مقدمة
الباب الأول
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
الباب الثاني
القسم الأول
الباب الثالث
القسم الأول
الباب الرابع
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
مقدمة
الباب الأول
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
الباب الثاني
القسم الأول
الباب الثالث
القسم الأول
الباب الرابع
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
السير والملاحم الشعبية العربية
السير والملاحم الشعبية العربية
تأليف
شوقي عبد الحكيم
مقدمة
السير والملاحم العربية والأخطار الخارجية
الاعتداءات والأخطار الطامعة والمتربصة بأمتنا العربية تاريخيا كانت - على الدوام - القاسم الرئيسي لمعظم تركتنا الشعبية الفولكلورية العربية، من السير والملاحم والقصص الشعرية المعروفة بالبالادا أو البالاده - كما أسماها الكلاسيكيون العرب.
وفي الإمكان تحديد ذلك العدو الطامع والمتربص بأمتنا منذ حوالي الخمسة آلاف عام، ممثلا في الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، امتدادا إلى الحروب البيزنطية الوسطوية التي صاحبت ظهور الإسلام مع اضمحلال الخلافة الأموية في دمشق والانتقال بها إلى عباس بغداد، وتؤرخ لهذه الحروب القارية الممتدة، السيرة الفلسطينية المنشأ «الأميرة ذات الهمة» والتي تعد أطول سيرة في التاريخ؛ إذ يصل حجمها إلى 26 ألف صفحة.
ويمكن حصر السير والملاحم العربية التي تجمعها الحروب والأخطار القارية أو الآنية بعامة، وأهمها هنا: عنترة، وحسان اليماني الملك التبع، أو ذا اليمنين وسيرته التي نفرد لها فصلا ضمن فصول هذا الكتاب، وحمزة العرب المتعارف عليها في الطيغان الشعبية باسم الأمير حمزة البهلوان، وفيروز شاه، وآخر الملوك - التباعنة - اليمنيين، وهو الملك سيف بن ذي يزن.
وسيرة عمر النعمان غير المطبوعة أو المتداولة، والتي ما تزال إلى أيامنا مخطوطة محفوظة بمكتبة جامعة «توبنجن» بألمانيا الغربية.
أما الحروب التي مجالها روما وبيزنطة؛ فترد في ثنايا الزير سالم - أبو ليلى المهلهل - وسيرة بني هلال التي مجالها ريادة وفتح المغرب العربي «تونس وقلاعها السبع» والوصول بالجيوش العربية - المهاجرة - الزاحفة من الجزيرة العربية بشمالها القيسي العدناني وجنوبها اليمني القحطاني، والمتحالفة تحت شعار أو شارة الهلال - الفلكية - إلى قرطاج ومداخل أوروبا الجنوبية بعامة، بالإضافة إلى الأندلس، أو شبه جزيرة أيبريا.
ثم توغل أطول سير التاريخ بلا استثناء، لتلك الأميرة الفلسطينية فاطمة بنت مظلوم التي أسميت بذات الهمة ابنها عبد الوهاب، لتغطي أحداثها مؤرخة بكل الدقة والرصد الأقرب إلى الإحصاء لتلك الحروب والأخطار البيزنطية أو الرومية كما تسميها السيرة، وهي الحروب والهزات التي امتدت قرابة الأربعة قرون، بدءا من القرن الثامن الميلادي حتى أواخر العاشر، أو مع أفول الدولة الأموية في دمشق وانتقال الخلافة الإسلامية إلى بغداد وخلفائها: المنصور، السفاح، الرشيد، حتى عصر الخليفة الواثق بالله.
فالسيرة الشعبية هي - في أحسن أحوالها - سيرة أنساب قبيلة أو عشيرة أو عائلة حاكمة، مثلما هو الحال بالنسبة للإلياذة الهومرية، والتي لا تعدو سيرة أنساب قرابية تؤرخ لأسرة أتريوس وحروبها في آسيا الصغرى التي بؤرتها حصار طروادة.
مع ملاحظة مدى التداخلات بين كلتي السيرة والملحمة، فكلتاهما - في معظم الأحوال - موضوعها الجوهري هو الحروب والأحداث الجلل من حصارات وهجرات وسبي وخوارق وبطولات وفروسية.
وقد يجيء الاختلاف الوحيد بين السيرة والملحمة في الصياغة، فبينما تجنح لغة السيرة إلى الرواية وضوابطها التي تسرد بالحكي القصصي أو الروائي النثري، دون أن يخلو الأمر - طبعا - من الشعر وإنشاده؛ وهو ما يخالف الملحمة التي قوامها الشعر الغنائي أو الإنشادي، دون أن يخلو الأمر من حيث الصياغة اللغوية الروائية.
فالملحمة قصة شعرية طويلة، ذات اهتمامات بطولية، وقد تكون الملحمة مدونة أو شفاهية، كما قد تجمع بين الخصيصتين أو المجالين، مثلما هو الحال بالنسبة لسيرنا الملحمية العربية: الملك سيف، بني هلال، الزير سالم ... إلخ.
ولعل أهم ما عرف العالم القديم من ملاحم - شفوية - هو الإلياذة والأوذيسة الهومرية، كذا يرد مثل أهم ملحمة مدونة، ممثلا في «الإينادة» لفرجيل.
وفي اللاتينية فارساليا لوكن، وأغاني رولان في العصور الوسطى، وملحمة السيد في الإسبانية، وملحمة الشاعر ميلتون عن الفردوس المفقود، ومعركة الضفادع والفئران نصف الهرموية ... إلخ.
وعادة ما تستولد الملحمة من التقاليد الأدبية الشفهية، وتمتد موضوعاتها واهتماماتها لتشمل الأبطال الأسطوريين؛ مثل إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل في سارة وهاجر، وأيضا الأبطال التاريخيين أو المقدسين، بالإضافة إلى تناولها للأبطال الحيوانيين - أو الطوطم - مثلما هو الحال في معركة ضفادع، لأبي الشعر الملحمي في التاريخ هومير.
وقد استخدمت معظم شعوب العالم القديم الملاحم الشعرية؛ لحفظ تاريخها وموروثاتها من جيل لآخر، تنشد وتغني دون حاجة للكتابة في مجتمعات تغلب عليها الأمية، وإن لم يخل أمر تاريخها من الأحداث والنضالات البطولية والتجمع القومي؛ حيث كان لمنشدي الملاحم والمغنين الشعبيين الدور الكبير في معظم مجتمعات ما قبل المعرفة بالكتابة.
وكان للنبلاء ورؤساء العشائر - خاصة في أفريقيا، وبشكل خاص في السودان - مغنوهم الملحميين.
وأقدم بذور الأغاني البطولية الملحمية عرفت منذ 1100ق.م ووصلت إلى أقصى ذيوعها فيما بين 900 و750ق.م، بعد هوميروس.
أما أقدم أشكال الملاحم - الشعرية - التي عرفها العالم القديم قاطبة؛ فقد ولدت في الشرق الأدنى القديم أو عالمنا العربي، تغنى بها السومريون القدماء بالعراق وترجع إلى 3 آلاف عام ق.م؛ حيث كانوا ينشدونها خلال حروبهم الطويلة في آسيا الصغرى، التي قادها ملوكهم الأوائل أنمركار، ولو جلابا مذا، ثم البطل الأسطوري جلجاميش، وعثر على خمسة قصائد ملحمية لجلجاميش من هذا النوع، منها تشكل فيما بعد جسد ملحمته الشهيرة التي انحدرت بدورها إلى البابليين الذين أضافوا إليها وأعادوا بناءها إلى أن اكتملت كأقدم ملحمة عرفها العالم القديم قاطبة، وظلت معروفة متواترة على طول التاريخ العربي الكلاسي، إلا أنهم تعارفوا عليها باسم قلقاميش.
كذلك ابتدع البابليون القدماء ملحمة أخرى منذ مطلع الألف الثانية ق.م، يقوم موضوعها على الموتيفات والسمات الأسطورية، بأكثر من البطولية، فهي ترسي قصة الخلق - للعالم والإنسان - حتى مجيء الإله ميردوك، كبير الآلهة البابلية، فهي تصوير لمخاطر البطل الأسطوري أو الإنسان الأول، وموضوعها بعامة لا يبعد بنا أيضا عن جلجاميش ومخاطره وبحثه الدائم عن الخلود والأمن.
كذلك عثر على العديد من الأغاني البطولية الملحمية ضمن مكتشفات رأس الشمرا ترجع إلى القرن 14ق.م بسوريا الشمالية، ودونت بالأبجدية الفينيقية، تتحدث إحدى هذه القصائد الملحمية عن حياة وبطولات الإله بعل، وقصيدة ملحمية أخرى تدور حول بطل يدعى أكحل آلهات، كما عثر على قصيدة ملحمي يدور موضوعه حول إشراك الإلهة الأنثى عناث في اغتيال أخيها بعل، وإعادته ثانية للحياة على غرار الأساطير التموزية والأدونيسية لأدونيس إله فينيقيا الممزق.
كما عثر على ملحمة أوغارتية سورية تشير إلى الأصول الأولى للحروب الطروادية، تعرف بملحمة «كريت»، وكذا الملحمة الهندية - الفارسية - الرميانا، ثم الملحمة الهندية الآرية الكبرى، المهابهاراتا.
وإذا كنا انتهينا من تعريف كلتي السيرة والملحمة وكيف أن الفارق بينهما لا يعدو أن يجيء لغويا متصلا بالصياغة المتداخلة ما بين النثر والشعر، بالإضافة - طبعا - إلى بضعة فوارق طفيفة، ما بين الاهتمام بالأنساب والبنية القرابية، في حالة السيرة، والرعاية القصوى للحرب وشعر البطولة في الملحمة.
ويحق لنا تعريف شكل أدبي فولكلوري ثالث، وهو البالادا، أو قصة الحب والعشق الشعرية الملحمية، وأبرز أنماطها في بلداننا العربية: حسن ونعيمة، عزيزة ويونس، يوسف وزليخة، شفيقة ومتولي، سارة وهاجر، عالية وأبو زيد الهلالي، وهكذا.
فالبالادا تسمية أطلقت على هذا النوع من الأغاني الفلكلورية الملحمية التي كانت في مثناها أغاني تؤدى بمصاحبة الموسيقى والرقص مثل البالاتا الإيطالية، فهي قصة شعرية أو أغنية ملحمية، بأكثر منها ملحمة، أقرب إلى الابتهالات البكائية والجنائزية، مثلها مثل أغاني الشهنامات الفارسية الإيرانية، وقصائد «السيد» الفرنسية، وبالاد نبلونجز الألمانية الإسكندنافية، والبليانات السوفيتية والأغاني القصصية التي سبقت اكتمال ملحمة «كاليغالا» الفنلندية، وكذا أغاني رولان، وبيولف، ثم بالاد سفند دايرنغ الدانماركية، التي تقارب قصتنا الملحمية سارة وهاجر، وإن كان في كلتيهما يشيع الحس النسائي، الذي هو الملمح الأكثر أصالة للجسد الفولكلوري العالمي بأكمله، من حيث الاحتفاء بمأثورات مثلث العائلة الخالد، الزوج والزوجة والابن، وصراع الضرتين، وطقوس الزواج والميلاد، واضطهادات زوجة الأب، التي تدفع بالأم إلى الخروج من قبرها، لتنقذ طفلها - القدري - المضطهد من براثن زوج أبيه.
ويرجع ظهور هذا الشكل الأدبي الفولكلوري في التراث العالمي بعامة، فيما بعد القرن الخامس عشر، وقد لعبت حركات الإصلاح الديني في الغرب دورا دافعا في تنشيطه والاستفادة من رواته ومنشديه المحترفين مثل النسوة الندابات، منشدات البلينا السوفيتية، برغم أن بعض الكنائس في العصور الوسطى حاولت تحريم إنشاده ، واضطهاد رواته وحفظته ومنشديه.
ولقد احتفت المدرسة الأسطورية بريادة آندرولانغ بإرجاع ذلك القصص الشعائري الغنائي إلى عصور موغلة في القدم.
ولا شك في أن بعض نماذج هذا القصص الشعري الملحمي، عمر عمر الشعائر والممارسات الوثنية الطوطمية الموغلة في القدم، طالما أنه مرتبط بتقويمات ومناسبات دنيوية، يراد لها الحفظ والانتشار، ولو من جانب المؤسسات الدينية التي عادة ما تتحرك في خدمة المسار السلطوي، ولو للعائلات المنسبة أو التي تضفي صفات وهالات القدسية والتقديس على أنسابها؛ بما يحفظ لها استمرارها وتوصلها السلطوي.
فالبالادا قصة شعرية فولكلورية، تروي أحداثا ملحمية يراد لها الحفظ والاتصال، عادة ما تكون على درجة عالية من الأهمية والخطورة، وعلى المستويات البنيوية من سياسية وشعائرية واجتماعية وتقويمية، تنتهي بكاملها عند هدف أخير، هو حفظ البنية الطبقية، دون أي اعتبار لما طرأ على مجتمع أو مجتمعات هذه السير والبالاد الملحمية من تغيرات في علاقات إنتاجية، والشروط والمتطلبات التي تعيش فيها الناس - وعن طريقها وعبرها - يتحدد وعيها.
إن تطور الأفكار والمعتقدات يجيء مسايرا لتطور التاريخ (خاصة تلك التي يكون موضوعها الشعائر والمنتجات الروحية).
فمثل هذه الموروثات الروحية المدعمة بسلطة العادة والتوارث، وكذا التفسيرات المغلوطة لكلا التراث والتاريخ مجللة أو محمية، بما أسماه آرثر تيلور بالأنيزم، من روحانيات يضفيها الإنسان على كل شيء، وبخاصة الطبيعة الموحشة الغامضة من حوله.
وعلى هذا فالبالادا في أحسن حالاتها قصة «أنساب» أو عائلة أو قبيلة، مع الأخذ في الاعتبار أن العصب أو الجسد الفولكلوري العربي بعامة؛ قبائلي.
بالإضافة إلى أنها - كما ذكرنا - قصة أو أغنية شعرية، عادة ما كانت تؤدى بمصاحبة الموسيقى والرقص.
وهنا نكون قد استكملنا التعريف بالسيرة والملحمة، والبالادا، والفوارق الهامشية بينهما، قبل التعرض لموضوعات هذا الكتاب الذي يقع في قسمين، يختص الأول بالمداخل أو الأنساق أو الأبنية، التي هي في موقع القاسم المشترك الأهم لمحصلة تركتنا من السير والملاحم والبالادا العربية على المستوى القومي؛ من ذلك: القسمات والعناصر المشتركة في الفولكلور العربي التي تساعدها وتدفع بها مثل هذه الأعمال الكبرى - من سير وملاحم وقصص شعرية إنشادية - على الوضوح والتبدي، وأبرز هذه المداخل والأنساق، قضية الأمن وافتقاده من فولكلورنا العربي؛ نظرا للترابط التراثي التاريخي من المنطلق القومي، وحيث تنشط مثل هذه السير والملاحم أكثر فأكثر في مواجهة الأخطار والاعتداءات الخارجية، من غزو، وفرض سيطرة، وحروب قارية وهجرات جماعية.
ومنها أبرز ظواهر وملامح سيرنا وملاحمنا العربية، التي قد تجتذب الباحثين والأثنوجرافيين، مثل البحث في الخلفيات التاريخية التي عادة ما ترتكز الأحداث الجوهرية لسيرنا عليها؛ من ذلك مخاطرة الملك سيف بن ذي يزن وبحثه عن كتاب النيل، أو الخلفية التاريخية لهجرات وحروب قبائل التحالف الهلالي مرورا بالمغرب وتونس، حتى أبواب الأندلس.
وكذا الحروب الإسلامية ضد الروم البيزنطيين ومحاصرة العرب للقسطنطينية، وظاهرة استفاضة سيرة الأميرة ذات الهمة في الخوض في الحروب الطويلة التي عرفت بحرب الأيقونات، ومنها كنوز كنيسة أيا صوفيا.
وكذا الحروب ضد الفرس التي تعرضت له أكثر من سيرة عربية، أو الدور الذي اضطلع به «العيارون» وتابعوا الأبطال الملحميين في سيرنا.
ويلعب الماء وموارده ومترادفاته؛ من عطش، وماء يعيد الصبوة والشباب، وماء الخلود، هكذا دورا رئيسيا في فولكلورنا العربي، بل قد يكون هو بذاته - الماء كمصدر للزرع والضرع - سببا للإغارة والهجرات والحروب، التي هي بدورها موضوع هذه السير والملاحم والبالادا.
كذلك فإن من قسمات وسمات سيرنا وملاحمنا، هو التعرف - باستفاضة - للبنية القرابية القبائلية.
القسمات القومية المشتركة لسيرنا وملاحمنا
تتبدى القسمات والعناصر المشتركة في فولكلورنا العربي على المستوى القومي، واضحة كل الوضوح بالنسبة لتركتنا الشعبية العربية بعامة، في تراثي السير والملاحم، بأكثر منها في بقية أنشطة الفولكلور العربي الأخرى، مثل الحكايات والشعر الغنائي وبقية الحقول الإبداعية، من مسرح مرتجل وميلوديات موسيقية وأزياء ووحدات زخرفية.
ذلك نظرا للترابط التراثي التاريخي الذي ينتظم من داخله تراثي الملاحم والسير، التي - كما ذكرنا - تنشط أكثر من مواجهة الأخطار والاعتداءات الخارجية؛ من غزو وفرض سيطرة وهجرات جماعية، ومن هنا تمس مثل هذه الأحداث والهزات الكبرى كل مجتمع وكيان عربي هزا مباشرا، يتصل - أول ما يتصل - بأمنه المفتقد المهدد على الدوام.
فكما يلاحظ - عبر عدة أمثلة نسوقها - كيف أن السيرة الهلالية تبدأ أحداثها بالهجرة بين تحالف كلا عرب الجزيرة العربية، شمالا وجنوبا تحت شارة أحد أطوار القمر - للسنة الهجرية - ألا وهو الهلال مرورا بالشام وفلسطين ولبنان ومصر وليبيا، حتى ينتهي الرحال والترحال بتلك القبائل العربية في تونس وعاصمتها قرطاج مواصلة فرض اتصالاتها وحروبها على طول الشمال الأفريقي، حتى مداخل أوروبا الجنوبية والأندلس.
ومن جانب آخر يواصل عنترة حروبه وبطولاته من اليمن والجنوب العربي حتى العراق، ومملكة الملك النعمان فيما بين الرافدين حتى بلاد الفرس، ونفس الشيء نلمسه في الحروب القارية التي بدأها المقاتل العربي الفاتح حمزة البهلوان في سيرته حمزة العرب، بدءا من موطنه ومنطلقه من أم القرى أو مكة المكرمة، مرورا بالعراق، وعاصمة ملكه آنذاك «المدائن» التي كان مثلها مثل الجزيرة بأكملها تحت نير الإمبراطورية الفارسية فيما قبل الإسلام إلى أن يقف حمزة مهددا ومحاصرا طهران، عاصمتها، مدافعا عن تحالفه القبائلي العربي، في مواجهة التحالف الفارسي المستعمر، إلى أن توقعه أحداث سيرته الملحمية في حب «مهردكار» ابنة أحد الكياسرة أو القياصرة، ليصبح ألعوبة في يد كسرى، يجمع له الجباية أو الجزية، على طول إمبراطوريته، المترامية على طول غرب آسيا، وآسيا الصغرى، واليونان، وروما، ومصر.
والملاحظ أن سيرة الأمير حمزة البهلوان تبدع إلى حد الرصد الإثنوجرافي، في وصف أحوال البلدان التي يمر بها الجيش العربي الذي قاده حمزة العرب في وجه أشلاء الإمبراطوريات الثلاث الهامة، وهي مصر الفرعونية بآثارها وقلاعها وشوارعها، وآلهتها الوثنية ونيلها وعادات أهلها، والنوبية والسودانين في مصر. ونفس الشيء بالنسبة لوصف السيرة الدقيق لبقايا الملامح الهيلينية اليونانية في العاصمة أثينا، بمعابدها، ومجمع آلهتها، بل والأكروبول ذاته، تصفه السيرة بكل دقة.
وكذا الشوارع وعلاقات البيع والشراء وأزياء النساء وآداب الطعام والحديث، وتبادل التحايا وحب الورود وأصناف الطعام والشراب والمسارح وأقنعة الممثلين الجوالين - التروبادورز - وهكذا إلى أن تنتقل إلى روما، والمدن والدول على طول الساحل الفينيقي في لبنان وفلسطين، حيفا، يافا، صور، صيدا، بيروت وجبيل، بدقة أقرب إلى كتابات الرحالة هيردوت وأحاديثه التسعة، على طول دول الشرق الأوسط التسع، من حيث الرصد والتسجيل.
وعليه: فإن للقسمات المشتركة أو المتجانسة، الأقرب إلى التطابق، والدفع إلى المزيد من الاهتمامات والانصهارات القومية، بما يحتم ضرورة انتماء تراثنا هذا من السير والملاحم، انتماء يجيء قوميا، بأكثر منه محليا.
فلن تنتمي يوما سيرة عنترة إلى موطنها - الجغرافي - اليمن والجنوب العربي الأعم، ونفس الشيء بالنسبة للملك سيف، وعمر النعمان، وملوك قحطان التباعنة؛ ذلك أن لمثل هذه السير والملاحم العربية، حركتها الأفسح، سواء أكانت الحركة الداخلية للأحداث والعلاقات القرابية للبيت أو الشعب الواحد، وحركتها الخارجية بالحرب والهجرات والريادات، أو حتى الأحداث الكبرى، مثل صراع الضرتين، سارة وهاجر، واضطهاد إسماعيل أبا العرب، وإحلال الضحية الحيوانية بديلا من البشرية، أو خروف العيد «عيد اللحم أو الضحية».
وتكثر أمثال هذه السير والملاحم والبالاد ذات السمات العربية القومية بأكثر من المحلية والإقليمية، مثل سارة وهاجر، ويوسف وزليخة، وعزيزة ويونس، وعنتر وعبلة، وسعد اليتيم، والإمام علي والملك الهضام في المجتمعات الأكثر أمية، كما أن من خصائصها التواجد في المجتمعات المغرقة والموغلة في عبادة السلف، فعلى أرض هذه المجتمعات السلفية تجد مثل هذه السير والملاحم ازدهارها وتواترها؛ حيث تخالط فيها الأساطير والخرافات التاريخ الفعلي الأركيولوجي، وعلى كلا الزمان والمكان، أو التاريخ والكيانات التي فيها تجري أحداث السير والملاحم؛ فالإغراق في الأمية إلى حد تقديس أعلامها والتبتل بالسلف، يشير إلى آفة السلفية وتحجرها في الماضي المندثر الغابر، على الحاضر الآني الماثل، باستخدام كل وسائل وآلات التعسف السلطوي للتراث الخالد، وهو ما تحفظه هذه السير والملاحم، ذات الأصول والعلاقات الضاربة في العبودية والإقطاعية، والتي هي ليست في مداها الأخير سوى سير وملاحم الحكام، الحافظة بكل الدقة الممكنة لأنسابها وعلاقاتها القرابية، بدءا من سيرة بيت أتريوس في الإلياذة الهومرية، ومرورا بسيرنا، الزير سالم، كما سيتضح ويلاحظ في مدى حفاظ هذه السير الأسرية القبلية على أدق أنساقها وعلاقاتها القرابية.
الباب الأول
القسم الأول
سير وملاحم الأنساب القبائلية
ما من سيرة أو ملحمة عربية إلا وتولي اهتمامها الرئيسي للبنية القرابية القبائلية التي تؤرخ لأبطالها، بل إن أبسط تعريف للسيرة يتمحور عادة في كونها سيرة أنساب أو عائلة حاكمة أو متسيدة، يراد لها الحفظ والاتصال.
إنها بمثابة التراجم التاريخية لشخوصها عالية الهامة، من ملوك أو تباعنة وأمراء وشيوخ قبائل، عبر حروبها ومنازعات بلاطها وهجراتها وأنماط زواجها وميراثها وتوارثها.
يتضح سلسال أو نسق القرابة خاصة في سيرنا وملاحمنا، مثل ملحمة حسان اليماني أو الزير سالم، وعنترة، وسيف بن ذي يزن، وسيرة الهلالية.
فالقبيلة حين تتحرك للحرب والمنازلة، تتحرك حافظة بكل دقة لنسيجها القرابي، كفرع من الشعب، الذي هو بالتالي قبيلة سالفة، مثل عدنان سكان شمال الجزيرة، وقحطان سكان اليمن والجنوب، حين تحالفهما وهجرتهما من الجزيرة، بحثا عن الزرع والضرع، إلى الشام ومصر والشمال الأفريقي في القرن الخامس الهجري، وهو ما أرخت له سيرة الهلالية.
فالقبيلة فرع من الشعب المتحالف - عدنان وقحطان - مثل قبائل ربيعة ومضر وعدنان، ومن القبيلة تنحدر العمارة أو البدنة.
والبدنة كما يعرفها الأستاذ إيفانز برتشاد، وفورشن: وحدة دائمة تظل موجودة على مر الأجيال؛ نتيجة لانضمام أفراد جدد إليها، أو تركهم لها بالموت أو أي سبب آخر ... فالبدنة جماعة ترد انتسابها إلى جد واحد في خط واحد، ومنها يستمد الشخص مركزه السياسي والقانوني.
فيلاحظ، أن نظام القرابة يهتم بدراسة العلاقات بين الجماعات القرابية كالبدنات وفروعها والعائلات الكبيرة من حيث هي جماعات، بغض النظر عن القرابة الفعلية بين الأفراد.
وعلى سبيل المثال، فإن قريشا وكنانة ما هما إلا بدنتين من مضر، ومن العمارة أو البدنة تجيء البطن، مثل بني عبد مناف من قريش، ومن البطن يجيء الفخذ، ومن الفخذ تجيء القبيلة، مثل بني العباس من هاشم أو الهاشميين.
وإذا ما عدنا إلى الاستشهاد ببعض النماذج القرابية للهلالية؛ نجد أن العصب القبائلي الأم الممثل في صراعي عدنان وقحطان داخل التحالف ينعكس على المستعميين الذين قد يتحمس العدنانيون منهم لخوارق أبي زيد الهلالي، والقحطانيون منهم لجد الزناتي خليفة وابنته سعدى وابنه العلام.
بل إن السيرة تحفظ لقاتل الزناتي خليفة وهو قحطاني سلف بدوره، لهجرة يمنية سالفة - تابو - أن قاتله لا بد وأن يكون قحطانيا مثله.
لذا كان قاتله هو دياب بن غانم وهو القحطاني الذي لقبه الشعب المصري - نظرا لغدره وعصبيته - ب «الزغبي»، ومنه تواتر مثل «هو انت زغبي» كما يقول د. عبد الحميد يونس.
كذلك يتضح في السيرة تقديس الخال عند تلك القبائل العربية القمرية - الهلالية - مثل تقديس الشبان الثلاثة مرعي ويحيى ويونس لخالهم (أبا زيد)، ومثل تعرف كل من سعدى ومي إلى خالتهم - الجدة - شوه، التي قد تكون طوطما أو مزارا سالفا، مثلها مثل الجازية، التي أتصور أنها كانت بمثابة إلهة قمرية، أو طوطم لمجموع القبائل المهاجرة المتحالفة.
كذلك يتضح مدى تقديس الخال المتواتر إلى اليوم، الشائع بكثرة في الحواديت والشعر الشعبي مثل:
يا عم ياللي بلا خال
تعال أعملك خالي
واحط قلبي السليم
على قلبك الخالي
وكذا مسبة من لا خال له.
فمع استمرارية أبنية أو أنساق المجتمع تظل تلك الظواهر والموروثات تواصل توالدها الذاتي، بنفس ما يحدث في الأساطير والملاحم والحكايات والأمثال، بل النكات والأسماء والأحاجي، أو الخدور والأدعية.
وجميع هذه الأبنية التي كانت المدرسة الأنثروبولوجية بريادة تيلور وتلميذه أندرولانج أول من أشار إليهما، بالنسبة لدراسة الفولكلور.
من هنا يمكن القول بإسهام جيل الفولكلوريين الأنثروبولوجيين بالمساهمة في المنهج البنائي، الذي غرضه النهائي إلغاء الحواجز التقليدية بين مختلف النظم والعلوم، وتكوين منهج يعتمد كل العلوم والدراسات، بل إن للباحث البنائي الحق في التعرف إلى مستويات الحقيقة أو الظاهرة التي لها قيمة إستراتيجية - من وجهة نظره - ويعزلها.
فمهمة الباحث الفولكلوري لا تقف عند مجرد جمع النصوص والكشف عن مصادرها وأصولها، بل إن مهامه تسجيل ما يحيط بها من ظواهر وأبنية مختلفة من اقتصادية، وقرابية، ومهنية، بالإضافة إلى ما تعكسه هذه الأبنية في مجموعها من شعائر وسلوك، قد تبدو لغير البنائيين غير ذات أهمية، من ذلك مثلا تربية الأطفال وتنشئتهم وكيفية التعامل مع المرأة، والمراهقين، والشيوخ، والعلاقات الأساسية والمتغيرة بين شخص وآخر.
فمثل هذه النظرة المتكاملة أو البنائية، تصبح أكثر فائدة وأكثر اقترابا من معرفة الظاهرة أو الحقيقة.
فما من شك مثلا في أن لخرافات الجان والنداهات ملامحها المحلية ما بين قرية وما يجاورها على طول بلداننا في مصر، ووهاد وجبال وصحارى بقية البلدان العربية، ونفس الشيء بالنسبة للتعامل مع المرأة والطفل والأب الذكر، أو مثلث العائلة الخالد - كما سماه فيرث.
وعلى هذا فإذا ما اتفقنا على أن الملمح الرئيس لفولكلور وأساطير منطقتنا العربية أو السامية، هو أنه فولكلور قبائلي ووحدتها القبيلية، ويعبر عن ذلك بأنها مجموعة من الناس لها بناء اقتصادي محدد، فنتج عنه بناء ثقافي متكافئ، أو لنقل: متواز.
وإذا ما عرفنا أن من أهم الأساسيات التي تقوم عليها المجتمعات البشرية مبدأ القرابة أو سلسلة روابط الدم أو الزواج؛ أي نسف الروابط الاجتماعية القائمة على الاعتراف بالعلاقات الجينالوجية؛ أي العلاقات الناتجة عن الارتباط الجنسي الشرعي، وإنجاب الأطفال كما يحددها ريموند فيرث الذي يرى بأن النسق القرابي يتحكم - حتى - في الأوضاع الاقتصادية والسياسية.
إذا ما عرفنا أن القرابة شيء أساسي لكافة المجتمعات البشرية، فما بالنا بالنسبة للقبيلة، التي - وكما قلنا - هي الملمح الأساس لفولكلور وأساطير وتراث منطقتنا بعامة، المحاط إلى اليوم بسياج قوي من الأنيميزم، كما سماه تيلور؟
وبكل تأكيد ممكن، فإن في دراسة بنية أو نسق القرابة والانتساب على مستوى المنطقة العربية أو السامية في مجملها، وعلى أدنى الافتراضات داخل كل مجتمع عربي أو سامي، أو البدء من منطق الجزئي بهدف المعرفة والاستيضاح للكلي، وبمعنى أبسط يمكن القول بأن في الإمكان التوقف طويلا أمام تقليد أو ظاهرة النعي العلني الذي نشهده في صحف موتانا صبيحة موت المرحوم، وكيف أن الميت ينتمي إلى عائلة كذا، ويتناسب مع عائلة كذا من حيث الأم، وكذا من حيث الأب، وكذا من حيث «ميكانيزم» التزاوج العائلي من داخلي وخارجي.
في دراسة مثل هذه الظاهرة أو النسق انفتاح على بنية كاملة، لقد وصلت العلوم الأنثروبولوجية والأثنولوجية في دراستها لهذا النسق أو البناء القرابي، سواء على المستوى البدائي أو القبائلي في مجتمعات العالم خارج الغرب، خاصة أوستراليا وأميركا اللاتينية أو داخل المجتمعات الغربية المعاصرة؛ وصلت إلى حد من الدقة الرياضية، فمثل هذا النسق - القرابي - مثل بقية الأبنية الاجتماعية في تساندها الوظيفي من الاقتصادية والسياسية، بل إن في دراسة أي نسق أو بنية اجتماعية على حدة خاصة أضلاع هذه الثلاثية التي تتحكم في المجتمع - أي مجتمع - من قرابية واقتصادية وسياسية؛ لن تحقق غايتها إلا في تساندها مع بقية الأنساق.
فدراسة أي نسق لا يصح أن تجري بمعزل عن بقية الأنساق والأبنية التي تؤلف البناء الاجتماعي كنسق متكامل هدفه تحقيق التساند الوظيفي والطبقي، وهو ما عرفه دوركايم بالتركيبات الموروفولوجية، وعرفه ماركس بالتركيبات السفلى والتركيبات العليا.
ومن السهل تصور أن التركيبات العائلية - بل لنقل القبائلية - تتبدى بوضوح في نص نعي الميت من تشابك أو اتصالات عائلية أو قبيلية، أو بدنته أو فخذته أو بقية الأعضاء العائلية القبائلية، يقود إلى شجرة العائلة - أو نخلتها - عند العرب الساميين.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن في دراسة البناء القرابي في علاقاته المتبادلة مع بقية الأنساق، تبصير البنية الطبقية الاقتصادية والسياسية - كما قلنا.
ومن هنا فليس مدخلنا إلى دراسة النسق القرابي على مستوى العالم العربي أو المنطقة السامية بهدف التوصل إلى نتائج عنصرية، أو ذكاء النعرات القبائلية الطوطمية في معظم حالاتها.
وهو ما تتوسع فيه الدراسات العبرية اليهودية، بإيقاع قرن إثر قرن منذ كوزمولوجي (سفر التكوين، إصحاح 4) بدءا بآدم أبو البشر «يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله» فأبناؤه من بنين وبنات حتى نعمة أو نعيمة في البالاد الشفاهية الشعرية، ثم سلسال نوح وأبنائه وأخصه سام أو شام المطلق على بلاد الشام والساميين بعامة وما توالى من نسله، لحين بنيان مدينة بابل، حين قال بعضهم لبعض: «هلم نصنع لبنا ونشويه شيا، فكان لهم اللبن محل الحجر، وكان لهم الحجر مكان الطين» لحين تبلبل الألسنة خلال بناء برج بابل.
فيلاحظ هنا، أنه بالنسبة للكوزمولوجي السامي - أو نسق القرابة - تبدأ شجرة العائلة، منذ آدم حتى تارح - الذي يجمع الكثيرون على أنه طوطم سلف - ونوح، منسقا ومقربا بين حضارات النسل السامي، وخارجه مثل عيلام أبو العيلاميين، وكأشور، وآرام، وابنا عامر فالح وأخيه يقطان، الذي هو بذاته قحطان أبو العرب اليمنيين القحطانيين ملوك دول سبأ ومعين وابنه حضرموت.
وقحطان طبعا ما يزال يتردد إلى اليوم، وإليه ينسب عديد من القبائل العربية سواء في اليمن والجنوب العربي، أو في بقية أقطار عالمنا العربي المعاصر.
بل لقد ظل نسق القرابة متواصلا داخل التراث العربي متواترا، ويصر على تدعيمه وإحيائه كثير من القبائل العربية الحاكمة، خاصة في الكويت والسعودية واليمن والجنوب العربي.
ومرة ثانية من مدخل تنشيط دراسات نسق القرابة وعلى مستوى بلداننا العربية بهدف استيضاح البنيان الطبقي والقبلي، لا بهدف التأصيل العنصري المفضي بالضرورة إلى الفاشية؛ ستوقفنا مثل هذه الدراسات على واقع بنياننا السكاني.
فليكن الهدف هنا هو الدخول إلى أحد ميادين العصر الكبيرة، وهو ميدان الاتصال.
ولعل الملمح الأساسي لتقدم الأنثروبولوجيا الاجتماعية منذ القرن الماضي، كان زيادة الانتباه إلى البناء أو النسق القرابي، ويرجع هذا التقدم إلى عبقرية لويس مورجان في كتابه الرائد في هذا الميدان عن «أنساق روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية» عام 1871، وساهمت هذه الدراسة في وضع أسس الدراسات الأنثروبولوجية والقرابية، إلى أن اكتملت هذه الدراسات في علوم الاتصال، ثم ما تلا ذلك من جهود العلماء الاجتماعيين في هذا المجال البكر، مثل لوفي عام 1948، ومردوك عام 1949، وسبوشر عام 1950، ودراسة العالمين الكبيرين راد كليف براون، وفورد، وجميعها بالطبع تعتمد اعتمادا كبيرا على الدراسات الميدانية؛ أي التوسع في جمع المعلومات والبيانات، وهو ما نطالب به، بالنسبة لقيام مثل هذه البحوث في مصر والعالم العربي، على أن تجيء مثل هذه الدراسات مستهدية ومرتكزة على الجهود الضخمة التي بذلت منذ مطلع هذا القرن، والتي يرى ليفي شتراوس أنها لم تثمر كما يجب رغم غزارة مواردها وبياناتها الأنثوجرافية المتصلة باختيارات الزواج، وأنماطه من داخلي وخارجي ومن أبوي وأمومي، بالإضافة إلى كيفية تنظيم العائلات والعشائر والقبائل وبقية النظم والمعتقدات الطقسية والدينية واللغوية، بل ويمكن القول بأنه حتى لعب الأولاد ، أو نظرية الألعاب التي كان كروبير أول من لفت الأنظار إلى أهميتها عام 1942 فساعد في إيضاح النسق القرابي.
ومن المفيد الإشادة بالدور الذي أصبحت تلعبه بعض الدراسات الميدانية، في التبصير بأهمية جمع ودراسة لعب الأطفال في بعض بلدان العالم العربي، مثل العراق والكويت.
وقد يكون للدور الكبير الذي لعبه راد كليف براون بشكل خاص بالنسبة للدراسات البنائية في عمومها، وبالنسبة للنسق القرابي خاصة، أهمية جديرة بالتوقف عندها؛ ففي دراسته الميدانية ومنهجه في التصنيف بالنسبة لنظم القرابة في أستراليا، أو في اكتشافه للقوانين المتحكمة في نظام القرابة عند قبائل كاييرا، والتي - كما يقول شتراوس: «ستبقى إلى الأبد واحدا من أعظم النتائج في الدراسات الاجتماعية البنائية 1930-1931.» كما تعتبر مقدمته الرائعة لكتاب «أنساق القرابة والزواج في أفريقيا» خطوة متقدمة نحو إخضاع نظم القرابة في العالم الغربي، لنظرية عامة في التأويل على مستوى عالمي. كذلك دراساته المتفرقة على مصطلحات القرابة وسلوك الأقرباء: السلوك المصاحب لأطوار العمر الثلاثة من ولادة وموت وزواج. كيف تتصرف الأم والأعمام والخالات خلال زواج ابنة أو طلاقها، أو موتها أو حملها ... إلخ.
السلوك المصاحب لعادات الاقتتال والثأر، أو المصاحب لتصرفات الأسرة أو العشيرة في حالات مولد الإناث والذكور.
ففي أهمية دراسة السلوك داخل النسق القرابي - كما يقول «لوي» - ما يشير ويكشف عن جوهر النسج الاجتماعي، مثل ملاحظة ظواهر التزاوج الخارجي الأكسو-سامي، وارتباطه من جانب آخر بظواهر وسمات محددة، مثل تأثير مكان الإقامة أو الحقل الميداني موضوع الدراسات سواء قرية أو مدينة، أو كانت بيئته بدوية أو زراعية على البنوة، وعلى عادات المباح والمحظور من التزاوج والعلاقات الجنسية.
ولقد اعتبر شتراوس أن من أغراض نظم القرابة وقواعد الزواج التي يسودها تناسق وظيفتها في اتجاه حفظ بناء الجماعة عن طريق الربط بين علاقات الدم وعلاقات المصاهرة، بل ومن أهدافها إخراج النساء من العائلات التي ينتمين إليها بروابط الدم، وإعادة توزيعهن على جماعات أخرى.
ففي رأيه أن النساء - في أحسن حالاتهن - هن وسائط اتصال، وعلى ذلك فمن الزواج إلى اللغة يمر المرء من سرعة اتصالية منخفضة إلى سرعة اتصالية مرتفعة.
كذلك استطاع براون أن يصل في دراساته إلى وضع مصطلحات أو قوانين لها عموميتها، ولها ميكانيزماتها المحددة، سواء بالنسبة للزواج والاحتفالات وسلوك أبناء العمومة في المجتمع الذكوري وأبناء الخالات في مجتمع أمومي، وكذا أوضاع الحموات وأقارب الزوجة، والعكس.
ويتفق براون مع مالينوفسكي في أن الروابط البيولوجية وروابط الدم، هي في ذات الوقت، الأصل والأنموذج لكل نمط من أنماط القرابة، وإن كان لم يرفع نظرية القرابة إلى مستوى نظرية الاتصال - كما فعل شتراوس - إلا أنه يتفق مع ماكلينان ومالينوفسكي في أن «تنظيم العائلة الذي يسود فيه حتى الذكر في كل مكان، قد تم بفعل قوة أساسية هي حق الملكية.»
وبالنسبة إلى البناءات الطبقية، وصكوك الملكية، ونظم التوريث وعلاقتها بالبناء القرابي والمصاهرة؛ فإن الأمر يصبح أكثر وضوحا، فكما يقول وارنر، فإنه «من المستحيل - في بعض الحالات - أن ينتمي أي فرد تلقائيا لطبقة معينة»، ووصل الأمر ب «لويد وارنر» إلى حد أنه افترض أن الأهالي يدركون ويفطنون إلى العلاقات البعيدة جدا بالنسبة لنظام القرابة، داخل أنموذج أو طراز «مورنجن» الذي انتهى به إلى علاقات رياضية - أو قوانين - أثارت الكثير من الجدل، كنظام محقق لحاجات ومطالب الزواج والنظام الطبقي، على اعتبار أن أولهما في خدمة الثاني. •••
وكما هو واضح يتبدى مدى تأثير المجتمع الأمومي داخل تراثنا العربي والسامي بعامة، والعبري - من حيث الدلالة اللغوية الأثنولوجية - نظرا لأن التعريف السائد لليهودي إلى اليوم داخل إسرائيل المعاصرة، هو من جاء من رحم أم يهودية.
وتنقصني معلومات عن نظام التوريث والميراث الإسرائيلي، ذلك أن خط التوريث شديد الارتباط بسيادة مجتمع نوعي ما، سواء كان أبويا أو أموميا، كذلك يرتبط التقويم بهذه السيادة، ومن المعروف أن الارتباط بالتقويم القمري عند العرب واليهود الساميين، ما يزال إلى اليوم تقويما قمريا مثل السنة أو التقويم الهجري القمري، المرتبط بالقمر ورؤية الهلال عند كلا المجتمعين: البدويين - الساميين.
وفي حالة التوريث يمكن الرجوع إلى فكرة الفصل بين الأبوة البيولوجية والأبوة الاجتماعية، كما حققها إلى حد الحسم مالينوفسكي خلال دراسته الميدانية على بعض قبائل أستراليا وسكان جزر الثروبرياند في غينيا الجديدة - قبل أن تحقق انقلابها الثقافي الحضاري الأخير - حيث إن الرجل لا علاقة له بإنجاب الأطفال، ولا يعتبر أبا بل مجرد زوج للأم، وكل دوره هو أن «يحمل الطفل بين ذراعيه» ويرعاه ويحميه، ومن هنا لا يرث الابن أباه، بل إن وريث الأب هنا يشترط أن يكون ابن أخته، فالتوريث يتم عن طريق سلالة الأم، وبذلك يرث الرجل خاله وليس أباه، كما أنه يورث أولاد أخته وليس أولاده.
كذلك لاحظ مالينوفسكي وغيره داخل هذه المجتمعات الأمومية أن في مقدور أي فرد أن يذكر سلسال انتسابه (الأمومي) حتى الجيل الثالث عشر، دون أن يحفظ ويتذكر أكثر من ثلاثة أجيال أبوية.
1
ويمكن القول بالنسبة لعالمنا العربي إن كلا التوريث والانتساب للجدود يسير في خطين، صحيح أن السلطة للرجال في هذا المجتمع الذكوري، إلا أن الجنة تحت أقدام الأمهات، إلا أنه من حيث الميراث والتوريث يسير في خطين.
وكان ل «ريموند فيرث» سبق التوصل والتبصير بهذه الطريقة الثالثة التي لا هي بالأبوية الذكورية، ولا هي بالأمومية الأنثوية، وإنما هي تجمع بين النظامين، وعرفها فيرث بالقرابة المزدوجة؛ أي التي يمكن تتبعها في أناس آخرين عن طريق كل من الأب والأم، كما يمكن تتبع ملامحها عبر مختلف الطرق والأبنية أو المداخل، من لغوية، واقتصادية أو قرابية تتصل بالميراث والتوريث، بالإضافة إلى رواسب نظام التابو والطوطمية.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى أنه من الصعب علينا - كمجتمعات عربية أبوية - تصورنا لإمكان استمرار مجتمعات أخرى كثيرة.
مشاكل التراكمات الملحمية لسيرنا العربية
هناك سمة أو ظاهرة تختص بها الأعمال والإبداعات الشعبية الجمعية الكبرى من سير أنساب قبائلية وملاحم إنشادية، أوقعت الكثير من الدارسين في مزالق أبعد عن العلمية.
هذه السمة أو الظاهرة ذات الصفة العامة في التراث العالمي؛ هي ما اتفق على تسميتها بالتراكم الملحمي والسيري، من أحداث لاحقة تتعلق بنمط في الجسد الأصلي للسيرة أو الملحمة، ما تضيفها وتضفيها العصور المتوالية، سواء من حيث الانحراف بمجرى الأحداث أو البطولات. ومن أمثلتها الصراع العدناني القحطاني في السيرة الهلالية، بحسب نية القرابية للمجتمعات العربية التي تروى فيها، أو من حيث الانحراف وتغيير البنية القرابية التي عادة ما كان يضطلع بها نسابو القبيلة وشعراؤها، وبمعنى آخر: التدخل في مسيرة النسب ذاته بالتغيير والتبديل والإضافة؛ بهدف إضفاء التمجيد على أسر أو أبطال محليين تالين أو معاصرين.
كما أن التراكم الملحمي، لا يقتصر عادة على النصوص الشفهية المتواترة بالحكي أو الإنشاد الشعري والروائي، بل هو يصل ويطال النص أو المخطوطة المدونة ذاتها، وحتى فيما بعد المعرفة بالطباعة وانتشارها منذ القرن السابع عشر في بلادنا؛ فقد تعرضت تركتنا الفولكلورية العربية بعامة للكثير من إضافات النساخ والطباعة.
من ذلك التدخل الواضح للنساخ اليهود في مجرى أحداث بعض السير والملاحم العربية، أبرزها هنا «الزير سالم» التي تجري أحداثها المركزية في فلسطين العربية منذ أقدم العصور.
فالتراكم الملحمي أو السيري اصطلاح متفق عليه، يشير إلى ما يعلق بجسم الأعمال الملحمية والسير من أحداث مستجدة ودخيلة، سواء على المستوى المكاني الجغرافي، أو الزماني التاريخي.
وإذا ما أخذنا مثالا من واقعنا وتراثنا الملحمي؛ نجد أن الأنماط المستقلة لأي منها - مثل بني هلال، أو الملك سيف بن ذي يزن، أو عنترة، أو الزير سالم - تكتسب أحداثا وإضافات وتراكمات جانبية جديدة، يضفيها كل مجتمع وكيان من بلداننا العربية، سواء أجاءت هذه الإضافات تبعا للمأثورات أو الخرافات المحلية، أو تلك التي قد يستحدثها الرواة ومنشدو السير والملاحم.
من ذلك ما تنسبه كل بلدة وقرية في مصر لحدث ريادة بني هلال، أو أقوال أبي زيد الهلالي في أناسها وأهلها من مقولات ومأثورات أقرب - من حيث تصميمها ودقتها - إلى المأثورات التهكمية والنكات، ومن ذلك ما ينسب لأبي زيد ذكره بلدة يغلب عليها البخل والشح وتسمى «توسا»:
2 «يا رايح توسا، خذ غذاءك لا تنسى.»
وتناثرت مئات المأثورات حول هجرات وفتوحات وتجوال أبطال السير، مثل الزير سالم، والملك سيف، والجازية وأبطال الهلالية خلال فتوحاتهم للمغرب العربي، مرورا بكفوره ونجوعه ومضاريه.
كذلك فقد يمتد التراكم السيري والملحمي عبر الزمان والتوالي التاريخي، بحيث يمكن للعصور المتعاقبة أن تضيف أحداثا وموتيفات ومأثورات جديدة، تضاف تباعا لبنية السيرة أو الملحمة العينية المحددة.
فقد نجد سيرة أو ملحمة شديدة القدم في أصولها الطوطمية أو الحجرية، بينما تداخلها مؤثرات تركية عثمانية ومملوكية، بل وشديدة الحداثة أو حتى معاصرة.
ومثل هذه الإضافات والاستزادات قد يضطلع بها المجتمع الجمعي أو الكيان، وكذا الرواة، أو النساخ في حالة النصوص المدونة للإمام علي بن أبي طالب والملك الهضام، أو الزير سالم، أو الأميرة ذات الهمة، وحمزة البهلوان.
وعادة ما يكثر مثل هذا التراكم الملحمي في لحظات وامضة، حين يسقط مثلا أحد الأبطال مجندلا في دمه، يعاني سكرات الموت من أثر الطعان، فيعن له أن ينشد متحسرا ومتفجرا بحكمة يجللها دم الاغتيال والموات.
من ذلك لحظة اغتيال الأخ بدران المغتصب لعرش أخيه الطيب فاضل.
أو حين تمكن الفارس الهلالي الأمير القحطاني «دياب بن غانم» من قتل أمير تونس وفارسها: الزناتي خليفة.
وكذا حين أقدم دياب بدوره على اغتيال ابن زيد الهلالي حين باغته وطعنه غيلة من الخلف، وانكب يندبه ويرثيه.
واغتيال جساس بن مرة الفلسطيني لابن عمه وزوج أخته الجليلة بنت مرة، الملك كليب «ملك العرب والعجم» على مشارف دمشق، والذي كان سبق له بدوره اغتيال الملك اليمني التبع حسان اليماني ليلة عرسه الدامي من خطيبته الجليلة داخل قصر الملك التبع بدمشق، حين تنكر له في هيئة بهلوان أو خلبوص أو مهرج الأميرة، ثم دخل حجرة الملك التبع، فباغته وتقلد سيفه ودرعه، وقد احمرت عيناه، متذكرا أباه - الملك ربيعة - فصال وجال، ولما هجم، عرفه الملك التبع بعد أن أيقن بالهلاك، والوقوع في شوك العقال،
3
ثم استمهل التبع جساسا، منشدا مرثيته الكبرى هذه، التي يتضح فيها جليا مدى التراكم، والنبوءات التاريخية للعصور والأحقاب التاريخية التي لا رابط بينها:
يقول التبع الملك اليماني
لهيب النار تشعل في فؤادي
أمير كليب، يا فارس ربيعه
ويا حامي النسا يوم الطراد
أريد اليوم أن أعلمك شيئا
لتعرف حال أخبار العباد
فموسى كان في الدنيا نبيا
له التوراة أعطت للرشاد
وداود النبي قد جاء بعده
يبشر بالزبور اهل الفساد
وعيسى إبن مريم جاء أيضا
بإنجيل الخلاص لكي ينادي
وعندي قد تبين بالملاحم
بأنك قاتلي دون العباد
وبعده شاعر تنزل عليكم
وتفتن بين قيس في البلاد
وأنت برمح جساس ستطعن
وعبدي يذبحك بين الجماد
وتكتب في دماك على البلاطه
لمن بعدك لتشتيت الأعادي
ويأتي الزير ابو ليلى المهلهل
فيصلي الحرب في كل البلاد
ويقهر كل جبار عنيد
بضرب السيف في يوم الجلاد
وتأخذ الجليلة لك قرينة
وتحظى بالمسرة والمراد
ويظهر لك غلام بعد موتك
يسمى «الجرو» قهار الأعادي
يقتل على يده جساس خاله
وأما الزير تقتله الأعادي
وسيف ذويزن بعدك سيظهر
وتصحبه السعادة في العباد
ويبقى ملكه سبعين عاما
وبعد ذلك يطوى في الوهاد
ويظهر له ولد يدعوه دمر
شديد البأس مرفوع العماد
فيملك في بلاد الشام بعده
يجيب الماء من أقصى البلاد
وبعده يظهر المدعو بعنتر
يهين الضد في يوم الطراد
وبعده يظهر الهادي محمد
يقيم الدين ما بين العباد
وأصحابه معه عشرة كوامل
كرام الناس سادات البلاد
أبو بكر وسعد مع سعيد
وطلحة والزبير بن الجياد
وعثمان مع عمر علي
وعامر مع حسين اهل الرشاد
يموت الهاشمي ويصير خلف
على الأحكام بعده بالعباد
أبو بكر يموت بلسع حيه
وبعد عمر يقتل بالطراد
علي بالسيف يرديه ابن ملجم
يتيما وانتشى بين الولاد
وبعد بنو أمية سوف تحكم
وأولهم معاوية بن عاد
ومن بعده بنو العباس تحكم
سنين كثيرة بين العباد
ومن هذه المرثية المطولة يتضح مدى التراكم الملحمي وإضافات العصور عبر العصور، بالإضافة طبعا للتراكم المأثوري الأسطوري، كما يتضح من مرثية التبع الغازي المغتال، عن كيف أن الخليفة أبا بكر الصديق مات بلسع الحية، وعمر بالطراد، وعليا حين أرداه بالسيف ابن ملجم.
بل وفي ثنايا الأنساب الملحمية هذه «الزير سالم» قد نصل في بعض النصوص والطبعات إلى سمات تركية، بل وخديوية لمطلع قرننا الأخير، برغم أن العمر التخميني للزير سالم قد يرجع بنا إلى أكثر من أربعين قرنا.
الماء والعطش في السيرة والملحمة
كان للماء وموارده وأنهاره وآباره الدور البارز في مجمل سيرنا وملاحمنا العربية، فكما ذكرنا فإن حجر زاوية مثل هذه السير والملاحم والقصص الشعرية، هو على الدوام التاريخ الشعبي المتصدي الدافع ضد الأخطار الخارجية، وكذا الهزات أو التحولات الكبرى الداخلية، التي ترقى هاماتها وترتفع إلى حد أن تصبح حدثا أو موضوعا لسيرة أنساب أو ملحمة.
ونظرا لدور الماء والحروب الطاحنة في اتجاه تملكه، كهدف من أهداف العالم القديم بل والحديث؛ لذا أصبح الماء وموتيفاته ملمحا محددا لسيرنا، فعادة ما يلعب الماء وموتيفاته الدور الجوهري الأول في مجمل أساطير وفولكلور بلداننا العربية، بلا استثناء وبخاصة تركتنا من السير والملاحم والقصص الشعري سواء حين يكثر ويفيض في أماكن دالات أو دالتات الأنهار في مصر والعراق، ومنه تتولد الطوفانات، من بابلية جاءت بها النصوص المبكرة لملحمة جلجاميش، وكذا طوفانات الآلهة الغاضبة، رع، وسخمت، أو طوفان نوح، وسواء حين يشح الماء ويجذب في الكيانات البدوية الصحراوية.
فالماء كان - على الدوام - هو هدف الإغارة والهجرة والحروب في ملاحم وسير حسان اليماني الملك سيف وبحثه عن كتاب أو منابع النيل، السيرة الهلالية، وهجرتها الكبرى من الجزيرة العربية، هربا من الجدب والعطش بحثا عن الزرع والضرع، في سهول الشام وفلسطين وتونس الخضراء حتى مداخل أوروبا الجنوبية بعامة.
فالماء مهبط عرش جميع الآلهة السامية، خاصة أيل أو كبير الآلهة كرونس القاسم المشترك الأعظم لكل آلهة الشعوب السامية؛ حيث كان عرشه على الماء، وصنوه المتوحد به إبراهيم الخليل، نبعت لهما المياه وبعثت، وجرت لهما حيث تواجدا.
إبراهيم حين نبعت له «بئر سبع» بفلسطين، وبكره إسماعيل الذي من الأرض نبعت له المياه؛ حيث منفاه بالوادي غير ذي زرع، بمكة أو برية حاران؛ حيث نبعت له بدوره بئر زمزم بعد أن كوت ألسنة العطش أمه هاجر، بحثا عن الماء في جدب الصحراء، فكان أن ضرب إسماعيل برجله، «انبعث زمزم وفاضت في الوديان القاحلة.»
وعليه: فنحن إزاء آلهة «رزق» على عادة ما هو متبع حتى في التسميات، لدى فقراء الشرق الأدنى القديم؛ حيث تحظى الصحراء والجدب بالنصيب الأوفر لهم.
ولعل صراع الماء وموارده، هو جوهر الحمى والحماية عبر قحط الصحاري والبوادي، إنه البديل السالف لصراع البترول والطاقة اليوم.
لذا ينسب لشيخي القبائل - للسالفين - إبراهيم وبكره إسماعيل، مقدرة إنباع الماء لهما من الأرض القاحلة، إسماعيل في مكة، وإبراهيم في بئر السبع الفلسطينية.
فلقد كانت الكعبة تسمى، قبل تفجر بئر زمزم، «الأخشف» أو «الغبغب» وواضح أنها أسماء آلهة ماء ورزق، في ذات المكان «البانتيون» أو مجمع الآلهة - القبائلية - العربية، الذي ينسب إلى شاعر وملك كاهن خرافي يدعى «عبيد بن شريه الجرهمي» استقدام وتنصيب أصنام مكة التي قيل إنها بلغت 360 صنما وإلها قبائليا بعدد أيام السنة القمرية، أو الهجرية الإسلامية فيما بعد واليوم.
فلقد عبد الساميون بعامة، آلهة الرزق والمن هذه، منذ أقدم العصور والتي تواترت إلى حد المقولات المبطلة والمعوقة لكل محاولات في اتجاه التغيرات الاجتماعية مثل
يبسط الرزق لمن يشاء
و
يرزق من يشاء بغير حساب .
فكان العرب الجاهليون يعبدون الدهر والقدر والماني، وجمعها منايا أو منوات.
وعلى هذا كانوا «أرضيين» - غير زراعيين - لم تلحقهم أفكار ومترادفات البعث، والعودة بعد الموت، والحياة الآخرة، على عكس ما كانته أساطير الشعوب الزراعية في دالات الأنهار ووديانها: الرافدين، والنيل، والأردن، وفلسطين.
