أنا الزغبي دياب المسمى
كذلك تبدت بطولات دياب عقب وصولهم إلى حلب الشهباء وقتله لحاكمها بدريس ملك حلب، فاستقبل أهلها الهلالية بالترحاب، وبعد أن نصب الهلالية ابن الملك المقتول، واسمه جمال، ملكا عليها مكان أبيه الشرير. «فأمر أهل المدينة أن تطيع أوامره، وأقامت بنو هلال في تلك الأطلال نحو عشرة أيام في أكل وطعام وشرب مدام، وسماع أصوات الأنام، وفي اليوم الحادي عشر تجهزت للرحيل والمفر قد دق طبل الرجوع تنبها للعسكر، وفي الحال هدت الخيام وركبت فرسان الصدام، وسارت النساء والبنات في الهوادج العماريات، وركب أيضا الأمير حسن وباقي السادات ورفعت على رءوسهم الأعلام وجدوا في قطع البراري، وما زالوا يقطعون الروابي والآكام مدة ستة أيام حتى وصلوا إلى مدينة حماة، فنزلوا على نهر العاصي، ولم يعترضهم أحد؛ لأن أهل البلد كان قد بلغهم ما جرى على أهل حلب، فخافوا عواقب الأمر وإثارة الفتن فاستقبلهم الملك بالإكرام والوقار.» «قال الراوي: ومن الأمور الغريبة والحوادث العجيبة، وهو أنه كان بمدينة حلب تاجر اسمه كساب، وكان من أشهر الناس ومن أتباع صاحب جزيرة قبرص الملك الهراس قد حضر إلى تلك المدينة، وكان يتاجر بالبضائع، فاتفق أنه لما قدمت بنو هلال إلى تلك الديار ونهبت أمواله، فشكى للأمير دياب وأعلمه وطلب رد أمواله التي كسبها بنو هلال، فلم يستفد وإلا حصل على حين ترك حلب ونجا بنفسه خوفا وقصد الملك الهراس، فدخل عليه وأعلمه بما فعلت بنو هلال به، فاغتاظ الملك؛ لأنه كان يحب كساب، فأوعده بإحضار دياب، وكان عنده ثلاثة من أصحاب حيل وخداع، وكانوا من جملة محافظين المدينة فأحضرهم وأعلمهم بواقعة الحال، وقيد الأموال وطلب منهم أن يسيروا مع كساب ويأتوا بالأمير دياب، فقالوا: سمعا وطاعة وغيروا ثيابهم وساروا بالمواكب من تلك الساعة وصحبتهم هدايا، وعند وصولهم إلى اللاذقية نزلوا في المدينة، وجعلوا يتجسسون أخبار بني هلال، فعلموا أنهم في حماة الأطلال، فعند ذلك ركبوا وساروا تحت جنح الظلام إلى أن وصلوا إلى البلد ودخلوا منزل دياب وبصحبتهم الهدايا مثل سيف معقرب وخنجر كالفضة جوهر وأبريق فضة وثلاث مماليك يساوي ألف دينار، وغير ذلك من الأشياء الثمينة، فلما وصلوا دخلوا على الأمير دياب وقدموا الهدايا فترحب وسألهم عن حالهم، فقال له كبيرهم: إن سألت عنا يا أمير نحن تجار وإخوة ثلاثة وجينا في تجرة عظيمة وتركناها في اللاذقية، خفنا من الطريق وحذرنا كل صديق ومرادنا تعدينا من هذا الطريق، وعند ذلك شالوا ثلاث منح من الجواهر المثنية التي تدهش الأبصار وتحير الأفكار وقالوا له هذه الأولى إلى الأمير حسن، والثانية إلى الأمير أبو زيد والثالثة إلى القاضي. فقال دياب: ومن هؤلاء الذين تقول عنهم وكأنهم من تحت يدي؟ فقالوا: نحن أتينا لعندك، الذي تريده أعطيه والذي ما تريده لا تعطيه. فقال لهم: نحن ما ندري لأحدكم؛ لئلا يقوموا يلحقوا. قال كبيرهم: نحن تجار ولا أحد يجلب متاجر مثلنا ومعنا مركب موثوق خلاف ما بعناه نحن كل سنة تلاقينا نبيع ونشتري، ونكسب النصف في بضاعتنا ولا نحمي طريقنا إلا على حلب، وكان اللعين بدريس يشتري منا ما يلزم من البضائع كل سنة، وقد أتينا هذا المال على حسب عادتنا فلم نجده، وقد وجدناكم ناصبي على حلب، فسألنا بعض المسافرين، فأخبرونا عليك بأنك قتلته وملكت بلاده ففرحنا؛ لأن ذلك الملعون أخذ منا عشرة آلاف دينار، وهذا غير عشرة آلاف ثانية، فقلنا من شدة فرحنا: نقدم لك هذه البدلة حيث إنك قتلت هذا الملعون الخبيث.» «فركبوا الثلاثة هجنهم وركب الأمير دياب أيضا، وساروا خوفا من أن ينظرهم أحد لئلا تظهر حيلتهم، وبينما هم سائرون وإذا بالأمير عمار أخي الأمير حسن التقى بهم فلم يعرف منهم سوى الأمير دياب، فقال: يا بن غانم! إلى أين ساير مع هؤلاء القوم؟ فأجابه: هؤلاء ضيوفي وموصلهم خوفا عليهم من سفهاء العرب.» «فسار الأمير عمار إلى منزله، وأما الأمير دياب فسار مع أصحابه من العشاء إلى ثاني يوم للظهر حتى أشرفوا على البحر المالح، فسمع دياب صوت دوي الماء مثل الطبل، فدخل عليه الوهم.» «ولما رآه الثلاثة قد تغير، قالوا له: أما تنزل معنا في البحر؟ فأجابهم: إن نزولي معكم في البحر ما هو ضروري، وإن كان كلامكم صدق انزلوا وهاتوا ما قلتولي عليه، وأنا ما عدت أخطي ولا خطوة واحدة. ثم نزل عن الشهبا، ومسك سرجه بيده اليسار والسيف بيده اليمين، ووقف ينتظر فتركوه ونزلوا إلى البحر حتى أتى إلى الغليون، وجابوا له خيمة من الحرير الأصفر، وتلك الخيمة مكللة بالدرر والجواهر والياقوت والمرجان والزمرد الأخضر، فلما رأى دياب تلك الخيمة وفرشها الذي يدهش، تعجب وظن أن كلامهم صحيح، ودخل معهم إلى الخيمة ودخلوا يتحادثون وأتوا بالمأكل والمشرب، وفي الحال جابوا السلاسل قيدوه ونزلوا إلى المركب ورفعوا المراسي، وأقلعوا ولما قطعوا مسافة طويلة أعطوه ضد البنج، ففاق فلما نظر الجماعة كانوا في ملابس بيض يلاقيهم في برانيط سود، فعرف أن الحيلة تمت عليه، فتنهد وأنشد يقول:
يقول الزغبي دياب بن غانم
بكيت على حالي وأنا مأسور
بكيت على جاهي وعزي وهيبتي
وأنا فوق يختي جالسا مسرور
ومن بعد عزي وارتفاعي وشمختي
بقيت مقيد بينكم مأسور
ثم قالوا له: لا بد من قتلك. وما زالوا سائرين إلى أن وصلوا جزيرة قبرص، وطلعوه مقيد وأدخلوه إلى عند الملك هراس، وكان عنده جماعة من الناس، ففرح الملك وألقاه تحت العذاب.» ••• «أما ما كان من بني هلال، فإنهم كانوا في مسرات إلا والخضرا قادمة مثل هبوب الرياح، وهي كئيبة حزينة على فقد خيالها الزغبي دياب، فأول ما نظرتها ابنته وطفا، فصاحت وولولت، فتراكض جميع الفرسان على صاحبها، وفي تلك الساعة صار ضجة عظيمة.» «وأما ما كان من الأمير حسن، فإنه قال لأبي زيد: إن دياب صار له مدة ما حضر لعندنا، وأظن أنه مغتاظ علينا؛ لأننا ما خليناه ينهب حلب، فقال له أبو زيد: قم نزوره. ولما ساروا تحت منازل دياب سمعوا البكاء والنواح، وتقدم غانم أبو دياب وهو باكي العين، وأشار إلى الأمير أبي زيد بهذه الأبيات، يقول:
يقول الفتى غانم على ما جرى له
Unknown page