مقدمة
شخصية أبي زيد في سيرة بني هلال
الريادة
سعدى ومرعي
الخفاجي عامر العراقي
أسر دياب في قبرص
الهلالية يحاربون اليهود في فلسطين
بنو هلال في دمشق
الهلالية في القدس وغزة
الهلالية في مصر
اغتيال الخفاجي عامر وابنته دوابة
أبو زيد يزور الأسرى في زي امرأة
هزائم الهلالية وعودة دياب
عشق سعدى لمرعي وخيانتها لقبيلتها ... وطنها
دياب يقتل الزناتي ويسبي سعدى ويحكم الغرب
دكتاتورية دياب وأسر سعدى
مأساة سعدى ومرعي
خلافات بني هلال والهزائم
اغتيال دياب للسلطان وأبي زيد
مصرع دياب وأبناء الشهداء
مقدمة
شخصية أبي زيد في سيرة بني هلال
الريادة
سعدى ومرعي
الخفاجي عامر العراقي
أسر دياب في قبرص
الهلالية يحاربون اليهود في فلسطين
بنو هلال في دمشق
الهلالية في القدس وغزة
الهلالية في مصر
اغتيال الخفاجي عامر وابنته دوابة
أبو زيد يزور الأسرى في زي امرأة
هزائم الهلالية وعودة دياب
عشق سعدى لمرعي وخيانتها لقبيلتها ... وطنها
دياب يقتل الزناتي ويسبي سعدى ويحكم الغرب
دكتاتورية دياب وأسر سعدى
مأساة سعدى ومرعي
خلافات بني هلال والهزائم
اغتيال دياب للسلطان وأبي زيد
مصرع دياب وأبناء الشهداء
سيرة بني هلال
سيرة بني هلال
تأليف
شوقي عبد الحكيم
مقدمة
هذه السيرة الهلالية السياسية الكبرى
من الملفت والمؤسف أن النص الأصلي المدون لهذه السيرة الهلالية السياسية الكبرى، ما يزال إلى أيامنا في عداد المخطوطة المحفوظة بمكتبة الدولة المركزية ببرلين، مثلها مثل مثيلتها «الأميرة ذات الهمة» (26 ألف صفحة).
بمعنى أن النص الفعلي للهلالية، لم تصله إلى أيامنا يد المطبعة بعد، وما يزال في عداد النص المخطوط اليدوي، ومن هنا فالاختلافات كبيرة، والمغالطات لا تنتهي، والإضافات التي أضافها الرواة والنساخ والمنشدون على مدى العصور تتبدى واضحة بين ذلك النص المخطوط للهلالية، وبين بقية النصوص والطبعات الشعبية المتداولة على طول عالمنا العربي، من محيطه لخليجه، وهي بالتحديد الرقعة الجغرافية التي تغطي هذه السيرة حركتها من حروب وهجرات وأحداث لا تبعد بنا، بتحالفاتها وتناقضاتها، عما نعانيه اليوم على طول البلدان والكيانات العربية، حتى ليبدو أن أحداث سيرة الهلالية كانت على دراية قومية وافية منذ حوالي عشرين قرنا من الزمان، في حروبها وتصديها لليهود، سواء في خيبر والجزيرة العربية، أو في منطقة شرق الأردن المتاخمة لفلسطين - التي تدعوها السيرة ببلاد «السرو وعبادة» - أو في فلسطين ذاتها، في القدس وغزة وعكا ويافا.
بل هي تتعقب قلاع وفلول اليهود - كما تدعوها السيرة وتسوقها بشكل مباشر - في حلب الشهباء، واللاذقية - التي فيها أسر دياب بن غانم - والقلاع المتاخمة لحماة وحمص ودمشق، وهكذا.
وتلقي المخطوطة الرئيسية للسيرة المزيد من الضوء الساطع على منابع ومكونات هذه السيرة، بالإضافة إلى حفاظها على حلقاتها الرئيسية، التي هي في عداد ثلاث سير متتابعة، وتضرب أولاها بجذورها في العصور التي تعارفنا عليها بالجاهلية السابقة لظهور الإسلام، والتي قد تصل بنا إلى بضعة آلاف سنة؛ إذ تغطي الحلقة الأولى للسيرة بدء تواجد العرب التاريخي في الجزيرة العربية منذ الجاهلية الأولى أو العصور السابقة واللاحقة للإسلام، وهجرتهم الأولى إلى الأردن وفلسطين أو بلاد السرو، إلى أن تتوقف بنا الأحداث مع بدء ظهور الإسلام ... وكيف أن هلال بن عامر وفد على النبي
صلى الله عليه وسلم
على رأس قومه - أو قبائله «المتحالفة» - ولعب أولئك الهلاليون دورا في ترسيخ أركان الدين الجديد، حتى إن النبي أسكنه وادي العباس.
وتبدت فيما بعد فروسية وشجاعة الهلالية في جبل «المنذر»، أبو العرب المناذرة، وكيف تعرف إلى الأمير «مهذب» وتزوج بابنته «هذبا»، حتى إذا مضت على زواجهما عشرة أعوام ولم يرزق منها بطفل، قرر الزواج بأخرى.
ثم رحل إلى بلاد «السرو وعبادة» - إلى الأردن وفلسطين - حيث تزوج بابنة الملك الصالح واسمها «عذبا». وبعد ذلك نرى السيرة تحدثنا أن «هذبا» التي خلفت له «جابرا»، كما وضعت «عذبا» جبيرا، ولم يمض على ولادة الطفلين زمن طويل حتى ترى الغيرة تدب بين الاثنتين ونرى كلا منهما تريد المنذر لها ولابنها، وينتهي الأمر بطلاق «عذبا» ورحيلها مع ابنها «جبير» إلى نجد. ومن نسل جابر وجبير انحدرت إلينا بطون بني هلال ونساؤهم الذين قاموا بالأدوار الهامة في مختلف فصول الحلقة الأولى من السيرة، فجابر ولد له «عامر، وتامر، وهشام، وحازم»، ومن نسل هؤلاء انحدر «رزق» والد أبي زيد، وسرحان والد السلطان حسن بن سرحان.
أما جبير فقد ولد له «رياح، وحنظل، والنعمان»، ومن ذرية رياح جاء دياب، فمن سلسلة النسب هذا يتبين لنا أن أبا زيد من نسل جابر، بينما دياب من ذرية جبير.
وعقب جيل جابر وجبير يرد خبر زواج «رزق» من «خضراء»، وكيف أنه رزق منها بفتاة تدعى «شيحا» وفتى يدعى «بركات»، وكان الولد أسود اللون؛ لذلك اتهمت خضراء في عرضها، وانتهى الأمر إلى رحيلها وابنها إلى بلاد الأمير الزحلان عدو بني هلال، فيكرم الأمير وفادتها ويعنى بها وبتربية ابنها ويوكل أمر تعليمه إلى كاهن أو معلم، فكان يعلم بركات - أو أبا زيد الهلالي - العلوم والحرف واللغات والحيل والمكائد التي اشتهر وتفوق بها:
ولساني عبراني اليهود بينفعك
ولسان سرياني تصير مشير
وكذا الطب والرياضيات والكيمياء، والصباغة والمعادن:
والطب أيضا دانيال أعلمك
وعلم الحساب وكل علم ظهير
وأعلمك علم الصباغات كلها
تصبغ لروحك ما تريد يا أمير
ويحدث أن يهاجم الهلاليون بلاد الزحلان، فيتصدى لهم بركات ويأخذ والده أسيرا، ويعترف له الهلاليون بشجاعته، ويطلقون عليه اسم «سلامة» ويعجب به الزحلان، فيزوجه بابنته «غصن البان» وتعلو مكانة «سلامة» في أعين الهلاليين الذين رأوا كيف أن مهابته وذكاءه ومهارته آخذة في الزيادة؛ لذلك تعارفوا عليه باسم «أبي زيد الهلالي سلامة»، وبعد أن تفرغ السيرة من سرد حروب الهلاليين مع الزحلان أو قبائل بني زحلان تنتقل إلى جيل سرحان، وتحدثنا عن خبر تعرفه بشما، ووقوعهما في أسر الإفرنج ونجاتهما بحيلة، من تلك الحيل التي اشتهر بها الهلالية، خاصة أبا زيد.
وشما أو شماء هنا في موقع الكاهنة أو الإلهة الأنثى القمرية، أو التي تتبع التقويم القمري، وتقود المهاجرين مشيرة بالحرب والسلم والمشورة، كما هو حال أولئك العرب الجاهليين، وتقويمهم القمري وليس الشمسي، وهو ما واصل تواتره كما هو معروف بالنسبة للتقويم الهجري القمري السائد إلى أيامنا.
فالسيرة الهلالية تفرط إلى أقصى حد بالنسبة لظاهرة شخصياتها الأنثوية، ومثل تلك الأميرة الكاهنة شماء:
انظر لشامتها
هذي علامتها
انظر لقامتها
شبه الردينية
الشعر مثل الليل
كأنه سباسب خيل
والوجه مثل السيل
بعيون هندية
بل إن السيرة في تاريخها لأجيالها المبكرة تضفي الكثير من الحكايات والفابيولات الجانبية والاستطرادية حول قصة الأمير سرحان قائد التحالف الهلالي وحبه وتعشقه لشماء والدته:
شما تلفتيني
بحبك ضنيتيني
قومي واسقيني
من فوق شبربة
بالليل أنا أزورك
وها الوقت دا شوبة
فهذه الإلهة الكاهنة شما، التي كان لها وحدها «ثلث المشورة» عبر حروب ومنازعات بني هلال في الهند وسرنديب واليمن والجنوب العربي بعامة ... هذه إلهة تتشابه في الكثير من الوجوه مع إلهات الحرب الأنثيات، وأبرزهن الإلهة «أثينا» في قيادتها للتحالف القبلي الهليني اليوناني في حروب وحصار طروادة.
ومثلها هنا مثل «الجازية»، فيما سيلي من أحداث الريادة وفتوحات بني هلال في الشام وفلسطين ومصر وليبيا لحين حصار تونس والمغرب العربي بعامة حتى الأندلس التي كان يحكمها أبو زيد الهلالي.
وهنا نكون قد وصلنا إلى الحلقة الثانية، أو المجلد الثاني لسيرة الهلالية، التي تبدأ أحداثها برحلة السلطان حسن وأبي زيد من بلاد السرو التي نرجح أنها وادي الأردن وفلسطين إلى نجد، بقومهما بالطبع بنو دريد وبنو الزحلان إلى نجد، حيث تعيش قابل بني زغابة المنحدرة من ذرية جبير، إلى أن تصل بنا إلى نسب بطل التحالف اليمني والجنوب العربي بعامة، الأمير غانم، وابنه دياب.
أما السبب الدافع لتلك الهجرة، من ربوع وادي الأردن وفلسطين، فلم يكن سوى القحط والجفاف.
والملفت هنا أنهم عبر هجرتهم الجماعية إلى نجد، يخوضون أولى حروبهم، مع من؟ مع يهود التحالف اليهودي الخيبري، وهي حروب طويلة ومضنية تستغرق وقائعها الجانب الأكبر من الحلقة الثانية للهلالية، لحين تحقيق انتصاراتهم على اليهود الخيبريين الذين كانوا في بعض عصورهم التاريخية يتصدون لمحاربة الأكاسرة الفرس المجوس.
ففي هذا الجزء أو الحلقة الثانية للهلالية وسيرتهم، تستقر تحالفاتهم من عرب نجديين أو حجازيين قيسيين، وجنوبيين يمنيين قحطانيين أو حميريين.
وتجيء هذه التحالفات تحت شارة أو راية أو طوطم الهلال.
فيقدم السلطان حسن بن سرحان على الزواج من أخت دياب بن غانم وتدعى «نافلة»، وفي ذات الوقت يقطع السلطان حسن عهده لقائد ورأس التحالف اليمني دياب بن غانم على أن يزوجه أخته «نور بارق» التي تسمت بالغازية أو الجازية، التي سترث أمها السالفة «شماء» في قيادتها لحروب وهجرات بني هلال حتى ليصبح لها ثلث المشورة.
وتحدث عبر هذه الحلقة الثانية سلسلة من الحروب والإغارات القبلية تمتد ساحتها على طول الجزيرة العربية.
فنجد وصفا للمعارك التي قامت بين الهلالية، والعقيلي، وحنظل، والهيدبي، ثم تنتهي إلى الاصطدام بين أبي زيد ودياب، ولا تنتهي هذه الحلقة إلا بعد أن تطيل في الحديث عن بطولة العرب عامة والهلالية خاصة وانتصاراتهم على الإفرنج.
وتغريبة بني هلال، أو الحلقة الثالثة من حلقات هذه السيرة، تعنى بأعمال الهلاليين في الغرب خاصة في شمال إفريقيا. وهذه الفترة من فترات التاريخ الإسلامي صحيحة لا شك فيها، كما أن بني هلال عرفتهم الجاهلية وعاشوا في الإسلام وقاموا وحلفاؤهم بنصيب وافر في سبيل العمل على تعريب تلك البلاد جنسا وثقافة، فابن الأثير يحدثنا في كامله بأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تزوج في العام الرابع من زينب بنت خزيمة أم المساكين وهي من بني هلال، ثم يذكرهم مرة عند الحديث عن غزوة هوازن ومرات كثيرة أخرى في مناسبات مختلفة، أما خروجهم إلى إفريقيا، فقد ذكره أكثر من واحد من المؤرخين، أذكر منهم هنا ابن خلدون، فقد جاء في ص62-63 من الجزء الرابع من تاريخه ما نصه:
كان المعز بن باديس قد انتقض دعوة العبيديين بإفريقيا وخطب للقائم العباسي وقطع الخطبة للمستنصر العلوي سنة أربعين وأربعمائة، فكتب إليه المستنصر يتهدده، ثم إنه استوزر الحسين بن علي التازوري بعد.
إلى أن يحل الجدب بنجد والحجاز، ولا تجد هذه القبائل البدوية الرعوية مقرا لها سوى الهجرة والترحال بحثا عن الزرع والضرع. فيستقر الرأي على ضرورة استكشاف المسالك إلى البلدان المتاخمة للجزيرة العربية، وهكذا اندفع فارس التحالف الهلالي أبو زيد الهلالي ، مصطحبا الأمراء الثلاثة أبناء السلطان حسن بن سرحان، مرعي ويونس ويحيى إلى تونس؛ ليقعوا في أسر حاكمها الزناتي خليفة، فيأمر بسجنهم بينما يطلق سراح أبي زيد ليعود إلى نجد، وبدلا من إحضار فدية الأمراء الأسرى، فإنه يجهز الجيش لغزو تونس.
وهكذا يسير أبو زيد على رأس قومه بني زحلان، والسلطان حسن مع بني دريد، ودياب بن غانم على رأس قومه بني زغبة، ويؤتى بالجازية من مكة لتكون في الطليعة، ثم نقرأ قصصا كثيرة حول هذه الجيوش والتقائها بالخفاجي عامر، والملك الغضبان، والخزاعي، وشبيب التبعي والبردويل بن راشد، وأشهرها هي قصة بني هلال مع «الماضي» حاكم صعيد مصر، وما كادت تتحرك هذه الجيوش لملاقاة الزناتي خليفة حتى زودها أبو زيد بخططه الحربية الخطيرة، فهو يضلل جواسيس العدو مرة، ويستولي على عيون المياه مرة أخرى، ويأتي بحيل لا تقل طرافة عن حيل قواد الحرب المعاصرين، وقد أطلق مرة المنادي ينادي العرب: «كل من كان عنده ناقة والدة يبعد ابنها عنها أو فرس والدة يبعد ابنها عنها، وكل من كان عنده حصان طلوق يجيبه عند فرس شايع ويلحقونا على عين الخطيري، وتخلي العرب كلهم يدقوا طبولهم في نزولهم على العين، (فسمع الزناتي حنين المهاري، وصهيل الخيل، وحس الطبول)، فينكسر قلبه قبل ما يجي لنا الحرب.» كما أنه كثيرا ما استخدم النساء للتسرب إلى داخل البلاد والقيام بأعمال السلب والنهب لإيقاع الذعر بين الأهلين والتمهيد لدخول الجيوش، وكان تنفيذ هذه المهمة يوكل عادة للجازية التي كانت تقوم بها خير قيام. فاسمعها مثلا تتحايل على منصور أحد بوابي تونس وتمنيه وتغريه بمختلف المغريات:
افتح لا تخالف
إنك رجل عارف
وانظر د الوصايف
لرية وسارة
روحي يا صبية
ماد لا بلية
قد جتنا المنية
لعند الديار
وشوف نجلا المليحة
مع حسنة الرجيحة
حين ترخي المسيحة
مع طرف الخمار
تنصب لك علامة
ما بين الغراما
قل يالله السلامة
في هذا النهار
وبعد حديث طويل نجد الجازية تتغلب على منصور، ويفتح لها ولمن معها من نساء ورجال الباب ويتمكن الهلاليون من إطلاق سراح مرعي ويونس، ثم تدور الدائرة على الزناتي فيقتل بفضل خطة وضعتها ابنته سعدى التي شغفت بمرعي عندما كان في سجن أبيها، فهي التي أشارت على الهلالية بإرسال دياب إلى أبيها ومنازلته؛ لأن ديابا أقدر الفرسان على منازلة خليفة.
خلا الجو للعرب في تونس، واستولوا على عروش الغرب السبعة، وشرعوا في تقسيمها بينهم كما أخذوا في الاستعداد لغزو مراكش. وهنا نجد النزاع الذي كان قائما بين العرب في الجزيرة - أعني بين اليمنية والقيسية - ينفجر مرة أخرى في إفريقية، فيمثل أبو زيد القيسية ودياب اليمنية، وقد مهدت السيرة لذلك أحسن تمهيد، فهي في جدول الأنساب الذي ساقته من قبل جعلت ديابا ينحدر من فرع تجري في عروقه دماء حمير، فهو دياب بن غانم بن رياح بن حمير بن رياح بن جبير، فذكر «حمير» هنا لم يأت عبثا وإنما تمهيد لسائر الخصومات التي قامت بين أبي زيد من ناحية ودياب من ناحية أخرى، وهو يعلل لنا قتل دياب للسلطان حسن وأبي زيد فيما بعد.
أدت هذه القبائل القيسية رسالتها في شمالي إفريقية وجعلته عربيا جنسا وثقافة ودينا حتى يومنا هذا، وبعد ذلك نقرأ خبر انتقال دياب إلى السودان والحبشة، ويقتل دياب ويتولى ابنه نصر الدين الزغبي حكم بلاد الغرب، وتنتقل بعض القبائل القيسية إلى صعيد مصر ثانية، فأعلى النوبة، فالخرطوم، فدارفور، حيث نسمع عن وجود قبائل عربية مثل الرزيقات نسبة إلى رزق والد أبي زيد وقبيلة سليم نسبة إلى بني سليم، وهنا تؤيد السيرة أبحاث المؤرخين ورجال اللغات السامية، فهم مجمعون على أن لهجة صعيد مصر، وعرب أولاد علي غرب الإسكندرية، ومالطة، وشمالي إفريقية، وأعلى النوبة، وكردفان، وجنوب الخرطوم، ودارفور، لهجة واحدة لها مميزاتها الخاصة التي تميزها عن سائر اللهجات العربية.
وأخيرا يمكن القول: إن استقرار هذه القبائل العربية خارج الجزيرة لم ينسها يوما نجدا، وجمال نجد، وحرية نجد، وقد عبر مرعي عن هذا الحب بقوله يخاطب سعدى بنت خليفة:
يا سعدى نجد العريضة مرية
ربيت بها أهلي وكل جدود
بلدي ولو جارت عليا مرية
وأهلي ولو شحت عليا تجود
وهكذا حكم الجيل الثاني الذي تعارفت عليه سيرة الهلالية، بجيل اليتامى، من أبناء السلطان حسن ودياب بن غانم، وأبي زيد الهلالي العالم العربي، مشرقا ومغربا حتى الأندلس ومداخل أوروبا الجنوبية.
شخصية أبي زيد في سيرة بني هلال
وإذا ما توقفنا عند ملامح ومكونات البطل المحوري لهذه السيرة، والقوة الدافعة لأحداثها، أبي زيد الهلالي سلامة، نجد أنها خليط غير بعيد عن بطل ملحمي مثل عنترة من حيث اللون، والمأثورات أو الفابيولات المصاحبة لنموه كطفل قدري، جاء على غير لون آبائه، ولازمه بالتالي الاضطهاد، بسبب لونه «الغرابي» الأسود حتى إنه برغم ما أسداه «أبو زيد» من انتصارات للتحالف القبائلي على الهلالي فأصبح الفارس الهلالي الأول، ظلت تلاحقه سياط لونه الأسود، وبالتالي السقوط العبودي الطبقي أو الاجتماعي.
فعندما وقعت المشادة الشهيرة بين الجازية كاهنة التحالف الهلالي، وابنة عمه، وبين زوجته «العالية» بنت جابر حين تزاحمتا على مشارف إحدى مخاضات المياه بمصر ثم بتونس بعد فتحها بهودجيهما، فما كان من الجازية رأس «الأرستقراطية» القبلية إلا أن سبت العالية زوجة أبي زيد واصفة إياها بأنها «عشيقة عبدنا»، وكانت تعني بهذا طبعا أبا زيد، وهو الذي فتح لتلك القبائل التي ثقل عليها الحصار بالقحط، طريق هجرتها الجماعية إلى تونس والمغرب العربي بعامة.
وظل يستقبل في رحيله وإيابه استقبال الأبطال الشعبيين بحق «اليوم قد أتانا من هو عزنا حمانا.»
1
وأبرز ملامح أبي زيد هو قدراته على التنكر والتخلص من أعتى المآزق، فهو كما تصفه السيرة «يصبغ حاله سبع صبغات، ويتقن الحديث بسبع لغات»،
2
منها: العبرية واليونانية والسريانية والفارسية.
فمنذ أول أسر وقع فيه أبطال بني هلال، حين أسرهم الملك الدبيس - الفارسي - حاكم حلب الشهباء في ذلك الحين، تنكر على هيئة درويش أعجمي ولبس طيلسانا وحادث الملك الدبيسي بلسانه الفارسي بعد أن تحايل على حراسه المقربين وخدرهم بملبسه الحلبي، حين سألوه: «ماذا تأكل يا شلبي؟»
فأجابهم: «هذا ملبس حلبي.»
إلى أن حقق انتصاره على الحكام الفرس منشدا :
يقول أبو زيد الهلالي سلامة
لا يكتم الأسرار غير الأصايل
ولا يكشف الأخبار غير خائن
رديء الأصال من قوم أراذل
أنا أبو رزق من أهل عامر
وأمي شريفة من خيار القبائل
سميت أبا زيد على الناس زايد
كريم شجاع من كرم أفاضل
فحيل أبي زيد الهلالي لا تتوقف عند المعرفة بلغات عصره، وما يتفرع عنها من لهجات، متناهية الانغلاق، ولا في القدرة الفائقة على التنكر والتحولات، بل إيماءات الدراويش والشعراء الجوالين والحواة والحكواتية والكهنة والحكماء والنساء الخليعات والغوازي والمهرجين والعيارين ... بل هو كان على معرفة كبيرة بمحصلة معلومات، منها ما هو أسطوري وجغرافي وكوني، تبدت في حلوله للمحاذير والألغاز التي من مهامها اختبار قدرات البطل وذكائه وتعويق مآربه وطموحاته.
من ذلك أنه سئل ذات مرة من يهودي صاحب قلعة في فلسطين يدعى أبا بشارة: «أخبرني كم طير نزل بالكتاب؟»
3
فقال له: «تسعة: الذباب والنمل والنحل وطير الأبابيل والجراد وطير عبس وهو الخفاش والغراب والهدهد.»
هي بالتحديد الطيور السامية - التابو - وهي كما يلاحظ تخلط بين الطيور والحشرات.
كذلك كثيرا ما تعرض أبو زيد لألف باء الأشجار العربية السامية، وأجروميتها الطوطمية المقدسة، وكيف أن من دهن جسده العاري بزيت السندال لا تلمسه النار.
بالإضافة إلى معرفته بالأقوام والقبائل المنقضية مثل: «الزهل والزهول والسبط والنبطان»، والأخيرون يرجح أنهم الأنباط الأردنيون.
فلا تنتهي مخاطره ومآزقه في أديرة اللاذقية، وربوع الشام وفلسطين وقبرص، وأراضي وحضارات منقضية مثل أرض عيلام
4
المتعاصرة مع عصر جمدة نصر في سومر 2900ق.م.
كذلك يتبدى أبو زيد على طول سيرة بني هلال بالإضافة لمآثره المستقلة، على معرفة بالكيمياء وكيفية منازلة «طباخين الكيمياء» وحجر المغناطيس، ومآثره التي لا تنتهي والتي يغلب عليها الهجاء والمزاح، على طول معظم الكيانات العربية مرورا بنجوع الجزيرة العربية والشام، وقرى مصر بخاصة وكفورها، حتى إذا ما انتقلت مأثوراته إلى ليبيا وتونس ومراكش اكتست مأثوراته ونوادره مسحة شعائرية، فأصبح يدعى سيدي بو زيد «فيتبرك به الفقراء والواجفون والمضطهدون المهانون بعامة.»
فكان يتسمى «بسياج الضمن، غفير البيض ، حمى - أو حامي - المسكين.»
5
كما اشتهر بخرجه العجيب وطرقه التي كلها مسالك.
ويكاد يصعب للغاية، تصور الكم الكبير جدا من المأثورات والأشعار الشعبية والهجاء والنكات، التي تدور في فلكه على طول البلدان والكيانات العربية، التي كانت يوما مسرحا لتلك الهجرة الجماعية التي فاض بها الخزان البشري للجزيرة العربية وأعرابها.
فمأثورات تغطي سوريا العليا، ووادي الرافدين بعامة، ومصر العليا «الصعيد»، ومدن الدلتا - خاصة بلدة بلبيس - بالإضافة للمغرب العربي في ليبيا وقرى تونس والمغرب والجزائر حتى الأندلس، وجبال البرانس.
فشخصيته عبارة عن وعاء كوني لكل المتناقضات: فهو شاعر عنيد، ونائحة وماجن ولوطي - كما وصفه دياب بن غانم - ومنقذ لكل حائر، كالخضر وغيره، وقديس أو أنه مسحة شعائرية تطغى على مجمل ما ذكرنا من نقائص وفضائل.
فكانت تصل به حيله وأحابيله إلى حد التنكر تحت جلود الحيوانات في هيئة مهرج لأميرات بني هلال عبر احتيالهن على حكام البلاد التي يجتازونها، ومنهم حاكم مصر الملقب بالفرمند، وتسمى بقشمر: «فعند ذلك تجهزت البنات في الحال وفعل أبو زيد كما أشار، وكانت هذه البنات من المحصنات وكان في جملتهن وطفا بنت دياب، وجمال الطعن بنت أبي زيد، وبنت القاضي بدير، والست ربا، النعام، وجوهر العقول وسعد الرجا. ولبس أبو زيد قرون من جلد الثعالب والذئاب وتقلد بالسيف من تحت الثياب، وأرخى له سوالف طوال من أذناب الكدش والبغال وجعل بزمام ناقة الجازية أم محمد، وقد تعجبت من أفعاله السادات والعمد، وقال له السلطان حسن: لله درك على هذه الحيلة التي لم يسبق عليها أحد! وودعه وسار بمن معه من البنات الأبكار والصناديق والبكار ومن داخلهن الأقمشة الحسان والأبطال والفرسان حتى دخل إلى المدينة، وطلع إلى قصر الفرمند.»
