث لعشرات من الأمم القديمة التي لم يعد لها وجود بصورتها الأثرية، لا لأنها قد فنت، بل لأنها قد انصهرت واختلطت بغيرها عبر الزمان، وأفادها هذا الخضوع لمنطق التطور فائدة لا تقدر، ومن الواضح كل الوضوح، من هذا السياق، أن اسپينوزا يعيب على اليهود - بعد أن خرج من طائفتهم - تحجرهم وافتقارهم إلى التكيف مع المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، حتى إنهم حرصوا على تمييز أنفسهم بعلامة الختان حتى يظل جنسهم منفصلا عن غيره، وبعد كل هذا الانتقاد، وفي ضوء المعنى الخاص الذي أوضحناه من قبل لفكرة «الاختيار الإلهي»، يأتي النص الذي اقتبسه «كايزر» وكثيرون غيره، ليدللوا به على عطف اسپينوزا على الأمة اليهودية. ومن المؤكد أن واحدا من هؤلاء الشراح لم يكن يجهل السياق الذي ورد هذا النص فيه، ولا بد أن التعصب وحده هو الذي جعلهم يلجئون إلى اقتطاعه من سياقه المخالف تماما لما توحي به سطوره القليلة، حتى يؤيدوا به دعواهم الخاسرة. (2)
Unknown page