ولما كانت الأساطير، في منشئها وغاياتها، تأليها لعناصر الطبيعة من برق، ورياح، وسحب، ورعود جورية؛ أي فينومولوجية، بما يشمله التعريف من ظواهر مناخية، وإحيائية بيئية؛ أي تأثير الظواهر المحيطة في مخيلة الإنسان البدائي، الشبيه بكائن طفولي يتفتح على العالم، وهو ما يتبدى واضحا في تراثنا القديم، وبقاياه المسايرة في تراثنا المعاصر من إغراق في إضفاء مظاهر القدسية على الجبال وقممها والصحاري ومجاري الماء من بحور وآبار لعيون ماء راكدة عفنة، لا تخلو منها مدينة أو قرية على طول مصر والعالم العربي، ومشاع حول هذه النزازات أو الأضرحة، من الآلاف المؤلفة من الخرافات، بل من الصعب تصور مدى ما تسببه هذه النزازات العفنة من تدمير للصحة العامة، من بدنية - بخاصة - وعقلية - بعامة - بدءا من آباره المقدسة ومرورا بشعائر التعميد بالماء «نهر الأردن» حتى ما ارتبط وأثير حول الأنهار وموارد الماء، التي هي قاسم مشترك أعظم لمهبط عرش الله على أسطح المياه، والتي عادة ما يتوحد بها «الإله» الخالق،
وجعلنا من الماء كل شيء حي
وكذا ارتباط الإيمان لتفجير أنهار الماء،
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا .
4
فيترتب على تأليه وتقديس موارد المياه والظواهر الطبيعية والبيئية المحيطة، وما يستتبعه هذا من صراع النور؛ أي الخير، مع الظلام؛ أي الشر، وهو المنهج التطوري الذي اكتمل بعد الدارونية والذي أكده - بالنسبة للأنثروبولوجيا - تيلور ومعاصره أندرولانج، وفريزر، خاصة تفسير تيلور وما سبقه إلى اكتشاف مدى سيطرة العادة داخل هذه المجتمعات الغيبية، بما يحقق توارثها لأدق دقائق حياتهم وطفولتها الأولى، حين أراد تفسير ظواهر الطبيعة القاسية من حولهم، خاصة هنا في شرقنا الأوسط الحديث أو شرقنا الأدنى القديم، فلعل الاختلافات البيئية والظواهرية والجوية هي المخصب الرئيسي لهذا التراث الذي اكتملت فيه الأديان الثلاث الرئيسية في عالمنا: اليهودية والمسيحية والإسلام.
فجغرافية المنطقة كما يشير د. جمال حمدان، تجمع ما بين دالات الأنهار في دلتا مصر والعراق؛ أي المجتمع الزراعي، الذي قدم تفسيره الأزلي السائد إلى اليوم عن الموت والقيامة ممثلا في أساطيره عن الآلهة الزراعية الممزقة التي اكتملت في المسيحية.
والمجتمع الصحراوي المجدب القبلي، مجتمع الإغارة على موارد الماء واعتبار الحرب نوعا من الصيد.
إلى حد أن تاريخ المنطقة، قديمه ومتوسطه ومعاصره، لا يعدو أن يكون تاريخ حرب وإغارة وتنكيل ممتد، خاصة في بؤرة هذه المنطقة الشام وفلسطين، ومنها ميناء إيلات، فهي على طول تاريخها مجال نزاع دائم للمئات من القبائل والحضارات والأجناس المتطاحنة.
ويلاحظ أن اقتصاد غرب البحر المتوسط بعامة عبارة عن بنيان مقسم الأجزاء لأقاليم - أو مدن دول - يصل فيه الجبل حتى البحر الذي يصنع كثيرا من الأجزاء المنفصلة المعزولة التي توجد فيها سهول صغيرة غارقة في الجبل، فالماء - بالضرورة - كان هدف الإغارة والحروب الأولى، طالما أن الأرض قد تتحول إلى مستنقع إن لم توضع وسائل تصريف المياه، أو إلى صحراء إن لم ترو بالماء، وعلى هذا فأساس حياة الفرد والقبيلة في الشام وفلسطين هو البستان، وليس الحقل.
وكما يقول الجغرافي الفرنسي فرناند موريت، فهي بلاد تجبر فيها تضاريس الأرض سكانها على العمل والصبر والدأب، كما أنها بلاد يعتبر البحر فيها الطريق الأسهل للتجارة، والترحال؛ فجغرافية الأرض مقسمة إلى دويلات متناحرة، نتيجة لحدودها الطبيعية من سهول وجبال وصحار؛ أي مناطق جفاف، وفيضانات ماء ورياح، ومساحات شاسعة خربة، كل هذا فرض نظام القبيلة والعشيرة وما يتبعهما من إغارة وإبادة، وفقدان للأمن، وهو ما تبدى واضحا في أساطير وفولكلور هذه المنطقة المغرقة في القبلية العصبية، التي عرفت شارة الصليب المعقوف قبل أن تعرفه ألمانيا النازية الفاشية، بأكثر من 30 قرنا من الزمان.
وعلى هذا فسير وملاحم منطقتنا هي في المحل الأول سير وملاحم قبائلية، وحماها أو موطنها، الذي كان يحده نباح الكلب.
وبالطبع يمكن القول بأن الجسد الفلولكلوري لمختلف فولكلور العالم هو - في أدنى أشكاله - قبائلي، أو هو ما يزال إلى اليوم يحتفظ بملمح القبيلة، بمعنى أن القبيلة هي أدنى أشكال أي مجتمع بشري، ومن تجمع عدة قبائل واصلت اتحادها، تحت أقوى شعاراتها أو شعائرها، أو طواطمها أو آلهتها إلى أن تصل في مجموعة القبائل - المتحدة أو المتحالفة - إلى درجة الأمة أو الحضارة.
ووصل البعض من أصحاب النظريات الطقسية أو الشمسية - مثل روبرت غريفز ورفائيل باتاي - إلى حد الدفاع عن أن انقلابا تقويميا عاما قد صاحب معظم قبائل العالم القديم من خلال تحولها من عبادة القمر - أو الإلهة الأنثى القمرية - والسير بتقويمه القمري أو الهجري إلى عبادة الشمس - أو الإله الأب الذكر - والأخذ بتقويمها الميلادي فيما بعد واعتبار السنة 365 يوما، وهو ما صاحب أيضا المعرفة بالزراعة والانتقال إلى طورها.
وذهب البعض الآخر من أصحاب النظرية الأنثروبولوجية في تفسير الأساطير إلى مدى أكثر عمومية تحت تأثير التطور النوعي الدارويني، والاستفادة من المادة التاريخية، على اعتبار أن معتقدات وأفكار الناس في تطورها التاريخي تجيء - مجبرة أو حتمية - لتطور بيئتها ووسائل إنتاجها وعلاقاتها الاجتماعية؛ أي إن تغير البناء التحتي - الاقتصادي والاجتماعي - يستوجب بالضرورة تغيير أفكار ومعتقدات، وأساطير وعادات، وممارسات وأخلاقيات، ونظم قرابة وتزاوج، وشعائر، وقوى غيبية؛ أي كل ما استحكم في حياتهم من بنيات اجتماعية.
وعلى هذا فمجتمعات العالم القديم، في مراحل التكون القبلي أو العشائري قد عاشت في مختلف البيئات والمناخات الجغرافية - من مجتمعات زراعية ورعي وجبل وبحر - والمقصود بالعالم القديم هنا هو مجموعة الحضارات والقبائل العربية أو السامية القديمة، وهو ما تتضافر في الكشف عنه اليوم مجموعة مترابطة من العلوم، أهمها طبعا علمي الأنثوجرافيا والتاريخ.
وعن هذا الطريق يمكن تعريف الحضارات التي شهدها شرقنا الأوسط، وتحديد معالم وخصائص كل منها؛ ذلك أن الحضارة - كما يعرفها عالم ما قبل التاريخ جوردون تشايلد - تقوم على ما يستخلصه الإنسان من غذائه ومجتمعه الإنساني وكافة مناحي السلوك الإنساني؛ من لغة ودين وفلسفة وأخلاق وقانون، بالإضافة إلى أدوات الإنتاج التي يستخدمها. فعن طريق التكيف مع البيئة أو قوى الإنتاج أو مصادر الثروة الطبيعية تتحدد الحضارة، ومن هنا وبالضرورة تدين سماتها ومعالمها للبيئة وطبيعة المكان.
وكما سبق أن أوضحنا فإن الاختلافات البيئية - وبالتالي المناخية - تظهر بوضوح على طول هذا التراث وهذه البقعة من العالم منذ فجر التاريخ، من صراع بين الحضارة الزراعية في دالات الأنهار، وبين البداوة ومجتمعات الرعي والصيد والإغارة.
ويتركز هذا الصراع - بأجلى معانيه - في الأسطورة الأم التي حددت أجناس شعوب وقبائل المنطقة السامية، حين قدم ابني - حام وسام - بعد الطوفان قربانهما إلى الرب، وكان أحدهما وهو حام صاحب زرع، والثاني وهو سام صاحب رعي، فتقبل الله قربان صاحب الرعي، ولم يتقبل قربان صاحب الزرع، فكان أن حقد الفلاح «قابيل» على شقيقه «هابيل» وأقدم على اغتياله.
وهي تضمينية أو فكرة أسطورية تتوالى بكثرة شديدة جدا في هذا التراث الطوطمي القبائلي.
ولعل أقدم أشكالها (3 آلاف سنة ق.م) جاء بها النص السومري لملحمة جلجاميش، في صراعي جلجاميش «الفلاح المتحضر» وأنكيدو «الراعي الوحش» الذي تربى مع حيوانات الغابة وشعر رأسه كشعر امرأة.
كما وردت بنصها في صراعي ابني إسحاق: يعقوب - الذي سمي إسرائيل - وشقيقه توأمه عيسو أو العيص العربي السوري الأردني، وموطنه الأول أرض أدوم أو الصحراء الأدومية، التي اشتقت منها تسمية آدم أبو البشر، بالأردن وسوريا.
كما أنها تتوالى متوارثة إلى ما لا نهاية في ضواحي عرب الجزيرة العربية بقسميها الشمالي الرعوي العدناني أو الإسماعيلي، والجنوبي الزراعي - فيما قبل تخريب سدود اليمن - وهي ثلاثون سدا أهمها سد مأرب.
كما تطل برأسها على طول التاريخ القديم السابق للإسلام، وحتى فيما بعد مجيء الإسلام، مثل صراعي قبائل الأوس والخزرج، من فلاحين ورعاة.
بل إن هذا الصراع حول الزراعة والبداوة يتبدى بشكل خاص في صراع ابني إبراهيم: إسماعيل وإسحاق، والعيص وشقيقه يعقوب.
وفي كل هذا يلعب الماء وموارده دورا رئيسيا في تراثنا، ومنه أيضا فكرة ماء الحياة في الفولكلور وهو السائل السحري الذي يرد ويبعث الموتى إلى الحياة، ويتبدى في عديد من الحكايات، فقد يبعث البطل لإحضار روح الحياة من بئر، أو بستان أو بحيرة أو نهر بعيد جدا، وقد يختلط الموتيف بموتيف آخر سحري هو ينبوع الشباب، وهو موجود بكثرة في كل فولكلور العالم «خاصة العربي» وربما كانت الأسطورة الأم هي الأسطورة البابلية التي تحكي عن أن عشتروت أنزلت إلى العالم السفلي ابنها تموز وأعادت إليه الحياة عن طريق ماء الحياة.
كما ترد مثل هذه الأفكار والتضمينات في معظم سيرنا وملاحمنا - كما سيتضح عبر دراستنا الماثلة.
رواة ومنشدو هذه السير والملاحم
من العسير تناول موضوع حول رواة السير والمداحين ومنشدي الملاحم ومغنيي البالادا والحكواتية، أو حملة أدوات اتصال هذا التراث الشعبي المتناهي القدم، دون التعرض للذاكرة الشعبية الجمعية
Jolk memory
التي حفظت لنا هذا التراث عن طريق الحكي والتواتر.
فلا خلاف على الذاكرة الشعبية الجماعية، فهي ما حفظت لنا هذا التراث المتواتر منذ طفولة البشرية الأولى، وهو الفولكلور، وللذاكرة الشعبية - تحت تأثير العادة والتوارث - حضورها وإعجازها لمن خبر التعامل معها؛ ذلك أنها مخزون متواتر الحلقات، تحفظ أدق دقائق شعائر وممارسات الولادة الأولى والموت إلى أيامنا، بنفس درجة حفظها لما يصاحب التنفس والتثاؤب، وكل ما يتصل ويصاحب الانتقال من النيء إلى المطبوخ بالنسبة لمطبخ البخار العصري.
5
كذلك فهي ذاتها الذاكرة الشعبية أو الشفهية التي أسهمت في الكشف عن الكثير من تراث البشرية، التاريخي أو الحفري الأركيولوجي، وما من مكتشف أثري - مثلا - لم يستهد ويستفد من مخزون الحكايات الشعبية والحواديت وفابيولات الكنوز - المقابر - المدفونة، وعالم ما تحت الأرض، منذ د. فلاندرز بيتري الذي دأب على تأكيد أن هذه الخرافات التي كان يجمعها، ويستمع إليها من فلاحي الفيوم والدلتا قادته إلى اكتشاف كنوزه من الآلاف المؤلفة من البرديات الأدبية والفولكلورية والتاريخية التي ينظر إليها اليوم بكل تقدير.
والشيء نفسه أشار إليه ماريت، وماسبيرو، وكارتر مكتشف عصر توت عنخ آمون، وغيرهم من الرواد الأثريين الذين عملوا في حفائر ومكتشفات العالم العربي، خاصة بسوريا والعراق، أمثال كلوديوس ريش، وسير هنري لايارد، اللذين استفادا من ألف ليلة وليلة والنصوص الشفهية لفلاحي العراق في مناطق أو مديريات الموصل، وجلجاميش، ونمرود، وبقية رحاب العراق.
فللذاكرة الشعبية الجماعية، أو الذاكرة الفولكلورية قدراتها وإعجازها الذي لمسته وأنا أواصل جمع شفاهيات منطقة بني سويف وبعض قرى المنيا والجيزة، جعلتني في النهاية أعتقد إلى حد كبير في الذاكرة الشعبية كعملية جدلية عقلية، تتكامل فيها عقول أجيال طولا وعرضا أو زمانا ومكانا، وتكاد لا تفقد شيئا أو تفتقده من مخزونها الجمعي.
ومن هذا المدخل يمكن القول بأن لا شيء مفتقد، بل إن المفتقد - تاريخيا أو أركيولوجيا - يمكن استجلاؤه والتحقق منه عن طريق الذاكرة الشعبية، عن طريق دأب البحث في جمع المواد الفولكلورية أو متنوعات وعينات وعبارات ألا يتم أو النمط الواحد أو العنصر، مهما كان موضوع البحث جانبيا أو ضئيلا.
وإذا كان من الصعب علينا اليوم تقبل حقيقة أن بلداننا العربية مصابة بأعلى معدلات للأمية على رقعة العالم أجمع؛ فلنا أن نتصور ما كانته أيام الجاهلية الأولى والثانية (3 آلاف عام ق.م) ومن هنا كان الانتشار الشديد لعادة أو شعيرة الحفظ والتحفيظ والاعتماد على الذاكرة، الذي لم يتوقف تواتره إلى اليوم في مناهجنا الكتابية المتوارثة، ولا يقتصر الأمر على حفظ وتحفيظ النصوص الإليزمية أو الدينية - رغم انتشار الترانزستور - بل الشعر وبقية الشعائر من قديم وحديث، فولكلوري وتقليدي، فحتى الأحاجي والفوازير والحذور لها مكانها ومخزونها داخل الذاكرة الشعبية، سواء في شفاهياتنا العربية أو السامية، وبالطبع كذلك عند مختلف الشعوب.
فالذاكرة الشعبية تحفظ أدق خلجات ومواقف وعبارات تركتنا الملحمية بدقة ملحوظة، وكيف لا وهي التي تحفظ مقولاتها الأولى المنحدرة من طفولتها الطوطمية والأنيزمية القديمة، مثل حزن زهر البنفسج، زهر الإله الممزق أدونيس الذي اغتالته حيتان البراري، ومثل نهيق الحمار
6 - ستخ أوطيفون - الذي بسببه أصبح إلها شريرا متجبرا، ومثل رأس الحية الذي هو مكمن كل الخطايا إلى اليوم، وهو المفهوم المنحدر من أساطير الخلق الأولى - للعالم والإنسان - والمصاحب للطرد من الفردوس المفقود، والموحد بين الحية والمرأة والشيطان، ومثل ما يدور ويتواتر إلى اليوم حول عيون القطط والخفافيش، وبطء السلحفاة البرية، وصدفة الجعران في الطبيعة، التي من خصائصها أن تبيض فيها جعارين جديدة، ومنها تنبت جعارين أو حياة جديدة؛ أي أن من الموت أو الجعران تنبت حياة،
7
ولعله أقدم تفسير عن الموت ومعاودة الحياة أو القيامة، كما تشير د. مارجريت موري.
وقد يكون هناك ثمة علاقة بين ألوان الطيور والحيوانات المشئومة، وبين الألوان الحزينة المشئومة بدورها، مثل الغراب الأسود النوحي، والسواد أو الحزن والليالي السوداء، وبالطبع يشمل هذه العلاقة بين ألواننا عن الفرح والآمال،
8
وهو الأبيض، وعلاقته أيضا بالحمامة النوحية، وبمعنى أصح الجلجاميشية، وبعد أن أطلقها نوح أو كبير الآلهة البابلية أو نونبشتم حين عادت إليه في المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها.
ويبرز طوطم - الحمامة - الحمامة ودلالتها عند الساميين بشكل ملفت جدا، فتسمية راحيل أو راشيل - أم النبي يوسف - هو كاهنة الحمام، ومنه تواتر إلى تسمية إسرائيل.
ومن اسم الحمام تسمت الملكات الربات الآشوريات: سميراميس، وسميرام، وسميرنا الليلية.
9
وقد لا ننسى الحمام في تراثنا العربي، وتحولات أبطال الخوارق والملاحم إلى حمام.
كما قد لا ننسى حمامة الأيك، كطوطم وشعار إسلامي شامل ومغرق في القدم، وهو ما سنتعرض له في حينه.
وكما يقول الأستاذ تومبون، فإن الأمر بالنسبة لذاكرة شعوبنا السامية الشرقية الفولكلورية، يمكن أن يطلعنا على الكثير من فيض النتائج الدقيقة، خاصة وأن رواة التراث وحفظته من حكواتية، ورواة سير ومداحين وشعراء جوالين - تروبادوز - ما يزالون إلى اليوم يملئون حياتنا وتزدحم بهم أسواقنا وموالدنا، وتعج ذاكرتهم بالكثير، الذي يخالط التاريخ في الأساطير، والعكس صحيح.
وعلى سبيل المثال، فلنا أن نتصور أن عمر الانتقال إلى مرحلة الإعلام الإلكتروني - الراديو - لم يتعد حلقة واحدة أو نصف قرن، وقبلها كانت الغلبة للنص الشفاهي وذيوعه عن طريق أدواته، وهم الحكواتية ورواة السير والملاحم وفنانو الأفصال أو الفصول المضحكة أو ما أطلق عليهم لويس عوض بمسرح الفلاحين.
10
ومن هنا ففي الإمكان التحقق من الكثير من تراثنا الحفري الفولكلوري، مثل افتراض العثور على مجموعات الحكايات المصرية التي ترجمت من البرديات التي عثر عليها في مصر د. فلاندرز بيتري، وغيره من الحفريين، وأعيد نشرها بالفرنسية عدة مرات، منذ أن نشرها للمرة الأولى ماسبيرو تحت اسم «حكايات شعبية فرعونية» وظهر الكثير منها في الإنكليزية باسم «تسجيلات من الماضي»، كما نشر أيرمان مجلدين منها، كذلك أسهم في ترجمتها ودراستها علماء المصريات: جودوين، شاباس، إيبروس.
ولعل أكثر المغالين أو المبالغين في قيمة هذه الحكايات المصرية هو أيرمان الذي أرجعها للأسرات المصرية الأولى،
11
بل هو أرجع بعضها إلى ما قبل التاريخ، رغم أن بيتري يأخذ عليه أن ترجمته لهذه الحكايات جاءت أدبية وصفية، مستخدما في إعادة صياغتها الألف باء الحديثة سواء في الهيروغليفية أو الألمانية الحديثة، ومن هنا فقد تجنت ترجمة أيرمان المتحررة على الكثير من قيمها الفولكلورية.
كما سجل بيتري مدى خوف المصري القديم الدائم من أخطار البلاد الأجنبية، خاصة الآسيويين، وأقربهم العرب والعبريون الساميون بالطبع من جانب، والليبيون والكوشيون النوبيون من الجانب الآخر.
كذلك تنبه بيتري إلى غياب وتدهور ملامح الشخصية المصرية في العصر المتأخر، بدءا من الدولة الوسطى؛ ولهذا يقول: «لهؤلاء الذين يتصورون أن هناك تشابها أو تماثلا بطبع كل مصر في أحقابها المختلفة، وهو ما لا تؤكده وتقطع به الحكايات المصرية، ذلك أن التغير من فترة أو عصر زمني لآخر، يبدو جليا فيها.»
فحكايات السحرة والخوارق مثلا بدأت تكثر جدا، بدءا من الأسرة الثانية عشرة، وكذلك الإكثار من المعتقدات الغيبية والقدرية مثل قصة الأمير القدري،
12
التي ترجع إلى الأسرة الثامنة عشرة، والتي يمكن القول بأنها ما تزال تعيش بحذافيرها على الشفاه محفوظة بكاملها في الذاكرة الجمعية الشعبية أو الفولكلورية، بل يمكن ذكر أن الكثير من العناصر التي تصادف باحث سيرة شعبية أو ملحمة أو قصة غنائية استطرادية؛ قد ترجع إلى مخزون الذاكرة الجمعية الموغلة القدم، من ذلك «بالاد» - البنوت - التي يمكن إرجاعها إلى الدولة القديمة ونصوصها البردية، وكذا بالنسبة للقصة الشعرية أو الملحمية «سعد اليتيم» ومدى تشابهها مع قصة الأخوين التي ترجع إلى الدولة الوسطى.
أخيرا أذكر مقولة للناقد الأدبي الإنجليزي «مارتن أيزلن» يذكر فيها أن المسلسلات الدرامية التليفزيونية - على أيامنا - حين تصل إلى أقصى درجات انتشارها الجماهيري، فإنها في هذه الحالة تصبح كبديل معاصر، للملاحم والسير الشعبية والبالادة الشعرية الموسيقية التي كان ينشدها رواة ومداحو ومغنو العالم القديم، من محترفين وهواة.
وعلى هذا النحو كان الانتشار اللامتناهي للسير والملاحم الشعبية عبر ساحات الأسواق والموالد ومشارب الشاي وأسواق عكاظ - القبلية - القديمة؛ حيث كان يجري إنشادها وحكيها، والإبداع في إيصال مواقفها التراجيدية - بل يمكن القول المليودرامية - الغارقة في بحار الدم والدموع والتجهر البربري الوحشي.
القسم الثاني
القيم الموسيقية لهذا التراث الشعري الملحمي العربي
من المفيد إعادة الالتفات بشكل أكبر لتراثنا الملحمي الإنشادي الموسيقي، المنتشر على رقعة بلداننا العربية، وما يزال إلى أيامنا هذه يعاني كل اندثار نتيجة للإهمال والتجهيل الذي ما يزال يسود مزالقنا الثقافية.
فالاندثار المتجه إليه هذا التراث من موسيقي وشعري ملحمي مرجعه بالطبع الاتساع المتزايد لأجهزة الراديو والترنزستور وبقية أجهزة الإعلام الإلكتروني.
فيلاحظ أن حملة هذا التراث المتوارث من مداحين ومنشدين ومغنين يعرفون ب «صييتة» وكانوا في موقع أكثر نجوم مجتمعات ما قبل المعرفة بالراديو؛ أي منذ أقل من ربع القرن الأخير، من حيث شهرتهم وذيوع صيتهم، وتحققهم الجماهيري.
ولعلنا ما زلنا نذكر طلائع مداحينا ومغنينا المرموقين، بعيدا عن استديوهات وميكروفونات الإذاعة أو البث، يحوزون كل إعجاب وهم ينشدون ويتغنون بسير بالاد وملاحم الملك سيف بن ذي يزن، أو عنترة التي تجري أحداثها في اليمن، ويوسف وزليخة ما بين مصر وفلسطين، وملحمة «خيزران» التي تجري أحداثها ما بين مدينتي دمشق وحلب؛ حيث إن بطلها تاجر حراير أو أرجوان حلبي، معتاد على التنقل ما بين المدينتين، بالإضافة إلى القاهرة العربية.
وهي واحدة من أشهر الملاحم الغنائية السورية التي عثرت عليها في ريف مصر، ولا أعرف بالدقة مدى انتشارها ومتنوعاتها، وما طرأ عليها في ريف سوريا.
كذلك تجري أحداث ملحمة «الملك فاضل» أو «سعد اليتيم» في بادية الشام والأردن، وبشكل أكثر دقة بين أعراب - قبائل - الفضل والنعيم بالجولان المغتصبة.
وقد عثرت عليها بإقليم الفيوم عام 1965، وهي واحدة من أهم وأعرق ملاحمنا؛ حيث إن عمرها أكثر من ألف سنة، فهي تؤرخ للعصر الفاطمي، وتتبدى شخصية بطلها سعد اليتيم، مشابهة ومتطابقة مع شخصية هاملت في تراجيديا شكسبير الشهيرة؛ حيث إن كليهما «هملت وسعد» يصارع عمه قاتل والده ومغتصب عرشه، فسعد أو البطل الشعبي لهذه الملحمة المتكاملة وشخصيتها المحورية، تصاحب مولده الخوارق التي تصنفه مع بقية الأطفال الموعودين أو القدريين مثل إبراهيم ويوسف وكرونس وإيل، وموسى. بل إن أمه تضعه في صندوق وتلقي به في البحر بنفس ما حدث مع أوزويريس وموسى، ويحيا «سعد» ويكبر على اضطهاد من عمه الملك الشرير بدران، مغتصب عرشه، بعد أن سبق أن اغتصب أباه الملك فاضل بالاغتيال، إلى أن يتحول في الجزء الأخير من الملحمة إلى منتقم إيجابي لأبيه من عمه الشرير بدران.
والملفت أن الملحمة تحفظ لهذين الملكين الأخوين، أنهما كانا مداحين و«حكواتية» تأكيدا لتقليده الملك الكاهن المداح في التراث السامي مثل «اللاويين» في التراث العبري، وعمرو بن لحي الجرهمي، وأمية بن أبي الصلت عند الجاهليين:
كان الملك فاضل وبدران أخوه
يحكو كلام كل العرب يسمعوه
بكرة نموت ومالنا ينهبوه
راجل بلا خلفة قليل ذكرته
وتبدع هذه البالادا الملحمية في تصوير لحظة اغتيال الملك الشرير بدران لأخيه الملك فاضل بحربته ذات الأربعة وعشرين مسمارا من الخلف، على النحو التالي:
الجوقة :
ضربو بها وتمكنت في حشاه
نفد الخشب قراطين من سرته
قاموا عرب فاضل ومن كان حداه
1
مسكوا الأمير بدران وطلبوا أذاه
ولما صحي الملك وفاق من دماه
الملك فاضل :
قال اتركوه إياك تطول مدته
لما صحي الملك وشافو أخوه
الجوقة :
ووقتها العرب كانوا كتفوه
الملك فاضل :
قال دا أخويا يا رجال سيبوه
دا وعد من الرحمن وآدي حكمته
دا وعد من الرحمن عليه انكتب
دي كل موتة لابن آدم سبب
كلام أقولكم عليه يا عرب
تعا سندوني بس أنا أحدثه
تعا سندوني بس أن أكلمه
أقوللو كلام إياك يسمعو!
يا خويا حبل الود ما تقطعو
سعد ابن أخوك بعدي تطول يتمتو
سعد ابن أخوك بعدي يقاسي الهموم
يبات بطول الليل يعد النجوم
غرورة يا دنيا تاريكي لم تدوم
آمنتها خانت وآدي حكمته
كدب الذي يضحك في هذا الزمان
يا ذلنا بعد الهنا، ذقنا الهوان
وتستطرد الملحمة في وصف طقوس غسلة الملك فاضل، وتكفينه بالسندس الأخضر ودفنه في جامع متحف «قليل وصفته».
وهنا تبدأ سلسلة اضطهادات العم المغتصب بدران، لسعد اليتيم نتيجة لمخاوفه فيأمر الملك عبيده بانتزاع سعد من أمه الأميرة فوز وقتله في شعاب الجبال، لكن العبيد يرقون للأم الثاكلة، فينتزعون الطفل منها ويلقون به في البحر أو اليم أو النيل بحسب متنوعات الملحمة في البلدان والبيئات العربية.
وكالعادة يعثر عليه صياد ويتبناه ويربيه في الكتمان، وتتعرف إليه ابنة عمه الأميرة الجميلة «صبيحة» خطيبته منذ الصغر، وتفتن به وبمحاسنه وخلقه، وأصبحت لا تجلس إلا وركبتها على ركبته، وعادت صبيحة لتنقل أحاسيسها الجياشة نحو ابن عمها سعد إلى أمها وكيف أنه «يشبه لعمي الملك فاضل وآدي جلسته.»
ثم ما تلبث الابنة المحبة صبيحة أن تنقل أحاسيسها إلى أبيها الملك بدران الذي تستبد به المخاوف من أن يكون هو بذاته سعد، وأنه لم يمت، وفعلا تتحقق هواجس الملك، وتبدأ سلسلة جديدة من الاضطهادات لسعد، تنتهي بهربه وفراره من وجه عمه الشرير الحاقد بدران من بادية الشام إلى أرض مصر، ثم كيف التقى بالمعز لدين الله الفاطمي، فساعده المعز في الانتقام من عمه بدران، وقتله واسترداد عرشه، والزواج من ابنة عمه صبيحة. •••
وبالنسبة للجانب الإنشادي الموسيقي لهذه الملاحم والمدائح العربية، يلاحظ أنه كان يؤدى - قديما - بأسلوب أقرب إلى الأداء الغنائي الأوبرالي، وهو القاسم المشترك لهذه النصوص الشعرية والشعائرية العربية مجهولة المؤلف؛ ذلك أن من خصائص النص الشعري بعد تدوينه أنه أشبه بالبيرتو المتعارف عليه في الأوبرا الكلاسيك، وبدايات أوبرا القرن 7 وما يلي؛ فهناك مساحات شعرية وموسيقية للجوقة أو الكورس، ومساحات لكل شخصية مفردة على حدة من شخصيات الملحمة، ومعنى هذا أن هذه الملاحم والقصص الدينية كانت تقدم وتروى على مستمعيها بطريقة أقرب إلى الأداء الأوبرالي، فالجوقة معلقة على الأحداث ورواية لها دورها ومكانها، كما أن لشخصيات الملحمة أو أبطالها سواء كانت فردية أو دويتو أو جماعية أدوارها المحددة شعرا وإيقاعا.
وهذه هي أول خصيصة أو ملمح لهذه النصوص.
كما أنها - على ما يبدو - كانت تقدم قديما وقبل اندثارها وتآكلها كنصوص مهجورة بالأسلوب الصحيح، وهو أن يكون لكل مغن ومنشد دوره الثابت المحدد في النص المروي، لكن مع التدهور الذي أصاب فنوننا وآدابنا الفولكلورية، وأخصها فنون الملاحم والسير والمدائح؛ تدهور فن المداحين، وبالتالي أداؤهم لهذه الملاحم أو الأوبرات الغنائية الموسيقية، فتبددت فرقهم، وأصبحت الفرقة والجوقة اليوم - على أحسن الفروض - تتكون من ثلاثة أو أربعة مغنين وعازفين، وبالتالي لم يعد المجال يسمح لاحتفاظ أبطال الملحمة وشخوصها بأدوارهم المفردة، بالإضافة إلى الجوقة، بل إن التدهور أصاب أيضا الأداء الموسيقي، فأصبح رتيبا، لا يستقيم في معظم أحواله مع متطلبات النص الشعري وخصائصه الدرامية والتراجيدية.
ولعلها تكون بدايات لأوبرات قومية عربية، لو أننا تمكنا من إعادة جمع هذا التراث الملحمي الموسيقي وتسجيله بحسب الوسائل التقنية، إلى أن تجيء مراحل تطويره واستلهامه وإعادة صياغته وتوزيعه موسيقيا، وهو الحلم الدائم لعديد من موسيقيينا ومغنيينا الأوبراليين.
فلعل الملمح الجوهري للتراث السامي بعامة، والعربي بخاصة، هو التميز بازدهار السير والملاحم والشعر المدائحي والمعلقات، منذ أقدم ملاحم العالم القديم، وهي ملحمة جلجاميش، التي تعارف عليها العرب الجاهليون باسم «قلقاميش» والتي تسبق، نظائرها الهيلينية - الإلياذة والأوديسة - بحوالي ألفي سنة، كذلك سبقت هذه الملحمة العربية، الملحمة الآرية الهندية «المهابهارتا» التي يقال بأنه اشترك في كتابتها مائة شاعر، وتعتبر أطول ملحمة في التاريخ، فيصل طولها إلى 108 ألف بيت شعر من أبيات الشعر الثمانية المقاطع.
وكما هو معروف فإن للملاحم وظائفها منذ عصور ما قبل المعرفة بالكتابة على المستوى الجماعي أو الشعبي؛ لذا فهي وعاء حافظ، سواء للأبنية الأسطورية والطقوسية والشعائرية، كما هو الحال مع معظم الملاحم، ومنها الإلياذة والأوديسة كما قد تؤرخ لحروب وهجرات جماعية، كما يتبدى في المهابهارتا، وملاحم أو سير الملك سيف بن ذي يزن، والزير سالم، والهلالية، وعنترة وغيرهم.
كذلك قد يكون من أغراض الملحمة الاحتفاء بالأعياد الدينية والتقويمات، كما هو الحادث مع «سارة وهاجر» التي تؤرخ لبناء الكعبة واستبدال الضحية البشرية بالضحية الحيوانية، أو خروف العيد الكبير، أو عيد اللحم، أو الضحية.
القسم الثالث
ظواهر وأحداث السير والملاحم العربية
وكثيرا ما تتخذ حقول الدراسات الأثنوجرافية والفولكلورية من ظواهر ومجالات جانبية، تدور في فلك هذه الأعمال الإبداعية الجمعية الكبرى من سير وملاحم وقصص شعرية - أو شعائرية - طويلة ومستطردة.
كثيرا ما يولي باحث أو أكثر منطلقه وجهده لأحد زوايا سيرة أو ملحمة ما، من ذلك العلاقة بين الملك سيف بن ذي يزن، ورحلاته ومخاطره فيما يعرف بالقرن الأفريقي اليوم عن تضمينه رتيبة متكررة حول بحثه عن «كتاب النيل»، وهل هو بذاته كتاب الموتى
Book of Dead
أم أن بحثه كان منصبا على منابع النيل في أفريقيا الوسطى، وفي اتجاه التعريب فيما قبل الإسلام ببضعة قرون.
وقد يدور البحث ويتمحور حول نهب الأيقونات الرومانية والبيزنطية والتحف الفنية من الكنائس والكاتدرائيات بكثرة عظمى، كظاهرة عبر الحروب والغزوات ما بين أشلاء الدولة الإسلامية المتوحدة، في مواجهة الأخطار الرومية البيزنطية، ومنها القنديل الذي تصفه السيرة
1
بأنه كان في كنيسة أيا صوفيا الشهيرة، والذي «يساوي ملك كسرى وقيصر» بحسب نص السيرة، ففي المطابقة بين نصوص السيرة المسهبة عبر آلاف الصفحات وهي تصف تلك الظاهرة التي عرفت تاريخيا بحرب الأيقونات، وبين التاريخ الفعلي الكلاسي المدون، لتلك الحروب الوسطوية البيزنطية من جانب، والإسلامية العربية من الجانب المقابل.
التاريخ الفعلي «الأركيولوجي» يسوق لنا عن هذه القضية المتصلة باغتصاب كنوز الأيقونات والتحف واللوحات الكنسية سواء من حيث قيمها، أو بدافع ديني أو شعائري على اعتبار أنها بقايا أوثان وأصنام، كما كان ينظر إليها بالنسبة لحضارات الجزيرة العربية الجنوبية، في اليمن والجنوب العربي من تدبير شعائري للأصنام والأوثان الجاهلية، في اتجاه التبشير بمجيء عصر جديد.
هذه القضية التي تفاقمت إلى حد أنه في عصر الإمبراطور ميكائيل الثاني (821-829) ميلادية، اندلعت حركة تزعمها مناهض أو خارج يدعى توماس الصقلي ضد الحملة المناهضة لعبدة الصور والأيقونات.
وهي الدعوة أو الاتجاه الجديد الذي قاده ليوالا يسوري مؤسس الأسرة الأيزورية التي حكمت روما، والذي تلقبه السيرة بالملك ليوون، والذي تزعم حملة أو اتجاها شعائريا ضد عبدة الأيقونات والصور.
ويبدو - بحسب ما يشير د. فيليب حتى - أن ليوالا يسوري هذا كان ذا عقلية - كما يقال - بأنه كان مجرد جندي سوري مغمور وينتمي إلى أسرة وضيعة في مرعش بسوريا، وأنه كان على وعي كبير بأسرار العرب الغازين وأخلاقهم، كما كان يجيد العربية واليونانية معا، كما يقال إن ذلك الإمبراطور البيزنطي كان متأثرا بالحركة الدينية التي قادها يزيد بن عبد الملك عام 102 هجرية لتحطيم الأصنام، المتضمن لآثار البلدان العربية المفتوحة في اليمن، والشام وفلسطين، وخاصة مصر، عندما كتب طالبا من الوالي الأموي في مصر «حنظلة بن صفوان» يأمره بتحطيم الأصنام والتماثيل والمعابد المصرية بعامة، فكان أن هدمت ودمرت وأحرقت وأمحيت من ديار مصر.
2
بل إن يزيد بن عبد الملك قد أصدر فرمانا يسري التعامل به على طول البلدان المفتوحة، عام 721 ميلادية وبموجب ذلك الفرمان - الأموي - منعت وحرمت شعائر تقديس واقتناء الصور والأيقونات على كلا الجانبين؛ أي في البلاد التابعة للخلافة الأموية في دمشق والتابعة للإمبراطورية البيزنطية في روما.
حتى إن الملكة إيرين التي تسميها سيرة ذات الهمة بالأميرة الملطية، عارضت قضية تحطيم الأيقونات من قبل الإمبراطور البيزنطي ليو الثالث - أو ليوون - وحدث ذات الانقسام في صفوف العرب الفاتحين أنفسهم.
بل لقد تفاقمت هذه القضية التي اندلعت في ذلك العصر حول الأيقونات وعبادتها لدرجة وصلت إلى حد العنف، خاصة في آخر سنوات حكم ليو الثالث، فاندفع الغوغاء المسيحيون أنفسهم يتلفون ما تصل إليه أيديهم من صور وأيقونات، يعتدون على الأديرة وحماتها من الرهبان والقساوسة.
حتى إنه بمجيء الإمبراطورة إيرين
Iréne
الدموية، التي فقأت عيني ولدها الإمبراطور الشرعي، قبل أن تغتاله وتعتلي العرش، لتصبح أول إمبراطورة في تاريخ الروم البيزنطيين ذات سلطات ديكتاتورية مطلقة، ومنذ أن حكمت عام (802-811) ميلادية، فإنها من فورها عارضت هذا الاتجاه في التحول عن الأيقونات وشعائرها المسيحية.
ومن جانب ثان تشدد العرب المهاجمون في تحطيم الأيقونات واغتصابها كأسلاب من القصور والكاتدرائيات والأديرة المكتظة.
بل يرى البعض أن الإمبراطورة البيزنطية إيرين هذه قبلت بشروط الصلح والتسليم المذلة التي عرضها عليها هارون الرشيد؛ تجنبا لنهب وهدم كنوز وأيقونات بيزنطية، وهو ما تفيض السيرة في وصف تفاصيله ودقائقه.
وما دمنا بصدد الحديث عن ذلك الاتصال الحضاري الذي كان مدخله العنف والحرب بين الشعوب والكيانات العربية، وبين التحالف الغربي للروم البيزنطيين في مطلع الإسلام، والذي أفاضت في تناوله والتأريخ له سيرة الأميرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب، دون أن تغفل بالطبع التاريخ بالتالي، ومن منطلق ووجهة نظر أسرة ذات الهمة الفلسطينية المنشأ، سكان الثغور لتلك الأحداث الكبرى الداخلية، مثل نقل الخلافة من دمشق الأموية إلى بغداد العباسية، والدور الشيعي والفارسي في هذا الشأن الذي تفانى في إرسائه أبو مسلم الخراساني، ثم كيفية اغتياله هو ذاته، وكذا دقائق وخبايا أزمة أو نكبة البيت البرمكي.
ولا بأس هنا في الاستطراد في ظاهرة أخرى هامة تبدت في الحروب والصراعات الإسلامية البيزنطية، وهي فكرة أو ظاهرة استلاب العرب وتملكهم لأول اختراعات أسلحة المفرقعات التي تسميها سيرة ذات الهمة بالقنابل البترولية، وذلك بعد أن عانت الجيوش العربية كثيرا من التقدم التقني للروم البيزنطيين سواء في التحكم الآلي في خزانات مياه الشرب بحبسها عنهم، إلا أنهم سريعا ما أجبروا أعداءهم المنهزمين، وأخذوا عنهم علومهم المتفوقة، سواء في التحكم الآلي في المياه أو حيازة أسلحتهم ومفرقعاتهم.
فما أن هزموا الإمبراطورة البيزنطية إيرين التي كانت وصية على ابنها قسطنطين
3
السادس في موقعة آمد في 775 ميلادية حتى اقتحموا المدينة واستولوا على قوارير النفط، التي تسلمها الرجال من العرب الأكراد المعدة للجهاد، ورموهم بقوارير النفط في وجوههم فالتهبت الروم بالنار، كأنها السحاب، فتعلقت بلباسهم فعادت الروم إلى الوراء فزعا مما أصابها من الحريق، وإذا بالصياح من الخيام التي للروم «ونداهم يا آل كلاب».
هذا مع الأخذ في الاعتبار أن الجيوش العربية عانت كثيرا من تفوق أعدائهم بهذا السلاح الحربي الجديد، المشابه بالطبع لما يعرف اليوم بقنابل مولوتوف.
ففي عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين الرابع (668-685)، وبعد أن تمكن الجيش العربي في عهد الخليفة المؤسس الأموي معاوية من اقتحام الأسوار الثلاثية للقسطنطينية والوصول إلى ضواحيها؛ أي من خلقيدونة، وحصارها شتاء عام (668-669) لمدة عام كامل، ولم يرجعهم عن غزوها إلا تملك قسطنطين الرابع لهذا السلاح الجديد.
كذلك خلال حرب السنوات السبع تمكن العرب من اتخاذ قاعدة بحرية لهم في بحر مرمرة، إلا أنهم تخلوا عنها تحت تأثير ذلك السلاح فهي مادة سريعة الالتهاب، تشتعل حتى وهي طافية على سطح الماء، عرفت أول أمرها بالنار الإغريقية.
والملفت أن أول من توصل إلى اختراع هذا السلاح هم العرب أنفسهم، إلا أن البيزنطيين كانوا الأسرع في التطبيق؛ ذلك أن مخترع السلاح الحربي الجديد لاجئ سوري- أموي-دمشقي، وهو الاختراع الذي اعتبر أخطر اكتشاف تكنولوجي، سجلته معا الحضارتين العربية والبيزنطية.
فعن طريق استرداد جيوش ذات الهمة لهذا السلاح الذي توصل إليه ذلك الأسير السوري واستخدامه ببراعة أكبر في وجه أعدائهم، تملكوا رودس، وكريت عام 674 بهذا السلاح الذي تدعوه السيرة بالنفط، على النحو التالي:
قال الراوي: «فكانت هذه أصوات بني كليب الذين أتوا في ملطية - كما ذكرنا - فساروا حتى أشرفوا على آمد فرءوا عساكر الروم في هذا الحال وخيامهم خالية من الرجال ففي هذه الساعة أوقد فيها النار وزعق الحصين، وقال: يا بني عمي دونكم والنفط، فأحرقوا الخيام والقوا أصحابكم أهل الإسلام، فما هم إلا في شدة عظيمة وإلا ما كانوا خرجوا في ظلام الليل، ثم إنه فرق عليهم النفط، وأمره بالتكبير والتهليل والصلاة على البشير النذير، وضربوا النفط في الخيام من كل جانب ومكان، ففي تلك الساعة عادوا الروم فزعين من النار من أهل البلد فرءوا النار في الخيام، فاندهشت عقولهم وتحيروا وساروا بين بحرين زاخرين وقد أخذهم الصياح من الجهتين، فوقع بهم الانبهار، هذا وقد فزعت الخيل من النار، فطلبت الفرار، فكان بعضهم لا يعرف الثاني من التهاب النار في الفارس والفرس، ومن وصل منهم إلى الخيام أخذوه بنو كلاب، ومنهم من يرمي نفسه إلى البلد من حلاوة الروح، وكان بالأمر المقدر أن تلك الليلة كانت كثيرة الأرياح، كما يشاء الملك الفتاح، فصارت النار تلتقطهم وتتعلق بأجسادهم وثيابهم، والأرض عليهم ضاقت وهم يتجرعون كأس المنون والمسلمون وقد اشتفت منهم الصدور وتوسلوا بالملك الغفور، وكلما طال الليل زاد لهيب النار وقد غضب عليهم الملك الجبار.»
قال الراوي: «فوالله ما طلع النهار وبقي من الكفار ديار ولا نافخ نار، وقد احترقت الملكة ملطية وجميع ما معها من البطارقة، والذي سلم منهم أسروه بنو كلاب فكان جملة الأسرى عشرين ألف أسير، وبقيت النار تلتهب إلى ضحى النهار، فتبادروا لها الناس بالطفي، وقد انطبقت الجبال والأحجار، وصارت البرية من حول آمد كأنها غمامة سوداء، هذا وقد أقاموا في طفي النار يوما وليلة حتى عبرت لهم بنو كلاب واجتمعت الأحباب بالأحباب، ودخلوا البلد فرحين بالنصر، وشكروا الله تعالى على النجاة، وقد حدثوا بنو كلاب الأمير عبد الله بقتل باغة وخلاص السبي وفتح ملطية، وقالوا: إننا قد عولنا الإقامة فيها، ونأكل حلالا طيبا من أموال الروم، ونعبد الحي القيوم، فقال لهم الأمير عبد الله: هذا هو الصواب، وما الأمر إلا أننا نكاتب أهلنا والأولاد، ونرسل من يأتي بهم إلى ههنا من أرض الحجاز، فقال الأمير مظلوم: أنا أمضي في نفر من بني عمي وآتيكم بكل ما يتعلق بكم وبنا وخلفائنا وخلفائكم، ولكن أريد الكتب إلى سائر بني سليم، فقال الأمير عبد الله: أنا أفعل ذلك.» (مع ملاحظة أنه من الثابت تاريخيا أنه عقب فتح مالطة عين الأمير عبد الله ابنه عمرا حاكما عليها، كما يذكر الطبري، إلى أن توفي عام 249 هجرية.)
قال الراوي: «ثم بعد أن تركوا البطارقة في الحبال وقد عرضوا عليهم الإسلام والفدا، فمن أسلم أطلقوه ومن أبى قتلوه ومن اشترى نفسه بالمال أبقوه، هذا وقد جمعوا الغنيمة وأخرجوا منها الخمس لبيت مال المسلمين وعزلوا للخليفة قسما، وقسموا الباقي على جميع المجاهدين بالسوية، وقد كتبوا إلى المنصور يبشرونه بالنصر ويعرفونه بما جرى وكيف ملكوا ملطية على يد الأميرة ذات الهمة وبني كليب، وقد تجهزوا جماعة مع الأمير مظلوم
4
وهم مائتي فارس وسار طالب العراق ومعه التحف والأموال والخمسين من الغنيمة.»
وعلى هذا النحو من الدقة تفرط السيرة مطولا في الكيفية التي كان يتبعها المسلمون الفاتحون، سواء فيما يتصل بالدعوة أو التبشير بالدين الجديد، أو فيما يتصل بكيفية وقواعد تقسيم الغنائم والأسلاب للبلاد المفتوحة.
بل إن سيرة ذات الهمة ستقف بنا مطولا في سردها للكيفية التي كان يتم بها اقتحام المعابد والأديرة والكنائس البيزنطية، ونهب كنوزها من تحف وجواهر وأيقونات وأعمال تحتية مكدسة منذ ما قبل مطلع القرون الوسطى.
والسيرة هنا تجيء متسقة مع التاريخ الفعلي المدون، لما يعرف بحروب الأيقونات ونهب كنيسة آيا صوفيا الشهيرة.
وهو ما سنتناوله في هذا الكتاب عن هذه السيرة التغلبية الفلسطينية، للأميرة ذات الهمة.
ولا يقتصر أمر اتخاذ أو اقتطاع أحداث وظواهر جانبية من ذات صلب السيرة أو الملحمة، على مثل هذه الأنماط الأدبية-الشفهية، بل قد يتصل الأمر بقضية - أو افتراض - منهج تثيره سيرة أو عمل عيني، مثل مدى المؤثرات الفارسية الآرية على سير وملاحم: فيروز شاه، حمزة البهلوان، عمر النعمان، عنترة.
ونفس الشيء أو التساؤل، حول الأصول الآرية أو الهندو أوروبية على الكثير من سيرنا وملاحمنا، وأخصه هنا مخزون الحكايات التي جاءت بها ألف ليلة وليلة، وهي المناقشات التي اندلعت منذ أواخر القرن الماضي، وشارك فيها من علماء الآرية والسامية: «تيودور بنفي»، و«شليجل»، و«غولد ميستر»، والكثير من المستشرقين وعلماء السامية، الذين أبدوا تحمسا للأصل الهندي الفارسي الآري لليالي في مواجهة العقل والمخيلة العربيين، منذ ظهور ترجمة أنطون جالان لألف ليلة عام 1704، وما صاحبها من حملات الهجوم الضاري على العرب الساميين بعامة، خاصة من المستشرقين والمهتمين بالدراسات الهندية أمثال «فيبر» و«جراي» و«شربنتيه» بالإضافة إلى علماء السامية أمثال «ميللر» و«ستوب» و«ليتمان» وهم الذين اتخذوا أو هم أجمعوا على رأي أكثر موضوعية في القول بأن حكايات ألف ليلة وخرافاتها ما هي في نهاية الأمر، سوى محصلة نهائية لكلا المخيلتين عربية سامية وفارسية آرية.
من ذلك ما أشار به عالم الآريات «أوستوب» في القول بأن بعض الحكايات والمأثورات ذات أصول هندية آرية، ومن ذلك حكاية أوفبيولا «حسن البصري»، بالإضافة إلى الكثير من العناصر والسمات في أسلوب صياغة بعض حكايات المخاطر الاستطرادية، وكيفية التتابع من عنصر لما يعقبه وعلى رأس هذه المواضيع والموتيفات ما يتصل بإدانة المرأة وخيانتها، مضافا إليه - بالقطع - حكايات الحيوان الشارحة والطوطمية.
بل وصل الأمر إلى حد الادعاء بأن قصص السندباد، والأسفار والمخاطر دخيلة بكاملها على الآداب العربية من فولكلورية وتقليدية أو كلاسيكية، متناسين - بالطبع - أقدم وأعرق قصص الأسفار المخاطر، وهي ملحمة جلجاميشي البابلية العربية.
ثم تجيء بعد ذلك الإضافات القيمة للعالم «ل. ألكسندروف» والتي نشرت تباعا بمجلة المستشرقين منذ عام 1935، تحت عنوان «شواهد جديدة على الأصل الهندي لألف ليلة وليلة»، وتوصل فيها إلى الجذور السامية لليالي، متفقا في هذا مع برزلسكي ، وهي العناصر السيامية المعروفة بالسفيمفرا، وهي عناصر وسمات فولكلورية أو شعبية، كان لها أهم التأثير في مجمل الآداب والمدونات السنسكريتية، بين الهنود الأوائل الذين كانوا يقيمون في الهند فيما قبل نزوح العنصر الآري إليها.
ومن هذه السمات ذات الأصول السامية، ما يتصل بالدمى السيامية وما يشاع حولها، ومن ذلك الطيور الآدمية، أو الطيور الآدمية الراقصة التي عرفناها في باليه تشايكوفسكي بحيرة البجع، ومدى تأثير الريش كعنصر سحري فولكلوري، مثلما يشاع عن هدهد بلقيس ملكة سبأ، الذي تواتر إلى ريش - عرف أو تاج - رأس الهدهد وقوته السحرية الجنسية.
فمثل هذا العنصر حول الطيور الآدمية وريشها الجذاب، يتبدى في حكاية أو خارقة حسن البصري في ألف ليلة وليلة، وهي الحكاية التي تعرضت لسيول من الدراسات المقارنة، أهمها - كما ذكرنا - دراسة ألكسندروف الذي ذكر أنها حكاية هندية فارسية، أهم عناصرها: موتيف سرقة الريش، رغبة في التفوق والطيران.
بما لا ينسينا الرغبة الأزلية القديمة للإنسان - في عمومه - بالطيران، ولو عن طريق أبسطة ألف ليلة المحلقة الطائرة بالبطل.
ففي الليلة السابعة والخمسين بعد الثلاثمائة نقرأ حكاية الحكماء أصحاب الطاووس والبوق والفرس لذلك الملك المهيب الذي جاءه ثلاثة حكماء، مع أولهم طاووس من ذهب، ومع الثاني بوق من نحاس، ومع ثالثهم فرس من أبنوس أو عاج، وعندما طالبهم الملك بمعرفة أهمية ومنافع هذه الأشياء، قال أولهم: إن من فوائد طاووسه أنه كلما انقضت ساعة صفق طاووسه بجناحيه مهللا؛ فيعرف الوقت، وأخبره صاحب البوق أنه من فوائد بوقه أنه لو وضع خارج المدينة واقتحمها عدو غاصب صرخ البوق منذرا ومحذرا،
5
ثم أجابه صاحب الفرس أن بمقدور حصانه - الأحجب - ذلك أن يصل من اعتلى ظهره إلى أقاصي الأرض.
وما أن يقوم الملك بنفسه بتجريب هذه الأشياء الثلاثة، حتى يجدها كما وصفت له، إلا أن ابنه الوحيد ما أن يركب الحصان حتى يطير به جانحا.
وهكذا تواصل الخرافة استطرادها حين ينتقل الحصان بابن الملك في حكايات جانبية إلى مدينة مسحورة، وقصر هائل لبنات ملك أسرى، ما أن يتعرض لإنقاذهن حتى يأسره ملك المدينة، ولا ينقذه إلا حصانه السحري، المغطى بالأزرار للإسراع والهبوط، كمثل حافلات الفضاء الحديثة، ثم كيف تعرضت هذه الفرس السحرية، لتكسير وتدمير الملك الأب في النهاية.
وقد ادعى كل من عالمي الساميات والآريات: تيودور بنفي، وإستوب أنها حكاية ذات جذور هندية فارسية واضحة.
ذلك أن عنصر الحصان السحري المدجج الطائر، جاء ذكره في مواضع عدة من مجموعة الحكايات أو الأسفار الهندية الخمسة في البنكاتانترا، فالملفت هنا أن معظم المتحمسين للأصل الهندي لألف ليلة وليلة ركزوا جهودهم على عنصر، أو خرافات الطيران والمخترعات الطائرة باعتبارها عناصر هندية آرية وردت بكثرة في مدونات الحكايات الخرافية الهندية الأكثر قدما - كما ذكرنا.
ولا بأس من إيراد أصل الحكاية العربية من ألف ليلة، الذي سبق أن أورده عالم الآريات ألسدروف، والذي ركز بحثه في مجمله على المنابت الآرية لليالي، وموجز الحكاية الهندية يرد على النحو التالي:
كان يجلس على عرش مدينة «تامرليتي» ملك يدعى «ريبوادمنا» وكان ينادمه تاجر من أغنى الأغنياء، وفي ذات المدينة كان يعيش نجار فقير مات مخلفا طفلا لم يورثه سوى البؤس والتعب، وكان هذا الطفل الفقير المعدم يقتات من قشر الحبوب؛ لذلك أطلق عليه الأهالي اسم «كوكسا».
عطف عليه التاجر الغني، فاصطحبه معه في مركبته المليئة بالبضائع إلى بلاد اليونان، وهناك تعرف على نجار، لمح في عينيه الذكاء فعلمه صناعة النجارة التي أتقنها كوكسا عند عودته إلى الهند.
حتى إنه لكي يلفت إليه أنظار الملك صنع حمامتين، كان يرسلهما يوميا إلى مخازن أرز الملك لتعودا إليه ببعض المحصول، وحين علم الملك من حراسه بما يفعله كوكسا، طلبه فمثل بين يديه وقص عليه صادقا حكايته. أعجب به الملك، وكلفه بصناعة مركبة تطير في الأعالي، فأعدها كوكسا وطارا معا وشاهدا عجائب الكون.
وتمضي الحكاية كاشفة عن قدرات ذلك المخترع الصغير كوكسا، صانع مركبات الفضاء، الذي ذاعت شهرته من ملك لآخر، إلى أن صنع فرسين تطيران، ركبهما الأميران ابنا الملك فطارا بهما، وكانا لا يحسنان قيادة الأحصنة الطائرة ، وكانت نتيجة ذلك إقدام الملك على إعدام كوكسا، وتدمير مخترعاته، وبالطبع لم يتوقف ذلك المستشرق ألسدروف بإيراده لحكاية ذلك المخترع الخرافي كوكسا، بل دعم آراءه حول الأصول الآرية لألف ليلة وليلة، بالكثير من العناصر والتمايزات القابلة للمقارنة مع الأصول أو النص العربي لليالي، واستفاضته في المخترعات السحرية، والرغبات الدفينة للاختراع والتفوق والسيطرة على المقدرات العلمية منذ عصور ما قبل العلم، وهو ما سبق أن بشرت به الليالي، كمحصلة نهائية لكلتا المخيلتين المتتاخمتين الآرية والسامية العربية.
القسم الرابع
الخصائص الطوطمية لسيرنا وملاحمنا العربية
كما أن ظواهر من تلك التي عادة ما تفيض بها سيرنا وملاحمنا العربية، حتى لتصبح ملمحا من ملامح وقسمات تراثنا العربي في حقل الإبداعات الأدبية الشعبية الكبرى، مثل الإغراق في الطوطمية.
وقبل الاستطراد إلى أمثلة تطبيقية أو عينية حول هذه الظاهرة - الطوطمية - التي تغرق سيرنا وملاحمنا العربية؛ يحق لنا التوقف للتعريف بالطوطمية أو الإغراق في عبادة الحيوانات والطيور والنباتات، وتمثل قواها الخارقة، في معظم مجتمعات العالم القديم.