وتنكر أبو زيد الهلالي أمام فرمند مصر، يذكرنا بتنكر كليب - ملك العرب - الأخ الأكبر للزير سالم أبو ليلى المهلهل تحت جلود الحيوانات، لتحرير حبيبته الجليلة بنت مرة التي اغتصبها التبع اليمني حسان اليماني.
بل الملفت أن كليهما - أبا زير وكليب - اتخذ ذات الاسم للمهرج قشمر.
ويبدو أنها عادة عربية سامية راسخة ، تتمثل في شعائر التوحد أو التنكر تحت جلود الحيوانات الطوطمية، فهي منتشرة بكثرة في معظم ملاحمنا وسيرنا العربية، كما أنها منتشرة لدى قبائل إفريقيا الشرقية، ويذكر فريزر أنها «لعبت دورا مهما في الحياة الاجتماعية والدينية عند قبائل «أكيكويو» التي تسكن إفريقيا الشرقية، والتي ترجع فيما يبدو إلى أصل عربي.»
6
فالمعتقد هنا بالنسبة لشعيرة التنكر تحت جلد الحيوان، واكتساب صفاته وقواه الخارقة، فالشخص أو البطل الشعبي بارتدائه جلد الحيوان يطابق بين شخصه والحيوان الضحية، والذي يكون بمثابة الحاجز بينه وبين إيذاء القوى الشريرة، بتخليصه من هذه القوى الغريبة حتى لا تتملكه، عبر شعائر التحولات والتمثل بالمولود الجديد من الجدي إلى النعجة والكبش والذئاب في حالة المتنكر، باكتساب خصائصها من وداعة وافتراس، كذلك كثيرا ما تنكر أبو زيد في زي النساء، من غواز ودلالات وقابلات ومومسات، خاصة حين تحايل برفقة الجازية وبقية عذارى بني هلال على بواب تونس؛ ليسمح لهن بالدخول، وطوره النسائي وأغانيه الأنثوية؛ لاكتساب موافقة صاحب الباب أو القفل الذي كان قد شدد عليه الزناتي خليفة بعدم فتح بوابات تونس.
الريادة
تعد سيرة بني هلال، وتغريبتهم، ورحيلهم إلى بلاد الغرب - المغرب العربي - وحروبهم مع الزناتي خليفة، وما جرى لهم من الحوادث والحروب المخيفة، بحسب وصف الطبعات المتعاقبة على نصوصها، مدونة كانت أو شفاهية، أهم أنموذج واضح لسير الأنساب القبائلية، أو لذلك التحالف العشائري الذي لم يقتصر بحال على عرب الجزيرة، بقسميها الشمالي القيسي، في نجد والحجاز، وجنوبها القحطاني في عدن وحضرموت والجنوب اليمني العربي بعامة. فالسيرة ذاتها لا تغفل هذا الدور في التأريخ لرءوس وممثلي وشخوص ذلك التحالف، منذ الإلهة الأنثى القمرية «شمة» وسليلتها الجازية أو الغازية، وأخيها رأس التحالف المعدي القيسي، حسن بن سرحان سلطان الهلالية، وأبنائه، يونس ومرعي، ويحيى، وفارس بني هلال أبو زيد الهلالي سلامة.
ثم عرب الجنوب اليمنيين وفارسهم هنا دياب بن غنم، الذي تعارف عليه جماهير السيرة بالزغبي، مرورا بمن اجتذبتهم الهجرة الجماعية الزاحفة لتلك القبائل المتحالفة عبر التغريبة تحت شارة أو شعار الهلال، أحد أطوار الدورة القمرية، وما يستتبعها من أخذ بالتقويم القمري أو العربي (الهجري) وليس الشمس، إلى أيامنا.
فلقد اجتذب عرب الجزيرة عبر زحفهم من أقصى المشرق العربي، بدءا بالخليج العربي إلى مغربه على طول الشمال الإفريقي حتى المحيط ومداخل أوروبا الجنوبية بعامة، الكثير من التحالفات القبائلية من العراق وما بين النهرين والشام ولبنان وفلسطين ومصر، إما بالانضمام للحرب أو بالتضامن الذي يحققه - التزاوج - والزواج السياسي كما سيتضح.
فمنذ الأحداث المبكرة للريادة التي اضطلع بها أبو زيد الهلالي حين حدث جوع في الأرض؛ بسبب انقطاع المطر في نجد ومعظم بوادي الجزيرة العربية، فاصطحب أبو زيد الهلالي ابني السلطان الهلالي حسن بن سرحان، يونس ومرعي؛ لريادة الطريق تمهيدا للهجرة الجماعية إلى تونس الخضراء، وتملكها بتخوتها السبع وقلاعها الأربع عشرة حتى الأندلس.
فنجد الأمراء الهلالية المقنعين على هيئة شعراء جوالين حجازية، ينزلون مضارب الخفاجي عامر حاكم بلاد العراق، الذي سيرافق الهجرة الجماعية بفيالقه المحاربة أيضا، حتى إذا ما نزلوا حلب ثم حماة وحمص وطرابلس حتى دمشق، اجتذبوا قبائل خليفة تمد يد العون لجحافل الجيوش العربية المتحالفة تحت شارة الهلال، الذي سيصبح رمزا موحدا للعالم الإسلامي فيما بعد.
واتخذ الرواد الهلالية الثلاثة طريقهم إلى غزة وحاكمها السركسي المسمى بابن نازب، ومنها إلى مصر «العدية» وأكرمهم حاكمها «الفرمند بن بامنوج»، بل هو رافقهم بفرسانه حتى تخوم الديار الليبية، حتى إذا ما حطوا رحالهم بتونس، احتالوا حتى دخلوها عبر أسوارها الشهيرة ومدحوا الزناتي خليفة، فأحسن إليهم، ثم باعوا جارية هلالية تدعى «مي» إلى سعدى ابنة الزناتي خليفة حاكم تونس.
1
إلى أن اكتشف أمرهم «العلام» ابن عم الزناتي خليفة «ونائبه في معاملات الأحكام»، فاحتال بدوره للقبض عليهم ومواجهتهم بأنهم أمراء وبصاص بني هلال المتسللين أو الجواسيس.
وبعد مفاوضات طويلة شارك فيها الزناتي خليفة ذاته انتهى الأمر بتدخل الأميرة سعدى ابنته التي هددت أباها بأن هؤلاء الأغراب لا يستحقون القتل، وإلا أدان مثل هذا الفعل القبيح لإذلال الغرباء وأسرهم أو قتلهم، بدلا من إكرامهم والترحيب بهم في تونس، خاصة وهم شعراء جوالون بما يساعد على إشاعة خبر اغتيال الزناتي لهم؛ ليصبح مسبة في الأفواه.
ثم أشارت سعدى، أو سعدى، بحبس الشابين في قصرها المنعزل بالسجن الملحق به وإطلاق سراح العبد أبي زيد ليعود بالإثبات والفداء:
يقول أبو سعدى الزناتي خليفة
فعقلي تراه قد غدا محتار
أتوني جواسيس من الشرق عا
جلا إمارة أفاضل من فروع كبار
وحينما اقتنع الزناتي خليفة على مضض برأي سعدى ابنته أمر وزيره العلام بإطلاق سراح أبي زيد ليعود بالفدية، أما سعدى فأودعت الأمراء الأسرى سجنها. «وحين انطلق أبو زيد الهلالي واصل من فوره استطلاعه للمدائن حتى أشرف إلى وادي الغباين وتلك الأماكن، فوجدها كثيرة المياه والنبات متسعة البراري والفلوات، تصلح للحرب والقتال ومرعى النوق والجمال، ثم صار من هناك إلى قابس ومنها إلى دروس فوجدها أحسن محل لامتلاك تونس، وقد تعجب من خيرات البلاد وكثرة ما فيها من الإيراد ومشاهدة من البلدان الكثيرة والمياه والبساتين الغزيرة، فانشرح خاطره وطابت سرائره.»
ويتضح من ظاهرة اهتمام أبي زيد الهلالي برصد كل ما تقع عليه عيناه من معالم وجغرافية الأراضي التونسية، مدى إخصابها وخيراتها المتفجرة، بالإضافة إلى معالمها الواقعية وحصونها في قابس ودوس بما يسهل على قومه طريق الهجرة وسهولة فتحها. «أما يحيى ومرعي فأخذتهم سعدى عندها ويبقوا في سرور وأفراح وبسط وانشراح، أما الأمير أبو زيد فبعد أن دار جميع البلاد وعرف السهول والوهاد، رجع ليرى أحوال البلاد، ولما دخل قصر سعدى فألقاه مطليا بالرصاص.»
وعلى هذا النحو دأب فارس الهلالية على معرفة كل ما يسهل على عشائره طريق هجرتهم وفتوحاتهم، بل إن الأحداث التي صادفت فرسان بني هلال جاءت هي بذاتها بالمبرر لهجرة القبائل وحربها لاسترداد أسرارها من الأمراء الرهائن بقصر سعدى الجميلة ابنة الزناتي خليفة، وغرامها الذي سيشتعل حبا بمرعى عدو بلادها الذي جاء غازيا.
فتحرص السيرة على ترصد أبي زيد الهلالي لكل ما يشاهده ويراه من معالم ومراكز قوة، تسهل على التحالف القبلي الهلالي سهولة فتحها وتملكها.
وما زال يجد في السير مدة خمسين يوما حتى أقبل إلى نجد وتلك الأوطان، وحين دخوله إلى نجع بني هلال التقاه الكبار والصغار، وكلما تقدم إلى قدام يزاحمه الجميع وهم يصرخون بصوت واحد: «اليوم قد أتانا من هو عزنا وحمانا»، وما زال سائر حتى أقبل إلى صيوان الأمير حسن والأمير دياب والقاضي بدير والأمير زيدان شيخ الشباب، تقدموا إليه وقبلوه بين عينيه، وأجلسه الأمير حسن بجانبه، ودارت البشائر في بلاد نجد بأن الأمير أبا زيد حضر من بلاد الغرب، فاجتمعت الفرسان من كل مكان وحينئذ سألوه عن الأمراء مرعي ويحيى ويونس، فعند ذلك بكى الأمير بكاء شديدا، وأشاد يخبرهم عما جرى له من التعب والمعاناة حاكيا مرة ومنشدا أخرى.
إلى أن استقر رأي كبار العشائر على الرحيل والهجرة عن الديار، إلى تونس والمغارب، لفك أسرى أمراء بني هلال.
فاجتمعت القبائل مع مطلع نهار الرحيل يتقدمها شيوخ القبائل وفرسانها، السلطان حسن بن سرحان، وأبو زيد الهلالي ودياب بن غانم والقاضي بدير، وزيدان شيخ الشباب، ثم الأميرة الجازية، التي هي في موقع الكاهنة - القمرية - الأم لهذا التحالف القبائلي الهلالي.
وتصادفهم سلسلة من الحروب والمنازعات أول ما يلتقون في بلاد الأعاجم بالعراق وتخوم إيران وبلاد التركمان، مثلما حدث مع الدبيس بن مريد، ووزيره المدعو همام، عقب سبي إحدى أميرات بني هلال وهي المارية ابنة القاضي.
وفي تلك الحروب تبدت شجاعة وفروسية رأس التحالف اليمني السيرة وهواجسها التي اشتعلت، فأنشدت تمنع أبيها عن منازلة الدبيس دياب بن غانم الملقب بأبي موسى، وابنته وطفاء، أو وطفا، بحسب نطق متوجسة كمثل كاهنة متنبئة:
قد شفت بحر من دم
وأنت بوسطه غرقان
شفتك في وسطه تسبح
كلت منك الدرعان
ما عاد لك قوة تخرج
أنا شفتك بعيان
أنت تنادي يا أبو زيد
هيا يا أبا شيبان
في سرعة قد أتاك
ومد إليك الزندان
وقال لك يا أبو موسى
أمسكني بالدرعان
وتشير هذه السيرة التي توغل في إغراقها في المأثورات الغيبية والخرافية، من ضرب للرمل واستثارة وأحلام وهواجس أبطالها، خاصة الجازية، إلا أن كابوس وطفاء ابنة دياب تحقق هذه المرة بانكسار فرسان الهلالية أمام الدبيس الذي أسر منهم الكثيرين من قادتهم وأمرائهم، منهم الأمير عقيل أخو أبي زيد الهلالي والأمير زيدان الملقب بشيخ الشباب إلى أن جاء المنقذ، وهو أبو زيد الهلالي وألاعيبه وأحابيله الكاشفة عن مدى ذكائه وقدراته الفائقة في اجتياز المآزق وتحقيق غاياته في النصر على أعدائه. «فما إن أسر الملك الدبيس أمراء بني هلال، حتى هاجت النساء والرجال واستعظموا تلك الأحوال، وذهب منهم جماعة من الأعيان إلى عند أبي زيد فارس الفرسان، فوقعوا عليه وفوضوا إليه، وطلبوا منه أن يسعى لتخليص الفرسان والأبطال من الأسر.» «إنه غير زيه وتنكر ولبس حلة من الحرير الأخضر ووضع طيلسانا على رأسه حتى لم يعد يعرفه أحد، وقصد الملك الدبيس وحادثه باللغة الفارسية، فلما رآه الدبيس تلك الصفة ظن بأنه من دراويش الأعجام، فاحترمه وقال له: من أين أتيت يا ابن الأجواد؟ قال: من مدينة بغداد وإني من فقراء عبد القادر رب الفضائل والمآسر، فقال: ادعو لنا يا درويش الأعجام بالنجاح والانتصار، وأن الله يرزقنا بأبي زيد المخادع الماكر حتى نقتله على رءوس الأشهاد ونبلغ منه سرور الفؤاد، وهو الذي كان السبب في قدوم بني هلال إلى هذه المنازل والأطلال، فإذا أجاب الله طلبك بلغناك إربك، فتعجب أبو زيد من هذا الكلام، وقال له: بلغك المراد، وما دام كذلك أريد منك أن تأمر لي بالذهاب إلى البلد. فسمح له بالذهاب وأمر الحجاب أن يفتحوا له الأبواب، وعند دخوله إلى البلد قصد باب الحديد وهو المكان الذي كانت مسجونة فيه فرسان بني هلال، ووجد هناك جماعة العبيد وهم يطوفون تحت جنح الظلام، فسلم عليهم، فردوا السلام، وقال: من تكون من الأنام؟ فقال: قد أرسلني الدبيس بن مزيد لأدعو له في جامع عبد الصمد بأن الله يبلغه المراد وينتصر على أبي زيد من الأوغاد. وأنتم من تكونون من الناس؟! فقالوا: إننا من جملة الحراس، وقد أمر الملك أن نحافظ على أسر بني هلال خوفا من أبي زيد ؛ لئلا يأتي إليهم بالمكر والاحتيال.
ثم إن أبا زيد بعد هذا الحديث أخرج من جيبه شمعة مبنجة، فأضاءها عند فرك مناخيره، فلما اشتعلت فاح منها رائحة زكية، ولم تكن إلا برهة يسيرة حتى وقعت الحراس كالأموات من ذلك البنج، وبعد ذلك أخرج حجر المغناطيس ووضعه على الأقفال، فتساقطت في الحال، فرأى فرسان بني هلال في القيود والأغلال وهم يقاسون الأهوال، فأعلمهم بالأمر، وفكهم من الأسر، ثم أعطاهم أسلحة الجماعة، وقال لهم: اتبعوني بعد ساعة؛ حتى أكون فتحت لكم أبواب المدينة، فتخرجوا بالراحة والأمان.
ثم سار حتى وصلوا إلى الباب، فوجد الحراس جالسين في أيديهم السيوف والحراب، فردوا عليه السلام، وقاموا على الأقدام، وأجلسوه بجانبهم، وجعلوه يخاطبهم ويخاطبونه، وكان كثيرا يمد يديه إلى جراب، ويأخذ قطعة من السكر ويأكلها أمامهم، فقالوا: ما هذا الذي تأكله يا شلبي؟ قال: هذا هو ملبس حلبي. فقالوا: أطعمنا ونحن ندعو لك بالتوفيق والخير. فأعطاهم قبضة كبيرة، وكانت مبنجة فأكلوها، فما استقرت في بطونهم حتى سقطوا أو ناموا، والأسرى فقد خرجوا ومدوا في قطع البراري والبطاح، فوصلوا لأهلهم عند الصباح، فقامت الأفراح، وكثر الصياح، واشتدت ظهور الأبطال وشكروا أبا زيد على تلك الأفعال، رأوا الحراس راقدين والأسرى غير موجودين، ولما بلغ الدبيس هذا الخبر طار من عينيه الشرر وتأكد عنده بعد التحقيق والتفتيش أن البلا من الدراويش، وما هو إلا أبو زيد صاحب المكر والكيد، ودارت الدائرة واستمر القتال على المنوال حتى كثرت الأهوال على بني هلال، فلم يعد لهم ثبات فتأخروا إلى الوراء فتفرقوا إلى جانب الصحراء، وقد قتل من الفريقين في ذلك نحو عشرين ألف بطل كرار، ولما أظلم الظلام اجتمعت بنو هلال في الخيام في حالة الذل والانكسار مما أصابهم، وعقدوا ديوان مع الأمير حسن، وطلبوا منه أن يمدهم برأيه، فأخذ حسن يحمسهم بالمقال ويشجعهم على الحرب والقتال، ويقول لهم: إنه من الواجب أن تركب الجازية مع المعمارية وتحمل عليهم في الصباح بالكتائب والمواكب.»
وعلى هذا النحو الذي تسوقه السيرة في الدور الحربي والمقاتل والمنقذ للجازية، كإلهة قمرية أم لذلك التحالف الهلالي فهي بالحق التي حققت الانتصار الأخير وفك أسرى الهلالية، حتى إذا ما وصلت القبائل زحفها في أرض العجم - أو العراق الأعلى وبحر العرب
2 - حتى طالبهم ملكها المدعو بالخرمند بدفع الجزية (عشر ما لهم من النساء والدواب والخيول).
فأرسل إليه أبو زيد الهلالي منشدا:
بعثت يا خرمند تطلب لعشرنا
عشر النساء والخيول الأصايل
وتريد منا كل بيضة جميلة
بنت الإمارة زائدات الدلائل
فما تحظى بهم فإن وراءهم
رجال حروب كالأسود تقاتل
سألقاكم غدا بقوة ساعدي
وجيش بني هلال الفضايل
وإن كنتم لا تبرزوا للقتال
فإني سألقاكم بوسط المنازل
يقول أبو زيد الهلالي سلامة
سيدركوني الفرسان في يوم الهوايل
وحين وقعت الحرب بين الخرمند أو الفرمند - ويبدو أنه كان لقبا ملكيا - تبدت شجاعة أبي زيد، وما ألحقه بهم من هزائم. «فعند ذلك ولت الأعجام هاربة إلى النجاة طالبة، وخلص أبو زيد من أيديهم النساء والبنات ورجع بالنصر والإقبال إلى المضارب والأبيات مع باقي الأمراء والسادات.» «هذا ما كان من أبي زيد البطل وما فعله في ذلك النهار، وأما المارية ابنة عم الأمير غنيم فكانت في هودج على جمل أهوج، فما اشتد القتال انهز بها الجمل وسار بها على عجل، فرأت نفسها بقرب الحلة والكوفة والصلصيل وراء هودجها طالب أخذها، فصاحت على ابن عمها من ملو رأسها، وكان المذكور بالقرب منها، فلما سمع نداها ترك القتال وأتاها فجعل يطعن الأبطال ويمدد الفرسان.»
وابن عمها هنا ليس سوى أبي زيد الذي أنقذ أميرات بني هلال من أيدي العجم بقرب الحلة والكوفة.
سعدى ومرعي
أين عزيزة ويونس؟
بحسب سرد السيرة فإن سعدى ابنة الزناتي خليفة تولت أمر الأمراء الأسرى الثلاثة يونس ومرعي ويحيى، وذلك عقب إقناعها لأبيها الزناتي، بإيداعهم السجن الملحق بقصرها الرائع المطلي بالرصاص، وكانت سعدى قد سرت وانجذبت منذ البداية بحديث أبي زيد وذكائه الخارق ومشاعره الإنسانية، حين أخذتهم وقدمت لهم فاخر الطعام فأخذه أبو زيد شاكرا وقام بتقسيمه على سبعة أقسام ، فسألته عن سبب ذلك، فقال لها: «اعلمي يا زينة الممالك وبدر الليل الحالك أنا وجماعتي أربعة وأنت والجارية اثنان على التمام، والحصة السابعة سأحزمها بحزام، وأرسلها إلى ابنة عمي
1
عاليا في الظلام.» وكان أبو زيد يقول هذا الكلام وهو متوقف عن أكل الطعام، فقالت له سعدى: «لماذا لا تتغذى؟» فتنهد وأنشد:
إذا أكلت أنا وجاعت جماعتي
فأوعى خالي يضرب الصفائح
إذا جعت أنا وأكلت جماعتي
أحمد ربي وهو كريم مسامح
أيا ست زاد اثنين يكفي ثلاثة
ويكفي أربعة يا ست والكل راجح
ويكفي خمسة من أجاويد حينا
ويكفي لستة من هلال السمائح
فضحكت سعدى وأعجبها شعره، ثم إنه بعد ذلك أخرجتهم من الحبس وأحضرتهم إلى عندها، وقدمت لهم الطعام، وأخذت تحادثهم وتسألهم عن أحوالهم وعن بلادهم، فقال أبو زيد: «نحن من جملة الشعراء نقصد الملوك والأمراء فنمدحهم بنفائس الأشعار، ونرجع إلى الديار بالدرهم والدينار.» فقالت: «إنكم لم تعلموني الحقيقة مع أنني عارفة بأحوالكم على التحقيق.» فأخذت تعلمهم بسفرهم، وما جرى لهم في الطريق والسبب في قدومهم إلى تلك الديار بهذه القصيدة التي تستحق الاعتبار:
قالت سعدى بنت أمير تونس يونس
بدمع جرى فوق الخدود غزار
ضربت تحت الرمل عشرين مرة
ومرة بعدها ما شفت الحرف جهار
فعرفتكم وعرفت اسم أميركم
وعرفت أساميكم بلا إنكار
إن مسير القوم أمير عامر
حسن بن سرحان أمير جهار
وهذا مرعي وذاك يونس ويحيى
وأنت أبو زيد فارس الأقطار
قحلت أراضيكم وقد قل خيرها
فجيتم لتونس لتكشفوا الأخبار
فقالوا يا أبو زيد نرضاك رائد
ترود بلاد القيروان عمار
فقلت لهم سمعا وألفين طاعة
أريد ثلاثة من فروع كبار
أريد الفتى مرعي ويحيى ويونس
أمارة أصايل من فروع كبار
فجاءوا ثلاثتهم إليك كأنهم
أسود كواسر طالبين قفار
فمن يوم فارقتم نجد وأرضها
فإني أقتفي منكم الآثار
وجزتم حلب ليلا في حال سرعة
وردتم حماة وحمص بوسط نهار
وجئتم بلاد الشام جزتم بلادها
وجئتم إلى القدس الشريف جهار
مررتم على غزة وقطة وغيرها
وبلبيس جزتوها بلا إنكار
وجئتم إلى مصر ويعقوب يوسف
مررت على نيل الصعيد مرار
مررتم على الماضي
2
فحيا ركابكم
فرش لكم بيت للضيافة ودار
لكم ميت قافلة سايرين بعجلة
وعشر الليالي كاملة بنهار
ولا بد من تأتي هلال بن عامر
من الشرق في جمع غزار
بأربع تسعينات ألوف عديدهم
كذا دل الرمل بالأخبار
بحرف الألف تأليف عدتكم
أربع تسعينات ألوف راكبين مهار
والباء بدت سيل ابن سرحان ابن علي
نهجن تلا فيها قطار قطار
والتاء ترى في محل نجد وأرضها
سبعة سنين كاملات عسار
والجيم جيتوا ترودوا بلادنا
وتأخذ لقومك صحة الأخبار
والجيم جيرتم غرامي بحبكم
وحبي لمرعي قد كواني بنار
والخاء خليناك ترجع وتتنبى
تجيب لنا مال وما تختار
والدال دل الرمل عندي بأن لي
بأن بلاد القيروان دنار
والذال ذو الرمل نملك بلادنا
وتحلونا من أرضنا ودثار
والراء رؤيكم تجوا يا سلامة
على أصايل تقطع الأقفار
والزاء زلزلت البلاد بأهلها
وكل أمير يخجل الأقمار
والسين سرتم من بلاد بعيدة
قطعتوا الفضا وتسير الأوفار
والشين شديتو المطايا لأرضنا
وكم دار قطعتوها بعب نهار
والصاد صدتكم على خبر خاطو
لأعدتم بقاع السجن بأشعار
والضاد ضربتم في جموع زناتي
وأبي من فعالكم عاد محتار
الطاء طفتوا الأراضي ردتم بلادنا
وأبصرتم البلدان وكل ديار
والظاء وظني أنكم تملكونا
وقول وظني وهو صحيح جبار
والعين عيني نحو مرعي تطلعت
فأشعل في قلبي لهيب النار
والغين غلب نجعنا من قبالكم
ونجم أبي واقف عليه غبار
والفاء فارقتم لنجد وأهلها
وجئتم إلينا لتكشفوا الأخبار
والقاف قابلتم كل معنى كلامكم
وقلتم معاني أطيب الأشعار
واللام لميتم رجال لحينا
وجئتم إلينا لتسكوا الأقطار
والميم مال الحب في قلب مرعي
ولولا مرعي ما نظمت أشعار
والنون نلقاكم على خيل سمر
وكل رديني أسمر خطار
والهاء همل دمع أصابني
على شأن مرعي انكويت بنار
والواو ولت خيلنا من رجالكم
وتبقى تونس والرجال قفار
والياء يبقى علمكم فوق علمنا
بإذن الله الواحد القهار
وحق الله ما أخون عهدكم
ولو قطعوني بالسيوف بنار
فلما فرغت سعدى من كلامها شكرها الأمير أبو زيد وجماعته على اهتمامها بهم، وباتوا تلك الليلة، ولما أصبح الصباح أمر الزناتي بإحضارهم، فلما حضر وقال لأبي زيد: «إذا أطلقناك إلى أن تأتي جماعتك من الأوطان، فكم يوم تغيب عنا؟ وماذا تجيب لنا؟» فقال: «أغيب ثلاثة شهور، وأجيب لك أربع مية ألف مدرع مشهور.» فقال: «وما هو مرادك من المدرع أيها البطل الصميدع؟» فأخرج الأمير أبو زيد من جيبه قطعة من الفضة الخالص وأنقى من الفضة الروابض، وقال: «هذا هو المدرع يا زينة المتالك.» ففرح الزناتي بذلك، وقال: «اذهب بأمان الأوطان.» فقال: «أعطني عدة حرب وحصان؛ لأن الطريق مخاطرة والأراضي موعرة.»
