42

إن ما أراد السيد لوهيد معرفته هو الغرض من وراء ذلك؛ فلا بد أن هناك غرضا ما وراءه، كالسخرية أو لعبة لم يستطع فهمها. لو أن كالا أو ريكس قالا كلاما كهذا - بفرض أن بمقدورهما قول كلام مثله - لما شك في غرضهما. فالسذاجة حين تصدر عن شخص مثل يوجين توحي بأن في الأمر خدعة، ولو أنها مسيطرة عليه بالفعل فيه فلا بد أن في الأمر خدعة بطريقة أو أخرى. «إذن، فالغرض من هذا هو إعطاء الناس هزة، إذا جاز التعبير؟ لتشكيكهم في حواسهم؟» «ربما يؤدي الأمر إلى ذلك.» «كيف أقحمت نفسك في هذا الموضوع؟» «بدأ الأمر كمزحة؛ إذ كنت أتحدث مع السيدتين - الشقيقتين، كما تعرف - العمياء والأخرى، لا أعرف اسميهما ...» «أعرفهما.»

دأب يوجين على تجاذب أطراف الحديث مع العجائز، فهم يحبون حديثه؛ وكانوا ينظرون إليه كسفير لطيف من أرض الشباب الموحشة. «كنا نناقش أشياء كهذه وقلت لهما إنها ممكنة الحدوث. والمشي على الماء حقيقة وقعت بالفعل. أعني مؤخرا. وسألتاني إن كنت على استعداد لأن أجرب ذلك بنفسي، فقلت لهما نعم.»

قال لوهيد في تمعن ومكر: «لعل غرورك هو الذي حدا بك إلى قبول تلك المحاولة.» «نعم، أعرف ذلك. ففي تلك الليلة حينما كنت أتأمل أخذت أفكر مليا في هذا السؤال: هل أفعل ذلك بدافع من غروري؟ وتبين لي أن تلك مسألة لا تهم في شيء. الداعي الذي يحدوني لفعله لا يهم في شيء. يجب أن أثق فيما غرس تلك الفكرة في ذهني، أيا كان. ربما كان فعلا له غرض ما من ورائه. أعرف كيف يبدو ذلك. لكنني أهب نفسي فحسب وأجعلها رهن الاستخدام. وأخذ الموضوع يتطور بسرعة؛ فقد كنت أنوي فعل ذلك من أجل هاتين السيدتين فقط، ولكني لم أستطع فعله مباشرة؛ لأنني كنت بحاجة إلى بعض الوقت لكي أستعد، وهكذا حددنا يوم الأحد، وها أنا الآن أسمع الناس في الشارع يحدثونني عنه. أناس لا أعرفهم إطلاقا. لكم أنا مندهش!» «ألا تزعجك فكرة أنك قد تجعل من نفسك أضحوكة أمام كل هؤلاء الناس؟»

هذا تعبير لا يعني شيئا بالنسبة لي، فعلا. «تجعل من نفسك أضحوكة!» كيف يتأتى لأي إنسان أن يفعل ذلك؟ كيف تجعل من نفسك أضحوكة؟ أظهر الأضحوكة، نعم، أخرج الأضحوكة، ولكن أليست الأضحوكة هي نفسك ذاتها؟ أليست موجودة معك طوال الوقت؟ أظهر نفسك. ما الذي يمكنك فعله خلاف ذلك؟

كان بمقدور السيد لوهيد أن يقول لا يزال في إمكانك الرجوع إلى عقلك، إن أمكن، ولكنه لم يفكر في ذلك حتى وقت لاحق. وحتى لو فكر فيها حينذاك؛ فقد فات أوان قولها. •••

في صبيحة يوم الأحد وأمام باب غرفته وجد السيد لوهيد طائرا ميتا. كان مستعدا لأن يصدق أن قطا هو ما أحضره إلى هنا؛ فالقطط تأتي إلى المنزل وتطعمها كالا أو روفر، مخلفة رائحة برازها في ردهة الدور السفلي. أمسك بالطائر وحمله إلى الطابق السفلي ومنه إلى الفناء الخلفي. إنه طائر القيق الأزرق. أعجب بألوانه غير المبهرجة، مع أن طيور القيق تلك لم تكن طيورا محبوبة؛ فقد نشأ في مزرعة ولم يستطع تجاوز مثل تلك الأحكام على كل أنواع الأحياء النباتية والحيوانية. تذكر إحدى زائرات المزرعة، سيدة ليست بالشابة، تصيح مثنية على جمال حقل حافل بالخردل البري. كانت تعتمر نوعا من القبعات البيج أو الوردية المتربة، والشيفون، إذا صح أن يطلق عليه شيفون، علاوة على أن الحماقة اللافتة للقبعة ممزوجة بحماقة سعادتها؛ كل ذلك حفر في ذهنه، وظل محفورا حتى يومنا هذا. وبطبيعة الحال كانت مظاهر الكبار، وفي وقت لاحق كلماتهم، هي ما تعرفه مكمن الحماقة.

