الفصل السادس
نظرية الأخلاق
(1) الطابع الأساسي للنظرية الأخلاقية
أهم طابع يمثل النظرية الأخلاقية عند اسپينوزا هو القول إن الإنسان لا يقف بمعزل عن الطبيعة وقوانينها؛ فاسپينوزا قد انتقد بشدة أولئك الذين تصوروا الإنسان على أنه «يقف من الطبيعة كأنه دولة داخل الدولة، ويظنون ... أن له سلطانا مطلقا على أفعاله، وأن شيئا لا يتحكم فيه سوى ذاته.»
1
فنقطة البداية الأساسية في هذه النظرية الأخلاقية هي الإدراك العلمي للارتباط بين الإنسان وبين الطبيعة بوجه عام؛ ومن ثم تأكيد سيادة فكرة الضرورة في مجال الإنسان بدوره، «فمن المحال ألا يكون الإنسان جزءا من الطبيعة، أو أن يكون قادرا على ألا يتأثر إلا بالتغيرات التي يمكن فهمها من خلال طبيعته بوصفها العلة الكافية لها.»
2
وأهم ما استحدثه اسپينوزا، نتيجة لهذه النظرة إلى الإنسان، هو أنه نزع عن عالم الإنسان الباطن قناع الصوفية والغموض الذي كان السابقون عليه يخفونه به، وأدرجه ضمن الظواهر العلمية الخاضعة للبحث والتحليل، وبحثه - كما قال في مقدمة الباب الثالث من «الأخلاق» - «كما تبحث الخطوط والمسطحات والأجسام». وهكذا أكد أن الهدف من علم الأخلاق ليس الوعظ والإرشاد، وإنما هو الدراسة والبحث والفهم، فنقل بذلك الأخلاق من مجال «ما ينبغي أن يكون» إلى مجال «ما هو كائن»، وأكد أن مهمته بوصفه باحثا أخلاقيا ليست أن يحتقر أو ينتقد، وإنما أن يفهم الطبيعة البشرية على ما هي عليه. وهكذا تجاوز اسپينوزا الحواجز بين الواقع والمثل الأعلى، وبين ما هو فعلي وما هو معيار مثالي، وأنكر الخير المطلق، وبالتالي «عالم الغايات» الذي تركزت فيه الأخلاق المثالية بأسرها.
وهذه الصفة الأساسية تفسر الطابع الفريد الذي تتميز به الأخلاق عند اسپينوزا؛ فالأخلاق من وجهة نظر معينة مستحيلة في مذهبه، وهي من وجهة نظر أخرى أساس ذلك المذهب والعنصر الجوهري فيه، ومن المستحيل تفسير هذا الازدواج الغريب إلا من خلال الارتباط الوثيق بين موضوع الأخلاق، وهو الإنسان، وبين ضرورة الطبيعة في مجموعها.
فمن المستحيل، كما قال «هفدنج»، أن يكون للأخلاق قيام في مذهب ينظر إلى الوجود من خلال صورة الأزل.
Unknown page