فأشار الزناتي مستجيبا إلى طلب أبي زيد وأطلقه، استجابة لمشورة سعدى ابنته. •••
وفي معظم النصوص الفولكلورية - الشفهية - تأخذ عزيزة ابنة سلطان أو باي تونس العجوز معبد، دور سعدى في الطبعات الشعبية المتداولة لسيرة وتغريبة وريادة بني هلال.
بل إن من الملفت أن البالادا الشعبية أو قصص الحب والحرب الشعرية، تحفظ لعزيزة ويونس، ذات الدور المناط لسعدى ومرعي، وكما أشرنا سابقا بالمتداول أو المتواتر إلى أيامنا، هي بالادا عزيزة ويونس، والتي اشتهرت بالسفاري عزيزة، وكانت إحدى المواضيع الثابتة داخل مسرحيات خيال الظل، وصندوق الدنيا.
بينما لم تستقل فابيولة أو قصة سعدى ومرعي، عن جسد السيرة لتصبح قصة أو حكاية شعرية غنائية بالقدر الملاحظ بالنسبة لعزيزة ويونس.
الخفاجي عامر العراقي
وواصلت الهجرة الهلالية زحفها إلى أن شارفوا بلاد التركمان، وحاكمها هو الملك الغطريق الملقب بالغضبان الذي طالبهم كالعادة بعشر نسائهم، ودفع الجزية مهددا، فرد عليه أبو زيد منشدا:
يقول أبو زيد الهلالي سلامة
ونيران قلبي زايدات وقيد
يا غاديا مني على متن ضامر
تقطع فيافي برها وتعيد
إذا جيت إلى الغضبان بلغ سلامي
إللي خاطبتنا بالغيظ والتهديد
طالب بنات مكحلات نواعس
بنات الإمارة مثل ورد اللبيد
أما كنت تعلم يا خميس وراءهم
أسود قروم هلال وكل حسيد
وراءهم حسن أمير قيس
حامي الزناتي من كل قوم عنيد
وراءهم أبو لكسايدير بن فايد
على متن ضامر مثل نار وقيد
ورارهم أبو موسى دياب بن غانم
على ظهر خطر الغزال تصيد
وراءهم أبو ضرغام شيخ شبابنا
ستة آلاف قومه وتزيد
أنا أبو زيد الهلالي سلامة
لخلي الفوارس على التراب مديد
وأفني أكابركم وكل رجالكم
وأجعل دماكم على التراب تزيد
وفي هذه الحرب التي حسمها فارس الخضرا دياب بن غانم بقتله للغضبان، وفتح بلاده «وولى بنو هلال ابنه» بدلا منه، على أن يدفع لهم الجزية، وواصلوا زحفهم إلى أن نزلوا العراق، وعرف حاكمها واشتهر بالكثير من الفضائل والفروسية والمآثر يقال له الخفاجي عامر - يحكم على البصرة وبغداد والموصل والعراق وما يلي تلك البلاد - عنده من الأبطال والفرسان نحو مائتي ألف عنان، فبينما هو جالس في الديوان وحوله الوزراء والأعيان، إذ قد دخلت عليه الرعيان، وقالوا له: «اعلم يا ملك الزمان أن بني هلال قد دخلت ديارنا وأكلت من ثمار بساتيننا وأشجاره، وهم كالجراد المنتشر لم يعرف لهم أول من آخر وقد هربت من أمامهم الرعيان.»
إلا أن رأس التحالف الهلالي السلطان حسن بن سرحان عرف كيف يخاطب الخفاجي عامر ويخبره بغرضهم، وهو مجرد المرور عبر بلاده في طريقهم إلى المغرب العربي، وهو يكتب له منشدا ومحييا جوده وسخاءه ومعشره الطيب قائلا:
ونحن يا أمير لنا بالغرب سادة
بأرض الزناتي يا ملك بالجنازر
وجينا جميعا يا أمير لأجلهم
لكي نخلصهم بضرب البواتر
ونحن ضيوفك يا خفاجى اهتدى
بجاه النبي فخر الورى والعشاير
فدعنا نثني الخير بدربنا
حتى نصل للغرب وأرض الجزاير
يا أمير نحن تحت حكمك وطاعتك
فافعل بأصلك يا خفاجي عامر «قال الراوي: فلما فرغ الأمير حسن من هذا الشعر والنظام طواه، وأعطاه إلى الوزير سلام، فأخذه وسار حتى أشرف على الخفاجي عامر في آخر النهار، فأعطاه الكتاب ففتحه وقرأه وعرف فحواه، وقال له أبوه درغام: جواب بني هلال أحلى من الماء الزلال، فقم اعزمهم ورحب بهم، فقام الخفاجي عامر الملقب بالنجع بالترحيب بهم.» «فانشرح خاطر الخفاجي عامر وتقدم بعده الأمير درغام، وأشار بترحيب بنو هلال، ثم ركب بنو هلال مطاياهم والخفاجي عامر ودخلوا للبلد، وتفرقت عرب بني هلال في تلك الأراضي، وأما الأمير حسن والسادات، فبقوا عند الخفاجي عامر على أمل طعام وشرب مدام وفرح وسرور مدة ثلاثة شهور.» «فاتفق في بعض الأيام أن الخفاجي أولم وليمة عظيمة دعى إليها الأمير حسن وسادات بنو هلال الأكابر حضرتها النساء والبنات، وبعد أن أكلوا ولذوا ودارت كاسات المدام على من حضر في ذلك المقام، وكانت البنات والنساء الحراير يشربن على اسم الخفاجي، إلى أن انتهت النوبة على الجازية، وكانت بديعة الجمال فصيحة المقال، تقدمت إلى الخفاجي تصف له محاسن بني هلال، فأشارت:
تقول فتاة الحي الجازية
ونيران قلبي زايدات إشعال
إن الأمارة يا أمير لبناتهم
من الظبا والحسن والأشكال
أما جمال الطعن بنت سلامة
الوجه منها مثل بدر تمام
بنت أبو موسى دياب الماجد
فعيونها يا أمير كعين غزال
بنت قاضينا بدير الفايد
تشبه غزالا بالفلاة جفال
بنت أمير البوادي أبي علي
شبيهة البدر في بهاء وجمال» «وأكلت قوم الخفاجي وهلال من موائد الطعام، وأمر حسن بالرحيل بعد ثلاثة أيام، فقال الخفاجي: لا بد من مسيري معكم إلى تونس، وأبذل معكم المجهود في استخلاص مرعي ويحيى ويونس. فلما سمع أبوه الضرغام منه هذا الكلام لم يهن عليه الأمر، وقد اشتعل قلبه بلهيب الجمر؛ لأنه كان يحبه محبة زائدة وليس له صبر على فراقه، فلم يقبل الخفاجي وطلب من ابنته وزوجته أن يذهبا معا في تلك الديار، ويتركا الحي، فامتنعا عن المسير وبكيا بدمع غزير ثم تقدمت ابنته ذوابة، وأشارت تنهيه عن السفر، وتقول:
تقول ذوابة يا أبي لا تسافر
فتترك الأهل في عنا ومصاعب
فما لك يا أمير في الغرب حاجة
ولا لك فيها مال ولا أسباب
ولا أثار عندك للزناتي خليفة
ولا دم لك ولا أصحاب
فكيف تشتتنا وتطلب بعادنا
وتبقى ضواحي في عنا وحساب
وتبقى الهلاليين مجموع شملهم
ونحن بلا أهل ولا أصحاب
فلما فرغت ابنته من كلامها زاد البكاء والنحيب من الفراق:
تقول فتاة الحي هي التي شكت
ولي قلب من كثر الغباين داب
روحك ألا يا أمير ما فيه فايدة
وقصدك بلاد الغرب ليس صواب
فدع أبو زيد الهلالي سلامة
وحسن الهلالي والأمير دياب
فكيف تخلي يا أمير بلادك
وتبقى قصورك خاليات خراب؟»
وبعد ذلك حضرت جميع الولاة وسادات العشائر لوداع الخليفة عامر.
وبعد ثلاثة أيام أمر الأمير حسن بدق طبل الرحيل والاستعداد للسفر من تلك البلاد، فعند ذلك مدت المضارب، وركبت الفرسان ظهور الجنايب واعتقلوا بالسيوف والنصول، وقد ملئوا بكثرتهم تلك السلول، وركبت النساء والبنات في الهوادج قاصدين بلاد الغرب.
أسر دياب في قبرص
ثم ترد بعد ذلك أخبار حروب طويلة، معظمها من ذلك النوع الدخيل على جسد السيرة، وهو ما أشرنا إليه بالتراكم الملحمي أو ما يضيفه رواة العصور المتعاقبة، من ذلك سلسلة حروب ومنازعات انتقامية من جانب حاكم الموصل الذي استعان بالتيمور لنك، وأحد وزرائه المتآمرين يدعى «الإسكندر».
وكان لدياب بن غانم الباع الأكبر في تحقيق الانتصار على ما تسميهم السيرة بالأعاجم: «إني دياب الخيل ذباح الفوارس.»
1
كذلك تصفه السيرة، أنه عقب كل انتصار، كان يعود مضرجا بالدم مثل شقيقه الأرجوان منشدا:
مقالات الفتى الزغبي دياب
ولي عزم كما الصخر الأصما
ولي همة كهمة ليث غاب
أنا الزغبي دياب المسمى
كذلك تبدت بطولات دياب عقب وصولهم إلى حلب الشهباء وقتله لحاكمها بدريس ملك حلب، فاستقبل أهلها الهلالية بالترحاب، وبعد أن نصب الهلالية ابن الملك المقتول، واسمه جمال، ملكا عليها مكان أبيه الشرير. «فأمر أهل المدينة أن تطيع أوامره، وأقامت بنو هلال في تلك الأطلال نحو عشرة أيام في أكل وطعام وشرب مدام، وسماع أصوات الأنام، وفي اليوم الحادي عشر تجهزت للرحيل والمفر قد دق طبل الرجوع تنبها للعسكر، وفي الحال هدت الخيام وركبت فرسان الصدام، وسارت النساء والبنات في الهوادج العماريات، وركب أيضا الأمير حسن وباقي السادات ورفعت على رءوسهم الأعلام وجدوا في قطع البراري، وما زالوا يقطعون الروابي والآكام مدة ستة أيام حتى وصلوا إلى مدينة حماة، فنزلوا على نهر العاصي، ولم يعترضهم أحد؛ لأن أهل البلد كان قد بلغهم ما جرى على أهل حلب، فخافوا عواقب الأمر وإثارة الفتن فاستقبلهم الملك بالإكرام والوقار.» «قال الراوي: ومن الأمور الغريبة والحوادث العجيبة، وهو أنه كان بمدينة حلب تاجر اسمه كساب، وكان من أشهر الناس ومن أتباع صاحب جزيرة قبرص الملك الهراس قد حضر إلى تلك المدينة، وكان يتاجر بالبضائع، فاتفق أنه لما قدمت بنو هلال إلى تلك الديار ونهبت أمواله، فشكى للأمير دياب وأعلمه وطلب رد أمواله التي كسبها بنو هلال، فلم يستفد وإلا حصل على حين ترك حلب ونجا بنفسه خوفا وقصد الملك الهراس، فدخل عليه وأعلمه بما فعلت بنو هلال به، فاغتاظ الملك؛ لأنه كان يحب كساب، فأوعده بإحضار دياب، وكان عنده ثلاثة من أصحاب حيل وخداع، وكانوا من جملة محافظين المدينة فأحضرهم وأعلمهم بواقعة الحال، وقيد الأموال وطلب منهم أن يسيروا مع كساب ويأتوا بالأمير دياب، فقالوا: سمعا وطاعة وغيروا ثيابهم وساروا بالمواكب من تلك الساعة وصحبتهم هدايا، وعند وصولهم إلى اللاذقية نزلوا في المدينة، وجعلوا يتجسسون أخبار بني هلال، فعلموا أنهم في حماة الأطلال، فعند ذلك ركبوا وساروا تحت جنح الظلام إلى أن وصلوا إلى البلد ودخلوا منزل دياب وبصحبتهم الهدايا مثل سيف معقرب وخنجر كالفضة جوهر وأبريق فضة وثلاث مماليك يساوي ألف دينار، وغير ذلك من الأشياء الثمينة، فلما وصلوا دخلوا على الأمير دياب وقدموا الهدايا فترحب وسألهم عن حالهم، فقال له كبيرهم: إن سألت عنا يا أمير نحن تجار وإخوة ثلاثة وجينا في تجرة عظيمة وتركناها في اللاذقية، خفنا من الطريق وحذرنا كل صديق ومرادنا تعدينا من هذا الطريق، وعند ذلك شالوا ثلاث منح من الجواهر المثنية التي تدهش الأبصار وتحير الأفكار وقالوا له هذه الأولى إلى الأمير حسن، والثانية إلى الأمير أبو زيد والثالثة إلى القاضي. فقال دياب: ومن هؤلاء الذين تقول عنهم وكأنهم من تحت يدي؟ فقالوا: نحن أتينا لعندك، الذي تريده أعطيه والذي ما تريده لا تعطيه. فقال لهم: نحن ما ندري لأحدكم؛ لئلا يقوموا يلحقوا. قال كبيرهم: نحن تجار ولا أحد يجلب متاجر مثلنا ومعنا مركب موثوق خلاف ما بعناه نحن كل سنة تلاقينا نبيع ونشتري، ونكسب النصف في بضاعتنا ولا نحمي طريقنا إلا على حلب، وكان اللعين بدريس يشتري منا ما يلزم من البضائع كل سنة، وقد أتينا هذا المال على حسب عادتنا فلم نجده، وقد وجدناكم ناصبي على حلب، فسألنا بعض المسافرين، فأخبرونا عليك بأنك قتلته وملكت بلاده ففرحنا؛ لأن ذلك الملعون أخذ منا عشرة آلاف دينار، وهذا غير عشرة آلاف ثانية، فقلنا من شدة فرحنا: نقدم لك هذه البدلة حيث إنك قتلت هذا الملعون الخبيث.» «فركبوا الثلاثة هجنهم وركب الأمير دياب أيضا، وساروا خوفا من أن ينظرهم أحد لئلا تظهر حيلتهم، وبينما هم سائرون وإذا بالأمير عمار أخي الأمير حسن التقى بهم فلم يعرف منهم سوى الأمير دياب، فقال: يا بن غانم! إلى أين ساير مع هؤلاء القوم؟ فأجابه: هؤلاء ضيوفي وموصلهم خوفا عليهم من سفهاء العرب.» «فسار الأمير عمار إلى منزله، وأما الأمير دياب فسار مع أصحابه من العشاء إلى ثاني يوم للظهر حتى أشرفوا على البحر المالح، فسمع دياب صوت دوي الماء مثل الطبل، فدخل عليه الوهم.» «ولما رآه الثلاثة قد تغير، قالوا له: أما تنزل معنا في البحر؟ فأجابهم: إن نزولي معكم في البحر ما هو ضروري، وإن كان كلامكم صدق انزلوا وهاتوا ما قلتولي عليه، وأنا ما عدت أخطي ولا خطوة واحدة. ثم نزل عن الشهبا، ومسك سرجه بيده اليسار والسيف بيده اليمين، ووقف ينتظر فتركوه ونزلوا إلى البحر حتى أتى إلى الغليون، وجابوا له خيمة من الحرير الأصفر، وتلك الخيمة مكللة بالدرر والجواهر والياقوت والمرجان والزمرد الأخضر، فلما رأى دياب تلك الخيمة وفرشها الذي يدهش، تعجب وظن أن كلامهم صحيح، ودخل معهم إلى الخيمة ودخلوا يتحادثون وأتوا بالمأكل والمشرب، وفي الحال جابوا السلاسل قيدوه ونزلوا إلى المركب ورفعوا المراسي، وأقلعوا ولما قطعوا مسافة طويلة أعطوه ضد البنج، ففاق فلما نظر الجماعة كانوا في ملابس بيض يلاقيهم في برانيط سود، فعرف أن الحيلة تمت عليه، فتنهد وأنشد يقول:
يقول الزغبي دياب بن غانم
بكيت على حالي وأنا مأسور
بكيت على جاهي وعزي وهيبتي
وأنا فوق يختي جالسا مسرور
ومن بعد عزي وارتفاعي وشمختي
بقيت مقيد بينكم مأسور
ثم قالوا له: لا بد من قتلك. وما زالوا سائرين إلى أن وصلوا جزيرة قبرص، وطلعوه مقيد وأدخلوه إلى عند الملك هراس، وكان عنده جماعة من الناس، ففرح الملك وألقاه تحت العذاب.» ••• «أما ما كان من بني هلال، فإنهم كانوا في مسرات إلا والخضرا قادمة مثل هبوب الرياح، وهي كئيبة حزينة على فقد خيالها الزغبي دياب، فأول ما نظرتها ابنته وطفا، فصاحت وولولت، فتراكض جميع الفرسان على صاحبها، وفي تلك الساعة صار ضجة عظيمة.» «وأما ما كان من الأمير حسن، فإنه قال لأبي زيد: إن دياب صار له مدة ما حضر لعندنا، وأظن أنه مغتاظ علينا؛ لأننا ما خليناه ينهب حلب، فقال له أبو زيد: قم نزوره. ولما ساروا تحت منازل دياب سمعوا البكاء والنواح، وتقدم غانم أبو دياب وهو باكي العين، وأشار إلى الأمير أبي زيد بهذه الأبيات، يقول:
يقول الفتى غانم على ما جرى له
ودمعي جرى فوق الخدود سكيب
دياب يا عيني ويا نور ناظري
سقاه النيا كأس المنون عصيب
تفرق شملي بعد ما كان مجتمعا
غدرني زماني والزمان عجيب
أتانا ضيوف قاصدين بلادنا
على ظهر خيل مثل ريح هبيب
فأضافهم ولدي وقام بجمعهم
يرحب فيهم غاية الترحيب
فقلبي يحدثني يقول لي
فما هم إلا من أهالي العيب
أبو زيد قدامك أبو زيد غانم
أبو زيد قدامك حزين كئيب
أبو زيد لك من المال جملة
ألفين سرية وألفين جنيب
فلما فرغ غانم من كلامه، وسمع الحاضرين، حزنوا على فقد دياب إلى أن تصدى لإنقاذه أبو زيد الهلالي بعد أن ضرب الرمل، ورأى أهوال دياب وحاجته للنجدة، بعد أن عرف بمكان دياب، وأسره في جزيرة قبرص عند ملك يدعى الهراس.» «وتجهز للسفر، فأخذ عشرة فرسان ، وصار يقطع البراري، وما زال سائرا حتى وصل قبرص (؟!) إلى أن وصل إلى باب المدينة رأى الهراس خارج بجماعة إلى الصيد والقنص، فعرف أبو زيد أنه الملك، فتقدم إليه وسلم عليه بأفصح لسان، وسحب المبخرة، وحط بخور، فعقد الدخان، وقال له: هذا البخور من دير الحيران، وطلع ثلاث شمعات، وقال له: خذ هذه من دير البنات ودير الحميرة المباركات، فقال الهراس: وقعت يا أبا زيد، وكيف خلصت وأنا مربط عليك الطرق؟ فقال سلامة: لا تقول هذا الكلام يا ملك الزمان، أنا خدام الملك مثقال ولي مائتين عام سابع ما خليت دير ولا صومعة ولا مجلس، وإنك الثالث على دياب وأسرته؛ لأنه قتل بدريس. فقال الهراس: يا راهب! أما دياب فقد مسكناه في الحديد رميناه، ولكن بحياتي عليك أنت بعينيك مثقال. فقال أبو زيد: أي وحق الإله المتعال. فعندما أخبروه والهراس كيف عمل في دياب وسريعا دخلوا إلى الديوان، وأمر أبو زيد بالجلوس، فجلس للطعام، فأكل ثم بدأ أبو زيد الملك حديثا ما سمع مثله في طول عمره، حتى ولا من العلماء والفلاسفة، فسر منه جدا، ونادى في أكابر ديوانه بأن يكون أبو زيد الكبير فيهم جميعا، فتقدم كبير الرهبان، كان حاضر ضرب الرمل، فعرف أنه أبو زيد، فقال الجميع: هذا كبير إنه إذا تغلب يكون اتغلبنا، وكان يسمى أو برناس، فتقدم لعند أبي زيد، يقول:
قال الراهب أبو برناس
اسمع قولي يا قاضي
أنا لك ضد بهزل وجد
وحق العهد وأبو شماس
دخلت المكر وبحر الفكر
وماء السكر وأم الناس
وما المكروه وما المحروم؟
وما المنصوص بغصن الآس؟
وما البنتين لهن بعلين؟
وما الشخصين وما الرفاس؟
وما المحروم والمطروف؟
وما المعروف وما الجلاس؟
سؤالي جيب إن كنت لبيب
بلا تعجيب وما ملاسي
فأجاب أبو زيد:
رد سلامه يا جلوس
أنتم ملوك خيار الناس
كونوا شهودا على الراهب
شهادة حق بغير أكاسي
وشوفوا السيد من الخادم
وابن اللاس وابن الناس
وأما المكروه وما المحروم
وما لقوا إبليس وخاسي
أما المفهوم جفاه النوم
وليس يروم بجفنه نعاس
أما البنتين فلهم بعلين
بيد شيخين رواي نحاس
أما المقروف إبليس يطوف
له شرشوف فتن الناس
وأما المحروف خليل الله
أما المطروف الخضر العباس
أما البرجوس لنا جاسوس
حاسد وتعوق خفيف الراس
أما الرادي نسيم الريح
أما الكادي عقرب الكاس
أما الشافي دنئ النفس
من السكر نسيم الكاس
فهي حواء خلقت كالبدر
بوجه منير كالمقياس
آدم قام يريد لها
أتاه الوحي بلا قرطاس
سلامة قال نزكي الخاطر
شرحت سؤال أبو برناس» «فلما فرغ سلامة من كلامه، تعجبوا الحاضرين من فصاحة لسانه، فما بقى عند الهراس أكبر منه، وقال: تمنى علي ما تريد يا سلامة؟ قال له: أن تريني دياب حتى أشفي قلبي منه. فأمرهم بما قال، فعند ذلك قاموا في ساعته، وأخذوه والشمع قدامه أشعلوه، وساروا حتى وصلوا إلى السجن، فأدخلوه، ولما شاف دياب في هذا البلاء والعذاب كل عن الصواب، وتقدم إلى عنده، ورفع يده، وضربه كف، طير الشرر من عينيه، فتألم دياب وصاح: الله يقطع يمينك. فقال له: وأنت الله يقطع عمرك من هذا السجن. وخرج من عنده، وتوجه إلى عند الهراس، وقال: يا ملك الزمان! هذا دياب ما بقى ينفع، قال الهراس: كيف يكون الرأي عندك، فقال: فكه من الحديد.» «وعلى هذا النحو واصل أبو زيد احتيالاته إلى أن نجح في فك وثاق دياب، وتحريره من الأسر، ومعه اثنا عشر ألف أسير، استخدمهم في حصار سرايا حاكم قبرص الملك الهراس، وهو في ثياب الراهب سلامة، فقتل دياب الملك الهراس، ثم تفرقوا في الأسواق والأزقة، وحملوا السيف بمن لم يطق حتى قتلوا اثني عشر ألفا، وباقي الناس طلبوا الأمان، ووضعوا المحارم في رقابهم، فعفوا عنهم، وطلع منادي في الأمان، وجلس أبو زيد في الديوان، وأتى عنده الأكابر.» «والتفت أبو زيد إلى الحاضرين من أعيان البلدة، وقال لهم: قد وليت نوفل حاكم عليكم، ولا أحد منكم يخالف له أمره. ثم دخلوا دار الهراس، وجدوا المال الذي فيها لا يعد ولا يحصى، فأخذوه ووثقوه في المراكب، وسافروا بعد ثلاثة أيام بقدومهم، فقامت عندهم الفرحات، وعلات الصيحات، وزغرطت النساء والبنات، ودقت النوبات، وساروا حتى وصلوا، فلما وقعت العين ترجل الفريقين، وسلموا على بعضهم البعض سلام الأحباب، فهنوهم بالسلامة، ثم حملوا الأحمال وساروا، وأما الأسارى ماشيين في عراضة قدام الأمير أبو زيد إلى أن وصلوا إلى الخيام، فقابلتهم النساء والبنات بالزغاريط والنوبات، وهنوا الأمير دياب بخلاصه من الأسر، وشكروا أبو زيد، وعمل الأمير حسن في اليوم الثاني وليمة مدة عشرة أيام، وبعد ذلك صمموا على الارتحال، فهدت الخيام، وانتشرت الرايات والأعلام، وركبت السادات ظهور الخيول، واعتقلوا بالرماح والنصول، وركبت النساء والبنات في الهوادج والعماريات، وجدوا في قطع البراري والفلوات طالبين أرض عيام،
2
حتى وصلوا إليها بعد أيام، فنصبوا المضارب والخيام ورفعوا الأعلام.»
الهلالية يحاربون اليهود في فلسطين
ولعلني في هذا الباب أكثر من الاستشهاد بالنصوص الحرفية للسيرة كمستند متحقق لمدى عبث النساخ اليهود - إن لم يكن الصهاينة - بالأصول النصية لهذه السيرة، وكيف أن كلمة صهيونية، حرفت كتابة إلى «سهيونية» عبر السرد والوقائع التي حدثت في أرض تدعوها السيرة بأرض عيام، نرجح أنها تخوم فلسطين وقلاعها التي وصلوها عقب رحيلهم عن قبرص نزولا إلى اللاذقية. «إلى أن التقى بهم في تلك النواحي، عطار ذو هيبة ووقار، قدامه حماره عقب وصولهم إلى أرض يقال لها قلعة سواكن، وكيف استدرج أبطالهم بالحيلة والسحر.»
1
والملاحظ أن هذه القلعة هي بالفعل بالقرب من اللاذقية نزولا إلى حماة، وقد زرتها بصحبة زوجتي شتاء عام 1975، وما تزال النصوص الشفهية التي سمعتها من الأهالي تحفظ هذه الواقعة المتواترة المائلة عند أسر أبطال بني هلال بها، وكيف كانوا يمارسون رياضتهم الفروسية بالسباق ومنازلات «الرجاس» عبر سهولها.
وهي بالفعل قلعة رومانية الطراز موحشة.
