فقال الرجل وهو يداري وجهه بذراعه في حركة أقرب إلى السخرية منها إلى الخوف: العسكري؟! ويرضيك البهدلة يا بيه؟ طيب والله وحياة سعادتك إنه رجل طيب، رجل طيب ابن ناس طيبين، رجل لا يستحق إلا كل خير. العسكري مرة واحدة؟ طيب والله أنا حفيت لأجل ألاقيه؛ خبطت على الأبواب، ناديت في عز الليل، جعت وعطشت وشفت المر، تركت أهلي وطلقت امرأتي لأجل خاطره، ومستعد أبيع هدومي بس ألاقيه.
فقال الأستاذ عادل وقد لاحظ أن المناقشة قد طالت، وأن معظم الشبابيك قد أغلقها أصحابها، ومعظم الأنوار قد انطفأت، قال وقد ظهر في صوته أنه بدأ يهتم بمعرفة الجواب: طيب لماذا تريده، عم يحيى بتاعك؟ فقال الرجل: لماذا أريده؟ طيب اسأل الدنيا عليه. عم يحيى يا بيه رجل طيب، رجل صحيح وربنا ساترها معه.
قال الأستاذ عادل وقد بدأ يلاحظ أن الرجل يهذي، وأن من المخجل له أن يستمر في الاستماع إليه: طيب يعني ضاقت الدنيا في وجهك؟ يعني لا تبحث عنه إلا في شارعنا؟ وعلى باب عمارتنا؟ قال الرجل في استسلام: وحياتك عندي يا بيه أنا دخت عليه. من الشرق للغرب ومن الغرب للشرق قلبت الدنيا عليه. خبطت على الأبواب طردوني، ناديت ما أحد رد علي، قلت لهم عم يحيى قالوا لي مات من زمان. قلت يا ناس عم يحيى؟ هو عم يحيى طول عمره رجل طيب ويحب المعروف ولازم ألاقيه. صرخت ضربوني. جريت جروا ورائي. سقت عليهم النبي ما حد حن علي. بست رجلهم قلعوني هدومي وألبسوني القميص. هربت منهم وقلت مصيري ألاقيه. عم يحيى موجود وربنا موجود. قلت يا ولد إن ما لاقيته في السكك والحواري يمكن تلاقيه عند العمارات والشوارع النظيفة، ربنا كريم ولازم ...
التفت الأستاذ عادل إلي وقال: الرجل يخرف. أحسن طريقة ندخل ننام، تصبح على خير يا أستاذ سامي. قلت تصبح على خير، وأغلقت ورائي شباك النافذة وتهيأت للنوم. ولم تمض لحظة حتى عاد الصوت من جديد، متوسلا في هذه المرة ومبحوحا، باكيا أكثر منه مستغيثا، يائسا أكثر منه ملحا أو عنيدا. وتوالت الضربات الثقيلة ترج البيت كأنها تهز شجرة قديمة من جذورها: يا عم يحيى! حرام عليك يا عم يحيى! أنا في عرضك يا عم يحيى!
وفتح شباب الشرفة المجاورة فجأة فارتطم بالجدران في غضب وجنون. وسمعت صوت الأستاذ عادل الجهوري يزعق ويسب ويلعن الدنيا ومن فيها: يا شاويش! يا شاويش!
وفتحت أنا أيضا نافذتي ووقفت أنظر ما يحدث. وما هي إلا لحظات حتى لمحنا الشرطي يتدحرج على أرض الشارع؛ تلمع أزرار سترته على ضوء المصابيح الخافتة على الجانبين، ويختلط كعب حذائه بزعيق الأستاذ عادل بالصرخات الممدودة التائهة بالضربات التي تنهال على البوابة الحديدية بوحشة الليل وعتمة الظلام وأصوات الزجاج والنوافذ التي تفتح واحدة بعد الأخرى، بنداءات الغضب والاستفسار والسخرية التي تنبعث منها في نفس واحد. وأقبل الشرطي فأمسك بالرجل من رقبته، ولم يكن في حاجة إلى أن يسأل؛ فالجريمة واضحة، وإزعاج الناس في عز الليل لا يحتاج إلى دليل. قال الأستاذ عادل: يا شاويش! أنا عادل همام القاضي، وزميلي الأستاذ سامي عبد المولى مدرس ثانوي، هذه ثالث ليلة يزعجنا فيها. ناقص يوقع العمارة على رءوسنا . الأولاد فزعت من النوم، سمعنا الخبط قلنا القيامة قامت. أرجوك يا شاويش تعمل اللازم.
قال الشاويش وهو يحيينا في تكاسل: حاضر يا سعادة البيه إنت وهو. على القسم قدامي يا بوز القرد، أي خدمة يا بهوات، والله يا بيه من ليلتين سحبته بنفسي على القسم. الشاويش النوبتجي قعد يسأله طول الليل. خطرف ولخبط، باس تراب الأرض وقال بس كله ولا الحبس يا سعادة الشاويش، كله ولا سراية المجاذيب؛ صعب علينا رميناه في الشارع وقلنا رزقه على الله. هو حر مع عم يحيى بتاعه. رجعت للنكد يا بوز القرد؟!
قال الأستاذ عادل في لهجة قاطعة: المهم تعمل اللازم يا شاويش! ثم وهو ما يزال يوجه كلامه إلى الشاويش: تصبح على خير يا أستاذ سامي!
صفع باب الشرفة وراءه، وبقيت أنظر إلى الشاويش الذي أمسكت يده برقبة الرجل وراح يدفعه أمامه ويتثاءب بصوت عال. واضطر أن يوسع من خطواته ليلحق بالرجل الذي كان يهبع أمامه كالجمل المسرع في طريقه إلى السلخانة. ولم تمض لحظات حتى اختفى شبحهما في الظلام.
1964م
Unknown page