ودام الحال على ما وصفنا أشهرا معدودات كان يظنها في البدء فيدور منتهى السعادة، فما لبث أن رآها منتهى العذاب، ولطالما تمنى قبلها أن يجمعه الدهر بمالكة فؤاده، فلما تحققت أمانيه وأصبح قريبا منها يراها كل آن، وتلتقي عيناه بعينيها ويستنشق عبير طيبها، يلازمها إن خرجت ويرافقها أنى سارت، رأى نفسه مضطرا أن يكتم عواطفه ويخفي هواه، فلا تظهر منه إشارة ما تفضح أسرار غرامه، ولعمري إنه لعذاب تعجز عن احتماله طبيعة البشر، وأي نفس تقوى على هذا الجهاد؟ وقد لاحظت فاننكا أن فيدور لا يستطيع كتم هواه طويلا، وخشيت أن يفيض به الوجد يوما فينفضح سره على غير ما تهوى، أو يقتله الكتمان كما يمزق بخار الماء - إذا اشتدت به الحرارة - جدران الإناء الذي يحتويه، ولو كانت من حديد أو فولاذ، فعزمت على مفاتحته في الأمر.
وذات يوم رأت فاننكا نفسها منفردة مع فيدور، فشاهدت محاولة الفتى عبثا كتمان ما به، ومجاهدته نفسه على غير طائل، فتمثلت أمامه ونظرت إليه مثبتة عينيها في عينيه قائلة: أتحبني يا فيدور؟
فاختلج على الفتى، وتلعثم لسانه؛ فضم يديه إلى صدره وتمتم قائلا: العفو ... العفو ... يا مولاتي.
فقالت له: علام تطلب العفو يا فيدور؟ أليس حبك طاهرا؟
فأجابها: آه يا مولاتي، إن حبي طاهر، وعلى قدر طهارته يأسي عظيم.
فقالت له: ومم اليأس يا صاحبي؟ أليس أبي يحبك كولده؟
فصاح فيدور قائلا: ماذا تقولين يا مولاتي؟ وهل إذا رضي والدك تتنازلين ...؟
فقاطعته قائلة: ألست شريفا أصلا ونفسا يا فيدور؟ فماذا أروم فوق ذلك؟ أتظن أن فقرك يحول بيننا؟ كلا؛ فإن ثروتي تكفينا نحن الاثنين.
فقال لها فيدور: إذن، إذن، فمولاتي تتكرم بإعارتي جانب اهتمامها.
فأجابته: على الأقل أفضلك على كل من رأيت.
Unknown page