فما أن استدرج الكاهن اليهودي الأبطال، حتى حلت بهم النكبات التي استغرقت فصلا كاملا من فصول السيرة على النحو التالي:
ولما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، واجتمعت بنو هلال عند أبو زيد، وقالت: ما هذا المصاب؟ وما يكون من الجواب؟ قال لهم: «قوموا بنا في ساعة الحال، ندور عليهم في البراري، ونفحص عن هذه الأحوال.» فبينما هم كذلك، وإذا برجل صابر في تلك الدكادل فساروا إليه، فسلموا عليه، فرد عليه السلام، فقال له أبو زيد: «يا أبا العرب، أنت من أين؟ وإلى أين قاصد؟» فقال له: «يا أمير، أنا كنت في صهيون، وسائر إلى بغداد، وتلك العيون.» فقال: «ما عندك من الأخبار؟» فقال: «اعلم بينما كنت أمس حائرا في تلك الناحية، إذ وجدت أبا بشارة العطار، ومعه ثلاثة أمارة وخيارهم من بني هلال، ولكن واقعين في أوشم الأضرار، وأخذهم إلى قلعة صهيون، ووضعهم في الحديد والأغلال، وهذا ما عندي من الأخبار، وإذا كنتم ذاهبين إلى خلاصهم، ارجعوا واستجيروا بالله، لئلا يصير فيكم مثلهم؛ لأنه ما يقدر أن يصل إليهم.» فقال له أبو زيد: «من أي شيء؟» فقال له: «من أبو بشارة؛ لأنه سحار مكار لا يطلى له بنار، ولكن أنتم من أي بلاد؟» فقال له: «من بلاد الحسار والقطهف.» فلما سمع الساعي كلامهم تركهم، وسار إلى حال سبيله، وأما أبو زيد فإنه قال لفرسانه والأبطال: «ما يكون عندكم من الرأي والإرشاد؟» فقالوا: «الرأي عندك يا ابن الأمجاد.» فقال لهم: «ارجعوا إلى الأطلاع، وأنا وزيدان نكفي لهذه الأحوال.» فعندها رجعت العرب، وأما أبو زيد وزيدان ساروا في سلك البراري والقفار طالبين قلعة صهيون في تلك الأوطان؛ إذ نظروا أبو بشارة العطار يدور في تلك البراري، وسايق قدامه الحمار، فلما نظرهم وقف حتى وصلوا إليه، وصاروا بين يديه، فصاح فيهم، وقال لهم: «ويلكم أيها الأنذال، وقعتم في أوشم الأحوال، وقعت يا أبو زيد أنت وزيدان، وتظنوا أن مكركم يدخل علي، والله يا أبو زيد لا بد أقتلك وأريح الناس منك.» فقال له: «من عرفك بيننا حتى تعادينا؟» فقال: «عارفكم من وقت ما خرجتم من أوطانكم.»
فلما نظر أبو بشارة من أبو زيد تلك الفعال، خاف من الوبال، فقبض كوشة من التراب، وعزم عليها ثم حدفها على أبو زيد، وإذا برجليه قد لبست في الأرض، وكذلك يده يابسات ومرفوعات إلى فوق رأسه، فعدم حواسه، ثم أنه أبو بشارة زعق في أبو زيد بصوت هائل، كأنه الرعد الصايل، ورفعه في يده ما شاف نفسه إلا وهو طائر ما بين الأرض والسماء هو وزيدان.
وعبر سلسة من الانتصارات السحرية، التي يحرزها اليهودي أبو بشارة ضد أبي زيد وبقية أبطال بني هلال عبر قلاع وأماكن خربة، لحين استعانة أبي زيد بالخضر أبي العباس، دون عون.
وكان أن لجأ إلى سلسلة حيله ومكائده، كما تصفه السيرة بدقة فائقة مع ملاحظة صراعه داخل قلعة «صهيون» تلك. «ثم إنه أخذ حماره، ونزل عنه بضاعته، ففردها ونظر ما فيها، وبعد ذلك حزمها، ووضعها على الحمار، وبقي في ذاته محتار، ثم أنه شلح ما كان عليه من الثياب بدون ارتياب، وتزيا بزي أبو بشارة العطار، وساق قدامه الحمار، وقال له: الله يحرق عظام صاحبك ابن الأوغاد. وسار في تلك البراري والوهاد، وسار على قلعة صهيون، وصاح أنا الحنون، ساقي الضد كاس المنون، ومعي فلفل وكمون وحنة وأساور وأبر وحلتي ودهان أحمر، وسيبداك وخطوط لكم البضائع في هذه السفرة يا بنات. فتكاثرت عليه النساء من كل مكان، فصار يكبش ويعطي لهم بلاش من غير دنانير، ويقول لهم: هل من سفرة كسبنا شيء كثير؟ فعادوا به بكل شفة لسان، فتركهم وسار في تلك البراري والكسبان، ولم يزل أبو زيد ساير حتى وصل إلى قلعة صهيون وتلك المعالم، فما نظر إلى واحد، فنزل له واثب على الأقدام، والتقاه بالترحيب والإكرام، وأجلسه بجانبه على مراتبه، وأمر له بالخمر والشراب، فقال أبو زيد في سره: أنا عمري ما شربته، وكيف أشرب الآن؟! وعاد بأمره محتار من هذا الضرر، فقال له صاحب القلعة، وكان اسمه حنا: علامك يا بشارة ما تشرب وتضرب؟ فقال له أبو زيد: ما لي حاجة حيث حلفت عنه يمين جمعة كاملة أنني لا أذوقه؛ لأن من خاطري قتل هؤلاء الأسارى، وأسقيهم كأس الذل والخساء. فقال له: ونحن عندنا ننظرك حتى أنك تحضر، وتفعل فيهم مرادك. فقال لهم أبو زيد : لأجل أن أسقيه كأس الهوان. فلما أحضروه نظر إليه إلى أن تمكن أبو زيد في النهاية من الانتصار على عدوه الصهيوني عقب سلسلة من المكائد والتحولات السحرية، أنشد خلالها أبو زيد أبلغ الأشعار والمراثي الذاتية:
عتب على دهري وفي سهيوان
2
أرماني
عند قوم بين القاصي والداني
الدهر دولاب لا تأمن له بالك
في أرض صهيون هذا اليوم أرماني
فخلى حماي وحلى هل بضاعة
حتى أروح سواح في آخر البلدان
وأعمل وليمة وأجمع فرسانك
وأحط يدي عليهم وتم ذرعاني
وهذه المحابيس يوم العيد ندبحهم
وأجعل دماهم في الأرض طوفان
وأجيب أبو زيد وأعماله الماكر
كي ينظر العذاب أشكال وألوان» «وعن طريق تضمينه الاستعانة بالخمر للإفلات من أسر، تمكن أبو زيد من فك وثاق أبطال بني هلال من الأسر الصهيوني، وأخذهم في جنح الظلام، وساروا حتى وصلوا لقومهم، ففرحوا بهم فرحا شديدا، وطلعوا لاقوهم بالطبول والزمور وشكروا الأمير أبو زيد.» «وأما ما كان من أمر حنا والأبطال، فكانوا خمرانين - كما تقدم الكلام - ولما كان الصباح استفقدوا الأسارى فما وجدوهم، وفتشوا أبو بشارة فما وجدوه، فحينئذ علموا القضية، ثم صاح في الفرسان، وأمرهم يركبوا الخيل، فعند ذلك ركبوا ظهور المهارة، وجدوا في قطع الصحارى طالبين بني هلال، زالوا مجدين في سيرهم، حتى قاربوا الأرض التي فيها بني هلال، فقال لهم الوزير وأخوه مريض: خذوا أهبتكم للقتال، واستعدوا للحرب والنزال، ذلك وإذا بخيل بني هلال طلعت ولمعت رماحها في شعاع الشمس، وهي غائصة في الزرد والسلاح تحن خلفها قطع الرماح، وفي أوائلها أبو زيد، ومن جواره دياب وحسن القاضي وزيدان فرسان الحرب والطعان، فتبادرت إليهم عساكر جريس، وصاحوا بهم، فارتجت لصيحتهم الوديان، ثم سأل: من أنتم أيها اللئام؟ فجعل عليهم دياب بدون جواب، فتلقاه فارس يقال له الدهقان، وتجاول هو وإياه ساعة من الزمان، حكم دياب عليه السنان، وطعنه في صدره، خرج يلمع من ظهره، وكان معه عشرة من الفرسان، فلما نظروا ما حل به حملوا على دياب فتلقاهم كأنه أسد، وفي أقل من ساعة قتل سبع فرسان، وانهزم الباقون، وهم ينادون بالعرب أنقذونا. فكأن أبا زيد الهلالي في موقع الرأس المدبر للتحالف القبائلي الهلالي، ودياب بن غانم هو ذراعه الضارب.»
وعلى هذا النحو تبدع السيرة في تصوير الانتصار الأخير لدياب بن غانم على الصهاينة في ربوع الشام وفلسطين:
وأما دياب وبقية الفرسان، فإنهم فرقوا الكتائب، وأظهروا العجائب، ولما رأت عساكر الأعداء ما حل بهم من الدمار ولت الأدبار، وأركنت إلى الفرار، والتجأت إلى القلعة، فتبعهم أبو زيد والفرسان، فعندما طلبوا الأمان، فأعطاهم الأمان، ورتبوا عليهم الجزية في كل عام، ورجعوا إلى مضاربهم كسبانين غانمين، وفرق الأمير حسن ما غنموه من الجميع، وأقاموا على شرب قهوة وأكل وطعام مدة ثلاثة أيام، وبعد ذلك صمموا على الارتحال من تلك الأطلال، فهدمت الخيام، وانتشرت الرايات والأعلام، وركبت الفرسان ظهور الخيل، واعتقلوا بالرماح والنصول، وركبت النساء والبنات في الهوادج والعماريات، وجدوا في قطع البراري والآكام، حتى وصلوا إلى حمص، فأقاموا فيها خمسة أيام، وكانت تأتيهم الهدايا من جميع الولاة والحكام، وارتحلوا من بعلبك، ومنها إلى زحلة، وقد طابت أيامهم في هذه الرحلة؛ لأنهم كانوا يصرفون الأوقات في السرور والطرب، وقد زال عنهم العنا والكرب، وبعد ذلك صاروا قاصدين مدينة الشام، فوصلوا إليها عند الظلام، ونصبوا المضارب والخيام.
بنو هلال في دمشق
وتتوقف السيرة في جزئها الخامس على أبواب دمشق، عقب انتصار بني هلال على أبي بشارة العطار - حاكم بلاد صهيون - الذي هو بحق مثال التاجر السامي اليهودي مثل يعقوب الذي تسمى بإسرائيل.
وتحفظ السيرة لحاكم دمشق في ذلك الحين واسمه شبيب التبعي، أو التبع شبيب بن مالك، وهو كما يتضح من اسمه تبع أو ملك يمني من سلالة الملوك اليمنيين التباعنة، ملوك دول سبأ وقيتبان
1
ومعين، والدولة الأخيرة امتد سلطانها حتى شمل الخليج وبحر العرب.
ومن التباعنة اليمنيين تبع أسعد، وابنه تبع حسان اليماني، أو ذي اليمنيين، صاحب السيرة المهشمة التي أشرنا إليها، الذي سبق أن غزا الشام ولبنان وفلسطين بألف سفينة حربية ومائة ألف جندي إلى أن فتحها، والذي اغتاله بعاصمة ملكه دمشق بالحيلة والمكيدة ليلة عرسه الدامي من الجليلة بنت مرة، كليب التغلبي «ملك العرب» الأخ الأكبر للزير سالم، الذي هجر منفاه الاختياري في بئر السبع الفلسطينية، وقاد حرب البسوس الشهيرة انتقاما لأخيه المغتال بدوره كليب من أخ زوجته الجليلة، ذهل بن شيبان الملقب بجساس بن مرة: «فما أن واصلت القبائل الهلالية زحفها جدوا في قطع الفلوات، حتى أقبلوا على مدينة الشام، وكان الحاكم في تلك الأيام على دمشق ملكا أشد فرسان المعارك، واسمه شبيب التبعي بن مالك، وقد كان رأى حلما في المنام، فقام خائفا، فجمع أكابر الديوان والوزراء والأعيان، وقال لهم: قد رأيت رؤيا الآن، قالوا: ما هي يا ملك العصر والأوان؟ قال: رأيت في منامي أنه قد أتى إلى هذه البلاد سباع شبه جراد. وكان كل سبع يأتي إلى شجرة يقلعها بأنيابه، ولا يبالي من الأخطار. وكان لهذا الملك وزير عاقل خبير، واسمه الوزير عميرة قال:
بني هلال بجمعهم قد أقبلوا
مثل الجراد يا شبيب وأكثر
من نجد قد رحلوا بجمع وافر
وفرسانهم من كل ليث قسور
قتلوا الدبيس بعد حرب هائل
وأتوا إلى الكوفة بهذا العسكر
لاقاهم الخرمندي سلطان العجم
قتله أبو مرعي مجد لأبتر
أما الفتى القمقمام فارس قومه
قتله الفتى الزغبي الأشقر
قتلوا الخزاعي بن حامد في حلب
ثم غربوا إلى حماة وسنجر»
وكان قد بلغه قدوم بني هلال إلى الشام، فزاد ذلك الأمر اهتماما على اهتمام؛ لأن أبا زيد كان عند رجوعه من تونس ومروره إلى الشام - كما سبق الكلام - قد استخلص من داره سرية عربية واسمها قنوع
2
وسار بها نحو بني هلال، فتأثر شبيب من هذه الأفعال، فاستدعى نجاب، وأمره أن يكشف له أخبار بني هلال، فسار ودخل على بني هلال، فأضافوه ثلاثة أيام، ورجع لعند سيده، وصار يخبره بهذه القصيدة، يقول:
يقول مسرور عما جرى له
ونيران قلبي زايدات شرار
ذهبت أكشف في هلال نزلهم
فسرت وفي قلبي لهيب النار
دخلت صيوان الأمير أبو علي
مليك عظيم عالي المقدار
وقال أهلا وسهلا ألفين مرحبة
لك الخير مني أنت ضيف الدار
وأمر لي حسن بخلعة سنية
بعشر مفاتيح وخمس زوار
وجدت قنوع العامرية جالسة
ومن حولها الشبان والآمار
باتت قنوع ترفع الصوت بالغنا
بصوت يحاكي العود والمزمار
قد مدحت بالسكر حتى تمايلت
وقد طار عنها برقع وخمار
تميل مثل الرياح وتنثني
إلى أن عرفتني بغير إنكار
فقالت أوصي شبيب وقل له
يلاقي هلالا صفا ووقار
إذا جاء أبو زيد يبغي حربكم
يكن شبيب في لقاه حذار
ترى عدد قوم هلال وعامر
أربع تسعينات ألوف جهار
أبو زيد مع أجاويد قومه عددهم
تسعين ألفا كلهم أمار
ودياب في تسعين ألف محارب
من آل زغبة من فروع كبار
وتسعين للقاضي بدير القائد
قاضي هلال فارس الجبار
وتسعين إلى حسن أبو علي
أمير حوى جاها وكل وقار
وهذا الذي أبصرت يا فخر الملا
وقولي صحيح ما به إنكار
فلما سمع شبيب هذا الشعر، وفهم فحوى الحديث، فقال للأكابر والأعيان من حضر في الديوان رأيكم في هذا الشأن؛ لأن بني هلال قد حضروا الآن إلى هذه الأطلال بعساكر كعدد الرمال، فقالوا: «إن الرأي هو أن نبادر بالقتال، ولكننا في أول القتال نرسل ونطلب منهم عشر المال، فإن أجابوك إلى هذا الطلب بلغت القصد، وإلا نحاربهم ونشتتهم في البر.» فاستصوب شبيب رأي القوم، وأرسل يطلب منهم عشر المال، وكتب إليهم يقول:
يقول المدعو شبيب بن مالك
لي قلب أقوى من صفا الجلمود
أنا صاحب العز والمجد والعلا
أنا صاحب الصيوان والعامود
ويا حسن قدم لنا المال عشره
وقدم لنا من أحسن الموجود
وقدم لنا عشر الخيول جميعها
عشر الحرير بيضها والسود
وقدم ألفين عود من النقا
وقدم لنا ألفين سيف هنود
وقدم لنا ألفين عقد جواهر
عقود ثمينة قليلة الوجود
وقدم لنا ألفين طير جوارح
ومعها ضواري وكاسرات الأسود
وقدم لنا قنوع العامرية بخدرها
وهاتوا عطور الورد أم الجود
وهاتوا فتاة الحي أم محمد
صبيحة الوجود أم العيون السود
وقدم لنا جمال الظعن بنت سلامة
ووطفا وريا غاية المقصود
ومن بعد هذا امكثوا في بلادنا
وتكتفوا من شرنا ونكود
مقال شبيب التابعي بن مالك
وما كان عارف يفهم المقصود
وإياك تمهل كل شيء ذكرته
وإلا تروحوا للحبال شرود
وما إن قرأ السلطان حسن رسالته، حتى نشبت الحرب، بل إن في دمشق بالتحديد برز أكثر دور زيد وقدراته، فالمهم أن في هذا السياق الشعري الملحمي، المفضي كما هو الشأن بالنسبة لسيرتنا عن بني هلال، للكشف عن دور وقدرات أبي زيد الهلالي لتبرز طاقات ذكائه ومعرفته المستفيضة عبر سلسلة من مباريات الذكاء التي يشهد بها التبع حاكم دمشق ذاته له، سواء في مباريات الفروسية، حيث وقع اختياره على جواد الملك التبع ذاته الملقب بغطاس، وفاز به على فرسان التبع.
إلا أن التبع المتجبر قبض على أبي زيد وتابعيه من فرسان بني هلال، ووصفهم بالعبيد الجواسيس، وقادهم إلى المشنقة، لحين تدخل ابنه ووريثه الأمير الملقب بصقر الذي أنقذهم من المقصلة. «وإذا بصقر ابن الأمير شبيب أتى من الصيد والقنص، فلما نظر ذلك سأل عن الخبر فأخبروه بالأمر، فعند ذلك نزل عن ظهر الجواد إلى الأرض، وخلصهم وقطع المراس من رقابهم، فوصل الخبر إلى شبيب، فأحضرهم عنده في الديوان، ووبخ ولده على الشأن، وقال هؤلاء من بني هلال أعداؤنا، أوتوا إلى منازلنا والأطلال؛ لأجل أن يقتلوا الرجال، ويدعونا بأوشم الأحوال، قال صقر: يا أبي، ما عندي خبر من ذلك الأخبار، وهذا الأمر قد جرى، وصار شفعتي في هؤلاء الشعار وتبطل كلامي، ونقص بين الشباب مقامي، فالأوفق أن نبصر لهم إهانة ولا تقتلهم، وإلا يرموا عليهم رموز أسامي ما عرفوهم، فحينئذ قتلوهم. قال شبيب: هذا هو الصواب.» «ثم إنه التفت إلى أبو زيد وقال: يا صنديد ما كارك اليوم يا أديب؟ قال: شاعر لبيب. قال: مرادي أدعي شعرائنا وأحضرهم إلى دياره وأدعيهم أن يرموا عليك رموز ما عرفتهم، فإني أقتلك، قال أبو زيد: افعل ما تريد يا ابن الأماجيد. فعند ذلك أدعى الأمير شبيب إلى شعراء بلاده ، وكانوا أربعة وعشرين شاعرا، وكبيرهم يدعى صولجان بن ماهر، فلما حضروا أمرهم أن يرموا رموزا على أبي زيد ورفاقه، فأجابوه السمع والطاعة، فاحتبك الديوان في تلك الساعة، فالتفت أبو زيد إلى صولجان، وقال له: يا سيد الفرسان، مرادي قبل أن تبدي شعرا وقصيدة، تسير إلى موضعك، وتأتي لنا بطعام حتى يصير بينا خبز وملح. فأجابه بما قال، وسار إلى بيته في ساعة من الزمان، وأحضر إلى أبو زيد قصعة ملآنة عصيد، وفيها ملعقة، وقال: كل يا ابن الكرام. فأخذ أبو زيد شفقة برأس الملعقة وذاق شيئا قليلا، فوجدها مرة مثل الحنضل. قال: هذا زادك! قم يا ذليل يا مهان، وهات ما عندك من الأوزان. فعند ذلك تقدم الصولجان وأخذ الرباب، وبدأ حتى أطرب ذوي العقول والألبان. وأما أبو زيد فكان يراقب الكواكب، ظن أنه ينظر إلى بنات نعش أشار يقول:
رأيت ناظرا إلى بنات نعش
عن قبل العشي لحين تعشي
فهل عاديت نجم هواها
فهل من النعشات نعشي
فنحن في حمانا كل ما
نقري ضيفنا لحم ومحشي
فلما بصرك تقطع وتبلع
وكثر الزاد في المأكول يفشي
كأنك ضفضعة في قاع جب
محيها الماء شيئا بعد شي
فإذا أتاها الماء تسبح
وتسمن بأكل الوحل وتمشي
فقل لي بين السحاب باعا
وبين الأرض من شبر وتمشي
وعن عنزة تغني جنح ليل
فهل جاهدت أو تعلم بدى شي
وعيناها طوال وهي عمية
وأذناها عراض والسمع طرشي
فلا فرح ولا بيض لوالوها
ولا حبل ولا تنقل بشي
قل لي لا تكن جاهلا غشيما
وكم من مدعي ما يعرفشي
فلما فرغ الصولجان وأبو زيد، سامع نظامه، وأشار يجاوبه يقول:
أراد تدانش الأشعار دنشي
وما عندك من العقل ولا شي
قولك عن أبي زيد الهلالي
غشيما ما يعرف الشعر إلا بشي
فأنتم تعرفون فلا تراعوا
فقول الصدق ما به من غشي
فيكم من يوم قيس أجرعوكم
ميم الأفاعي من سمن ودقش
فسوف أن هذا الحديث يجري
ويعفش في صدر الخيل عفشي
ويشبع ضيفكم ضربا وطعا
وتبقى الروس مكدوشات كدشي
وتنظروني على حمزاء طحرمه
أرش الدم على الأرض رشي
ويجزى المعتدين بالشر معنا
وتنقش دياركم بالدم نقشي
وعيب عليكم إذ لم تعرفونني
أريح الحبل فالأرماح مقشي
فالله يطعمك طعنة عموسي
من يد فارس قط ما يرحمشي
تكون من يد أبي وطفا دياب
يروح الرمح في كرشك ويمشي
لأنك لا تصد ولا ترد
ولا تلقى الضيوف ولا تعشي
أنا يا طول ما أقريت ضيفي
لخطار لما أهدى مفلفلي ومحشي
أنا أبو زيد أنا صور الصبايا
ولست بفازعا منكم ينهشي
أنا حذرتكم لا تجهلوني
ستنهشكم سباع البر نهشي
أيا صولجان اعلم بأني
عرفت مسائلك صنعا ونقشه
تسابلني عن عرش عظيم
فكم بينه وبين الأرض كمشه
وعن عنزة تغني مجنح ليلي
دوما بالأرض عطشة ثم عطشه
تقدم أخبرني عشرة عشرة
عددهم خمسة تربح وترشي
وهم من حين خلق أبوك آدم
إلى يوم الحساب ولم يموشي
يموتوا ثم يحيوا بعد موت
ومنهم شيء لم يتبعشي
ومنهم طايفة تأكل وتشرب
كما منهم منذ عمره مما أرمشي
عن حوت وفوق الحوت حوت
وتحت الكل بحر الماء يمشي
ودولاب يدور الشغل منه
مجوهر فيه مر نصف البلخشي
إذا لم تخبروني لمن ما أقلك
وإلا أنت عندي مثل جحشي
فنحن نشبع الخطار لحما
ونخمش منهم بالزاد خمشي
وحيا إلى أجاويد الرجال
ومن هو لكلامي يسمعني
فلما فرغ أبو زيد من كلامه، وتعجب الأمارة من ذكائه، فحزن التبع شبيب، وحلق ذقن الشاعر، وطرده من عنده، والتفت إلى أبو زيد، وقال له: بقى لي عليك ست أشياء إن عرفتهم خلصت من دهاهم، وإذا ما عرفتهم قتلت أنت ورفقك. فأجابه: ما هم؟ أخبرني عنهم؟ فقال له: المصارعين والمشاكين والمدافقين ورمايين الذهاب، وشايلين العلم وطباخين الكيما. باتوا تلك الليلة إلى الصباح، فقام شبيب، وأحضر كبير المصارعين، وكان بطلا رزينا وما له من قرين، فلما رآه أبو زيد قال له: يا أخا العرب، دونك العرب؛ لأنه أن أجعلك في التراب، ولا تظن الصراع أكله حلو. فقال له المصارع : دع عنك شنشقة لسان يا ذليل يا مهان، واليوم يبان الشجاع من الجبان. فقال أبو زيد: اليوم عندي عيد يقتلك يا مهان. ثم نهض وأثبت الأقدام، وأسرع إليه مثل الأسد الضرغام، والتقى البطلين كأنهم جبلين، وكان المصارع دافن في ركن التبان حربة مثل الثعبان، وهي شغل بلاد الروم، ويريد بها هلاك أبو زيد، فرآها دياب وقال له: خذ بالك يا أمير، وانظر هذه الحربة التي كأنها نقمة، أنا رأيتها قبلك يا أمير دياب، وهذا اليوم أدعيه ملقى على التراب.» «وقال غيره يا أمير شبيب، فتقدم رامي النشاب، فذهب أبو زيد ووقف في تلك الهضاب، فضربه أبو زيد، رماه فوقع قتيلا بدمائه، فعند ذلك تقدموا شايلين العلم فغلبهم، وكذلك طباخين الكيمياء، طلعت طبخته أحسن من طبختهم، ثم التفت إلى شبيب، وقال له يا أمير المؤمنين: لك عندنا شيء بعد من هذا التنكير، فاتركنا نذهب إلى أهلنا وعيالنا، فعند ذلك غضب غضبا شديدا، قال له: لا شك أنك عفريت من عفاريت سليمان. وبعد ذلك أمر الخدم أن يأخذهم إلى السجن لأجل القصاص والانتقام، فأخذوهم في الحال، ووضعوا في أرجلهم القيود والأغلال ووكلوا بهم جماعة من صنايد الرجال. وكان الأمير دياب ومن معه من الأصحاب في خوف وشدة، فجعل أبو زيد يشجعهم، فنهضوا في الحال، وجدوا في قطع الروابي حتى وصلوا إلى بني هلال، وكان وصولهم عند الصباح.» «وأمر العساكر والأبطال للاستعداد إلى الحرب والقتال، فاجتمع عنده مائة ألف مقاتل لقتال بني هلال، وكانت بنو هلال قد استعدت للقتال.» «وكان يوم شديد الأهوال، انتصرت فيه عساكر الشام، وأسرت فيه عدة من البنات والنسوان، وقتلت جملة من الفرسان، ولما أقبل الظلام رجعوا وباتوا في قلق واهتمام، وفي الحادي والثلاثين برز الأمير حسن، وطلب شبيب، فما أتم كلامه حتى صار شبيب أمامه، وانطبق على بعضهما، حتى حجبهما الغبار عن العيون والأبصار، وما زال الأمير حسن يحارب شبيب حتى قرب وقت المغيب.» «وأما الملك شبيب فإنه كان كما تقدم قد أشرنا من ذلك الرمح على العدم ، فلما رأى حاله طريح الفراش، زاد عليه الخوف والارتعاش، وأنشد يقول:
يقول شبيب التبعي بن مالك
قد زال عقلي يا ناس وراح
أتتنى جنوب تلطم على خدودها
وهي في عويل وكثر نواح
فقلت لها تحملي واصبري
إن طلبت باكر ما عز وراح
أنا إن سلمت يا جنوب إلى غدا
ترى الأعادي في بكا ونواح» «ولجأ أبو زيد إلى الحيلة، فسار إلى مضربه، وهو يؤمل ببلوغ مأربه، ولما أصبح الصباح نهض أبو زيد، ولبس أفخر الحلل، وتعمم بعمامة كبيرة، ولبس جبة قصيرة، وغسل وجهه ببعض العقاقير، فصار أبيض مثل الثلج، وأنعم من الحرير، لم يعد يعرفه أحد من الأنام، ثم ركب ظهر كديشة عرجا، ودخل مدينة الشام، وهو في هذا الزي والهندام، وجعل يجول في الأسواق وهو ينادي: أنا الطبيب، أنا الحكيم، فمن كان فيه علة أزلتها عنه بإذن الإله الفتاح. وما زال يطوف ويجول وينادي ويقول: أنا الحكيم، أنا الطبيب، حتى وصل إلى قصر شبيب، وكان لشبيب ولد مثل البدر، يقال له صقر، فاتفق أنه كان هناك، وسمعه من الشباك فقال في نفسه: إن هذا الطبيب رجل غريب، ولو لم يكن من الشطار والحذاق ما كان يطوف في الأسواق، فمرادي أن أتعرف بيه، أو أجعله يداويه لعله يشفيه. ثم طلبه فحضر وسلم، وقال: أنت حكيم؟ قال: نعم. قال: إذا شفيت أبي من هذه العلة والمرض، وأزلت عنه المرض أغنيتك إلى الأبد، وقدمتك إلى أطباء البلد. فقال: إني سأبذل الجهد وأداويه، ولا أخرج من هذا القصر حتى أشفيه. ففرح كل من حضر هناك بهذا الخبر، وزال عن قلوبهم الغم والتكدر، ولم يعلموا بأن الطبيب عدوهم الأكبر. ثم تقدم أبو زيد إلى شبيب في صفة حكيم وطبيب، وهو يترقب الفرصة ليعدمه بالحياة عن قريب، وكان رأسه معصوبا بمنديل، وهو يتنهد من قلب عليل، ففك العصبة، ومسح الدم، ووضع له المراهم، وقال: لقد زالت الأقدار بإذن الواحد القهار. فاتفق أن شبيب فتح عينيه، فرأى أبو زيد حوله فخاف وأندر، وأيقن بالموت الأحمر، فصاح من حلاوة الروح بصوت خفيف: هذا أبو زيد صاحب المكر والكيد. فقال الحاضرون: ما هذا الذي يقول أيها الطبيب؟ قال: يريد أن تملوا الأسراج زيت، أو تخرجوا جميعكم من البيت؛ حتى يستريح أو يزول عنه اليأس؛ لأن العليل تضيق أخلاقه بكثرة الناس. ففرحوا وخرجوا من القاعة، ولما خلى المكان أخرج أبو زيد من جنبه السكين، وذبح شبيب من الوريد إلى الوريد، وقد بلغ قصده، ثم غطاه إلى فوق رأسه وخرج، فسألته عن حال شبيب الجماعة، فقال لها: إنه بخير، فلا تدخلوا عليه إلا بعد ساعة، بينما يكون قد صحى من النوم، ولا بد أن يشفي من علته في هذا اليوم؛ لأني عالجته بأحسن علاج، فلا تكونوا في قلق. فشكروه على ذلك، ووعدوه بالخلع والأنعام ثم ودعهم وسار.» «وأما زوجة شبيب وباقي الجماعة، فإنهم بعد ذهاب أبو زيد بساعة، دخلوا على شبيب، فوجدوه على تلك الحال، وعلموا أن الطبيب كان أبو زيد المحتال؛ لأنهم كانوا يسمعوا عنه أشياء كثيرة، فاستعظموا الأمر، وأخذتهم الحيرة، وأقاموا العزاء والنحيب على وفاة شبيب، وهم يلعنون ذلك الطبيب، وكان لشبيب أخ اسمه الصحصاح، وكان من أبطال الكفاح، قال: لا بد لي أن أتبع هذا الغدار. وركب وسار وراءه، وهو يهدر كالأسد إلى أن التقى به بقرب طاحونة خارج البلد، فلما نظره أبو زيد، ورآه عرف أنه الصحصاح، وأنه يريد قتله ووفاته، فدخل على الطاحون وغير لونه بالأعشاب، ونزع منه الثياب، ثم خرج، ووقف على الباب، فلما وصل الصحصاح إليه اشتبه أمره، فقال له: علمني من صاحب هذا الكديش، فقال في الطاحون، فنزل على ظهر الحصان، وسلمه مع الرمح لأبي زيد، ثم سل سيفه، ودخل إلى الطاحون مثل المجنون، فلم يجد سوى الطحان هناك، فضربه وخرج في الحال، وهو يظن أنه قتل أبو زيد المحتال، فوجد أبو زيد على ظهر الحصان، يتعجب من ذلك الشأن، وقال له: من تكون قافلا؟ فما أتم كلامه حتى طعنه أبو زيد بالرمح في صدره، فوقع على الأرض قتيلا، وسار أبو زيد حتى دخل على الأمير حسن في الصيوان.» «أما أهل شبيب، فإنهم لما علموا بقتل الصحصاح زاد عندهم النواح، وأحضروه لجانب أخيه، وأقاموا عليهما النحيب، فتقدمت جنوب زوجة شبيب ترثيه بهذه الأبيات، وزادت عليهم الحسرات:
تقول جنوب الخير بما جرى
بدمع جرى فوق الخدود سكيب
الأيام والدنيا كفى الله شرها
ومن عاش فيها ينظر التنكيب
فما أضحكت إلا بكت بعد ضحك
ها، فيا لها من حسرة بعد شبيب
ألا يا نجوم الليل عاملينه
لعل أوجاع الفؤاد تطيب
شبيب الذي فرقع له الرعد بالسما
وصاحت دونك العرش مات شبيب
شبيب الذي ما رأت البرك مثله
وما ربت الدايات مثل شبيب
شبيب الذي يلقى الضيوف بفرحة
ومسرة ولو كان الزمان جديب
فيا ليت من كان السبب بفراقنا
يقتل بحد الماضيات قريب
ألا يا حمام النوح توجهوا واندبوا
وابكوا عن فقد الأمير شبيب
يا هل ترى الأيام عادت تلمنا
وتجمعنا به بوقت قريب
شبيب الذي بكته الناس كلها
وصاحت ديوك العرش مات شبيب
تقول فتاة الحي مما أصابها
ولا عيش لي بعد الحبيب يطيب» «فلما فرغت هذه المرثية جعلت تبكي وتنوح من فؤاد مجروح، وتلطم على خدودها من شدة الأسف، وتقول: والله لقد انهدم شبيب العز والشرف. فبكت الناس لبكاها، وعزوها على ما دهاها، ثم أجلسوا شبيب على كرسي من الذهب الأصفر، مرصع بالدر والجوهر، وألبسوه عدة الحرب، وبكوا على ملكهم حتى كثر الصياح، وارتفع البكاء والنواح، وتكسرت السيوف والرماح، ثم تقدمت جنوده وهي ترقص بالسيف.»
