وهو حين يختبر مغزى القصة، يرى أنها قد تكون تعبيرا عن الفكرة القائلة: إن الإنسان لو كان قد ولد حرا لما عرف الخير ولا الشر؛ فآدم خلق متمشيا مع طبيعته التلقائية، ولم يعرف الخير ولا الشر إلا بعد أن أكل من شجرة المعرفة.
40
ولكن تفكيره الاجتماعي يقنعه بأن الخطيئة أو الشر بوجه عام لا يمكن أن توجد في الحالة الطبيعية؛ أي في الحالة السابقة على قيام مجتمع له نظمه وقوانينه؛ فالشر لا يفهم إلا داخل مجتمع ومن خلال القيم الخاصة لهذا المجتمع؛ ولذلك «فمن المستحيل أن نتصور الخطيئة موجودة في الحالة الطبيعية، أو أن نتخيل الله قاضيا يعاقب الإنسان على مخالفاته ... إذ لم يكن من الممكن قيام العدل والإحسان في تلك الحالة.»
41
ومن الواضح أنه حيثما لا يتصور وجود العدل والإحسان، لا يتصور أيضا وجود الشر والخطيئة. ومع ذلك فسوف نرى فيما بعد أن فكرة الشر بأسرها ليس لها في نظره كيان متميز، وأن الشر في رأيه حرمان أو عدم بالنسبة إلى معيار معين يضعه الناس لأنفسهم في كل مجتمع، بينما لا يكون لمثل هذه الأحكام التقويمية أي وجود في الأفعال ذاتها؛ وعلى هذا الأساس الجديد يكون «من خطأ التعبير، ومن قبيل تشبيه الأمور بصورة الإنسان، أن يقال إن المرء يرتكب خطيئة ضد الله، أو يغضب الله.»
42
ذلك لأن كل ما يحدث في الطبيعة يتم بمقتضى قوانينها الضرورية. وما يسمى بالشر ليس إلا تفسيرا بشريا لحادث معين من وجهة نظر معينة. أما قوانين الطبيعة في مجموعها - أو الأوامر الإلهية - فلا يمكن أن يخالفها أحد، وإذن فالخطيئة لا توجد إلا من المنظور البشري وحده. أما من المنظور الإلهي، أو من حيث النظام الشامل للكون (والتعبيران عند اسپينوزا مترادفان) فمن المحال منطقيا أن يكون لمثل هذه الأحكام الأخلاقية وجود. (3-2) نسبية الظاهرة الدينية
وضع اسپينوزا، كما أشرنا من قبل، نوعا من التقابل بين الظاهرة الدينية وبين النظام العام للأشياء؛ فالظاهرة الدينية ظاهرة بشرية قبل كل شيء، يسعى الإنسان عن طريقها إلى تحقيق أمان معينة وتجنب مخاوف خاصة. أما النظام الكلي للأشياء فهو ضروري لا يستهدف مراعاة مطالب الإنسان، أو أي كائن جزئي آخر. وهكذا ينتهي اسپينوزا إلى أن قوانين الطبيعة ليست مطابقة للظواهر الدينية؛ لأن الأولى شاملة لا تسير وفقا لرغبات الإنسان على التخصيص، بينما الثانية تستهدف صالح البشر وحدهم،
43
ويصل من ذلك إلى فكرة قد تبدو مذهلة لأول وهلة، ولكن من السهل تفسيرها في ضوء المقدمات الفلسفية لمذهبه: تلك الفكرة هي أن الظاهرة الدينية ليست هي التعبير المباشر عن الإرادة الإلهية؛ فالإرادة الإلهية - بالمعنى الخاص لهذا اللفظ عند اسپينوزا - هي مجموع الطبيعة وقوانينها. هذا المجموع يضم كل عناصر الكون وأوجهه اللامتناهية. أما الظاهرة الدينية فهي ظاهرة بشرية تستهدف نفع الإنسان فحسب، وترمي إلى تنظيم أحوال البشر ومعاملاتهم، وليست لها دلالة كونية مطلقة، وبالتالي لا يمكن الربط بينها وبين النظام الضروري للأشياء.
Unknown page