7
وأصبحت إرثا ينتقل من الآباء إلى الأبناء، وأضحت وزارتهم كشراكة في بيت الملك، ولو ظلت على هذا النمط مدة أخرى وتولى الملك صبي أو أخرق، لنقل آل جندرلي الذي منهم خليل باشا السلطنة إليهم بدون كبير عناء كما جرى مع الأتابكة، وحصل التفريق في الملك وآل أمره إلى الانقسام والتجزؤ.
أما محمود باشا فكما ترويه التواريخ، هو غرس نعماء الفاتح، وقد خدم الدولة خدمات عظيمة، ولكنه وقع بخطأ الاعتداد بالنفس والاستئثار بالسلطة، حتى إنه كثيرا ما تطاول بدالته على الفاتح إلى جرح آرائه وتسفيه أحلامه، ففي سريته على البوسنة التي كانت خطتها ضبط تلك البلاد بأسرها وأسر ملكها لإخلافه بعهده، خالف أمر السلطان وآمن الملك في عقر داره، ولكونه (أي الوزير) قرواتي الأصل، وأخوه وزير لذلك الملك، فإعطاؤه الأمان خلافا لما أوصى به السلطان مدعاة إلى الظن به ومجلبة للشك والارتياب.
ثم توانى في نقل القرمانيين إلى العاصمة فاعتزل المنصب. وعند تربعه دست الوزارة للمرة الثانية حمل السلطان على الكف عن حسن الطويل بداعي فصل الشتاء، وفضل ضبط شبين قرة حصار عن تأثر العدو، الأمر الذي أدى إلى غضب السلطان عليه ونبذه له هذا الرأي بقوله: «إننا جئنا إلى هنا للإيقاع بالعدو وليس لضبط القلاع.» ثم تماهل في إمداد خاص مراد وسبب ذلك الانكسار المريع الذي طرأ على سريته، أضف إلى ذلك محاولته عن اللحاق بحسن الطويل، فسقط ثانيا من الوزارة.
وبينا هو معتزل في بيته توفي الأمير مصطفى نجل السلطان وأحبهم إليه، فحضر مع من حضر من الأعيان إلى العاصمة للقيام بواجب التعزية، على أن البعض وشى عليه بأنه يسر غير ما يعلن، وأنه شامت بوفاة الأمير لسابق بينونة بينهما في إبان مجده وأيام إقباله، وقد أدت به القحة إلى مناضلة الأمير، فخفق فؤاد الفاتح عند سماع هذا الخبر وارتعدت فرائصه، ولكنه تثبت في تحقيقه حتى علم أن الوزير يقضي أوقات فراغه في لعب الشطرنج جذلا مسرورا، وهو لابس الحلل البيضاء، بينا كان الشعب بأسره في عزاء دائم وترح مستمر، فاندفع الفاتح بدافع التأثر العظيم على قتل وزيره الذي كفر بنعمائه، ذاكرا ماضي أعماله وخياناته في البوسنة وقرمان وواقعة حسن الطويل، وقد يكون أمان الوزير على ملك البوسنة ضربا من الكرم والإحسان، وإبطاؤه في نقل القرمانيين والرفق بهم نوعا من الرحمة والحنان، ومعارضته في تجريد الجند على حسن الطويل في أيام الشتاء فتخلفه عن محاربة العدو وتفضيله ضبط شبين قرة حصار صنفا من التبصر، وعدم عنايته بمأتم الأمير شكلا من الصلابة في الدين والمتانة في المعتقد؛ لأنه شيء يرده العقل والنقل. ولكن كيف يكون موقف سلطان يستشعر من رجل خيانة أو إساءة إلى وطنه، وقد رقي به من الحضيض إلى الرفعة، وشأن والد ثاكل يحس على بعض خدمه شماتة بفقد فلذة كبده بعد أن أغدق عليه إزاء هذه الحادثة؟ لا شك أنه يفقد الرشد ويضيع الصواب.
هذه هي الأسباب الجوهرية التي حملت الفاتح على قتل الوزيرين، لا كما زعم مؤرخو اليونان من أنهما ذهبا ضحية إمساكهما عن الظلم وعفافهما من الجور، ولو صدق ظنهم لكان الأحرى به أن يستبقي على الوزارة محمد باشا روم لما أساء إلى الأهلين في قرمان ولم يعزله شر عزلة.
بل لو كان الفاتح جبارا عتيا كما يزعمون لما ركب مركب الخطر، وأوشك أن يشهر حربا عوانا على ملك مصر، وهو يتأبى كثيرا من الجدال مع المسلمين في سبيل استرداد العلامة الملا كوراني قاضي بروسة، الذي بارح الأرض العثمانية على إثر تأثره من أمر أرسله إليه السلطان خلافا للشريعة المحمدية بعد أن مزقه إربا إربا ورماه عرض الحائط، حاول الفاتح كل ذلك ليسترضي الشيخ ويمحو تلك الزلة. وأكبر ما عزاه مؤرخو الروم إلى الفاتح قولهم إنه سن سنة في القانون المحمدي تقضي بقتل أفراد الأسرة المالكة في أيام ذكرى الجلوس دفعا للفتنة.
ولو وصل هذا القانون إلينا وأمكننا الاطلاع عليه لوفقنا إلى معرفة نصيب هذه الرواية من الصحة ودرجة اقترابها إلى الحقيقة، ولكنه حرق بأمر السلطان مراد؛ لأنه كان يضم بين دفتيه قيودا وشروطا شديدة الوطأة على السلاطين كما يرويه الخلف عن السلف، أو أنه لعبت به أيدي العبث والضياع لسبب آخر، فأصبحنا مضطرين للرجوع إلى القياس والعقل. وقد علم القارئ معنا أن القانون المحمدي وإن كان واضعه الأول هو الفاتح بنفسه، إلا أنه استفتى قضاياه واستقى موارده من كل علماء زمانه الذين كانوا كسلطانهم لا يخشون في الله لومة لائم، فلا يمكن أن يمالقوا أو يمالئوا فيما وسد إليهم من أمر الشريعة السمحاء، على أحكام بربرية أشد هولا وأفظع وقعا من مظالم جنكيز خان.
وهل يعقل أن الفاتح الذي رفض بكل إباء اقتراح تخيير الروم بين السيف والإسلام وقنع بالجزية منهم، أن يبتدع في الملك بدعة سيئة يكون من شأنها حمل أولاده وأحفاده على الاقتتال والتلاحم في سبيل الدنيا؟
وقبل أن ننهي كلامنا نجمل ما قلناه، من أن الفاتح كان من أعاظم رجال العالم الذين امتازوا ببسالتهم ودربتهم وتحلوا بجليل الأوصاف، كسرعة الخاطر وقوة الإيجاد ورباطة الجأش في الأزمات والشدائد. ولم يكن به ميل إلى التغلب كتيمورلنك، أو نزعة إلى الحرب والتخريب كجنكيز خان وما شاكلهما من ذوي المطامع الكبرى، بل كان يرمي إلى الاستعمار أكثر منه إلى الفتح، وكان على عظمة قدره وجليل مركزه يحب المزاح والنكات الأدبية.
Unknown page