وتوغل السيرة في سردها لتفاصيل الأحزان التي عمت دمشق، وطقوس الدفن واستخدام الإيقاعات العنيفة من سيوف ودفوف، عبر طقوس الانفصال، كما أسماها فان جنب، أي انفصال - روح - الميت عن الأحياء.
فلقد وصلت المناحة إلى حد رصد السيرة عبر ما تقدمه وتسوقه إلينا من معلومات إثنوجرافية تلقي المزيد من الضوء القوي على الكثير من الممارسات الشعبية التي ما يزال جانبها الأعظم سائدا لدى مجمل شعوبنا وكياناتنا العربية، منها الكيفية - الآسيوية - التي انتحرت بها تلك الزوجة النائحة «جنوب»، حين وضعت رأس السيف في بطنها، بينما قبضته في الأرض، وظلت ترقص في عنف من حوله، ثم انكبت عليه، فخرج يلمع من ظهرها، عندئذ ضج الجميع بالعويل.
الهلالية في القدس وغزة
وعندما استقر الرأي للهلالية في حكم دمشق، ولى السلطان حسن الهلالي الأمير صقر أمرها بدلا من أبيه التبع.
ثم أمر بدق طبول الارتحال، فهدمت الخيام والمضارب، وركب الفرسان باتجاه القدس وفلسطين التي وصلوها بعد ستة أيام، فنزلوا خارج المدينة، وزاروا الأماكن المقدسة، ومنها رحلوا بعد عشرة أيام باتجاه «غزة بقلوب معتزة.» «إلى أن عملت طلائعهم على جمع المعلومات عن ملكهم السركسي بن قارب، وهو صاحب جيوش ومواكب، وعنده خمسمائة ألف من الأبطال، والذي ما إن بلغ خبر اجتياح الهلالية لبلاده فلسطين، حتى تكدر واستشار وزيره وقائد جنده الأمير راشد.»
وبدور حاكم غزة، أرسل عيونه وبصاصيه لمعرفة قوة وحجم الجيش الغازي لبلاده، وعاد إليه من يخبره بما عنده من الخيل والجمال والأموال، «فعددهم أربع تسعينات ألوف من الذكور، وبناتهم مثل البدور»، وعلى عادة ما هو متبع بالنسبة لسيرتنا هذه، طالبهم السركسي بعشر المال:
إلى حسن أمير قيس وعامر
أمير البوادي في الملوك جليل
فأرسل لنا عشر المال مع الغنم
وعشر النسا جمالكم والخيل
هاتوا فتاة الجازية أم محمد
لها عيون سود وطرف كحيل
وأرسل عطور بنتك بلا خفا
بعيون سود مكحلات رميل
وريا ووطفا بعدها
ليس لهم بين النساء مثيل
وبالطبع ما إن قرأ الأمير حسن الهلالي على شيوخ القبائل رسالته، حتى أرسل له معلنا الحرب:
اسمع ترى يا سركسي لمقالتي
فأنت تريد الجازية قنوع
تطلب بنات محصنات كواعب
وتريد أخذ سيوفنا ودروع
فما لك عندي سوى السيف والقنا
أجمع عليك من دريد جموع
والمقصود بدريد هنا، قبائل دريد.
وهكذا اندلعت الحرب بين الهلالية وحاكم غزة الذي نازلهم بثلاثة آلاف فارس في أول معركة، نازله فيها أبو زيد على رأس القوة الهلالية.
إلا إن السركسي - كما تصفه السيرة - كان «أفرس زمانه، وكانت تضرب به الأمثال وتهابه الفرسان.»
لذا سجلت السيرة اندحار أبي زيد أمامه وعودته منسحبا مكورا إلى مضارب بني هلال، حتى إذا ما تلقته نساؤها تتقدمهن الأميرة «عطور الجيد» ابنة السلطان حسن بن سرحان، ليسألنه عما جرى، أجابهن مسرورا معترفا بهزيمته، إلى حد قوله إنه أصبح «زمن النساء»:
قال أبو زيد الهلالي سلامة
والدمع من فوق الخدود سيجام
أيا عطور الجيد إن السركسي
يشبه الذئب قد حظي بغنائم
روحي وقولي لأبيك أبو علي
ينزل إليه باكر ويهاجم
ما دامن النسوان تولى في الورى
تظهر فوارس كالسباع تصادم
هذا السركسي ما أحد يصادمه
إذا قام في ظهر الحصان يلاطم
فامضي إلى حسن الهلالي والدك
وقولي له أبو زيد ولى هزايم
حتى إن البنات استعظمن الأمر، واستقر الرأي بهن إلى اللجوء إلى دياب بن غانم، يناشدنه منازلة السركسي.
وما إن استجاب لمشورة السلطان حسن ونساء هلال المحرضات على القتال، حتى نزل إليه، إلا أن دياب بن غانم بدوره، تخاذل أمام هجماته، وانسحب إلى صيوان السلطان حسن، فلما شاهده بادره من فوره: «أراك في خوف واضطراب!»
فأجابه:
السركسي ما رأيت مثله فارس
يفتح على الحروب أبواب
ما له مثيل في الهلال وعامر
أيضا، ولا في ساير الأعراب «فانهزم الأمير دياب ببني زغبي، وأبو زيد ببني زحلان، والأمير حسن والقاضي بدير ببقية الفرسان، وتبعهم الوزير راشد، وشتتهم في جوانب القفار مسافة ثلاثة أيام، وكسب منهم غنائم كثيرة وأموال غزيرة، ولما أظلم الظلام رجعت الفرسان عن بعضهم البعض، ورجع الوزير والجمال، وصارت بني هلال مشتتين في البراري والتلال، واجتمع الأمير حسن والأمير دياب والأمير أبو زيد وأكابر الديوان، وأخذوا يتشاورون في خلاص ما أخذه منهم قوم السركسي، وكيف يقتلوا الوزير الذي كان سبب هذا البلاء.»
قال الراوي: «وكان للأمير حسن ابن أخت شديد البأس قوي المراس، يسمى الأمير عقل، وكانت أوصافه ممدوحة مستحسنة، وعمره أربع عشرة سنة، فلما رأى ما جرى وكان، وانهزام الأبطال والفرسان من قتال السركسي في ساحة الميدان، واستعظم ذلك الشأن، فجاء إلى عند خاله الأمير حسن، وتعهد له بقتل السركسي، وإزالة الكروب والمحن، بشرط أن تذهب معه النساء والبنات، ليشجعوه في الحرب والثبات، ثم إنه بعد ذلك الكلام أنشد هذا الشعر والنظام:
يقول الفتى الأمير عقل بما جرى
ونيران قلبي زايدات وقيد
أنا فارس الفرسان في حومة الوغا
أخلي الأعادي بالفلاة شريد
فنادي بنات هلال تأتي بسرعة
ونادي لنا أم الأمير شديد
ونادي الجازية أم محمد
وغيا وريا ثم أم الجيد
ونادي لوطفا بنت عمي وزينب
وعليا ونجلا حسنهن يزيد
قاربك فعلي فيه يا أبو علي
وأريه طعنا في الجمال شديد
على ظهر حمرا ليس يوجد مثلها
أنا فوقها قوم أصيل عنيد» «ثم إن الأمير حسن أمر الجازية أن تنتخب في الحال مائة بنت من خيار البنات الأبكار اللواتي يشبهن الأقمار، فحضرت بهن عند أخيها، وقالت له: ماذا تريد أن أفعل؟ قال: تذهبي مع البنات ومع الأمير عقل إلى ساحة الميدان، وتنشدونه الأشعار الحسان كما فعلتم مع غيره، حتى يتحمس على قتل السركسي بن نازب. فلما سمعت الجازية كلامه، قالت: كيف نذهب مع عقل، وهو ولد صغير السن؟! أليس هو صغير السن والقتال؟! إذا كان أبو زيد ودياب لم يقدروا على السركسي، فكيف يقدر هذا الصبي؟! وربما يأسرنا السركسي وتبقى معيرة بين الأعادي.» «وفي الحال ركبت العماريات أمام الفرسان والأبطال، واعتقلوا بالرماح والنصال، وقصدوا ساحة القتال.»
وهكذا لعب هذا الأمير الشاب الجديد عقل دورا في إنقاذ التحالف القبلي في فلسطين، بصموده أمام جحافل جيش السركسي، وإمداداته التي رجحت كفة قواته عليهم.
وأما بنو هلال فإن الأمير حسن بعد رجوعه إلى المضارب دعا الأمراء لهم: «نحن رجال قصدنا الوصول إلى تونس الغرب، لنخلص أسرى الزناتي خليفة بالحرب، والرأي عندي الآن أن نهجم في الصباح بالأبطال والفرسان، ونحارب أعداءنا حتى نبلغ الآمال، ونسير بالعجل من هذه الأطلال، ويركب الأمير دياب في بني زغبي الشجعان، والقاضي بدير، والخفاجي عامر مع الأمير زيدان الرياشي مفرج وعرندس الألزعي والأمير عقل يقصدون الميدان والأمير أبو زيد يركب في بني زحلان، ويقصدون أبواب غزة بعد حضور السركسي إلى الميدان .» وهكذا تم الاتفاق. «هجم الأمير عقل وزيدان، واقتلعوا السركسي من ظهر الحصان، وارتقاه بالسلاسل والقيود، وأخذاه إلى الخيام، وبلغوا المقصود، ولما بلغ أبو زيد هذا الخبر فرح.» «وهكذا دخلت بنو هلال غزة بقلوب معتزة، فغنموا الأموال، وخلصوا صباياهم من الاعتقال. وفي اليوم الثاني أقبلت أهالي البلد والأكابر والعمد، وطلبوا من الأمير حسن الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل مناديا ينادي بالأمان الاطمئنان، فاستكنت الأحوال، واستبشر بنو هلال، ثم حشرت قواد الفرسان والأمراء عند الأمير حسن، فشكرهم وغمرهم بالعطايا ثم أحضروا عقل، وأكرموه على ما أبداه من الحرب والصدام، وقلده الأمير حسن مقام الأمراء العظام، وألبسه سيفا مرصعا بنفيس الجواهر.» «فتقدم الأمير زيدان شيخ الشبان، والتمس من الأمير حسن أن يأمر بعمل عرس لأولاد الأمارة الذين حان وقت زواجهم، حيث تمت الحروب، واسترحنا من الشدائد، وركبت أولاد الأمارة فوق الأمهار والأبراش، وعملوا عراضة عظيمة، وبعده عملوا عرسا بالمسرات، رقصت أمامهم النساء والبنات أيام.» «وأحضروا السركسي مقيدا بالأغلال وهو صامت، وأدخلوه عند الأمير حسن يطلب العفو، وكان الأمير أبو زيد عن يمينه والأمير دياب عن شماله، فهدده الأمير دياب بالعقاب والانتقام على ما جرى، فحينئذ طلب منه العفو والأمان، وقال: يا دياب يا شتي هو سبب الأذية والضرر، وكان سببا لسبي النساء.» «فأمر السلطان حسن بإطلاق الأغلال عنه، وقال: يا سركسي العفو عنك إذا حفظت الشرائع الملوكية، وهي أوصيك بمحبة الله، وحفظ شرائعه ووصاياه ما دمت على قيد الحياة، ولا تكون لحوحا في الكلام، ولا مدمنا لشرب، بل حافظا لزمام الاحتشام، متخلقا بأخلاق الكرام مع الخاص والعام، متجنبا كلام الهزء والهذيان، واقيا نفسك من عثار اللسان؛ لأن سدود الأحرار قيودها، فمن صان نفسه ملك أمره، ومن باح لم ينجح. وزاد: واحذر يا سركسي من النساء الأشرار، فإن مكرهن عظيم، وخطواتهن تؤدي إلى قاع الجحيم؛ لأنهن أصل الأذى والضرر، وهن أغدر من كل إنسان، وإياك أن تغفل عن أحوال الرعية، وتتعدى القواعد الهلالية، وتخلف قوانين وشرائع الملوكية، بل سالكا الطريق المرضية، معاملا الكبير والصغير بالسوية، رافعا لشكوى المظلوم حجابك، فاتحا في وجهه بابك، واضعا الأشياء في محلها والمناصب في يد أهلها، ولا سيما ولاة الأنظار وأرباب الوظائف الكبار، فينبغي أن يكون هؤلاء الرجال من خواص العيان ومن أهل الفضل، فإذا كانوا على هذه الحالة تستقيم أحوال الرعايا، وينشر العدل في كل مكان، فترى الذئاب مع الغنم، وتبات العصافير في الرخم.»
وهكذا استتب الأمر لبني هلال في القدس وغزة، عقب وصايا السلطان حسن لحاكمها، وما إن دقت طبول الرحيل، حتى وقعت حادثة جديدة للأمير جابر والد زوجة أبي زيد العالية.
حيث تمكن أحد أمراء الشام وفلسطين، ويدعى البردويل بن راشد حاكم العريش، من قتله «بوسط عكا»، وسبى العالية زوجة أبي زيد، إلا أنه تمكن من قتله، واسترداد زوجته التي سباها ملك العريش، واتخذت الهجرة الجماعية طريقها إلى مصر.
الهلالية في مصر
ويبدو أنه عن طريق العريش، وعبر برزخ السويس قدمت جحافل الهلالية المهاجرة الغازية إلى مصر - العليا - مرورا منها إلى ليبيا وتونس؛ لتحط رحالها في أرض تونس الخضراء، بحجة تحرير أسراهم «يونس ومرعي ويحيى» الذين احتجزوا بسجن القصر المنعزل البديع المطلي بالرصاص، للأميرة سعدى ابنة حاكم تونس وفارسها الزناتي خليفة.
وعندما وصلت الهلالية إلى مصر، كان قد مضى سبع سنوات على احتجاز الأمراء الهلاليين الثلاثة، وإيداعهم سجن سعدى، التي أحبت - الأوسط - مرعي إلى حد العشق.
هكذا يخبرنا الرمال المنجم الذي استقدمه حاكم مصر في ذلك الحين، ولقبه «فرمند مصر»، الذي رأى حلما أرعبه:
رأيت نارا أضرمت في بلادنا
قد أحرقت أشجارها وأكرام
رأيت سباعا ماليا السهل والفضا
ومعهم لبوات بحسن قوام
فوليت نحو القصر هارب مرتعب
ألا وطير أبيض على حام
ضربني بمنقاره وحط مخالبه
في وسط قلبي والدما قد عام
وعلى هذا فمن المرجح أن ذلك الرمال أو النجام الذي توجه إليه «فرمند مصر» بالاستشارة، كان يعمل لحساب بني هلال، ذلك أنه أعظم من شأنهم وقوتهم ناصحا بعدم التعرض لهم، وهم في طريقهم مرورا إلى تونس والمغارب، للإفراج عن أسراهم، ملما بتفاصيل أحداثهم:
محابيسهم عند الزناتي خليفة
لهم عنده مدة سبع أعوام
وعلى الفور قدم إلى الملك - الفرمند - حاكم الصالحية؛ ليخبره بوصول بني هلال، بل ودخولهم عليه في هيئة نساء سبايا هدية من سلطانهم حسن بن سرحان في أعقابهن أبو زيد الهلالي بلباس ومكياج مهرب الكواعب «قشمر بن منصور». «فاستبشر الملك وشرب كثيرا، ومدت الموائد، وعند ذلك غنت البنات، ودقت على الآلات حتى كاد يرقص القلب، وكان الملك وقعت عينه على الجازية فهام بها، وتعلقت نفسه؛ لأنها كانت جميلة المنظر، فأجلسها على جانبه، والتفت إلى أبو زيد: من تكون هذه يا قشمير؟ فقال: هذه الجازية ذات الوجه الحسن أخت الأمير حسن. فالتفت إليها، وقال لها: غني لي على الكأس يا صبية الجمال، فإن قلبي قد مال. وما زال يشتد عليها، ويتذلل إليها حتى أجابته إلى مناله، وأخذت تغنيه بهذه الأبيات تقول:
تقول الجازية بقلب محروق
فنحن اليوم قد جئنا هدية
هدية من أبي مرعي الهلالي
أمير البوادي والرمية
أخي ابن سرحان المسمى
أمير ابن أميرة برمكية
وجئنا لمصر عندنا حلائل
ولا عاد فيه رواح ولا مجية
تقول الجازية من قلب محرق
أيا حيف الزمان أحيف عليا» «فلما فرغت الجازية من كلامها، أطرب الفرمند من نظامها، وشرب الكأس عن اسمها، وهو يتأمل في محاسنها وبياض جسمها، ثم أمر قشمر أن يملى له كأسا آخر، فملأه وناوله إياه، فأخذه وتقدم وطفا بنت الأمير دياب، وقال غني على هذا الكأس يا بنت الأمجاد، فجعلت تغني وتقول:
تقول وطفا فؤادي اكتوى
بدمع جرى فوق الخدود غزار
يا أمير مصر اشرب واسكر بالهنا
وانظر بناتا تشبه الأقمار»
حتى إذا ما وصل حاكم مصر إلى أقصى نشوته، وضعن له البنج أو العقاقير، وأخرجوا فرسانهم من داخل الصناديق، بحسب الحيلة الطروادية الشهيرة، ودارت معركة داخل مخدع فرمند ذاته، تذكرنا بذات الخدعة التي أحدثها كليب الفلسطيني بمشاركة خطيبته الجليلة بنت مرة داخل مخدع التبع الغازي للشام وفلسطين، حسان اليماني.
إلا أن الحيلة هذه المرة لم تأت فعلها السريع، فامتدت الحرب بين الهلالية وفرمند مصر وابن أخته الأمير محمود، إلى أن قتل أبو زيد محمودا، وسقطت القاهرة في أيدي الهلالية الدخلاء.
وتستطرد السيرة في تقديم محصلة من المعلومات - الإثنوجرافية - المفيدة للمصريين وطبائعهم في ذلك العصر الوسيط.
وكذا المسجد الذي شاده الذي شاده السلطان حسن الهلالي بها والذي ما يزال موجودا إلى اليوم. «فلما رأى المصريون تلك الأحوال خابت منهم الآمال، وأيقنت الهلاك والوبال، واجتهدت أن تخلص جثة ملكها فما قدرت، وقد أهالها ما رأت وأبصرت وامحلت عزايمها، وتأخرت واشتد عليها الحصر، وخاب أملها في النصر، فرجعت وطالت مصر، وهي على أسوأ حال لا تعرف اليمين من الشمال، فتبعتهم بنو هلال على الأقدام، وفي مقدمتهم أبو زيد ودياب وزيدان شيخ الشباب، وحكموا فيهم ضرب السيف القرضاب على الأجسام والرقاب، حتى دخلوا البلد وهم في حالة الذل والنكد، فلما رأت أكابر المدينة والأعيان ما جرى، وكيف أن الفرمند شرب كأس الهوان، وما خرجوا إلى عند السلطان حسن بن سرحان، وطلب منه العفو والأمان، فأجابهم إلى ذلك الشأن، وأوصى الأبطال والفرسان، لا ينهبوا من أمتعة المدينة لا رخيصة ولا ثمينة، بل يكونوا في هدوء واحتشام إكراما لمزارات الأولياء، ومقامات العلماء والعظماء، وكان للفرمند، ولد مقتدر اسمه الأمير منذر، فأحضر إليه قبلة بين عينيه، ثم ولاه مكان أبيه بحضور أكابر البلد والذوات والعمد بعد أن أوصاه أن يتصرف بحسن السلوك، ويتخلق أخلاق الملوك، ثم قامت الأفراح، وزالت الهموم والأتراح، وكان السلطان حسن قد استحسن مصر كل الاستحسان لكبرها، وما فيها من الأبنية الحسان، فصمم أن يبني له فيها على اسمه جامعا ليكون ذكرى له على طول الزمان، فأمر البنايين والمهندسين ببناء الجامع المذكور في ظرف ستة شهور، فأجابوه إلى ذلك المرام، وبعد أن تم بتمام، أمر أن يفرشوه بنفيس الفرش، وينقش حيطانه بأحسن النقش، فامتثلوا أمره في الحال كما قال، فكان جامعا عظيم المنال، يزهو كالهلال، وكان مكتوب على بابه بالذهب هذا جامع الأمير حسن الهلالي سيد العرب.»