فالملاحظ هنا أن النظام الطوطمي لا يستهدف التمثل بالحيوانات القوية دون غيرها، فالملك كليب الذي كان يحكم «من أرض الروم إلى الكعبة» كان يسمى بأبي اليمامة، وحيوانه - أو طائره - هنا اليمامة وبيضتها، وكذا بلقيس الإمبراطورة اليمنية المحاربة، وطائرها الهدهد، الذي اتخذته لقبا، كما كانت إلهة إغريق أثينا بومة.
فقد يتمثل الحيوان أو الشعار الطوطمي في تملكه لقدرة خارقة حرم منها الإنسان - حتى الملوك والتباعنة - فالطائر يطير في أعماق السماء، وعلى رأسه ريشة - وهي ما صارت مثلا في التعالي والتجبر، كما أن الحيات والثعابين تملك قدرات تغيير جلدها وإطالة أعمارها، بالإضافة لقدرات لدغتها القاتلة.
وهناك أقوام طوطمية تنتمي للأسماك - السلمون والحيتان والتونة - التي تمتلك قدرات الغوص في أعماق مياه البحار والمحيطات.
وما أكثر الأقوام والكيانات والقبائل الطوطمية التي شهدها تاريخ منطقتنا العربية، وتنتمي للحشرات، مثل حضارات ديدان وسوسة، في إيران وتونس وما بين النهرين، والقدرات الخارقة - لحشرة - السوس، من إحدى الجوانب، وهو أنه يفني أعتى الأخشاب الصلدة، مثلما يحفل به الشعر الشعبي :
لعبت يا سوس في الصندل وخشب الزان
وبحت بالسر يا سوس وخليت المخبي يبان
كما أن ما أكثر الطواطم النباتية في منطقتنا العربية، من نخل وجميز وعوسج، ويقطين أو - قرع - والأخير كان النبات الطوطمي المقدس للنبي يونس حين نبتت عليه شجرة قرع وتبنته إلى أن كبر، بعد أن أمضى عقابه داخل بطن الحوت، إلى أن لفظه على الشاطئ «كالطفل المنفوث» أو حديث الولادة.
وقد يرد تساؤل على النحو التالي: لماذا الحيوان أو النبات وارتباطهما بالدين الطوطمي؟ والإجابة، إنهما؛ أي الحيوان والنبات يمدان الإنسان بطعامه، والاحتياج للطعام يستوجب المكان، أو الحمى أو الوطن، وهو ما يتطلب الحماية والأمن، بالإضافة لعديد من الاحتياجات والتعاطفات الأخرى، وهذا بدوره أفضى إلى التحالفات العشائرية القبائلية، في اتحاد مجموعة من الطواطم - حيوانية ونباتية - تنتهي في الشعار الأهم للقبيلة أو مجموع الشعائر من زاحفة ومهاجرة ومغيرة، مثلما هو الحال في معظم سيرنا وملاحمنا العربية، التي عادة ما تكون إما مهاجرة أو مغيرة كما كنا ذكرنا في مقدمة هذا الكتاب.
خلاصة القول أن الحيوان والنبات، يشكلان رابطة أو علاقة بين الإنسان البدائي والطبيعة؛ لذا تحفل سيرنا وملاحمنا، وحكايات ومأثورات الحيوان والنبات الطوطمية، بأخص خصائص الحيوان أو الأشجار أو الزواحف المقدسة، ولعل الحكاية أو المأثور الأمثل المصاحب لتسمية كليب أو الكلبيين أو قبائل بني كالب المتفرقة في الجنوب العربي، والشام والأردن وفلسطين والمصاحبة لمأثورات كليب أو جروه، ونباحه الذي كان يحدد حماه المنيع أينما نزل كليب أرضا، أو كلأ.
فكانت القبيلة وأسلافها والأرض التي تعيش عليها، وما يتحكم فيها من عوامل مناخية واجتماعية؛ وحدة تنحدر من الطوطم السلف الأب، سواء أكان حية أو نعامة أو حمامة أو كلبا أو جملا أو جرادا أو ديدانا أو بيضة أو حوتا.
وعلى هذا تمايزت كل قبيلة بأساطيرها، ووحدت بالتالي بين الطوطم والخالق، مثل كوزمولوجي أو أسطورة الخلق عند الرشيين، القائلين بفكرة الرحم الخالق (ويمكن ملاحظة العلاقة اللغوية الاشتقاقية بين ذلك الرحم الخالق، وبين الرحمة والرحمن والرحيم والراحم والمرحوم ... إلخ).
وهم الذين زعموا «إن في جوف الماء الريح وفي الريح الرحم، وفي الرحم المشيمة، وفي المشيمة بيضة، وفي البيضة الماء الحي، وفي الماء الحي ابن الأحياء العظيمة، الذي ارتفع إلى العلو فخلق البريات والأشياء والسماوات والأرض والآلهة.»
وكذلك أساطير خلق المغتسلة سكان البطائح، والكشطبن، والمستطورين والصامية، والغولية، والآدمية أو الآدوميين الذين منهم اشتق اسم آدم أبو البشر أما القريشيين فكان طوطمهم الحوت.
ويرى رفائيل بتاي أن العبريين استعاروا أفكارهم عن الحيتان والحيوانات البهيمية ذات الجثث الهائلة، من العرب الأوائل - أو البائدة - وهو ما كان يطلق عليه العرب تعفون - أو التفعن - ومنها بعل تعفون، وهو ما يشير إلى البهيمية، وصراعات الحيوانات الخارقة الوحشية، مثل الثيران والبقر الوحشي والحيتان.
ووردت هذه الخوارق البهيمية في الميثولوجي الفرعوني، فذكر الرحالة المؤرخون «هرودوت وديودورو الصقلي وبليني» الحيتان والتماسيح وفرس النهر، فكانت تلك الحيوانات الوحشية، مقدسة في مصر للإله «ست» عدو «أوزيريس» ومغتصب عرشه.
كما وردت هذه الخوارق البهيمية في الميثولوجي البابلي ومنها الحوت متعدد الرأس والإله ذو الرءوس السبعة، وكان بمثابة الصولجان السومري، منذ الألف الخامسة قبل الميلاد.
وطبعا كان الحيوان الطوطم، يدافع عن القبيلة ويحميها، مثل هدهد سليمان وبلقيس، وحادث تلصصهما أو تجسس أحدهما على الآخر، وأيضا ضباع قبائل الضبعيين، والكلبيين، وكذلك بنو هلال أو الهلالية - أصحاب سيرة بني هلال - وبنو عبد شمس، ونسر وغيرهم، وهو ما أصبحت شعائرهم - الطوطمية - مثل الهلال والنسر رمزا موحدا للعالم الإسلامي فيما بعد.
وإذا ما أخذنا مثلا عينيا تطبيقيا، من ملحمة الزير سالم وحرب البسوس التي امتدت إلى أربعين عاما؛ نجد أن سبب الحرب هو شرود ناقة البسوس «سراب» في حمى كليب الذي يحدده نباح كلبه «جرو» وكسر بيضة يمامته التي تسمى بها «أبو اليمامة» فكانت حرب الأربعين أو البسوس، ونجد أن الناقة - أو الجمل أو البعير - تعد بالفعل من أقدم المعبودات العربية التي عبدت في ممالك تدمر،
1
في اليمن والحجاز وتخومها وسوريا، وكانت تعرف باسمها الأنثوي - كما هو الحال مع ناقة البسوس - باسم بعل أو بعله، أو هبل - فيما بعد - وهو الإله الذي استقدمه الكاهن عمرو بن لحي الجرهمي ونصبه في جوف الكعبة وارتبط بشعائر ضرب القداح، وما من أمر قام به العربي الجاهلي ولم يستشر فيه هبل، فكان في جوف الكعبة، وقدامه سبعة أقداح، مكتوب في أولها «صريح» والآخر «ملصق»، فإذا شكوا في مولود أهدوا إليه هدية، ثم ضربوا بالقداح فإن خرج «صريح» ألحقوه، وإن خرج «ملصق» دفعوه، فكان لكل مطلب قدح، قدح على الميت، وقدح على النكاح، وقدح للاختصام والسفر والعمل.
ويبدو أن الجاهلين كانوا قد استقدموا صنمه، من خارج الجزيرة العربية، ويرجح أنهم جاءوا به من العراق؛ إذ إن تمثاله بحسب وصف ابن الكلبي، كان «من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش فجعلت له يدا من الذهب» وكان قربان هذا الإله مائة بعير.
ومما يرجح طوطمية ناقة البسوس أنها كانت ناقة سائمة، على عادة الشعائر التي عرفها العرب الجاهلين - باسم البحيرة سائمة والوصيلة - مثل ناقة صالح، مع ملاحظة أن اسم صالح، كان أيضا اسما لصنم، كشف عنه الكشوف الحفائرية اللحيانية والصوفية، مثل: «اللات - العزى - مناة - عوض
2 - ديدان - إحرام - جد - ذو الشرى - صالح».
فحكايات ومأثورات الحيوان والطيور - الطوطمية - يرى البعض أنها أكثر قدما من الأساطير، وأنها ترجع إلى مراحل التوحش والطوطمية، فهي حكايات تقرب إلى التعليمية أو الشرح والتفسير، كما أنها حكايات ملخصة، غاية في الدقة من حيث التصميم والتلخيص، لها مغزاها أو حكمتها ودقة ملاحظتها، بالنسبة للطبيعة وغموضها ومخلوقاتها، وكذلك بالنسبة لحكمة الإنسان البدائي وفلسفته بإزاء قدرات الحيوانات والطيور والزواحف والهوام والنباتات، التي حرم منها الإنسان، بعجزه عن الطيران، والغوص في الماء وتغيير الجلد، والصوت العالي أو النباح - كالكلب - وقوى الحيوانات الوحشية والبهيمية، وهكذا.
ويحتفي دارسو الفولكلور بحكايات الحيوانات والطيور والنباتات، والزواحف احتفاء خاصا، هذا على الرغم من إيجازها الشديد، بل وواقعيتها الشارحة المحددة، وهناك من يرى أن حكايات الحيوان هي بداية الأساطير وأنها أكثر قدما وبدائية منها؛ إذ إنها كانت وعاء لشرح وتقديم الأفكار والمعتقدات؛ أي أن أكثر هذه المعتقدات كان يتجسد في شكل حيوانات وطيور، فالإله زيوس كان نسرا والإلهة أثينا كانت بومة، وهيرا كانت بقرة، والإله النوردي ثور كان طائر جنة صغير، والإله تير كان ذئبا، مثله في هذا مثل الإله الروماني مارس وضريبة السليثي ديباتر.
كما أن هنا شبه إجماع من جانب دارسي الفولكلور على أن قصص الحيوان الشارحة، أسبق من الخرافات.
وقصص الحيوان الشارحة هي تلك القصص التي فسر بمقتضاها الأقدمون الفرق بين حيوان وآخر، بين طبيعة ولون وخصائص الذئب عن الحمل، ولون الحمامة الأبيض المخالف للون الغراب الأسود، وكذلك التفسيرات الغيبية التي فسر بها البدائيون السبب أو السر في بريق عيون القطط في الظلام، واستطالة أذنا الأرنب والحمار، واختفاء الخفافيش عن العيون نهارا هربا من الدائنين، وغوص الطائر البحري إلى أعماق الماء بحثا عن الأشياء الغارقة، وكذا تسبيح الكروان، ودعاء الحمامة بالعماء على من سرق بيضها، ونهيق الحمار،
3
مثل نهيق حمار الزير سالم، حين تركه على باب بئر سبع، ونزل ليملأ كوزا من البئر؛ الذي أيقظ أسدا نائما، فالتهم حمار الزير، الذي واصل بدوره الانتقام من سباع بئر سبع الفلسطينية.
فما من حيوان أو طائر أو نبات لم تصاحبه مجموعة مأثورات وحكايات تحدد أوصافه وأخص معالمه، وتحيطه بتفسير عصور ما قبل العلم في الحكايات العربية السامية بخاصة.
والربط بين الجن والحيوانات والهوام والأشجار، يشير مباشرة إلى انحدارها من الطوطمية، وهو ما كنته القبائل السامية خاصة أصحاب الوبر، من عرب وعبريين فكانوا يتسمون باسم الحيوان، ويحرمون التلفظ باسمه، ومن هنا جاءت المرادفات المتعددة للحيوان الواحد، وذكر المستشرق هيود أن لدى العرب خمسين كلمة للدلالة على الأسد، ومئتين للثعبان، وثمان للعسل، وأكثر من ألف للسيف.
ذلك أن للعرب الساميين باع ملحوظ في أنهم موطن ومصدر هذه الحكايات الطوطمية، قبل الهنود الآريين، والإغريق الهلينيين والرومان، وهو بالطبع ما تسلاب في تراثنا من السير والملاحم.
فالرقيق الإغريقي الذي يعد أهم وأقدم مصدر لهذه الحكايات الحيوانية «أيسوب»، يرى البعض - ومنهم كراب - أنه كان رقيقا ساميا يشتغل بالكتابة، وجمع هذه المأثورات في أيونيا ، ومن هنا وصلت هذه الحكايات من الشرق السامي إلى الغرب، وأنها ارتحلت أيضا من الشرق السامي إلى الهند، مع ما ارتحل إليها من ثقافة العراق وما بين النهرين.
وتحفل قصص الخلق الأولى، والطوفان - البابلي والعبري - بمثل هذه الحكايات، كذلك حكاية أشجار
4 «يوثام» التي أولاها فريزر اهتماما خاصا.
كما تحفل الآداب الجاهلية والإسلامية بالآلاف المؤلفة من هذه الحكايات، عند الجاحظ، والدميري، وغيرهما.
ثم لماذا نذهب بعيدا، والمصدر الأكثر قدما من أيسوب ذاته، وهو الشخصية الخرافية العربية السامية الحكيم لقمان، الذي أوضحت المكتشفات الحفائرية الأركولوجية أصله البابلي، وعلى هذا فهو أسبق خمسة عشر قرنا من أيسوب، الذي يرى البعض خطأ أنه هو بذاته النبي أيوب نبي الآدوميين، السوريين والأردنيين. •••
فرغم أن مختلف المجتمعات قد عاشت وواصلت استمرارها ونموها في ظل مختلف البيئات التاريخية، ومرت بمختلف التحولات إلا أنها لم تتخل كلية عن خصائصها الأولى، ولنقل طواطمها وتابواتها، وكما أجمع علماء العصر الفيكتوري منذ ماكلينان، وروبرت سميث، وفريزر، أنها؛ أي الطوطمية، ما تزال تحيا وترتع كرموز ذهنية بدائية تحت مختلف الأشكال المتكاثرة لحياتنا الحديثة، فأنت تجدها اليوم في أعلام وشارات الدول الحديثة يستشهد في سبيلها، كما تجدها تطل برأسها في شارات المحافظات والمطبوعات، والأضرحة، والملابس والماركات والمطبخ الحديث ... إلخ.
وحققت المناهج البنائية بدراستها للطوطمية نتائج رياضية ملفتة، وبالتحديد ما توصل إليه العالم البنائي الفرنسي كلود ليفي شتراوس، الذي انصبت دراسته على علاقة الطوطمية بالظواهر، أو علم الظواهر، ففي رأيه أن الطوطمية كظاهرة حضارية تجيء كاستجابة أو حتمية لظروف ومكونات طبيعية وبيئية، وأن هناك علاقة شعائرية أو دينية بين الإنسان وطوطمه، وكثيرا ما تتمثل في الأشياء والمناهج المقدسة، ولها سلطاتها الملزمة، وأن نظم الزواج في المجتمع الطوطمي لا تخضع لإرادة الأفراد بقدر خضوعها للقرابة الطوطمية، وانتساباتها وولاءاتها القبيلية، بل وحروبها الضارية.
فحتى وقت قريب؛ عام 1920 رصد «فان جنيب» 41 نمطا مختلفا للطوطمية في أستراليا وحدها، وأثبت أن الكثير منها ما يزال ساريا، برغم أن جذورها الضاربة ترجع إلى الألف الثامن قبل الميلاد، فالطوطم ما هي إلا أرواح تحيا في الخفاء، محافظة على توارث أسماء القبائل الأمومية والأبوية، كما أثبت «جنيب» أن الطوطمية ما تزال تتحكم متسلطة على نظم الزواج والطلاق والميراث والقرابة، عند عديد من شعوب العالم خارج الغرب.
وفي طرح التساؤل عن علاقة الطوطمية بالحيوانية والنباتية، يشير شتراوس بأن الحيوان والنبات يمدان الإنسان بطعامه، والاحتياج للطعام يستلزم المكان - أو الوطن - في المفهوم البدائي.
فشتراوس يسألنا منذ راد كليف براون، ويقدم تفسيراته المخالفة لتثقيفية فريزر، وانبمزم تيلور، والبحث عن الأصول عند ماكلينان، وروبرت سميث، وأخيرا توظيفية مالينوفسكي، فجميع هؤلاء قدموا تفسيراتهم عن البدائيين، لكن شتراوس ربط الطوطمية بالتخلف، حتى داخل مجتمعات ما فوق التصنيع. •••
وإذا ما انتهينا من هذه العجالة حول الطوطمية، فإننا ننتقل إلى بعض الأمثلة العينية:
ففي السيرة الملحمية «الزير سالم» نجد الخصائص الطوطمية الواضحة القسمات، والتي تحكمت بدورها بالبنية القرابية، من قبائلية وعشائرية ومبادلاتها للزواج والانتساب والتسمية، وجميعها هنا تخضع للتحكم الطوطمي، من حيوان لطير لنبات لزواحف، من جمال ونوق وحمير وكلاب وسباع وضباع ويمام وحمام وبوم، وهكذا.
فمن ذلك تسمية أبطالها كليب وكلبة أو جروة، وابنه - بالفعل - الملقب بجرو أو الجرو، وتلقيبه بأبي اليمامة، ويمامة أو حمامة، التي كانت سببا في اشتعال حرب البسوس المسماة سراب الملك كليب المنيع في العالية أو عالية، وكسرت له بيضة لحمامة أو يمامة أو قبرة
5 - أم قويق - كان قد أجارها في حماه.
وعلى عادة مصاحبة معظم الطواطم للحكايات والمأثورات - الشارحة - تذكر المصادر الأدبية العربية - بخاصة - لكليب أنه كان يطوف حماه المنيع ذاك، فشاهد قنبرة على بيض لها، وعندما رأته طارت، فابتعد عنها، إلى أن عاودت الرقاد على بيضها، فأنشد لها مؤنسا هذه الأبيات، التي تواترت من شاعر جاهلي لآخر، ومنهم طرفة بن العبد:
يا لك من قنبرة بمحجر
خلا لك الجو فبيضي وأصفري
وانقري ما شئت أن تنقري
لا ترهبي خوفا ولا تستنكري
فأنت جاري من صروف الحذر
إلى بلوغ يومك المقدر
فعلى هذا النحو الساذج، الذي يرد في فابيولات الحيوان والنبات والحشرات الطوطمية، اندلعت حرب الأربعين عاما المعروفة، حين اجتاحت ناقة البسوس حمى كليب وكسرت له بيضة قنبرته أو بومته هذه، فكانت الحروب التي ألهبتها البسوس، والتي هي في حد ذاتها «البسوس» ما هي إلا طوطم أو مزار كهنوتي بأسمائها المتعددة، ومنها الهيلة.
كذلك تسمية ضباع، أو الضباع أخت الزير سالم والملك كليب، والمتزوجة من الأمير همام، صديق الزير وصفيه، والتي كان لها شأن في هذه الملحمة مع أخيها الزير، الذي قتل ابنها «شيبان» وكان قد فضل الانضمام إلى قبيلة خاله «الزير سالم» بدلا من قبيلته الأبوية، ومضى يثير همم قبيلته الجديدة لأمه؛ انتقاما ودفاعا عن خاله كليب، ضد من؟ أهله وعشيرته، حتى إن الزير سالم فاض غضبه منه، فكان أن قطع رأسه ووضعها في جراب حصانه الذي عاد به إلى قبيلته، وما أن خرجت أمه، ضباع ووضعت يدها في جراب حصانه حتى تلقت رأس ابنها الذبيح «شيبان».
وهنا ظلت ضباع متربصة لحظة الانتقام من أخيها الزير، إلى أن وضعته بتابوت أو كفن، وألقت به في الماء - أو البحر - كإيزيس وأم موسى.
والمعروف أن الضبع كان من حيوانات الجزيرة العربية، كما يقال إن ضباع هذه اسمها الحقيقي «أسمى» ويبدو أن ضباع أو الضباع، كان شعارها أو اسمها الطوطمي، كما تذكر المأثورات الفولكلورية - الشفاهية - التي ما تزال تتواتر شفاهيا أنها كانت - كأخيها الزير سالم - تعارك وتصارع الأسود والسباع.
فلعل التسميات الطوطمية الحيوانية التي تصادفنا في سيرة كالزير سالم وغيرها تتراوح ما بين ضباع كليب أبو اليمامة، وكذا الحمامة أو اليمامة وزرقاء اليمامة، بالإضافة إلى التسميات اليمنية - الحميرية - الموغلة في الطوطمية، منها انتساب إحدى ملكاتهم، وهي بلقيس ملكة سبأ، أو شيبا كان طائرها المقدس هو الهدهد الذي صاحب رحلتها الشهيرة إلى أرض فلسطين من الملك النبي سليمان، وكانت تلقب ببلقيس بنت الهدهاد.
وما من سيرة أو ملحمة عربية تخلو من أجرومية تخبر مستمعها عن عوالم الطيور والحيوانات بل والزواحف مفرقة وعازلة بين ما هو مباح أو مقدس وما هو محظور منها.
من ذلك ما يرد في السيرة الهلالية، من مأثورات حول الطيور بل والحشرات وأحجيتها، حين وقع أبو زيد الهلالي في أسر صاحب قلعة بالشام أو فلسطين، يدعى الملك حنا ولقبه «أبو بشارة» وسأله: أخبرني كم طير نزل بالكتاب؟
فقال أبو زيد: تسعة، هي: الذباب والنمل وطير الأبابيل والجراد وطير عيسى - وهو الخفاش - والغراب والهدهد والصغار واللهو، وهو السمك.
فلما أتم كلامه قال: أخبرني عن طير يمني ويحيض،
6
وعن شيء إذا حبس عاش وإن شم الهوى مات، فقال: أما الطير فهو الوطواط، وأما الثاني فهو السمك، ثم إن القاضي التفت نحو أبو بشارة وقال له: مرادي أسألك سؤالا هو: أخبرني عن شيء كان حلالا ثم صار حراما، فقال له: البيضة حلال وإذا وضعت تحت الفرخة صارت حراما.
الباب الثاني
القسم الأول
سيرنا وملاحمنا العربية المندثرة
عادة يكون حصاد الإهمال الذي يعانيه تراثنا الشعبي الفولكلوري العربي عامة، هو أن تجني أجيالنا المتعاصرة من دارسين وباحثين الأشلاء من ذرى وعيون نصوص إرثنا هذا من السير والملاحم العربية.
من ذلك ما يمكن أن يصادفه باحث اليوم في حقل السير والملاحم العربية كظاهرة حول كم أو حجم التهافت الذي اعترى الكثير من النصوص والمفضي إلى التآكل الذي لا بد وأن ينتهي بالاندثار.
ونسوق عبر هذا الباب بضعة نماذج وأمثلة من بقايا أشلاء لنصوص، أفضى عدم الاهتمام بها إلى زوايا النسيان والاندثار.
أهم هذه النصوص بالطبع: ملحمة جلجاميش العراقية أعرق ملاحم العالم القديم، التي ظلت ماثلة متواترة التواجد إلى حد ذكرها باسمها العربي «قلقامش» لدى الدارسين الكلاسيكيين العرب حتى مطلع العصور الوسطى، إلى أن خفت تواجدها ذاك مع توالي العصور، فلم يعد إليها الاعتبار سوى اكتشاف نصوصها الحفرية من جانب الأركيولجيين الغربيين منذ مطلع قرننا الحالي.
ومن ذلك ملحمة طرد الهكسوس التي أنشدها المصريون منذ 35 قرنا، وعثر على بعض متفرقات نصوصها، تدرس لطلبة المدارس على ألواح الطين والأرتواز والآجر.
ولعلنا نكتفي بإيراد بضعة نماذج متفردة لأشلاء نصوص لسير وملاحم نتعارف عليها بالمندثرة، نجري تحقيق عناصرها وموضوعاتها أو موتيفاتها؛ منها: سيرة عن يعرب بن قحطان - أول من تكلم العربية - والضحاك الحميري، التي تحكي وتؤرخ لكيانات الخليج العربي الغابرة، وعبيد الغالبة والملك معروف ووزيره البين وابنه الشاطر حجازي، عبر صفحات هذا الباب. (1) الملك معروف
بالادا أو باليانا - كما يطلق عليها داخل رقعة الفولكلور الروسي - أي قصة يتعاقب فيها الشعر والنثر، باسم «الملك معروف» تتناول حياة ملك طوباوي، أو اشتراكي خيالي، من اسمه تواترت تعبيرات المعروف وإتيانه.
لكني أرجح أنها سيرة متآكلة، أو مندثرة أو مهملة، ضاع جسمها الأكبر وتلاشى في النسيان من الذاكرة الفولكلورية، بل وما أكثر ما ضاع واندثر من هذه الذاكرة الجمعية العربية من آلاف مؤلفة من النصوص.
ذلك أني حاولت - بالقدر المتاح - تعقبها وجمع مأثوراتها سواء في ثنايا الحكايات الفولكلورية، خاصة شقها الخرافي، أو الموال الشعري الأحمر، ذو الصبغة الجنائزية، حين يستشهد بفضائل ذلك الملك معروف ومدى عطائه لشعبه وأمته، وينسب له هذا المأثور الشعري:
أنا الذي درت في الدنيا وقلت حغيرها
وبلدي قصاد عيني مش قادر أغيرها
بين المسا والصباح الناس تغيرها
ومما لاحظته هو مخالطة وتشابه ذلك الملك اليوتوبي الخارق الجود والعطاء «معروف» مع شخصية فولكلورية عربية أخرى، تعرضت لها ولمأثوراتها في كتابي «الحكايات الشعبية العربية»
1
يبدو أنها بدورها بقايا سيرة مندثرة؛ ذلك أن كلتيهما تتطرق لحروب قبائلية، وعلاقات قرابية عشائرية أو علاقات أنساب، كما أن كلا الملكين: معروف و«عبيد الغالبة» تعرض لشعائر أو طقوس انتقال، ذات صبغة اجتماعية طبقية؛ أي من حيث سقوطه من أقصى درجات التسلط الطبقي لأحضان الفاقة والعوز والهوان والعبودية، كما أن كليهما قام بصبغ نفسه في «دن النيلة» لكي يعطي ويهب نفسه بإرادته لضيوفه من الشعراء والحكماء، كتابع أو عطية وفداء أو عبد لهم.
وما أروح المأثورات الشعرية المنسوبة لعبيد الغالبة، وهو يهجو من اضطلع بصباغه أو تغيير لونه في دن من دنان النيلة:
الله يأتيك يا صباغ التياب بنايبه
ياللي صبغت الزين والشين في دن واحد
علشان كتر الدراهم
ولا بأس طبعا من إيراد هذين النصين الشفهيين الفولكلوريين، الملك معروف ووزيره البين وابنه الشاطر حجازي و«عبيد الغالبة» كما جمعتها وحققتهما بالقدر المتاح من أفواه الناس.
الملك معروف ووزيره البين وابنه الشاطر حجازي
كان هناك ملك اسمه الملك معروف، والمعروف سيد الأحكام، ووزيره البين وللملك خلف ولد اسمه حجازي، الملك أحضر الوزير قائلا: حلمت أني سأنتقل من دار الدنيا لدار الآخرة، الوزير قال: حجازي حبة عيني يا ملك.
ولما الملك معروف مات، الوزير حلم بأن لن يقتله إلا حجازي ابن الملك، فأرسل له 7 عسكري وقاللو: قوم يا شاطر كلم الملك.
ولما ذهب حجازي أدخله البين السجن، وأذن للسجان بأنه لا يدخل له سوى قرصة شعير في اليوم الواحد.
ولما دخل حجازي السجن غنى وقال:
سجان قتيل الغرام عليه مغموس وموصي
سدد عليه خروق الباب من بصي
السجان قال: اخرس يا ولد ... اسكت ما تتكلم خالص. قال حجازي للسجان: إيه يعني البين دا ... أنا لا أسأل عنك ولا عنه ... قاللو: حاقول للملك البين.
قال للملك، الملك طلب حجازي وسأله بتقول هكذا ... غنى حجازي وقال:
غيب عني يا بين سنتين وتعالا تلت
البين قال لحجازي:
بتقول أنا اللي حاربت البين وغلبته
وجبتلو جوز كرابيج سود وقتلته
حجازي قاللو:
إثبات يا بين والله العظيم لم قلت
إيش أضل يا بين صاحب معرفه نقاد
آدي مدة أيام بتفطرني على لنكاد
ما تشوف أولاد المماليك أهي بقت في الحبس مرميه
وولاد الهفيه صبح شمعهم منقاد
بنت البين سمعت الكلام ثقبت ثقب في سطح الزنزانة وقالت له: إذا طلعتك يا شاطر حجازي تتزوجني؟
قاللها: إذا طلعتيني في حبة عيني من جوه ...
بالليل فتحت الباب ... طلع حجازي ومشي أرض الله لخلق الله، ثم أعطته سيف أبيها «المحجب» الذي لا يقتل إلا به.
في أول الجبل ... خدل حجازي من النعاس ورقد نام وحلم بخاله ...
خاله قال له: أروح لابن اختي أشوف أحواله، وهو ماشي لقى اللي راقد.
قال: مين اللي راقد؟ قام حجازي وغنى وقال:
البين بيخايل عليه أنا أحسبه خالي
خالي وخالي وقلبو من الهموم خالي
قاللو الملك : من أنت؟
قاللو : حجازي.
قاللو: طيب ما أنا خالك، غنى حجازي وقال:
في منتشات
2
الزمان أنا كنت بعشق ولد صبان
رحت اشتري بن ... تاه عقلي اشتريت أنا صبان
واخصي على الشاب اللي يخاف م المطرح المسكون
خاله قاللو: عاود تاني مملكتك روح.
ولما عاود الواد ... مسكوه عسكر البين في أول الجبل.
خاله راح قوم قوة وجيش وسافر إليه.
وصل ... والبين حاطه على المشنقة وحجازي يغني عاليا:
أنا
3
الذي درت في الدنيا وقلت حاعدلها
وبلدي قصاد عيني مش قادر أعدلها
ومثل سمعناه من اللي قبلنا قالوه:
بين المسا والصباح ربك يعدلها
وجاءت عسكر خاله، قام القتل والقتال، وأنزلوه من على المشنقة ... نزل طلع يجري على السيف اللي دافنه وركب الحصان، وقال للبين: انزل قابل.
البين قاللو: أترك لك المملكة ... أبقى وزير تحت إيدك.
قاللو: لا، يا بني أنا حاموت ... قاللو: موت!
ركب قبال البين ... رمح والتاني موته، ومسكه حرقه ودراه ... وكل من جالو نسمة هوا يقول:
البين صادفني النهارده
يا ريتني ما رحت السوق
البين صادفني النهارده
يا ريتني ما طلعت من بيتي
وكل اللي يزعل م الدنيا يقول
البين قابلني النهارده
بنت البين قالتلو: تعالى اتجوزني زي ما عاهدتني يا شاطر حجازي.
قال لها: لا ... إذا كنتي قبلتي الولد على أبوكي ... حاتقبليه علي آني ... حل موتك ... وموتها، ودراها في الهوا مثل أبيها ...
ودور منادي يقول: اللي ولدت من أربع سنين تجيبه ... تجيب المولود هنا ... ونده للمزينين: دوروا التختين في الأذرع اليمين، وكان هو أول من بدع التختين وكلهم بكوا ... عيطوا بعد التختين، وهو حط إيده على فمه وقال يا ليل ... كل العيال سمعت غناه الجميل سكتت واستمعت.
وبالطبع تستطرد هذه السيرة الملحمية التي يتعاقب فيها الشعر والنثر، محدثة عن مخاطر الشاطر حجازي في ربوع اليمن الغابر، ووادي بهيج تدعوه السيرة بوادي النعم، تحكمه ابنة الملك النعمان، عبلة. (2) عبيد الغالبة
أما السيرة الشعبية المماثلة للملك معروف وذريته، فهي تحكي عن «عبيد الغالبة» كان ملك سخي وكريم، كل ما يرسي عليه ضيوف يقدم لهم كل ما يمتلكه، فلم يترك الجود عنده حاجة أبدا، غير ناقة واحدة ... وكان الشعرا متعودين يزورونه من الحول للحول، في هذه السنة لم يجد حاجة يقدمها لهم فذبح لهم الناقة الوحيدة اللي حيلته واباتهم في المكان اللي بينام فيه، وقال لهم: «بكره الصبح اللي يصب لكم على إديكم، يكون من نصيبكم.»
وقام الصبح طلى نفسه بلون أسود، وراح صب للشعرا على إيديهم، فالشعرا سألوه: «سيدك اللي بعتك لنا يا عبد» قال لهم: «أنا عبدكم» ومشى وراهم في هيئة عبد، إلى أن عدى الشعرا البر التاني، ودخلوا مملكة - خال عبيد الغالبة - الملك العون.
4
الملك العون قال للشعرا حذر
5
عشان يحلوه، قال لهم: «الجودة من الموجود، ولا من العود؟» الشعرا ما عرفوش يحلو الحذر، ورجعوا على العبد، ضربوه وقالولو: «إنت وشك أسود ووحش.»
عبيد الغالبة. قاللهم: «روحوا لملك العون وقولولو، عبدنا حايحل الحذر.»
رجع الشعرا قالوا للملك العون، فالعون طلبه، وهو حل الحذر وقال قدام العون: «الجودة من العود.»
العون عرفه فاشتراه من الشعرا، ودفع ديته وخده دخلو الحمام، ولبسوا لبس ملوك، وقاللو: «تعالا يا ابن أخي»، وعرفه.
عبيد الغالبة قاللو:
سلم عليه العون ورخى خوامسه
شرط الفتى بعد السلام يجود
تحرم عليه يا عون وتحرم مضايفك
ما عدت أجي لك ولا أدخل بيوت
وساب خاله وطلع جري، نزل أرض الشام. لقى خيمة منصوبة في الجبل، طلع له منها شيخ عرب وسأله: «انت من عبيد مين؟» قاللو: «من عبيد الغالبة» شيخ العرب سأله: «الغالبة ترك من يورثه؟» قاللو: أنا الغالبة، ولما العربي عرفه، قاللو: «كل المال والغنايم والعبيد دي ورثتك من أهلك»، وأعطاه الرزق، والغالبة ساق السعي والأموال ومشى في الجبل.
وكان عبيد الغالبة متجوز اتنين ستات، أول ست رسي عليها بماله وسعيه، أول ما قالولها: «عبيد الغالبة جه»، طلعت طردت الثروة والسعي بعامود البيت، وتقول: «أنا ماعرفش عبيد وأمور عبيد»، وطردتهم.
ولما حرد ورسي على امراته الثانية، وقالو لها: «عبيد الغالبة جه» طلعت بمقشتها تدخل في السعي والعبيد، وتقول : «يا مرحب يا مرحب»، وعملتلهم الغدا وأكرمتهم، فعبيد الغالبة غنى وقال قصيد مستطرد، نكتفي منه بإيراد هذا المقطع:
يا من عملتي حاكم البيض كلهمو
لحكم بخوف الله وازيح الظلايم
آدي الهريمة للهريم اللي زيها
وادي الفصيحة للرجال الفصايح
الله يأتيك يا صباغ التياب بنايبه
يا للي صبغت الشين والزين في دن واحد
عشان كتر الدراهم
فيهم من تسوى تسعين شايله
وفيهم من لا تسوى جلد أعود
فيهم من تطرد الغنا بعمود
وفيهم من تدخل الخير بمقشة
وفيهم من تجيب لهوة تقيله
لا هوا بيغنى ولا هيه تموت
وعاد عبيد الغالبة فطلق امرأته الرديئة، وأعطى كل ماله وثروته وعبيده لامرأته التانية الكريمة السخية. (3) يعرب بن قحطان، أول من تكلم العربية
سيرة ملحمية تؤرخ لهجرات مبكرة يتضح مدى معاصرتها للبابليين فيما بين الرافدين ترد على النحو التالي: «وعلى هذا صار يعرب ومن تبعه من بني قحطان وبني عامر ومن خف فساروا في جمع عظيم، ومعهم وجوه أهل بابل، وكان يعرب وسيما كريما، أفضل غلام ببابل.»
خرج يعرب بقومه من العرب والعرب المستعربة من أرض بابل متجها إلى «أرض الميعاد» تسبقه رائحة المسك إلى أن نزل أرض اليمن.
فيبدو أنها هجرة سامية، تؤرخ لها هذه السيرة التي يسوقها عبيد بن شرية الجرهمي ووهب بن منبه في مؤلفه عن ملوك حمير، أو ملوك القحطانيين بالجنوب العربي.
نزل يعرب بقومه إلى جوار أبناء حام أو الحاميين، «فشاجره بنو حام كما كانوا قد فعلوا ببني يافث، فرجعوا إلى يعرب وبني عامر الذين معه، فقاتلهم قتالا شديدا فهزمهم يعرب ونفاهم إلى غربي الأرض فأتاه بنو يافث مذعنين، فأمرهم بالإقامة ورفع عنهم الجور الذي كانوا يؤدونه إلى بني حام، وعمر يعرب أرض اليمن وغرس الأشجار، وينسب له أنه كان أول من قال الشعر ووزنه، وذهب في جميع الأعاريض ومدح ووصف وقص وشبب، فتعلم منه إخوته وبنو عمه حتى وصل الأمر المتعربين أو المستعربين ببابل، وهم قبائل: عاد وثمود وطسم وعملاق ورائش، فاستطابوا الشعر فخفف على ألسنتهم.
ويبدو أن حروبا طويلة طاحنة نشبت بين قبائل عاد المستعربة وقبائل قحطان بن يعرب، كما يبدو أن قبائل عاد هذه كانت طويلة الأجساد ذوات بأس
ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد - أي ذات الأصلاب الطوال -
التي لم يخلق مثلها في البلاد . فعندما نشبت الحرب بينهما قال يعرب: يا بني قحطان إن كان أعطى الله عادا أعظم الأجساد فقد أعطاكم الصبر والجلد، فقاتلوهم، وما أن التقيا الجيشان في موضع بأرض اليمن، يقال له بارق حتى هزمهم يعرب وقتلهم مقتلة عظيمة.»
وبعد ذلك أنزلت على يعرب اللغة العربية في «تسعة وعشرين حرفا» ولذلك علا اللسان العربي على جميع الألسن؛ لأن كل لسان من الألسن الأخرى - مثل العبراني والسرياني - إنما هو اثنان وعشرون حرفا.
وفي رواية أخرى أن اللغة العربية أنزلت - بحسب هذه التفسيرات الغيبية - على عاد وصيل ابني عوص، فهما أول من تكلم بالعربية بالإضافة إلى قبائل جديس وثمود ابني جاثر بن إرم بن سام، وعمليق وطسم، فيقال إنهم افترقوا على اثنين وسبعين لسانا، يختص بنو سام منها باثنين وثلاثين لسانا، والباقي لبني حام وبني يافث.
كما أنزل الله على هود وقحطان ابنه صحيفة أمره فيها بالحج إلى بيت الله الحرام، وذلك قبل بناء الكعبة التي ينسب بناؤها لإبراهيم وابنه إسماعيل «ولحق بهم بمكة يعرب بن قحطان، والبيت مهدوم، فإذا مر بوضع الحجر الأسود، وهو مدفون أومأ إليه واستسلم وقضى حجه.»
والغريب أن الرواة والأخباريين العرب ظلوا حافظين على ما كانته الكعبة قبل بنائها.
وفي حديث عبيد بن شريه الجرهمي إلى معاوية بن أبي سفيان، وصف لنزول قبائل جرهم البائدة إلى أرض الحرم بعد أن طردهم الحميريون من اليمن، وكان يسكن مكة يومئذ العماليق أو العمالقة، وكان موضع الحرم كثير الشجر ممتنعا أن ينزل فيه لكثرة شجره ... فأمروا بالشجر فقطع، ونزلت جرهم.
وعندما سأل معاوية محدثه عبيد الجرهمي: وهل كانوا يعلمون أنه حرم؟ قال عبيد: نعم يا أمير المؤمنين. سأل معاوية: فكيف قطعوا شجره؟!
ولقد أجاب عديد من المستشرقين على سؤال معاوية الأخير هذا بأن البيت أو الكعبة لم يكن إلا بمثابة إطار للحجر الأسود الذي كان من أهم معبودات قريش؛ لأنه يمثل بقايا حجر قديم كان مقدسا عند قدماء الجاهليين.
ومرة أخرى تكشف أسطورة أرض ميعاد يعرب عن سبق هذه الهجرة السلمية إلى اليمن عن شقيقاتها اللاسلمية الأخرى، مثل هجرة قبائل إبراهيم وآشور إلى جوف الشام وفلسطين وما بين النهرين، فتسوق لنا هذه السيرة هجرات وحروب القحطانيين.
فجمع قحطان أهل اللسان العربي، وزحف إلى بابل يريد ألاسكتان بأذريجان ولحقه قحطان وهزمه، وقتل ألاسكتان وفضت جموعه من بني يافث إلى أرض أرمينيا وما خلفها، وهربت القوط والسكس والإفرنج، وهم بنو عرجان بن يافث، ولحق بهم إخوتهم الصقالب.
ويقال إنه خلال انشغال القحطانية بحروبهم في آسيا تملك بيت المقدس، وملك الشام نمرود بن كنعان، «وأنه زحف إلى بيت المقدس وقحطان بسمرقند» ولما عاد إليه قحطان وحاربه وهزمه أخذه أسيرا فقتله وصلبه ببيت المقدس.
كما يقال في هذا إن نمرود بن كنعان أول قتيل صلب.
وبعد أن مات قحطان ودفن بمأرب ولي الأمر من بعده ابنه يعرب الذي فاق إخوته، وكان عاشرهم وهم جرهم بن قحطان، وعاد بن قحطان، وأيمن بن قحطان، وقحطان بن قحطان، والسلف بن قحطان، وظالم بن قحطان، ناعوم قحطان، وجاشم بن قحطان، وحضرموت بن قحطان، فولي جرهم بن قحطان أمر مكة وولي عاد أرض بابل، وولي حضرموت أرض الحبشة، وولي ناعوم عمان، وولي أيمن الجزيرة ... إلخ.
ولما مات يعرب خلفه ابنه «يشجب بن يعرب» الذي كان سقيما، لم يعمر طويلا وخلفه ابنه عبد شمس بن يشجب الذي تنسب له سير القحطانيين أنه أول من بنى مصر، فبينما كان يواصل فتوحاته في المغرب مارا بمصر «بلغ النيل ونزل عليه وجمع أهل مشورته، ثم قال لهم: إني رأيت أن أبني مصرا بين هذين البحرين يكون صلة بين المشرق والمغرب، فبنى المدينة وسميت مصر.»
والملك عبد شمس سمي سبأ؛ لأنه كان يسبي أبناء من يقتلهم من أعدائه، ويقال إنه ولى على مصر ابنه بابليون «وإليه تنسب مصر لملكه عليها.»
وكان عبد شمس هذا أو الملك سبأ من أقدم وأخطر المشرعين القبليين العرقيين فكان يخطب في القحطانيين قائلا: «يا بني الساميين قحطان، إنكم إن لم تقاتلوا الناس قاتلوكم وإن لم تغزوهم غزوكم، فقاتلوهم قبل أن يقاتلوكم.»
كما قد تمثلت فيه الدهرية العربية تمام التمثل «كل ما هو كائن، وكل جميع بائن والدهر حرفان حرف رخاء وحرف بلاء، والدهر يومان يوم لك ويوم عليك، والناس رجلان رجل لك ورجل عليك، والدهر غير محتال للموت، والدنيا صاحبة الغالب وعدوة المغلوب، وليس جمع خيرا من جمع ولكن جد خير من جد، فلا ترضوا بالمنى فإنه مراتع العاجزين.»
وعبد شمس أو سبأ هو باني مأرب وسدها الكبير، وفيه سبعون نهرا، ويقبل إليه السيل من مسيرة ثلاثة أشهر في ثلاثة أشهر «ولكنه مات قبل أن يتمه.»
ويبدو أن سبأ الأكبر أو الملك عبد شمس هذا كان أول من تسمى بالشمس، كما يقول الميثولوجيون العرب ومنهم نشوان بن سعيد الحميري؛ لأنه أول من عبد الشمس، وأما الاسم شمس فيطلق على صنم ذكره محمد بن حبيب قائلا: «وكان شمس لبني تيم وكان له بيت.» أي: معبد.
وولي الملك من بعده حمير بن سبأ رأس ملوك حمير وهو الذي «وطأ الأمم وداس الأرضين وأمعن في المشرق حتى أبعد يأجوج ومأجوج»، ويبدو أن نورة وقعت بمصر في عهده وتعرضت لغزو الأحباش أو الكوشيين، فقد جاءه «رسل أخيه بابليون من مصر يستدعونه لنصرته على بني حام؛ وذلك لما بلغ بنو حام؛ أي المصريون، موت سبأ بن يشجب، فعتوا على بابليون بمصر، وكان نزول الحبشة بني كوش بن حام على النيل فتداعوا إلى مصر يريدون خرابها «فهزمهم حمير» وتبعهم إلى البحر المحيط من الغرب، وأقام في المغرب مائة عام يبني المدن ويتخذ المصانع.»
ومات حمير «وكانت علته التي أماتته الغم» ويقال إنه أول من دفن في مغارة؛ إذ إنه كان يرتعد من «غم الضريح» وحمير وهو رأس الكيان الحضاري الحميري التي قامت - كدولة - على أنقاض دولة سبأ ، واتسعت فتوحاتها في آسيا وأفريقيا، فلما مات حمير تولى الملك بعده ابنه وائل وخلفه السكسك رأس ما يعرف بالملوك السكاسك في تاريخ اليمن، وهو الذي حارب نمرود بن ماش، ولما مات خلفه ابنه يعفر بن السكسك الذي ينسب إليه أنه عندما وافته المنية جمع قومه ونزع تاجه عن رأسه وقال لهم: «يا قوم هذا تاجكم فخذوه» فأخذه قومه ووضعوه على بطن امرأة وملكوا به ما في بطنها.
ثم انتقل الملك إلى ما يعرف بالملوك التباعنة - جمع تبع التبع أو الملك المعافر بن يعفر والذي سمي المعافر لقوله:
إذا أنت عافرت الأمور بقدرة
بلغت معالي الأقدمين المقاول
والذي عندما مات طلب من قومه أن يدفنوه واقفا «لا تضجعوني فينضجع ملككم، لكن ادفنوني قائما ليظل ملككم قائما»، ثم تجيء بعد ذلك دولة عاد الأصغر؛ لأن عادا أو قبيلة عاد الأكبر قد اندثرت بحسب قول عبيد بن شريه الجرهمي، وكان بدء ملكهم هو شداد بن عاد وخلفه شقيقه لقمان بن عاد أو لقمان الحكيم أو الحكيم لقمان. انظر: لقمان الحكيم وفابيولاته.
يقول وهب بن منبه عن ابن عباس: «كان لقمان بن الملطاط بن السكسك بن وائل بن حمير نبيا غير مرسل»، كما ينسب له الساجستاني أنه كان أطول الناس عمرا بعد الخضر، ومن المعروف أن الخضر حي لا يموت؛ وذلك لأنه كان قد شرب من ماء الحياة أو عير الحياة.
وما تزال حكايات الحكيم لقمان متواترة على طول الشرق الأدنى، منها حكايته مع أنسوره السبع، حين دعا الله طالبا منه:
اللهم يا رب البحار الخضر
والأرض ذات النبت الفطر
أسألك عمرا يفوق كل عمر
فنودي قد أجيبت دعوتك يا لقمان، وأعطيت ما طلبت لكن لا سبيل إلى الخلود، اختر - إن شئت - سبع بقرات عفر، لا يمسهن ذغر وإن شئت سبع نويات من تمر، مستودعات في صخر، لا يمسهن ندى ولا قطر، وإن شئت بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر عقبه نسر.
وعندما اختار لقمان النسور السبعة عمر طويلا، وكان الناس يأتونه من أقاصي الأرض وأدانيها ليحكم بينهم، وهو ما يزال يواصل تواتره في تراث الحكايات العربية، ومنها حكايته مع زوجته الخائنة وقد جمعت من مشتقاتها أو مرادفاتها منها ثلاثة نصوص شفاهية.
وملخص هذه الحكاية كما يوردها وهب بن منبه هو أن الحكيم لقمان تزوج بسوداء بنت أمامة وكانت جميلة جدا، وكان لقمان غيورا عليها فأسكنها في كهف عظيمة في أرض صخرة عالية، إلا أن غريما له وقع في حبها هو هميع بن السميدع بن زهير الذي تمكن من التوصل إليها مختبئا داخل أكوام أسلحة قومه، وتوصل إليها واجتمع بها إلى «أن رقد معها على سرير لقمان، ثم تنخم ورمى النخامة في سمك سقف الكهف» وعندما رأى لقمان النخامة في سقف الكهف، وفشلت زوجته في إقناعه بأنها هي التي فعلتها، وكان أن أخرج العشيق من مخبئه داخل السلاح وشد امرأته السوداء معه في السلاح وألقى بهما من فوق الجبل.
ثم رماها بالحجر، ثم رماهما جميع من كان معه، فكان الحكيم لقمان أول من رجم الزاني والزانية كما تنسب له الخرافات الحميرية أنه كان أول من حكم بقطع يد السارق؛ ذلك أن شاكيا أتاه وقال له: يا لقمان إن سارقا يأتي فيدخل يده في خرق الخيمة ويسرق ما أصابت يده من الخيمة، فقال له لقمان: «احرص حتى إذا هو أدخل يده وسرق، فخذ يده واقطعها، ففعل ذلك الرجل.»
وارتباط الحكيم لقمان بالنسور يشير إلى ذلك الطائر الجارح الذي أصبح فيما بعد رمزا لليمن بل والعرب عامة، كان اسما أيضا لإله يدعى «نسر» أو «نسور» وجاء في النقوش السباية «بيت نسور وبيت أيل» أي معبد الإله نسور ومعبد الإله أيل.
ويضيف ديتلف نيلسن «أن الإله» نسور كان أحد ألقاب القمر؛ لذا فقد رمزوا إليه بصورة نسر وأن النسر كان طائرا مقدسا للقمر وكان يطلق على عابديه بعامة «أهل نسور»، بل إن أحد شهور السنة السبئية المتأخرة عرف «بذي نسور»، ومن ملوكهم أو بمعنى أصح تباعنتهم مجموعة الملوك الأوائل الذين لقبوا بأبي كرب أو مكرب مثل التبع أسعد اليماني أبو كرب وابنه حسان صاحب السيرة الهامة «حسان اليماني»، ومكرب أو مقرب ومنها جاء اشتقاق قربان لقب كلقب للملوك السبأيين إشارة إلى الجمع بين سلطتي الحاكم والكاهن مما يشير أكثر إلى العلاقة الأولى بين الكاهن والحاكم، ثم «الملك» مثلما كانت طائفة «الياتيس» عند البابليين وأمراء حمير وتدمر ومأرب وصرواع ونجران، وكذلك أغلب الحكام العرب القدامى مثل - الملك الكاهن - عمر بن لحي الجرهمي كما يقول «نيلوش».
وهو ما يخالف إلى حد فصل سلطتي الدين والحكم عند الفرس الذي اختصت بأعمال الكهانة فيها قبائل الماجي وكذلك قبيلة اللاويين عند العبريين، والكلدانيين والعمونيين وكذلك سنة أو حجاب أو كهنة مكة في الجاهلية ... إلخ.
ومن ملوكهم وتباعنتهم الحارث بن الهمال أو الحارث الرائش الذي غزا أذربيجان، ونصر ملك الفرس على الترك وفتح الهند والسند وأرض بابل وخراسان والشام والمشرق، إلى أن بلغ تحت بنات نعش ذلك في عصر موسى بن عمران.
وخلفه الصعب ذو القرنين الذي كان ملكا وإنما سمي ذو القرنين؛ لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس، وقال إنه ملك الروم وفارس، كما يقال: إنه سمي ذو القرنين؛ لأنه بلغ المشارق والمغارب ودانت له البلاد وخضعت له ملوك العباد.
وينسب لذي القرنين أنه رافق الخضر في رحلة عبودية طويلة في الأرض، واطلعا على مكنون الحياة وخفاياها مثلما اصطحب الإسكندر طاهيه أندرياس أو النبي إدريس الذي كان قبل بدء الرحلة يغسل حوتا مملحا في عين ماء، فلما مس الحوت الماء ارتدت الحياة إليه وانفلت في الماء، فقفز أندرياس وراءه ووهب بذلك صفة الخلود بعد أن شرب من نهر عين الحياة دون أن يعرف أنه عندما قص الأمر على الإسكندر المقدوني، فظن الإسكندر إلى أن النهر هو نهر الحياة، وكان أن حرم الإسكندر الخلود والوهب.
ومثل ذلك ما جاءت به أقدم أساطير العبور بحثا عن الخلود، وهو ما جاءت به نصوص الملحمة الأكادية الأم حين اصطحب جلجاميش مدينة أنكيدو بحثا معا عن سر الخلود.
وتنسب الأساطير التي تدور حول ذي القرنين؛ أي الإسكندر المقدوني الذي ورد بهذا الاسم بالقرآن، أنه حينما سار يريد أرض الهند وجد قوما قد سكنوا مقابرهم ووجدهم لا غني ولا فقير ولا قاض فيهم ولا أمير، ولا آمر، ورأى مواشيهم بلا رعاة رآهم بين الأنهار في خلاء من الأرض وقفار، ولما سألهم: ما بالكم سكنتم المقابر؟ قالوا: يا ذا القرنين سكناها؛ لننسى الموت ونطمئن إلى الحياة وتستهوينا الدنيا.
ولما مات ذو القرنين خلفه ابنه أبرهة ... وفي عهده ظهرت الحيات التي تعرف بالمزمردة، والذي يقال إنها فتكت بجيوشه، كما تنسب له الخرافات أنه أول من أشعل النيران على رءوس الجبال لهداية الجيوش ليلا لاتقاء هذه الحيات؛ ولذلك سمي ذا فنار «وكان أجمل الناس وجها فرأته امرأة من الجن وعشقته وكانت تقيم بأرض اليمامة في مكان يدعى الحرقانة، اعتبره العرب بعد ذلك موطنا للجن، وأن من وطأه أحرقته النيران.»
ويقال إنه حارب «حلواني بن امرئ القيس بن عملاق بن بابليون بن سبأ بن يعرب بن قحطان بن هود، وهو فرعون إبراهيم بمصر.»
ومن نسل ذا منار جاء الملك عمرو بن أبرهة الذي سمي ذا الأذعان، وهو الذي قهر الناس وذعرهم بالجور.
وذا الأذعان حارب كيكاوس ملك الفرس فأسر ذا الأذعان وسجنه، وانتقل الملك من بعده إلى الملوك السكاسك فولي الهدهاد بن شرحبيل، وهو أبو بلقيس ملكة سبأ، ولعلنا نكتفي هنا بسيرة الأنساب القحطانية اليمنية المتلاشية. (4) الضحاك الحميري
وفي ثنايا الأدب العربي، ترد مأثورات هذه السيرة القحطانية اليمنية التي تعكس لنا الصراعات العربية الفارسية على النحو التالي:
فعندما تجبر الإمبراطور الفارسي «جم» وادعى الألوهية، قصده الضحاك الحميري اليمني المسمى بالفارسية «بوراسف» من أرض اليمن في جيوش كثيفة وشوكة شديدة، فانقض عليه انقضاض العقاب على الأرنب فهرب منه «جم» متنكرا، واستولى الضحاك على ملكه، وطارده حتى ظفر به فصاده كما يصيد الهر الفأر، ونشره بالمنشار، ويقال إنه ألقاه إلى السباع.
فالعجم أو الفرس تسميه «بوراسف» والعرب تسميه الضحاك وسماه أبو نواس بالخابل.
وكان أبوه ملك اليمن ثم زين له الشيطان قتل أبيه فقتله ، وما زال الشيطان يستدرجه ليأكل من كل لحوم الطير حتى لحوم الحملان، ومنها إلى لحوم الضأن والثيران إلى أن نفخ في منكبيه من خبثه وسحره فخرجت حيتان سوداوان، كلما قطعتا عادتا كما كانتا، وكلما قام من النوم أوجعته الحيتان، وأكلا أمخاخ البشر وسكنا، وهكذا فكان ساحرا ماهرا، وعن ابن الكلبي أن الضحاك أول من سن القطع والصلب وأول من سن العشور وضرب الدراهم والدنانير وغنى له، لكن إبلياس زين له الكفر والفجور.
وذكر الطبري أنه وقع له شيء من كلام آدم فاتخذه سحرا يعمل به.
وكان إذا أجابته امرأة أو غلام أو دابة، نفخ في قصبة من ذهب فكان يجيبه، وتنسب له حكاية الطباخين آرماييل وكرماييل، اللذين أمرهما بقتل الشبان لكنهما رقا للشبان المذبوحين، فكانا يذبحان عنزا بدلا منهما يوميا، ويتفرقون في الجبال حتى أصبحوا أمما «فهم أصول جميع الأكراد في نواحي البلاد.»
6
إلى أن خلف الضحاك على عرش فارس، ملك هو أفريدون، الذي تنسب له أساطيرهم أنه ملأ الدنيا عدلا بعد جوره؛ أي الضحاك، إلى أن دخل عليه أفريدون وقتله بالعمود الذي في رأسه صورة ثور، وقطع من جلده وترا قيده به، وحمله إلى جبل دنياوند وحبسه في بئر هناك وقال له الضحاك: إنما تقتلني بجدك «جم».
وذكر أبو تمام قال:
ما نال ما قد نال فرعون ولا
هامان في الدنيا ولا قارون
بل كان كالضحاك في سطوته
بالعالمين وأنت أفريدون
ويدعي المجوس أنه محبوس حيا بجبل دنيا وند كإبليس إلى يوم القيامة، فاتخذ الناس يوم حبسه عيدا سموه «مهر من مهرما» أي المهرجان، ومن أقوال قاتله أفريدون: «من لم يعرف مكاسبه فهو متهم بالسرقة»، والخائن لا يعتمد أحدا، العبيد خمسة: الخباز والطباخ والساقي والفراش والوصيف.
أما الأعداء الخمسة فهم: السفلة والحاسد والعبد والمرأة والمستعمل على العامل مكانه.
