وبقدر ما أعار الأصول من العناية والدقة وجه اهتمامه نحو الفروع، فيكفيك من ذلك أنه عني بزرع عرق الإنجيل الذي يضرب بجذوره في بطن الأرض ويتماسك مع التراب جيدا على ضفاف الخليج (القرن الذهبي)، لئلا يمتلئ من الأتربة التي قد تنهال عليه، وقد دون ذلك في القانون الذي وضعه ليكون من جملة اللزوميات النافعة للمملكة.
ولو اطلعنا اليوم على قيود الوزارات القديمة لوجدنا أن أعمال عهد الفاتح أنظمها شكلا وأرتبها حالا وأوسعها تفصيلا وإجمالا.
وناهيك بزهده ورغبته عن الدنيا، فإنه اختار لنفسه زي العلماء من عمامة وكساء، تاركا زينة الملك بل محقرا إياها.
وقد اعتبر الفاتح الأدب الإنساني فوق دأب الحكومة وخصائصها، في أيام كانت قوة السلطنة وسطوتها في إلقاء الرهب والرعب في القلوب والأخذ بالنواصي والأقدام، فكان يلثم يد أستاذه الملا كوراني حيثما قابله، ويقف قائما للملا خسرو الذي كان أفضل فضلاء زمانه أو إمامه الأعظم على رواية الفاتح نفسه، حتى لو قدم عليه وهو في المسجد احتراما لمكانته العلمية.
ولما ذهب علي قوشي إلى بلاد الروم عين له في كل مرحلة من مراحله ألف درهم تصرف في سبيل نفقاته وجرايته، حتى جرى كرمه لقاء العلماء مجرى المثل، وصاروا يؤمونه من كل فج عميق.
ومن هذا القبيل الملا جامي الذي كان إذا امتطى مطيته أمسك السلطان حسين بايقرا في ركابها، وأخذ على شيرنوايي الوزير بلجامها، فإنه ترك كل هذه المظاهر والاعتبارات وقصد وجه الفاتح الكريم مما وراء النهر.
4
وكان يقضي أكثر أوقات الفراغ بالمسامرات والمحاورات العلمية، حتى إنك لتراه يستحضر إلى مجلسه العارفين ويلقي بينهم مطلبا أو مبحثا هاما، إلى أن يحمي بينهم الوطيس وتأخذ الحدة حدها فيقوم عليهم حكما، ومن المأثور عنه في هذا الصدد توليه الحكم في جدل إثبات الواجب المشهور بين ابن الخواجه وابن الخطيب.
وكان يقدر الكتب والمصنفات حق قدرها، ويحسن إلى مؤلفيها بالهبات الطائلة والعطايا الجزيلة، ويرسل النافع منها إلى أنحاء المملكة بأوامر سلطانية لينشر ويعمم ما بها من فرائد الفوائد، ويزور المدارس، ويحرض الطلاب على السعي وراء العلوم واجتناء ثمراتها، ويراسل أفاضل أوروبا وآسيا على لغات شتى خدمة إلى المجمع العلمي الذي أنشأه في بلاطه، ويكتب أكثر كتبه الأدبية والعلمية بخط يده، شأنه في كتابته محررات الدولة الرسمية.
والذي يدعو إلى الأسف أنه لم يوفق إلى تخليص اللسان العثماني من اللهجة الفارسية التي استحكمت حلقاتها في تلك الآونة، حالة كون أن أدبيات الأول أخذت بالظهور في أيام الفاتح كبقية آثار الرقي والحضارة.
Unknown page