وبالطبع، فإن الجامع ما يزال قائما إلى أيامنا - كما ذكرنا - ويعرف بجامع السلطان حسن.
ولم يمكث الهلالية كثيرا في مصر، بل واصلوا رحيلهم إلى ليبيا، لكن في الطريق وقعت عدة أحداث، منها المشاحنات المتجددة بين العالية بنت جابر زوجة أبي زيد والجازية خاصة بالقرب من عيون الماء المتفجرة التي تسميها السيرة بالمخاضة، حين سبت الجازية العالية «يا عشيقة عبدنا»، وكانت تعني أبا زيد.
ومنها ذلك الحب المشتعل من فوره بين الأمير ماضي بن مقرب وبين الجازية، وحين حاول التقرب منها بالزواج، نصحه المقربون منه بطلب فرس دياب بن غانم «الخضرا»، وفي حالة رفض مثل هذا الطلب؛ لأن روح دياب بن غانم في فرسته هذه يطلب بدلا منها الجازية، مع ملاحظة توحد المرأة بأنثى الحصان، بل وأهمية فرس دياب هذه التي سيساوم حين موتها بأخذ تونس عوضا عنها ... إلا أن السلطان حسن الهلالي حقق طلب ماضي بن مقرب، وأرسل له الخضرا، فردها بدوره مع هدايا كثيرة، طالبا الزواج بالجازية:
يقول الفتى ماضي بن مقرب
بدمع جرى فوق الخدود بدار
أرسلت لك خضرا دياب بن غانم
وأبذلت فيها أموال ثم جياد
ونحن نعرف يا أمير مكارمك
وكفك سخي طول المدا مداد
وأنت نعم الطلب عالي الحسب
أريد منك النسك بلا ميعاد
أريد فتاة الجازية أم محمد
وهي بنت عمي بغيتي ومرادي
فخذ مني ميتين فتاة الجازية أم محمد
وميت حصان أدوجى شداد
وميت يمني حرير صنعة اليمن
وميت حمل من عمل بغداد
وميت عبد يا أمير وعبدة
وميتين سرية من الأعباد
وميتين مملوك من الترك أصلهم
وألفين سيف صنعة الهناد
وألفين حربة صنعة أبو جيارة
مركبة يا أمير على أعماد
وميتين درع يا أمير وخوذة
وألفين دبوس من البولاد
وخد لك ثمانين من الدراهم
ذهب مصري يعب للنقاد
مقال الفتى الماضي بن مقرب
وأنت لنا يا أبو علي أسناد
وما إن قرأ سلطان بني هلال خطاب ماضي بن مقرب، حتى استدعى الجازية، وأخبرها بطلبه، فذعرت الجازية فكيف يحق لها الزواج، وهي زوجة الأمير شكر أمير مكة، وأن ولديها محمد وعمر، وهي التي ضحت بزوجها وولديها، لترافق قومها وقبيلتها، بمعنى أن ولاءها هنا إنما للقبيلة أولا قبل الزوج والأبناء.
وما فرقة الأولاد إلا مصيبة
فما يدخل عيني قط سهاد
وهنا أرسل السلطان يستأذن زوجها أمير مكة، وحصل منه على موافقة بالتخلي عنها للزوج - السياسي - القادم الفرمند حاكم مصر العدية.
وهكذا تم الزواج بالفعل بين الجازية، وذلك الأمير ماضي، وتصف السيرة الفرح أو العرس المصري على نحو لا يختلف كثيرا عما يتواتر ممارسته إلى أيامنا. «وكان الماضي قد زين القصر بأنواع الحرير والقماش الفاخر، واستقبلهم أحسن استقبال، ونزلت العروس عند الحريم، ثم دارت الحلويات وكاسات الشربات على مائدة الأمراء والسادات، وبعد ذلك حضرت سفرة الطعام، وفيها من جميع اللحومات كالضأن والدجاج. وبعد أن أكلوا وشربوا ولذوا، رقصت النساء والبنات، وغنت المغنيات بأنواع الأصوات، واستمر الحال والقوم في فرح وسرور مدة ثلاثة أيام، واتفق في اليوم الرابع أن استأذن الأمير حسن من الماضي بالمسير لبلاد الغرب، فقال الماضي: أيها الملك تقوم عندي في هذه الأطلال، فبلادي واسعة كثيرة المراعي والأوفق نبقى معا.» «ولما صممت بني هلال على الذهاب والرحيل، جعلت الجازية تبكي بدمع غزير؛ لأنه لم يكن صبر ولا سلوان على فراقهم، فلما زاد عليها الحال أكثرت من النحيب والأعوال، فانزعج الماضي، وسمح لها بالذهاب معهم إلى الغرب، ففرح بذلك الأمير حسن، وحالا أمر الفرسان بالركوب، فركبت الفرسان، وساروا قاصدين بلاد الغرب، فعند ذلك ركب الماضي بالفرسان، وساروا بصحبتهم مسافة 3 أيام، ثم حلف حسن عليه بالرجوع.»
وما إن وصل الهلالية تونس، حتى نزلوا بين جبلين بوادي مزهر اسمه وادي الرشاش.
وعلم الزناتي بخبر وصولهم على نحو - إثنوجرافي - ملفت، ذلك أنه طلب من ابن أخته الذي هو في موقع وزير داخلية تونس، العلام بن غضيبة المضي إلى الصيد والقنص، حتى إذا ما عاد بصيده ووضعه أمام الزناتي بادره: «يا علام، ما هذا الذي أرى؟ فلم يجلب لنا هذا الصيد إلا العجائب!»
1
فبادره العلام من فوره: «وأنا إقول إن ما جلب ذلك لنا ليس سوى العبد الذي حبست رفاقه
2 ... وها هو يحضر قومه بجحافلهم لاستباحة بلادنا.» وأنشد:
يقول الفتى العلام ولد غضيبة
لقد بان عندي يا أمير حروف
فهذا عربان الهلالي أبو علي
عليهم الذهب وهم قاعدين دفوف
هذا ملكهم ابن سرحان يا ملك
أمير ابن أمير سيد المعروف
وكالعادة، حاوطت المخاوف الزناتي خليفة، فجمع مجلس حربه، وعلى رأسه ابن أخته الأمير الملقب بالهصيص، الذي هون من مخاوف الزناتي، وهو الذي «تحت يديه أربعة وعشرون أميرا، وكل أمير يحكم على مائة ألف عنان»، وأمره الزناتي بإحضار قلم وقرطاس، وأشار إليه أن يكتب إلى ملاك بلاده على طول الديار التونسية والمغرب العربي، الأندلس وشبه جزيرة أيبريا بعامة وما بها من ممالك ودويلات، سبق أن غزاها ذات هذا التحالف العربي الهلالي، وفي طليعتهم الفينيقيون من شعوب بحرية لبنانية وفلسطينية وسورية، منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، حيث حطوا رحالهم أول أمرهم في قرطاج أو تونس، انطلاقا منها إلى إسبانيا والبرتغال، أو ما يعرف فيما بعد بالأندلس، حيث وصلت الدويلات أو المدن الدول العربية إلى 14، منها بنو الأحمر، وبنو طليطلة، وبنو الزيري، ومظلوم ... إلخ.
وهكذا ما إن اندلعت الحرب بين الهلالية، وتحالف الزناتي، حتى نازلهم في البداية أخوه الأمير الهصيص، الذي تولى منذ البداية تجميع تحالفهم القبلي على طول المغرب العربي والأندلس، كما يتضح من قصيدته هذه:
يقول الفتى الهصيص قام لحربي
والنصر بالله والسيوف الجدب
يا حاضرين اسمعوا ثم انهضوا
قوموا وسيروا لبلاد الغرب
وأنت يا علام روح بالأندلس
إياك تحكي أو تنادي تكسب
وأنت يا منصور روح لفارس
هات لهم أبدال من صبي
وأنت يا زيتون روح لقاعة
قول لهم أتوك ركبي
وأنت يا عضرون روح لناسة
حتى يقفوا كأنهم بالضرب
وأنت يا ضرخام روح لمغيرة
أيضا بلاد الكرم قوم النجب
وأنت يا مقداد روح المندرة
وأرض زبلالي يجونا بقربي
وأنت يا شمعون روح لأكرة
وقول لهم القوم عادت قربي
وأنت يا طلهيان روح لباجة
وقول لهم عادت قربي
وأنت يا عماد روح لأغمداس
ولجبل ولد يروم ابن المتنبي
وأنت يا جفال
3
روح لكسرة
مثل الهبوب وقل لهم يا غضبي
وأنت يا رداح روح لتراة
للمير وسليمان المغربي
وأنت يا فراج روح وانهض
ونادي لكركم ثم بلاد العنب
وأنت يا عجاج روح لتغريب
لأرض مراكش ثم لأرض السلب
وأنت يا بليص روح لتورس
إلى أرض ثم أرض القصب
وأنت يا حماد روح ونادر
لأرض مكناس وبلاد الشهب
وأنت يا بولاد روح لحربة
ودور كل دايرة المنهشبي
وأنت يا شداد روح لقابس
دعهم يقيموا عند باب الدرب
وأنت يا عبود روح عن بجي
ونادي بأعلى الصوت حاكم كربي
وأنت يا حماد روح مقصد
واركب جوادك لبلاد الهدبي
وأنت يا سليمان أظهر الخبر
في قيروان وقابس الغربي
وأظهر الأخبار بأعلى صوتك
في أجهر العلا تغيبي
وبالطبع اندلع القتال بين الهلالية وفرسان تونس والمغرب العربي بعامة حتى الأندلس، كما يتضح من القصيدة السالفة، والدعوة للتحالفات القبائلية التي كانت تتزعمها في ذلك الوقت تونس أو قرطاج.
وفي البداية نازلهم العلام بفرسانه، مستخدما الحيلة والكمائن التي اشتهر بها، ذلك أنه حاصر الهلالية بدءا من المؤخرة بدلا من المقدمة ليسبي مؤنهم وخيولهم ومواشيهم، وبالفعل أثار فيهم وفي صفوفهم الذعر والتشتت، مما دفع بالنساء والأطفال إلى الاستغاثة بالسلطان الهلالي طلبا للحماية، فما كان منه إلا أن جمع مجلس مشورته وفي المقدمة «الجازية»، الذين بعثوا في طلبها من ليبيا، على اعتبار أن لها الكلمة العليا، فللجازية ثلث المشورة، وهكذا أجمعت المشورة أو الشورى إلى انتداب الأمير دياب بن غانم إلى حماية المؤخرة، حيث إمدادات ومؤن الحرب، من خيل وماشية ومأكل وربما سلاح وعتاد وعبيد ونساء وعجائز ... وهكذا.
ووافق في النهاية دياب بن غانم على هذه المهمة القاسية في حماية الخيل والنساء على مضض، بل إن تلك الواقعة ستظل سببا دفينا مؤرقا لدياب للانتقام المتجبر فيما بعد من الهلالية - القيسيين - لاعتقاده الراسخ فيما انطوت عليه مهمته هذه من إهانة، بانتزاعه من القيادة والمقدمة، إلى حيث يصبح مكانه الذيل والمؤخرة، وهو الذي هاجمه أعداؤه على الدوام واصفين إياه بدياب الخيل.
والملاحظ أن السيرة تطلق على إمدادات الحرب من بهائم وخيول ورعيان وعجزة، تعبير «البوش».
وهكذا ساق دياب ذلك «البوش»،
4
وسار به إلى وادي يطلق عليه وادي الغبارين، فرأوا فيه «الزهور فاتحة المياه سابحة»، فأوصلهم أبو زيد ودياب ينشد مشيرا إلى أزمته الداخلية التي ستدفع به إلى التسلط والديكتاتورية، وانتزع كل السلطة له على الغرب عامة، فيما يلي من فصول وعقب فتح تونس، منشدا:
أنا دياب بن غانم يا حسن طيب
لا تخافوا علي لو سطى الديب
طيبا لقلبك علي بوشك يا ملك
ولا تخافوا علي في المخاريب
المال مال ما يدنو عليه أحد
إني مجرب بإذن الله تجريب
أنا ابن غانم وكل الناس تعرفني
فعل شهودي تعرفه الأقاريب
وأنتم كونوا حذارى نحو أنفسكم
وحافظوا على حريمي والمراكب
ثم احضروا للزناتي حين يطلبكم
كونوا قوما عرايس في المضارب
أنتم هلال ما حد يقهركم
حكمتم الأرض شرقا وتغريب
كم من ملك عدا عار ملكه قهرا
ودعيتم قومه شرقا وتغريب
الهند والسند ثم السريب واليمن
كل الملوك بقوا مهاريب
وهكذا ودع أبو زيد الأمير دياب بن غانم بأروع أشعاره دون إنقاص من قدره وقدراته:
كم وقعت أشفيت هلال
أنت يا زكي الجدود
لكن هيهات، ذلك أن مغتال أبي زيد عقب فتح الغرب وحكمه دون شريك، هو بذاته ... دياب بن غانم الزغبي.
وتشتد ضراوة المعارك بين الهلالية بقيادة أبي زيد والتحالف المغربي بقيادة الزناتي خليفة وأخيه الأمير الهصيص.
ويبدو أن أبا زيد الهلالي تفرد في تلك الوقائع بمبادرة اتخاذ القرار بالحرب وحده، عقب رحيل دياب بن غانم لحراسة المؤخرة، ذلك أن السلطان حسن استدعاه إثر غزوة أبلى فيها أبو زيد إلى حد قتل الهصيص، لكن دون مشورة، فجمع السلطان مجلس المشورة أو الحرب، وواجهه: «لماذا يا أبا زيد تقاتل القوم أنت بنفسك دون أن تخبرني، ما عدت تركب معنا.»
وأمره بالامتثال للسجن، ووضع قدميه في قيد الحديد بإرادته واختياره.
وبالفعل امتثل أبو زيد للقيد، ووضعه في رجليه، واقتعد صيوانا للسلطان حسن الهلالي.
لكن في صباح اليوم التالي، ما إن دقت طبول الحرب، وعلم الزناتي بغياب أبي زيد، حتى استشرى في قتال الهلالية.
إلا أن أبا زيد فاجأ الزناتي وقواده بنزوله المعركة، ورد جنودهم منسحبين مدحورين إلى أربع عشرة مرحلة أو انسحاب، إلى أن دخل الزناتي أبواب المدينة، وأغلقوها من خلفه، بعد أن خلع أبوابها بحرابه مشرفا.
اغتيال الخفاجي عامر وابنته دوابة
وكما ذكرنا، فإن الخفاجي عامر شخصية تاريخية، ترد بسماتها مترددة في الكثير من المصادر الكلاسية العربية كأحد الملوك اليمانيين الذين حكموا العراق، وإنه آثر الانضمام إلى ذلك التحالف - القمري - الهلالي لريادة الغرب وفتحه، هو وأبوه الأمير الشيخ ضرغام، وابنته دوابة التي تسمى بها على عادة الآلهات القمريات، أبو دوابة، مثله مثل سالفه حسان اليماني، أبو تدمر التي أصبحت مدنا وحضارات تسمت باسمها - الطوطمي - تدمر، ومثل المهلهل أو الزير سالم أبو ليلى وأخيه الأكبر كليب - ملك العرب - أبو اليمامة، وهي بدورها «اليمامة» أصبحت مدنا وحضارات، مثل بقية أبطالنا، أبو وطفة دياب بن غانم، وأبو سعدى الزناتي خليفة ... وهكذا.
وتحفظ مأثورات الشعر الشعبي المصري والعربي الشفاهية، آلافا مؤلفة من أبيات الشعر الشعبي حول اتخاذ الخفاجي عامر قرار التخلي عن جاهه وسلطانه ومصاحبة الهلالية باتخاذ مكانه ومعه قبيلته، بأخذ المكان في الصف - العربي - فاتحا ومعربا، منها:
يوم غرب النجع
1
ياما بكى درغام
قال بيض الليالي مضت
واللي بقى صار غام
رايح تغرب يا أبو دوابة
وفايت الاصطبل والخيل فيه
ما بكى ضرغام وقال بيض الليالي
مضت واللي بقى صار غام
ما بكيت بنته دوابة وقالتلو
يا أبا أن شايفة عينك ع السفر حاتزول
ضرغام أبوك كبر وأمك شولة
عقلها حايزول
الغربة تربة يابا تقل الأصول وتزول
فقال النجع:
بطلي يا دوابة مع الناس دول حانروح
العلام أخويا وصاحبي بالروح
ومكتوب على باب تونس قايمة في اللوح
تفنى الخلايق وكل العباد حاتزول
وهكذا اتخذ الخفاجي عامر أو النجع قراره بالانضمام إلى التحالف الهلالي، حتى إذا ما اشتد أوار الحرب بين الهلالية، الذين وصلوا بزحفهم وحصارهم أبواب تونس السبعة، بنفس ما فعله الإغريق مع الطرواديين لذلك الحصار الذي دام عشرة أعوام.
ويبدو أن دفة الانتصارات قد تراجعت هذه المرة لصالح الزناتي وقومه أو تحالفه القبلي؛ وذلك أن دياب بن غانم أصبح لا يعتلي المقدمة، بل هو يحرس إمدادات الحرب ومؤنها - البوش - بوادي العباين حيث المؤخرة، وأبو زيد الهلالي يلتزم عقابه طائعا، وإن كانت السيرة تخبرنا في بعض المواقع بأنه كان مصابا أو ملسوعا، كما سيرد في شعر الخفاجي النجع.
ويبدو أن ثقل المنزلة والقيادة تولاها السلطان الهلالي حسن بنفسه. وأنه اندحر مرات أمام الزناتي خليفة، إلى الحد الذي دفع الخفاجي عامر إلى منازلة الزناتي خليفة، برغم تعرضه للكثير من المفاوضات والمساومة لخروجه من التحالف، والانشقاق عليه، والانضمام للزناتي وقومه، حيث إن الزناتي واصل انتقاماته من الهلالية متجبرا - كما يتضح من شعره التالي - بعد أن خلا الجو بغياب بطلي التحالف الهلالي، دياب وأبي زيد:
يقول أبو سعدى الزناتي خليفة
وقلبي عليكم يا هلال حقوم
قتلتم رجال في المجال غضيبة
وعاد دماهم في البلاد يدوم
قتلتم أخي الهصيص غدر وبوقة
وهو كان ضد الظالمين عنود
ولى طار سالف من عهود قديمة
طارئ عندكم من زمان جدود
والله لأجرد عليكم عساكر
وأحشد عليكم الأنام حشود
وآسر حلايلكم وآخذ أموالكم
وأبدل لطيب عيشكم بنكود
أنا أبو سعدى أنا قاهر العدا
ولي في فعالي يا كرام شهود
شهودي تهودي والقائم صارمي
بيض الدمارى وأخيات جمود
يا أبو علي قوم التقى بلا بطا
وتروح من سيفي طعام اللدود
خمسمائة ألف عدة جموعنا
عليهم من الزود المتين بنود
يا أبو على ارحل بصفتك من أرضنا
وفوز بنفسك تبلغ المقصود
ما لك عندي إلا الطعن والقنا
وضرب يشيب هامة المولود
فإن عانني ربي سريعا أهلكتكم
وأعقد عليكم كل يوم عقود
أنا أبو سعدى الزناتي خليفة
هنيئا لمن خالي عنا وحقود «أراد السلطان أن يبرز إليه، فمنعوه الأمارة، وقالوا نخاف عليك من الزناتي وأبو زيد ملسوع ودياب غايب، وإن صار لك حادث تروح بني هلال أسرا في الجبال، فقام الخفاجي عامر، وطلب الزناتي فمنعه حسن، وقال: أنت نزيل عندنا والنزيل ما له حرب، فقام الخفاجي وأقسم يمين عظيم إن لم ينزل الزناتي يرحل بقومه عن بني هلال، فتركه وثاني يوم دق الزناتي طبله إلى الميدان، فبرز إليه الخفاجي عامر، فالتقوا البطلين كأنهم جبلين وزعق رءوسهم غراب البين، وفي اليوم الثالث كل الزناتي وولى هاربا من قدام الخفاجي، وكان عند الزناتي خطيب يسمى مطاوع، فقال الزناتي: باكر انزل إليه، وأنا مستخبي بين الزرد، وإن انكسرت قدامه، فيلحقك حتى يفوتني، فأجيله من وراء، وأطعنه من قفاه، وأعدمه الحياة، وأما من الخفاجي فإنه رأى مناما أن قدام بيته شجرة طويلة، جاها نجار يقطعها، وحفر شلوشها، فقام من منامه مرعوبا، واستدعى دوابة وامرأته، قال لهم عن منامه:
يقول الخفاجي والخفاجي عامر
رأيت منام منه عقلي طار
رأيت شجرة ثابتة في وسط دارنا
قطعها سريعا يوسف النجار
وقدم منشكة وحفر شلوشها
وقطعها بالقادوم والمنشار
وأمس أرسل الزناتي يقول لي
كلاما أكيدا وضح الأسرار
يقول لي يا أمير اترك قتالنا
وبطل عنا جملة الأضرار
وعدني بالمال والملك والعطا
يرغبني في معدن وأبهار
فما ردت في هذه العطايا دوابة
وأرمت في قلبي لهيب النار
يخاف أنهم حسبوا حسابي جميعهم
وقوم الزناتي كلهم مكار
لأن منامي يا دوابة راعني
وأرمى في قلبي لهيب النار
ولكن مهما يفعل الله جائزا
الله تعالى واحد قهار
قال المسمى الخفاجي عامر
من ذي المنام بقيت كالمختار
ردت دوابة بنت عامر تقوله
اترك خلية لا تزيدن أشرار
أنا خائفة ذا المنام يعيبنا
ويرمي لنا بالهم والأضرار
نخاف عليك من الزناتي خليفة
لأنه أمير بالملا غدار
له سطوة بالحرب ما شفت مثلها
يشبه لسبع الفلا غدار
ما شفت قوم هلال فيما جرى
خلي دماهم على الوطا فوار
فاهجم ولا تمنع واقعد وامتد
يا مصعب للفرقة وبعد الدار
ما قالت دوابة والبكا حيلها
يا حسرتي إن راح عن الدار» «قال الراوي: فلما فرغت دوابة من كلامها وأبوها يسمع نظامها ، قال: يا بنتي إذا ركبوا بني هلال ماذا يكون الجواب وأنا حالف يمين إني أحارب الزناتي عشرة أيام. فقالت له: عمل ضعيف يعذروك بني هلال، دقوا طبولهم، وركبوا خيولهم، وفقدوا الخفاجي عامر فما وجدوه بينهم، فسألوا عنه حسن فقالت الجازية: أنا أروح إليه، فراحت تلاقي دوابة قايمة تبكي، فسألتها عنه، قالت أصبح مريضا، فرجعت أخبرتهم، فقال حسن الخفاجي: أقسم يمينا أنه يحارب الزناتي عشرة أيام، وحاربه ثلاثة أيام، بقي عليه سبعة أيام، فكان حاضر أمير اسمه ظريف محب في الخفاجي، فقال: أنا أروح إليه أنظر معانيه. فراح إلى عند الخفاجي، فلما وصل كان نايم، فجلس على حفيلة، وقال له: حول يا خفاجي فحول عن جواده، فسأله عن حاله. فأشار الخفاجي يقول:
قال الخفاجي ولد ديرغام عامر
يا ظريف حول تعالى أضيف
وحيلي اتخلى عني يا أمير وانقطع
وعاد جسمي يا أمير تليف
مرعوب مما نظرته في منامي
وقد عدت من هذا المنام وجيف
رأيت شجرة طالعة وسط دارنا
أنا كل عرس تائف وظيف
جانا يجري وقطع غصونها
وأحرقها بمنشاره تحريف
وشفت الزناتي راح مني هزيمة
كنت عليه بالطراد جنيف
خايف يكون دبر علينا حيلة
ومهما تشوره ما به تخليف
فرد المسمى ظريف وقال له
ألا يا خفاجي لا تكن مخيف
شد واركب الزناتي وصادمه
وأخاف تصبح بين الأنام مخيف
يا أمير إن العمر من رافع السماء
مكمن علينا ليس منه مخيف
ما دام لك أجل ما قط تقتل
ولو كنت نازل وسط بحر مطيف
حياة الفتى موته بظهر جواده
بيوم يكون الريق فيه نشيف
يقتل يكسب الحمد والثنا
يبيض لعرضه وثناه نظيف
انهض ولا تخشى المنايا جميعها
وإلا غشينا بالذل والتخويف» «قال الراوي: فلما فرغ ظريف من كلامه والخفاجي يسمع نظامه، فوثب كالأسد، وشد على جواده، وتقلد بالحرب والجلاد، وسار مع ظريف، فعندما زغردت البنات، ودقت العماريات، وحين شافه الزناتي أنشد يقول:
يقول الزناتي من فؤادي معمر
نيران قلبي زايدات وقادها
أنا الخليفة بالحروب مجرب
لي سيفا بالخيل أنا راددها
ألقى ألوف الخيل ماني خايف
أبطال تعرفني بيوم طرادها
أجول حربي وحين طرادي
وتريد في حربي ترى أنكادها
أبشر بقصر العمر جالك واكد
لا بد ما تكن عميق لحالها
رد الفتى المسمى خفاجي وقال له
نار الحرب أنت قائم بشرارها
أرسلت لك مكتوب كون صديقي
وتعطيني تونس وكل جدادها
ما أرد أخون العيش يا أبو سعيد
أخاف ترخص عندنا أسعارها
أولا أكون الخفاجي عامر
في جاه صغارها وكبارها
أصبح هزيل في هلال ممسخ
ويكشفون عروضها وصخورها
لكن اليوم جيت إلى حربك
لا بد أسقيك كأس مرارها» «فلما فرغ من كلامه التقوا الفارسين في حرب وصدام، وساروا في حرب شديد يفتك زرد الحديد، فانفك عزم الزناتي من شدة حربه، فولى هارب وللنجاة طالب، وحكم ضربه نحو جناين الورد، وكان الخطيب كان من بين السجايا وماسك الرمح بيده، وإذا بالزناتي والخفاجي لاحقه، فطلع الخطيب طعن الخفاجي بين كتفيه، خرج يلمع من لوحيه، فرماه قتيل، وفي دمه جديل، فغار الفريقين والتحموا الطائفتين، وصاح على رءوسهم غراب بالرمح أصاب الجواد ورماه على الأرض، فرد الزناتي إليه، وخلصه من بين يديه، وركب الجواد، ولا زال بينهم القتال حتى ولى النهار، فانفصلوا عن القتال، وامتلأت الأرض من القتلى، وأخذ الظريف خفاجي عامر إلى بيته ومدده، فأشاد يقول:
قالت دوابة دموع من مآقيها
نيران قلبي من يقدر يطفيها
جادت علينا سلما من نواتها
وأسقت لعامر شربة من أوانيها
فأبكت دوابة دموعها لأجل والد
ها بنت الخفاجي من يقدر تبكيها
يا حيف رحنا ما شفنا منازلها
يا حيف يا بدار العز نخليها
أنا دوابة أبو عامر الماجد
أنشد المكارم وقد شيد مبانيها
قد كان ملك في أرض العراق
له كم كربة من هموم الدهر يجليها
يا رب البين شتت لمومنا
حول الليالي تجهزنا لياليها
حالة مطاوع على شبه مبرشمة
تشبه لريم الفلا السرج محليها
طعنة بحرية طول الليل يسقيها
راح عامر طريح الفراش ساليها
جاله ظريف سريع من فوق سابقه
ضرب مطاوع ضربة جامدة فيها
وأضحى والدي بالعرى منطرحا
أطن عدنا الأرض والشرق تفنيها
من ذا الذي يوصل الأخبار لأهلنا
وعلام عامر ترى من عاد يحميها
ما قالت دوابة ونار القلب مشتعلة
على أنواها وعربيها وتاليها
فلما فرغت من كلامها أفاق أبوها من غدوته، وأشار يقول:
يقول الخفاجي بن درغام عامر
بدمع جرى لا أظن مثله مدامع
نيران قلبي كلما أقول تنطفي
يهب لها جوا ضلوعي لدايع
أنا مثل صقر رابيا تحت عشه
من المحل جابته بروق اللوامع
نسى وكره لما طلع من بلاده
وخلى في وركه فروخ الجوازع
يبات ويسر طالب الصيد العلا
يمنع حتى ما ترى الوقد جامع
وإن كان هذا الطير ضيع وكره
وراح على ذكره مديد آل سايع
إذا جفاك الدهر يوم بقربه
أمال عن الأجواد إن كنت ضايع
ولا تنزل إلا في بلاد رتيبة
بلاد العدية حولها السم ناقع
وشبانها تنقل السيف مع القنا
على كل طافح برعب الخيل قارع
وشيوخها ترمي العدا في المهالك
بالروح ما هو بالمسهمات القوانع
قولوا للطير الذي في بلاده
أيضا طيور قد تجينا تواجع
ما جاك يكسب الحمد والثنا
تجيني وتأتيني بفعل رواجع
يا دوابة إن كانت دنت منيتي
فأوصي ظريفا يجعل القبر واسع
وبعد موتي ابعثوا الكتب لأهلنا
عسى الخير منهم يجيكم مسارع
ولا أظن خبر يأتيك من بلادي
بلادي بعيدة سهلها والبقائع
أبي وأمي كيف ترى حالهم
ينتظروا رجوعي ولست براجع
ولا ولد من بعد مني بقى لهم
دعوهم بعدي يسكبون المدامع
وقولوا لهم عظم الله أجركم
ولدكم عامر عند ربه مطاوع
أوصيك يا حسن يا هلالي
دول يتامى ما لهم من مدافع
أنت شفوقا على اليتامى ومحسن
يعطيك ربك عاليات المواضع
يا أيها الطير الذي طار بالفلا
تسعا إلى الدهر الذي بك مطالع
تأكل ربيع بأرض مصر وزرعها
وتبيض بأرض العراق المواضع
سلم على أبي وأمي وقل لهم
يرضوا علينا في صلاة الجوامع
وأشهد أن الله لا رب غيره
فهو واحد وما له من ينازع»
وعلى هذا النحو جاءت مرثية الخفاجي عامر عقب اغتياله غدرا، وتوصياته لابنته، إن لم تكن إلهته الأنثى القمرية وكاهنة القبيلة - دوابة - باتساع قبره وبلاغ قومه فيما بين النهرين بموته وانتهاء منيته، وما أروع شعره! - القومي - حين يقول:
يا أيها الطير الذي طار بالفلا
تسعى إلى الدهر الذي بك طالع
تأكل ربيعا بأرض مصر وزرعها
وتبيض بأرض العراق المواضع
ويتضح من مرثية الخفاجي مدى التراكمات الملحمية التي تصنفها العصور، ملحقة ومضيفة، بما يذكرنا بمرثية التبع حسان اليماني، عقب اغتيال كليب الفلسطيني له داخل مخدعه بدمشق، ومرثية كليب ذاته، عقب اغتيال جساس بن مرة له، وكذا الزير، وبقية شخوص سيرتنا هذه عالية الهامة، السلطان حسن الهلالي، والزناتي خليفة، وأبو زيد الهلالي، وهكذا كسروا على الخفاجي عامر السيوف، واستشرى الزناتي في قتال الهلالية.