ووزع أفريدون ملكه على أولاده الثلاثة «سلم وتوز وإيريج»، فإيرج ملك إيران إلى جانب أبيه أفريدون، لكنهما تآمرا عليه، فقطعا رأسه وأرسلاه إلى أفريدون، وكتبا إليه «هذا هو الرأس الذي آثرته علينا»، وجزت أربعة آلاف جارية شعورهن حزنا عليه، أما الملك فضعف بصره، وكان يضع رأس إيرج على الرماد في إناء من ذهب وينوح عليه حتى ينام.
ثم تملك منوشهر بن إيرج العرش وعندما تحاربا، وقطع رأس عمه توز أرسلها لأبيه أفريدون فقال: «لا مرحبا بدهر أحوجني إلى أن أقتل بعضي ببعضي.»
وتملك منوشهر وخطب في الناس «لقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها وما بقاء فرع بعد ذهاب أصله» وهو أول من خندق الخنادق وأول من اتخذ لكل قرية عمدة، وكان قائده سام بن نريمان، ولقبه عمدة الدنيا، وكان يتمنى مولودا ولما طعن في السن رزق بولد أبيض شعر الرأس والحاجب والاشفار فأنكره، وأهمله، وحملته العنقاء وربته في أعلى الجبال الشاهقة، إلى أن جاءه أبوه، واسترده وسماه «زال» أي الشيخ، وطلب الملك أن يراه وعشقته ابنة مهراب ملك كابل، حين سمع بجمالها.
وإذا ما عدنا إلى الضحاك الحميري هذا الذي يقال إنه تملك على إيران في 2800ق.م، وكان عامله على بابل، نمرود بن كوش، الذي في زمنه حدثت هجرة قبائل إبراهيم الخليل من أور الكلدانيين إلى حران والشام وأرض فلسطين بسكانها الفلسطينيين وطلائعهم البحرية؛ حيث كانوا من أقدم شعوب العالم القديم للبحار والمحيطات.
وما يهمنا تأكيده هو أن اتصالات كبيرة كانت بين الفرس وجيرانهم الساميين من بابليين وأشوريين في العراق وما بين النهرين، وعرب يمنيين جنوبيين في الجزيرة العربية، وما عرف بدويلات الخليج العربي وإماراته الحالية.
7
وتبدت تأثيرات هذه الاتصالات المبكرة في كلا التراثين الآري، والهندو أوروبي، والسامي العربي، للدرجة التي نتج عنها الكثير من الأخطاء والمغالطات التي وقع فيها الرواد الأوائل لهذه الدراسات خلال رحلات البحث المضنية عن منابع التراث الأوروبي، وقنوات هجراته لغويا وبالضرورة تراثيا بدءا من الأخوين جريم وينفي، والمدرسة الفولكلورية الشرقية عامة.
وعلى سبيل المثال، فإن دولة الميديين الآريين (508-550ق.م) الذي يرجح أن هجراتهم تمت من شواطئ بحر قزوين إلى غرب آسيا، إلى أن استقروا في إيران، وأقاموا دولتهم في القرن السابع قبل الميلاد، لم يتعرف عليها - تاريخيا - إلا من النقوش الآشورية والأخبار العبرية، وينسب لهم دولة همدان في الجنوب العربي.
وكانت ميديا تتبع آشور، وفي الأخبار الإسرائيلية أن ملك الآشوريين حمل بني إسرائيل إلى فتوحاته الجديدة الواسعة الممتدة إلى ما وراء نهر زاجريوس في إيران، وهو ما يعرفه توينبي بإعادة زرع أو استنبات الأقوام المغلوبة بهدف شدخها أو تمزيقها حضاريا.
كما أن من أخبار هرودوت أن الآشوريين استعبدوا الميديين الإيرانيين خمسة قرون كاملة، إلى أن تمكن «ديوسيس» أول ملوكهم من تأسيس الدولة الميدية وطرد الآشوريين، بل إن حفيده «كيخسرو» تمكن من تحطيم «نينوى» عاصمة الآشوريين في العراق وسوريا العليا.
وما يهمنا هو تلك الاتصالات المبكرة بين العرب الساميين والفرس الأوائل الآريين، من مزاوجات ومؤثرات حضارية وتراثية من جانب لآخر، حتى ليقال بأن الآشوريين، خلفوا بصمات أصابعهم على اللاهوت الزردشتي الذي كان بمثابة بداية لتجمع حضاري «أميني» نقل الإيرانيين
8
البرابرة من طور إلى طور.
فيبدو أن الميثولوجيا البابلية والفينيقية السامية، لعبت أهم أدوارها في إيران؛ إذ إنهم خلفوا لغتهم الآرامية، فكتب الفرس وثائقهم وتراثهم بالخط المسماري البابلي، كما أنهم - الساميين - خلفوا أساطيرهم ومظاهر حضارتهم، التي كانوا قد توارثوها من أسلافهم السومريين، فخلط الفرس في لغتهم بين الفارسية القديمة والآرامية السامية، ومنهما اشتقت اللغة البهلوية.
وعلى هذا جاءت الإمبراطورية الأهمينية التي حكمت معظم شعوب الشرق الأوسط، مناصفة بين العبقرية الحضارية المتمثلة في الأساطير والتراث العقائدي اللاهوتي السوري أو الآشوري، من الوجهة الحضارية، وبين الحكام ونظم الحكم الفارسية، من الوجهة السياسية.
ومما يزيد الأمر وضوحا فيما يتصل بقدم الاتصالات الحضارية بين الفرس والساميين - بل والمصريين - إن قمبيز بن كورش،
9
مؤسس الدولة الإخمينية، والذي في عهده أعيد تسمية إيران باسم فارس نسبة إلى قبيلة فارس، فعندما غزا قمبيز بن كورش مصر، ودخلها وذلك عن طريق الخدعة التاريخية المعروفة، التي تدل دلالة واضحة على سابق معرفة الفرس بدقائق اللاهوت والأساطير المصرية أو مجمع - وكعبة - الآلهة المصرية.
ذلك أنه وضع أمام جيشه صفا كبيرا من الحيوانات والنباتات الطوطمية أو الشعائرية لآلهة وآلهات المصريين، فكان أن أخذ المصريون وامتنعوا عن القتال فدخل قمبيز مصر وقتل العجل المقدس أبيس، وهدم الكثير من الهياكل والمعابد.
كما أن قمبيز فتح السودان ثم الحبشة، إلا أن إناثها
10
هزمته وردته عن فتحها، فيلاحظ أن المؤثرات - الآرية - الفارسية، وصلت حتى أفريقيا الوسطى منذ منتصف الألف الأول ق.م.
الباب الثالث
القسم الأول
شخصيات السير والملاحم والبالادا في المأثور الشعبي
سمة عامة في الفولكلور العالمي، التمثل بالشخصيات من أسطورية الملحمية التاريخية، من ذلك صبر كل من أيوب ونوح، وعدالة سليمان، وجمال يوسف، وحقد سارة، وعشق عزيزة.
فكثيرا ما تفيض هذه الأشعار الغنائية، في التمثل بالشخصيات التاريخية والأسطورية والخرافية، سواء حينما تستشهد بجلدهم وصبرهم على الشدائد والكوارث والمحن، مثل أيوب وزوجته المحبة ناعسة، ومثل نوح وزوجته برها التي انساقت لغواية الشيطان، بل هي توحدت به في تخريب فلك نوح 31 مرة، والنبي صالح الذي كان غريبا مضطهدا من قومه ثمود، كما ذكر المتنبي «غريب كصالح في ثمود» إلى أن دمر ثمود انتقاما هي وقراها الخمسة.
وهو ما يمكن أيضا تواجده في الفولكلور الأوروبي بعامة، منها أغاني الملك كنوف على ضربات المجاذيف للماء وأغاني الكهنة المنشدين، وأغاني عمل النساء، اللائي يطحن بالرحى، كما اتفق على تسميتها كتاب العصور الوسطى، وأشهرها أغنية تحكي معاناة الملك بيتاكوس الذي قضى عليه بأن يمضي بقية عمره يطحن بالرحى مبعدا مهانا عن عرشه وعن سطوته.
ومثل أغاني «سعدة» ابنة الزناتي خليفة قائد جيوش تونس حين اغتاله خصمه الحميري القحطاني دياب بن غانم الزغيبي، وكان يعشق سعدة، التي كانت تحب بدورها مرعي فكان أن سجنها دياب تطحن الرحى وترتدي ثياب الخيش حين رفضت حبه.
ولعل السيرة الهلالية هي من أبرز السير والملاحم العربية، التي استقلت عنها أعمال قصصية وشعرية من نوع البالادا، كعالم يخلو الأمر من المواويل التي استقلت بدورها عن هذه البالادا، تصوغ مدى عشق عزيزة ليونس، وسعدة لمرعى، وعالية لأبي زيد الهلالي - انظر مادتي الملاحم والبالادا.
منها الموال التالي الذي يتحدث عن عزيزة ابنة سلطان تونس معبد بن أبديس التي عشقت عدو أبيها وبلادها، يونس ابن السلطان حسن بن سرحان الهلالي سلطان الهلالية الغازين، حين تحايل فرسان الهلالية الثلاثة «مرعي ويحيى ويونس» أثناء ريادتهما لاستكشاف تونس مع خالهم أبي زيد الهلالي واضطرارهم لبيع عقد ثمين من الجوهر، لعزيزة عن طريق دلال ظل يفاخر بجمال يونس وفضائله أمام عزيزة:
آه يا ستي لو شفتيه
وشفتي طولو مع معانيه
تفوتي قصرك باللي فيه
واسمك الغالي نبوه
فكان أن تحركت لواعج عزيزة نحو يونس، كما يصفها هذا المأثور التالي:
وقفت عزيزة في ريح القصر وريحانه
وقالت يا دلال صاحب العقد روح هاته
يا بخت من حدي يوصلك يا يونس في السنة مرة
يسود شعره، وتحلى عيشته المرة
ولما قالوا لعزيزة دا يونس في الصجر بره
نزلت تهز إليك وتقوللوا كنت فين سلامات
ومن ابتلي بك يا يونس، طج
1
وانسلى مات
خدتو على الصدر جوا القصر ورحاته
وفي بالاد «يوسف وزليخة» يذكر المأثور الشعري التالي، مدى جمال يوسف الصديق:
بكيت زليخة وقالت:
عشقت في الذب لمتوني!
في حب يوسف يا بني يعقوب لمتوني
عملت عزومة زليخة
ودبحت ميتين كبش
ومن الغزال ستين
إلا رجولها البيض في أوان عصر
ومالوا وقالولها، فين يا زليخة
اللي عليه البيان ستين!
ما فتحت زليخة الباب ليوسف خرطت يدهم سكين
قالت آهو يا مساكين، اللي عليه لمتوني!
وزليخة هي امرأة العزيز، ويوسف، هو النبي يوسف، والموال هنا يدور حول جمال يوسف وحسنه، ويؤكد الخرافة الراسخة عند الفلاحين التي تقول إن الخطوط المتقاطعة الموجودة في داخل كفة اليد هي من تأثير انبهار النساء البيض الذين عزمتهم وأحضرت لهن التفاح، والسكاكين، وعندما شاهدن يوسف بهرن من حسنه، فنسين أنفسهن ومضين يقطعن بالسكاكين من كفات أيديهن، بدلا من التفاح!
فقالت لهن زليخة شامتة:
آهو يا مساكين اللي عليه لمتوني!
درغام يقول للخفاجا:
يوم غرب النجع ياما بكى درغام
وقال بيض الليالي مضت، واللي بقى صار غام
2
رايح تغرب يا بو داويه،
3
وفايت لصطبل والخيل فيه
بكى درغام وقال:
بيض الليالي مضت، واللي بقى صار غام
بكر الصجر راح، ما عادت تنفع الخليفة
4
ظهر سبع في الغرب سموه الرجال خليفة
5
ساعة يسمع الطبل، بيجي مالوب كما درغام
بكيت بنته دوايه وقالتلو:
يا با أنا شايفه عينك ع السفر هتزول
درغام أبوك بكر، وأمك شوله عقلها عيزول
الغربه تربه يابا، تقل الأصول وتزول
ما قال يطلع يا دوايه، مع الناس دول هنروح
زيدان عمل فيه طوله،
6
وصاحبي بالروح
مكتوب على باب تونس، قايمة في اللوح
تفنى الخلايق، وكل العباد هتزول (1) الملك التبع سيف بن ذي يزن الحميري
ويمكن القول إنه إذا كانت هناك سيرة متعددة المستويات مركبة داخل رقعة الأدب الشعبي العربي بلا استثناء، فهي هذه السيرة التي نحن بصددها «الملك سيف بن ذي يزن الحميري»
7
فهي ليست أبدا مجرد سيرة أنساب قبائلية عربية تؤرخ لحياة وحرب ذلك الملك التبع، آخر من عرفوا بالملوك اليمنيين التباعنة مكتفية بمثل هذا الدور والغرض في حفظ البنية القرابية القبائلية الحاكمة وأحداثها وحروبها على عادة ما هو متبع ومتمثل في سير الأنساب بلا استثناء.
بل إن هذه السيرة للملك سيف، يمكن - من أحد الوجوه والزوايا - اعتبارها سيرة ذات صبغة قومية؛ ذلك أنها تستفيض مؤرخة للصراع والحروب بين كلا الساميين والحاميين، أو بين عرب جنوب الجزيرة في اليمن والجنوب العربي،
8
ومتاخميهم الأفريقيين، ذوي البشرة السوداء في الحبشة والسودان وأفريقيا عامة.
ومن هنا يحق للقارئ التساؤل عن دلالات هذه التسميات ذاتها من ساميين وحاميين.
والإجابة هنا ترد على لسان الوزير الأول المقرب للملك سيف وهما يستعدان لبدء حروبهما في مدينة البعل وملكها بعلبك وهو الوزير الكاهن المسمى «يثرب»، والذي هو في موقع الكاهن والحكيم صائب البصيرة الذي يشكل جانب المشورة بالنسبة لرأس التحالف الحميري القحطاني اليمني الملك سيف، ذاكرا عن الأسطورة النوحية، وابني نوح سام وحام «أن نوحا نام مرة وكان سام قاعدا عند رأسه، وحام تحت رجليه، فهب الهواء وكشف عن عورة نوح، فضحك حام وغضب سام وتشاجر الاثنان، فاستيقظ نوح واستطلعهما الخبر، فقص عليه سام ما فعله حام، فغضب والدهما غضبا شديدا، ودعا على حام بسواد البشرة وتمنى لذريته استعباد نسل سام لها.»
وفي موقع آخر تورد لنا السيرة، كيف هاجر حام إلى أفريقيا مؤرخة بالطبع لأسطورة أرض ميعاده، وزواجه ومصاهرته من ابنة أحد ملوكها حين تزوج قمر شاهق، ومن ذريتهما انحدر العنصر الحامي الأسود الذي لحقته لعنة الأب السلف الطريد حام بن نوح الأسود.
وفي عديد من النصوص والمأثورات تفسر لنا أساطير ما قبل العلم هذه، السبب في أن جلد الحاميين أسود مبلورة وملخصة ذلك التفسير الأسطوري في المأثور الشائع عن كيف أن الكذب يسود الوجوه.
وهو المأثور الشفهي المتواتر الذي قد يرجع مولده لما قبل ستة آلاف عام على أقل تقدير، والذي يرد في ثنايا مأثورات الأدب العربي الكلاسي منتسبا إلى حام بن اللعنة الطريد، الذي - خلال الطوفان - عصا أباه نوحا خلال حجهم للبيت بمكة، وجامع امرأته عقب مجيء الطوفان داخل فلك نوح، فكان أن لعن نوح حاما: «اللهم سود وجهه ووجه من عصا ووطئ امرأته.»
وعندما
9
ولدت امرأة حام غلاما، جاء أسود اللون، وسموه كوشا، وولد لكوش الحبشة بن كوش.
أما الشقيق الثاني لكوش - الذي لحقته بدوره لعنة أبيه أيضا، وهو ماريع بن حام - فولد ثلاثة أولاد أو أجناس هم، كنعان بن ماريع، وبرير بن ماريع، والنوبة بن ماريع.
فعلى هذا النحو يجيء التفسير الأسطوري للعبودية والتسيد، متسقا بالطبع مع البنية الجنسية
Racism - الشوفينية - لصراع الساميين العرب والحاميين السود الأفارقة، وما يمكن أن ينتظم تحت هذا المنطلق بالضرورة من منطلقات عبيدية أو عبودية، للدور العربي السابق للإسلام في أفريقيا، وهو ما توليه هذه السيرة عنايتها القصوى.
بل وبحسب ذكر أبرز الرواة العرب عبيد بن شريه الجرهمي؛ فإن قارة أفريقيا ذاتها، تنتسب تسميتها إلى واحد من تباعنة اليمن والجنوب العربي، أسلاف ملكنا سيف بن يزن.
فالتسمية ترجع إلى الملك الحميري، «أفريقيس بن أبرهة الذي يقال إنه عندما غزا المغرب - شمال أفريقية - متجها إليه من أرض البربر،
10
فرأى بلادا كثيرة الخير، قليلة الأهل فنقل البربر من بلادهم فلسطين إلى مصر، فلما بلغ أفريقيس؛ حيث بلغ من فتوحات أمر ببناء مدينة بتلك الأرض من أفريقيا وبنيت مدينتها وإنما سميت باسم الملك أفريقيس وأما العرب فأسمتها أفريقيا.»
11
والملفت هنا تأكيد الكثير من المصادر، من أن هذه القبائل السامية العربية، هي ما أعطت لقارة أفريقيا اسمها منذ منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، حين غزا هؤلاء اليمنيون في عدن وحضرموت والجنوب العربي بعامة، والذين عرفوا بفنيقيي البحر الجنوبي، بلاد الحبشة، ونشروا لغتهم الحجرية التي ما زالت سارية يمكن تلمسها في بقايا الطقوس الدينية للكنيسة الأثيوبية، بل ومتداخلة إلى أقصى حد في لغات ولهجات الكثير من الأقوام الأفريقية، التيجرية والتجرانية والأمهرية والهرورية.
وبالطبع جاء ذلك الغزو العربي السامي الأفريقي، مسوقا ببقايا مأثورات الإدانة الأسطورية للأجناس الأدنى، استنادا إلى هذه الفابيولا النوحية، وابنيه سام وحام، والأخير بسببه أصبح وجه الحاميين أسود، وهي في هذا تلتقي مع أسطورة الكنعانيين أو الأجناس المضطهدة، وترد هذه المأثورات بكثرة في تراث القحطانيين اليمنيين على النحو التالي: فبعد أن عم الطوفان الأرض، قذفت الرياح بسفينة نوح إلى البلد الحرام؛ أي مكة - أم القرى - فطاف بالبيت أسبوعا ثم قال نوح لبنيه، إنكم في حج فاعتزلوا النساء، فجعل نوح النساء بمعزل وجعل دون النساء رمادا وإن حام جاء إلى زوجته المسماة «أذنق نشا» ليلا فوطئها، فلما أصبح نوح ورأى الأثر في الرماد قال: من جاء إلى النساء قالوا لا نعلم من جاء وكتمه حام، فقال نوح: «اللهم سود وجهه، ووجه ذرية من عصى ووطئ امرأته»، فولدت امرأة حام غلاما أسود، فسماه كوشا، فعلم أن الدعوة أدركته، وما يزال المعتقد الشعبي يحفظ هذه الفكرة أو المقولة التي مؤداها أن الكذب يحيل الوجه أسود؛ أي أن حاما عندما كذب على أبيه أو كتم عنه أنه هو الذي عصى ووطئ امرأته جاء ابنه على غير لون آبائه وقبيلته.
وهي فكرة أو موتيفة تواترت بعد ذلك في ملحمة عنترة بن شداد وسيرة بني هلال أو الهلالية؛ إذ إن كلا من هذين البطلين عنترة العبس وأبا زيد الهلالي جاءا على غير لون آبائهما، فكان لونهما أسود، كما أن خطيئة كل منهما واسمها خضرة الشريفة في كلا النصين، هي أنها توهمت خلال حملها بابنها البطل الموعود المرتقب عنترة وأبي زيد، بطائر أسود يضرب على مجموع من الطير ويغلب عليه، وكان أن اضطهد الطفل الموعود المرتقب وانتزع من بين قبيلته وتربى غريبا عند قبيلة أخرى كما حدث مع الملك سيف؛ إذ إنه تساوى مع الحاميين الذين طاردتهم اللعنة، مثلهم مثل الكنعانيين الذين قدم - أول ما قدم - الملك سيف بجيوشه الجرارة من اليمن وحضرموت لقتالهم في بعلبك والبقاع.
ومما لا شك فيه أن الطائر الأسود في كلا النصين طائر الغراب، والغراب طائر مقدس عند كل الشعوب السامية بل الآسيوية.
ومن هنا فإن فكرة الطوفان نفسها المتوارثة من مصدرها الأم عند السومريين والكلدانيين ثم التراث البابلي، إلى أن اكتملت في أسطورة نوح التي جاء بها العهد القديم للطوفان كعقاب والبحث عن أرض جديدة، وإرساء أولى معالم التفوق الجنسي القبلي العنصري.
فلعل أبرز ما تؤرخ له هذه السيرة الملحمية التي يتعاقب فيها الشعر والنثر، هو الامتداد بالصراع بين ابني نوح سام وحام أو بين العرب الساميين، والأفارقة الحاميين، في تلك الحروب القبائلية الطاحنة التي اتخذت من الشام، وبالتحديد منطقة بعلبك والبقاع بلبنان، مرورا بفلسطين ومصر، إلى حيث أفريقيا الوسطى والحبشة والسودان؛ مسرحا للحروب القبلية بدءا من اليمن والجنوب العربي، بهدف إرساء الأفضلية والسيادة للعرب الساميين، على ذوي البشرة السوداء، المتعارف عليهم بالحاميين، انتسابا إلى «حام» بن نوح، ابن اللعنة أو الابن الأسود الأفريقي الطريد.
ولأمر ما تبدأ السير حوادثها بالكلام عن الملك اليمني التبعي ذي يزن، الذي ذاع صيته، واشتهر أمره، ودانت له بلاد العرب الجنوبية، واتخذ له وزيرا حكيما عاقلا تصفه السيرة بأنه لا نظير له في مشرق الأرض ولا في مغربها، وكان اسمه «يثرب»، وكان ملما بكثير من الكتب القديمة والملاحم العظيمة بما فيها التوراة، والإنجيل، وصحف إبراهيم الخليل، وقد علم «يثرب» من تلك الكتب أن نبيا اسمه محمد سيظهر الإسلام ويبطل سائر الأديان السائدة، ومن ثم تأخذ السيرة في عرض العلاقات بين جنوب الجزيرة وشمالها منذ أقدم العصور.
فالصراع بين العرب الساميين الغازين بقيادة الملك سيف وبين الأفريقيين السود الحاميين هو جوهر هذه السيرة الكبرى.
كما تذكر شامة بنت الملك الأفريقي أفراح:
عسى الصفو يهدي إلى نسل حام
ينالون عزا بقدر مهاب
عسى بطشة الدهر في نسل سام
يصيرون في الناس مثل الكلاب
فالحرب الطاحنة التي قامت بين الساميين من ناحية وبين الحاميين من ناحية أخرى، أعني: بين العرب الحبش والسودان؛ تؤكده المصادر التاريخية، من إسلامية أو غير إسلامية، تحدثنا عن كثير من هذه الحروب التي اتخذت أشكالا مختلفة، فهي طورا دينية، وطورا استعمارية، وطورا تقتصر على الساميين والحاميين، وطورا تتعدى العنصرين إلى الزنوج والأوروبيين، وإن كانت السيرة حريصة الحرص كله على ألا تتعرض للنوع الأخير؛ لعدم اتصاله بالعصر الذي يميل إلى تصويره لنا، أعني: العصر الجاهلي.
فالسيرة في حديثها عن هذه الحروب، تستطرد في عرض الحياة وأعمال البطولة، وهي صادقة في هذا العرض، فسيف بن ذي يزن الذي ولد لأبيه في أفريقيا، والذي تربى في الفلاة، والذي أتى في صباه بأعمال كثيرة تدل على بطولته وشجاعته، كشخصية تاريخية ماثلة محققة، فهو الأمير اليمني الذي قاد الجيوش العربية الجنوبية وطرد الجيش من بلاده بمساعدة الفرس عام 570م وقد تحدث ابن هشام عنه وذكر لنا الكثير من الأشعار التي تنسب إليه أو قيلت فيه، ولم تقف شهرة هذا القائد العظيم عند هذا بل نراه جدا للأسرة الحاكمة في «بورنو» وبطلا من أبطال ملاحم سكانها.
ولكن بينما نجد راوي السيرة يختار سيف بن ذي يزن قائدا للساميين؛ إذ به يسند زعامة الحاميين إلى ملك حبشي يدعى «سيف أرعد» مع ملاحظة امتداد الحروب والصراع بينهما رغم أن كليهما تلحقه اللعنة، أسود اللون، وعلى هذا النحو لا تقتصر أيضا تركيبة هذه السيرة الكبرى عليها لذاتها، بل هي تمتد مشتملة أيضا على شخصية بطلها المحوري ذاته، الملك سيف، كيف أنه جاء إلى الوجود على غير لون بني جلدته الساميين، ليحارب الحاميين، وهو الذي ولد بأفريقيا وتربى بها، برياف الفلاة ... كأنكيدو، إلى أن عاد إلى أصله العربي وموطنه ليعاود بدء حروبه ومخاطراته منطلقا من الجنوب العربي؛ حيث فيه وفي خصاله تبدت خصائص وسمات بقية الأبطال المحوريين الملحميين العرب، حسان اليماني، عنترة، أبو زيد الهلالي، دياب بن غانم، وبقية الشخصيات الملحمية.
ففي الملك سيف بن ذي يزن يتبدى تفوق حمير كقبائل مختارة مكانها بين العينين: «ما حمير في أهل الدنيا إلا كالأنف من الوجه أو قل بين العينين»، وهو ما تنازعته بعد ذلك القبائل العبرية، ففي بعض كتبهم الخرافية «إن الله قال لبني إسرائيل من تعرض لكم فقد تعرض لحدقة عيني.»
وكثيرا ما يرد في هذا التراث وصف الحبشة وسكانها بالأشرار؛ ذلك أن اليمن كانت في صراع لا ينتهي مع الحبشة آخرها ذلك الاغتيال الدامي الذي اغتيل فيه الملك سيف بن ذي يزن الحميري ذاته بأيدي خدمه وتوابعه من الأحباش، حين اختلوا به في أعالي الجبال خلال رحلة صيد ومزقوه بحرابهم واختفوا في الشعاب.
ومن الأقوال المنسوبة إلى النبي هود عن ابن عباس: «إن جهنم في أرض المغرب يسكن عليها شرار خلق الله، وهم الحبشة.»
أما ما يرد عن وصف العرب بالأحرار، فمرجعه تلك الصلات الموغلة في القدم بين هؤلاء الملوك التباعنة اليمنيين، فيقال: إنهم حكموا فارس واليمن منذ انتهاء الألف الثالث قبل الميلاد مثل الضحاك وأفريدون وذا الأذعار وتشابكت أساطير الملوك اليمنيين بملوك الفرس الأول، فيقال إن العرب القحطانيين أخوال ملوك الفرس، وكان آخرها بالنسبة لسيرة الملك سيف، التجائه إلى كسرى ملك الفرس، حين غزا الأحباش اليمن وطلب منه نصرته، فأمده كسرى بمن في سجونه ليحاربوا إلى جانبه قائلا: «إن ظفروا فأبناؤك، وإن قتلوا فأعداؤك» وكان أن انتصر الملك سيف وتوج على اليمن إلى أن وقع حادث اغتياله بيد الأحباش أو الكوشيين أو الحاميين أبناء اللعنة.
كما قد يوصف الفرس بالأحرار نسبة إلى الإيرانيين الذين قدموا مع الملك سيف بن ذي يزن «وهم إلى اليوم يسمون بالأحرار بصنعاء ويسمون باليمن عامة بالأبناء، وبالكوفة الأحامرة، وبالحيرة الأساورة، وبالجزيرة الحضارمة، وبالشام الجراجمة، كما يروي الأصبهاني.»
فالملاحظ أن الأسطورة النوحية ومأثوراتها المتواترة في ملكها تجيء مسايرة لمسرح أحداث هذه السيرة وحروبها.
فتبدأ السيرة أحداثها والملك سيف بن ذي يزن يعد العدة ويجهز جيوشه وقوافله، مقررا السير على رأسها إلى الشمال لمحاربة الملك بعلبك، لكن قبل أن تصل جيوشه الزاحفة من اليمن إلى مكة إلا ويظهر الملك سيف رغبته في هدم الكعبة ونقلها إلى اليمن.
وتتداخل فابيولاته هنا مع ملك سالف يمني آخر، هو أبرهة؛ ذلك أن قوى غيبية تتسلط عليه، وتعييه وجيشه بمختلف الأمراض والكوارث، إلى أن يعتنق دين إبراهيم وبكره إسماعيل باني البيت.
فتحت حكمة وبصيرة وزيره الكاهن «يثرب»، الذي كان يدين بدين الكعبة ورب البيت وهو الإسلام، يسلم بدوره الملك سيف ويكسو الكعبة، ثم نجد الوزير يثرب يرجو الملك أن يبني المدينة التي حملت اسمه «يثرب» إلى أيامنا.
وما أن ينتهي الملك سيف من مهمته السياسية بأرض الحجاز ويثرب وشمال الجزيرة العربية أو السعودية اليوم، حتى يتجه شمالا إلى بعلبك بلبنان، وتدور حروب طاحنة في عاصمة البقاع التي اعتبرها الساميون - على الدوام - أقدم مدينة في العالم، والتي لا تبعد الأسطورة المصاحبة لإنشائها كثيرا عن الأسطورة النوحية؛ إذ إن قابيل - القاتل - ابن آدم عندما اعتراه الارتعاش أمر ببنائها ولقبها باسم ابنه أخنوخ - النبي إدريس - وأسكن فيها الجبابرة والمهترجية، ولكثرة فواحشهم أرسل الله عليهم طوفان الماء أو طوفان نوح.
12
بل إن الملفت أن وادي البقاع ذاته المتاخم لبعلبك كان يطلق عليه سهل نوح، وأن ملكا هو الملك الظاهر عام 1258 ميلادية أعاد بناء قبر نوح فجعله «واحدا وثلاثين مترا.»
13
فما أن بسط ابن ذي يزن سلطانه على بعلبك والبقاع أو النفوذ العربي الجنوبي اليمني، وهو ما توثقه بالفعل النقوش الحفرية الأركيولوجية التي عثر عليها علماء اللغات السامية، سواء في بلاد اليمن أو على طول الطريق التجاري الممتد من جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها، مرورا بمكة ويثرب ومدائن صالح وتيماء وتبوك ومعان ودمشق حتى أفريقيا الوسطى وبلاد الحبشة، مؤكدة تاريخية النفوذ التجاري والثقافي والسياسي اليمني على هذه الكيانات والبقاع.
لكن في الحبشة والسودان نرى السيرة تستطرد مطولا في استغلال إدانة الحاميين عبر تلك الحروب والصراعات وبحث الملك سيف عن كتاب أو منابع النيل، مستكشفا وفاتحا معتليا أمجاده التي عبر عنها وزيره الخير الحكيم يثرب:
وجللت بيت الله خزا مزركشا
يحير عيون الناظرين مرقما
وساعدتني حتى بنيت مدينتي
يهاجر فيها سيد الأرض والسما
ويظهر دين الحق شرقا ومغربا
فيا فوز ذاك العصر من كان مسلما
فإن مليكا يملك الأرض كلها
يكن حميريا تبعيا ومسلما
بدعوة نوح داعيا كل أسود
لأولاد سادة تابعين وخدما
وفي شعر الحكيم يثرب يتضح جليا بينة الدعوة للسادة العرب، على مستعبديهم الأفريقيين، أو الساميين للحاميين أبناء اللعنة.
بل إن راوي السيرة، لا يغفل أبدا عن الدعوة والتبشير بالنوحية، وكأنه دين جديد متكامل البنية يجري نشره في أفريقيا الوسطى - خاصة الحبشة.
بل إن هذا الصراع والنزاع بين الحاميين والساميين انتقل إلى مصر بعد أن كاد يكون قاصرا على الجزيرة العربية، والقارة الآسيوية، ولعل من الأسباب القوية التي نقلت هذا النزاع إلى قارتنا وخاصة إلى وادي النيل، إلى جانب الخلافات الجنسية والدينية؛ العوامل الاقتصادية، وقد أشار إليها مؤلف السيرة وعبر عنها تعبيرا لا يقل طرافه عن أحاديث الأخصائيين من رجال وزارة الأشغال، فقد ذكر في الصحيفة التاسعة عشرة من الجزء الأول، طبعة القاهرة سنة 1310ه، ما نصه:
واعلم يا ملك الزمان أن هؤلاء الحبشة والسودان لا بد أن تنفذ فيهم دعوة نوح عليه السلام؛ لأنه مجاب الدعوة بين الأنام، ولا شك في ذلك وأنهم يخافون على مجرى النيل من نزوله إلى الأرض الوطيئة خوفا أن ينزل إلى مصر فهم جاعلونه على قدر أرضهم، وإذا فاض يجعلون له تصاريف ينصرف فيها إلى الربع الخراب، وأنهم لا يعملون عملا إلا بإذن الحكماء، وهذا هو الصحيح، والأمر الرجيح، وما زال الوزير يثرب يتحدث مع الملك في مجرى النيل ووادي الأمصار وفي شأن الحبش.
ويتفق المقريزي مع مؤرخي الحبشة على أن خصومات قوية قامت بين سيف أرعد وبين المسلمين، وأن هذه الخصومات كانت سيئة جدا حتى إن مصر اضطرت إلى التدخل لوقف هذا العدوان، وكان تدخل مصر هذا إلى جانب الأسباب الأخرى؛ من العوامل التي جعلت الأمتين في سلام حينا وعداء حينا آخر، كما أن شخصية سيف أرعد أصبحت بغيضة إلى مسلمي مصر وموضعا للقصص والسخرية، وكتابة هذه السيرة التي يرجح أن التراكم الملحمي لحقها بشكل أفسد الكثير من أصولها التاريخية والتراثية.
ويبدو أن راوي السيرة خبير بمصر وجغرافيتها، لغتها وعاداتها؛ فهو يذكر لنا كثيرا من بلادها وشوارعها، وقد جاء في السيرة ذكر أسوان وإسنا، وأخميم وأسيوط، ومنفلوط، وملوي، وأهناس وحلوان، والجيزة ومصر، وحارة بين الوطاويط، وقلعة الجبل، والروضة، وبولاق، كما ذكرت كثيرا من مدن الوجه البحري كدمنهور، وفوة، وفارسكور، وإسكندرية، ورشيد، ودمياط، وسمنود.
وقبل أن نختم حديثنا عن هذه السيرة نحب أن نشير إلى ملاحظة هامة وهي تعرض هذه السيرة للإضافات المقحمة عليها أو ما يعرف بالتراكم الملحمي أو الإضافات والحذف التي اضطلع بها الرواة ونساخو السير عبر العصور، مما أفسدها تاريخ حياتها وتأريخها ذاته، وأوقع بالكثير من الباحثين والمتعاقبين على دراستها في متاهات الغموض، إن لم تكن المغالطات المتعمدة. (2) عنترة بن شداد
يحق لكثيرين من الباحثين الذين تعاقبوا على دراسة أشهر سيرة ملحمية عربية - عنترة - اعتبارها بحق «إلياذة الصحراء» ذلك أنها واحدة من عيون سير البطولة الشعبية العربية التي ما تزال أشعارها ومعلقاتها ماثلة منذ العصور الجاهلية الأولى وحتى أيامنا.
وهي أشعار البطولة ضد الأخطار ببلداننا العربية خاصة من الدولتين الكبيرتين، المصدر الدائم لهذا الخطر الداهم، وهما الدولتان الإيرانية الفارسية، والرومانية البيزنطية فيما بعد.
ومن هنا ظل هذا الخطر المحدق الجاثم على بلداننا العربية مصدر قلق شعبي دائم متصل في حقلي السير والملاحم الشعبية العربية، منها سيرة الأمير حمزة البهلوان، وعمر النعمان، وفيروز شاه، ثم عنترة بن شداد ومعلقاته الشهيرة عن حروبه ضد الفرس.
سلي يا ابنة العبسي رمحي وصارمي
وما فعلا في يوم حرب الأعاجم
لذا ما تزال أشعار عنترة ورسومه واسمه ماثلة متواترة على طول الوجدان الشعبي العربي، فالشخص القوي يدعى «عنتر» والحمل الثقيل الذي لا يقوى على حمله إلا من أوتي قوة عنترة هو حمل متعنتر، ولباس النساء الذي يبرز ثدي المرأة ويقويه سمي «عنتري»، وأكبر مقبرة عرفتها أسيوط القديمة هي «اصطبل عنتر».
فشخصية عنترة هي إذن من الشخصيات التي تغلغلت في صميم الحياة العربية، وهي الشخصية التي تتمثل فيها الرابطة السامية الحامية أجل تمثيل؛ فنحن هنا لا ندري نزاعا بين هذين الفرعين بل نلمس صفاء ومودة وسلاما، فأم عنتر «زبيبة» حامية وأبوه سامي، ويفخر بطل القصة بنسبه هذا ويقول:
يقدمه فتى من خير عبس
أبوه، وأمه من آل حام
عجوز من بني حام بن نوح
كأن جبينها حجر المقام
فهذه السيرة التي تشغل بضعة آلاف من الصفحات المتوسطة الحجم تتحدث عن نجد بن هشام، وجهينة اليماني، وأبي عبيدة، والأصمعي وسعيد بن مالك، وغيرهم؛ أهملت أسماؤهم كرواة لها، والتي حفظ لنا التاريخ منها روايات بينها شيء يسير من الفروق، ونسب إلى الأقطار الحجازية والمصرية والشامية والعراقية سجل حافل لحوادث وقعت في الجزيرة العربية والعالم الإسلامي، في الفترة بين القرنين السادس والحادي عشر الميلاديين.
ففي نجد - قلب الجزيرة العربية - سكنت في منتصف القرن السادس الميلادي بطون كثيرة من قبيلة قيس عيلان، كما نزل في المنطقة الواقعة بين مكة ويثرب والحجاز وجبال طي بنو سليم وهوزان، وشرقي هوزان نجد بني غطفان الذين حل من أفخاذهم بنو بغيض بين عبس ونبهان وكانت منازلهم الأولى الشرية الواقعة بين النقرة ومكة.
وفي ذلك الوقت الذي تتحدث فيه السيرة كان زهير بن جذيمة قد بسط سلطانه على غطفان، وما كاد يستقر له الأمر حتى نجد الغارات تلو الغارات بين العدنانيين والقحطانيين، وفي إحداها سبى العبسيون كثيرا من بني جديلة غلمانهم وجواريهم وعبيدهم وعددا كبيرا من جمالهم التي كانت ترعاها أمة حبشية تدعى «زبيبة» وهي أم بطل السيرة.
ثم بعد أن ينتهي الحديث عن العدنانيين والقحطانيين، نجد أن السيرة تنتقل بنا إلى أرض العراق إلى بلاد الحيرة؛ حيث يدور قتال بين عنترة والنعمان بن المنذر؛ وذلك لأن الفارس العبسي يريد مهر عبلة، وهو ألف من النوق العصافير التي لا توجد إلا في العراق، ثم نقرأ وصفا جميلا لبلاد العراق والعصافير والعلاقات السياسية التي كانت تربطهم بالفرس.
وكما أن السيرة وصلت نجد والعراق بمهر عبلة إذا بها توقع عنترة في الأسر ليتخذ المؤلف من ذلك قنطرة يعبر عليها إلى إيران، ومن ثم ينتقل بنا إلى الدولة البيزنطية ويبسط لنا السياسة الفارسية تجاه الدولة الرومانية الشرقية، وهو في عرضه هذا لا ينسى العرب وموقفهم من هذا النزاع القائم بين كسرى وقيصر، وهذه الخصومة التي اهتم بها حتى القرآن وأشار إليها في سورة الروم.
وفي الصحيفة الثانية والأربعين بعد المائة نرى الراوي يحدثنا عن الحرب التي قامت بين ملك الحيرة والمنذر ملك لعرب عبدة الأحجار وكسرى ملك الفرس عبدة النار، وينتصر العرب بفضل عنترة الذي سجل بطولته في قصيدته المشهورة التي مطلعها:
سلي يا ابنة العبسي رمحي وصارمي
وما فعلا في يوم حرب الأعاجم
لكن المنذر يعلم أن الفرس سيعاودون الكرة، وأدرك هو أن سلامته وسلامة بلاده تتطلب منه أن يكون جبهة قوية ضد العجم؛ أعني: لا بد وأن ينادي بوجوب تعاون العرب واتحادهم في سبيل الوقوف في وجه العدو الخارجي، وهنا نرى السيرة تحدثنا عن الدولة العربية حديثا لا يقل طرافة عن أحاديث اليوم؛ ففي الصحيفة الثامنة والأربعين بعد المائة نرى المنذر يخاطب عنترة ويقول: ولكن يا ولدي من الرأي أن أكتب إلى سائر القبائل، وأجمع العرب من الأحياء والمناهل، وأتأهب لحرب الملك كسرى؛ فإنه لا بد أن يعود إلينا ويسطو بعساكره علينا، وأول ما أرسل إلى قومك بني عبس وعدنان وفزارة ونبهان وسائر بني غطفان، ولا أزال إلى أن أقيم دولة العرب وأذل عباد النار واللهب.
لكن بينما المنذر يعمل لجمع شمل العرب إذا بعمر بن نفيلة يظهر على المسرح كوزير للمنذر ويعرض عليه خير التوسط بينه وبين كسرى لإزالة أسباب النزاع، ثم تقفز السيرة إلى القرن الحادي عشر الميلادي حيث الحروب الصليبية، وتحدثنا عن بطريق جبار وفارس من كبار الفرسان يدعى «بضرموت» الذي هو بوهيمند والذي هزم سائر فرسان إيران، ولم ينقذ كسرى منه إلا البطل العبسي عنترة، وبعد حفلات الوداع والتكريم نراه يعود إلى عبلة ومعه المهر والكثير من الهدايا لكن عمه مالك يرفض زواجه بها؛ لأن السيرة تلح في خلق خصوم لعنترة يشاطرونه حب عبلة والهيام بها وعنترة يكافح ضدهم بإخلاصه للعبسيين حين.
وفي أثناء هذا النزاع بين الفارس وقبيلته نقرأ وصفا لمعركة نشبت بين بني عامر تحت إمرة خالد بن جعفر والعبسيين بزعامة زهير بن جذيمة الذي قتل في هذه المعركة ونبا سيف ابن ورقاء عندما هوى به على خالد يريد قتله وإنقاذ والده، وإلى هذه الحادثة أشار الفرزدق معرضا بأخوال سليمان بن عبد الملك:
إن يك سيف خان أو قدر أبى
وتأخير نفس حتفها غير شاهد
فسيف بني عبس وقد ضربوا به
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
ثم تعرض السيرة للغسانيين وتتحدث عنهم وعن المسيحيين وتصل بينهم وبين نصارى نجران، ثم تصف زواج عبلة بعنترة وتنتهز هذه الفرصة وتذكر لنا حلفاء العبسيين ومنهم العدناني ومنهم القحطاني، وبعد أن تفرغ من ذلك تواصل سرد أعمال عنترة، فتخلع عليه ثوبا إسلاميا، وتنسب إليه حرب النبي ليهود خيبر ثم تنتقل بنا من قبيلة إلى أخرى حتى نرى عنترة في «بلاط قيصر الذي وهبه جارية» تسمى مريم والتي وضعت لعنترة ابنه «جوفران»، ومن المرجح أنه أحد فرسان الحروب الصليبية المسمى «جودي فروي» أوائل القرن الحادي عشر، وتختتم السيرة بالحديث عن الفتوحات الإسلامية وعن مصر وشمال أفريقيا والأندلس.
والآن بعد هذا العرض نوجه إلى أنفسنا السؤال الآتي: ما هي حقيقة السيرة؟ وأين ومتى ألفت؟ ليس من العسير الإجابة على هذا السؤال؛ فالقارئ المثقف يقرأها دون كبير عناء، وأن يخرج منها بأنها عرض موقف للقبائل العربية وعاداتها وتقليدها وحروبها في تلك الفترة التي سبقت الإسلام أو مهدت لظهوره، فهنا نرى العدنانية تنتصر على القحطانية، بل وتخالف السنن والأوضاع المعروفة عند العرب من قبل وتلحق بنسبها عنترة ابن الأمة الحبشية، تزوجه عبلة بنت مالك أحد سادة بني عبس، فتمحو بذلك الفوارق الجنسية وتحطم الحواجز القائمة بين أفراد القبيلة الواحدة.
فإن عابوا سوادي عند ذكري
وجاروا من عناد في ملامي
فلي قلب أشد من الرواسي
ولوني مثل لون المسك نام
وما أسمو بلون الجلد يوما
ولكن بالشجاعة والكلام
وغير هذه المبادئ الجنسية التي تعترف بها السيرة ويقرها الإسلام نجد فيها الشيء الكثير من عادات العرب وأخلاقهم في الحرب والسلم كما نعلم شيئا عن تقسيم الغنائم وحظ الحر وحظ العبد منها، ونقرأ بعض صيغ للقسم تدل على شيء كثير من الافتخار بالجنس العربي والخلق العربي، وكقولهم «وذمة العرب» التي استعمل الإسلام منها أو عوضا عنها وذمة الله، وإلى جانب كل هذه المعلومات يجد القارئ مئات من القصائد المنسوبة لعنترة وغيره من الشعراء الفحول وكذلك بعض المقطوعات الخاصة بالندب، والمعلقات وحتى قصيدة الأعشى والتي يقول مطلعها:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وغير الشعر نجد مناظرة لغوية بين عنترة وامرئ القيس نعرف من خلالها كثيرا من أسماء السيف والرمح والدروع والخيل والنوق والخمرة.
وأخيرا ... فلعل سيرة عنترة هذه هي أكثر سيرة تعرضا لما يعرف بالتراكم الملحمي الذي عادة ما يضاف ويلحق بالسير عبر العصور.
وليس من المتيسر عمل مجرد إلمامة لملحمة عنترة ومأثوراتها، لكثرة ما يتناثر عنها في ثنايا الأدب العربي الكلاسي، وسنكتفي هنا بإيراد هذه الفابيولات التي ساقها صاحب كتاب الأغاني:
تزوج شداد أمة حبشية سوداء يقال لها زبيبة، وكان لها ولد عبيد من غير شداد، ثم ولدت من شداد عنترة، فجاء مثلها أسود، ولقب لذلك بالغراب، وكانت شفتاه متشققتين.
ويوما حرشت
14
عليه امرأة أبيه، وزعمت أنه راودها عن نفسها، وغضب من ذلك شداد غضبا شديدا، وضرب ابنه ضربا مبرحا، وحاول ضربه بالسيف، فوقعت عليه امرأة أبيه فكفته عنه، فقال عنترة فيها قصيدة تفيض بالحنان والتذلل.
وكانت العرب في الجاهلية، إذا كان للرجل منهم ولد من أمة استعبدوه، إلا إذا أنجب،
15
فيعترفون به، وقد أغار بعض أحياء العرب على حي بني عبس قومه، فأصابوا منه واستفاقوا ليلا، فتبعهم العبسيون وقاتلوهم عما معهم وعنترة يومئذ فيهم، فقال له أبوه: «كر يا عنترة» فقال عنترة: «العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والصر»
16
فصاح أبوه: «كر وأنت حر»، فكر وهو يقول شعرا، وقاتل قتالا حسنا جعل أباه يدعيه
17
ويلحق به نسبه.
وظل عنترة فارس قومه بلا منازع، يخوض معهم المعارك ويدافع عنهم، وقد غزت بنو عبس بني تميم يوما، فانهزمت عبس وطلبتهم تميم، فوقف عنترة وحده لهم، ولحقتهم من بعد كبكبة
18
من الخيل، فحامى عنترة من الناس حتى لم يصب مدبر،
19
فعير رئيس تميم عبسا بأن الذي حماهم هو ابن سوداء، حينئذ قال عنترة:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل
لا بد أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك، لا أبا لك، واعلمي
إني امرؤ سأموت إن لم أقتل
وأسن عنترة، واحتاج، وعجز عن الغارات، وكان له على رجل من غطفان بكر،
20
فخرج يتقاضاه إياه، فهاجت عليه ريح من صيف وهو في الطريق، فأصابته وقتلته.
وما زالت الرياح تحمل أنباء بطولاته، حتى غدا رمز الفارس العربي، وحتى قال محمد
صلى الله عليه وسلم : «ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.»
21 (3) سيرة الأمير حمزة البهلوان «الملقب بحمزة العرب»
تؤرخ هذه السيرة الكبرى التي تقع في أربعة أجزاء لسلسلة متعاقبة من الحروب القارية بين العرب والفرس، امتدت منذ مطلع القرون الجاهلية على طول آسيا الصغرى.
اتسعت رقعتها فشملت الجزيرة العربية، والشام وفلسطين، ومصر، والمغرب العربي بعامة حتى طنجة، ومداخل أوروبا الجنوبية متضمنة شبه جزيرة أيبريا التي تعارف عليها العرب بالأندلس.
ومن منطلق قنوات الاتصال الحضارية التي مدخلها التنازع والحرب بين كل من العرب الساميين، ومتاخميهم الفرس الإيرانيين الآريين؛ يمكن الجزم بأن سيرة الأمير حمزة البهلوان واقعة بكاملها تحت تأثير الخصائص، محددة السمات للتراث الفارسي المجوسي،
22
بدءا - بالطبع - من أخص هذه السمات، وهي الثنائية أو الانقسامية التي موجزها انقسام العالم والإنسان إلى خير وشر مباشرين أو مطلقين، وهو ذات انقسام العالم إلى نور وظلمة، وكذا حكايات ومأثورات وأشعار ومواويل الأصيل والخسيس.
وعلى هذا فالثنائية ومأثوراتها تتبدى بكثرة كمؤثر آري فارسي من تراثنا العربي منذ بذورها الأولى من تراثهم الأسطوري الذي جاءت به «الأيفستا» أو الشرائع، ومن رحمها تواترت إلى شهنامات الفرس، وسير ملوكهم القياصرة أو الأكاسرة.
إنه ذلك الصراع الأزلي المتصل بين إله قوى الخير المطلق أهورامزدا، وخصمه ونقيضه الشرير المتآمر أهريمن أو الشيطان.
وبالنسبة لسيرتنا عن حمزة العرب، يرد ذلك الصراع المحكم التضاد بين الخير المطلق ونقيضه السالب، موجودا ماثلا على طول سيرة الأمير حمزة البهلوان، ويتمثل في وزيري كسرى أنوشروان، الذي تسوق هذه السيرة وتؤرخ لعصره.
فالوزير الأول بزر جمهر خير محب للعرب المكيين إلى حد التحالف الكلي معهم، بينما زميله وخصمه الوزير بختك شرير متآمر معاد للعرب إلى حد المقت والمذلة والتآمر المتصل الحلقات لحمزة والعرب.
بل إن الصراع القتالي الحربي بين العرب والفرس، يتبدى من موقع المعادل الموضوعي لصراع وزيري كسرى هذين على طول أحداث ومنازعات هذه السير العربية التي تحفظ لنا سيرة بطل عربي، فيما قبل الإسلام بقرون وهو حمزة، الملقب بالبهلوان، وهو لقب ملكي فارسي.
ففي فضائل ذلك الفارس المكي العربي المحرر، تتبدى أسمى القيم العربية، المتجاوزة لواقعها الرعوي الصحراوي، متناطحة مع أعتى إمبراطوريات العالم القديم، وهي الإمبراطورية الفارسية وعبر أزهى عصور تراثها المتأجج المعجز لعصر كسرى وكرسيه الذي تصفه السيرة بأنه «يجمع تسعمائة ألف نفس من العجم، ما عدا الغرباء وقيل إنه كان للملك الأكبر ألف من الحجاب يقفون بين يديه مشمرين السيوف، من حين وجوده في ديوانه لحين خروجه، فيسير بين يديه غيرهم، وعند وجوده بقصر منامته يحرس بابه ألف أيضا، وكان السرير الذي يجلس عليه من الذهب الإبريز الخالص، يبلغ ثقله عشرين قنطارا وجمع ما حواليه من الكراسي المعدة لرجال دولته ووزرائه هو من الذهب أيضا، فكان كسرى أنوشروان أغنى ملوك العالم.»
إلى أن تبدأ السيرة - على عادة ما هو متبع في شهنامات الفرس المجوس - بالحلم، حين لازم كسرى في منامه حلم واحد متكرر الإيقاع والوحدات، وموجزه «أن كسرى شعر بالجوع عظيم فقدم إليه منضدة من الذهب عليها صحن من العاج منقوش بالنقوش الفارسية به وزة كبيرة مقلية شهية ما أن قاربها حتى هجم عليه كلب هائل المنظر، كشر عن أنيابه، واختطفها وإذ بأسد يدخل عليه من الباب، يلقى الكلب ميتا ويخطف الأوزة، فيعيدها إليه دون كره ... فاستيقظت.»
وهكذا تعاقب الوزيران، بختك الذي لم يعر الأمر اهتماما يذكر، سوى أن مثل هذه الأحلام تحدث من قبيل الطعام، وبزر جمهر الذي أعطى الحلم دلالات، ذات صبغة سياسية جوهرية، ذلك أن الأوزة الشهية والمائدة الذهبية، ما هي سوى الإمبراطورية الفارسية التي سيختطفها حين يظهر فارس يهودي خيبري
23
من حصن خيبر ببرية الحجاز، يملك الكرسي ويحاصر عاصمة الملك ويطرد كسرى، إلى أن يأتي الأسد أو الفارس من برية الحجاز، والذي ليس سوى الأمير حمزة، فيستخلف الملك ويقتل العدو الخيبري.
ونظرا لحرص ذلك الوزير الخير برز جمهر على مصلحة العرب، فقد أخفى عن كسرى المغزى الحقيقي لحلمه ذاك، فالفارس الذي يظهر من الحجاز، يجيء ليرفع نير الفرس المذل وحكمهم الظالم للعرب، فيهدم معابد النيران المجوسية ويقع بينه وبين الدولة الكسروية حروب طويلة.
وعندما آنس كسرى إلى وزيرة ذاك وسأله عن مكة أجابه الوزير حليف العرب، هي البلد التي تأتي إليه العرب في كل عام، قياما بواجبات الزيارة.
وفي الحال حمل كسرى وزيره بالهدايا والجواهر؛ بحثا عن الغلام المنتظر «حمزة» وأن يعتني بتربيته، وهكذا وصل الوزير إلى مدينة تلقبها السيرة ب «الحمزة»، فخرج لملاقاته الملك النعمان مرحبا، ثم واصل سيره بحثا إلى أن وصل مكة، وكان حاكمها يسمى إبراهيم يخاف الله وعرف منه أن امرأته حامل في الشهور الأخيرة، إلى أن جاء المبشرون يبشرون الأمير بولادة زوجته، طفلا جميلا كبير الجسم، أسماه الوزير الحكيم من فوره بحمزة أو حمزة العرب.
وهكذا جاء إلى الوجود حمزة - بطل سيرتنا هذه - كطفل موعود تسبق الأحداث الجلل والنبؤات مولده، ونموه المدهش وانتصاراته المظفرة على عادة ما هو متبع مصاحب لولادة جميع الأبطال الملحميين والأسطوريين والخرافيين والمقدسين، بلا استثناء وعبر سلسلة من الرحلات والتحولات يمر البطل بمرحلة اتفق عليها الأثنوجرافيون بمرحلة قتل الأم، أو التخلي عنها في اتجاه المزيد من الذكورية التي لا بد وأن تصل به في النهاية إلى ما يعرف بالبطرقية، أو شيوخ القبائل ليصبح بدوره أمة وقبيلة، ورأس سيرة كسيرتنا الماثلة، تمتد حروبه القارية على طول غرب آسيا، ومصر والشمال الأفريقي بعامة حتى مداخل أوروبا الجنوبية.
فقد صاحب مولد حمزة، ولادة ثمانمائة غلام، أهمهم هنا هو مولد صديقه وأخيه - في الرضاعة - ومخلصه، عمر العيار، العصا التي سيتوكأ عليها الأمير حمزة عبر حروبه وفتوحاته، وكما تصفه السيرة كان وجهه صغيرا مستديرا وعيناه صغيرتان مستديرتان كأنهما الثقوب ويداه ورجلاه صغيرة دقيقة أشبه بالخيطان، وهو الذي لعب أهم الأدوار وأخطرها في رعاية حمزة ذاته وتخليصه من الأسر مرات والحفاظ على انتصاراته عبر آسيا الصغرى أو المغرب العربي، إلى أن أصبح حمزة الكسري العربي، أو حمزة ملك العرب والعجم - كما تلقبه نصوص السيرة.
وهكذا ما أن تمت مهمة وزير كسرى حليف العرب بزرجمهر بمولد الطفل المخلص المرتقب حمزة، حتى عاد إلى المدائن، عاصمة الحيرة
24
مملكة النعمان الذي رحب به، وأخبره بمولد الحمزة المرتقب منقذ العرب من جور الفرس إلى حد إبادة الدولة الكسروية وتعزيز الدولة العربية.
واهتم الوالد بالتربية الحربية لولده، حمزة، فأنشأ له مرمحا أو سوق طراد، فواصل مغامراته الحربية بصحبة تابعه عمر العيار، فشرب من ماء الحياة، من يد الخضر، وهو ذلك الماء الذي لا يعطش من شرب منه، وحين اختفى الخضر هتف حمزة أنه الغوث.
وهكذا بدأ حمزة سلطانه بمحاربة القبائل المناوئة لقبيلته المكية، ومنهم «بنو الأجدل» وساقهم كالأغنام، وعندما سمع بأن العرب وعلى رأسهم الملك النعمان بن المنذر، يدفعون الجزية إلى كسرى والأعاجم فأبادهم وشتتهم وواصل زحفه إلى الحيرة لمحاربة الملك النعمان وإرجاعه عن عبادة النار، وترك معتقدات آبائه العربية.
ومثل حمزة مثل كل الأبطال الشمسيين، جلجاميش البابلي العراقي، وشمشون الفلسطيني الذي استعارته الأساطير العبرية في عصر القضاة أو شيوخ القبائل، وكذلك الزير سالم، من حيث تعقب النساء له لمجامعته ومعرفة سره ومصدر قوته، وباتجاه هدمه لصالح قبيلتها، المريين أو الموارنة.
ذلك أن السيرة تزوجه من الأميرة الجميلة مهر دكار، وحيدة كسرى الذي أنجب منها ابنا، قطع فيما بعد رأس جده كسرى أنوشروان واعتلى عرشه.
