ومع كل ذلك لم يشأ أن يعقد النية ويعتقد النجاح بشيء لم يثبته الاختبار بعد، فرأى من باب الفراسة والتعقل استجلاب كمية كافية من آلات المنجنيق وإقامة أربعة حصون متحركة تسير على عجلات، وتجهيزها بجنود مسلحة بالنبال والبنادق وزجاجات ملأى بعقاقير تستحيل نارا محرقة على إثر سقوطها،
2
وأمر بإرسالها إلى القلعة، وكذلك أمر بترتيب سيارة أخرى تسمى باليونانية ما يقارب معنى «فاتحة الأمصار»، وهذه أيضا لها عدة عجلات ملفوفة بثلاث لفائف من الجلد لتبقى دائما رطبة ويقيها من عطب الحريق، ومسقوفة بسقف حصين لوقاية من فيها، ولها في أسفلها أربعة أبواب، وهي ملأى بالحطب وأشباهه لردم الخنادق ونقل بعض الجسور السفرية لأجل إقامتها واجتياز الخنادق عليها.
وقد أتت هذه القلعة السيارة في إحدى الليالي بخدمة جلى بأن هدمت أحد الأبراج التي بجهة طوب قابو، ولكن ما لبث عشية أو ضحاها إلا وأعاده الروم إلى ما كان عليه بسهر الإمبراطور المتواصل، وغيرة عماله تحت جنح الليل، وانتقموا من السيارة شر انتقام بأن جعلوها طعاما للنار من كثرة ما صبوا عليها من زيوت النفط.
لم يتمالك الفاتح عن إظهار إعجابه الشديد واستحسانه الزائد لما رآه من سهر عدوه وتفانيه بالدفاع؛ لأنه كان من عشاق الفضيلة ومقدري الأعمال المجيدة، ولو أتت عن يد أعدائه وكانت موجهة ضده.
وبينا كانت حلقات الحصار آخذة بالتحكم ظهر في البحر مقدار خمس عشرة سفينة أرسلت للأخذ بناصر الروم وإمداد القسطنطينية، وظلت شهرا في عرض البحر تترقب من الريح المضادة مجرى، فقام لمقابلتها مائة وخمسون سفينة بين كبرى وصغرى من الأسطول العثماني، ونزل السلطان بذاته ليرى ما يتم عليه الأمر بين الأسطولين.
كانت سفن العدو كبيرة جدا ومجهزة بالمدافع الكافية، وربانها ونوتيتها على خبرة تامة بالفنون الحربية، بعكس العثمانيين الذين ما أعاروا البحرية جانب الاهتمام قبل الفاتح، بل قبيل التشبث بفتح القسطنطينية. وكان أمير البحر بالطة أوغلي عديم الكفاءة قليل الاختبار، فجاء إنشاء الجواري العثمانية ناقصا وقوة سيرها ضعيفة، ولم يكن لديها مدافع كافية ونوتية تعودت الإقامة بين السماء والماء.
ابتدأت الحرب البحرية، وأخذت قذائف العدو تغشى أديم الماء، لا سيما زيوت النفط التي كانت تجري وهي شاعلة، فكان مشهدا هائلا جمع بين النقيضين وساوى بين الضدين «النار والماء».
أمام هذا المنظر المهيب وقف الأسطول العثماني لا يبدي حراكا، وقد تحركت أخيرا منه سفينتان بفعل الأمواج فاصطدمتا معا واحترقتا بتاتا.
لا تسل على الفاتح وشدة انفعاله من بطأة أسطوله وعدم تمكنه من أسطول العدو الذي لا يعادل عشر ما عنده، وعد ذلك عارا كبيرا عليه وعلى جنده الذي أذل به كل أوروبا، واندفع بجواده إلى البحر لا يعي على شيء، فأخذت الحمية رجال الأسطول وتحركوا بعد السكون وهجموا هجمة عنيفة صارت بها الحرب سجالا، تتراوح بين كثرة عديد السفن العثمانية وتفاني نوتيتها وبين دربة العدو وحنكته، إلى أن هبت ريح موافقة للعدو، فمرت سفائنه بسرعة ودخلت المرفأ؛ لأن الأروام كانوا أرخوا طرفي الزنجير من غلطة وسراي بروني.
Unknown page