لما كانت آراء اسپينوزا الرئيسية في العقائد الشائعة في عصره قد عرضت في «البحث اللاهوتي السياسي»؛ فقد رأينا أن نبدأ هذا الفصل بالحديث عن هدف الكتاب والتأثيرات التي أحدثها بين معاصريه وبين الباحثين في وقتنا الحالي.
وقد كتب اسپينوزا في الرسالة رقم 30 يبلغ مراسله «أولدنبرج» (في عام 1665م) أنه بصدد تأليف بحث عن الكتاب المقدس؛ وذلك للأسباب الآتية: (1)
تحامل رجال اللاهوت، فأنا أعلم أنهم هم الذين يحولون بين الناس وبين استخدام عقولهم في التفلسف؛ ولذا أحاول كشف هذا التحامل وتخليص العقول الواعية منه. (2)
رأي العامة في؛ إذ إنهم لا يكفون عن اتهامي بالإلحاد، وأنا مضطر إلى محاربة هذا الرأي بقدر استطاعتي. (3)
حرية التفلسف وحرية الرأي، التي أريد الدفاع عنها بكل الوسائل؛ إذ إن نفوذ رجال الدين وطبيعتهم العدوانية يقضيان عليها.
وفي مقدمة «البحث اللاهوتي السياسي» ذاته، يحدد اسپينوزا لنفسه من تأليف الكتاب أغراضا مشابهة؛ فهو يحمل على رجال اللاهوت؛ لأنهم يتخذون من قداسة الكتب المقدسة نقطة بداية، ويجعلون ذلك مبدأ في الدراسة والتفسير، بينما هو يدعو إلى استخلاص هذه النتيجة - إذا أمكن استخلاصها - في نهاية البحث وبعد التفكير الكامل فيه. والضرر الذي يترتب على نظرة رجال اللاهوت هذه، هو أنهم يستغلون طابع القداسة هذا في خنق حرية الفكر وكتم أصوات خصومهم، بل وفي السيطرة السياسية أيضا، وكأن مصالح الدين لا تتحقق إلا إذا كبتت الحريات على هذا النحو الغاشم.
والأمر الذي يدافع عنه اسپينوزا في هذا الكتاب هو أن كفالة الحرية السياسية وحرية التفكير في الأمور الدينية - وهي الحرية التي كانت مكفولة نسبيا في العهد الجمهوري الذي كان يعيش فيه وقت تأليف ذلك الكتاب - لا تتعارض مع مصلحة الدولة، ولا مع مصلحة الدين ذاته، فأفضل النظم في نظره هو ذلك الذي ينفصل فيه الدين عن الدولة انفصالا تاما، وتصبح الدولة هي وحدها المسئولة عن جميع المسائل المتعلقة بحياة رعاياها الاجتماعية والسياسية والفكرية. وقد أعرب اسپينوزا عن هذا الهدف في المقدمة فقال:
وإذ وجدت أننا نعيش، لحسن حظنا، في جمهورية تكفل فيها لكل فرد حرية لا قيود فيها، ويعبد فيها كل فرد الله حسبما يمليه عليه ضميره، وتقدر الحرية فوق أي شيء آخر؛ فقد رأيت أن عملي لا يكون جحودا ولا عقيما إذا ما أثبت أن هذه الحرية إذا ما منحت، فلن يلحق النظام العام ضرر، بل إنه بدونها لا تزدهر التقوى ولا يرتكز النظام العام على أسس متينة.
ولقد وجد بعض شراح اسپينوزا في ذلك الدفاع المتحمس الذي أورده في مقدمة ذلك الكتاب، والذي أكد فيه أن كل ما قاله لا يتعارض مع النظام الجمهوري القائم، وأنه على استعداد لإثبات ذلك، ولسحب ما يتأكد من أنه متعارض مع ذلك النظام بالفعل؛ وجدوا في ذلك مظهرا لنوع من التملق للسلطات الحاكمة، ولكن تأمل دلالة الحملة الشديدة، التي سبقت كلامه هذا، على الخرافات الدينية وعلى إساءة رجال الدين استغلال سلطاتهم لمنع حرية الفكر، بل لأغراض شريرة في كثير من الأحيان، كل ذلك يجعل التفسير المرجح لموقفه هذا هو دعم السلطة الموجودة «لأنها» كانت تشجع الحرية الفكرية، ولا سيما في شئون الدين، وليس مجرد نفاق أو تملق لها؛ فهو لا يرمي من تأليف الكتاب إلى دعم النظام القائم لمجرد أنه هو النظام القائم، وإنما لأن هذا النظام يتبع مبادئ يعدها سليمة، وبذلك يكون هدفه الحقيقي هو الدفاع عن المبادئ ذاتها لا عن ذلك النظام.
أما الهدف الذي أخفق اسپينوزا في تحقيقه إخفاقا تاما؛ فهو ذلك الذي تحدث عنه في الرسالة التي أوردنا نصا منها في البداية، وأعني به أن يدفع عن نفسه تهمة الإلحاد التي وجهها العامة إليه؛ فالأمر المؤكد أن هذا الكتاب قد دعم هذه التهمة ولم يخففها على الإطلاق، بل إن معظم متاعب اسپينوزا مع السلطات الدينية والثقافية القائمة عندئذ كانت ترجع إلى ذلك الكتاب بعينه؛ لأن كتاب «الأخلاق» لم ينشر إلا بعد وفاته.
Unknown page