أبو زيد يزور الأسرى في زي امرأة
وجاء اغتيال الخفاجي عامر فاتحة لعقد الهلالية المنفرط بموت قادتهم واندحارهم، ذلك أن الدور جاء هذه المرة على القاضي بدير بن فايد، وتبعه الأمير بدر بن غانم، الذي قطع الزناتي خليفة رأسه، وأرسلها وهو ما يزال في الميدان إلى تونس، لتعلق على بواباتها السبع إلى جوار رأس أخيه زيدان «شيخ الشباب»، ثم قتل ولديه الواحد بعد أخيه، نصر وعقل، الذي تشدد الزناتي خليفة بخاصة في قتله، واعدا كبار فرسانه في تونس بأن من يقتله سيهبه ابنته سعدى زوجة وحليلة، إلى أن قتله الزناتي بنفسه.
وكان أن بكتهما أمهما الأميرة «هولة» بأقوى مراثيها:
تقول فتاة الحي هولا الحزينة
بدمع جرى في الخدود بنار
على ما جرى فينا وقد أصابنا
والفكر والعقل مني طار
على عقل عقلي راح مستقرة
ويا نصر ما لي بعدكم أنصار
ونزلت دموعي كالأنهار الجارية
وجاني البلا قاصد الأفكار
يا دمعتي جودي واجري صبابة
على أخوين كانوا كالأقمار
فلو أن نهر النيل بالقلب يجري
وسيحون مع جيحون والأبحار
ونهر الفرات ودجلة والشط كلها
وعاصي وحمى كل نهير دار
على نار قلبي ليس يطفي لهيبها
وتزيد فيه حرقة وشرار
يا بنتي قومي اندبي طول عمرك
على إخوتك كانوا حماة الدار
فيا طول حزني كلما ذمت بالخيا
أن جاء دياب الحي وسط الدار
بل إن راوي السيرة لا يغفل وصول الإمدادات بالجند والعتاد التي دفع بها تحالف تونس والملوك المغاربة إلى الميدان، لصد جحافل عرب المشرق - الهلالية - وإيقافهم طويلا في حصارهم خارج بوابات تونس المنيعة، دون أدنى تقدم.
ولم يكن هناك من منفذ أمام التحالف الهلالي بعد إبعاد دياب بن غانم، بحجة حراسة «البوش» والإمدادات والأموال، سوى لجوء أبي زيد إلى الحيلة لاختراق الحصار، خاصة بعد أن رجحت كفة التونسيين في ضرب تلك المؤن واستلابها، وهي الحيلة الحربية التي دبرها الزناتي ذاته مع أحد فرسانه، ويدعى «أبو خريبة» وأنزل بها ضربة قاصية بإمدادات الجند والمهاجرين ومؤنهم، وبالطبع ذخيرتهم. «حين أمر الزناتي الركوب إلى وادي الغباين، ويحضر البوش منه، فركب من ساعته، وأخذ معه عشرين ألف فارس قروم عوابس، ولم يزالوا ضرب السيف فيهم، فقامت الرعيان بالعياط والصراخ، فلما سمع دياب سائرين حتى وصلوا إلى وادي الغباين، وغاروا على قوم بني هلال، وعلقوا ركب جواده، وطلعت فرسانه وراه، فلما التحمت الحرب بينهم بطعن الأعمار، فعندما قام دياب في عزم وضرب خريبة بالسيف فوقع على الأرض، ولما شافوا قومه أميرهم قتيل ولوا هاربين، فلحقوهم بني زغبة، ومدوا السيف في أعناقهم وأعدموهم أحبابهم وأصحابهم حتى وصلوا إلى عند الزناتي وأخبروه عن قتل أخيه، فاستدعى أخاه الثاني وكان اسمه مكحول، وقال له: خذ قومك وامض إلى دياب بن غانم، خذ ثأرك منه، وانهب بوش بني هلال، ومهما جبت من هؤلاء يكونوا هبة مني إليك، فركب بسائر عسكره مقدار خمسين ألف همام، وغار حتى وصل إلى الوادي، وكان دياب وقومه في الصيد، وما بقي من البوش إلا مقدار ألف فارس، فثارت عليهم الخيل، وساقوا البوش جميعه، فراح لصوت إلى دياب وأعلموه بالخبر، فعندها صار حتى وصل إلى القوم، وبرز إلى مكحول، وغار على قومه، وبدأ يذبح فيهم حتى مقدار عشرة آلاف فارس وهربوا الباقي حتى وصلوا لعند الزناتي وأعلموه بقتل أخيه.»
وهكذا لم يعد أمام الهلالية، سوى الاستنجاد بذكاء أبي زيد وسعة حيلته، خاصة بعد أن أمر الزناتي «بإغلاق بوابات تونس في وجهه»، حين وقف تحت زغلة الباب والأبواب مسكوكة لا أحد يخرج ولا يطلع سوى النسوان التي فوق الأسوار يتفرجون، فعندما صاح في البواب افتح وأرسل مولاك، فسار البواب لعند الزناتي، قال له: قم كلم أبو زيد واقف بالباب يواجهك. فقال الزناتي: يا بواب من يقدر يشوف عزرائيل حتى يقضي روحه، هات المفاتيح التي معك. فعند ذلك أخذ مفاتيح أبواب تونس، وضعها عنده وخبأها، وقال: اقعد خلف الباب لا تفتح لأحد. فعاد البواب، وأعلم الأمير أبا زيد بالكلام. «ثم إن الأمير أبو زيد قال لهم: قصدي أعمل حيلة تسوي قبيلة، اندهوا للجازية. ثم إنهم ندهوا إليها، فحضرت بين أيديهم، فالتفت إليها الأمير أبو زيد، فقال لها: مرادي تجمعي مائة بنت من أحسن بنات العرب، وأحضريهن في الليل. فمن ساعتها أحضرت مائة بنت إلى الأمير أبو زيد، فقام ولبس ثياب بيض مثل النسوان، ولبس درعه، واتحزم بسيفه، وسار هو والبنات والجازية نصف الليل، إلى أن وصلوا بوابة تونس، فقال أبو زيد: اقرعي الباب. فنادى البواب: من يقرع أبواب تونس في هذا الليل؟ فقالت الجازية: نحن من بنات العرب جايين معنا بضايع لكي نبيع ونشتري من عندك على قدر احتياجنا. فقال لها البواب: روحوا ما أفتح لكم الباب في الليل. ثم إنها تدخلت على البواب فما فتح، وإنما راح إلى عند الزناتي وأخبره، فقال: روح إياك تفتح لهم أنا قرأت كتبهم قبل أن حضروا إلى هذه البلاد؛ لأن هذه الحيلة من حيل أبو زيد. ثم إن البواب رجع إلى عند البنات، وأخبرهم بما قال الزناتي، ثم إن الجازية ابتدأت هي والبواب وأشادت تقول: يا بواب صاره افتح للعذارى، حنا مشندر إلى حد السواره. - روحي يا ظريفة شاوري لنا الخليفة، له حربة رهيفة، تقسم الحجارة. - يا بواب منصور افتح باب السور، ندخل بدستور ونبيع العطارة. - المفتاح ما هو بيدي. - افتح كون طايع جبنالك بضايع، وتحف بدائع، تصلح للأمارة. - لا أفتح ولا شيء، ولا عقل بلاشي، وإن كنت عطاشى روحوا للبيارة. - يا بواب افتح الباب مصفح بالزينات، تصفح وتنظر للعذارى، افتح لي شوية، وشوف الحسن فيه، تجيك رزية، قدشك حمارة. - روحي يا مليحة أنا أخشى الفضيحة، رأتني تبقى مستريحة، وأنا أقع بنارة. - افتح لا تبالي، يا بواب افتح يا حبيبي، وجودك لا تغيبى، ارحم للغريبى كلنا بكارة. - السلطان حكالي، وقال لا تفتح ولال، ذول بني هلال من قوم مكارة. - افتح خاب ظنك خللي الهرج عنك.
قال: أخاف أفتح يجينا رجال طالبين، يجوا عابرين على ظهر المهارة والأمير غايب، ومن طلب المكاسب يقع في الخسارة. - افتح يا ابن عمي حتى يزول غمي، حزامي فوق تمي، تارة فوق تارة. - روحي يا حمامة لا تزيد في الكلام، خايف من سلامة حيلاته كتارة. - افتح يا أغانى، لا تزيدوا اللغاتى، جملتنا بناتى، ما فينا ذكاره. - سلامة معاكم سامع لغاتى، هو واقف حداكم مع بنات الأمارة.» •••
أردت من تقديم النص السالف للتحولات أو التقمصات لأبي زيد الهلالي والأميرات الهلاليات وعلى رأسهن الجازية، والتحايل على بواب تونس الذي أمره الزناتي خليفة بعدم فتحها ليلا للمتسللين خاصة، وجحافل بني هلال الغازية أصبحت تطوق أسوار المدينة وبواباتها السبع عبر حصار طويل لا بد وأنه دام سنين، على ذات نسق الحصار الهليني لطروادة المنيعة، ما دفع الغزاة في كلا الحصارين الشهيرين إلى اللجوء للحيلة وخداع لحروب.
أردت من تقديم الحوار الشيق بين البواب وعذارى بني هلال الحفاظ على مدى أحاسيسه النسائية الجياشة، حتى ليستشعر القارئ بأنه إزاء إيقاعات الأغاني الشعبية النسائية، وأن مؤلف مثل هذا النص لا بد وأن يكون امرأة أنثى، وهي إحدى السمات الرئيسية لأصالة نص فولكلوري عن خسيسه.
إن النص يوغل في إضفاء الأحاسيس الأنثوية على الحوار بين النساء المتسللات، وبين البواب أو أصحاب المزلاج، إلى حد دعوتهن له إلى الحب والجنس، وهي البنات الصغيرات الحلوات العذارى.
ذلك إذا ما عرفنا أن عمر هذا النص الحواري يربو على الخمسة آلاف عام، منذ النصوص السومرية التي أوضحتها الحفريات الأثرية في العراق وما بين النهرين، خاصة النص أو الترتيلة المصاحبة لولادة إله القمر «شين»، حيث يطلب الإله «أنليل» الذي أصبح فيما تلا من عصور، هو بذاته تموز ثم أدونيس، من الآلهة العذراء ننليل، أي الراعي الذي يقدر المصائر والاتصال - الجنسي - إلا أنها رفضته وصدته عنها:
إن مهبلي صغير لا يعرف الجماع
وشفتي صغيرتان لا تعرفان التقبيل
إلا أنه يغتصبها فتحبل، وكان أن نفي من المدينة:
أيها الفاسق اخرج من المدينة
وحين يرضخ الليل، ويرحل إلى جحيم أو هادس أو هاوية سومر، ويدور بينه وبين بواب أو ملاح
1
الجحيم الموكل به، حوار مشابه لحوار الهلالية، مع حارس بوابات تونس، بل إن الليل يمر بسلسلة من التحولات المشابهة لأبي زيد المتخفي بزي امرأة.
قال أنليل للحارس الموكل بالباب:
أيها الحارس يا صاحب القفل
يا صاحب المزلاج، يا صاحب قفل الفضة
لقد جاءتك مليكتك
فإن سألتك فلا تدلها أين أنا.
قالت ننليل لحارس الباب:
يا حارس الباب، يا صاحب القفل
يا صاحب المزلاج
أين سيدك أنليل؟
أجاب أنليل متقمصا هيئة حارس الباب:
إنه في استي، إنه في فمي
إنه في قلبي الصادق الأمين.
ومن هنا لا يبعد بنا الحوار عن ذلك الذي أجراه أبو زيد والهلالية مع حارس بوابة تونس الذي رفض دخولهم بأمر الزناتي.
ويبدو أن الهدف الرئيسي لأبي زيد الهلالي المتنكر وسط جوقة نساء بني هلال، لم يكن قاصرا على مجرد التسلل المتنكر إلى داخل بوابات تونس، بل هو كان التلصص أو التجسس لجمع المعلومات من عيون بني هلال وبصاصيهم داخل أكثر أماكن الأعداء اقترابا وحساسية، أي مخدع الأميرة الوريثة سعدى ابنة الزناتي خليفة ووصيفتها - الهلالية - مي، والأمراء الأسرى الثلاثة، يونس ومرعي ويحيى.
ذلك أنه بينما تخبرنا السيرة برفض البواب الموكل بالباب فتحه لهم أو لهن، فعاد أبو زيد والجازية والبنات من جديد إلى ربع أو مضارب بني هلال مخفقين.
ذلك أن أخبار مثل هذا الإخفاق بعدم الدخول، تواتر من فوره إلى سعدى وفتيان بني هلال، حتى إن مرعي ضغط على حبيبته سعدى، وحملها على الاتصال هي بنفسها بالهلالية، وإبلاغهم بأهمية التغيير في خططهم الحربية، ورأب الصدع من جديد بين قطبي التحالف - القحطاني اليمني والقيسي، أو السعودي اليوم - وإعادة مصالحة دياب بن غانم، ودفعه إلى المقدمة. «مرعي قالت له سعدى: لا أبكى الله لك عينا. فقال لها: يا سعدى، إلى متى الانتظار، وقد طال علينا المطال، وأبوك لا يطلع على محاربة أبي زيد، ولا يفتح الباب؟ فضحكت سعدى، وقالت: أنا أفض هذا المشكل؛ لأن مرعي ما يقتل أبي إلا الأمير دياب؛ لأن بان عندي في الكتب، ولكن سأروح الليلة لعند أبوك، وأدعيه يحجب دياب. فلما دخل الليل، استعدت سعدى على أربعين بنت من بنات الأمارة مثل الأقمار، فلما حضروا أقبلوا ونادتهم، وقالوا: ما تريد؟ فقالت لهم: أريد آخذكم معي، تتفرجوا على بنات بني هلال، والأمير حسن أبو المحابيس الذي عندنا، ونرجع في هذا الليل. فقالوا: سمعا وألف طاعة. ثم أمرت لهم بأربعين خلعة من خاص الحرير والديباج الملون، وأمرت بأربعين جوادا من خير الجياد، فصاروا يأخذون العقول، وركبت سعدى أمامهم مثل البدر المنير؛ لأنه ما كان يوجد في عصرها أحلى منها، وتقلدت البنات بأفخر السلاح، وساروا حتى وصلوا إلى باب البلد، وقالت للبواب: افتح الباب، إياك تتكلم قدام أحد، أعدمك الحياة. فقال لها: يا ستي ما في تعب من فتح الباب إن أردت تروحي أو تعدي، ولكن المفاتيح مع أبيك أخذهم مني. فقالت: أنا لا أحتاج إليهم. وتقدمت للباب وضربته، انفتح من وقته، وخرجت هي والبنات، وأمرت عبدها الطواشي يقعد على الباب لحين رجوعهم، فقفل الباب، وقعد ينتظرهم إلى الرجوع، فعند ذلك سارت سعدى هي والبنات حتى وصلوا لعند الحارس، فقال: ما هذه الخيل في هذا الليل؟ فقالت له سعدى: ضيوف. فقال: مرحبا بالضيوف. فقالت: أين ملوك الأمير حسن؟ فقال لها: نايم. فقالت له: ادخل عليه، وقل له سعدى بنت الزناتي تريد تواجهك، وترجع بالليل. فقال لها: انتظري وراء الستار. ودخل لعند جارية اسمها مباركة، وقال لها: اعلمي أن بنت سلطان تونس حضرت لعندنا، ودخلت وأعلمت مولاها حسن. فتعجب حسن من حضورها بالليل، فخرج وقال لسالم: مالك؟! فأنشد سالم يقول:
يا أسير جانا سرية خطارة
ملوك منتظرين قطارة
يا أمير جانا من بلاد بعيد
وأنا بأمري يا ملك محتارة
ارتاح قلبي من نظرهم يا ملك
شبهتهم يا أمير شعلة نارا
ما راعني إلا الخيول ولبسهم
وكلهم يا أبو علي عالمهارة
ولبسهم ديباج بلون واحد
من الذهب فوق الصدور زرارة» «قال الراوي: فلما فرغ العبد من كلامه والأمير حسن يسمع نظامه فرح فرحا شديدا ما عليه من مزيد، وقال للعبد: اعزمهم. فراح العبد عزمهم، ونزلهم عن خيولهم، وربطها ومشى قدامهم، فسلمت سعدى على السلطان، وعرفته بنفسها وبرفقتها، فسلموا عليه، وسلم على سعدى ومن معها من الحريم. وأما أم مرعي لاقتها وضمتها إلى صدرها، وقالت لها: دخلك مرعي كيف حاله؟ وقبلتها بين عينيها، وسلمت عليها سلام الأحباب، وأما حسن سلم على سعدى، وصار يبكي ويقول:
يا سعدى بالله كيف أحوالهم
مرعي عديل الروح والرب عالم
وأبو زيد حكا لي عن أحوالهم
وأخبرنا عن أفعالك والظلايم
وأنت شفوقة يا صغيرة عليهم
وخلصتيهم من جميع الوهايم»
وهكذا نجحت سعدى في إيصال الرسالة، الخطة.
هزائم الهلالية وعودة دياب
ويستشف من سياق نصوص السيرة أن إبعاد دياب بن غانم، ممثل التحالف اليمني القحطاني، عن القيادة والمقدمة للتحالف الهلالي، لم يكن لمجرد حراسة البوش والأموال وعتاد الحرب ومؤنه، بقدر ما هو جاء أشبه بمؤامرة محكمة التدبير من جانب تحالف عرب الشمال القيسيين أو الإسماعيليين من جانب سلطان بني هلال، حسن بن سرحان، وأبو زيد ومن في فلكهما.
ذلك أن الهزائم المتوالية التي أنزلها التونسيون المحاصرين بقيادة الزناتي، بقادتهم وأمرائهم، الخفاجي عامر، والقاضي بدير، وعقل ونصر، وزيدان قد وصلت إلى أربعين رأسا جزها الزناتي خليفة، ونصبها فوق أسوار تونس.
ودفعت الهزائم بنساء بني هلال إلى الاستنجاد بالمنقذ دياب بن غانم، فهو بذاته القادر على دحر الزناتي خليفة وجنده، وهو دون سواه المنوط به قتل الزناتي خليفة وفك طوق الحصار المزدوج .
فاندفعت وفود نساء الهلالية إلى حيث مضرب والد دياب الأمير غانم، ورحن يكتبن إلى دياب يستدعينه لأخذ الثأر، دوابة بنت الخفاجي عامر التي جزت شعرها، وأرسلته إلى دياب، ونفس الشيء فعلته ابنته - وكاهنته - وطفا التي تسمى بها - أبا وطفة - فأرسل له والده معددا ما نزل الهلالية من هزائم الزناتي بهم وأمرائهم.
ثمانين أميرا من هلال وعامر
دعاهم أبو سعدى برمح كعيب
وأنشد مشيرا إلى مشورة سعدى ابنة الزناتي خليفة ذاته، التي تنبأت بأن قاتل والدها الزناتي هو بذاته دياب بن غانم:
أخرب أبو سعدى جميع مساكنا
وما عاد لنا سامع ومجيب
دائر كما الدولاب وولد غانم
ينادي دياب مين لقا هريب
طاردته ثلاثة أيام ثم أربعة
شمس الضحى بعد الدموع تغيب
قتلت جواده طلب الشمس باكر
جاء من قدمته سريع عجيب
ألا يا دياب الخيل أسرع نحونا
واقتل خليفة يا أمير غصيب
قتل خليفة ابن عمك زامل
وأخوك عند ما عاد فيه نصيب
وأرسل غانم بكتابه وشعور النساء وتوسلاتهن لدياب، حيث مكانه في المؤخرة، في وادي الغباين أو المغبونين أو المنفيين، وما إن تسلم دياب الرسالة وقرأها، حتى رد الرسول سائلا: «وأين مكاتيب السلطان حسن وأبو زيد؟»
ولم يجب الرسول.
هنا رد دياب الرسول قائلا: «جئت هذا المكان برأيهما، فكيف أرجع بشورة النساء؟»
حتى إذا ما عاد الرسول، من وادي الغباين إلى حيث مضارب بني هلال، وأبلغ والده والنساء برفضه وحاجته إلى أمر أو تكليف من قادة الشورى، أحاطت النساء بمقر السلطان حسن وأبي زيد في شبه مظاهرة أو تمرد.
ورغم ذلك فقد رفضا بدورهم الكتابة إليه بالعودة والإغاثة.
لكنهما من جديد دفعا والده الشيخ، بل وأمه والبنات إلى التوجه إليه ومناشدته العودة بدلا من التراجع - عن قرارها السابق - وطلبه مباشرة للغوث والنجاة.
فهجته أمه:
ضيعت حتى والدك
وسفهت قولي يا قليل الحشايم
وخاطبه والده مستنجدا بوطفا ابنته:
وطفا لها مكتوب كتبته بخطها
تقول الوحا قبل الحريم ما تسيب
على هذا النحو أحاطت النساء الثكالى والأبوان الشيخان يستنجدون بدياب الخيال العودة لنصرة القبيلة قبل أن - تسيب - أو تفجر أو تسبى حريمها في وجوده، وهو حامي المحصنات.
إلا أن ما حر في نفس دياب بحسب شعره التالي عدم تلقيه أمرا بالعودة من السلطان وأبي زيد، برغم ما حل بالجميع من اندحار وقتل في غيابه.
