على أن الأسطول لم يكن في الحال المنظمة التي تمكنه من القيام بأعمال خطيرة تقضي لبانة السلطان من ضبط الجزر عن بكرة أبيها، فاكتفى بإطلاق أيدي الغارة في ربوعها واستعمال بعض الضغط مع أهليها، وكان موسم الربيع قد أقبل وأخذت الأرض زخرفها وازينت، فقام لإكمال سفر سربيا، واستصحب جيشا عرمرما يبلغ المائة والخمسين ألفا ومائة مدفع أعدها حديثا، وتوجه إلى بلغراد، وأقام في الدانوب أسطولا صغيرا ليعترض المجريين عند إمدادهم السربيين.
وجمع جان هونياد جنود المجر وأمده البابا بستين ألفا اجتمعت تحت لوائه، واشترك معه أسطول لا يقل عن مائة سفينة، والتقى الجمعان في ضواحي القلعة، وغلب الأسطول العثماني مرة لقلة عدده وعدده ونقص خبرة رجاله، ومع كل ذلك فقد اقتصر العدو الذي تراخت أعصابه وخارت قواه على مناوشة الجنود العثمانية من وراء حجاب؛ أي إنه رجع إلى حصونه ومعاقله وبدأ بالدفاع.
وما لبثت المدافع العثمانية أن دمرت بعض أنحاء السور القائم حول القلعة، وهجم العثمانيون هجمة عنيفة استولوا بها على بعض أرجائها.
غلب العدو على أمره ولم يبق لجان هونياد في القوس منزع، وبينما هو يتأهب للقفول بصفقة الخاسر إذ قام الراهب يوان كايسترتو من المتطوعة مفضلا النار عن العار، والموت الشريف على الحياة الذليلة، وجمع ثلة من أبطال قومه حملوا على الجنود العثمانية حملة منكرة من جانب القلعة الآخر، فوقفت جنودنا وقفة الريب، وظنوا أن هناك خدعة حربية وشركا منصوبا؛ لأن الحماس الذي أظهره العدو بهذه الآونة بعد ذلك العجز في النضال والفتور في الذب عن القلعة ضدان لا يجتمعان، وفضلوا الرجوع ولكن لا تسل كيف رجعوا، إنهم كانوا كلهيب النار التي تحاول أن تدلع لسانها إلى أمامها فتعاكسها الريح وتردها أصرا.
ورأى هونياد ما حل بالعثمانيين وقد ساورهم الفشل، فاسترجع رشده وجمع جنده وأعاد عليهم الكرة، وما كان هؤلاء يتوقعونها، فأزاحهم من مكانهم.
نظر الفاتح إلى هذا الأمر نظرة المتحير، وناهيك بسلطان يعتقد بأن جيشه لا تفل سيوفه في الحروب البرية خاصة وقد غلب لقاء عدو لا يعتد به، بل هو بالنسبة إليه كالصيد تجاه الصياد الماهر، فاضطرب الفاتح وقطرت شفتاه دما من عظيم انفعاله، كأنه أسد أصيب بجراح بالغة، وما تمالك أن ألقى بنفسه في معترك الهيجاء بدون أن يلبس درعه، عزلا من كل سلاح ما عدا سيفه، وخلوا من النصير خلا رباطة قلبه.
وكان سوء الحظ قد دفع ضابطا من المتدرعة للوقوف أمامه، فخفر سيف الفاتح ذمة مغفرة ووصلت شفاره الدقيقة الغرار إلى حلقومه، وسار في صولته حتى إذا بلغ النقطة التي حمي بها وطيس الحرب وغلت مراجل النزال، وأخذ يشجع جنده بحماسي المقال وإراءة المثال، فعادت لهم روح الشجاعة، وقد أوشكوا على النصر لولا أن اختل نظامهم وتقطعت أوصالهم بوفاة قراجه باشا أمير أمراء الروملي وزعيم الإنكشاريين الواحد تلو الآخر.
ولو وقفت المصيبة عند هذا الحد لكانت تحتمل التحمل، ولكنها تحدت إلى أبلغ منه، فجرح السلطان في فخذه جرحا بليغا وسقط عن جواده صريعا، وأصبح الجيش كجسم خامد انفصلت عنه روحه.
ومما يسطره التاريخ بالفخر لرجال البلاط الملوكي، التفافهم حول سلطانهم كأنهم سور من حديد أو سوار في معصم، وثباتهم في النضال عن مولاهم وحفظه من العدو.
ولم يدخر الأمراء وسيلة في منع هزيمة الجنود وتهدئة روعهم، ولكنهم كانوا كالصارخ في الواد، إلى أن أراد الله بعباده خيرا وأعاد للفاتح قواه، وقام يلتمس تلمسا والآلام تشاغله والأوجاع تتناوبه، وما كف عن القيادة، بل جمع خمسة أو ستة آلاف من فرسانه وحال بين الأعداء وبين ما يشتهون، وأخذت الجنود ترجع بانتظام.
Unknown page