ومن المرجح أن المخطوطة الأصلية أو الأم لهذه السيرة ما تزال إلى أيامنا محفوظة بإحدى المكتبات الألمانية، مثلها مثل سيرة عمر النعمان بمكتبة جامعة توبنجن، والسيرة الفلسطينية العريقة «الأميرة ذات الهمة» التي يفوق حجمها العشرين ألف صفحة.
فإذا ما تجاوزنا النمو المدهش المصاحب لولادة وفروسية حمزة العرب في مكة، هو وتابعه الملازم له على طول حروبه، عمر العيار؛ نجد أن العرب بدورهم كان لهم حلمهم الكبير في التخلص من جشامة كابوس الحكم الفارسي لهم.
الأمير حمزة وتابعه العيار يجمعان جيوشهما العربية
ذلك أن الأمير إبراهيم والد حمزة كان يتملكه حلم عربي كبير، بأن يجعل الفرح للعرب على أيديهم وردع ملوك الفرس وغيرهم من كبار ملوك العالم بواسطة ولده هذا حمزة الذي لا يجمع تحت رايته إلا شرذمة قليلة، وفي الحال أحضر الشبان المذكورين وكانوا لا يزالون مرادنا؛ أي لم ينبت الشعر قط بوجوههم، ودفعهم إليه فأخذهم إلى خاصته وعقد لنفسه عليهم، وجعل يمتحنهم في ميدان الحرب والطعان ويدريهم على الثبات ومن كان منهم ناقص المعرفة أثناء القتال مال إليه وعلمه ما يحتاجه حتى خرج الجميع أبطالا أشداء.
وتبدت أولى بطولات حمزة في هجومه على حاكم كسرى من العجم والامتناع عن دفع الجزية لهم.
برغم أن الأعجام كثيرة العدد أكثر من العرب وكلهم يجتمون إلى ملك واحد لا تتفرق كلمتهم ولا يقوم منهم قوم ولا قبيلة على قبيلة كما تفعل العرب الذين دأبهم على الدوام التفرق ، فيغيرون على بعضهم، ومن ذلك لا تقوم لهم قائمة لا سيما وأن ملكهم النعمان ملك العرب إنما يجاري الأعجام، فيكرم النار ويقدم لها مزيد الاعتبار، فلما سمع الأمير حمزة كلام عمر العيار لعب به الغيظ والغضب وقال لأخيه: هيا بنا نضرب هؤلاء الأعراب والأعجام ونوقعهم ونمنعهم مرة ثانية أن يعودوا إلى الإتيان إلينا ويخطر لهم أن يجبوا مالا منا لأننا أحرار لا نقبل الإذلال، وإذا أغاظ عملي هذا كسرى ملك الأعجام أو النعمان ملك العرب سرت إليهما وحاربتهما وخربت بلادهما.
وأما الأمير حمزة فإنه بقي مصرا على عزمه بالمسير إلى الحيرة ومحاربة الملك النعمان، وأعلم بذلك قومه وقال لهم كونوا على استعداد للرحيل.
وركب حمزة وخرج من مكة وركب لركوبه سائر رجاله، هم الثمانمائة فارس شبان مرادن من سنه، وسار بين يديه عمر العيار كأنه عفريت، ينطلق في ذلك البر فيغيب عن الأبصار ثم يعود بأسرع من هبوب الرياح إلى أن أبعدوا عن تلك البلاد وتبطنوا البراري والقفار والسهول والأوغار، والأمير حمزة يتمنى أن يصل إلى الحيرة ليدهمها بغتة ويوقع فيها ولا يمسك إلا الملك النعمان مسك الأيدي ويجازيه على فعله.
وعلى هذا عمل جاهدا على توحيد صفوف القبائل العربية واختيار أفضل الشباب المحاربين وتجميعهم في مواجهة الخطر الأكبر المحدق بالعرب، المبدد لقواهم وتوحدهم عن طريق عيونه من الحكام السلطويين التابعين.
حمزة يعتلي عرش الملك النعمان
وعبر طريقه إلى مملكة الحيرة، ظل الأمير حمزة يجمع الجيوش الخارجة وقطاع الطرق وأصحاب القلاع مثل أصفران الدرينذي من حوله، إلى أن تمكن من أسر «القناصة» ابنة الملك النعمان، الذي خرج لملاقاته فهزمه حمزة وفرق جنوده، وانتهى بهما الحال، إلى أن تصالحا ومن ثم تم التصالح أو التحالف بينهما في مواجهة الأعجام أو الفرس المجوس.
وما أروع وصف السيرة ذاتها للكيفية التي اقتحمت بها جيوش حمزة مدينة الحيرة عاصمة الملك النعمان بن المنذر، المتحيز للفرس ضد قومه وبني جلدته العرب.
وكان الأمير حمزة قد وصل إلى الملك النعمان وهو طالب الهرب، فانقض عليه ومسكه وسلمه عمر، وعند ذلك رجع الأمير حمزة من ساحة القتال وهو مغموس بالدم من رأسه إلى قدمه، فاغتسل ونزع ثيابه ودخل ديوان النعمان وجلس مكانه وجمع قومه، وأمر أن يؤتى بالنعمان إلى بين يديه، واندفع يشرح له أغراضه في تجميع العرب المبددين، والوقوف في وجه الفرس طلبا للتحرر إلى أن أقنعه.
خارتين اليهودي الخيبري يعتلي عرش كسرى
وبالطبع علم كسرى من وزيريه خروج وتمرد حمزة عليه.
ولم تطل الحيرة بكسرى أنوشروان، وأي القرارين يقدم عليه، رأي وزيره الشرير المعادي للعرب بختك الذي أشار بغزو مكة، أم رأي وزيره بزرجمهر صديق العرب، الذي لا يحبذ الغزو والتأديب.
إلى أن بلغ كسرى خبر اقتحام خارتين صاحب حصن خيبر اليهودي، وكيف أنه خرج بعسكره وعددها أربعمائة ألف فارس من الفرسان المنتخبين، ودخل حدود البلاد وهو يظلم وينهب ويقتل ولا يراعي حرمة أحد قط، وأنه يواصل التقدم إلى جهة المدائن؛ ليستولي عليها، ويجلس عوضا عنه على كرسي العجم ليجعل نفسه كسرى الجديد.
حمزة يخلص عرش كسرى من خارتين اليهودي
وعلى هذا دفعت الهزيمة والانكسار بكسرى أمام عدوه اليهودي الخيبري خارتين؛ لأن يرسل بوزيره حليف العرب «بزرجمهر» إلى مكة لإنقاذه من الغزاة الخيبريين اليهود بقيادة خارتين.
فخرج الوزير من فوره من طهران إلى مملكة الحيرة بالعراق، فدخل على الملك النعمان وسلم عليه، فلاقاه النعمان ورحب به وعرض عليه رسائل خارتين، وأنه يدعوه للطاعة والانقياد، وأنه يسير إليه في الحال، وأخبره كيف لم يجبه ولا التفت إلى كلامه، وأنه أخذ في أن يجمع الجيوش العربية ليسير بها إلى قتال الخيبريين، فشكره بزرجمهر وقال له: لا يجب أن تسير إلا والأمير حمزة في مقدمة الجيوش؛ لأنه هو وحده الذي عليه المعول.
ثم إن الوزير حكى للأمير إبراهيم وولده الأمير حمزة كل ما كان من أمر خارتين وكسرى، وكيف أنه استولى على عاصمة المملكة وجلس على كرسي العجم، وفي ظنه أنه يمتلك البلاد ويكون الحاكم بالعباد، وكيف أن كسرى بعثه إليه بالهدايا والتحف يرجوه المسير إلى خلاص بلاده .
وكان أن أعد حمزة الجيوش وزحف لملاقاة الخيبريين، فقتل خارتين واسترد إيوان كسرى الذي طالبه من فوره باعتلائه، ولبس تاجه إلى أن وقعت مشادة بينه وبين الوزير الشرير الحاقد، حين حاول أن ينزع عن الأمير حمزة سلاحه حين دخوله على الملك الأكبر أو ملك الملوك كسرى أنوشروان، فكان أن لكمه حمزة وداسه بحذائه، فحقد عليه بختك أكثر وأكثر.
خاصة وأن كسرى أجلسه إلى جواره على ذات كرسي عرشه، حتى إذا ما رأته ابنة كسرى «مهردكار» عشقته وراسلته طويلا طيلة إقامته وجنده في معسكراتهم خارج المدائن العاصمة، وكانت جميلة وهي لابسة ثوبا أصفر عليه عروق سوداء وعليها من الحلي والجواهر، وعلى رأسها إكليل من الزهر الأبيض فوق إكليل من الإلماس والجوهر.
حمزة العرب يفتح القسطنطينية وبلاد اليونان
وتحفل سيرة حمزة العرب بالكثير من المعلومات الوصفية لأدب الرحلات وعادات وممارسات الشعوب والأقطار التي حارب فيها العرب بقيادة حمزة، إلى أن تملكوها.
من ذلك الوصف الدقيق الرائع الذي تسجله السيرة للقسطنطينية وبلاد اليونان، والذي لا يغفل وصف المدن وتقاليد السكان، ووضع المرأة وسفورها، وآداب الحديث والمائدة، وعبارات الحب والغزل والخمر، والأعمال الفنية والطرز المعمارية.
فما أن اقتحمت الجيوش العربية القسطنطينية حتى تقدم ملكها «إسطنانوس» فاستقبلهم ورحب بهم. ويرد بالسيرة أعذب الوصف للمدينة الهلينية، حين تركوا خيولهم خارج أسوارها ودخلوها؛ لأن أسواق المدينة كانت مبلطة بالرخام الأبيض المشغول بالنقش الروماني بعروق سوداء مصنوعة على نسق جميل مما يدهش العقول، وكذلك جدران الأسواق وأغطيتها كانت مغطاة بألواح من خشب الجوز المدهون، وبين كل لوح ولوح خط أصفر ذهبي يلمع كالذهب، فداوموا السير وكلما مشوا في سوق يروا شيئا جديدا إلى أن وصلوا سراية الأحكام، فوجدوا بابها من الرخام وأعلاه من النحاس الأصفر المنقوش وعليه رسوم وتماثيل عجيبة تأخذ الأبصار لم ير النعمان ولا غيره مثلها، وعند جانبي الباب أسدان من النحاس الأصفر، كل واحد منهما بقدر الأسد الكبير، وأعينهما متجهة على الدوام إلى كل من ينظر إليهما، وبعد أن دخلوا باب السرايا نظروا هناك العجائب من كثرة التحف والتماثيل المصنوعة من عمل قدماء اليونان
25
المجلوبة.
فتح مصر وبلاد الشام وفلسطين
وعادت الجيوش المنتصرة إلى بيروت، وملكها كسروان وتحركوا إلى طرابلس، ثم صيدا، ثم عكا يجمعون الخراج لكسرى.
ذلك أن حمزة والملك النعمان بن المنذر بن ماء السماء واصلوا تقدمهم وهم يفتتحون المدن والقلاع عبر العواصم السورية والفلسطينية، لحين دخولهما مصر، وعليها ملكان عظيمان أحدهما «سكاما» والآخر «ورقة» وهما أخوان.
والملفت أن راوي السيرة لا يغفل تساؤلات حمزة، لتابعه ورفيقه الأقرب عمر العيار فما أن سأله على مشارف مصر حتى أجابه عمر بكل المعلومات التي يكون قد جمعها هو وأتباعه من العيارين، مستكشفا - على الدوام - الطريق، جامعا دقائق البلد، الذي يزحفون إليه.
ففي مصر أخبر العيار الأمير حمزة، حين سأله: أي إله يعبدون؟ فقال هم مختلفو المذاهب؛ فبعضهم يعبدون الأصنام، وبعضهم النار، والبعض الآخر العجل،
26
وما أن وصلوا إلى القاهرة، وبانت لهم وهي مزدحمة البنيان عامرة الأسوار حتى نصبوا مخيماتهم خارج القاهرة.
وفي مصر حدثت لحمزة خديعة من جانب سكاما وورقة، حين أظهرا لرسوله عمر العيار الود، إلى أن أمن لهم الأمير حمزة وقبل لقائهما، فأكرماه ورحبا به في قصورهما الهائلة الحجم وبعواميدها الرخامية وطولها وضخامتها
27
وهي مع كبرها العجيب قطعة واحدة من النقش والحفر والنتوء وكل صنعة عجيبة، حتى كاد يؤخذ عقله وأخيرا جاءوا قلعة في آخر المدينة، وهي من الحجر الأحمر الناعم، ونجحت خطتهما في أسر حمزة داخل تلك القلعة ومعه الأمير معقول البهلوان.
جرح حمزة العرب وحصار مكة
وتكثر مآزق هذه السيرة التي تروج بين خصائص وسمات التراثين المتزاوجين أو المتآخيين منذ أقدم العصور العربي السامي، والفارسي الآري، بجرح الأمير حمزة، وحصار كسرى أنوشروان للكعبة، وألاعيب عمر العيار للجيوش الشاهنشاهية بسلب مؤنها وذخائرها ومراعيها من خيول ونوق، لفك الحصار الضاري حول مكة وكعبتها.
لحين تماثل حمزة للشفاء وصراعه عبر حكاية خرافية استطرادية مع فرخ جان هائل في جبل قاف، انتهى به إلى الجنوب والعبور بفيالقه إلى الحبشة، وكسر الجيوش الفارسية، بل هو عاد فوصل بجيوشه إلى مراكش وطنجة ومداخل الأندلس وجمع قواته وطاقاته للعودة إلى منازلة الفرس وردهم حتى الحدود الإيرانية.
فمن جديد تجمعت جيوشه في حلب الشهباء لسوريا العليا، وزحفت إلى مطاردة جيوش كسرى، ومنازلتها داخل إيران وعلى حدود المدائن العاصمة، لحين إيقاع الهزيمة بها وحيازة شارة الإمبراطورية، وطوطمها المجمع ويدعى «علم بيكار لوشتهار» الذي نصبه على بابه وصيوانه.
إلى أن تمكن أحد قادة التحالف الفارسي ويعرف ب «زوربين» من إصابة
28
الأمير حمزة بحربة غادرة مسمومة، لزم الفراش إثرها، إلى أن تولى الوزير الخير صديق العرب بزرجمهر شفاءه.
إلا أن السيرة تخلي أحداثها قليلا؛ لأنه عمر اليوناني الذي جاءته الإمدادات اليونانية العسكرية لمساعدته على الصمود في وجه حصار الجيوش العربية للمدائن عاصمة الفرس المجوس، كذلك لا يغفل الوزير الشرير المعادي للعرب من تدبير المكائد والمؤامرات للنيل من عمر اليوناني وإيقاعه في الأسر، دون جدوى.
إلى أن يشفى الأمير حمزة من جروحه ويروح يواصل مغامراته، ما بين مداخل إيران أو مكة وحلب، وتحدث له حكاية جانبية استطرادية مع الجان وعوالمهم في جبال قاف مرة وأخرى مع الأسفار البحرية، ليصبح كالملاح الغريق لحين إنقاذه على يد تابعه وصفيه «عمر العيار».
إلى أن يجمع حمزة من جيوشه نحو عشرين ألف مقاتل حارب بهم الصقالبة.
ومن خضم هذه الحروب والمنازعات الجانبية، يتمكن كسرى من اختطاف ابنته «مهردكار» وأسرها هي وابنها من الأمير حمزة، لكن سرعان ما يتوصل صاحب الألاعيب عمر العيار وعيارته من إعادة إنقاذهما والعودة بهما إلى حلب.
لكن لا يفتقد الراوي على الدوام ربط مستمعه بأحداثه؛ ومنها هنا اختفاء عمر اليوناني من إحدى مخاطراته ... وافتقاده، أو افتقاد الجواد المركزي للأمير حمزة المسمى ب «اليقظان»، أو أن يتمكن ذلك الفارس الفارسي - البين أو ذو بين - من جرح عمر العيار خلال مخاطراته التجسسية، للوقوف على الاستعدادات العسكرية المستجدة الفارسية، عبر تلك الهدنة التي طالت.
ويعرج حمزة بجيوشه إلى مصر فيمضي بها سبعة أيام مواصلا فتوحاته عبر مصر العليا والصعيد إلى السودان وأفريقيا؛ بحجة البحث المضني عن جواده «أبو اليقظان»، لكن في ربوع السودان يتعرض لخديعة من جانب ملكها «مزهود صاحب التكرور» ينقذه منها كالعادة عمر العيار.
ومن جديد تتلاقى روافد الجيوش العربية في حلب الشهباء تمهيدا للزحف على فارس.
وفي الطريق يتمكن الوزير الخبيث بختك من اختطاف «قباط» بن حمزة من زوجته مهردكار، ومن جديد يعيده العيار، إلى أن يواصل قباط نموه المدهش كطفل قدري، لحين أن يعين سلطانا على الحجاز والعرب والمصريين والأحباش.
ومرة جديدة يعود الأمير حمزة إلى مصر، ويلحق به حليفة «الأندهوق» مزودا بجيوش من سرنديب الهند والتركمان والأكراد، وتجتمع مشورتهم على إرسال عمر العيار ليواصل تلصصه داخل بلاد الفرس لجمع أخبار الجند ومواقعها وأحجامها، بل وتسليحها.
حتى إذا ما زحفت الجيوش العربية وعلى رأسها الأمير حمزة، دار قتال مرير على تخوم العاصمة المدائن وتبرز فيها شرور الوزير المعادي بختك، إلى أن أصيب حمزة بجرح في رأسه أقنعهم على إثره الوزير الصالح بزرجمهر بفك الحصار وعودة حمزة الجريح وجيوشه إلى مكة.
حتى إذا ما عادوا بالفعل إلى نقطة انطلاقهم - مكة - سبقتهم الرسائل المهينة من الملك الأكبر كسرى أنوشروان سلطان سلاطين هذا الزمان، إلى الأمير قباط ابن الأمير حمزة البهلوان، يطلب الخال كسرى، من ابن ابنته مهردكار الاستسلام غير المشروط.
ذلك أن الأعجام توهموا موت حمزة الذي سرعان ما تماثل للشفاء، فازداد من جديد تصميمهم على مطاردتهم والعودة إلى حصار مكة.
إلى أن تستعيد السيرة بطلا، هو في حقيقته فارسي المنبت والجذور يدعى «رستم» يلتقي به عمر العيار، عبر جولاته التجسسية من بلد روماني يدعى قيصرية.
وعلى الفور تعرفه عمر العيار؛ فهو ابن مريم بنت الملك قيصر التي جازفت بإنقاذهم من خديعة أبيها لاغتيال حمزة وبقية الأمراء القادة العرب تحت أنقاض أكوام الملح.
إلا أن رستم هذا يجيء كمنقذ لأبيه وقومه، على ذات خصائص رستم الفارسي الذي لا يهزم.
حمزة العرب يحاصر عاصمة الفرس
وعلى نحو رتيب تواصل هذه السيرة الملحمية، التي لا يخرج موضوعها عن الدوران المتلاحق لكلا الحرب والحب، والتي تبدو محملة إن لم تكن مثقلة بخصائص وسمات التراث الفارسي الإيراني وجذوره الآرية الضراية - كما ذكرنا.
فالثنائية - التي موجزها هنا الصراع الضاري بين الأخيار والأشرار - تبدو متمثلة من ألف سيرة حمزة البهلوان حتى يائها؛ متجسدة في صراعي الوزيرين بزرجمهر حليف العرب المعادي لقومه الفرس المجوس عبدة النار ومحارقها، وبختك الشرير الذي قادته أحقاده إلى حد التآمر لاختطاف ابني كسرى، الشرير بدوره، «خرسف» والخير «فرمزتاج» لولدي حمزة العرب، رستم فرتم، وأخيه عمر اليوناني.
وفي كل محاولة يحيطها من منبتها الذكاء المتوقد لعمر العيار، إلى أن انتهت هذه المحاولات بقتل خرسف، وأحزان كسرى وتمزيقه لثيابه عليه؛ حيث كان يبكيه ليلا حين يستقدمون له رأسه على طبق من ذهب.
ولا تغفل السيرة عن رصد البطل القادم رستم ومغامراته في ربوع خوارزم وتعشقه في النساء باهرات الجمال إلى أن تمكنت إحدى الأميرات المقاتلات، التي يذكرنا ملمحها بشجاعة وفروسية النساء الأمازونيات الليبيات، وتدعى «حسانة»، وجيشها من النساء المحاربات؛ تمكنت من أسره إلى أن ينقذه العيار وأتباعه من العيارين بألاعيبهم.
وكما ذكرنا فقد اتخذت هذه الجيوش المتحالفة بقيادة الأمير حمزة، من حلب الشهباء نقطة انطلاق وتجمع باتجاه مداخل شط العرب للهجوم على إيران، ومحاصرة عاصمتها «المدائن»، ويتم ذلك بالفعل عقب سلسلة من الحروب المتقهقرة، في مواجهة، التحالف الفارسي بقيادة كسرى، ومجموعته من القادة، أهمهم «رعد المنقش» الذي كان يعود منتصرا عقب كل حرب كشقائق النعمان مما سيسيل على جسده من أنهار الدم العربي المراق.
مأساة حمزة العرب بانتحار مهردكار
ويؤرخ الجزء الرابع والأخير لهذه السيرة، التي - كما ذكرنا - تجيء كنتاج طبيعي لكل الأحداث التاريخية والوقائعية للفرس المجوس الآريين، ومتاخميهم العرب الساميين، بالإضافة - طبعا - إلى التزاوج الفكري الأقرب إلى التوحد الذي قاسمه ومحصلته هنا هو: التراث، من تقليدي كلاسيكي وشعبي فولكلوري.
ولنا - هنا - أن نتصور أن الطبعة الأخيرة من قاموس لاروس للأساطير التي قدم لها الشاعر عالم الأساطير روبرت جريفز، فإنه يورد التراث الإسلامي في أعقاب إن لم يكن في ذيل التراث الفارسي الأسطوري، وليس هنا مجال الرد على مثل هذا الادعاء والتهوين، بيد أن هدفنا هو تأكيد مدى التقارب التراثي والمزاوجة، بين العرب والعجم وهو ما تنبض به هذه السيرة، التي لا تبعد بنا كثيرا عن نمطية التراث الآسيوي بعامة، وميزبوتامي أو غرب آسيا أو آسيا الصغرى بخاصة.
أما المجلد الرابع لسيرة الأمير حمزة البهلوان يقتصر على التاريخ والسرد لأبناء حمزة وأحفاده، بديع الزمان ومخاطراته الجغرافية في الأقاليم أو بلاد الظلمات الست، منتقلا منها إلى المغامرة في عوالم المردة والجان، لحين تجدد الاشتباكات بحروب العرب مع أقوام آسيويين يعرفون بالخوند وسلطانهم الملقب ب «بهرزاد» الذي لجأ إليه كسرى أو القيصر الجديد ووزيره المتسلط بختيار المعادي للعرب.
كذلك تتعقب السيرة النمو المدهش وصبوة وفروسية الأمير قاسم، ابن رستم، مشيرة إلى العداء الضاري بين بديع الزمان وقاسم، الذي انتهى بهما إلى تحالف بديع الزمان مع ملوك الظلمات الستة لمحاربة عمه حمزة، ثم فاجعة موت رستم واغتياله في محاربته لطهماز والخوند.
ولا تغفل السيرة مواصلة النمو والتصاعد بتلك الأحزان الدفينة والمخاوف التي حلت بحمزة العرب، عقب طرده واستعدائه على زوجته مهردكار التي حارب من أجلها لحين انتحارها على عتبات عرش أبيها الإمبراطور كسرى.
وتضاف لهذه الأحزان - التي أفضت إلى الوساوس فالجنون: الموت، القتل، في ساحات الحروب الطاحنة، الذي حل بأبنائه وأحفاده، عبر زيجاته الخارجية السياسية للبلاد المفتوحة.
لذا يتبدى ذلك المحارب العربي حمزة، الذي لا تخبرنا السيرة عن مماته، بقدر ما هي تمادت في تصوير اهتزازه المقارب للجنون، سواء بالنسبة للأحداث والعلاقات من سياسية لإنسانية، والتي كثيرا ما كان ينهره عليها صديق طفولته وحارسه، الذي أصبح الوزير الأول في الهيكل الصبابى لدولته، عمر العيار، بل إن العيار كثيرا ما تخلى عنه وتركه عبر رحلات في ربوع البلدان الأسيوية المفتوحة لسنوات.
تضاعف جنون حمزة عقب إصابته في رأسه إبان منازلاته الحربية، حتى وصل به إلى حد تعشقه في غلام كان يجنح به إليه حصانه المسمى باليقظان ليداوي جروحه.
ثم يعود الراوي لينسج فابيولا حول ذلك الغلام الوسيم الملثم، وأنه هو بذاته زوجته مهردكان التي لم تمت - كما سبق أن أخبرته بهذا تلك الكائنة الخرافية «اسما بري».
إلى أن تنتهي هذه السيرة، بانتقام العنقاء من حمزة ومطاردتها له، لحين تمكن حمزة من أسر الوزير الشرير المتآمر على الدوام ضد العرب بختيار أو بختك وملك الخوند المتحالف مع الفرس، وصلبهما، ثم نصب كسرى الوريث على عرش الأكاسرة، ثم اصطحب الوزير الصديق بزرجمهر بكل التكريم، وبجنوده وعتاده وعاد إلى مكة. (4) الزير سالم الملحمة العربية الكبرى
تعد سيرة الأنساب العربية الملحمية، الزير سالم أبو ليلى المهلهل التي تؤرخ لحرب البسوس الشهيرة أو حرب الأربعين عاما؛ في موقع الإلياذة العربية بحق إن لم تفقها من حيث كلا العراقة والمواقف الأكثر صعوبة وتراجيدية.
ونطرح عبر هذه الإلمامة عن الزير سالم، عدة تساؤلات وقضايا، في محاولة لتجاوز الكثير من الدراسات أو الاجتهادات الأدبية التي تعاقبت عليها، دون فهم كاف أو إضافة ملحوظة.
من هذه القضايا: كيف أننا بإزاء سيرتين شبه مختلفتين، إحداهما فصحى - أو عربية كلاسيكية - والأخرى شعبية فولكلورية، تجيء بها الطبعات المتعددة واسعة الانتشار متواترة، ربما منذ دخول الطباعة والمطبعة بلادنا عقب الاستعمار الفرنسي؟
فالملفت أنه حتى أيامنا لم نتمكن بعد من حصر جسد هذه السيرة، ونصوصها المتعددة - من فصحى لعامية، وما داخلها من سير أسبق وأخرى لاحقة أو تالية، وكذا كل ما يتصل بشخصياتها، التبع حسان اليماني، الذي غزا سوريا ولبنان والأردن وفلسطين بألف سفينة حربية ومائة ألف مقاتل، إلى أن اغتاله بمؤامرة كليب بن ربيعة، الذي اغتاله بدوره جساس بن مره. فكانت حرب البسوس الشهيرة، التي قادها البطل الفلسطيني المنشأ بوادي بئر سبع الفلسطينية، الزير سالم أبو ليلى المهلهل، والذي ستشغل حروبه المعروفة بحرب البسوس التي امتدت أربعين سنة؛ الجسد الأعظم لهذه السيرة الملحمية الأسطورية الطوطمية.
والغريب أن الزير سالم يتبدى في النصوص والطبعات الشعبية كتجسيد للبطل الشعبي المقاتل الخارق، متحليا بكل فضائل وقيم البطل الشعبي، الذي يرفض أن يطعن من الظهر أو يتآمر، أو يغتصب أو يتسلط، حتى ولو كان الأمر متصلا بتصرف أو موقف أخلاقي إزاء حيوان، أسد جائع صادفه في بير سبع، أو إنسان ذليل، بعث به عدوه ومغتاله أخيه كليب؛ ليرقد في قبره، حتى إذا ما جاءه المهلهل، ليستشير جثمان أخيه، يتصنع صوت أخيه الملك كليب، ويطالبه بالاكتفاء ووقف القتال، وعندما يكتشف المهلهل خدعته، ويصارحه الرجل الواجف، بالخدعة وبحاجته لأكل العيش يضحك ويعفو عنه، ويعطيه حصانا ومائة دينار - مطمئنا.
ناهيك عن أشعاره ومعلقاته ومواجعه، التي وجدت صداها على طول العصور، لمستمعي السير والملاحم في الأسواق والموالد والمنتدبات الشعبية، في عصور ما قبل المعرفة بالتليفزيون ومسلسلاته الملفقة إياها.
حين ينشد راوي السيرة متوجعا:
ما تجيش بلا طب
لو وصل درهمي دينار
29
إياك تلوم المبالي يا خ
لي دي نار
قوم شد على بكر شامي
في دجى الأسحار
اسمع وهاتلي دوا يق
طب عليه جرحى
دانا جرحى حير
جميع الطب والأسحار
والملفت أن المهلهل أو الزير سالم، لم يتبد أبدا في موقف سلطوي أو متسلط، باستثناء حروبه ومنازلاته، وتجبره القبلي الانتقامي، وتعشقه الدموي بالحرب وأخذ الثأر، حتى إن الزير سالم قطع على نفسه أن «لا يهم بصلح ولا يشرب خمرا ولا يلهو بلهو ولا يحل لأمته؛ أي ما يربط أو يلأم درعه الحديدي، ولا يغتسل بماء، حتى كان جليسه يتأذى منه من رائحة صدأ الحديد.»
كل هذه المحرمات واللاءات إلى أن يحقق انتقامه، من مغتالي أخيه كليب، وقبيلته.
فكان لا ينسى القتال لومضة، حتى إنه عندما انكسر الكلبيون أو التغلبيون بقيادته ذات غزو، وأحاط بالمهلهل عقب عودته من الحرب النساء والأبناء يسألونه عن آبائهم، قال مترفعا قولته المأثورة:
ليس مثلي يخبر الناس عن
آبائهم قتلوا، وينسى القتالا
وإذا ما تجاوزنا دوره القتالي القبلي؛ نجد مواقف الزير سالم وعلاقاته عادة أقرب إلى بسطاء الناس، في كلا منبته ومنفاه الاختياري بوادي بير سبع بفلسطين، فحتى عندما توسل إليه أخوه الملك كليب، حين زاره ببير سبع وطالبه بالعوده معه إلى دمشق عاصمة ملكه المتناهي «من مكة لأرض الروم» لينصبه ملكا على العرب، رفض الزير سالم الملك وحتى بعد مصرع كليب، ظل طويلا يبكيه وينعيه في واديه الانعزالي الموحش؛ يسكر عن أحزانه، إلى أن هاجمه قومه وبنات كليب بريادة اليمامة، وانتزعوه انتزاعا من منفاه ببئر سبع، وعادوا به إلى عاصمة ملكه الجديد، دمشق.
بل وحتى عندما أجبروه، على قبول الملك والجلوس على عرش الإمبراطور اليماني التبع حسان، الذي ورثه أخوه كليب بالمؤامرة والمكيدة الطروادية؛ ظل الزير سالم كما هو فلم يغيره ملك، بل هو ظل أقرب في كل حالاته إلى بسطاء الناس، من مهانين ومضطهدين.
حقا ما أشبه هذا البطل الشعبي الفلسطيني المقاتل «المهلهل» بشعبه الذي نبت من صفوفه، في افتقاده لأرضه، وتراثه.
وتتضح ذروة مواقفه التي يخالط فيها الزهد الثوري، قيم الفارس المقاتل رمحا وكلمة حين أسلم من فوره، عرش الملك كليب، إلى ابنه «الجرو» - حالما التقى به في ساحة القتال وتعرفه - سمحا راضيا منزويا كأوديب عقب عقابه وعمائه، إلى أن اغتاله خادمه غريبا معوزا، في صعيد مصر؛ حيث دفن هناك، كأوزريس وجاء مدفنه بالعرابة المدفونة.
30
وتختلف النصوص حول موت المهلهل واندثاره على عادة الأبطال الآلهة أو المؤلهين؛ فالنصوص العامية ترى أنه اغتيل في صعيد مصر، والنصوص الكلاسيكية ترى بأن حدث موته وقع بالبحرين، وأخرى باليمامة، ورابعة بفلسطين موطنه.
كما أنه لم يعرف له قبر ولا مدفن مهيب، صيغت قبابه من الذهب الخالص والفضة كأخيه كليب ملك العرب.
ولعل الغموض والاختلاف حول موت المهلهل واختفائه، أن يمتد ليشمل مجيئه ومولده، أمذى لا نعرف عنه كثيرا في أي من منظومات هذه السيرة الملحمية ونصوصها المتعددة من شعبية لفصحى.
والمفترض هنا بالتالي أن نكون بإزاء أكثر من شخصية للمهلهل أو الزير سالم، إحداها عربية فصحى كلاسيكية، تتبدى في تراث الأدب العربي، مجهلة للزير باهتة، وفي معظم الأحيان بغيضة - إن لم تكن سالبة شريرة - حتى إن العرب لقبوه ب «الداهية»، يمارس الحرب على أنها خدعة، وكثيرا ما يقع في أسر أعدائه، مثلما حدث له في حرب «الحرث»
31
الذي حاربه مرة؛ انتقاما لابنه «البجير» الذي قتله المهلهل، ولم يكن الملك الحرث أو الحارث يعرف الزير سالم حين احتضنه غيلة وعاد به إلى قومه، أسيرا، وسأله: دلني على المهلهل. - ولي دمي. - ولك دمك. - أنا المهلهل، خدعتك والحرب خدعه.
ولما أطلقه الحرث، طالبه بأن يدله على فارس مهيب يقتله انتقاما لولده البجير، فكان أن دله على أعز أصدقائه المقربين «امرئ القيس».
فجز الحرث ناصية
32
المهلهل وأطلقه، وقصد الحرث امرأ القيس فشد عليه وقتله.
وعلى هذا النحو من الخسة، يتبدى المهلهل في أدبنا العربي الرسمي، كشخصية ميكيافيلية داهية، كثيرا ما يقع في الأسر والمهانة، وما الحرب سوى جزء من جلده الأقرع، بل تفسر النصوص والمأثورات العربية الفصحى «الوسطوية» تسمية المهلهل بأنه كان أول من «هلهل» الشعر العربي، وهو أبعد ما يكون عن شعره التراجيدي الرصين، الذي حرصنا على إيراد معظم نماذجه في هذه الدراسة عنه وعن سيرته.
وهو بالطبع ما يتعارض بالكامل مع اختفاء النصوص الشعبية الفولكلورية بشخصية الزير سالم، كبطل شعبي خارق، مكتمل الفضائل بل هو أبدع «أنموذج» للفارس المقاتل المتسق مع ما يهفو إليه ويتمثله بسطاء الناس، من مهانين ومضطهدين وواجفين.
ودون عزلة عما أسدته هذه الاتجاهات النظرية لحقول البحث الفولكلوري الأثنوجرافي، ودون عزلة أيضا عن جدلية الربط بين الماضي العربي الطموطمي الأقل ذاك، والذي تبدى كل التبدي، طافحا على الحاضر العربي الماثل، وعلى اعتبار أن الماضي يفسر الحاضر الذي ما هو سوى صورة متطورة منه «كما يشير آرثر تيلور».
فلعل ما يعوزني رصده وتسجيله هو في المحل الأول توصلي المضني إلى التعارض الكبير بين النصوص الفولكلورية للزير سالم، ونظيرتها من مأثورات الأدب العربي على طول تاريخه المغلوط بما يشير إلى أننا بإزاء اكتشاف أكثر من سيرة أو ملحمة للزير سالم أبو ليلى المهلهل، إحداها عربية أدبية كلاسيكية، والثانية شعبية فولكلورية.
ومما يعمق هذا الانقسام والتعارض، بالنسبة لشخصية المهلهل أو الزير سالم - خاصة - والمتبدي واضحا في النصوص الأم
Version
العربي الفصيح، والعامي الفولكلوري، هو أولا - وقبل كل شيء - يجيء من اختلاف موطن وجغرافية هذه السيرة الملحمة الزير سالم؛ أي مجرى الأحداث ومسرحها، حيث تجري في النصوص العربية الكلاسيكية، في مكة وما حولها، وبشكل محدود - متقوقع - بدوي قبائلي هزيل.
بينما تتخذ النصوص الفولكلورية من بئر سبع بفلسطين موطنا ومنفى للزير سالم، يتسع ليشمل سهول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومكة، أما مركز أحداث هذه السيرة وعاصمتها فهي دمشق؛ حيث تجري حروب قبائلية، قارية، لمئات الألوف من المتقاتلين، وحصار بحري قوامه ألف سفينة، يتقدمها تبع أو إمبراطور يمني غازي.
ومن هنا يمكن طرح التساؤلات على النحو التالي، هل نحن إزاء سيرة واحدة، أم سيرتين، إحداهما للمهلهل - نرجح أنها الفصحى - تجري أحداثها بين عرب الشمال الجاهليين، والثانية فولكلورية للبطل البئر سبعي الفلسطيني المنتقم لمصرع أخيه الملك كليب، تجري أحداثها ما بين الشام ولبنان وفلسطين، ولا بأس من أن تمتد الأحداث الرافدية الجانبية لتشمل مكة وما حولها؟
وإذا ما عرفنا أن «المبكى» أو الضريح للملك المغتال كليب، يشير مباشرة إلى أنه سلف أو هو شارة سلفية، للقبائل «الكلبية»
33
التي عرفت منذ ما قبل الألف الثانية قبل الميلاد
34
بشعوب البحر أو الشعوب البحرية، الذين تعرف إليهم الأنثروبولوجيون، حين وصلت هجراتهم وغزواتهم إلى إنجلترا وأيرلنده، ومعظم دول الشمال الأوروبي، منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد - 4 آلاف عام - وهم من لقبهم اليونان فيما بعد بالفينيقيين أقدم شعوب العالم القديم البحرية اقتحاما للبحار والمحيطات، من سوريين وفلسطينيين، والآخرين - كما يقول جريفز
35
وهم الفلسطينيون، هم بذاتهم الذين أسروا القبائل الإسرائيلية في عبرون
36
وجودا أو اليهودية بالضفة الغربية، وكانوا يضمون داخل تحالفهم القبلي عشائر أدومية
37
من أردنيين وسوريين، المعروفين بالكلبيين.
وظل الإسرائيليون في أسرهم لمدة مائتي عام، وهو ما يعرفه التراث العربي بالأسر الفلسطيني الأول، إلى أن تحرر الإسرائيليون، بعد أن اكتسبوا الجانب الأعظم من الدين والتراث الفلسطيني، ومنه بالقطع هذه السيرة الملحمية، التي تشير بعض حلقاتها إلى فابيولات شمشون ودليلة، والكثير من الفابيولات والمأثورات العبرية المغتصبة مثلها مثل الوطن.
ويلاحظ أن هذه القبائل العربية المتحالفة منذ 4 آلاف عام تحت اسم أو شعار طوطمي - كالب
Caleb ، ظلوا يحتفظون بتسميتهم هذه «الكلبية» حتى أواخر الدولة الأموية ، التي كانت تسمى بالدولة الأموية الكلبية.
فلعلنا بإزاء ملحمة فلسطينية موغلة في القدم، بطلها الزير سالم أو سلم، الذي يشير اسمه إلى تسمية القدس أو أورشاليم «سالم» أو مدينة سالم، كما أنه نبت وتربى في وادي بير سبع، أو بئر سبع، قبل تواجدها التاريخي الفلسطيني الحالي، واتخذها - كما ستخبرنا السيرة - موطنا ومنفى.
ولعلها دراسة يجيء توقيتها من مواجهة الادعاءات الصهيونية الملفقة حول التهويد، وتغيير المعالم الفلسطينية العربية داخل الأرض المحتلة، تضفيها وتضيفها هذه السيرة الفلسطينية شديدة القدم والعراقة، والتي لم تسلم أيضا من عبث وتلفيق النساخ اليهود من القرون الوسطى بها فالزير سالم أبو ليلى المهلهل - والتي تشمل رقعة أحداثها المركزية فلسطين والأردن وسوريا ولبنان؛ من حيث المنبت الجغرافي الذي على أرضه وموطنه - تندلع أحداثها وسيرة حروبها فيما بين فلسطين ودمشق وبيروت والبقاع، ودون إيغال - بالطبع - لبعض الأحداث الجانبية في الجزيرة العربية، بكامل أوطانها وكياناتها، بدءا من عدن، وحضرموت، والبحرين، وانتهاء بمكة والطائف.
بالإضافة إلى هذه السيرة أو الملحمة «الزير سالم» والتي حفظت بالتدوين - ربما للمرة الأولى - بإحدى طبعات الصنادقية الشعبية بالقاهرة في القرن الماضي بعد أن اندثر وتلاشى الجسد الشفهي الإنشادي الموسيقي الأعظم منها، هذه السيرة تؤرخ لهجرات وحروب ومنازعات قبائلية عربية حقيقية، مركزها الجوهري هنا، هو أرض فلسطين وشعبها العربي منذ عصور موغلة في القدم؛ فالزير سالم - ذلك البطل العربي الفاتح - قد يكون هو منشئ مدينته التي أعطاها اسمه أورشاليم أو ساليم سالم - كما ذكرنا.
برغم أنه كان قد اتخذ من دمشق عاصمة لدولته، بل إمبراطوريته العربية المتوحدة، أو تلك التي كان يجاهد في توحيدها بحد السيف والحرب منذ حوالي 4 آلاف عام - كما سيتضح.
فساحة أحداث هذه السيرة الكبرى - إذن - تبدأ من اليمن، بمجيء التبع حسان اليماني، أو الملك حسان، ويكنى بالتبع اليماني، وتصفه الملحمة بأنه كان أول اليمنية القحطانيين، وهم ملوك دول حمير وسبأ وذي ريدان وكهلان وقتيان حضرموت ومعين، والدولة الأخيرة امتد سلطانها حتى شواطئ البحر المتوسط والخليج الفارسي وبحر العرب، بالإضافة إلى الجزيرة العربية بكاملها .
وترجع أولى ممالك وحضارات العرب الجنوبيين القحطانيين اليمنيين إلى منتصف القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، وبالتحديد 2350ق.م.
وفي سلسلة
38
النسب السامي، يتبدى قحطان أخا لعابر «ولعابر ولد ابنان
39
اسم الواحد فالح؛ لأن في أيامه قسمت الأرض، واسم أخيه يقطان.»
ويقطان هو قحطان أبو القحطانيين، ومنذ جاء العرب القحطانيون الجنوبيون سكان اليمن كما أنه أبو العرب العاربة،
40
وابنه يعرب بن قحطان «أول من تكلم العربية»، ومن نسله جاء ملوك سبأ، وكان أولهم الملك عبد شمس بن سبأ، الذي سمي سبأ لأنه كان يسبي أعدائه، وبحسب ما يشير به نسابة العرب، فإن من نسل سبأ انحدر ملوك حمير وكهلان.
فمن حمير ملوك بني قضاعة، وبني كلب بن مرة، وهم الكلبيون أو التغلبيون، سكان الثغور الفلسطينيين، والذي ينتمي إليهم بطلا سيرتنا، كليب وأخوه المنتقم لاغتياله الزير سالم.
أما من كهلان فقد انحدرت سبعة بطون، تضخمت إلى قبائل وحضارات كبيرة فيما بعد، وهم طيئ ومذحج وهمدان وكندة، ومراد، وأنمار، وكذلك انحدرت منهم قبيلتا الأوس والخزرج، ملوك يثرب، ومنهم أيضا انحدرت قبائل خزاعة، سدنة أو كهنة الكعبة فيما قبل الإسلام.
فقبل أن نستطرد في التعريف بهذه السيرة العربية، التي تؤرخ لحروب وهجرات قبائلية، قادها التبع حسان اليماني؛ من المفيد التعرض بالتعريف للصراع الأزلي القبلي، بين كلا عرب الجنوب القحطانيين اليمنيين، ومنازعيهم العدنانيين القيسيين، ومنزلهم الشام والحجاز ونجد والعراق، وهم بدورهم ينقسمون إلى فرعين عظيمين هما، بنو ربيعة، وفارسهم هنا هو بطل سيرتنا هذه الزير سالم «أبو ليلى المهلهل بن ربيعة» ويعرفون أيضا بالتغلبيين أو بني تغلب، أما الفرع الثاني فهو بنو مرة؛ أي بكر، وكلاهما يمتد نسبه إلى وائل، فهم - إذن - أبناؤه، أو أن الملك ربيعة كان أخا للأميرة مرة، كما يذكر راوي السيرة وتحفظ لنا السيرة بدورها.
قال الراوي: «وكان ربيعة في ذلك الزمان من كبار أمراء العربان وكان أخوه مرة من الأمراء والأعيان، وكانت منازلهم في أطراف بلاد الشام، وكانا يحكمان على قبيلتين من العرب هما بكر وتغلب، وولد لربيعة خمسة أولاد مثل الأقمار، وهم: كليب، الأسد الكرار، وسالم، البطل الشهير الملقب بالزير، وعدي ودرعان، وغيرهم من الشجعان.
كما كان لربيعة بنت جميلة الطباع تعارك الأسود والسباع، اسمها أسمى وتلقب بضباع.
وأما أخوه الأمير مرة فله بدوره عدة أبناء شجعان منهم: همام وسلطان وجساس، وبنت نبيلة يقال لها «الجليلة»، وكعادة الزواج القبائلي المتبادل بين أبناء العمومة، تزوج الأمير كليب الجليلة وتزوج الأمير همام بأخته «الضباع».
إلى أن يقع الغزو عن طريق الحصار البحري الذي قاده التبع حسان اليماني لساحل الشام ولبنان وفلسطين على غرار الحصار الطروادي، إلى أن فتحها منصبا نفسه بتجبر كمستبد عادل، والذي تنسب له الملحمة أنه كان شديد البأس، مهيب القامة، لا يعرف الحلال من الحرام، لا يحفظ العهد والذمام، وكان يحب النساء الملاح، والمزاح، وفي كل ليلة يتزوج بصبية من أبناء الملوك، ويشرب المدام في الليل والنهار.
وذات يوم سأل وزيره «نبهان»، هل يوجد من هو أعظم مني على الأرض؟ فأجابه الوزير: «يوجد خارج البحار عرب من أهل الشجاعة، يقال لهم بنو قيس، وهم من أولاد مضر، وديارهم بالشام وفلسطين.»
فما أن سمع الملك حسان أن للأميرة مرة - واليه على بيروت والبقاع - بنتا فاضلة جميلة تدعى الجليلة، مخطوبة لابن عمها كليب بن ربيعة الذي سبق له؛ أي الملك حسان قتل والده الملك ربيعة؛ حتى رغب في الزواج منها.
وهنا أسقط في يد الحبيب - أو الخطيب - القيس «كليب»، إلى أن نصحه أحد الكهان «العابد نعمان» أن يلجأ إلى الحيلة والاغتيال، فيتظاهر بالرضا متخفيا في زي مهرج أو بهلول الأمير جليلة، حتى ينفذ إلى القصر برفقة مائة فارس مختبئين داخل صناديق جهازها وكنوزها، فجعل بكل صندوق طابقين، طابق يحتوي كنوز الجليلة أو الزوجة - المخطوفة أو المغتصبة - وطابق اختفى فيه فارس شجاع بكامل سلاحه وعدته.»
41
ونفذ كليب بن مرة كل هذا باتفاق الجليلة وقبيلتها وأبيها، بالطبع، بما يعني استعدادهم - المتآمر - لاغتيال وقتال التبع، على المستوى القومي، في كل من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين. «وهكذا أعطى الكاهن نعمان، أو عمران، سيفا خشبيا لكليب، وتقلد هو بسيفه الفعلي تحت ملابسه، وأرخى له سوالف طوالا من أذناب الكبش والبغال، وركب قطعة قصب، وحمل دبوسا من خشب، ولبس فروا من جلود الثعالب والذئاب، ومضى يقود زمام قافلة الجليلة أمام فرسان القبيلة، وعندما تساءل وزير الملك حسان، المسمى نبهان عنه، أجابوه بأنه مهرج الجليلة بنت مرة، واسمه قشمر بن غره.»
وهكذا تنكر الأمير «كليب» الذي يشير اسمه، وكذا موطنه، إلى أنه كان كلبيا؛ أي منتم - طوطميا - إلى قبائل كالب، ونجح بمساعدة الجليلة في اغتيال التبع الغازي وأصبح بدوره التبع الجديد، وتسمى بكليب «ملك العرب والعجم».
وباغتيال الملك حسان، ليلة عرسه داخل مخدعه، تكون قد انقضت الحلقة التمهيدية، لملحمتنا، والتي هي في موقع ملحمة أو سيرة مستقلة، نلحقها هنا في نهايتها، مجسدة في مصرع الملك التبع المتجبر، مختطف الزوجة أو الخطيبة، والحمى أو الوطن؛ حسان اليماني، بما يوحده من جانب بجو أو مناخ شبيه بالإلياذة الهومرية واغتصاب باريس الطروادي هيلانة الإغريقية زوجة منيلاوس، كذلك يتوحد بأجاممنون عقب عودته منتصرا من حرب طروادة لتتلقاه زوجته كليتمنستر، وعشيقها إيجست، بغزوة أخرى داخل مخدعه، ويصرعاه داخل حمامه، عبر احتفالات العرس الدامي، بعودة ملك الملوك الفاتح المنتصر.
كما أن الأمر لا يبعد بنا كثيرا عن محصلة الأساطير الفلسطينية والعبرية للإله - الشمس - شمشون الذي خدعته دليلة الفلسطينية، داخل مخدعها ليلة عرسه بمساعدة شيوخ قبيلتها، وعرفت سره وصرعته.
والاشتقاق اللغوي بين اسم دليلة وجليلة أو الجليلة، قد يسهم في الإيضاح، بالإضافة طبعا للتوحد المكاني؛ حيث إن كلتيهما عربية فلسطينية.
بل إن الملك التبع حسان، يمكن توحده، مع فرعون إبراهيم مختطف سارة زوجته «وابنة عمه وأخته في الرضاعة»،
42
حين دخل الخليل إبراهيم مصر ووشي بحسن سارة امرأته إلى فرعون، فسأل إبراهيم عنها، فقال: هي أختي من أبي لا من أمي، ولم يكذب في قوله، فاختارها فرعون لنفسه مختليا، حتى حقق أنها زوجته، فاستبشع كبيرة الكبائر هذه، اختطاف الزوجة، التي أدانها العالم القديم. وردها إليه مع هدايا كثيرة، من جملتها هاجر المصرية جارية سارة، التي من رحمها جاء إسماعيل، وابنه قيدار أبو العرب .
ويبدو أن رذيلة خطف الزوجة واغتصابها «كالأرض أو الوطن» كانت كبيرة الكبائر فيما أدانها العالم القديم، فكانت السبب الرئيسي لحرب طروادة التي استمرت عشر سنوات متصلة، حين أقدم باريس الطروادي على اختطاف هلينا زوجة البطل الإغريقي منيلاوس - كما ذكرنا منذ سطور.
كذلك يلاحظ أنه في حالة ملحمتنا، حين اختطف الملك التبع حسان اليماني أو هو اغتصب الجليلة بنت مرة من خطيبها القيسي الأمير كليب، تمهيدا لاندلاع حرب البسوس، التي هي موضوع هذه الملحمة والتي امتدت أربعين عاما، كما تذكر هذه الملحمة؛ الذي يرجح أنها فلسطينية عربية من حيث إن ساحات أحداثها ومعاركها الحربية الكبري تدور في «بير السباع» أو«بير سبع» أي بيت شيبا أو بيت سبأ (2 صموئيل 12 / 24) بالإضافة إلى يافا وحيفا، والكثير من المدن والمعالم الفلسطينية، ومثل «النهى» والذنيب أو «الذنائب»، كما يذكر الزير سالم في شعره:
ولقد شفيت النفس من سرواتهم
بالسيف في يوم الذنيب الأغبس
كما أن من هذه المعالم والأماكن الفلسطينية ما يعرف برملات «حزازي» و«الرغام» و«ماء فضة» و«التحالق» ووادي الشعاب، بالإضافة إلى أحداثها المركزية المصاحبة لبطلها: الزير سالم أو ساليم أو سلم، وعلاقته بالمدينة المقدسة من جانب، ومن جانب مكمل «لجغرافية» مركز أحداثها المركزية، المصاحبة لبطلها المحوري الزير سالم أو المهلهل، ما بين دمشق الشام، إلى بير سبع فلسطين وحيفا، بل والقدس ذاتها، حين حارب الزير سالم معتليا أسوارها، دفاعا عنها.
بل تحتفظ هذه الملحمة السيرة، للزير سالم بأنه هو الذي أنشأ أو عمر مدينة بئر سبع، أو بير سبع، حين اتخذها موطنه ومنفاه عبر صراعاته مع زوجة أخيه الجليلة بنت مرة.
لحين مجيء أخت التبع المغتال حسان محملة بالانتقام وزرع الفتنة بين قبيلتي بني مرة والكالبيين التغلبيين، إلى أن حققت البسوس «المتعددة الأسماء» انتقامها الدامي عبر إشعارها ومونباتها بتحريض البكريين من بني مرة - وفارسهم هنا هو الأمير جساس والي بيروت والبقاع - ضد رأس التغلبيين كليب «هذا الباغي الذي حرم عليكم الماء والكلاء.»
إلى أن اغتال جساس صهره وزوج أخته الجليلة الملك كليب بوادي الحصا والجندب.
وهنا يجيء دور الأخ الأصغر الزير سالم في الانتقام منه لأخيه، مواصلا حروبه الانتقامية التي تمتد لأربعين عاما، منشدا مرثيته الكبرى:
كليب لا خير في الدنيا ومن فيها
إن أنت خليتها في من يخليها
وقال:
ليس مثلي يخبر الناس عن
آبائهم قتلوا وينسى القتالا
وواضح - إذن - أننا بإزاء «أشلاء» ملحمة فلسطينية موغلة في القدم، قد يرجع العمر التخميني لها إلى ما قبل الأسطورة المصاحبة لإبراهيم وابنه إسماعيل وبناء الكعبة؛ ذلك أن بلدة بئر السبع الفلسطينية ترتبط - للمرة الأولى - بنزول هذه القبائل العبرية إلى فلسطين، وزيارة إبراهيم لأهلها، وحفره لبئرها، حين أشهد «أبا مالك الفلسطيني على أنه هو الذي حفرها» سبع نعاج تأخذ من يدي؛ لكي تكون لي شهادة بأني حفرت هذه البئر، ودعى الموضع بئر سبع، بل وكما ذكرنا فإن بئر سبع هذه كانت منفى إسماعيل وأمه هاجر، وليست مكة، حين أعطاها إبراهيم قربة ماء، فمضت وتاهت في برية بئر سبع، إلى أن كبر إسماعيل وسكن في برية فاران؛ أي مكة.
بينما يستشف من هذه الملحمة أن بئر سبع وواديها كانت موحشة مهجورة غير مأهولة بالسكان حين نزلها الخليل إبراهيم وحفر بئرها، كمكة قبل أن ينزلها إسماعيل ويتخذها مأوى ومسكنا، ويصبح أمة وتنبع له بئر زمزم، بالمقابل.
وإذا ما عرفنا أن هجرة قبائل إبراهيم إلى فلسطين، وارتباطه بزيارة بئر سبع، ترجع إلى مطلع الألف الثانية قبل الميلاد؛ يصبح عمر ملحمتنا هذه «الزير سالم» ما قبل أربعة آلاف عام، وعلى أقل افتراض عمر بطلها الزير سالم ذاته «الإله» المحلي لبئر سبع.
يرجح هذا أن لقب «الزير» - الملكي - لا يرد بكثرة إلا في حالتين على طول التاريخ العربي سواء العلمي الأركيولوجي الحفري، أو الأسطوري الفولكلوري، الحالة الأولى باكتشاف ملوك ما قبل التاريخ المصري الفرعوني، الذين تسموا ب «زير» في تاسا والبداري؛ أي ما قبل الألف الرابع ق.م كما يذكر عالم ما قبل التاريخ الماركسي، جوردن تشايلد.
والحالة الثانية في السير والملاحم والفولكلور العربي بعامة، هي حالة بطلنا هذا الفلسطيني سالم، الذي لقب «بالزير» سالم، يضاف إلى هذا أن «ملوك» بني الزيري بالأندلس، يرجح أنهم فلسطينيون بأكثر منهم أنباط أردنيون أو فينيقيون لبنانيين.
بالإضافة إلى سند أو استشهاد أخير، يتصل بتسمية «كليب» الملقب الأخ - الملك - الأكبر، الذي رزق إلى جانب بناته السبع ومنهن يمامة أو اليمامة التي أصبحت مدنا ومأثورات بدورها - كما سيرد - بابن ذكر من زوجته الجليلة أسماه «الجرو» أو العجرس؛ أي كلب الصيد، فكليب هذا يشير اسمه الطوطمي إلى العشائر الفلسطينية الموغلة في القدم التي غزت إنجلترا وأيرلندة مهاجرة، منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد كشعوب بحرية، واستوطنتها وخلفت فيها تراثها هذا الأسطوري الذي يستدل به على أيامنا.
وأسوق هذا الاستناد للشاعر الأنثروبولوجي، عالم الأساطير المقارنة الذي يعيش اليوم بجزيرة ماريوكا الإسبانية، عن كتابه «الإلهة القمرية» حيث يقول: «أنا لست إسرائيليا إنجليزيا بل إن قراءاتي وأبحاثي أوصلتني إلى أن ما يعرف بشعوب البحر هذه وصلت إنجلترا وأيرلندا في الألف الثانية قبل الميلاد، فأنشئوا قنوات بحرية وتجارية، وبعضهم وصل عن طريق غرب أفريقيا وإسبانيا، وهم الفينيقيون البحريون من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، والبحارة الفلسطينيون هم الذين أسروا القبائل الإسرائيلية في عبرون
43
وجودا - الضفة الغربية - من العشائر الأدومية من أردنيين وسوريين، وكان أولئك الفلسطينيون يعرفون بالكلبيين، وظل الإسرائيليون في أسرهم، إلى أن تحرروا بعد أن اكتسبوا من أسريهم - الفلسطينيين - الجانب الأعظم من الدين والتراث الفلسطيني.»
44
مع ملاحظة أننا هنا بإزاء محاولة البحث في افتراض عمر - تخميني - لهذه السيرة الملحمية العربية الفلسطينية، الذي يصاحب بطلها إنشاء مدينة بير سبع، كما هو الحال مع جلجاميش ومدينته أو مديريته بالعراق، وإسماعيل ومكة، وكذا - الملوك - الآلهة الشمسيين الأسد
Lion
مثل هرقل، والبطل الأسطوري الأيرلندي «ليولياو» الذي من اسمه - الأسد - تسمت عديد من المدن الأوروبية
lion, layen, leden
وهي كلمة سومرية في أصلها.
وليولياو معناها ابن الأسد، وكان يصور على هيئة أسد شاهر الذراع، ممسكا في حالات أخرى بالسيف، تطالعنا صورة في الرسوم الحفائرية والوشم، وتشير يده الممدودة كإله شمس إلى أنه ذا يد أو ذراع طولى، إزاء أعدائه.
