ونفيُ عمر نصرَ بن حجاج.
قلت: هذا موضع مزلّة أقدام، وهو مقامٌ ضَنْك ومعترك صعب، فرَّط فيه طائفة فعطَّلوا الحدود وضيَّعوا الحقوق وجرَّأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعةَ قاصرةً لا تقوم بها مصالح العباد، وسدُّوا على نفوسهم طرقًا عديدة من طرق معرفة المُحقِّ من المُبْطِل، بل عطلوها مع علمهم قطعًا وعلم غيرهم بأنها أدلة حقٍّ، ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع.
والذي أوجب لهم ذلك نوعُ تقصير في معرفة الشريعة، فلما رأى ولاةُ الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة= أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم، فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شرٌّ طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمرُ وتعذَّر استدراكه.
وأفرطت طائفة أخرى فسوَّغت منه ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أُتيَتْ من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله. فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأيِّ طريق كان فثمَّ شرعُ الله ودينه، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء، ونفى غيرها من الطرق التي هي مثلها أو أقوى منها، بل بيَّن بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استُخْرج بها العدل والقسط فهي من الدين.
لا يقال: «إنها مخالفة له»، فلا تقول: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها
المقدمة / 12