ويؤدي هذا الطابع البشري للظاهرة الدينية إلى القول بأنها نسبية على نحو آخر؛ فهي، ككل ظاهرة بشرية أخرى، متطورة ذات تاريخ، ومن الممكن أن تفسر تفسيرا كاملا من خلال تاريخها هذا. وقد تضمن «البحث اللاهوتي السياسي» محاولة مفصلة لعرض الكتب المقدسة - اليهودية على الأخص - من حيث هي تعبير عن ظاهرة تاريخية واجتماعية، ولربط تعاليمها بطبيعة العصور التي ظهرت فيها، وإنكار وجود أية دلالة مطلقة لها، تسري على كل عصر. وكما قال برنشڨك، فإن اسپينوزا «عندما طبق على الكتب اليهودية نفس الأساليب التي يطبقها الباحثون العلميون على أشعار هوميروس، لم يصل فقط إلى بعض النتائج الأساسية للعلم المعاصر، بل لقد قلب أيضا العلاقات التي شاعت إقامتها في القرن السابع عشر بين محتوى العقائد الوضعية وبين الحقيقة ذات الطابع الفلسفي الصحيح.»
44
ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الربط بين الظاهرة الدينية وبين الظروف الاجتماعية والتاريخية، إلى نوع من سعة الأفق في النظر إلى هذه الظاهرة، بحيث استطاع ذهنه أن يتأمل في تسامح كل العقائد ويفهم مغزى كل منها في ضوء ظروفه الخاصة. وقد عبر اسپينوزا عن هذا الأفق الواسع أوضح تعبير في مراسلاته مع «ألبرت بيرج
Albert Burgh »، الذي كان يعبر عن وجهة النظر الدينية المتمسكة؛ ففي الرسالة رقم 67 يوجه هذا الأخير إلى اسپينوزا انتقادات في صورة أسئلة، منها: هل اطلعت على مذاهب الفلاسفة جميعهم، في المشرق والمغرب، وعلى ما ظهر من الفلسفات وما سيظهر في المستقبل، حتى تدعي أنك اتخذت لنفسك خير الفلسفات؟ ولماذا لا تؤمن بالمسيح؟ هل ذهنك أفضل من أمة المسيح كلها، ومن كل الأنبياء والشهداء؟ وهل هو أفضل من ذهن المسيح؟ فيرد اسپينوزا على أسئلته - وعلى انتقاداته - في الرسالة رقم 76 قائلا: «إنك تسألني كيف عرفت أن فلسفتي خير الفلسفات. وأنا لا أدعي أن فلسفتي هي الأفضل، ولكني أعلم أنني أعرف الفلسفة الحقة. فإذا سألتني كيف تسنى لي أن أعرف ذلك، قلت إنني أعرفه على نفس النحو الذي تعرف به أن الزوايا الثلاث للمثلث يساوي مجموعها قائمتين ...» ويرد على الأسئلة الأخرى على نفس النحو قائلا: أما أنت، يا من تظن أن عقيدتك خير عقيدة، فكيف عرفت ذلك؟ هل اطلعت على كل العقائد، الشرقية منها والغربية، ما ظهر وما سيظهر؟ أليس لكل صاحب عقيدة أخرى نفس الحق في أن ينظر إلى عقيدته على أنها أفضل العقائد؟
وهكذا كان من الواضح أن نظرة اسپينوزا إلى الظاهرة الدينية قد بلغت من الرحابة والاتساع حدا جعله يضيق بالتعصب لأي نص بعينه، أو أية تعاليم على التخصيص، وليس في وسع المرء من تأمل ظاهرة كتاباته أن يصدر حكما دقيقا على مشاعره الحقيقية في هذا الصدد، ولكن إذا كان صحيحا - كما قال نيتشه - أن النقد التاريخي هو النقد الحاسم، فلا بد أنه - كما أكد «ريڨو
Rivaud » - كان «يقف، ويريد أن يقف، في الطرف المضاد لجميع الأديان، كما أدرك خصومه في القرن السابع عشر بالسليقة.»
45 «وإلى مثل هذا الرأي ينتهي «بيدني
Bidney » حين قال عن اسپينوزا «إن عمله يمثل أول محاولة - وأعظم محاولة حتى الآن - لتشييد مذهب عقلي شامل للخلاص البشري يستغني عن الجزاءات فوق الطبيعية، ويتجنب أية إهابة خاصة بوحي تاريخي ينزل على شعوب مختارة أو أفراد مختارين.» وهي حقيقة تعلل تأثيره المستمر في رجال العلم وأصحاب المذاهب المتحررة عامة، أولئك الذين يستاءون من التغرضات المؤسفة والأفعال المتعصبة التي تشجع عليها العقائد التقليدية في معظم أنواعها. ومن الممكن بحق أن يسمى كتاب «الأخلاق» عند اسپينوزا «إيمان المذهب العقلي»، وذلك مقابل جميع صور المذهب المدرسي التي هي في آخر الأمر «تبريرات عقلية للإيمان».»
46
ومع ذلك، فالأمر الذي استطاع اسپينوزا أن يؤكده - باطمئنان كامل - هو أن مذهبه ليس أقل من غيره حرصا على القيم الأخلاقية، وأن حياته ذاتها كانت - كما قال عنه الكثيرون من معاصريه - حياة قديس، بالمعنى الذي يفهمه هو لهذه الكلمة، وأن السعادة أو البركة التي تتخذها كل المذاهب الدينية غاية قصوى لها، قد وجدت في سعيه إلى المعرفة تحقيقا فعليا لها؛ وهذا وحده، بغض النظر عن المحتوى النظري للتعاليم، هو الذي كان كفيلا بإقناعه بأنه وجد، على طريقته الخاصة، سبيله إلى الخلاص.
Unknown page