ويلاحظ أن في الفصول القادمة لملحمتنا هذه، أنه حين يجيء الرسل، للزير سالم بقصره ومنفاه في بئر سبر - وهو ثمل - بخبر اغتيال الأمير جساس بن مرة لأخيه الأكبر كليب، هو أنه لن يصدق قائلا: «يد جساس أقصر من أن تطول كليب»، بما يشير إلى أننا إزاء إله شمسي ذي يد طولى.
فما من إله شمس، رغم أن حيوانه المقدس هو الأسد، لم يقتل الأسد، هو قل أن قتل الأسد، وجلجاميش، وإله الشمس الأشوري سامسون، أو شمشون الفلسطيني، قتل الأسد، يضاف إليهم الزير سالم.
فكما يشير جريفز، فإن شمشون كان - في منشئه المبكر - إله الشمس الفلسطيني، لكنه دخل - وأسطورته - الجسد الديني الأسطوري العبري، في العصور المتأخرة، «القضاة»، وهي أسفار دونت متأخرا جدا، فتبدى فيها كبطل إسرائيل، في مواجهة دليلة الفلسطينية،
45
بل هو ظل منتميا إلى قبيلة دليلة الفلسطينية بعد الزواج، و«دان» هو اسم قبيلته الفلسطينية ويلاحظ أن قبيلة «دان» هذه الفلسطينية، هي ما انحدر منها ملوك دانية أو الدانيين بالأندلس، منذ ما قبل الفتح العربي للأندلس، وحتى القرن الحادي عشر الميلادي.
والملفت أن «فابيولات» شمشون المدونة بسفر القضاة، ترد أيضا في فترة أسر الفلسطينيين للإسرائيليين، حين عملوا الشر فدفعهم «الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة» (قضاة 13) فولد شمشون لامرأة عاقر، وأب اسمه منوح، زارها كالعادة ملاك الرب فولدت ابنا ودعت اسمه شمشون، وابتدأ ملاك الرب يحركه في محلة «دان» الفلسطينية، بين صرعة وأشتاول، إلى أن نزل تمنة ورأى امرأة في تمنة من بنات الفلسطينيين فأراد أن يتزوجها «وفي ذلك الوقت كان الفلسطينيون متسلطين على إسرائيل.»
ومع ملاحظة أن الحزورة والأحجية، التي كان شمشون يطلقها، خصيصة فولكلورية عربية، بأكثر منها عبرية، ولعل أهمها حزر أو فزورة، قتل شمشون للأسد، حين شقه كشق الجدي وليس في يده شيء، بنفس ما فعل الزير سالم، حين قتل الأسد بيديه العاريتين؛ وذلك حين طالبته الجليلة بإحضار «لبن السباع» فكان أن طلب سيفا ينازل به الأسد، فطلب الملك كليب بدوره من زوجته، إعطاءه سيفه، فكان أن سخرت منه الجليلة، فكان أن اندفع الزير سالم منازلا الأسد بيديه العاريتين إلى أن صرعه.
بل إن في «أحبولة» قتاله مع الأسد وأسرته، وتعرفه على اللبؤة وحلب لبنها في حق رجع به إلى زوجة أخيه الجليلة لكي تحبل؛ ما يقرب بنا من فزورة شمشون.
وكيف وجد شمشون عسل النحل داخل جيفة الأسد، فأكل منه «من الأكل خرج أكل ومن الحافي خرجت حلاوة.»
فتوحد الزير سالم بشمشون، يرجح أن الزير سالم هو الأصل المبكر جدا، الذي عدل أو حور في سفر قضاة (13، 14، 15، 16، 17) لفابيولات شمشون وجليلة.
من ذاك أن كلا منهما تسلطت عليه امرأة - فلسطينية - شمشون دليلة الفلسطينية التي التقى بها عقب سلسلة من المغامرات الغرامية مع عدة نساء فلسطينيات في تمنة ووادي سورق وغزة.
بما يشير إلى أنه كان «زير» نساء بدوره، مثل زيرنا، ومن أحد جوانبه وزواياه.
كما أن كليهما تسلطت عليه وطاردته امرأة؛ بهدف استنزافه وهدمه وقتله، دليلة الفلسطينية مع شمشون، وجليلة العربية مع الزير سالم.
يضاف إلى هذا: ارتباط كليهما «شمشون والزير سالم» بهزيمة أعدائه بفك حمار، وهو ما حدث لشمشون حين هزم أعداءه بلحي الحمار، الذي حين فرغ رمي به، فسمي المكان «رمت لحي»، والزير سالم مع سبوعة الصريعة في بير سبع، الذي حين نزل إلى بئرها تاركا حماره على بابها، وما أن نهق الحمار حتى استيقظ سبع كان نائما، ورفض الزير قتله، فقتل حماره فكان أن صرع الأسد المعتدي بلحي الحمار، وظل يحارب الأسود طلبا لثأر حماره، وكان كلما قتل واحدا صرخ متهكما «يالثارات الحمار».
من هنا يرجح أن بطلنا الأسطوري الفلسطيني هذا، الزير سالم هو الأنموذج الأمثل، الذي استعارته الأساطير العبرية، زمن الأسر الفلسطيني «الثاني» للإسرائيليين، ودون نصه متأخرا جدا في عصر القضاة، أو شيوخ القبائل، ومنه تواترت فابيولات شمشون ودليلة، والعديد من الموتيفات الأسطورية العبرية.
كذلك يلاحظ بالنسبة للعلاقة بين تسمية الزير سالم - أو سلم - وبين تسمية القدس - أورشليم - أن التسمية تشمل أهم الوديان والمعالم الطبيعية المحيطة بالقدس، وترد في تاريخ المؤرخ اليهودي «يوسيفوس » باسم سلوام
Silcam ، وفي بعض النصوص الشعبية لهذه السيرة يرد أن الزير سالم بعد أن خرج من أرض كنعان سار وحده إلى مرج بني عامر أو قبائل بني عامر الهلالية التي ينسب لها هلال بن عامر رأس بني هلال، وسيرتهم.
وذلك عقب اعتكافه ببئر سبع، بل إن الزير انتسب إلى هذه القبائل ومرجها القريب - نسبيا - من مدينة حيفا الساحلية التي نزلها عقب أسره أو حروبه الغامضة مع حكمون اليهودي.
خلاصة القول أننا بصدد سيرة ملحمية، لمقاتل شاعر فلسطيني المنبت والمنفى - بئر سبع - تتسم أجواؤها وأحداثها بطابع فينيقي بحري؛ حيث نرى كلا القيسيين بن مرة، والكلبيين - الحميريين - بني ربيعة؛ يقيمون ويتربصون ويتجسسون على شاطئ البحر المتوسط؛ حيث المدن الفسلطينية، حيفا، ويافا، وبئر سبع.
يقول القلقشندي:
46
ومن بني عامر بن صعصعة، بنو كلاب، وهم بنو كلاب بن عامر بن صعصعة، وكان لهم في الإسلام دولة باليمامة، وكانت ديارهم حمى ضربة وهي حمى كليب حمى الربذة في جهات المدينة النبوية، وفدك والعوالي، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى الشام، فكان لهم في الجزير الفراتة، صيت، وملكوا حلب ونواحيها وكثيرا من مدن الشام»، ثم يذكر القلقشندي بعد ذلك «أنهم ينتسبون إلى عبد الوهاب بن بخت، المذكور في سير البطل،
47
وأنه كانت لهم غارات عظيمة على بلاد الروم، وأن بنات الروم وأبناءهم كانوا يباعون في سباياهم.
ولعل هذه السيرة الملحمية الزير سالم، أن تقودنا إلى فاتحة - إعادة - التعرف على الجسد الأهم للتراث الفولكلوري والأسطوري الفلسطيني الذي يستحوذ جانبه الملحمي خاصة، على عيون الأعمال الكبرى العربية من سير وملاحم، عمت فأصبحت مع توالي العصور تراثا عاما للأمة العربية.
ويلاحظ هنا دور ذلك التراث الفلسطيني الأبعد رؤية - كطليعة بحرية - في التبصر بالأخطار الضارية دوما والمحدقة بمنطقتنا الشرق الأدنى القديم أو الأوسط المعاصر، أو أمتنا العربية منذ أقدم العصور، سواء في هذه السيرة - الزير سالم - أو في سيرة الأميرة ذات الهمة،
48
وهي أيضا سيرة فلسطينية تتصدى للأخطار الخارجية التي تصدى لها الكالبيين الفلسطينيين.
وتسموا بالكلبيين حين عممت إحدى تسميات عشائرهم الأدومية «كالب
Caleb
و
Calabites
و
Dogmen »، فتسموا بالكلبيين كما أنهم خلال هجراتهم البحرية وفتوحاتهم لليونان وجزر بحر إيجه، أدخلوا ديانتهم وآلهتهم وتقويمهم ومنه الإلهة - الأم - القمرية
Leucathia
أو الآلهة الفضية «القمر»، وهي ما أسماها اليونانيون ب «إينو أو فلسطين»
Ino or Plastene ، وما تزال آثارها الحفرية باسمها الفلسطيني بمدينة
Tantaius ، وهي ما أصبحت أم هرقل مليكارت أو هرقل ابن الإلهة الفسلطينية
Melkarth .
49
ويلاحظ هنا أن تسمية الإلهة ميلكارت هذه يشير إلى ذات الحما الذي يحدده الكلب أو نباح الكلب، وهو - كما هو معروف - هدف العالم القديم برمته - بل والحديث - وهو الدفاع عن الحما والكلأ، أو الملك - بكسر الميم - والإرث «ملكارت» أو ملك: إرث، فاسم هذه الإلهة الفينيقية بعامة، والفلسطينية بخاصة، والتي عادة ما تصور في ملايين الصور والتماثيل، برفقة كلبها الحارس
Canis mayor
والذي يشير إلى أنه يعني: نجم الشعرى اليمانية، أو ما كان يطلقه العرب من مسميات على اسم القمر لإخفاء الاسم الحقيقي لرب الأرباب، ومن أسمائه عندهم: السلطيط والتغرور والساهور.
فمن حمير انحدر الكلبيون، أو الشعوب البحرية العربية، بفلسطين وسوريا ولبنان، وظلت طلائعهم البحرية الفلسطينية، ممثلة في تحالف قبائل بني كلاب وبني عامر، التي ذكرنا مرارا معاودة الزير سالم لها. •••
فالأميرة ذات الهمة من سلالة الزير سالم، فلسطينية، بل ومن بني كلاب، فذات الهمة هي أيضا أميرة وهبت نفسها للدفاع عن الأمة العربية، فاختارت منطقة الثغور لكي تكون موطنها؛ ذلك أنها المنطقة التي يتحدد فيها موقف الدين الإسلامي، والشعب العربي ضد الروم المغبرين - كما تذكر سيرتها.
فانتقلت ذات الهمة على رأس الجيش العربي المتطوع والممثل في قيادة التحالف القبلي لبني كلاب إلى منطقة الثغور؛ حيث اتخذت من ملطية عاصمة لها.
فلولا إشارة من القلقشندي عن هجرة ذلك التحالف الكلبي الفلسطيني لبني كلاب إلى منطقة الثغور، والدور الذي لعبوه في الحروب العربية البيزنطية لما تعرفنا على جذور ومنشأ هذه السيرة الفلسطينية، للأميرة ذات الهمة وسيرتها التي تحفظ لهذا التحالف الكلبي الفلسطيني دوره الطليعي والمقوم للدولة العربية، من أموية لعباسية خارجيا وداخليا .
فالسيرة - مثلا - تذكر أن نكبة البرامكة حلت بهم لعلاقتهم ببني كلاب كطلائع غيورة على الأمة العربية. وإذا ما اكتفينا بهذا القدر، وعاودنا الالتزام بسرد سيرتنا «الزير سالم» حيث توقفنا عند عودة شيبون بن الضباع من حروبه من بلاد الروم، فعقب إهانات شيبون ذاك، لم يجد الزير سالم بدا من منازلته وقتاله، وهكذا «ضربه على رأسه فشقه، إلى تكة لباسه.»
ولما رآه المهلهل مجندلا ندم وتحسر، وأنشد أعظم مراثيه الاجتماعية الثورية، التي كان لها أكبر التأثير وأرسخه، في شعر الشعبي الفولكلوري، خاصة الموال الأحمر، على امتداد الوطن العربي؛ حيث يقول «المال يبني بيوتا لا عماد لها»، وأن «العز بالسيف ليس العز بالمال»، والتي فيها يواصل دوره كبطل شعبي ثوري، حتى في تصديه للنسب والأنساب التي تصل في تلك الأيام - وإلى أيامنا - إلى حد التقديس حين يقول: «العم من أنت مغمور بنعمته، والخال من كنت من أضراره خالي»:
الزير أنشد شعرا من ضمايره
العز بالسيف ليس العز بالمال
شيبون أرسل نار الحرب يطلبني
يريد حربي وقتلي دون أبطالي
نصحته عن قتالي لم يطاوعني
بارزته فهوى للأرض بالحال
المال يبني بيوتا لا عماد لها
والفقر يهدم بيوتا سقفها عالي
دع المقادير تجري في أعنتها
ولا تبيتن إلا خالي البالي
ما بين لحظة عين وانتفاضتها
يغير الله من حال إلى حال
فكن مع الناس كالميزان معتدلا
ولا تقولن ذا عمي وذا خالي
العم من أنت مغمور بنعمته
والخال من كنت من أضراره خالي
لا يقطع الرأس إلا من يركبه
ولا ترد المنايا كثرة المال
ذلك أنني أسوق هنا افتراضا تاليا حول تسمية الزير سالم - أو سلم - البطل الإلهي المحلي الذي نشأ واستقدم من وادي بئر سبع - مدينة بئر سبع الحالية - بفلسطين، وبين تسمية القدس، أو «أور» سالم، انتسابا إليه.
وعادة ما يتوارى التاريخ في ثنايا مثل هذه السير والملاحم الأسطورية العربية، ذلك أنه تاريخ أسطوري أو طوطمي، تخالط الخرافة فيه التاريخ العيني أو الأركيولوجي ...
بل والغريب أن مخالطة الأساطير للتاريخ - والعكس - كانت على الدوام أحد سمات حضارات شرقنا «الأدنى» القديم، أو الأوسط المعاصر؛ من ذلك تاريخ ما بين النهرين في كلدة وبابل وآشور، الذي تعرف إليه الباحثون من مدونات «ستيزياس» وكان طبيب إغريقي يعمل في بلاط أحد ملوك بابل، واسمه نيمون الثاني، وكذلك كاهن كلداني
50
اسمه بيروز، دونه على هيئة سير أسطورية قد لا تبعد بنا كثيرا عن سيرتنا هذه؛ حيث يكثر الإفراط في نظم الأشعار الملحمية والمعلقات، التي غالبا ما تدور حول الإغارات والحروب القبائلية، وهذا ما أفضى إلى ظهور ملاحم البطولة والمعلقات - في العصور الجاهلية - ومن هنا دلفت هذه الملاحم وسير الأنساب العائلية والمعلقات إلى معظم المؤرخات التاريخية الأولى.
وعلى هذا النحو ذاته تعرف المؤرخون على تاريخ منطقتنا، من ذلك قائمة جمعها أيضا كاتب مجهول، في 2000 قبل الميلاد، بادل تاريخه هذا بقصة الخليفة وأسماء الأسر الملكية، ثم الطوفان وأسماء الملوك الذين أسماهم
51
بملوك العرب، والذين حكموا العراق الأسفل (بابل فيما بعد).
يذكر جوردون تشايلد، أن الأشعار الهومرية ذاتها قد اعتبرت فصولا تاريخية برغم إغراقها في الخوارق وعوالم الآلهة واتخذها الكتاب المتأخرون نموذجا لهم «إذ اعتقدوا أن التاريخ رواية مترابطة تتم داخل إطار فني.»
وعلى هذا النحو أيضا نهج تاريخ «توكتيدس»
52
أعظم مؤرخي الرومان للحروب البلوبونزية بين أثينا وأسبرطة عام 431ق.م.
وعلى هذا فالبحث في إطار سيرتنا الملحمية هذه «الزير سالم» حول الملامح التاريخية والتراثية ليس بالأمر الجديد، كذلك لا جديد في استخلاص حقائق التاريخ من ثنايا هذا التاريخ الأسطوري الخرافي، المهمل إلى حد الاندثار من جانب الباحثين العرب.
والجديد، الطريف، هو: أن تظل سيرة عالية الهامة، كالزير سالم مهدرة تعاني الافتقاد والاندثار إلى أيامنا، مضافا إليه عدم الفهم والتقدير، لدرة قد تصمد لأي سيرة أو ملحمة، في كل ما جاء به العالم القديم، من السيرة الهومرية «الإلياذة» ومرورا بالملحمة الهندية الآرية «الماهابهاراتا» التي تسمى بها الهنود والفرس الآريين والتي تتلاشى مع ملحمتنا هذه «الزير سالم» في أن كلا منهما تؤرخ لحروب وهجرات قبائلية موغلة في القدم.
كما أن ملحمتنا العربية هذه تتفوق كثيرا على الملحمة الإسكندنافية الفلندية «كاليغالا» التي عندما احتفلت فنلندا عام 1935 بمرور قرن على أول جمع لنصوصها الشفهية الفولكلورية؛ اكتشف أن ما جمع منها وصل إلى 130 ألف نص مختلف لذات الملحمة «الكليغالا» ناهيك عن الآلاف المؤلفة من الدراسات والمعارك المنهجية التي شاركت فيها جيوش من العلماء والباحثين، الذين تعاقبوا على دراستها على مدى القرنين الأخيرين.
لكن أين هي من إلياذتنا العربية «الزير سالم»؟
شخصية الزير سالم ما بين الأدبين «الكلاسيكي والشعبي»
لعلها أكثر شخصيات الأدب الشعبي العربي وأخصبها؛ من حيث ما أثير حولها من جدل، وتتفق النصوص والمأثورات الكلاسيكية، مع الشعبية الفولكلورية، في أن الزير سالم أو المهلهل، ظل لفترة يعاني التحول في منفاه الاختياري ببلدة بئر سبع الفلسطينية، من حالة الزير الغارق لرأسه في الخمر والنغم والشعر منعزلا في بئر سبع، إلى الملك الفارس المنتقم لأخيه المغتال غيلة - بوادي الحصا والجندل - بالشام، كليب بن مرة، وهو يطوف أطراف ملكه وقبائله، باكيا نادبا، يرثي أخاه ولا يفعل شيئا سوى التحريض على القتال والوعيد، حتى سخرت منه بنو بكر قائلين: «إنما المهلهل نايحة ليس غير.»
وما أن انتبه إلى تردده - ذاك الهاملتي - في حسم موقف الانتقام لأخيه الملك المغتال كليب، حتى توسط منتدى قومه، فجز جدائله المنسدلة، مثله مثل الأبطال الوحشيين البريين الذين تربوا مع الحيوانات، مثل «أنكيدو» وصنوه المتوحد معه - رأسا لقدم - شمشون.
فحرم اللهو وشرب الخمر والتزين وأن لا يدهن بدهن «حتى أقتل بكل عضو من كليب رجلا من بني بكر بن وائل.»
وهنا يحق لنا التريث أمام مقولة الزير سالم، التي فيها يتوعد قبائل بني بكر بن وائل، بأنه سيضربهم بكل عضو من كليب، أو قبائل كليب أو الكلبيين، أو بني كليب، بما يؤكد: أن كالب وكليب قبائل تنتمي إلى التحالف الكنعاني الفينيقي أو البحري من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين، بأكثر من انتماء سلفهم المغتال كالب، إلى شمال الجزيرة العربية في نجد والحجاز. وبما يؤكد: العودة بمسرح أحداث هذه السيرة إلى ربوع الشام وفلسطين، وهو كما أسلفنا القول ، ما يتبدى جليا إلى حد وثوقي في نصوصها الشعبية الفولكلورية، في مواجهة مأثوراتها المتناثرة العربية أو الفصحى.
مع الأخذ في الاعتبار أن التحالف الكالبي - الطوطمي البحري - للفينيقيين من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين، الذين وصلت هجراتهم وأشتاتهم منذ أقدم العصور - مطلع الألف الثاني قبل الميلاد - إلى إنجلترا وأيرلندة وبعض دول الشمال الأوروبي عامة، كذلك كان للكلبيين أشتاتهم وقبائلهم في الجزيرة العربية، كذا نجد والحجاز بالإضافة إلى تواجدهم في مصر حين التقى بهم المؤرخ بليني - القرن الثاني ق.م - حول بحيرة مريوط، ووصفهم بأنهم أغرب أقوام دينية صادفها.
وقبل العودة إلى أحداث ملحمتنا، أود أن أشير إلى أن مجرى الأحداث المركزية للسيرة - عقب مصرع كليب - سيعود بنا أكثر إلى ربوع الشام وفلسطين والأنباط - الأردنيين.
فكان أول ضحايا الزير عقب مصرع أخيه الأكبر الملك كليب، هو ابن أخيه «الضباع»، زوجة صديقه الوفي الأمير همام بن مرة، الأخ الأكبر للأمير جساس مغتال الملك كليب.
ذلك أن هذا الشاب اليافع «شيبان»، فضل البقاء مع خاله الزير سالم، حين ساءت الأمور بين القبيلتين «بكر وتغلب» متخليا عن أبيه «همام» وقبيلته، مبقيا على قبيلة خاله، اتساقا مع هذه القبائل الأمومية في الانتماء إلى قبيلة الخال الكلبية أو تقديسها، بدلا من قبيلة الأب.
وفي محاولة من شيبان الصغير لشحذ قوى خاله الزير سالم، في الانتقام من قبيلته أغضبت الزير فأمسك بابن أخته وضرب به الأرض حتى مات فقطع رأسه وأرسله إلى أهله وأخته ضباع على جواد، فشقت ثيابها ورحلت إلى الزير سالم وقالت: أتقتل ابن أختك بثأر أخيك.
وظلت الضباع منذ هذا الحادث الفاجع تضمر لأخيها الزير سالم كل حقد، بل لعل في موقف هذه الأخت «الإلهة الطوطم» ما يجيء سرطانيا مخالفا عن النسيج القبائلي بعاداته وطقوسه، فكيف قدر لضباع الأخت الثالثة، لكليب والزير سالم، الانحياز لقبيلة زوجها القيسية بدلا من قبيلتها التغلبية أو الكالبية، خاصة بعد مصرع أخيها الملك كليب؟
وهو تساؤل نرجئ الإجابة عليه إلى توالي أحداث الضباع والزير سالم.
فما أن استخرجت الضباع رأس ابنها شيبان من خرج حصانه، حتى أنشدت تقول مفصحة عن فاجعتها بفقد كل من الأخ والابن:
تقول ضباع يا سالم علامك
بجاه كليب ما سويت يابني
بثأر كليب تقتل إبن أختك
وتحرق مهجتي وتزيد حزني
حزنت على كليب وما جرى له
وحزني في صميم القلب مبني
ولكن قد حكم ربي مراده
وربي ما كتب لي هو يصبني
فأجابها الزير بهذه الآيات:
يقول الزير من قلب حريق
بقتل كليب زاد اليوم حزني
ألا يا أخت قلي من بكاك
ولا تخشين من أمر يعبني
فوالله ثم والله ثم والله
إله العرش مذ أدعو يجبني
فلا بد لي من حرب الأعادي
وأقتل كل جبار طلبني
وهو - كما يتضح - شعر دخيل، إلا أنه يفصح عن توعد الزير سالم ومعاناته التي صاحبت تحوله المتردد في الانتقام.
والملفت حقا هنا، هو ذلك الموقف الذي اتخذته الضباع، عقب سماعها للزير، قاتل ابنها «شيبان» وكيف أنها استبشرت بتوعده للحرب فكان أن «زالت عنها لوعتها، وخفت الأحزان» عقب سماعها لشعره المتوعد بأخذ الثأر.
وعلى هذا عادت الأم إلى قبيلتها - أو قبيلة زوجها همام - المعادية.
والمطلوب هنا هو بذل الجهد في تصور هذه المواقف القبلية، من حيث الانتماء والولاء، ليس فقط على المستوى الجسدي، بل ما يمكن أن يشكل موقفا، مع القبيلة، وضد الأمومة، كما في حالة «الضباع» هذه وحالات أخرى مماثلة لها ذات الصعوبة ستطالعنا هنا ونحن بإزاء مقتل كليب، الذي يبدع في نثره راوي السيرة الذي يستشف من نصوصها الشعبية، مدى المؤثرات اللهجية «السورية والفلسطينية واللبنانية» بأكثر من العربية الحجازية - أو المصرية.
إن اغتيال كليب يوازي اغتيال، سلف أب، مثل اغتيال إله.
وعليه فمن واجبنا هنا التذكير بأننا لسنا بإزاء تصرفات وممارسات ومواقف وعلاقات - بالمفهوم الأنثروبولوجي - بشرية، بقدر ما نحن بإزاء مواقف وعلاقات وممارسات طوطمية، أو إلهية، فمعظم الأسماء التي توردها نصوص هذه السيرة المختلفة؛ أسماء لآلهة وأصنام وطواطم، عربية أو سامية، أو جاهلية - بحسب التسميات التلفيقية - مثل كليب، أو سالم، أو ضباع، أو البسوس سعاد (انظر: البسوس وحربها المضرمة 40 عاما) مؤنث الإله سعد الصنم الجاهلي - البعل - سعد، وكذا الجرو، ثم اليمامة، التي أصبحت مدنا وقبائل ومواطن والتي إذا ما عدنا إلى دورها وأشعارها التحريضية بالثأر لأبيها كليب أبي اليمامة من قبيلة أمها وخالها القاتل «جساس»؛ حيث تتبدى أنموذجا لآلهات الحرب - الإناث - القبائلية الأمومية، أو القمرية.
فهي تدفع بالمقاتلين إلى الاستبسال دفاعا عن ماذا، القبيلة، بل وكثيرا ما حثت أمها الجليلة بنت مرة وزوجة أبيها الملك كليب عند قدميها؛ لكي توقف اليمامة القتال، فكانت ترفض في كل مرة أو محاولة لهدنة طلب أمها، وهنا يواصل الزير سالم قتاله وبطشه بجساس وقومه، لحين وصول الجرو بن كليب، الذي كانت قد خبأته أمه الجليلة عند قومها، على عادة الأبطال الأسطوريين، أوريست، وأوديب، وحورس.
وتعرف عمه الزير عليه في البداية، ثم اليمامة حين لاعبته لعبة التفاحات الأربع - الفروسية - عقب منازلاتها له في ميدان القتال، وكان أن جذبته إلى قبيلته - الأبوية - ودفعته دفعا هي والزير سالم، إلى قتل خاله جساس بن مرة قاتل أبيه الملك كليب.
وتنتهي هذه السيرة الملحمية بانتصار الجرو بن كليب، بقتل خاله جساس، وتنصيب الزير له على عرش كليب.
أما الزير سالم، ذاك البطل الشعبي - أبو ليلى المهلهل - فإنه ما إن انتهى من قتل جساس وفرض ذلك الاستسلام المتجبر المهين على أعدائه البكريين، حتى سلم عرش كليب لابنه الجرو وظل وحيدا - لم يتزوج - ولا يعرف له ذرية كما يخبرنا النص الشعبي الفولكلوري، برغم تسميته بأبي ليلى.
فالزير سالم انتهى نهاية غريبة، منعكفا في منفاه الاختياري - ببئر سبع - يقيم «في الخيام ويشرب المدام وينام وهو لابس آلة الحرب والصدام»، وكما يصفه النص العامي «أحناه الدهر وضعفت قواه، وظل على تلك الحال إلى أن برز له أسنان وصار عقله مثل عقل الولد.»
فالملفت أن المهلهل هو الشخصية الوحيدة التي تتبدى غريبة هائمة على طول هذه السيرة الملحمية الذي هو بطلها - المحجب - قاتل السباع الذي لا يقهر.
وعلى هذا تحتفي النصوص الفولكلورية العامية به كبطل خارق مكتمل الصفات يزخر بالمعاناة والأحاسيس والإنشاد التراجيدي العميق، الذي لا يفصح عنه سوى قمم المراثي والموال الأحمر:
53
إن في الصدر من كليب شجونا
هاجسات فكان منه الجراحا
ولعلني أعني ما أقول، فإن ذلك الشاعر الفاجع - المهلهل - كان أكبر القوى الشعرية بالغة الأثر على مدى الأزمان التي مرت بلغتنا وفولكلورنا العربي، وبخاصة جانبه الشعري، وما تزال محفوظة تعيش متواترة إلى أيامنا.
وقد جمعت له الكثير من مربعات ومثمنات الشعر الشفهي الفولكلوري، الآفا مؤلفة من مواويل المراثي وأشعار التوجع، والموتيفات أو الأشعار التحريضية والبكائيات الذاتية.
ويبدو أن أبا ليلى المهلهل في آخر أيامه ضاق بعجزه ووحدته، فطلب من ابن أخيه الملك الجرو، أو العجرس، أن يسوح متنزها في البلاد، فأعطاه الملك هودجا، وعبدين يحرسانه ولوازم سفره، فخرج وما زال يجول في البلاد، إلى أن هد كاهل عبديه، وكان قد واصل بهما تجواله - كما يذكر النص العامي - بلاد الصعيد،
54
فصمما على قتله وإعدامه ثم العودة إلى أهله، وإخبارهم بأن أبا ليلى المهلهل أدركته المنية.
ويبدو أن الزير، أدرك غرضهما وما ينويان، فطلب منهما الحرص على إبلاغ أمنيته الوحيدة ووصيته إلى أهله وعاهدهما فأقسما، فأنشد عليهما بيتا وحيدا من الشعر:
من مبلغ الأقوام أن مهلهلا
لله دركما ودر أبيكما
وكرره عليهما، إلى أن دخل الليل، فذبحاه ودفناه، ورجعا إلى ديارهما ودخلا على سيدهما الجرو فأبلغاه بموت عمه أبي ليلى المهلهل فبكى، وطالبهما بوصيته.
وما أن أنشد العبدان وصيته أو بيت شعره، على مشهد من الجرو واليمامة وعلية القوم، حتى لطمت اليمامة ومزقت ثيابها صارخة، بأن عمها لا يقول أبياتا ناقصة - أو مهلهلة - وأنه قتيل مغتال، أرى أن يقول:
من مبلغ الأقوام أن مهلهلا
اضحى قتيلا في الفلاة مجندلا
لله دركما ودر أبيكما
لا يبرح العبدان حتى يقتلا
ثم إنهم قبضوا على العبدين، ووضعوهما تحت العذاب إلى أن أقرا بما أشارت به اليمامة، التي رجحنا - فيما سبق - قدرتها الخارقة - ككساندرا - وعلاقتها الطوطمية بأبيها كليب؛ حيث إنه تسمى بها، كإلهة أنثى أم. (5) السيرة الهلالية السياسية الكبرى
من الملفت والمؤسف أن النص الأصلي المدون لهذه السيرة السياسية الكبرى للهلالية؛ ما يزال إلى أيامنا في عداد المخطوطة المحفوظة بمكتبة الدولة المركزية ببرلين، مثلها مثل مثيلتها «الأميرة ذات الهمة» 26 ألف صفحة.
بمعنى أن النص الفعلي للهلالية، لم تصله إلى أيامنا يد المطبعة بعد، ما يزال في عداد النص اليدوي المدون، ومن هنا فالاختلافات كبيرة، والمغالطات لا تنتهي، والإضافات التي أضافها الرواة والنساخ والمنشدون على مدى العصور تتبدى واضحة بين ذلك النص المخطوط للهلالية وبين بقية النصوص والطبعات الشعبية المتداولة على طول عالمنا العربي من محيطه لخليجه، وهي - بالتحديد - الرقعة الجغرافية التي تغطي حركتها من حروب وهجرات أحداث هذه السيرة السياسية، التي لا تبعد بنا أحداثها وتحالفاتها وتناقضاتها عما نعانيه اليوم والآن على طول البلدان والكيانات العربية، حتى ليبدو أن أحداث سيرة الهلالية كانت على دراية أكثر نبطا منذ حوالي عشرين قرنا من الزمان، في حروبها وتصديها للصهيونية، سواء في خيبر والجزيرة العربية، أو في الأردن المتاخمة لفلسطين التي تدعوها السيرة ببلاد السرو وعباد، أو في فلسطين ذاتها، في القدس وغزة وعكا ويافا.
بل هي تتعقب القلاع والفلول الصهيونية - كما تدعوها السيرة وتسوقها بشكل مباشر - في حلب الشهباء، واللاذقية، التي فيها أسر دياب بن غانم، والقلاع المتاخمة لحماة وحمص ودمشق، وهكذا.
فتلقي المخطوطة الرئيسية للسيرة المزيد من الضوء القوي الساطع على منابع ومكونات هذه السيرة، بالإضافة إلى حفاظها على حلقاتها الرئيسية، التي هي في عداد ثلاث سير متتابعة، تضرب أولاها بجذورها في العصور التي تعارفنا عليها بالجاهلية السابقة لظهور الإسلام، والتي قد تصل بنا هذه الجاهلية إلى بضعة آلاف، فالحلقة الأولى للسيرة تغطي بدء تواجدهم التاريخي في الجزيرة العربية منذ الجاهلية الأولى أو العصور السابقة واللاحقة للإسلام، وهجرتهم الأولى إلى الأردن وفلسطين أو بلاد السرو.
إلى أن تتوقف بنا الأحداث مع بدء ظهور الإسلام، وكيف أن هلال بن عامر وفد على النبي على رأس قومه أو قبائله المتحالفة، ولعب أولئك الهلاليون دورا في ترسيخ أركان الدين الجديد، حتى إن النبي أسكنه وادي العباس.
وتبدت فيما بعد فروسية وشجاعة الهلالية في جيل «المنذر» أبو العرب المناذرة، وكيف تعرف إلى الأمير «مهذب» وتزوج بابنته «هذبا»، حتى إذا مضت على زواجهما عشرة أعوام ولم يرزق منها بطفل، قرر الزواج بأخرى.
ثم رحل إلى بلاد «السرو وعباد» إلى الأردن وفلسطين؛ حيث تزوج بابنة الملك الصالح واسمها «عذبا»، وبعد ذلك نرى السيرة تحدثنا أن «هذبا» التي خلفت له «جابرا» كما وضعت «هذبا» جبيرا، ولم يمض على ولادة الطفلين زمن طويل حتى نرى الغيرة تدب بين الاثنين ونرى كلا منهما تريد المنذر لها ولابنها، وينتهي الأمر بطلاق «هذبا» ورحيلها مع ابنها «جبير» إلى نجد، ومن نسل جابر وجبير انحدرت إلينا بطون بني هلال ونساؤهم اللواتي قمن بالأدوار الهامة في مختلف فصول الحلقة الأولى من السيرة، فجابر ولد له عامر، وتامر، وهشام، وحازم، ومن نسل هؤلاء انحدر «رزق» والد أبي زيد، وسرحان والد السلطان حسن بن سرحان.
أما جبير فقد ولد رياح، وحنظل، والنعمان، ومن ذرية رياح جاء دياب، فمن سلسلة النسب هذا يتبين لنا أن أبا زيد من نسل جابر بينما دياب من ذرية جبير.
وعقب جيل جابر وجبير يرد خبر زواج «رزق» بخضراء وكيف أنه رزق منها بفتاة تدعى «شيحا» وفتى يدعى «بركات»، وكان الولد أسود اللون؛ لذلك اتهمت خضراء في عرضها وانتهى الأمر إلى رحيلها وابنها إلى بلاد الأمير الزحلان عدو بني هلال، فيكرم الأمير وفادتها ويعنى بها وبتربية ابنها، ويوكل أمر تعليمه إلى كاهن أو معلم، فكان يعلم بركات أو أبا زيد الهلالي العلوم والحرف واللغات والحيل والمكائد التي اشتهر وتفوق بها:
ولساني عبراني اليهود بينفعك
ولسان سرياني تصير مشير
وكذا الطب والرياضيات والكيمياء، والصباغة والمعادن:
والطب أيضا دانيال أعلمك
وعلم الحساب وكل علم ظهير
وأعلمك علم الصباغات كلها
تصبغ لروحك ما تريد يا أمير
ويحدث أن يهاجم الهلاليون بلاد الزحلان فيتصدى لهم بركات ويأخذ والده أسيرا ويعترف له الهلاليون بشجاعته ويطلقون عليه «سلامة» ويعجب به الزحلان، فيزوجه بابنته «غصن البان» وتعلو مكانة «سلامة» في أعين الهلاليين الذين رأوا كيف أن مهابته وذكاءه ومهارته آخذة في الزيادة؛ لذلك تعارفوا عليه باسم «أبى زيد الهلالي سلامة» وبعد أن تفرغ السيرة من سرد حروب الهلاليين مع الزحلان أو قبائل بني زحلان تنتقل إلى جيل سرحان، وتحدثنا عن خبر تعرفه بشما، ووقوعهما في أسر الإفرنج ونجاتهما بحيلة، من تلك الحيل التي اشتهر بها الهلالية، خاصة أبا زيد.
وشما أو شماء هنا في موقع الكاهنة أو الإلهة الأنثى القمرية، أو التي تتبع التقويم القمري، وتقود المهاجرين مشيرة بالحرب والسلم والمشورة، كما هو حال أولئك العرب الجاهليين، وتقويمهم القمري وليس الشمسي، وهو ما واصل تواتره كما هو معروف بالنسبة للتقويم الهجري القمري السائد إلى أيامنا.
فالسيرة الهلالية تفرط إلى أقصى حد بالنسبة لظاهرة شخصياتها الأنثوية، مثل تلك الأميرة الكاهنة شماء:
انظر لشامتها
هذي علامتها
انظر لقامتها
شبه الردينية
الشعر مثل الليل
كأنه سباسب خيل
والوجه مثل السيل
بعيون هندية
بل إن السيرة في تأريخها لأجيالها المبكرة تضفي الكثير من الحكايات والفابيولات الجانبية والاستطرادية حول قصة الأمير سرحان والد السلطان حسن بن سرحان، قائد التحالف الهلالي، وحبه وتعشقه لشماء والدته:
شما تلفتيني
بحبك ضنيتيني
قومي واسقيني
من فوق شبريه
بالليل أنا أزورك
وها الوقت دا شويه
فهذه الإلهة الكاهنة شما التي كان لها وحدها ثلث المشورة عبر حروب ومنازعات بني هلال في الهند وسرنديب واليمن والجنوب العربي بعامة، تتشابه في الكثير من الوجوه، مع إلهات الحرب الأنثيات، وأبرزهن الإلهة أثينا في قيادتها للتحالف القبلي الهليني اليوناني في حروب وحصار طروادة.
ومثلها هنا مثل الجازية، فيما سيلي من أحداث الريادة وفتوحات بني هلال في الشام وفلسطين ومصر وليبيا، لحين حصار تونس والمغرب العربي بعامة حتى الأندلس التي كان يحكمها أبو زيد الهلالي.
وهنا نكون قد وصلنا إلى الحلقة الثانية، أو المجلد الثاني لسيرة الهلالية، التي تبدأ أحداثها برحلة السلطان حسن وأبي زيد من بلاد السرو التي نرجح أنها وادي الأردن وفلسطين إلى نجد، بقومهما بالطبع بنو دريد وبنو الزحلان إلى نجد؛ حيث تعيش قبائل بني زغابة المنحدرين من ذرية جبير، إلى أن تصل بنا إلى نسب بطل التحالف اليمني والجنوب العربي بعامة، الأمير غانم، وابنه دياب.
أما السبب الدافع وراء تلك الهجرة، من ربوع وادي الأردن وفلسطين فلم يكن سوى القحط والجفاف.
والملفت هنا أنه وعبر هجرتهم الجماعية إلى نجد، يخوضون أول حروبهم مع من؟ يهود التحالف اليهودي الخيبري، وهي حروب طويلة ومضنية تستغرق وقائعها الجانب الأكبر من الحلقة الثانية للهلالية، لحين تحقيق انتصاراتهم على اليهود الخيبريين الذين كانوا في بعض عصورهم التاريخية يتصدون لمحاربة الأكاسرة الفرس المجوس.
ففي هذا الجزء أو الحلقة الثانية للهلالية وسيرتهم؛ تستقر تحالفاتهم من عرب نجديين أو حجازيين قيسيين وجنوبيين يمنيين - قحطانيين أو حميريين - وتجيء هذه التحالفات تحت شارة أو راية أو طوطم الهلال.
فيقدم السلطان حسن بن سرحان على الزواج من أخت دياب بن غانم وتدعى «نافلة»، وفي ذات الوقت يقطع السلطان حسن عهده لقائد ورأس التحالف اليمني دياب بن غانم، على أن يزوجه أخته «نور بارق» التي تسمت بالغازية أو الجازية، والتي سترت أمها السالفة «شما» في قيادتها لحروب وهجرات بني هلال، حتى ليصبح لها ثلث المشورة.
وتحدث عبر هذه الحلقة الثانية سلسلة من الحروب والإغارات القبلية تمتد ساحتها على طول الجزيرة العربية.
فتجد وصفا للمعارك التي قامت بين الهلالية، والعقيلي، وحنظل، والهيدبي، ثم تنتهي إلى الاصطدام بين أبي زيد ودياب، ولا تنتهي هذه الحلقة إلا بعد أن تطيل في الحديث عن بطولة العرب عامة والهلالية خاصة وانتصاراتهم على الإفرنج.
وتغريبة بني هلال أو الحلقة الثالثة من حلقات هذه السيرة تعنى بأعمال الهلاليين في الغرب، خاصة في شمال أفريقيا، وهذه الفترة من فترات التاريخ الإسلامي صحيحة لا شك فيها، كما أن بني هلال عرفتهم الجاهلية وعاشوا في الإسلام وقاموا وحلفاؤهم بنصيب وافر في سبيل العمل على تعريب تلك البلاد جنسا وثقافة، فابن الأثير يحدثنا في كامله بأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تزوج في العام الرابع من زينب بنت خزيمة أم المساكين وهي من بني هلال، ثم يذكرهم مرة عند الحديث عن غزوة هوازن ومرات كثيرة أخرى في مناسبات مختلفة، أما خروجهم إلى أفريقيا فقد ذكره أكثر من واحد من المؤرخين، أذكر منهم هنا ابن خلدون، فقد جاء في ص62-63 من الجزء الرابع من تاريخه ما نصه:
كان المعز بن باديس قد انتقض دعوة العبيديين بأفريقيا وخطب للقائم العباسي وقطع الخطبة للمستنصر العلوي سنة أربعين وأربعمائة، فكتب إليه المستنصر يتهدده، ثم إنه استوزر الحسين بن علي التازوري.
إلى أن يحل الجدب بنجد والحجاز، ولا تجد هذه القبائل البدوية الرعوية مقرا لها سوى الهجرة والترحال بحثا عن الزرع والضرع.
فيستقر الرأي على ضرورة استكشاف المسالك إلى البلدان المتاخمة للجزيرة العربية، وهكذا اندفع فارس التحالف الهلالي، أبو زيد الهلالي، مصطحبا الأمراء الثلاثة أبناء السلطان حسن بن سرحان، مرعي ويونس ويحيى إلى تونس، ليقعوا في أسر حاكمها خليفة الزناتي، فيأمر بسجنهم بينما يطلق سراح ابن زيد ليعود إلى نجد، وبدلا من إحضار فدية الأمراء الأسرى فإنه يجهز الجيش لغزو تونس.
وهكذا يسير أبو زيد على رأس قومه بني زحلان، والسلطان حسن مع بني دريد، ودياب بن غانم على رأس قومه بني زغبة، ويؤتى بالجازية من مكة لتكون في الطليعة. ثم نقرأ قصصا كثيرة حول هذه الجيوش والتقائها بالخفاجي عامر، والملك الغضبان، والخزاعي، وشبيب التبعي والبردويل بن راشد، وأشهرها هي قصة بني هلال مع الماضي حاكم صعيد مصر.
وما كادت تتحرك هذه الجيوش لملاقاة الزناتي خليفة حتى زودها أبو زيد بخططه الحربية الخطيرة، فهو يضلل جواسيس العدو مرة، ويستولي على عيون المياه مرة أخرى ويأتي بحيل لا تقل طرافة عن حيل قواد الحرب الحالية.
وقد أطلق مرة المنادي ينادي العرب: «كل من كان عنده ناقة والدة يبعد ابنها عنها، أو فرس والدة يبعد ابنها عنها، وكل من كان عنده حصان طلوق يجيبه عند فرس شايع ويلحقونا على عين الخطيري، وتخلي العرب كلهم يدقوا طبولهم في نزولهم على العين، فيسمع الزناتي حنين المهارى، وصهيل الخيل، وحس الطبول فينكسر قلبه قبل ما يجيء لنا الحرب ».
كما أنه كثيرا ما استخدم النساء للتسرب إلى داخل البلاد والقيام بأعمال السلب والنهب لإيقاع الذعر بين الأهلين والتمهيد لدخول الجيوش، وكان تنفيذ هذه المهمة يوكل عادة للجازية التي كانت تقوم بها خير قيام، فاسمعها مثلا تتحايل على منصور أحد بوابي تونس وتمنيه وتغريه بمختلف المغريات:
افتح لا تخالف
إنك رجل عارف
وانظر د الوصايف
لرية وسارة
روحي يا صبية
ماد لا بلية
قد جتنا المنية
لعند الديار
وشوف نجلا المليحة
مع حسنة الرجيحة
حين ترخي المسيحة
مع طراف الخمار
تنصب لك علامة
ما بين الغراما
قل يالله السلامة
في هذا النهارا
وبعد حديث طويل نجد الجازية تتغلب على منصور، ويفتح لها ولمن معها من نساء ورجال الباب، ويتمكن الهلاليون من إطلاق سراح مرعي ويونس، ثم تدور الدائرة على الزناتي فيقتل بفضل خطة وضعتها ابنته سعدة التي شغفت بمرعي عندما كان في سجن أبيها، فهي التي أشارت على الهلالية بإرسال دياب إلى أبيها ومنازلته؛ لأن ديابا أقدر الفرسان لمنازلة خليفة.
خلا الجو للعرب في تونس، واستولوا على عروش الغرب السبعة، وشرعوا في تقسيمها بينهم كما أخذوا في الاستعداد لغزو مراكش، وهنا نجد النزاع الذي كان قائما بين العرب في الجزيرة - أعني: بين اليمنية والقيسية - ينفجر مرة أخرى في أفريقيا، فيمثل أبو زيد القيسية ودياب اليمنية، وقد مهدت السيرة لذلك أحسن تمهيد، فهي في جدول الأنساب الذي ساقته من قبل جعلت ديابا ينحدر من فرع تجري في عروقه دماء حمير، فهو دياب بن غانم بن رباح بن حمير بن رباح بن جبير، فذكر «حمير» هنا لم يأت عبثا وإنما؛ تمهيدا لسائر الخصومات التي قامت بين أبي زيد من ناحية دياب من ناحية أخرى، وهو يعلل لنا قتل دياب للسلطان حسن وأبي زيد فيما بعد.
أدت هذه القبائل القيسية رسالتها في شمال أفريقية وجعلته عربيا جنسا وثقافة ودينا حتى يومنا هذا. وبعد ذلك نقرأ خبر انتقال دياب إلى السودان والحبشة، ويقتل دياب ويتولى ابنه نصر الدين الزغبي حكم بلاد الغرب، وتنتقل بعض القبائل القيسية إلى صعيد مصر ثانية، فأعالي النوبة، فالخرطوم، فدارفور ، حيث نسمع عن وجود قبائل عربية مثل الرزيقات نسبة إلى رزق والد أبي زيد وقبيلة سليم نسبة إلى بني سليم.
وهنا تؤيد السيرة أبحاث المؤرخين ورجال اللغات السامية؛ فهم مجمعون على أن لهجة صعيد مصر، وعرب أولاد علي غرب الإسكندرية، ومالطة، وشمال أفريقيا، وأعلى النوبة، وكردفان، وجنوب الخرطوم، ودارفور؛ لهجة واحدة، لها مميزاتها الخاصة التي تميزها عن سائر اللهجات العربية.
أخيرا يمكن القول إن استقرار هذه القبائل العربية خارج الجزيرة لم ينسها يوما نجدا، وجمال نجد، وحرية نجد، وقد عبر مرعي عن هذا الحب بقوله، يخاطب سعدة بنت خليفة:
يا سعدة نجد العريضة مريه
ربيت بها أهلي وكل جدود
بلدي ولو جارت عليا مريه
وأهلي ولو شحت عليا تجود
وهكذا حكم الجيل التالي الذي تعارفت عليه سيرة الهلالية بجيل اليتامى - من أبناء السلطان حسن ودياب بن غانم، وأبي زيد الهلالي - العالم العربي، مشرقا ومغربا حتى الأندلس ومداخل أوروبا الجنوبية.
الريادة
تعد سيرة بني هلال، وتغريبتهم ورحيلهم إلى بلاد الغرب «المغرب العربي»، وحروبهم مع الزناتي خليفة، وما جرى لهم من الحوادث والحروب المخيفة - بحسب وصف الطبعات الشعبية المتعاقبة على نصوصها من مدونة كانت أو شفاهية - أهم أنموذج وأصبح لسير الأنساب القبائلية، أو لذلك التحالف العشائري الذي لم يقتصر بحال على عرب الجزيرة، بقسميها الشمالي القيسي، في نجد والحجاز، وجنوبها القحطاني في عدن وحضرموت والجنوب اليمني العربي بعامة، فالسيرة ذاتها لا تغفل هذا الدور في التأريخ لرءوس وممثلي وشخوص ذلك التحالف، منذ الإلهة الأنثى القمرية «شما» وسليلتها الجازية أو الغازية وأخيها رأس التحالف المعدي القيسي، حسن بن سرحان سلطان الهلالية، وأبنائه، يونس ومرعي، ويحيى، وفارس بني هلال أبو زيد الهلالي سلامة.
ثم عرب الجنوب اليمنيين، وفارسهم هنا هو دياب بن غانم، الذي تعارف عليه جماهير السيرة بالزغبي.
مرورا بمن اجتذبتهم الهجرة الجماعية الزاحفة لتلك القبائل المتحالفة عبر التغريبة تحت شارة أو شعار الهلال، أحد أطوار الدورة القمرية، وما يستتبعها من أخذ بالتقويم القمري أو العربي - الهجري - وليس الشمسي إلى أيامنا.
فلقد اجتذب عرب الجزيرة عبر زحفهم من أقصى المشرق العربي بدءا بالخليج العربي، إلى مغربه على طول الشمال الأفريقي حتى المحيط ومداخل أوروبا الجنوبية بعامة؛ الكثير من التحالفات القبائلية من العراق وما بين النهرين والشام ولبنان وفلسطين ومصر، إما بالانضمام للحرب أو بالتضامن الذي يحققه - التزاوج - والزواج السياسي - كما سيتضح.
فمنذ الأحداث المبكرة للريادة التي اضطلع بها أبو زيد الهلالي، حين حدث جوع في الأرض، بسبب انقطاع المطر في نجد ومعظم بوادي الجزيرة العربية، فاصطحب أبو زيد الهلالي ابني السلطان الهلالي حسن بن سرحان، يونس ومرعي لريادة الطريق تمهيدا للهجرة الجماعية إلى تونس الخضراء وتملكها بتخومها السبع وقلاعها الأربع عشرة حتى الأندلس.
فنجد الأمراء الهلالية المقنعين على هيئة شعراء جوالين حجازية، ينزلون مضارب الخفاجا عامر حاكم بلاد العراق، الذي سيرافق الهجرة الجماعية بفيالقة المحاربة أيضا، حتى إذا ما نزلوا حلب ثم حماه وحمص وطرابلس حتى دمشق، اجتذبوا قبائل حليفة تمد يد العون لجحافل الجيوش العربية المتحالفة تحت شارة الهلال الذي سيصبح رمزا موحدا للعالم الإسلامي فيما بعد.
واتخذ الرواد الهلالية الثلاثة طريقهم إلى غزة وحاكمها السركي المسمى بابن نازب، ومنها إلى مصر «العدية» وأكرمهم حاكمها «الفرمند بن بامنوح»، بل هو رافقهم بفرسانه حتى تخوم الديار الليبية حتى إذا ما حطوا رحالهم بتونس احتالوا حتى دخلوا أسوارها الشهيرة ومدحوا الزناتي خليفة، فأحس واخترقوا إليهم، ثم باعوا جارية هلالية تدعى مي إلى سعدة ابنة الزناتي خليفة حاكم تونس.
إلى أن اكتشف أمرهم «العلام» ابن عم الزناتي خليفة «ونائبه في معاملات الأحكام»، فاحتال بدوره للقبض عليهم ومواجهتهم بأنهم أمراء وبصاص بني هلال المتسللين أو الجواسيس.
وبعد مفاوضات طويلة، شارك فيها الزناتي خليفة ذاته؛ انتهى الأمر بتدخل الأميرة سعدة ابنته التي هددت أبيها بأن هؤلاء الأغراب لا يستحقون القتل، إلا إذا أدى مثل هذا الفعل القبيح لإذلال الغرباء وأسرهم أو قتلهم، بدلا من إكرامهم والترحيب بهم في تونس، خاصة وهم شعراء جوالون أو كما تدعوهم السيرة ، بما يساعد على إشاعة خبر اغتيال الزناتي لهم، ليصبح مسبة في الأفواه.
ثم أشارت سعدى بحبس الشابين في قصرها المنعزل بالسجن الملحق به، وإطلاق سراح العبد أبي زيد ليعود بالإثباب والفداء:
يقول أبو سعدة الزناتي خليفة
فعقلي تراه قد غدا محتار
أتوني جواسيس من الشرق عا
جلا أماره أفاضل من فروع كبار
وحينما اقتنع الزناتي خليفة - على مضض - برأي سعدى ابنته أمر وزيره العلام بإطلاق سراح ابن زيد؛ ليعود بالفدية. أما سعدى فأودعت الأمراء الأسرى سجنها.
55
وحين انطلق أبو زيد الهلالي واصل من فوره استطلاعه للمدائن حتى أشرف إلى وادي الغباين وتلك الأماكن، فوجدها كثيرة المياه والنبات ممتعة البراري والفلوات، تصلح للحرب والقتال ومرعى النوق والجمال، ثم صار من هناك إلى قابس ومنها إلى دوس فوجدها أحسن محل لامتلاك تونس، وقد تعجب من خيرات البلاد وكثرة ما فيها من الإيراد ومشاهدة من البلدان الكثيرة والمياه والبساتين الغزيرة فانشرح خاطره وطابت سرائره.
ويتضح من ظاهرة اهتمام أبي زيد الهلالي برصد كل ما تقع عليه عيناه من معالم وجغرافية الأراضي التونسية؛ مدى إخصابها وخيراتها المتفجرة بالإضافة إلى معالمها الواقعية وحصونها في قابس ودوس، بما يسهل على قومه طريق الهجرة وسهولة فتحها.
أما يحيى ومرعي فأخذتهم سعدة عندما بقوا في سرور وأفراح وبسط وانشراح، أما الأمير أبو زيد فبعد أن دار جميع البلاد وعرف السهول والوهاد رجع ليرى أحوال البلاد، ولما دخل إلى قصر سعدة فألفاه مطليا بالرصاص.
وعلى هذا النحو دأب فارس الهلالية، على معرفة كل ما يسهل على عشائره طريق هجرتهم وفتوحاتهم، بل إن الأحداث ذاتها التي صادفت فرسان بني هلال جاءت هي بذاتها بالمبرر لهجرة القبائل وحربها لاسترداد أسراها من الأمراء الرهائن بقصر سعدى الجميلة ابنة الزناتي خليفة وغرامها الذي سيشتعل حبا بعدو بلادهم «مرعي» الذي جاء غازيا.
وما زال يجد في السير مدة خمسين يوما حتى أقبل إلى نجد وتلك الأوطان، وحين دخوله إلى نجع بني هلال التقاه الكبار والصغار، وكلما تقدم إلى قدام يزاحمه الجميع وهم يصرخون بصوات واحد: اليوم فقد أتانا من هو عزنا وحمانا، وما زال سائرا حتى أقبل إلى صيوان الأمير حسن فدخل عليه وعلى الذين حواليه، فلما نظره الأمير حسن والأمير دياب والقاضي بدير والأمير زيدان شيخ الشباب تقدموا إليه وقبلوه بين عينيه، وأجلسه الأمير حسن بجانبه، ودارت البشائر في بلاد نجد بأن الأمير أبا زيد حضر من بلاد الغرب، فاجتمعت الفرسان من كل مكان، وحينئذ سألوه عن الأمراء مرعي ويحيى ويونس فعند ذلك بكى الأمير بكاء شديدا وأشار بخبرهم عما جرى له من التعب والمعاناة حاكيا مرة ومنشدا أخرى.
إلى أن استقر رأي كبار العشائر على الرحيل والهجرة عن الديار، إلى تونس والمغارب، لفك أسرى أمراء بني هلال.
فاجتمعت القبائل مع مطلع نهار الرحيل يتقدمها شيوخ القبائل وفرسانها، السلطان حسن بن سرحان، وأبو زيد الهلالي ودياب بن غانم، والقاضي بدير، وزيدان شيخ الشباب، ثم الأميرة الجازية، التي هي في موقع الكاهنة القمرية الأم لهذا التحالف القبائلي الهلالي.
وتصادفهم سلسلة من الحروب والمنازعات أول ما يلتقون في بلاد الأعاجم بالعراق الأعلى وتخوم إيران وبلاد التركمان، مثلما حدث مع الدبيس بن مريد، ووزيره المدعو همام، عقب سبي إحدى أميرات بني هلال وهي المارية ابنة القاضي.
وفي تلك الحروب تبدت شجاعة وفروسية رأس التحالف اليمني دياب بن غانم الملقب بأبي موسى، وابنته وطفاء، أو وطفا - بحسب نطق السيرة - وهواجسها التي اشتعلت فأنشدت تمنع أبيها من منازلة الدبيسي؛ متوجسة كمثل كاهنة أو متنبئة:
قد شفت بحر من دم
وأنت بوسطه غرقان
شفتك في وسطه تسبح
كلت منك الدرعان
ما عاد لك قوة تخرج
أنا شفتك بعيان
إنت تنادي يابو زيد
هيا يابا شيبان
في سرعة قد أتاك
ومد إليك الزندان
وقال لك يا أبو موسى
امسكني بالدرعان
وتشير هذه السيرة التي توغل في إغراقها في المأثورات الغيبية والخرافية، من ضرب للرمل واستشارة وأحلام وهواجس أبطالها - خاصة الجازية.
إلا أن كابوس وطفاء ابنة دياب تحقق هذه المرة بانكسار فرسان الهلالية أمام الدبيسي الذي أسر الكثير من قادتهم وأمرائهم ، منهم الأمير عقيل أخو أبي زيد الهلالي، والأمير زيدان، الملقب بشيخ الشباب، إلى أن جاء المنقذ، وهو أبو زيد الهلالي وألاعيبه وأحابيله الكاشفة عن مدى ذكائه وقدراته الفائقة في اجتياز المآزق وتحقيق غاياته في النصر على أعدائه.