كان يعتزم دفن الطائر، لكنه لم يستطع إيجاد شيء يحفر به حفرة هناك. كان باب القبو قد خلع من مكانه، وعادة ما توجد هناك أدوات حفر، لكنه افترض أنها غير موجودة. كذلك كانت أرض الحديقة متحجرة كالإسمنت على أي حال، وكانت الأحجار والزجاج المكسور منتشرة في كل مكان. فما كان منه إلا أن وضع الطائر النافق في صندوق القمامة.

عاش السيد لوهيد في ذلك البيت اثني عشر عاما، منذ أن باع صيدليته وجاء إلى هنا للعيش بالقرب من ابنته المتزوجة. ومع أن ابنته وعائلتها انتقلوا بعيدا فإنه بقي حيث هو. وكان المنزل والفناء في حالة متهالكة حتى قبل الاثني عشر عاما، مع أنه لم يكن أحد يتوقع أن يكونا في الحالة التي أصبحا عليها اليوم. كان المكان ملكا للآنسة موسجريف، التي كانت أسرتها واسعة الثراء. كانت حينذاك لا تزال تعيش في غرف الطابق السفلي حيث يعيش ريكس وكالا وروفر اليوم. بعد فترة وجيزة من انتقال السيد لوهيد اشترى منجلا جز به العشب الطويل في زوايا الفناء . كان يعتزم تهذيبه ليتحول إلى مرج جميل، بما يرضي الجميع. لكن بعد مرور وقت يسير على البدء في عمل ذلك سمع طرقا عنيفا على النافذة وصوتا عاليا، لا يشبه صوت السيدات، في الواقع صوت شخص مخمور، يدعوه للابتعاد. «هذه أملاك الآنسة موسجريف!»

كانت تلك الآنسة موسجريف، المرأة المصابة بالجنون، لكن بطريقة مألوفة. في أيام عمله بالصيدلية تعامل مع سيدات مثلها يضعن أحمر الشفاه بطريقة مقززة ويعتمرن قبعات بنفس الطريقة، ويمارسن الاحتيال والتملق والكذب ويحصلن على الإهانات في المقابل عند صرف وصفاتهن الطبية. في الوقت الحالي كان قد مر على وفاة الآنسة موسجريف فترة طويلة، كما أنه افتقد مثل هذا الجنون المألوف، وترك مع الزمرة الحالية، التي لم يعد في مقدوره الحكم على ما إذا كانوا مجانين أم لا، ولم يكن ذلك في مقدوره مطلقا، ولا حتى يوجين. الأهم من ذلك كله يوجين.

حاول الناس كثيرا إقناعه بمغادرة هذا المكان؛ فما الذي يدعوه إلى البقاء فيه؟ كان يقول إنه لا يحب البنايات السكنية، ولا يحب الارتفاعات، ولا يريد أن يعرض نفسه لمنغصات الانتقال، وغيرها من الأسباب. ومهما كان ما تعلمه ها هنا فلم يندم على تعلمه إياه يوما، فقد استمع إلى أقرانه وهم يتحدثون، وحسب أن أدمغتهم كانت ستتصدع مثل البيض لو عرفوا معشار ما يجب معرفته. وأخيرا، فلم يندم على رؤيته فعلة ريكس وكالا، أو قراءته للصحيفة التي يبيعها روفر، وتوجيهه له ذات يوم دفعة على سبيل المزاح. كان يقرأ كل كلمة منها بالرغم من طباعتها غير الواضحة المؤذية لعينيه. سوء الطباعة والأخطاء الهجائية وبعض الرسومات المبقعة وربما البذيئة، علاوة على الاحتياجات الواردة في الإعلانات المبوبة ومقال افتتاحي يهاجم مجلس المدينة - الذي نعتوا أعضاءه بالممثلين القذرين والأغبياء - كل هذا أثار قلقه وهيج أعصابه؛ لكنه واصل القراءة، مع ترقب عجيب من أن تومض أمامه رسالة لا تلحظها العين من شدة سرعتها، على غرار بعض الإعلانات التجارية التي شاهدها على شاشات التليفزيون.

Unknown page