ثغور ابتسام في ثغور مدامع
شبيهان لا ينفك ذا الشبه منهما
ولم يبق بين ذلك الحشد الغفير من لم تشمله لذة الفرح أو تأخذه نشوة الطرب إلا خليل باشا وبعض أشياعه. أما السلطان فهو الوحيد الذي كان باكيا ضاحكا كئيبا مسرورا في آن واحد.
دخل الفاتح العاصمة بين هتاف الشعب وتحية الجند، وغداة اليوم الثاني عقد الديوان العالي لإجراء مراسيم البيعة، فلحظ الفاتح على خليل باشا انزواءه إلى جانب القاعة، وهو بين الخوف والرجاء واليأس والأمل، تقرأ على وجهه سور الاضطراب لما فرط منه في جنب السلطان، فقال الفاتح: لماذا لا يحضر الوزراء؟ مروا خليلا أن يتبوأ مقعده. وأظهر بذلك أنه أرفع من أن يقتص عن إساءة كانت موجهة لشخصه، وكان هذا العفو الجليل فاتحة كتاب سلطنته وباكورة أعماله في يوم الخميس لستة عشر من محرم الحرام سنة 855 هجرية، والسلطان في الثانية والعشرين من عمره.
إن أول عدو وجده الفاتح في طريق سلطنته هم القرمانيون، اعتادت هذه العائلة القرمانية منذ بدء ظهور الدولة العثمانية أن تراقب أعمالها عن كثب وتظن في نفسها الكفاءة، ونسيت أو تناست ما سبق لها من الوقائع معها، وما قاسته من الغلبات المتواليات التي ذاقت وبال أمرها ورزحت تحت أثقالها آمادا طويلة، فكانت لا تني لحظة عن إيقاظ الفتن النائمة كلما سنحت لها فرصة وسمح لها زمان، وتحمل غلباتها السالفة على دربة ودراية مديري دفات تلك الحروب الطاحنة من العثمانيين، وتعلل النفس بآمال كلها أضغاث أحلام؛ ولذلك كانت تعيد الكرة كلما تولى سلطان عن الملك وتولى عليه آخر، فما كاد ينتشر خبر ارتحال السلطان مراد إلى دار الجنان إلا وقام إبراهيم بك زعيم تلك الحكومة المغرورة، ناسيا عظم الندامة التي تحل بمن يجرب المجرب.
قسم إبراهيم بك جيشه إلى أربع فرق، وقاد إحداها بنفسه إلى علائية، وأرسل الثلاث الباقية إلى جهات؛ كوتاهية، ومنتشا، وآيدين، تحت قيادة أحد زعماء ملوك الطوائف، ومذ تلقى السلطان الفاتح هذا الخبر ولى إسحاق باشا منصب أمير أمراء الأناضول، وأرسله لمقابلة العدو ومناقشته الحساب، وتوجه هو إلى بروسة ليعنى بدفن جثة أبيه، ويلاحظ صفوف الدفاع الاحتياطية التي أقامها لحفظ مركز الجيش.
وصل الفاتح إلى مضرب الجيش، فقام الإنكشاريون يطالبونه بخراج توليه السلطنة، وقد أصبح ذلك بدعة سيئة منذ حدثت حادثة تيمورلنك واضطرب حبل المملكة، فهم لا يدخرون وسعا في الحصول على هدية أو عطاء من كل سلطان، ولو أدى ذلك بهم إلى الخروج والعصيان.
فاضطر الفاتح إلى بدر بعض بدرات من الذهب على رءوسهم مراعاة لنظامهم الفاسد وجريا على مجراه، ولكنه أعار هذا الحادث الجلل جانب الأهمية، ورأى بأصيل رأيه أن الأسفار الحربية للذب عن الوطن وإقامته على أسس قويمة تحتاج إلى كبير طاعة وعظيم دربة من الجيش، والجيش على ما هو عليه من اختلال الشأن واعتلال الكيان، فوجد أن من العدل عزل بعض أمراء الجند وتأديب مذكي نار الفتنة، وقضى بذلك على روح سيئة قد تسري إلى قلب الجند فتقلب أخلاقه وتستبدل حسناته بسيئات.
ومن جملة ما ارتآه للقضاء على هذه الآمال الساقطة إخراج ألوف كثيرة من حرسه الخاص وإعادتهم للجيش؛ حتى يتمكن من إلقاء الشقاق بين تلك الجنود، فيمنع وقوع الاتفاق خفية بينهم أو القيام ببعض أعمال ضد السلطة. وبعد أن مهد هذا السبيل وأمن شره المستطير عاد بكليته إلى القرمانيين والتحق بجيشه الذي عهد به إلى إسحاق باشا بسرعة كادت تكون من الخوارق؛ لأنه نهب الأرض نهبا وطوى المسافات الشواسع طيا.
رأى العدو هذه الحركة الهائلة وهو لم ينس يد العثمانيين الطولى في قراع الكتائب وقدحهم المعلى في تفريق الصفوف، فأخذ بالتقهقر بدون أن يبدي أدنى مقاومة، حتى إذا تضامت فرقه المتفرقة تحصنت جميعها بجبال طاش إيلي الشواهق، ولم ير بدا من الرضوخ لشروط العثمانيين التي حطت قدره وأنزلت من كرامته، راضيا من الغنيمة بالإياب وحاصلا على أمان السلطان وعفوه.
Unknown page