فما أن أسر الملك الدبيسي أمراء بني هلال حتى هاجت النساء والرجال واستعظموا تلك الأحوال وذهب منهم جماعة من الأعيان إلى أبي زيد فارس الفرسان، فوقعوا عليه وفوضوا إليه، وطلبوا منه أن يسعى لتخليص الفرسان والأبطال من الأسر.
ثم إنه غير زيه، وتنكر، ولبس حلة من الحرير الأخضر، ووضع طيلسانا على رأسه حتى لم يعد يعرفه أحد، وقصد الملك الدبيسي وحادثه باللغة الفارسية، فلما رآه الدبيسي على تلك الصفة ظن بأنه من دراويش الأعجام، فاحترمه وقال له: من أين أتيت يا ابن الأجواد؟ قال: من مدينة بغداد، وإني من فقراء عبد القادر رب الفضائل والمآثر. فقال: ادعو لنا يا درويش الأعجام بالنجاح والانتصار وأن الله يرزقنا بأبي زيد الخادع الماكر حتى نقتله على رءوس الأشهاد ونبلغ منه سرور الفؤاد؛ وهو الذي كان السبب في قدوم بني هلال إلى هذه المنازل والأطلال، فإذا أجاب الله طلبك بلغناك أربك.
فتعجب أبو زيد من هذا الكلام وقال له: بلغك المراد، وما دام كذلك أريد منك أن تأمر لي بالذهاب إلى البلد، فسمح له بالذهاب وأمر الجاب أن يفتحوا له الأبواب، وعند دخوله إلى البلد قصد باب الحديد وهو المكان الذي كانت مسجونة فيه فرسان بني هلال ووجد هناك جماعة العبيد وهم يطوفون تحت جنح الظلام فسلم عليهم فردوا السلام وقالوا: من تكون من الأيلم، فقال قد أرسلني الدبيسي بن مزيد لأدعو له في جامع عبد الصمد بأن الله يبلغه المراد وينتصر على أبي زيد من الأوغاد، وأنتم من تكونوا من الناس؟ فقالوا: إننا من جملة الحراس، وقد أمر الملك أن نحافظ على أسرى بني هلال خوفا من أبي زيد لئلا يأتي إليهم بالمكر والاحتيال.
ثم إن أبا زيد بعد هذا الحديث أخرج من جيبه شمعة مبنجة ، فأضاءها عند فرك مناخيره، فلما اشتعلت فاحت منها رائحة البنج ، فلما اشتعلت فاح منها رائحة زكية، ولم تكن إلا برهة يسيرة حتى وقعت الحراس كالأموات من ذلك البنج، وبعد ذلك أخرج حجر المغناطيس ووضعه على الأقفال، فتساقطت في الحال، فرأى فرسان بني هلال في القيود والأغلال وهم يقاسون الأهوال، فأعلمهم الأمر وفكهم من الأسر، ثم أعطاهم أسلحة الجماعة وقال لهم اتبعوني بعد ساعة حتى أكون فتحت لكم أبواب المدينة، فتخرجوا بالراحة والأمان، ثم صار حتى وصلوا إلى الباب، فوجد الحراس جالسين وفي أيديهم السيوف والحراب، فردوا عليه السلام، وقاموا على الأقدام وأجلسوه بجانبهم وجعلوه يخاطبهم ويخاطبوه. وكان كثيرا يمد يديه إلى جرابه ويأخذ قطعة من السكر ويأكلها أمامهم، فقالوا ما هذا الذي تأكله يا شلبي؟ قال: هذا هو ملبس حلبي. فقالوا: أطعمنا ونحن ندعو لك بالتوفيق والخير، فأعطاهم قبضة كبيرة وكانت مبنجة، فأكلوها فما استقرت في بطونهم حتى سقطوا أو ناموا، والأسرى قد خرجوا ومدوا في قطع البراري والبطاح، فوصلوا لأهلهم عند الصباح، فقامت الأفراح وكثر الصياح واشتدت ظهور الأبطال وشكروا أبا زيد على تلك الأفعال، رأوا الحراس راقدين والأسرى غير موجودين. ولما بلغ الدبيسي هذا الخبر طار من عينيه الشرر وتأكد عنده بعد التحقيق والتفتيش أن البلا من الدراويش وما هو إلا أبو زيد صاحب المكر والكيد.
ودارت الدائرة، واستمر القتال على هذا المنوال حتى كثرت الاهوال على بني هلال، فلم يعد لهم ثبات، فتأخروا إلى الوراء، فتفرقوا إلى جانب الصحراء وقد قتل من الفريقين في ذلك نحو عشرين ألف بطل كرار، ولما أظلم الظلام اجتمعت بنو هلال في الخيام في حالة الذر والانكسار مما أصابهم وعقدوا ديوانا مع الأمير حسن، وطلبوا منه أن يمدهم برأيه، فأخذ حسن يحمسهم بالمقال ويشجعهم على الحرب والقتال ويقول لهم: إنه من الواجب أن تركب الجازية مع العمارية وتحمل عليهم في الصباح بالكتائب والمواكب.
وعلى هذا النحو الذي تسوقه السيرة في الدور الحربي والمقاتل والمنقذ للجازية، كإلهة قمرية أم لذلك التحالف الهلالي؛ فهي - بالحق - التي حققت الانتصار الأخير وفك أسرى الهلالية، حتى إذا وصلت القبائل زحفها في أرض العجم أو العراق الأعلى وبحر العرب،
56
حتى طالبهم ملكها المدعو بالخرمند بدفع الجزية «عشر مالهم من النساء والدواب والخيول.»
فأرسل إليه أبو زيد الهلالي منشدا:
بعثت يا خرمند تطلب لعشرنا
عشر النساء والخيول الأصايل
وتريد منا كل بيضة جميلة
بنت الأمارة زائدات الدلائل
فما تحظى بهم فإن وراهم
رجال حروب كالأسود تقاتل
سألقاكم غدا بقوة ساعدي
وجيش بني هلال الفضايل
وإن كنتم لا تبرزوا للقتال
فإني سألقاكم بوسط المنازل
يقول أبو زيد الهلالي سلامة
سيدركوني الفرسان في يوم الهوايل
وحين وقعت الحرب بين الخرمند أو الفرمند، ويبدو أنه كان لقبا ملكيا، تبدت شجاعة أبي زيد، وما ألحقه بهم من هزائم. «فعند ذلك ولت الأعجام هاربة إلى النجاة طالبة، وخلص أبو زيد من أيديهم النساء والبنات ورجع بالنصر والإقبال إلى المضارب والأبيات مع باقي الأمراء والسادات.»
هذا ما كان من أبي زيد البطل وما فعله في ذلك النهار.
وأما المارية ابنة عم الأمير غنيم، فكانت في هودج على جمل أهوج، فلما اشتد القتال انهزم بها ذلك الجمل وسار بها على عجل، فرأت نفسها بقرب الحلة والكوفة والصلصيل وراء هودجها طالب أخذها، فصاحت على ابن عمها من ملو رأسها، وكان المذكور بالقرب منها فلما سمع نداها ترك القتال وأتاها، فجعل يطعن الأبطال ويمدد الفرسان.
وابن عمها هنا ليس سوى أبي زيد الذي أنقذ أميرات بني هلال من أيدي العجم بقرب الحلة والكوفة. (6) حسان اليماني أهي سيرة مستقلة مندثرة؟
من المرجح أن «حسان اليماني» ليست مجرد اسم لذلك الملك اليمني الجنوبي التبع، الذي يرد اسمه متسلطا على مقدمة أحداث السيرة الملحمية «الزير سالم» أبو ليلى المهلهل، حين غزا بلاد الشام وفلسطين، كأجاممنون بألف سفينة حربية، والذي سيسبب موته أو اغتياله في إشعال حرب البسوس القبائلية الانتقامية التي قادها الزير سالم لأكثر من أربعين عاما.
فالأصوب هنا أننا بإزاء سيرة أو ملحمة مندثرة أو منقرضة لذلك الملك القحطاني الجنوبي الغابر، الذي لا تنقطع مأثوراته هو وابنته «تدمر» ووالده «سبع أسعد»، وأخته المنتقمة لاغتياله سعاد، المتعارف عليها بالمتعددة الأسماء، وأشهر أسمائها البسوس، التي خلفت اسمها على الكثير من البلدان والمعالم العربية في مصر، والجزيرة العربية، ولبنان، وفلسطين.
فحسان اليماني اسم بطل ملحمي قحطاني يماني، متواتر إلى أيامنا، من أعلام الفولكلور العربي، له سيره وملاحمه، مثله مثل: الملك سيف بن ذي يزن الحميري، والجازية الإلهة القبلية الأم للتحالف الهلالي، والزير سالم أبي ليلى المهلهل، وبقية الأبطال الملحميين العرب.
ومن المرجح أن الملك التبع حسان اليماني كان - بدوره - بطلا لسيرة أو ملحمة مندثرة، كانت تعرف بسيرة «تبع حسان اليماني» تحكي عن فتوحات ومأثورات ذلك الملك المتجبر، الذي كان يسعده التغني منشدا بجوره:
ملكت الأرض جورا واقتدارا
ومن مأثورات والده «تبع أسعد اليماني» القول معنيا حربه للصين:
قد دعتني نفسي أن أنطح الصين.
ذلك أن سير الأنساب الحميري أو القحطانية اليمنية، لما يعرف بسلسلة الملوك التباعنة - أسعد تبع وابنه حسان اليماني - تعد في حكم المقضية أو المندثرة على طول الوطن العربي.
سوى أننا نلحق شخوص وأبطال هذه السير الملحمية في أخرى لاحقة، أو لعلاقة أحداثها ومأثوراتها «موتيفاتها» بسير وأحداث، أو حروب جانبية، من ذلك أن أحداث ومأثورات زرقاء اليمامة، التي اجتاحت جيوش تبع حسان اليماني قومها وبلادها «قبائل جديس» المنقرضة حين حذرتهم زرقاء اليمامة، وجيوش الملك حسان تزحف إلى المدينة «اليمامة» مغطاة بالشجر لتضرم فيها النيران فيما بعد، قائلة وكانت أبعد نظرا وبصيرة: «يا جديس، يا قوم، لقد سارت إليكم الشجر، وأتتكم حمير.»
ويقال إن حسان اليماني أذل جديس إلى أن أفناها، كما أفنى من قبلها قبائل طسم، ويذكر «أنهم كانوا لا يزوجون امرأة من جديس، إلا وبعثوا بها إليه ليفترعها» أي يفض بكارتها بدلا من بعلها.
كذلك ترد مأثورات التبع حسان، متداخلة ومهاجرة مع سير ومأثورات ابنته الفاتنة «ضمر أو تدمر» التي تسمت باسمها ممالك ومدن وحضارات بكاملها، في اليمن وسوريا والأردن وفلسطين، والتي نهب قصورها وبقايا آثارها ومقبرتها ذاتها الخليفة الأموي مروان بن محمد؛ بحثا عن كنوزها الدفينة، وهو القبر الذي يذكر أن الملك سليمان بكى عليه من روعته وأنشد:
57
يا من رأى مسكنا بتدمر
ما يعمره من أنيسه أحد
مبلطا بالرخام كالطود
ذي الأركان أبلى حديده الأبد
ولا تنتهي مأثورات ذلك التاريخ الأسطوري أو الخرافي حول شخصيات تباعنته أسعد (ابنه حسان اليماني) الذي كثيرا ما يلقب بذي اليمنين.
فيقال إنه عندما وافت المنية أبيه الملك التبع أسعد، نادى ابنه حسان ليستخلفه على عرشه بعده، وكان له تابعة أو ساحرة من الجن تسكن جبلا في كهف يقال له «ينور» فأمر ابنه حسان بالتوجه إليها وإبلاغها بأنه سيموت، وأمر ابنه بإطاعتها في كل ما تأمر به.
وعندما ذهب حسان إلى جبل ضهر ورأى المرضى والمعلولين منتشرين، يقدمون النذور من التمر والزبيب؛ لكي تشفيهم جنية الجبل، بعد أن يغتسلوا - وهو ما يزال ساريا حتى الآن - ويعرف سكان هذا الجبل بأهل ضهر؛ قرع الجبل ودخل إلى الجنية وأخبرها بما قاله أبوه فطلبت منه أن يجلس على كرسي يشغل بالحيات والعقارب والدود وقدمت له طبقا فيه عظام، وفي بعض النصوص أنها قدمت إليه طبقا به رءوس بشرية وطلبت منه أن يأكل، فلما رفض أعطته إناء مليئا بالدم ليشرب لكنه عاد فرفض، فقالت له: لقد أمرتك فعصيتني، عد إلى أبيك لكن اقتل عند الباب أول من تلقاه.
فتركها ومضى إلى أبيه ليقتل أول من سيلاقيه وكان أخوه «سعدي كرب» أول من صادفه فأبى أن يقتله، وعندما دخل حسان على الملك المحتضر أبيه حكى له ما حدث مع الساحرة، ففك له رموز الجنية، فمعنى جلوسه على الحيات والعقارب: أنه لا يملك حمير إلا من صبر على مثل لدغ الأفاعي والعقارب، ولو أكل رءوس البشر لخضع له رؤساء الناس، وبالنسبة لشرب الدم فمعناه أنه لا يملك حمير إلا من أهرق دماءها «وأما أخوك فسيقتلك إذا لم تقتله»، ويقال إنه لقي «عمر» بعدها وقتله، وأنشد حين أعماه التردد:
ألا من يشتري سهوا بنوم
ألا من لا يبيت قرير عين
فأمر حمير غدرت وخانت
فمعذرة الإله لذي رعين
ولما حسم تردده، وقتل أخاه عاداه النوم فلم يذقه، وعندما شكا قالوا لا يأتيك النوم حتى تقتل من دفعك لقتل أخيك، فنادى في مملكته، وجمع وجوه حمير الذين كانوا قد دفعوه واغتالهم خمسة بخمسة إلى أن قضى عليهم. •••
كذلك تطالعنا سيرة أو ملحمة حسان اليماني المندثرة، متداخلة مع الزير سالم أبو ليلى المهلهل حين واصل فتوحاته للشام ولبنان وفلسطين، وفي إطار ذلك التاريخ الأسطوري أو الذي يزاوج فيه الأساطير والخرافات، والذي يلقى عدم تحققه اليقيني الحفري كثير من غموض الظلال على أحداثه وسيره وتراثه الضارب في العراقة، لملوكه الذين جابوا العالم القديم، وخلعوا آثارهم وهجراتهم القارية في الهند وفارس والصين والتبت، والذين كان يحلو للواحد منهم القول «قد دعتني نفسي أن أنطح الصين» وهكذا يمضي مفتتحا الصين، ومجاهل أفريقيا، ومنهم هذا الملك التبع، الذي أفنى قبائل وحضارات بكاملها، والذي ظل يتمثل فيه أقصى تمثل لأنموذج شخصية المستبد العادل، أو الطاغية المنصف، على المستوى السياسي لليوتوبيا العربية والإسلامية بخاصة.
ويلاحظ جيدا أن هذا التبع حسان اليماني، يرد في نص ملحمة «الزير سالم» مهاجرا من ملحمة أو سيرة سابقة قائمة بذاتها، وأشار إليها الكثيرون من الكتاب الكلاسيكيين العرب، وصادفني خلال سنوات جمعي الشفهي لهذا التراث الكثير من موتيفاتها ومأثوراتها، ومواقفها، وأشعارها الإنشادية، ومواويلها، الذي ينسب الكثير منه لحسان اليماني، أو تبع حسان اليماني.
ونسب له الهمداني الكثير من النصوص والقبوريات.
كما تنسب له ملحمة الزير سالم أنه كان شديد البأس، مهيب القامة، لا يعرف الحلال من الحرام لا يحفظ العهد والذمام، وكان يحب النساء الملاح والمزاح، وفي كل ليلة يتزوج بصبية من بنات الملوك، ويشرب المدام في الليل والنهار.
وعندما سمع بازدهار وثراء ممالك الشام وفلسطين على أيامه؛ صرخ مقررا الحرب وتملك ديارهم في الشام وفلسطين منشدا:
يقول التبع اليمني المسمى
بحسان فما للقول زورا
ملكت الأرض غصبا واقتدارا
وصرت على ملوك الأرض سورا
وطاعتني الممالك والقبائل
وفرسان المعامع والنمورا
لقد أخبرت عن بطل عنيد
شديد البأس جبارا جسورا
وقالوا إنه يدعى ربيعه
أمير قد حوى مدنا ودورا
تولى الأرض في طول وعرض
فكم أخرب وكم شيد قصورا
فقصدي اليوم أغزوه بجيشي
وأترك أرضه قفرا وبورا
أسير بهم إلى تلك الأراضي
وأملك للقلاع وللقصورا
ويغنم عسكري منهم مكاسب
وأعطيهم بنات كالبدورا
ويبقى الحكم لي برا وبحرا
ويصفى خاطري بعد الكدورا
وأمر بدق الطبل النحاس الرجروج، وهو من أعظم الطبول، وكان يدقه عشرة من العبيد الفحول، وهو من صنعة ملوك التباعنة العظام.
واجتمع تحت إمرته، كأجميمنون وهو في طريقه إلى حرب طروادة عشرة ملوك أو «قيافل» بجيوشهم، ونصب الملك حسان، ملك اليمن وما يتبعها إلى الملك «الصحاح بن حسان» وقصد هو بجيوشه البحرية هذه إلى «بلاد الحبش والسودان» وما أن وصلوها حتى أرسل وزيرا بألف فارس، ليعلم واليه وابن أخته الملك الرعيني بقدومه، وإمداد الجيش حيث إنه في طريقه إلى الشام، آمرا ملوكه العشرة أن ينقسموا إلى قسمين ميمنة وميسرة، متملكين ما يقابلهم من مدن بحد السيف المهند، حتى ملكوا أكثر البلاد وأطاعتهم العباد.
إلى أن تملك بلاد الشام، فأحاط بها من جميع الجوانب بالمواكب والكتائب، وواضح أن تملك دمشق، التي كان واليها من قبل الملك ربيعة، سيد عرب الشمال العدنانيين القيسيين، ويدعى زيد بن علام؛ قد تم برا، بمعنى أن الغزوة لسوريا عامة كانت بحرية (ألف سفينة) إلا أن اقتحام عاصمة العرب القيسيين «دمشق» جاء برا.
وأقول هذا ردا على الدكتور لويس عوض،
58
الذي خلال تعرضه بالدراسة لهذه الملحمة أو السيرة العربية العريقة «الزير سالم» التي خلفتها الحضارات العربية اليمنية، في عدن وسبأ وحضرموت، ثم الشام وفلسطين. افترض أنها سيرة ملحمة مترجمة مستندا لمغالطة الحصار البحري لدمشق قائلا: وبالتالي فحديث الملحمة عن «ألف مركب يجهزها الوزير نبهان أو نهبان لغزو الشام؛ ضرب من المحال، ولا تفسير له إلا أن يكون النص مقتبسا، محرفا بما يناسب ضرورات التعريب، وهذا يضع الملك حسان في وضع أجاممنون غازي طروادة.»
المهم أنه لم يهدأ للتبع حسان اليماني بال إلا عندما استقدم ملك عرب الشمال القيسيين العدنانيين «ربيعة المعظم » - والد كليب والزير سالم - الذي كان قد رفض المثول بين يديه، وأمر حراسه بإلقاء القبض عليه «ومن معه من بني قيس الطناجير وقيدوهم في الجنازير» وشنقه وصلبه على بوابات دمشق.
ومن فوره بدأ بتقسيم الإمبراطورية، إلى عدة فرق، ولى عليها من استسلم له من أمراء القيسيين، وأولهم الأمير «مرة، والد جساس مغتال كليب، الذي جعله على الفرقة الأولى، يسكن مع قومه في نواحي بيروت وبعلبك والبقاع»، وجعل الأمير عبس، واليه على فلسطين وبلاد السرو وعباد، هي مملكة النبطيين، أو العرب الأنباط الأردنيين.
ويلاحظ أن الأردن بالفعل يكثر بها أشجار السرو إلى أيامنا، كما يلاحظ أن الأنباط العرب ما يزال يتواتر حولهم عديد من المأثورات والأمثلة الفولكلورية، حول النبط أو النبطة، والقول بأن فلان، نبطي، أو مثل النبطة، بمعنى أنه إنسان صلب قوي لا يقهر ولا يلين أو ينكسر.
كما أقام التبع الغازي حسان واليه الأمير المسمى: عدنان، على الفرقة الثالثة «وأن يقيم في العراق بتلك المنازل والآفاق.»
وهكذا استتب للتبع اليماني المقام، بعد أن شتت بني قيس وقادتهم في البراري والتلال، ودام له الحال ثلاثين سنة تهاديه الملوك الأكاسرة وتهابه الملوك القياصرة.
فبنى قصرا مرتفع البنيان وجعل أبوابه من الفضة والذهب، بناه له فرعون مصر الشهير، الذي تحتفظ الملحمة باسمه «الريان»، الذي تجمع معظم المصادر العربية الكلاسيكية على الاحتفاظ باسمه هذا، وهو فرعون إبراهيم في مصر، بما يشير إلى افتراض أن هذه الأحداث وقعت متعاصرة على وجه التقريب مع مطلع الألف الثاني ق.م؛ أي منذ حوالي 38 قرنا.
وتكتمل مأساة هذا التبع المتجبر، الذي يربط البعض بينه وبين ملك الملوك «أجاممنون»، نتيجة لمصرعه واغتياله على يد زوجته الجليلة وعشيقها - أو خطيبها أو زوجها - الأمير كليب الفلسطيني، وما نتج عن هذا من اندلاع ألسنة لهب حرب البسوس الشهيرة، التي امتدت تحت تأثير النزعات القبلية والثأرية لمدة أربعين عاما متلاحقة.
وإذا ما انتهينا من إلمامة عامة حول تلك السيرة الملحمية لحسان اليماني ؛ فمن المفيد استكمال المعرفة بابنته «تدمر» ومأثوراتها المتواترة بدورها بكثرة في ثنايا الأدبين العربي الكلاسي والشعبي الفولكلوري ... فهناك أكثر من مدينة أو موقع أثري لحضارة آفلة تسمى باسم «دمر» أو «تدمر» في عالمنا العربي، في اليمن، والجنوب العربي؛ أي عدن والإمارات العربية اليوم، بالإضافة إلى سوريا.
ويجيء الاسم تدمر، انتسابا إلى «ضمر» أو تدمر، ابنة الملك التبع الغازي «حسان اليماني» صاحب السيرة المندثرة المعروفة - انظر: حسان اليماني - الذي غزا الشام وفلسطين منذ عصور موغلة في القدم، وتسبب اغتياله الدامي ليلة عرسه بدمشق، من الأميرة الفلسطينية «الجليلة بنت مرة» التي كانت مخطوبة لابن عمها، كليب بن مرة الأخ الأكبر للزير سالم أبو ليلى المهلهل عن اغتيال كليب، للتبع حسان، والد - تلك الملكة الإلهة - تدمر، واجتياح الحرب القبائلية المعروفة بحرب البسوس، الأربعين عاما بين عرب لبنان وفلسطين.
فحسان اليماني وابنته الفاتنة «تدمر» التي خلفت اسمها على المدينة الغابرة تدمر بقصورها التي ينسب بناؤها للجن، كما ذكر نشوان بن سعيد الحميري في هذا قوله «نسبت اليهود والعرب بناءها إلى الجن؛ لما استعظموه من مخالفها الأثرية والمعمارية بالطبع.»
وكما ذكرنا، يبدو أنها كانت مقبرة مهيبة قيمة هدمها الخليفة الأموي مروان بن محمد، وأخذ كنوزها الغنية، فإذا فيه امرأة على قفاها، ألبست سبعين حلة ولها غدائر سابغة إلى صدرها، وفي بعضها صفيحة من الذهب مكتوب فيها «أنا تدمر بنت حسان بن أذينة - اسم أمها - خرب الله بيت من خرب بيتي»، ويذكر أنه بعدها اغتيل مروان؛ أي بعد أن خرب ونهب مقبرتها.
وذهب البعض إلى أن اسم تدمر مشتقة من «تمر» أي بلح، وأن هذه المدينة القديمة، ومعناها «مدينة التمر» وهي المدينة التي خربها الملك العراقي بختنصر أو بنو خذ نصر.
وكان بها هيكل لإله الشمس «بعل»، وهي ذاتها المدينة التي اعتلت عرشها الملكة زنوبيا أو الزباء ابنة أذينة بن الهميع عام 267 ميلادية إلى أن أسرتها روما، وكاد سكان تدمر أن ينقرضوا بعد أسرها. (7) طول سيرة عربية في التاريخ «سيرة الأميرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب »
لعل سيرة الأميرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب هي أطول سيرة في التاريخ؛ ذلك أن مخطوطتها الأساسية تصل إلى 26 ألف صفحة، وما تزال هذه الدرة العربية محفوظة كمخطوطة لم تلحقها بعد يد المطبعة بمكتبة الدولة ببرلين الغربية، لا يلتفت إليها بالقدر الكافي؛ خاصة وأنها تغطي - من حيث تاريخها - لحقبة هامة تصل إلى قرابة أربعة قرون؛ منذ أواخر وأفول الدولة الأموية في دمشق، والانتقال بالخلافة الإسلامية إلى عباسي بغداد.
فهي تؤرخ لسيرة الأسرة الفلسطينية الحاكمة في القدس وفلسطين في ذلك العصر، ومحورها بالطبع الأميرة فاطمة بنت مظلوم التي لقبت بذات الهمة.
وإذا كان من أولى الأهداف الرئيسية لمثل هذه الأعمال الشعبية الجمعية مجهولة المؤلف، هو التأريخ للأخطار المهددة لبلداننا العربية؛ فإن سيرة الأميرة الفلسطينية ذات الهمة وابنها عبد الوهاب تؤرخ - بدقة ما بعدها دقة - لتفاصيل ودقائق الحروب البيزنطية ضد الدولة الإسلامية الوليدة، وهي الحروب التي تسميها السيرة بالحروب الرومية.
فسيرة الأميرة ذات الهمة تبتدئ أحداثها بأزهى عصور الخلافة الأموية في دمشق المتاخمة وعصر عبد الملك بن مروان، مرورا بمروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين الذي طارده أبو مسلم الخراساني عقب هروبه إلى مصر، إلى أن لحقه واغتاله في «أبو صير» بمصر الوسطى، مرورا بمطلع العصر العباسي، وصراع السلطة المحتدم، المتبلور في أزمة أو فاجعة البرامكة، وانعكاس كل هذا على عرب فلسطين «القيسيين» وأميرتهم ذات الهمة وابنها عبد الوهاب؛ حيث تستفيض هذه السيرة التاريخية العملاقة في إعادة سرد تلك النكبة السياسية الكبرى بين جناحي اليمين التقليدي والطلائع الإسلامية المستبصرة بالخطر الخارجي الجاثم على الأمة العربية، ممثلا في الدولة البيزنطية أو الرومية - كما تعارفت عليها السيرة.
وما هذه الطلائع الإسلامية سوى شخوص وأبطال هذه السيرة الفلسطينية لسكان الثغور، غزة ويافا وحيفا وعكا المقاتلة البطلة على طول تاريخها.
وتنتهي أحداث هذه السيرة في عصر الخليفة العباسي الواثق بالله، برغم أنه يرد ضمن أحداثها وعلى لسان راويها أن سيرة الأميرة الفلسطينية ذات الهمة كانت تروى بتمجيد شديد على الخليفة الواثق بالله العباسي، وأن ذلك الخليفة كان كثيرا ما يستوقف راويها مستفسرا عن أبطالها وأحداثها، تلك التي تؤرخ لحياة وبطولات تلك الأسرة الفلسطينية الحاكمة لذات الهمة كقائدة محاربة لعبت أهم الأدوار في الدفاع عن مطلع الدولة، أو الخلافة الإسلامية، كان البحارة الفلسطينيين كطلائع ساحلية بحرية كانوا على طول تاريخهم أكثر نبضا وتوقدا واستشعارا بالخطر الخارجي المتربص على الدوام ببلداننا العربية، سواء أكان الشرق الأوسط المعاصر، أو الأدنى القديم، أو ما يعرف بالعالم العربي بعامة، ومركزه الشام وفلسطين والجزيرة العربية.
وهو بالضرورة أمر طبيعي أن تجيء الطلائع البحرية الساحلية في لبنان وفلسطين أكثر استشعارا وترصدا للأخطار المحيطة ببلداننا العربية، عنها بالنسبة للبلدان والحضارات الزراعية أو البدوية الرعوية، حتى ولو من مدخل أن تلك الأخطار والغزوات لا بد وأن تجيء - في معظمها - بحرية.
وقبل أن نستطرد في سرد الوقائع والأحداث ذات الصبغة السياسية للكيان أو الأسرة الفلسطينية الحاكمة على أرض وتراب فلسطين، للحقبة أو العصر التاريخي الذي تؤرخ له السيرة، بدءا - على التقريب - من مطلع القرن الثامن الميلادي؛ نعود إلى أهمية وقضية هذه السيرة العربية الفلسطينية العملاقة، وللقارئ أن يتصور أن «سيرة الأميرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب» ما تزال إلى أيامنا مخطوطة مفتقدة أو مهجورة منذ أن نسخها مؤلفها - أو أكثر مؤلفيها الحقيقيين - كتراث أو تاريخ شعبي أقرب إلى أن يكون فولكلورا من حيث الافتقاد للمؤلف اليقيني الفرد.
وبرغم حاجتنا الماسة إلى إعادة المعرفة العلمية اليقينية بتراثنا التاريخي، خاصة بالنسبة للوطن العربي السليب فلسطين، وما نشهده من تهويد وتغيير للمعالم، وجور مستعمر ضد كل حق وتاريخ سواء في فلسطين الأمس، أو لبنان اليوم؛ ما تزال هذه السيرة مخطوطة في عشرات الأجزاء المتتابعة التي تصل في مجموعها إلى 26 ألف صفحة من القطع المتوسطة، والنسخة الوحيدة المحفوظة بمكتبة الدولة ببرلين كمخطوطة، لم تصلها بعد المطبعة، وهي لهذا مصدر فخر لمكتبة برلين المركزية، واحتفى بها أشد احتفاء لإنقاذها من الدمار عقب الحرب الكونية الثانية الأخيرة.
59
هذا على الرغم من أنه كان لهذه السيرة الملحمية الفلسطينية الأصل والمنشأ، أكبر التأثير في مجمل الآداب البيزنطية منذ ما قبل القرون الوسطى،
60
كذلك نقلت أو هي ترجمت إلى الفارسية وإلى التركية منذ أوائل الغزو العثماني.
وعرفت باسم «سيد البطال» وهو اسم بطلها الخارق المحارب صاحب الألاعيب والخطط الحربية البارعة، التي أوصلت بطلة السيرة وشخصيتها المحورية «ذات الهمة» لأن تصل بمعاركها وانتصاراتها الحربية التاريخية إلى حد أسر الإمبراطور الروماني «ميخائيل» ودخولها على رأس الجيوش العربية الإسلامية - المتحالفة - إلى القسطنطينية لتصبح وتتوج إمبراطورة لفترة ليست طويلة - على أي حال - على القسطنطينية والإمبراطورية الرومانية بعامة.
فكما ذكرنا فإن الهدف الجوهري لهذه السيرة الفلسطينية هو التأريخ لمسار تلك الأسرة الفلسطينية وحروبها وتصديها للغزو الخارجي، كمقاتلين عن الثغور والمداخل البحرية، طالما أن الغزو لا بد وأن يجيء بحريا، في ذلك العصر الإسلامي البيزنطي الوسيط.
فالصحصاح جد الأميرة ذات الهمة، يشارك في الحرب ضد الروم، والمعروفة باسم حرب الروم، من وجهة نظر التاريخ الشعبي بالطبع، في تلك الحروب الأموية التي اندلعت ضد الروم «البيزنطيين» ومنها حملة مسلمة بن عبد الملك، وما توالى من خلفاء وحروب متصلة لتأمين حدود الدولة الإسلامية الوليدة.
كذلك لم تغفل سيرة ذات الهمة أن الحصار الذي ضربه العرب حول القسطنطينية امتد لبضعة أعوام؛ مما اضطر الجيوش العربية إلى إشادة مدينة ضخمة في مواجهة القسطنطينية تعارفوا عليها باسم «المستجدة».
61
وهو الحصار الثالث للقسطنطينية الذي وقع تاريخيا، كما لم تغفل عنه السيرة، وفي ذلك الحصار تبدت طاقات البطل الشعبي المخادع أو الميكيافيللي سيد البطال، والذي - كما ذكرنا - بطل تاريخي استشهد بالفعل في الحروب العربية ضد الرومان عام 122 هجرية،
62
وهو يرد في السيرة، لا كبطل أو قائد محارب بل على أنه ماهر في إنشاء ونقل وتموين خطوط الجيوش العربية إلى مداخل أوروبا الجنوبية بالإضافة إلى الأندلس أو شبه جزيرة أيبريا بكاملها، والتي وصلت الدول والدويلات «السورية الفلسطينية» في الإطار العربي القومي العام فيها إلى أكثر من 12 دويلة وكيان، يرد اسمها الفلسطيني صريحا، مثل دولة بنو الزيري، والتي نرجح أن التسمية هنا ترد منتسبة إلى الزير سالم، البطل الملحمي العربي الشهير بالمهلهل أو أبو ليلى المهلهل، من ألقابه سيد أو أمير ربيعة، فالمرجح أن تسمية الزير وبنو الزيري
63
تسمية ملكية، بالإضافة طبعا إلى دول ودويلات الأندلس مثل بني الأحمر.
وإذا ما تجاوزنا مدى الصلة الفعلية بين أحداث سيرة الأميرة ذات الهمة، وبين الأحداث التاريخية التي تؤرخ لها، فالسيرة تؤرخ لحرب بني كليب التغلبيين الفلسطينيين، وطلائعهم أو حكامهم أسرة ذات الهمة ضد الروم البيزنطيين عبر بضعة أجيال متعاقبة تتخذ رأسا لها الأمير جندبة بن الحارث الكلابي وابنه الصحصاح الذي تبدت أولى أعماله البطولية كما تذكر السيرة في إنقاذه لابنة الخليفة الأموي من مختطفيها، ثم بعد ذلك نراه يشارك في قيادة الحروب العربية ضد بيزنطية، بأمر من الخليفة عبد الملك بن مروان، لحين مجيء ذات الهمة واسمها الحقيقي فاطمة ابنة مظلوم بن الصحصاح بن الحارث الكلابي، ولدت وتربت فاطمة، تلك التي عرفت باسم أو لقب ذات الهمة، في الخفاء أو البرية، ومنذ شبابها المبكر تصدت للاعتداءات القبلية الداخلية لقبائل طيء؛ دفاعا عن شرفها وعن قبيلتها، ومن هنا اشتهرت بذات الهمة، إلى أن أحبت ابن عمها الأمير مرزوق، وكان فارسا لا يمل المغامرات والدفاع عن قومه، إلى أن أنجبت ذات الهمة منه ابنا أسمته عبد الوهاب «أراد الخليفة الواثق تعيينه واليا على القسطنطينية فرفض عبد الوهاب.»
64
وعلى هذا لم تغفل سيرة الأميرة ذات الهمة التسجيل والتأريخ للأحداث الداخلية ذات الصبغة السياسية؛ من ذلك أزمة أو نكبة البرامكة في مطلع الخلافة العباسية، التي يرد ذكرها من منطلق التأريخ الشعبي في سياق أحداث السيرة، وهي الأحداث التي وقعت في نهاية القرن الثاني الهجري (187) حين أقدم الخليفة هارون الرشيد على اغتيال جعفر بن يحيى البرمكي، وزيره الأول أو رئيس وزرائه.
وترد تلك الحادثة ضمن أحداث السيرة مرتبطة بإحدى العواصم أو الثغور التي استعمرها البحارة الفلسطينيون جزيرة مالطة أو مالطية، وكيف أمر الرشيد ببنائها وتعميرها وهو في طريق عودته من إحدى غزواته إلى حاضرة خلافته بغداد «حين جمعوا الصناع والبنائين من سائر البقاع»، وحين عاد إلى بغداد حدثت الواقعة أو الوقيعة، بين الرشيد والبرامكة، ولا تغفل السيرة ربط نكبة البرامكة بأحد أبطالها المحاربين وهو الأمير عبد الوهاب الابن الوحيد الوريث لذات الهمة، والخصم الأزلي لشخصية ترد خائنة متآمرة تقف في صف الأعداء الروم، ويدعى «عقبة» وكيف أزعجته العلاقة - ويمكن القول التحالف - بين جعفر بن يحيى الوزير الأول، وبين الأمير عبد الوهاب الفلسطيني بن ذات الهمة، فدس خطابا بمساعدة الفضل بن أبي ربيعة مليء بالتآمر ضد الخليفة بين طيات عمامة جعفر بن يحيى البرمكي، اكتشفه الخليفة وأنزل النكبة الانتقامية بالبرامكة، التي أحدثت بالتالي أثرها بالنسبة لمجرى أحداث سيرتنا هذه ذات الهمة، التي تقع أحداثها المركزية ما بين الثغور الفلسطينية العربية وبين دمشق وبين جزيرة مالطة، أو مالطية المتاخمة لشمال فلسطين.
كذلك لا تغفل السيرة عن ذكر بناء وتعمير المدن، مثل مالطية أو مالطة، وأيضا بغداد حين شادها الخليفة المأمون على نهر دجلة، حين راقه الموقع فأسماها باسم راهب كان يسكنها وأرضه «باغ-داد».
65
كذلك يرد في السيرة - بكثرة ملفتة - ذكر المدن والثغور الفلسطينية: غزة، حيفا، يافا، بالإضافة طبعا إلى مالطة المتاخمة، والتي كانت في موقع الدفاع الأول عن الساحل الفينيقي من لبناني وفلسطيني، على طول عصورها وبخاصة أكثر منذ مطلع العصور الوسطوية، وهو ما تؤرخ له سيرة ذات الهمة العملاقة.
الباب الرابع
القسم الأول
سيرة الأنساب الفلسطينية
وكما ذكرنا فإن السيرة تعني - بعامة: سيرة أنساب، ومن هنا لا تغفل سيرة ذات الهمة التأريخ لتلك الأسرة الفلسطينية الحاكمة التي من صلبها انحدرت ذات الهمة وابنها عبد الوهاب.
وكانت الواقعة الرئيسية التي أعلت من شأن الجد السلف لذات الهمة وهو جندبة، هي إنقاذه لقافلة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وهي في طريقها من فلسطين - أو عبرها - إلى دمشق، مما دفع الخليفة إلى أن يبعث في طلبه، لكن في الطريق إليه، تحدث واقعة جانبية، حين يصرع هشام بن عبد الملك بن مروان في حب (قتالة الشجعان) زوجة جندبة، إلى أن يتمكن من استلابها أو اختطافها منه.
وحين تنتهي مهمة جندبة في دمشق بعد أن كرمه الخليفة الأموي عاد جندبة إلى قومه في فلسطين، وتزوج بأميرة فلسطينية تدعى «حسنا» أنجب منها الصحصاح، الذي واصل تفوقه كقائد حربي، إلى أن فتح القسطنطينية،
1
أو أنه كان القائد الحربي للجيوش الإسلامية المتحالفة الغازية، وأبرزها - بالقطع - الطلائع البحرية الفلسطينية.
ولعلنا - ونحن نتعرض للصحصاح - نكون قد وصلنا إلى الجيل الثالث لأسرة ذات الهمة التي ستطالعنا سيرتها في الجيل الخامس لهذه الأسرة الفلسطينية الحاكمة؛ ذلك أن الأمير الصحصاح جدها تزوج بامرأتين ولدت له الأولى واسمها
2
ليلى ابنا أسمته «ظالما»، والثانية المضطهدة ولدت له «مظلوما»، ومظلوم هذا هو والد فاطمة أو الأميرة الذلهمة التي تواتر اسمها إلى ذات الهمة.
أما الصحصاح فهلك خلال صراعه مع النمور البرية التي افترسته في العراء، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره.
فتسرد علينا السيرة مطولا أن ظالما اغتصب ملك أبيه الصحصاح، وراح يضطهد أخيه مظلوما وأهل بيته، الذين تسميهم السيرة ببني الوحيد، إلى أن ترك له الديار راحلا لينزل بزوجته سعدة ومرزوق وفاطمة أو ذات الهمة الطفلة، فسكن إلى جوار قبائل طيء.
3
وهنا يتوقف راوي السيرة مطولا عند ذات الهمة التي لم تكن أبدا تقبل ضيما، بل كانت متعالية محتشمة فصيحة تنطق على الدوام بالشعر والحكمة، وفي عديد من المواقف تتصرف بذكورية أقرب إلى الفروسية التي تفوقت فيها على أعتى الفتيان والأمراء، برغم أنها كانت ما تزال تكدح في كنف أمير يدعى «الحارس»، كراعية نوق لدى قبائل طيء.
وفي بعض المواقع والنصوص تلقب ذات الهمة بالداهية أو بداهية بني طيء؛ ذلك أن أمرها استفحل إلى حد أنها سيطرت بقوة إرادتها على عبيد بني طيء
4
ورعيانها، وتزعمتهم في الكثير من الحروب القبلية التي هدفها حيازة الغنائم والأموال والمواشي، وكانت تصيح في عبيدها وهي تدعوهم ببني حام: «اهجموا بنا يا بني حام،
5
فنزلوا وأضرموا النيران وعقروا من الأغنام».
وما إن قويت شوكتها وتعالى عدوانها وصيتها؛ حتى استقلت عن أبيها وقبيلتها «طيء» وعادت بعبيدها وأموالها إلى حيث قبيلتها الأم في أرض فلسطين، فنهبت أموال وغنائم عمها ظالم، إلى أن واجهته الذلهمة أو ذات الهمة، ونازلته بالحرب وجها لوجه، وهو عمها وأمير قبيلتها.
وبرغم أن والدها مظلوم انضم إلى أخيه ظالم - ظالمه - إلا أنها حاربت أبيها ذاته وأسرته، ملقية به من على جواده إلى التراب وداسته بحوافر حصانها،
6
ثم عادت فنازلت عمها ظالما وهزمته في الميدان، وانتزعت منه قيادته وسطوته.
إلى أن كبر بدوره ابن عمها ظالم المسمى بسالم وأحبها على اعتبار أنها داهية بني طيء وليست ابنة عمه فاطمة، وحين حاول الزواج منها رفضته في وحشية قائلة: «ما خلقت إلا للنزال لا للرجال، ولا للفراش، وليس يضاجعني غير سيفي ودرعي وعدة جلادي، ولا يكن خدري إلا صهوة جوادي وكحل غير النقع مرادي.»
بل والملفت أن الأميرة ذات الهمة كانت تتعمم بزي الرجال، وتخوض التجمعات مع الناس وتشارك في المعارك السياسية المستعرة في فترة حكم آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد، والإرهاص المقبل بانتقال الخلافة إلى العباسيين.
ثم كيف أشارت بطلتها الذلهمة على قومها بضرورة - بل حتمية - الدخول تحت لواء الدولة الجديدة الوليدة في بغداد.
وهكذا سارت ذات الهمة إلى الخليفة المنصور على رأس فرسان قومها، في عشرين ألف فارس، فخيموا على مشارف العاصمة تحت راياتهم وبيارقهم، إلى أن استقبلها المنصور هي وعمها ظالم، وأبيها مظلوم، بصحبة أمير كلبي مقرب من الخليفة، هو: عبد الله، فكان أن خلع عليها المنصور الإمارة وعلى قومها، وهو شديد الإعجاب بشجاعتها وفصاحتها وهامتها المنتصبة الواثقة في حضرته.
حتى إذا ما عرجت بنا السيرة نحو قصص وفابيولات جانبية، منها مدى تعشق ابن عمها الأمير الحارث فيها ورغبته المضنية بالزواج من ابنة عمه، ووصل الأمر إلى مسامع الخليفة فاستدعاها قبل العودة إلى فلسطين ليقنعها بالزواج من ابن عمها، فأجابته في فروسية ملفتة «أنا امرأة لا أحب قرب الرجال، أبغض أخبية النساء وربات الحجال، وقد أحببت ما ترى من القتال والتقلد بالسيوف الصقال، والرماح الطوال، فلست أعد من جملة النسوان يا خليفة الرحمن، فسيفي دوما حجلي والغبار كحلي والحصان أهلي، فماذا أصنع يا أمير المؤمنين بالحارث وبغيره من العالمين؟»
وكان أن وثب ابن عمها الحارث من فوره قائلا: «أشهد على أن أتزوج بها على شرط يرضيها؛ ذلك أنها تكون سماء أراها ولا تكون أرضا أطأها.»
فقبلت ذات الهمة التي جاء دورها كمحاربة قائدة لاحقا؛ ذلك أن الأخبار والأخطار المحيطة بالدولة الإسلامية من جانب الروم البيزنطيين وملكهم الذي تلقبه السيرة «لاوون» وابنته التي تسميها السيرة بالملطية؛ تواترت من فورها بقرب هجومها على مداخل الدولة العباسية
7
على طول الشمال الغربي.
أما الأحداث التاريخية الفعلية فلا تبعد كثيرا عما تسوقه السيرة عن هذه الحملة العسكرية ضد الروم، ففي عام 692 ميلادية تمكن العرب من تمزيق شمل جيش الإمبراطور يوسيتنيان الثاني الذي حكم سنة (685-695) وهو ابن قسطنطين الرابع، وآخر إمبراطور من سلالة هرقل، وكان ذلك في مدينة سيبا ستوبوليس في قيليقيا، وفي حملات عسكرية تالية تم للجيش العربي ضم مدينة برغموم وساردس وغيرهما من مدن آسيا الصغرى، مما دفع بالعرب إلى مشارف القسطنطينية للمرة الثالثة، وبدأ ضرب الحصار على عاصمة الروم في مستهل آب من سنة 716 ميلادية، وهو الحصار الذي دام أكثر من سنة، ولم يستطع الإمبراطور ثيودوسيوس الثالث الذي حكم عرش الإمبراطورية (715-717) وكان قد صده بمعونة الجيش، برغم أنه كان في سابق عهده موظفا مغمورا لعله أن يفعل شيئا في وجه هذا الزحف العربي، غير أن العرب تعرضوا في تلك الأثناء لهجمات عنيفة قام بها ليو الذي تدعوه السيرة بليوون،
8
وهو قائد عسكري للجيش الأناضولي، وقام بشن هجمات أثارت حماسة الجماهير في العاصمة، وأكسبته شهرة دفعت بزعمائهم الدينيين من الإكليروس لإعلانه إمبراطورا خلفا لثيودوسيوس، وأصبح يعرف بالإمبراطور ليو الثالث فحكم (717-741) وهو مؤسس السلالة الملكية الأيزورية.
وكان ليو هذا قائدا ممتازا ومنظما عظيما، وقد عمد الروم إلى سد مضيق البوسفور عبر الرأس الذهبي بسلاسل حديدية منعت سفن الجيش العربي من عبوره والوصول إلى مرفأ العاصمة، وبسبب شدة البرد في تلك الأصقاع وهجمات البلغار المضادة على العرب، اضطر العرب للتراجع عن عاصمة الروم والكف عن مهاجمتها مما رفع من مقام ليو، ذلك الجندي السوري المنبت المعمور، واعتباره منقذ أوروبا من الاحتلال العربي.
وهو ما حفظت السيرة اسمه بدقة «ليو-ليون»، ويلعب في هذا الحيز من السيرة أهم الأدوار المضادة للتحالف العربي بقيادة الأميرة ذات الهمة وقبيلتها التغلبية الفلسطينية.
والملفت أن هذه السيرة تستطرد في كيفية الاستعداد الأقصى للحرب من جانب ذلك الإمبراطور ليون أو ليو وابنه، في تجهيز الحرب وبناء الأسوار والقلاع، وتجهيز الجيوش وعقد المعاهدات والتحالفات السياسية في القسطنطينية، ومالطة ومداخل أوروبا - أو الغرب بعامة.
وتعود السيرة ملقية الأضواء على الجانب الآخر؛ أي مخاوف الخليفة المنصور من الحشود الحربية البيزنطية، وبحثه عن المنقذ بعد اغتياله لقائده الفاتح، ومثبت أركان الخلافة أبو مسلم الخراساني على مذبح عرشه.
وعلى الفور أشار إليه وزيره المقرب الملقب بأبي أيوب قائلا: «على أبوابك اليوم من بني كليب وعامر
9
مائة وستون ألف فارس أنجاد، فناد بالجهاد.»
وكان أن استقبل الخليفة ذات الهمة وأبويها، ومن فورهم ساروا إلى آمد ومالطة مرورا بنصيبين التي انهزم فيها أمير قبائل بني سليم الملقب بالحصين بن ثعلب، إلا أن ذات الهمة أو الداهية لم تثنها هزائم الروم البيزنطيين للعرب، بل فتحت معظم جزر مداخل بحر إيجة ومالطة، كاشفة خلال حروبها عن تفوقها الحربي وخداعها أو ذكائها إلى حد أنها رفعت عاليا البيارق والشارات السوداء والأعلام العباسية، وقد أسمعت المأسورين بالتهليل والتكبير ففرحوا بذلك وتمنوا الخلاص بأمر مالك الممالك، هذا وقد تأهب الروم للصدام عندما علموا أنهم من عصابة الإسلام، فقالوا: يا ترى من أوصل هؤلاء إلى هذا المكان؟
10
ولا تغفل السيرة أدق تفاصيل المعارك العربية بقيادة ذات الهمة ضد الروم البيزنطيين على النحو التالي:
قال الراوي: «هذا وإن بني كليب حملت على الروم؛ من شوقهم إلى الجهاد، وأجادوا الطعن بالسيوف الحداد، وقد صدموا الروم بالخيل الجياد، فتلقتهم البطارقة كالرعد القاصف، وحملت الملعونة باغة وهي صائحة زاعقة فالتقاها عطاف بن الحارث، فتجاولا وتصادما ولم تكن إلا ساعة من النهار حتى حملت عليه الملعونة باغة وضربته بالسيف على هامته نزل السيف إلى نصف قامته فوقع إلى الأرض قتيلا.»
فالملفت أن السيرة عبر سردها لأحداث القتال المحتدم على الجبهة الخارجية؛ تعود من فورها غائصة وكاشفة عن أبعاد الصراعات الداخلية من قبائلية وسياسية، انتهت في تلك الحقبة باعتلاء الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد للخلافة الإسلامية.
ويبدو أن ذات الهمة وقبيلتها استبشروا بالخليفة الجديد، هارون الرشيد أو هارون العلوي، الذي حارب طويلا تحت رايات ذات الهمة - كما هو ثابت تاريخيا - وذلك فيما قبل عام 872 ميلادية، حين قاد جيشا لأبيه الخليفة المهدي عبر آسيا الصغرى إلى أن وصل تخوم البسفور، وشارك في الكثير من الفتوحات التي شملت بحر إيجة حتى تخوم القسطنطينية - ذاتها - وأسوارها.
إلا أن السيرة لا تغفل عبر سردها غير المنحاز إلى حد كبير ضد الوزراء العباسيين الرجعيين والخونة إلى حد مكاتبة أولئك الوزراء للإمبراطور الروماني، وإن بالغت السيرة كثيرا في أنهم كانوا مرتدين أو مسيحيين، من ذلك كبير القضاة العباسيين واسمه «عقبة» وأولاده الكثيرين، والذي تصفه بأنه كان من «عبدة الصليب والأوثان»؛ ونظرا لأنه كان مقربا من الخليفة الراحل المهدي؛ فإنه كان يمتلك كنيسة ويعلق الصلبان من طوف أولاده الكثيرين، ويبدو أن عقبة ذلك كان على دراية عالية بعلوم عصره؛ ذلك أنه راسل الإمبراطور الروماني ذاكرا «إنني رجل حفظت الأخبار وعرفت الأنشاد وقرأت الكتب اليونانية والصحف العبرانية.»
وسيلعب
11
هذا الوزير دورا سالبا في تقسيم وإضعاف الخلافة، بل ويصل به تجسسه إلى حد جذب الجيوش الرومية إلى عمورية بالأردن وفلسطين وتخوم الموصل بل بغداد ذاتها.
ونفس الدور السالب ذاته تعرضت له السيرة فيما يختص بالوزير الأول المقرب «الفضل بن الربيع» الذي كان له اليد الطولى لدى الرشيد داخل البلاط العباسي.
وعلى هذا استغل الفضل بن الربيع تلك اليد السلطوية الطولى في الفتك بالجناح الأكثر استبصارا بالأخطار المحدقة بالدولة الوليدة، وهم البرامكة ... الحلفاء الطبيعيين لذات الهمة وابنها عبد الوهاب والكيان الفلسطيني - البحري - بعامة.
وفي هذا تشير السيرة راصدة ذلك الصراع الأزلي بين جناحي الدولة أو الخلافة، وكيف كان الفضل بن الربيع حاجب الحجاب؛ يتعصب لعقبة نكاية في جعفر البرمكي؛ لأنه رأى جعفر - كان يحب عبد الوهاب - ابن الأميرة ذات الهمة وبني كليب، «وكان الفضل أبخل أهل الأرض في طولها والعرض.»
12
ورغم الصراعات السياسية القبائلية التي كانت تفت في عضد وجسد الخلافة العباسية والبلاط، والتي كانت تشارك فيها زبيدة زوجة الرشيد المقرية، وجواريها وجواري الرشيد ذاته، وسيافه مسرور، برغم التحلل الضارب في جسد الخلافة؛ واصلت ذات الهمة وابنها عبد الوهاب وسيد البطال - البطل الشعبي بالفعل لهذه السيرة - دفاعها عن مالطية
13
والإشراف بالجيوش العربية على تخوم القسطنطينية، وتهديدها.
وكانت ذات الهمة نهبا لذاك التمزق والمؤامرات التي كانت تحاك ضد البطال وابنها الأمير عبد الوهاب من جانب عقبة والفضل داخل البلاط العباسي.
حتى إذا ما خرج هارون الرشيد ليسترد عمورية ويعرج على مالطة، استقبلته ذات الهمة بخمسة عشر ألف رأس من رءوس قتلى أعدائها الروم عقب إحدى غزواتها، وهي التي وصل بها الأمر من المؤامرات التي كانت تدبر في البلاط بينما هي على جبهة القتال، فكان أن واجهت هارون الرشيد: «أقسم بمن أنشأ الأنام وفرض الحج والصيام، لولا خوفي على ثغور الإسلام من الكفرة اللئام، لرحلت إلى أي موضع كان، ولا أصبر على الذل والهوان.»
14
وجاءت الحملة الخطيرة التالية ضد القسطنطينية عام 782 ميلادية التي قادها هارون الرشيد بنفسه.
قال الراوي:
15 «وكان الرشيد أشجع بني العباس وأقواهم قلبا وأوفرهم فهما، واستوزر جعفر بن يحيى البرمكي والفضل بن الربيع، وأمر بجمع العساكر والأجناد، وقال: أنا أريد بنفسي أن أتولى الجهاد، وأن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنا لا بد ما أدخل بلاد الروم وأحثهم على القتال حتى يزنوا الجزية والمال، كما أمر الملك المتعال. فعندها جمع العساكر والأجناد، وقامت الدنيا على ساق وقدم، وسار الرشيد بعزم ونية إلى أن وصل إلى ملطية.»
16
وتوقفنا السيرة - خلال أحداثها المتلاحقة بالحرب على طول آسيا الصغرى وجنوب أوروبا - على القنوات المتصلة بمصادرة المعلومات والتجسس؛ فبينما السيرة تصل في إدانتها لقاضي قضاة المسلمين في ذلك العصر المدعو: عقبة ؛ حيث إنه كان يعمل لحساب الروم البيزنطيين، وملكهم مانويل، كان أبو محمد البطال
17
يواصل بعث عيونه وجواسيسه وبصاصيه داخل القسطنطينية، بل داخل قصورها الإمبراطورية ذاتها، وداخل الكاتدرائيات والأديرة والكنائس الجاثمة المهيمنة على شئون الأمن والسياسة، ومركز تقرير القرار وتنفيذه على جبهات القتال الضاري، بدءا من الكوفة ونصيبين حتى القسطنطينية المحاصرة بالجيوش العربية، وعلى رأسها التحالف العربي الفلسطيني «البحري» بقيادة ذات الهمة وابنها الأمير الفاتح عبد الوهاب والأمير البطال، وهو المناط به وبأعوانه وتابعيه من العيارين؛ البراعة الفائقة في جمع المعلومات والتلصص على حركات الجيوش ونقلها، ونوعية الأسلحة المستخدمة، وكل ما يعن ويطرأ عليها من جديد؛ من ذلك: المتفجرات النفطية، أو النار الإغريقية، التي - كما ذكرنا - كان أسبق من اخترعها أسير أو لاجئ سوري دمشقي وعن طريق استخدام جيوش ذات الهمة لها أمكن احتلال جزيرة رودس عام 672 وكريت عام 674 ميلادية.
فكما تذكر الثوابت التاريخية،
18
فإن هذه الحملة التي قادها هارون الرشيد، كانت بمثابة الحملة الرابعة والأخيرة، التي تمكنت من الوصول إلى القسطنطينية عاصمة الروم وفرض الجزية والاستسلام على إمبراطورتها إيرين.
ومرجع هذا الانتصار بالطبع هو حنكة الرشيد وتفهمه لجذور الانقسامية، من عصبية قبلية شوفينية، تمثلت أول ما تمثلت في ذلك الصراع والاقتتال الانقسامي الضاري بعيد الجذور، بين القبيلتين المهيمنتين في كلا الحرب والسلم، وهم: بنو كليب الفلسطينيين وأميرتهم ذات الهمة، ومنازعيهم بنو سليم القيسيين، عرب شمال الجزيرة العربية وعمورية، بل وفلسطين ذاتها.
وهو الصراع أو ذلك التنافس القبلي بين القبائل الفلسطينية المتحالفة تحت رايات ذات الهمة، ومنازعيهم العرب الشماليين، وهو ما بدأت به السيرة أحداثها؛ حيث إن الأمويين كانوا قد سبقوا وقدموا مع مطلع الخلافة الأموية بني سليم على منافسيهم التغلبيين - تحالف ذات الهمة وابنها عبد الوهاب - بل وحتى عندما انتقلت الخلافة إلى العباسيين في بغداد قدم الخليفة المنصور بني سليم على منافسيهم، وظل هذا هو الحال إلى أن أخذ التغلبيون مكانهم، منذ الجد السلف لذات الهمة الصحصاح.
حتى إذا ما تغير الحال وانتقلت الخلافة إلى العباسيين، عقب أفول دمشق الأموية ، وخاطبهم الخليفة المنصور عن طريق رسله، رده الأمير ظالم - عم ذات الهمة - قائلا: «ما الذي كان بيننا وبين المنصور حتى إنه عزلنا عن الملك، وأينما كان أبونا محبا لبني أمية وقد هل الجميع وصاروا في القبور؟ فارجع إلى صاحبك - يقصد الخليفة المنصور - وقل له: عرب البر لا يدخلون تحت طاعتك، ومن جاء إلينا كانت سيوفنا إليه أقرب من كلامه.»
إلا أن ذات الهمة تجاوزت حدة عمها - الذي قتله ابنها عبد الوهاب فيما بعد - ودخلت من فورها تحت لواء الخلافة الجديدة، لحين أن نصبها الخليفة أميرة لقبت فيما بعد - كمحاربة وفاتحة - بأم المجاهدين.
19
واستنادا إلى الطبري ودائرة المعارف الإسلامية؛ فإن التحالف القبائلي المعروف ببني سليم، وهم - كما ذكرنا - من العرب القيسيين أو العدنانيين أو المعديين؛ كانوا يقيمون بشمال الجزيرة العربية «مكة والحجاز» وإليهم كان ينتسب عمرو بن عبد الله أمير مالطة، كما أن السيرة تنسب العدو الأكبر لعبد الوهاب وأمه ذات الهمة، وهو القاضي عقبة إلى قبائل بني سليم المنافسة.
ومن هنا حاول الرشيد جاهدا إزالة الرواسب القبلية بين سليم وكليب، خاصة صبيحة الحملة التي قادها بنفسه لغزو القسطنطينية.
فقال الرشيد: هؤلاء القوم ما كان لهم خليفة، ثم إنه نزل على نهر الدنول وجلس في السرادق الأعظم ودارت به الغلمان والخدم والترك والديلم، ودعا بعقبة «الوزير الشرير» إليه وأجلسه إلى جانبه ورفع شأنه وأعلى مكانه، فلما رأى البطال ذلك وكذا ذات الهمة وعبد الوهاب، وسمعوا ذلك الخطاب؛ ما من أحد منهم أعطى جوابا وفي الحال أحضر الإمام المقدمين الأعراب من بني سليم وبني كليب وأصلح بينهم، ونهاهم عن العناد، وقال: «أنتم في أرض
20
واحدة، وما يصلح منكم الفساد، ومن الواجب عليكم أن تكونوا مثل الأهل، وتتركوا المكر والجهل، وتتأهبوا للقتال والجهاد، ولا يعود أحد منكم يجلب مضرة، فأكون أنا فيها خصمه، فأهلكه.
وأما الشيخ عقبة يجب عليكم أن تكرموه؛ لأجل علمه، وما هو فيه من العلم وحسن الشيم والفضل والأدب والعمل، وإن كان تكلم البطال بكلام أو نطق بحرف واحد وقال مقال الحاسد، قطعت رأسه وأخمدت أنفاسه، فتأهبوا الآن إلى بلاد الروم؛ حتى يؤدوا الجزية وهم صاغرون.»
وبالطبع لم تصل مثل هذه المقولات التوفيقية إلى التلاحم القومي في مواجهة الأخطار الإمبراطورية البيزنطية؛ ذلك أن الركائز والجذور البيئية كانت متنافرة ما بين مجتمعات بدوية صحراوية، لا ترى في مثل هذه الحروب أبعد من مجرد التريض والسبي، وطلائع بحرية في الشام ولبنان وفلسطين، أكثر انفتاحا وتوقدا كشعوب بحرية
21
أو شعوب الثغور - كما أسماهم القلقشندي.
لذا انتقل الصراع من فوره متوازيا إلى ساحات الحروب والمعارك المستعرة، الدائرة بنفس ما يحدث على أيامنا، فاندفعت كل قبيلة تكيد للأخرى داخل أروقة البلاط العباسي وحريمه، مع ما صاحب ذلك من أسر الأمير عبد الوهاب ذات غزوة سبيت فيها أميرة أو ملكة رائعة الحسن اسمها «الميرونة»، وحينما طالبه الرشيد بردها إليه في بغداد - وكان عبد الوهاب قد استحلها ودخل عليها، بل هو سيخلف منها ابنه «سيف الموحدين» الذي سيلعب دوره كجيل تال بأسره بعد عبد الوهاب، على عادة السير الشعبية في تأريخها للأسر الحاكمة، كما هو الحال بالنسبة لسيرتنا، وبالنسبة لسيرة «بيست آتريوس» التي هي الإلياذة الهومرية وحروبها الطروادية التي دامت عشرة أعوام متصلة.
فما أن ماطل عبد الوهاب في رد الأميرة المخوفة «ميرونة»، وارتفعت مكائد قاضيه المقرب عقبة؛ حتى تمكن من الإيقاع بالعقل الحربي المفكر الأمير سيد البطال، فسجنه الخليفة وحاول عبد الوهاب وذات الهمة التوسل للخليفة بالإفراج عن البطال، وبأنهما لن يبرحا عرش الخليفة ليلحقا بجبهة القتال إلا ومعهما البطال، فما كان من هارون الرشيد إلا أن طرد الأمير عبد الوهاب، مذكرا إياه بأنه مجرد عبد أسود ذميم، «فعندها صاح على الحجاب أن أخرجوا هذا الأسود الذميم من وجهي.»
22
وهكذا قدم هارون الرشيد من جديد منافسيهم الحجازيين من بني سليم، وعرب شمال الجزيرة العربية على التغلبيين، من أسرة ذات الهمة.
وكما ذكرنا فإن إبعاد عبد الوهاب وذات الهمة من جانب الخليفة وبلاطه، كان يعني ضرب وقمع الجناح أو التجمع الأكثر انفتاحا وثورية، وهو ما اكتمل في ذلك العصر العباسي في نكبة البرامكة، التي تشير - في جلاء - إلى ضرب وإضعاف ذلك التحالف البرمكي أو العجمي الفلسطيني، وبالرجوع للسيرة يتضح هذا:
قال الراوي: «وكان من قضاء الله وقدره أن الرشيد لما قبض على الأميرة وولدها الأمير عبد الوهاب والأمير هياج الكردي ووضعهم في المطامير، وكل أرباب الدولة استصوبوا رأي الرشيد في ذلك تعصبا لعقبة إلا الوزير جعفر،
23
فإنه كان ما أعجبه ذلك؛ لأنه كان أشار إلى الخليفة ألا يفعل، فلم يرجع إليه بل هو صمم على ما هو معول، فلما رأى جعفر أن الخليفة لا يقبل منه، قام من مجلس الرشيد كأنه يقضي حاجة، وخرج من القصر إلى داره وهو في غاية الغضب والحنق، ويود لو أنه ذبح أرباب المشورة، مثال الفضل بن الربيع وداود الأديب وحازم بن شيخ الشيوخ وعقبة؛ لأن هؤلاء تعصبوا أو تحاملوا عليه وحملوا الرشيد وأغووه وأكثروا عليه الفضول وأغروه إلى أن أوقعوه.»
القسم الثاني
عبادة الأيقونات ... ونهبها
والملفت أن الجيوش العربية المتحالفة المغيرة على بيزنطية والغرب بعامة، ذات الطبيعة الصحراوية في مجملها الأعم؛ كانت تولي اهتمامها الأقصى خلال عمليات السطو الطبيعية للغزاة أو الفاتحين من الاستيلاء على محتويات الكنائس والأديرة والكاتدرائيات، التي كانت تعج بقمم وشوامخ الأعمال الفنية من نحتية وتشكيلية، صيغت معظمها من الذهب والأحجار الكريمة والثمينة، وأبدع في تشكيلها كبار فناني ما قبل القرون الوسطى، من نحاتين ومصممين، ما بين لوحات وتماثيل، ومصنوعات فنية تطبيقية من ثريا وأثاث وأيقونات، وهكذا.
وفيما يتصل بهذا الحدث أو العنصر من العناصر الرئيسة التي أفرطت في تغطيتها سيرة ذات الهمة، كان أبرز الساطين على هذه الآثار الفنية هما الأميرين «سيد البطال المسمى بأبي محمد، والأمير عبد الوهاب بن ذات الهمة»، وهي الحروب التي عرفت تاريخيا بحرب الأيقونات وتحريمها - كما يذكر د. فيليب حتى، ويرد بكثرة في تاريخ ما قبل العصور الوسطى.
قال الراوي:
1 «وقد نزل الأمير عبد الوهاب على باب الذهب، وقد نصبوا له سرادق الملك منويل والدهليز، ونصبوا للأمير عمرو بن عبد الله مثل ذلك، وأتت إليه الأموال،
2
ودخل الأمير أبو محمد البطال إلى كنيسة
3
سوفيا، فرأى ستور وقناديل معلقين في الهياكل، وعليهم مكتوب: هذا ما عمل إلا بأمر الشيخ النجيح وحجة المسيح، القاضي عقبة بن مصعب السلمي عين المسيح، في بلاد المسلمين، ورحمة على الروم أجمعين.»
وبالطبع كان البطال يستعين بعيونه وجواسيسه داخل القسطنطينية والمدن الرومية، كما في استيلائه على تحفة أو قنديل ثمين داخل قدس الأقداس بكنيسة أيا صوفيا أيضا.
القسم الثالث
إنشاء مدينة بغداد
فلا تتوقف حدود تأريخ سيرة ذات الهمة عند الحروب والأحداث السياسية، بل هي تسرد تأريخا شعبيا لا يغفل حتى العمران، من ذلك تشييد أو إنشاء مدينة بغداد. «فركب المنصور إلى الصيد والقنص، وخرجت قدامه الطيور والفهود والأمراء، ومن حوله الوزراء والكبراء وأرباب الدولة، ولم يزل سافرا يتفرج في الأرض وينظر إلى ما كساها الله تعالى من ألوان الزهور، إلى أن وصل الدجلة وأرض بغداد، ولم يكن هناك يومئذ بلد ولا عمارة سوى دير فيه راهب، فطلبه المنصور إلى بين يديه، فلما حضر سأله عن اسمه، فقال له: باغ وهذه الأرض اسمها داد، وقد قرأت في كتب الحكماء واطلعت على الملاحم فرأيت فيها أنه لا بد أن تعمر هنا مدينة مذكورة إلى آخر الزمان.
1
فقال له الخليفة: كيف تبنى المدينة هنا وهذه الأرض ملآنة ماء؟ فقال له الراهب: لا تعرف قطع الماء إلا مني، فقال له: افعل ما تريد، فمضى إلى مكان يعرفه، وسد الماء فانقطع، ونزل المنصور على الدجلة، ثم أمر بعمارة المدينة وأمر بإحضار البنائين من سائر البلاد، وقسم كل طائفة من المعسكر ناحية، وأعطى السواد المال وعملوا فيها بالأجر، ثم جلبوا له الصواري والرخام والأخشاب الجوز الرمي وغيره، وعمرت المدينة فكانت عالية البنيان مليحة الأركان، كأنها مدينة نبي الله سليمان، وشقت إليها بعد ذلك الأنهار والجداول، وعمل ما لا يقدر عليه الأوائل.»
وهكذا تجيء السيرة متسقة مع التاريخ الأركيولوجي، إلا أنها تتجاوز التاريخ - بالقطع - في الاحتفاء بتفاصيل أكبر، وأكثر اتساقا بالتأريخ الشعبي للجماهير؛ ذلك أن الخليفة السفاح وهذا لقبه الصدامي المشير إلى البطش والتجبر، ذلك الذي أخطته الخلافة الجديدة، اتساقا أيضا مع وسمة الحضارات العراقية السالفة من بابليين وكلدانيين، أشداء وأشدوديين وآشوريين، وهكذا.
فعلى هذا النحو اعتبر العباسيون خلفاء شرعيين منزلين، فرضوا أكثر فأكثر سلطات دينية، من تلك التي كانت تجاوزتها الخلافة الأموية السورية، في اتجاه العلمنة المتخلصة إلى حد من البنى الدينية.
فتستفيض صفحات سيرة الأميرة ذات الهمة في وصف الكوفة التي اتخذها السفاح من فوره عاصمة له، لحين زحفه شمالا إلى بغداد، من ذلك الوادي الإستراتيجي، على أنقاض العديد من العواصم العراقية المهجورة أو المدمرة، من سومرية وبابلية وكلدانية مثل
UR
أي «أور» الكلدانيين «وبابل، وبرجها الشهير، ونينوى، بالإضافة إلى المدن الفارسية المجوسية، وأشهرها مدائن كسرى».
فكما يذكر بروفيسور فيليب حتى «فكانت خرائب هذه المدن بمثابة مقالع للحجارة التي استخدمت في بناء المدن الجديدة، التي أصبح عدد سكانها بعد انقضاء قرن من الزمن مليون نسمة، وبعد أن عانت المدينة ما عانت من الشدائد والمصاعب، عادت فبعثت عاصمة للعراق الجديدة عند انتهاء الحرب العالمية الأولى.»
2
وتولي سيرة ذات الهمة اهتماما أكبر لفاجعة البيت البرمكي، وهي تسوق - عبر آلاف الصفحات - أبعاد ذلك الانقلاب السياسي برغم الحرب المستعرة التي تقودها قبائل ذات الهمة المتحالفة، تواصل ذروتها على أبواب عاصمة الروم البيزنطيين.
فالسيرة تتعقب مآثر أفضالهم واحتضانهم لبسطاء الناس الكادحين، من مهانين ومضطهدين، ومدى إحسانهم وعطائهم وتضميدهم لجروح المحرومين على طول تلك الإمبراطورية الاستبدادية المتجبرة، للرشيد الذي توصله أحقاده إلى حد توزيع الغنائم من ممتلكات البرامكة على أبنائه من الخلفاء الورثة القادمين.
ويلاحظ أن هذه الفاجعة العباسية الكبرى جرى التخطيط لها داخل ساحات ومخادع القصور، بينما الحرب المستمرة المهددة لتخوم الخلافة، تواصل أكثر فأكثر اندلاعها.
كما يلاحظ أن النكبة وقعت والحلفاء الطبيعيين للبرامكة الهمة والأمير عبد الوهاب والبطال، مبعدون بالجبهة لحفاظهم على ثغور الخلافة الإسلامية والحرب.
ذلك أنهم كانوا مشغولين بالتحضير لغزو بلاد؛ اليونان لتحرير أسراهم منها، ومنهم هنا - كما تذكر السيرة - الأميرة علوى زوجة الأمير عبد الوهاب وابنها الأمير إبراهيم.
وكما تذكر السيرة فما أن وصلتهم الأخبار ومكاتبات الخليفة حتى عادوا - ذات الهمة وعبد الوهاب والبطال - من فورهم إلى بغداد «ومعهم أربعون ألف عنان من بني عامر وبني كليب، وعشرون ألفا من السودان.»
وبالطبع يحتدم الصراع داخل عاصمة الخلافة، بينهم وبين الخليفة وتوابعه، عقبة والفضل بن الربيع، ويقوم البطال باختطافهما، للمزيد من تكشف تآمرهما ضد البرامكة المغتالين، إلى أن يعودوا أدراجهم إلى القتال وتحرير أسراهم.
وهكذا تخبرنا السيرة، عبر ضوابطها الروائية، بالأحداث من داخلية سياسية تصل أقصى ذروتها في بغداد، وما توالى من أحداث، لتعود مسرعة مرة أخرى راصدة ومصورة لتفاصيل القتال الضاري ضد الروم البيزنطيين، حتى استشهاد ذات الهمة في ساحات القتال، وتوالي عصر الأبناء أو الآباء من ذرية ابنها الأمير عبد الوهاب، وحكمهم لمداخل أوروبا والأندلس.
القسم الرابع
سارة وهاجر وصراع الضرتين
قصة شعرية أو شعائرية من نوع المدائح، التي عادة ما ينشدها المداحون في المناسبات الطقوسية الاحتفالية كالأعياد خاصة «عيد اللحم» أو الضحية والحج والطهور والأفراح والأسواق والتجمعات الشعبية، وأسواق عكاظ الغابرة؛ حيث كان يجري إنشادها وحكيها والإبداع في التعبير عن مواقفها التراجيدية، بل يمكن القول الميلودرامية.
فسارة وهاجر من أهم القصص الشفهية الشعبية، التي اعتدنا سماعها من أفواه المداحين ورواة السير والملاحم والبالادا التي من أغراضها أن تروي أحداثا على درجة عالية من الأهمية والخطورة.
وظلت نصوص البالادا مزدهرة عشرات القرون، على طول بلداننا العربية، ومنها ملاحم وقصص وبالاد، التي نتعرض لها مثل يوسف وزليخة، وعزيزة ويونس، وأيوب، التي تجري أحداثها في بادية الشام والصحراء الأدومية، وحبيب بن مالك في الجزيرة العربية، والقميص أو رداء النبي محمد، ثم هذه الملحمة الشعرية الهامة، التي تحكي ملخصا رمزيا لمجرى الصراع العربي والعبري، والتي تتعرض لخصائص الخليل إبراهيم، وابنه إسماعيل أبو العرب العدنانيين شمال الجزيرة العربية أو السعودية اليوم، وكذلك تؤرخ هذه القصة الشعرية للعديد من مناسباتنا وممارساتنا الشعائرية، ومنها المصادمات والاضطهادات العبرية العربية، وبناء الكعبة، ونبع بئر زمزم، وحجر إبراهيم الأسود، والتضحيات الحيوانية في عيد الضحية.
فأهمية هذا النص الشعري المدائحي «سارة وهاجر» الذي يتناول جزءا محددا من حياة عائلة الخليل إبراهيم، مصدرها أن موضوعه الأساسي يدور حول الخلف والذرية وإنجاب الصبيان، والصراع بين الضرتين، أو بين سارة زوجة إبراهيم وابنة عمه - وأخته
1
من أبيه لا من أمه - وهاجر جاريتها المصرية.
كيف دفعت سارة رجلها إبراهيم لأن يدخل على هاجر جاريتها - بعد أن أمسكها الله عن الخلف والذرية - ليخلف منها نسلا.
وتصف سارة هاجر، بأنها «حرة شريفة، ومهتدية»، بل هي تبدأ في تبيان رغبتها هذه، والكشف عنها في النص، وهي أن يدخل إبراهيم على هاجر جاريتها، منذ اللحظة الأولى «يا خليل الله، لايمته تظل صابر» بمعنى أنها كانت تواصل إبداء هذه الرغبة دواما «بس طاوعني وتزوج بهاجر.»
لكن ما إن يستجيب إبراهيم وتقوم سارة بدورها راضية، وبتحميم واغتسال ضرتها أو وصيفتها أو أمتها هاجر، وتعطيرها «بالزيد والعطر، حنة وخضبتها»، ثم كيف أجلستها، بمعنى تجهيزها للعريس «لأخذ وشها» وفض بكارتها.
2
وعلى سبيل التخمين فقد يكون المعنى الخفي في هذا النص الشفاهي هو: أن سارة قد أدت الدور الذي تقوم به «الداية» أو القابلة - كما هو معروف - بفتح فخذي العروس عن آخرهما وتمكين العريس من «أخذ الوش»، أو فض بكارة العروسة.
وتحبل هاجر بإسماعيل، وما أن تنقضي مدة أشهر الحمل الخمسة على مضض من جانب سارة، التي تمر متلصصة على خبائها وتتعرفها حتى تشب فيها نيران الغيرة، وتلتهمها التهاما.
وبالطبع تعلو هامة هذا النص الشعري الغنائي المسرحي بمونولوج سارة الحاد المتصاعد العدواني، وأنا أعني هنا: كلمة مونولوج، بمعنى الحوار والجدل المتبادل مع الذات، حين تقول:
يا ضرتي بطنك كبيرة
الوحم باين عليكي يا صبية
الوحم باين
عطاك رب العبادي
زمن غدار ما بلغتش مرادي
أنا اللي الضنا أكوى فؤادي
إيه يكون الرأي يا دنيا بلية
إيه يكون الرأي يا دنيا بلاوي
انجرح كبدي ما لقيتلوش مداوي
يا خليل الله لا يمتا
3
تظل ناوي
ياللاخد هاجر وسافر من عليه
ياللاخد هاجر وسافر من قبالي
ارميها برا الخلا ووحش الجبالي
وخوفا من الانجراف وراء الغوص في التحليلات الأدبية التقليدية ، وهو ما يتنافى مع أغراض التعرض لهذا التراث الشفهي كفولكلور، ربما قد يحرفه ويفقده لأدق خصائصه الأثنوجرافية؛ نعود إلى مجرى محاولة الدخول لهذا النص من مدخله الوظيفي الفعلي.
فسارة هنا تكشف عن شخصيتها العاتية المستبدة، تلك التي تتملك كل السلطة، وهي حين تتراجع قليلا؛ لتوهمنا ببشريتها، فإنما لمجرد تقنين فعلتها وشعيرتها، ويبدو هذا حين اتهمها إبراهيم مهددا «ما بتخفيش مولى الموالي»، فعادت سارة وتراجعت قليلا، وأملت عليه شروطها:
إن هاجر جابت بنيه يا ضي عيني
في الديار آعد أنا وهية سويا
في الديار آعد لا حدي ولا بيدي
4
إن هاجر جابت ولد ما تقوم
5
به عندي
خدها وارميها في جبل الصراوندي
6
بين خلا وجبال ووحوش كاسرية
بين خلا وجبال الوحش يهشم في عضاها
ياكل الجتة ويشرب من دماها
وهنا تكتمل معالم سارة «الإلهة الأم لقبيلة إبراهيم»
7
والتي يقول عنها الله لإبراهيم في التوراة «في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها»، وذلك حين «رأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح، فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها؛ لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق»، فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم لسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: «لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك، في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها.»
حتى وإن كان القول المقدس هنا، هو إقدام سارة على حرمانه من إرثه، كابن بكري، وبالطبع فإن نصنا العربي الإسلامي لا يولي اهتماما يذكر لجوهر الصراع في هذا النص بين الضرتين، العبرية: سارة، والعربية: هاجر، ألا وهو حق الأخ الأكبر في ميراث أبيه إبراهيم، والذي هو الهدف الأول والأخير للعالم القديم.
ومرة أخرى أكد ملاك الرب سلطة سارة على هاجر ذاتها، في النص اليهودي، حين التقى بها بعد أن «أذلتها ساراي، فهربت من وجهها» وسألها ملاك الرب: «يا هاجر ساراي، من أين أتيت وإلى أين تذهبين؟»
فقالت: «أنا هاربة من وجه مولاتي ساراي»، فقال لها ملاك الرب: «ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يديها.»
8
ويؤكد هذا النص الشفهي تضخيم «سارة» وإعطاءها كل السلطة في وجه إبراهيم، كما يعكس تواكل إبراهيم، واستسلام هاجر الكامل كجارية مضطهدة.
9
فبعد أن تمت هاجر أشهرها والليالي، أو أشهر حملها، وولدت إسماعيل قامت سارة بواجبها أو اتفاقها؛ أي إنها ولدت هاجر، واستقبلت المولود، و«قطعت السرة وبعدين قمطته» ثم كحلته وعلى الفور ألقت به - ربما عندما تبينت أنه ذكر - في وجه أمه، وكان أن طردتهما هو وأمه.
فالتزام سارة بشعائر المولود الجديد إسماعيل من تقميط وقطع السرة وتكحيل، يشير إلى أنها تمارس بالفعل شعائر تطهيرية
10
على الطفل حديث الولادة، والتي عادة ما تستخدم الماء، أو النار، أو الكحل؛ بهدف تخليص المولود من النجاسة، أو الدناسة - كما يسميها تيلور - كشعائر تطهير، كالوضوء عند المسلمين، والتعميد بالماء عند المسيحيين.
فإسماعيل - هنا - هو الطفل الذي دارت المنازعات حول مولده، وهو وإن لم ينتزع من أمه، مارا بمرحلة قتل الأم، وهي المرحلة التي يجتازها - عادة - الأطفال القدريون؛ إذ إن الأم هنا تمر بنفس الظروف من الاضطهاد والتغريب والتعرض للقتل. بين خلا وجبال الوحش يهشم في عضاها، يأكل الجثة ويشرب من دماها، إلا أن كليهما - الأم وطفلها - يمران بمرحلة الطرد والانتزاع من القبيلة.
والقبيلة هنا هي قبيلة سارة، ويؤكد هذا - في نصنا الشفهي - نزول الوحي أو الملاك جبريل، هابطا من السماء، مبلغا إبراهيم أن هذا هو أمر الرب «ربك يقريك السلام ويقولك اركب يا خليلي»، «اركب وسافر على الدرب الطويل.»
وفي هذا يتطابق هذا النص الشفهي مع النص الذي أتت به التوراة، حين قال الله لإبراهيم: «في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها.»
ومن هنا يحفظ كلا النصين لسارة توحدها بالإلهة - أو الإلهة - الأنثى الأم سارة.
فبعد أن ينفذ إبراهيم ما أمر به، سواء ما أمرته به سارة، وما أكده الوحي «جبريل» فيتركهما
11
في العراء، عائدا إلى قبيلته «أنا مسافر وفايتكم يتامى، اجتماعنا بيكون يوم القيامة.»
ويستمر النص مصورا معاناة هاجر وابنها إسماعيل «ما حداها زاد ولا شربة موية» حتى إنه عندما يشتد عليها «العطش والجوع» فيحرق كبدها، تلقي بطفلها إسماعيل على الأرض، «أرمتو
12
على الأرض وسافرت متدارية.»
فيحفظ هذا النص الشفهي الفولكلوري لهاجر أنها خلال معاناتها، بحثا في لهب الصحراء الموحش عن الزاد والماء؛ أنها ألقت بإسماعيل على الأرض وسافرت متدارية، كما لو كانت لتفلت بجلدها من براثن العطش قبل الجوع، وفضيحة أو كبيرة تخليها عن ضناها إسماعيل أبا العرب.
وهو ما يختلف - إلى حد - مع النص العبري الذي يبرر، إلقاء هاجر لإسماعيل «أبو العرب» طفلها كما أنه يختلف كثيرا في أن المنفى «أو الوادي غير ذي زرع» لإسماعيل وأمه، كان برية بئر سبع أو بير شبا
13
في فلسطين، بدلا من برية فاران، وفي أن إبراهيم زارهما بالماء والخبز في اليوم التالي: «فبكر إبراهيم صباحا وأخذ خبزا وقربة ماء وأعطاهما لهاجر واضعا إياهما على كتفها والولد وصرفها، فمضت وتاهت في برية بئر سبع، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار، ومضت وجلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس؛ لأنها قالت لا أنظر موت الولد، فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت، فسمع الله صوت الغلام، ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها: «ما لك يا هاجر؟ لا تخافي؛ لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو، قومي احملي الغلام وشدي يدك به؛ لأني سأجعله أمة عظيمة.» وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام، وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس.» تكوين 21.
وعلى هذا فالنص العربي أكثر قسوة وخشونة، من حيث إلقاء الأم هاجر بطفلها إسماعيل بإزاء العطش والإنفاق، وأن تسافر خلسة أو متدارية، إلى أن يجيء المنقذ لإسماعيل «الطفل» من وفد المسافرين، الذين راعهم تفجر الماء له - كطفل قدري أو مقدس.
وتنسب قبائل جرهم إلى العرب البائدة أو العاربة أو المندثرة، وكانوا اثنتي عشر قبيلة - حضارة - منهم: عاد وثمود وعرفات والعماليق وجرهم؛ إنهم هم بذاتهم وفد المسافرين هذا، الذين تربى إسماعيل وسطهم وكبر إلى أن أصبح أمة، بل وتزوج إسماعيل منهم؛ أي من جرهم، بزوجته الثانية التي راقت في عين أبيه إبراهيم، فباركها وطالبه تيمنا «بصياغة عتبة داره من الفضة النقية»، ومن رحم هذه الزوجة الجرهمية، خلف إسماعيل ابنه «قيدارا» أبا العرب العدنانيين.
وتحدث المعجزة «حين يضرب
14
إسماعيل بكعبه ع الأرض، ونبعت زمزم وصارت في كل وادي»، فما إن تفجر الماء من بئر زمزم، حتى أصبح إسماعيل قبيلة كبيرة و«البيوت انتصبت ألف وعشرمية.»
وعندما كبر إسماعيل، تزوج «بصبية» هي زوجته الأولى، التي تنسب لها المصادر العبرية أنها كانت وثنية مصرية؛ حيث يلتقي النص الفولكلوري العربي في إدانتها، وحين يشتد حنين إبراهيم لرؤية ابنه إسماعيل، وتتحسس سارة أحزانه، وتسأله «يا خليل الله! مال النواح زايد» فيخبرها بشوقه الجارف لرؤية ابنه، تصرح له بالزيارة إلا أنها تستحلفه وتعاهده، على أن لا ينزل عن مطيته لهاجر:
سارة :
احلف يامين من الذنب غافر
15
إنك ما تنزل ولا تروح يم هاجر
وكان إسماعيل قد تزوج ب «صبية» لم تحسن معاملة والده في غيابه، وهو القادم له من القدس لبرية فاران أو مكة وقد تكون أنكرته، حين سألها:
صاحب البيت فين يكون؟
قالتلو: غايب برا يا عيوني
والنص هنا يكشف عن مستوى الحوار العالي بين إبراهيم وزوجة ابنه، مصورا شخصيتها كما لو كانت «دلوعة» حين سألها إبراهيم:
وأنت يا بنت أيه تكوني؟
قالتلو: أنا مرته وبتسمى الهنية
وبتسمى العفوفه
فقال لها:
محدش يا بنت يكرم ضيوفو
من بلاد القدس أنا جي حاشوفو
ولما واصلت هي إنكارها للضيف، مدعية سفر إسماعيل «ومعاه صرة أو صرية في مرة، وفي الثانية إنه سافر ومعه جماعة»، فقال لها: «خذي الكلام مني وداعة»، مواريا بين الزوجة والعتبة «قوليلو غير العتبة يا صاحب العطايا.»
وتوحد الزوجة بعتبة ومدخل الدار سنتناوله باستطراد، إلا أن ما يعنينا هو ذلك الكلام الملغز، السحري، لإبراهيم، فمثل هذا الكلام الشعري المغطى، أو المستتر، المشابه لما يعرف بالفرش والغطاء، في الشعر الفولكلوري العربي بعامة، وأخصه الملحمي، كسمة فولكلورية من أخص سمات التراث العربي، من فولكلوري وتقليدي، يرد بكثرة في سير وملاحم: سيف بن ذي يزن، عبر بحثه عن كتاب النيل أو منابعه، والسيرة النضالية الفلسطينية المنشأ التي تؤرخ لهجرات وفتوحات وحروب القبائل الفينيقية الفلسطينية العربية المعروفة ببني كلاب «أو كالب وكليب» سكان الثغور، في سيرتهم المعروفة الأميرة ذات الهمة،
16
عبر المخاطر السياسية لأحد أبطالها «السيد البطال».
17
كما أن مثل هذه الأشعار الملغزة وردت بكثرة في السيرة العربية أيضا، الزير سالم أبو ليلى المهلهل، وذلك عقب انتهاء حرب البسوس، وانعزال بطلها الزير سالم، ثم تغريبته عجوزا مهدما إلى صعيد مصر، وتلمسه لإقدام عبديه المرافقين على اغتياله، فكان أن حملهما وصيته إلى قومه عقب موته، وهي لا تعدو بيتا من الشعر:
من مبلغ الأقوام أن مهلهلا
لله دركما ودر أبيكما
وما أن اغتاله عبداه قائلين «نذيقك ما أذقت العرب»، وعادا إلى قومه بخبر موته فأنشدا وصيته أو بيت شعره المقفل، أو غير المغطى، حتى تعرفت قبيلته على أن العبدين قتلا المهلهل أو الزير سالم، بعد أن أشارت عليهما «اليمامة» بلغز عمها الزير المغتال وأكملت وصيته الشعرية:
من مبلغ الأقوام إن مهلهلا
أضحى قتيلا في الفلاة مجندلا
لله دركما ودر أبيكما
لا يبرح العبدان حتى يقتلا
فمثل هذه الأشعار الملغزة غير قاصرة على تراثنا، إن لم تكن خصيصة مصاحبة للبالادا وارتحالها، والزيادات الشعرية التي تدفع بنموها، والأمثلة كثيرة، في التراثين العربي والعالمي - على السواء.
فما أن نقلت زوجة إسماعيل مقولة أبيه الشعرية «غير العتبة» دون تفهم، لكن إسماعيل فهم مغزى كلام أبيه، وكان أن طلقها حين نقلت له الوداعة، وهو ما طلب منها الأب إيداعه للابن، فقال لها إسماعيل: «روحي انتي حرمتي عليه.»
حتى إذا ما انقضت سنة على موعد هذه الزيارة، وكان إسماعيل قد تزوج «بنت شيخ كل القبائل»
18
وعاد الحنين فغلب الأب الشيخ لزيارة ابنه؛ حيث رآه في الحلم، ونفس ما حدث في المرة الأولى - على عادة التكرار المصاحب لهذا اللون الأدبي وهو البالادا عموما - أحست سارة أحزانه فأخبرها بما رآه في المنام، وحنينه لزيارة ابنه، ومن جديد تستحلفه سارة بأن لا ينزل عن مطيته،
19
ولا يقرب هاجر.
حتى إذا ما قصد بيت إسماعيل ونادى قائلا «يا هاجر» فخرجت له الزوجة الثانية، ورحبت بمقدمه، ودعته إلى الترجل عن مطيته والنزول عندهم، ويبدو أنها كانت راقت في عينيه، فداعبها، ونسبها إلى هاجر قائلا لها «ما فيش أجازة يا بنت هاجر؟» فأحضرت له «اللبن الحليب ويا المزازة» وظلت أمامه وهو على مطيته يأكل من يدها «شايلة الطعام وعلى أيدها المويه» وكان أن رضي عنها إبراهيم، وأبلغ ابنه رضاه عن طريقها؛ قائلا:
لما ييجي إسماعيل قوليلو يا بنتي
صيغ عتبة الدار من الفضة النقية
ولقد استوقفني في هذا النص العلاقة التي ربط بها إبراهيم مرتين متتاليتين بين الزوجة والعتبة، ففي المرة الأولى طلب الأب الشيخ من ابنه التخلي عن زوجته وتغييرها «غير العتبة يا صاحب العطايا»، فكان أن فهم إسماعيل وطلق زوجته الأولى، التي يقال إنها كانت مصرية اختارتها له أمه المصرية هاجر.
وفي هذا يقول نص التوراة «وسكن في برية فاران»،
20
وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر.
ومع احتفاء إبراهيم بالزوجة الثانية، عاد مرة أخرى فوحد بينها وبين العتبة «صيغ عتبة الدار من الفضة النقية.»
وتوحد الزوجة بالعتبة، تضمينة ملفتة في الحكايات المصرية؛ نظرا لما صادفني من موتيفاتها في الحكايات الطقوسية التي تدور حول فكرة البعث الموعودة، التي تقوم من تربتها لتفي وعدها، بمعنى أنه ليس هناك منفذ أو مهرب من الوعد، والمكتوب، والقدر، حتى لو مات الموعود ودفن تحت التراب، تقول هذه الحدوتة إن «سيدة طيبة متزوجة رجلا طيبا، وعايشين سويا في الستر إلى أن زارها الوعد، أو أنهم؛ أي الموعودات، نادوها فأخذت صيغتها، «فضتها وذهبها»، ودفنتهم تحت عتبة باب بيتها، وخرجت من فورها فسارت معهم ونزلت الوعد، حتى أنهت ما كتب عليها ووفته ورجعت لبيتها وزوجها قائلة: أنا امراتك فلانة. فتأملها زوجها قائلا: دي ماتت! قالتلو لا، أنا امراتك، حتى بالأمارة صيغتني مدفونة تحت عتبة الباب. وحفرت باحثة تحت عتبة الباب وأخرجتها وجوزها صدق وعرف إنها زوجته.»
21
كما أن توحد الزوجة بالعتبة وجد في إحدى الحكايات التاريخية اليونانية، عن ملك يدعى «برياندر»
22
ملك كورينثه، توفيت زوجته «ميلسيا» وكانت تعرف مكان بعض الكنوز، وعندما تمكن الملك من استحضار شبحها ليدله على مكان الكنوز المخبوءة؛ وذلك عن طريق تجميعه لكل نساء المدينة، ونزع ملابسهن وحرقها فوق قبر الزوجة، التي سرى الدفء في جسدها، فقامت من تربتها، وكشفت عن مكان الكنوز المخبوءة تحت إحدى عتبات القصر.
فتوحد الزوجة بالعتبة يشير إلى السعد والرزق، وتصاحب الشعائر المولود الجديد وتخطيه للعتبة.
ويرى «تيلور» أن الأدعية والهمهمات المصاحبة للعتبات ومداخل البيوت «مثل يا ساتر» «ويا أهل البيت» أنها بقايا صلوات قديمة.
ومرة أخرى عاد إبراهيم، فنسب إسماعيل إلى أمه هاجر «صيغ عتبة الدار يابن هاجر.»
حتى إذا ما جاء إسماعيل، وحكت له عما تم بينها وبين أبيه - ربما دون أن تتعرف أنه حماها والد إسماعيل - فقال لها إسماعيل «زدتي غلاوة يا صبية، يا ضي عيني، ما فكيش تفريط، حتى تدفنيني.» •••
وبالنسبة لإسماعيل أبي العرب؛ تجمع معظم المصادر الميثولوجية على اعتبار إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وبكره، هو أبو الأقوام العربية الشمالية في الجزيرة العربية الذين عرفوا بالعرب العدنانيين أو المعديين أو القيسيين.
وتنسب التوراة لإسماعيل أنه أول إنسان، جرت له عادة الطهارة من البشر؛ وذلك حين عاهد الله إبراهيم «يختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم»، «فأخذ إبراهيم إسماعيل ابنه وجمع ولدان بيته، وجميع المبتاعين بفضته كل ذكر من أهل بيت إبراهيم، وختن لحم غرلتهم في ذلك اليوم عينه، كما كلمه الله.»
وكما هو معروف فإن عادات الختان وأخذ الوش، ما هي في مداها البعيد إلا مترادفات شعيرة التضحية ب «الأول» أو «البدء» أو «فاتح الرحم» أو «البكري» أو «أولى الثمار» و«أول قطفة» ... إلخ.
وكل هذا في النهاية يرجح كفة أن الضحية الأولى؛ كانت إسماعيل.
والغريب أن دائرة المعارف اليهودية تؤكد ما جاءت به النصوص الشفهية للسيرة الشعرية «سارة وهاجر » من أن إسماعيل تزوج زوجتين، وكانت زوجته الأولى مصرية اختارتها له هاجر أمه، وأنه أنجب منها أربعة أطفال ذكور وبنتا، لكنه تخلى عنها وطلقها حين لم تحسن معاملة أبيه إبراهيم، ويقال إن إسماعيل أنجب 12 أميرا وتزوجت ابنته «عيسو»، أو «العيص» بن إسحاق شقيقه الذي أنجبته سارة، بعد أن كبرت وشاخت، وينسب لإسماعيل سكان الحجاز «العدنانيون» أو المعديون وعرب اليمن ويسمون القحطانيين. ويقال إنه كان أمهر من ضرب بالنبل، كما يعده العرب أول صانع للسهام والرماح، وأعظم صيادي البرية وابنه قيدار أبو العرب.
فحين أصبح إسماعيل أمة كبيرة، أصبح هو الآخر «يطرق»، من الأرض نبع له الماء، وهي صفة تحيله على الفور إلى الألوهية، فما من إله إلا وعرشه على الماء، كما أنها صفة أو هبة أضيفت على أبيه إبراهيم من قبله، وكيف أن ماء الآبار كان يستجيب له؛ مثل بئر سبع، وكما يذكر الأب مرتين اليسوعي
23
أن إبراهيم ورث أدونيس، في إضفاء اسمه على نهر إبراهيم في لبنان، الذي لقبه القدماء بنهر أدونيس إلى ما قبل الفتح العربي.
وهناك اعتقاد بوجود علاقة بين «أيل» إله جبيل وبينه، وهو الذي تحفظ له الأساطير أنه ذبح ابنا وابنة بيديه، كما قد يتوحد كل من إبراهيم - اللي ربه البرية - وإسماعيل، في استجلابه المياه لهما، ثم «الخضر الذي سمي خضرا؛ لأنه ما من مكان يحل به إلا ويعتريه الاخضرار»، كما يمكن إضافة موسى لهم؛ نظرا لاستجابة مياه البحر له، حين ضربها بعصاه فانشقت، يقول الثعالبي: «إن الأرض برمتها، كانت تأتمر بأمر موسى وتطيعه»، وكذلك أوزوريس وتموز وديونسيوس.
فتفجر المياه من الأرض، حين ضربها إسماعيل بكعبه، فنبعت بئر زمزم «وسارت في كل وادي» يقابله في بعض المصادر المدونة، مثل «اليعقوبي» الذي يقول: إن «هاجر بعد أن صعدت الصفا، رأت بقربه طائرا أسود يفحص الأرض برجله» وبعدها تفجرت بئر زمزم.
وهذا الطائر الأسود رمز أو رسول شائع جدا في الفولكلور العربي.
وبما أن إسماعيل هو الابن البكر - كما هو مقطوع به في كل المصادر - لذا فمن المرجح أن يكون هو الأضحية، لا إسحاق - كما ترى المصادر اليهودية الخلقية.
وحتى لا تغرقنا هذه المناظرة عن أيهما الأضحية، إسحاق أم إسماعيل؟ وهو ما لا يتصل بموضوعنا؛ نعود إلى موضوع استبدال الأضحية البشرية، بالفداء الذي هو «الكبش» الذي به افتدي إسماعيل أبو العرب - في كل المصادر التي جاءت بقصة إبراهيم الخليل، وإقدامه على ذبح ابنه ترضية للرب، ثم نزول الفداء ممثلا في الكبش أو الخروف، ذلك الحدث الهائل الذي عرف منذ يوم حدوثه الأول بالعيد الكبير، أو عيد الضحية أو عيد اللحم.
ويقال إن إسماعيل كان أمهر من ضرب بالنبل «كما يعده العرب أول صانع للسهام والرماح، وأعظم صيادي البرية وابنه كيدار أبو العرب،
24
الذي أصبح أمة - كما تشير أساطير أرض الميعاد العربية.»
وتمشيا مع ذلك الصراع المحتدم بين الإلهتين الضرتين؛ أي سارة وغريمتها هاجر، خاصة عقب إنجاب الجارية المضطهدة - أو المهانة - هاجر لإسماعيل، والتغريب أو الانفصال، الذي أفضى بإسماعيل وقبيلته لأن يصبح أمة، لها هجرتها ولها - بالتالي - أسطورة أرض ميعاد مصاحبة، على عادة ما هو متبع بالنسبة للأقوام السامية، بلا استثناء في ملازمة أسطورة أرض الميعاد أو الحمى؛ لتواجدها وتوحدها العقائدي والطوطمي - خاصة عقب الكوارث المفضية إلى الهجرات القبائلية - مثلما حدث عقب وصول فلك نوح، إلى أرض ميعاده، وإعادة تملك الأرض، وعقب خراب بابل وبرجها الكبير، وتبلبل الألسن وانقسامها إلى 72 لسانا، والهجرات.
وكذا عقب خراب سد مأرب باليمن، وهجرات قبائل حمير وهمدان، وهي الهجرات التي أعادت تشكيل البنيان السكاني لشمال الجزيرة العربية وفلسطين وما بين النهرين، وكذا الأساطير المصاحبة للقبائل العبرية، والتغريب في مصر، ثم فلسطين، لحين الاستحواذ عليها بالحرب والعدوان.
وتشير أسطورة أرض ميعاد يعرب بن قحطان
25
بن هود، الذي أرسله الله إلى أرض بابل نبيا
وإلى عاد أخاهم هودا ، وكيف أن هودا رأى رؤيا «كأن آتيا أتاه فقال له: يا هود، إذا ضربت رائحة المسك إليك وإلى أحد من ولدك من ناحية من نواحي الأرض، فلتتبع تلك الناحية من رائحة المسك، ذلك النسيم، حتى إذا كف عنه نزل، فذلك مستقره.»
26
يقول وهب بن منبه الحميري:
27 «وإن يعرب بن قحطان بن هود وجد رائحة المسك، فقال له هود: أنت ميمون يا يعرب، أنت أيمن ولدي، مر، فإذا سكن عنك ما تجده، فانزل بأرض اليمن لا تمر، فإنها لك خير وطن.»
خلاصة القول: أنه ما من شعب أو رهط أو قبيلة لم يحفظ لها تراثها وتاريخها أسطورة أرض ميعاد، تحدد لها أرضها ووطنها عبر بحثها عن الزرع والضرع مثل تلك المصاحبة لأرض ميعاد إسماعيل أو المهاجرين.
لكن مشكلة المشاكل هي في ضياع وافتقاد هذا التراث، على مر عصور الاضمحلال الطويلة الثقيلة القاسية.
ويقال إن «تشكك اليهود في يهودية هاجر قد تزايد عقب اختيارها زوجة مصرية لابنها إسماعيل.»
كما تنسب المصادر اليهودية - خارج التوراة - هذه الحكاية التي تؤكد خروج هاجر على ما تدين به قبيلة إبراهيم، ووثنيتها، أو ارتدادها إلى الوثنية، فيقال إن سارة حسدت ذات مرة إسماعيل؛ إذ وقع بصرها عليه وهو يمرح ويلعب البرجاس،
28
وكان أعظم صيادي البرية، «فسلطت عليه عين حسود، سقط على أثرها مشرفا على الموت، حتى إن هاجر دفنته تحت رمل الصحراء، وصلت هاجر لأصنامها، وإسماعيل لربه إلى أن حدثت المعجزة التي قام على أثرها، واسترد عافيته.»
كما تضيف هذه المصادر أنه «ما تزال بالأردن - وأطراف الجزيرة العربية عامة - قبيلة تسمى الهاجريين».
فالنص العربي الفولكلوري الشفاهي «سارة وهاجر» يحفظ لإسماعيل دور المنقذ لأبيه وبيته، وهو ما لا يرد له أثر سواء في نصوص العبرية، أو الإسلامية الدينية والتقليدية.
بل إن إسماعيل يرد هامشيا في القرآن مع مجموعة من «الرسل» أو الأولياء المجهلين
واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار
سورة ص الآية 48.
هاجر الجارية الأم المضطهدة
وتصنف هاجر - أم الأقوام العربية لعرب شمال الجزيرة - في مصنفات
29
الفولكلور تحت ما يعرف ب «التنازع على الجارية المضطهدة»، ووجدت متنوعاتها في أساطير وفولكلور كشمير والبنغال، وعند الغالبية العظمى من حكايات الشعوب الأوروبية، والهند، ويوجد ست متنوعات لها في الفولكلور الأفريقي وفولكلور أمريكا الشمالية، وشيلي والبرازيل.
والتنازع حول الزوجة أو الجارية المضطهدة، تضمينة أو موتيف شائع في الفولكلور المصري، جمعت لها حوالي أربعة أشكال شائعة في الحكايات الشفاهية المصرية إلى جانب شكل رابع في ملحمة «سعد اليتيم».
30
وغالبا ما يكون السبب الذي تضطهد وتعذب من أجله الزوجة أو الجارية في فولكلورنا وحكاياتنا العربية؛ يرجع إلى كون الزوجة بدوية، بينما «ضرتها» أو غريمتها حضرية، أو قد تكون «فلاحة قروية» وفي هذه الحالة ترجح كفة ضرتها الحضرية،
31
كما قد يرجع السبب في اضطهاد الزوجة إلى إنجابها لولد واحد - أو أكثر - شاطر أو مكشوف عنه الحجاب أو موعود، بينما قد تنجب ضرتها أو غريمتها الأخرى ثلاثة أو خمسة وأحيانا أحد عشر، بما يطابقها تماما ويحدد مصدرها الأصلي، وهو قصة يوسف بن يعقوب بن راحيل، وصراعه مع إخوته الأحد عشر أبناء ليئة أخت راحيل الكبرى وضرتها.
كما قد يرجع سبب الاضطهاد إلى إنجاب هاجر وعقم سارة، كذلك فقد يكون لون جلد البشرة ودلالته الطبقية سببا لاضطهاد الزوجة وابنها، كما في سير وملاحم الهلالية وعنترة؛ حيث إن كلا من أبي زيد الهلالي، وعنترة
32
ولد على غير لون بشرة آبائه؛ أسود اللون، وطردت أمه من قبيلتها، وعذبت لهذا السبب.
كذلك أيضا يرجع السبب إلى «الشكل» أي القبح والجمال، فبينما كانت زوجتا يعقوب الشقيقتين، ابنتي خاله «لابان بن ناحور بن تارح» الحوراني الفلسطيني، كبراهما وهي ليئة دميمة وكانت عينا ليئة ضعيفتين،
33
وأما راحيل فكانت حسنة الصورة وحسنة المنظر، وأحب يعقوب راحيل «الذي تسمى باسمه إسرائيل أو رجل راشيل أو إسرائيل، إلى أن يكتشف أنها عاقر»، «ورأى الرب أن ليئة مكروهة ففتح رحمها، وأما راحيل فكانت عاقرا»، ويضني راحيل أو راشيل ذلك العقر، لدرجة أنها كانت تصرخ في وجه يعقوب: «هب لي بنين، وإلا فأنا أموت.»
وكما هي العادة تكون الغلبة في النهاية للجارية أو الزوجة المعذبة، وهو نفس ما حدث مع راشيل، التي سميت القبائل اليهودية باسمها.
وتكاد تجمع المصادر المختلفة على أن هاجر أميرة أو جارية مصرية أهداها فرعون مصر لإبراهيم، مع جملة ما أهداه من هدايا، عقب حكايته المعروفة مع سارة، حين دخل إبراهيم مصر، ووشي بحسن سارة امرأته إلى فرعون، فسأل الفرعون إبراهيم عنها، فقال: هي أختي من أبي لا من أمي، ولم يكذب قوله، فاختارها فرعون إلى نفسه مختليا، حتى تحقق أنها زوجة إبراهيم، فردها إليه مع هدايا كثيرة، من جملتها هاجر المصرية جارية سارة.
وكذلك فالمصادر تجمع على ما حدث بين الضرتين، أو الزوجة المتجبرة سارة، وغريمتها المضطهدة هاجر.
سارة الإلهة الأم للقبائل العبرية
وترد سارة في كلا المأثورات الأسطورية والفولكلورية مثل بالاد: سارة وهاجر على أنها الزوجة العقور للخليل إبراهيم، وابنة عمه وأخته في الرضاعة.
ويعتبرها الأنثروبولوجيون - مثل جريفز - كإلهة قمرية أم
White goddess
للقبائل الرعوية أو البدوية العبرية.
كذلك ترد سارة في الحكايات والبالاد الشعرية الطقوسية كإلهة حاقدة متجبرة، بإزاء جاريتها وضرتها المضطهدة هاجر.
وتصنف سارة كإلهة مخطوفة من جانب فرعون مصر، حين جاءته مع الخليل إبراهيم، ويرى أولئك القائلين بهذا الرأي أن الفرعون الذي تزوج «سارة»، والتي زارت مصر مع بداية الألف الثاني ق.م، لم يكن سوى ملك فاروس المقدس، والحكم هنا يبدو مستندا إلى الأسطورة الهومرية عن «الملك بروتس، الذي كان من أوائل من استوطنوا الدلتا، متخذا «فاروس» جزيرة البيت المضيء عاصمة له، والتي عرفت بعد ذلك وأصبحت الإسكندرية.»
34
ولقد أورد هرودوت
35
هذه الواقعة، نقلا عن الأسطورة الهومرية التي تقول بأن «هيلينا»
36
كانت تقيم عند ذلك الملك بروتس، والذي يحدد هرودوت منبته قائلا: إنه «رجل من ممفيس يسمى باللغة اليونانية «بروتس»، له حرم جميل جدا، يقيم حول هذا الحرم فينيقيون» من صور، ويسمى هذا الحي كله معسكر الصوريين، ويوجد في حرم بروتس معبد يسمى معبد أفروديت الأجنبية، وأظن أن هذا المعبد هو معبد لهلينا ابنة تنداروس؛ وذلك لما سمعته من أن هلينا كانت تقيم عند بروتس، ولأن المعبد يسمى معبد «أفردويت الأجنبية» بينما لا تطلق هذه التسمية على أي معبد من سائر معابد «أفروديت».
ولما كانت «أفروديت الأجنبية» هذه التي تحدث عنها هرودوت، هي في منشئها الأصلي إلهة الحب والحرب السامية «عشتر» أو «العشتروت» التي توارثها الساميون - من بابليين وآشوريين - وعنهم أخذها الهلينيون وسموها أفروديت، وفي أرجوس كان يضحى بالخنازير لأفروديت إشارة إلى ارتباطها بالإله البابلي الشاب الجميل «تمور»
37
الذي عشقته عشتروت، والذي أصبح في الميثولوجي اليوناني «أدونيس» واتخذت أفروديت مكان عشتروت، والتي كانت شجرتها المقدسة لدى القبائل العربية هي النخلة، ويقال إن كلمة «تمر» العبرية والعربية كلمة مرادفة لاسم هذه الإلهة التي وحدها العرب في نخلة نجران، كإلهة وكانوا يزينونها سنويا بأزياء نسائية ملونة.
وكان للعشتروت معبد يسمى «بيت غابة لبنان أو معبد» إلهة الجبل، كما ذكر معبدها في قصة موسى باسم «بيت ابنة فرعون».
وقد يكون هو نفسه ما دعاه هرودوت باسم «معبد أفروديت الجميلة»؛ نظرا لأن كلا من هاتين الإلهتين تعرف بأنها إلهة بحرية، وهو نفسه ما ينسب للإلهة الأم لقبيلة إبراهيم سارة، التي ومنذ أن أصبحت إلهة متفائلة خصبة، حين وعدت من ملاك الرب بأن من نسلها سيخرج «كالرمل الذي على شاطئ البحر»؛ أصبحت هي أيضا إلهة البحر، مثل أفروديت وعشتروت.
وهذا هو جانب توحد سارة مع أفروديت، أما فيما يتصل بهلينا زوجة منيلاوس التي اختطفها باريس أو الإسكندر - كما يسميه هرودوت - ثاني أبناء «برياموس» ملك طروادة، وكان ذلك الحادث سببا لاشتعال نار الحروب الطروادية المتصلة، التي جاءت بها الإلياذة الهومرية، وهي الحروب التي استمرت عشرة أعوام من 1192-1183ق.م.
والربط بين سارة وهيلانه يبدو في أن كلا منهما عدت زوجة مخطوفة أو منتزعة من قبيلتها أو زوجها؛ سارة من زوجها إبراهيم وهيلينا من زوجها منيلاوس.
الملاك الرسول جبرائيل وبراقه
تتبدى ملامح الملاك جبريل في الفولكلور العربي بعامة، وسيره وملامحه خاصة، ومنها سارة وهاجر من حيث التصور التشكيلي والتخيلي لكبير ملائكة العرش، وبراقه الطائر.
ولعلها أروع صور الخيال الشعبي الفولكلوري الإسلامي تعبيرا عن الملاك الرسول «جبرائيل» والبراق الذي يمتطيه ليهبط به من السماء، أو أنه يعود به ثانية إلى داره الأولى، حين ينهي مهمته في إبلاغ وحي أو رسالة.
كما تجدر ملاحظة تضافر الإيقاعات الموسيقية، وتجميع أقصى طاقات صوتية لمداحي ومغني نص - سارة وهاجر - حين يرد في النص الوصف الشعري للملاك جبرائيل في الوجدان الشعبي الجمعي العربي، بل الإسلامي كملاك رسول، فائق القوة والجمال والتجبر:
وقتها انشقت السموات وارتخت الستاير
38
انهبط جبريل من الدرجة العليا
انهبط جبريل ومعاه الأصيلة
بالبراق صاحب التاج والوسيلة
خلقته اللي محاسنها جميلة
وجهه كالآدمي يحاكي الثريا
وجهه كالآدمي لله صفاته
الجناحين من جواهر ربي نشاهم
والحوافر من يقوت زانوا صفاته
والسلاسل في الجناحين مرتخيه
والسلاسل في الجناحين زانوها
والضلوع من جواهر ربي نشاها
فيلاحظ مدى جماليات هذه الوحدات الميثولوجية العربية الإسلامية، الأخاذة الباهرة للملاك الرسول جبريل، وبراقه أو مطيته، التي يدعوها النص ب «الأصيلة»، ولعلها بذاتها «فرسة النبي» وما تزال هذه الوحدات محفوظة داخل التشكيل الإسلامي، سواء في وحدات الرسوم الحائطية، أو وحدات وموتيفات رسوم الكتب والوشم والنسجيات والرسوم الزخرفية الإسلامية بعامة.
والملفت أن الملاك الرسول جبرائيل «جبرا-الإله-أيل» يتبدى واضحا هابطا ببراقه من السماوات العليا ليبلغ إبراهيم برغبة «الإله» في الرحيل أو الإسراء من أرض فلسطين، أو بلاد القدس إلى برية فاران أو أرض مكة، التي يبدو أنها كانت تعرف قبلا بأرض جعفر،
39
قبل تسميتها بمكة:
قال جبريل السلام من حي قادر
ربك يقريك السلام والتحية
ربك يقريك السلام ويقولك اركب يا خليل
اركب وسافر على الدرب الطويل
وهكذا ركب ثلاثي العائلة - الخالد - إبراهيم وهاجر وبكره إسماعيل «البراق جبرائيل»، إلى أن أنزلهم حيث موطنهم المقدر، أو أرض ميعادهم، التي يحفظ لها النص تسمية «أرض جعفر» بدلا من التسمية التوراتية «أرض فاران» أو برية فاران، وهي مكة الحالية.
وفي المرة الثانية، يظهر جبريل متبديا مبلغا إبراهيم باللحاق والانضمام لإسماعيل وقبيلته، الذي كبر بدوره فأصبح بطرقا أو شيخ قبيلة تستجيب له المياه، وتنبع لضربة قدمه أينما حلت، وتأتيه الرؤى التي يتمنى فيها وعبرها رؤية أبيه، فيستجيب له الوحي بدوره:
انهبط جبريل من الدرجة العليا
انهبط جبريل على الخليلي
وعن جبريل قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إن لله ملكا هو جبريل، لو قيل له التقم السماوات والأرضين بكفة واحدة لفعل.»
وتحمل التركة الميثولوجية العربية بآلاف مؤلفة من المأثورات والموتيفات التي تبدع في تصوير جبريل كبير ملائكة العرش، منها:
أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عنقه مسيرة سبعمائة عام وقالوا: إنه من شدة قوته رفع مدائن قوم لوط وكن سبعا بمن فيها من الأمم، وكانوا قريبا من أربعمائة ألف وما معهم من الدواب والحيوانات، وما لتلك المدن من الأراضي والمعتملات والعمارات، وغير ذلك، رفع ذلك كله على طرف جناحه حتى بلغ بهن عنان السماء، حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب وصياح ديكتهم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فهذا هو شديد القوى.
Unknown page