على ما قال أبو موسى دياب
شربنا الخمر في صافي القداحي
وكم ندل أتى وقت المعارك
يبقى هاربا يطلب رواحي
أسألك يا إلهي أكون طيرا
عقابا كي أخفق بالجناح
أطير بهمتي وأنزل سريعا
وأعدي بين مشتبك الرماحي
لأخذ الثأر عن خالي بدير
وبدر وأخوه زيدان الرباحي
وما مفعل الزناتي بالأمارة
فطار العقل من نايم وصاحي
إني معذور يا أمي حقيقة
دعيه يقول في عرضي قباحي
غدا أرضيه في قتل الزناتي
وأبدل حزنكم بالانشراح
قولي الهلال النصر جاهم
نهار الأحد أعزم الراحي «قال الراوي: فلما فرغ دياب كلامه وأمه تسمع نظامه فرحت، وقالت: يا غانم، مرادنا نسير؛ لأن بني هلال في انتظار. فقال: تأهبوا حتى نسير، وتعلم بني هلال أن دياب يحضر يوم الأحد عندهم. فركبوا وساروا حتى وصلوا إلى بني هلال، فطلعوا الجميع ملاقاتهم، فكانت ضجة قوية، فنظروا غانم وحرمته وحده، فقالوا: أين دياب؟ فقال غانم: أبشروا بالغنيمة يا بني هلال، نهار الأحد يصل إلى عندكم، وأما دياب بعد ما راحوا والديه من عنده أمر الرعيان بلم البوش من كل جانب ومكان، وساروا الجميع قدامه، وسار طالب بني هلال وفرسانه الذين معه قلعوا الصوان، وأمر العكام بسيفه وبنصبه على أبواب تونس في نصف الميدان، ودق طبول ونشر أعلامه، وسار حتى بقي بينه وبين هلال يوم كامل، وكانوا جميعهم في انتظاره.» «وثاني يوم الأحد خرجوا الأربع تسعينات ألوف وتابعيهم، ولاقوه وما فضل من هلال لا كبير ولا صغير، حتى طلع ملتقى الأمير دياب وخرجوا بالطبول والنوبات السلطانية، وزالت عنهم الهموم بقدوم دياب، وأدخلوه إلى الحي بنوبة سلطانية عظيمة.» «وأما أهل القتلى، فإنهم اجتمعوا على التراب، وهم في الواد وأثواب الحداد لكي يشكوا إلى دياب ما فعل الزناتي بهم .» «أما حسن وأبو زيد ظلوا في الصيوان ما خرجوا إلى الخيام، وأما دياب لما وجد حسن وأبو زيد عرف المضمون، وإنما أخمد الكمد، وأظهر الصبر والجلد، ولم يزل سائرا في الموكب العظيم حتى وصل إلى أبواب تونس، فرجت منه تلك الأرض في طولها والعرض، وطلعت الحريم على الأسوار للفرجة على الزينة، وارتعدت من الزناتي خليفة، ومن عنده القلوب، وانحلت المفاصل وقال: الله يعينا على حربه. وأما دياب رفع رأسه إلى سور تونس، فوجد رءوس الأمارة ثمانين رأس مشكوكين على الرماح، فسأل: من يكونوا هؤلاء، فقال له عمه عرنديس: هؤلاء رءوس بني هلال الذين قتلهم الزناتي وهم أولاد عمك، فقال: كل هذا جرى في غيابي! وظل سائرا إلى التربة، فلاقوه أهل القتلى والبنات، وشالوا البراقع، وحدفوها إلى دياب، فطيب خاطرهم وأنشد يقول:
قال أبو موسى دياب المفتخر
فارس الهيجاء وخيال الوعر
حامي الزينات سور المحصنات
مفرج الكربات في يوم العسر
منبه الخطار في من الفلا
مشبع الجيعان (الجوعان) زاكي منتشر
زال عنكم همكم يا ذا البنات
والزناتي حل في عمره قصر
وأخذ الثأر من أبو سعدى حقيقي
وجميع قومه من حسامي انبهر
وأخبروني يا بنات بما جرى
وأعلموني بحقائق تسكر
ما لكم على القبور جوانس
وشعوركن على الكتاف ينتشر
كم من أميرة شقت ثوب الحيا
وقبل هذا اليوم كانت تتستر
لمن هذا القبر يا بنت الكرام
من هذا الذي من تحته انطعن
هل أبو زيد والأمير حسن
كم ربيع هدموه وصبح مندثر
ألا بدير العامر خالنا
يا نحيف وجهه بعد نور ينفطر
فأبشروا بالنار أنتم يا بنات
فيما مضى لحدين بولاد أتذكر
أنا عليهم مثل سبع كاسر
من هد إليهم يا عذارى انحدر
وانظروا فعل دياب يا بنات
افرحوا اليوم يا بنات وأبشروا
بعون من أمره علينا قد قدر
خاطركم المكسور مني ينجبر»
ويذكر أن دياب بن غانم كان يلاعب طفلة صغيرة، وهو غائب الفكر كالتائه المأخوذ في الكيفية التي سيقتل بها الزناتي خليفة اسمها «نجيبة» ملاعبا سائلا، وهو يقبلها في شره: «أين أطعن الزناتي؟»
فقالت له: «في عينه.»
فقال: «مبارك قولك يا صغيرة، لن أطعنه إلا في عينه.»
وقد كان.
عشق سعدى لمرعي وخيانتها لقبيلتها ... وطنها
ويبدو أن فتيان بني هلال الثلاثة المأسورين داخل السجن الملحق بقصر سعدى ابنة الزناتي، والذين كانوا على مقربة أكثر مما يحدث، سواء على جبهة القتال، أو داخل أروقة القصر الحاكم في تونس، وما يعتمل داخله من مؤامرات على عادة القصور المحاصرة بالرماح واللهب، مضافا إليه بالطبع مؤامرات المضاجع من مؤامرات يكيدها العلام ابن أخي الزناتي والطامع في عرش تونس وقلاعها الأربع عشرة حتى الأندلس.
لذا لم يوفر العلام مكيدة في سبيل الحصول على مبتغاه في وراثة حكم قرطاج، التي صمدت ذات يوم في مواجهة الزحف الإمبراطوري الروماني، وعليه فقد دأب العلام على وضع العراقيل في طريق سعدى ابنة الزناتي، لاقتناصها والزواج منها ووراثة حكم تونس، إلا أن سعدى التي ولدت على كره العلام والنفاذ لأطماعه الدفينة التي هدفها بالطبع العرش المتوارث عن طريق الابنة - الأنثى - في ذلك المجتمع القبلي الأموي الذي ما يزال يقدس الخال إلى أيامنا.
ومن هنا وجدت سعدى مهربها في حب مرعي الأمير المتسلل عدو بلادها الطامع، والسبب - السياسي - الظاهري الذي يسوقه الغزاة الهلاليون لغرض هذا الحصار بالحرب على تونس بحجة الإفراج عن أسراهم الأمراء الثلاثة.
فيبدو أن الأمراء الهلاليين الثلاثة كانوا أكثر إدراكا بصائب بصيرتهم أن سبب هزائم قومهم وقبائلهم الهلالية، هو الانقسام على جبهة القتال وليس غيره، ذلك التصدع الذي نزل بقطبي التحالف بين عرب الجنوب اليمني، والشمال القيسي، ممثلا في الصراع الناشب بين أبي زيد والسلطان من جانب، ودياب بن غانم من جانب مقابل، مما دفع إلى إبعاده لحراسة - البوش - بدلا من قيادة المقدمة.
إنه الصراع الدفين المفضي إلى كل الانقسامات والهزائم، والذي لم تبرأ منه سيرة شعبية عربية، خاصة سيرة الأميرة ذات الهمة، والتي تؤرخ للحروب الإسلامية البيزنطية، والانقسامات على جبهة القتال بين كل من عرب شمال وجنوب الجزيرة العربية، مما دفع بالأمير الشاب الأسير مرعي، ويونس ويحيى للتوسل إلى سعدى، وإرسالها سرا إلى حيث مضارب بني هلال، والإشارة عليهم بأن قاتل أبيها الزناتي خليفة - القدري أو السحرى - ما هو سوى دياب بن غانم.
وبالطبع فإن السبب الدافع إلى مثل هذا التصور الغيبي السحري الذي تسوقه السيرة، مرجعه إلى أن سعدى بدورها، كانت أقرب إلى كاهنة - قمرية - لها دورها المتحقق في المشاركة والشورى السياسية والحربية، أما السبب الأقرب فهو يتمثل في قربها من أبيها الزناتي خليفة، والمعرفة بهواجسه التي مؤداها أن قاتله لا بد وأن يكون على شاكلته: عربيا جنوبيا قحطانيا ... ولا بد وأن يكون في هذه الحالة «دياب بن غانم».
فكلاهما يمني قحطاني.
ومن هنا جاءت المخاطرة الكبرى لسعدى ابنته لتقف في صف أعداء بلادها ضد أبيها الزناتي.
وهي تيمة أو فكرة رئيسية في فولكلورنا العربي السامي بخاصة، والعالمي بعامة للابنة خائنة أبيها، وبالتالي قبيلتها، واستطرادا وطنها وحماها، ومن هنا حق قتلها ولو من جانب حبيبها ذاته.
ففي السيرة المهشمة «الملك معروف ووزيره البين وابنه الشاطر حجازي»:
1
تساعد ابنة البين مغتصب عرش الشاطر حجازي عقب موت والده الملك معروف، حبيبها السجين في أن تسرق له سيف أبيها البين - المحجب - الذي يقتل إلا به، على أن يتزوجها عقب خروجه من سجن أبيها، وقتله واسترداد عرشه.
وبالفعل يعدها الشاطر حجازي بهذا، لكن ما إن يحقق انتصاره بقتل والدها البين، حتى يقبض عليها، ويقتلها حرقا، ويذري رمادها في الهواء مع أبيها رمز الشر والشؤم، بدلا من الزواج بها، على اعتبار أنها خائنة أبيها وبالتالي قبيلتها، ومن هنا حق عليها العقاب بالموت حتى ولو من جانب حبيبها أو عشيقها.
وهو ذات المصير - التراجيدي - الذي سيصادف هذه الابنة المحبة سعدى ابنة الزناتي خليفة، من جانب دياب بن غانم قاتل أبيها المنتصر.
فلقد وصل الأمر بالنسبة لتعلق سعدى بمرعي وتعشقها له إلى حد أنها وجهت أبيها الزناتي خليفة إلى التمسك والاستمرار بسجن الأمراء الأسرى، ومنهم حبيبها مرعي، وعدم الإفراج عنهم، وإرجاعهم إلى قومهم، وإنهاء الحصار والحرب، حين أشار عليه ذات مرة أبو زيد الهلالي وكاتبه بشأن الإفراج عن الأمراء الثلاثة الأسرى وإنهاء الحرب، كما تروي السيرة شعرا:
خليفة تبعت الكلام تقول لي
هذا كلامك زور مع بهتان
إن كان ما قلته صدق مؤكد
أطلق لنا أولادنا من الآن
هذا مرادنا منك يا ملك
ونأمنكم من حرب عود الزان
فلو تزرع الحوادث يا ولد صالح
حصدت بداله أربع وثمان
وما إن تسلم الزناتي رسالة أبي زيد حتى قال: «أحضر الأرباب»،
2
بما يشير إلى رغبته في استشارة الأرباب من أصنام طواطم، بالطبع في رد الأسرى وإنهاء الحرب.
فبعث الزناتي إلى ابنته سعدى، وقال لها: «أطلقي المحابيس حتى ترسلهم إلى أهلها.» فلما وصل الخبر أتت سعدى إلى عند أبيها، وقالت: «يا حيف أبي! أنت صدقت كلام العرب، هؤلاء العرب ما بقوا يفارقوا هذه البلاد.» فقال لها: «والله لقد صدقتي لوعد منا الحياة ما عدنا نرسلهم.» وكان تلك الساعة مرعي عندها:
تقول سعدى بنت أمير تونس
وجرح الهوى قد علقني حبايله
جرحني الهوى في قلب أهانني
ومشعال نار الجد أشعل فتايله
أنا ما ضناني غير مرعي وذلني
فيا رب تجمع شملنا وأوصله
طوله يشابه للرديني إذا مشى
متى تسمح الأيام وانظر حمايله
أنا خايفة يطلقكم وترحلوا
لأن سلامة كل يوم يزعله
فإن كان يرسلكم تروحوا لأهلكم
وينظر لكم حسن ويشفي نحايله
أنا خايفة يا بطل حربنا مع قومكم
يفرح بمرعي حين ينظر حمايله
ما قالت سعدى للهوى قد صابني
على حب مرعي في فؤادي عمايله «قال الراوي: فلما فرغت سعدى من كلامها، أنشد مرعي يجاوبها:
يقول الفتى مرعي بعين وجيعة
لها بين نور الهاجعين دراف
لأن حبك يا مليحة ذابني
وجاني هواك والغرام صداف
ولكن أبوك يا مليحة أهانني
بالحبس صرنا موجوعين ضعاف
وإن كان يطلقنا فلا يمنعه
حتى نروح لأهلنا وسلاف
وأخبر حسن بما فعلتيه معنا
أبوك بين الملا عراف
ويرسل إلينا أبوك نخطبك منه
ونعطيك خيلا مع أموال ظراف
هذا مرادي يا مليحة ومنيتي
نريد الحلال وما نريد خلاف
وأما الخنا فليس فيه تطابق
لأني أنا من نسل قوم شراف
ولا بد نملك أرضكم وبلادكم
وأخذك حقا بغير خلاف
فلا نحمل إلا عزا وغاية المنا
يداركنا الرحمن بغير خلاف» «فلما فرغ مرعي من كلامه لسعدى فبقوا على ما كانوا عليه أولا في النهار تنزل إلى الحبس وفي الليل تجيبه إلى عندها وتنام واياه، أما ما كان من بني هلال لقوا أولادهم ما طلعوا إلى الحبس قام أبو زيد، ودق طبوله، ونزل إلى الميدان.»
وهكذا يتضح من نص السيرة السابق. مدى تعشق سعدى لمرعي إلى حد إخراجه من السجن ليلا، وإيداعه فيه نهارا.
بل إن اتهام الزناتي خليفة لابنته وصل إلى حد وصفها بالباغية التي يحق قتلها، وتحميلها ذلك الخطر الرابض بعودة دياب بن غانم، قاتله القدري الذي أصبح يدق أبوابه متحديا.
وعلى هذا النحو تذكر السيرة «إن كل منية لها أسباب، ومنية الزناتي بيد دياب.»
3
وهكذا استعرت الحرب ضارية هذه المرة بين الزناتي خليفة، ودياب وقومه إلى حد أنهك الزناتي، ودفع به الشكوى لابنته سعدى.
دياب يقتل الزناتي ويسبي سعدى ويحكم الغرب
ويبدو أن سعدى ابنة الزناتي تونس تدخلت في مجرى الحصار والقتال المستمر على بوابات تونس، إلى حد الاتصال ببني هلال في العلن هذه المرة، خاصة في مركز السلطة الجديدة التي رجحت كفتها إلى جانب اليمنيين في مواجهة القيسيين - السلطان وأبي زيد - ومركزها هنا القائد المنقذ دياب بن غانم، فراحت سعدى تخاطبه، في اتجاه إيقاف القتال، والعفو عن والدها الزناتي خليفة:
فاعفي عن الزناتي خليفة
وخذ ما تشتهي وتريد
خذ ملكنا والرزق كله
بساتين تونس قريبها والبعيد
ولما لم تجد آذانا صاغية من جانب دياب المتسلط في الانتقام والثأر، راحت تلهب الزناتي والدها للخروج له وحربه محرضة، والزناتي يجيبها:
أيا سعدى حربة دياب بن غانم
تغنى بها الشعراء نغم قصيد
أيا سعدى حربة دياب بن غانم
كم راح منها ابن ست وسيد
وهكذا تجددت الحروب والصدام بين دياب والزناتي.
وهكذا حرم دياب بن غانم - كالزير سالم في حرب البسوس الانتقامية - حرم دياب مجامعة النساء حتى ينتهي من قتل الزناتي واقتحام تونس وسبيها.
وإن كان ما أشفي غليلي منك
يحرم علي وصال البيض ملاح
قال أبو موسى دياب بن غانم
أنا لا مهزار ولا مدعي ملاح
وبادره الزناتي بدوره بأحقاده: «في القلب منك يا دياب نيران.» حتى إذا ما طالبه الزناتي بالتفاوض لإيقاف القتال الضاري والصلح، جاء دور كاهنة بني هلال التي لها ثلث الشورى «الجازية» محرضة:
تريد صلحا بعد تسعين أميرا
حريمهم عليهم قايمين العدايد
بل وصل الأمر بالزناتي خليفة إلى حد مناشدته الصلح الذي لا يبعد كثيرا عن الاستسلام:
فاصفح عن حربي وخذ ما تريد
أموال خذ مني وكل جناس
أعطيك القيروان وقابس
تونس وقابس ودير مكناس
1
حتى إذا استنجد الزناتي بابنته سعدى مستشيرا متخطبا، حثته من فورها على مواصلة القتال حيث لا مهرب.
ويبدو أن الزناتي خليفة حقق بالفعل في تلك الواقعة انتصارا على دياب إلى حد إيقاعه وقتل الخضرا فرس دياب، «التي حزن عليها أشق الأحزان، وأمر بغسلها وتكفينها بشقق الحرير، ثم يدفنونها في مهابة، وبنى على قبرها قبة عظيمة، وذبح على قبرها ألف ناقة فرقها على الفقراء.» «لكن أيقن بنو هلال عندئذ بأن دياب لن ينسى أبدا ثأر الخضرا فرسته، وأن راية الزناتي قد اقتربت بالنصر، وبالفعل فركب دياب ابنها ونازله الزناتي إلى أن هرب الزناتي، فقام دياب بإطلاق الرمح؛ لأن الزناتي كان هاربا، فالتفت لكي ينظر إلى دياب، فأصاب الرمح عينه وعدة «ومرقت» الحربة من قفاه، فتذكر الأمير دياب وقت قول ابنته نجيبة حين قالت له: «اطعنه بعينه»، فمال أبو سعدى عن الجواد، وعول على الوقوع، فسلب «فسل» دياب على رأس السنان، وعاد هو ورجال بني هلال على قوم الزناتي، فبدلوا أفراحهم بالكد، فلما شافوا الزناتي على الأرض مطروح، كثرت عليهم المصائب والأهوال، ما عادوا يعرفون اليمين من الشمال، فولوا هاربين، وأما قرايب الزناتي وقومهم دخلوا وصاحوا الأمان، ودخلوا واقعين على دياب، ورموا سلاحهم، وسلموا أرواحهم، وطلبوا الأمان، وأولهم كان العلام، وطلبوا من دياب مكان يقيموا فيه، ويلجئون حريمهم، فأعطاهم مدينة الأندلس وما حولها.» «ورحل العلام وقومه الحريم والعيال، وقطنوا بذلك المكان، ورجع الأمير حسن والأمير أبو زيد وبنو هلال نحو تونس لينظروا كيف قتل.» «أما دياب ملك تونس، وبالحال نادى عبده خليل، وأعطاه الرمح، وأمره أن يوضعه فوق تونس، وينادي باسم الأمير دياب، وكل من لا يدخل تحته يقتل، ففعل كما أمره مولاه، وصار ينادي بنداه، فسرت سعدى بقتل أبيها، ولبست أفخر ملبوس، وصارت تتبختر كأنها العروس، حتى أتت إلى عند الأمير مرعي وهو يتمشى بجناين القصر عند العصر وهو لابس الملابس الحرير، وهو على رأسه طربوش مغربي، حسب عادات أهل الغرب، ثم دخلت عليه سعدى، وقبلت يديه، وقالت له: اعلم أيها الأمير الخطير، قد جاء الفرج بعد التعسير. وتعهدت وإياه ألا يأخذ غيرها من النساء، وعدته أيضا ألا تأخذ غيره من الرجال ولو قطعت بالسيف.»
على هذا النحو البديع يجيء سرد السيرة للكيفية التي اغتال بها دياب الزناتي في عينيه كمثل طالوت مع جالوت.
ثم كيف انتهت المفاوضات بينه وبين قائد التحالف التونسي المغربي العلام الذي آثر الفرار عن تونس هو وقومه إلى الأندلس ورحلوا إليها.
وكذا الكيفية التي تملك بها دياب لكل السلطة بوضعه رمحه أمام ديوانه، لينحني تحته كل داخل إليه، آخذا مكان الزناتي، مرتديا تاجه المتوارث منذ أيام مهران خليفة كما تصفه السيرة، وذلك بعد أن «علق رأس الزناتي على أسوار تونس، وحرم دفن جثمانه طارحا إياه في العراء، لتنهشه جوارح الطير، وأمر بتنزيل أمارة أمراء بني هلال ليدفنوهم، وتملك دياب تخت الزناتي وحلال الملك والمال والنوال والخدم قدامه، وأمر بإطلاق مرعي ويحيى ويونس، وخلع عليهم، وأرسلهم لعند أهلهم، وجلس دياب على تخت الزناتي، ولبس التاج، وهذا التاج مصنوع من قديم الزمان من أيام مهران خليفة، ومرصع كله بالمرجان الأحمر والياقوت الأخضر، ومنسوج بالدر والجوهر والذهب الأصفر، واجتمعت حوله بنو زغبة صفوا صفوف مئات وألوف وأتوا الجميع حبوا، قبلوا يده، فلما سمعت سعدى بجلوس دياب على كرسي أبيها خافت وارتعدت فرائصها ، وخاب ظنها بمرعي، وندمت حيث لا ينفعها الندم، وتوجهت لعند الأمير دياب، وحبت يداه، وترجته في دفن أبيها، فقبل طلبها دياب أن يدفنوا أبوها بين قبور إخوته بدر وزيدان وطيب بخاطرها، وأدخلها بين حريمه، فأكرموها غاية الإكرام. هذا ما جرى إلى دياب، وأما ما جرى إلى حسن وأبو زيد وهم راجعين إلى تونس سبق منهم ناس، وشاهدوا رماح دياب، والمنادي ينادي اسم دياب والعبد خليل حين رأى الأمير حسن أو الأمير أبو زيد مقبلين، ارتعد نداه، ورجع شاور مولاه، فقال له دياب: «ارجع ونادي كما أمرتك.» فرجع العبد وصار ينادي ألا سلطان إلا دياب، وكل من لا يدخل تحت رمحه يعدمه الحياة، فحين سمع حسن هذا الكلام، قال: «كيف الرأي يا أبو زيد؟ ندخل أم لا؟» فقال أبو زيد: «هينة يا حسن ندخل، وإن شال الرمح.» فكان عبد الأمير حسن وراه ضربه بالرمح قطعه نصفين، فضربه العبد خليل قطعه كما قطع الرمح، وأما حسن هجم على ديوان الزناتي، فوجد دياب جالس على التخت، وحوله أكابر بني زغبة، والخدم والعبيد بين يديه، والتاج على رأسه، فلما نظروا حسن، هجم مثل الجمل الهايج، وقال: «ما هذه السعادة يا دياب؟ أما كفاك مرقتي من تحت رمحك، وتلبس التاج على رأسك، وتريد تورثني، وتعزلني من منصبي ورثة جدي وأبي، ونحن من الذي قصر منا عن حرب الزناتي، لا بد عن قتلك يا نحس بعد هذا العمل.» وانحدف على دياب فوق أبي زيد، والرجال بوجه حسن وقبلوا أياديه، بل إن أبا زيد أكرمه:
تريد قتل دياب يا أبا علي
هو حامي طعننا من كل هايش
لأنه جعل رمحه على باب تونس
فهذا ما هو ذنب يا أمير طايش
حريمنا بعثوا براقيعهم لدياب
ليدعي أبو سعدى بدمه بشالش
جانا على خضرة جندل عدوانا
وأخذ بثأرنا في ماضيات الطرايش»
وحين بدءوا بتقسيم تونس وتوابعها ساومهم دياب من فوره على موت فرسته الخضرا:
وقد راحت الخضرا وشطبها إلينا
من طوى عمري العدا أصونها
وجاءوني بنو هلال وعامر
وجاءوا إلى الخضرا يكفنونها
حفرت لها في الأرض قامة ومثلها
خايف وحوش البر ينهشونها
إن مت والله ادفنوني جنبها في
وسط روضة موضع أن دفنتونها
عسى نلتقي بيوم القيامة جميعا
وأقبل الخضرا وأمسح عيونها
فاعتذر له الأمير حسن، وقال: «الخضرا خذ عوضها مدينة تونس من غير حساب، وأقسم لك ثلث الغرب الذي تريده، وأنا مثلك وأبو زيد مثلي.» فحضروا جميعا الديوان تقاسموا الجميع.
ولا تغفل السيرة بعد تقسيم الهلالية الملك المستباح كيفية تصرف قوم الزناتي الذين يحكمون سبعة تخوت بلاد الغرب، أو المغرب العربي عبر أربع عشرة قلعة، وتقبلهم لخبر مقتل قائد تحالفهم الزناتي، وهرب العلام بقومه إلى الأندلس.
فاجتمعوا إلى ملكهم المسمى بالملك الناحر شقيق الزناتي خليفة، ومن فوره أرسل لخاله العلام في الأندلس الذي رفض في البداية الاشتراك في الحرب القادمة، سوى المساعدة بالمال والعتاد.
ولم يمض طويل وقت حتى تجددت الحرب بين الهلالية وعرب المغرب أخذا بثأر الزناتي خليفة، وتحرير البلاد.
دكتاتورية دياب وأسر سعدى
وكما رأينا، فإن بذور الشقاق بين اليمنيين الجنوبيين والقيسيين الشماليين، أو بين دياب الذي ساوم، وفاز بالباع الأكبر، وبين السلطان حسن بن سرحان وأبي زيد، أطلت برأسها من جديد في مواجهة تقسيم تونس والمغرب.
بل إن دياب ساوم في اقتسام البلاد المفتوحة، حتى على جثة فرسه الخضرا، فأخذ عوضا عنها تونس، ومن هنا لم يتبق له ما يساوم عليه، بعد أن أخذ مكان الزناتي ابنته سعدى، التي ما إن استتب له الحكم، حتى صادفها داخل قصر أبيها الزناتي تبكي وتنوح لفراق مرعي لها عقب فك دياب لقيود الأسرى الثلاثة، وكان أن راقت في عيني - الزناتي الجديد - دياب، فحاول التقرب منها ولو بالزواج.
إلا أن سعدى أبعدته عنها وعن محاولة اغتصابها، وهي بنت سلطان تونس:
فإن أخذتني يا أمير تواظري
فإني أعجل لروحي بشنق حبال
ولا الناس يقولو أخذت عدوها
ولا أنسبك لي يا دياب رجال
ولا أريد الزغبي دياب بن غانم
إلا مقطع فوق رءوس جبال
وكان أن غضب عليها دياب، ورفض طلبها بدفن أبيها الزناتي، وأمر عبيده بجلدها، وأن يشغلوها بالأشغال الشاقة، تطحن الملح تحت ثياب الخيش الخشنة، وتركها حبيسة مدة عشرة أيام.
وفي اليوم الحادي عشر دخلت عليها نافلة بنت دياب، فلما رأتها عن هذا الحال سألتها عن حالها وما جرى لها، فأخبرتها سعدى عن ظلم الأمير دياب، وكل ما جرى لها، وأشارت سعدى تخبر نافلة تقول:
تقول سعدى بنت سلطان تونس
وتجري دموعي فوق خدي بواير
أبكي أبويا الزناتي خليفة
وعلى قومنا راحوا بحد البواتر
أصيب بحربة من يمين ابن غانم
فحكمت له بين العيون والنواظر
ولما قتل ولت أجاويد قومنا
وراحوا كما الطير في الجو طاير
ودياب يريدني أن أكون له حليلة
ويقتل أبوي فوق خيول ضوامر
فوالله ليس بخاطري أن أقابله
وليست أن أرضاه والرب حاضر
بكيت على دهري الذي خانني
ومن حين ولوا لم جبر لي بخاطر
وياما جرى من بعدك يا خليفة
طحنت الملح مساء وباكر
ويا من يعزيني على قتل والدي
ويوضع سعدى في لحود المقابر «وحين سمعها دياب؛ لأنه كان واقف خلف الباب، فأمر غلمانه أن يزيدوا عليها الأشغال، ففعلوا كما أمر، وبقيت على هذا الحال 15 يوم وهي تبكي وتنوح، وكان أكثر بكاها على مرعي؛ لأنه نسيها وما فكر فيها، وكان عندها عبد تعرفه اسمه مرجان من عبيد أبيها، فاستدعته وأشارت تكتب:
تقول فتاة الحي التي خاب ظنها
سعدى التي خانت أبوها وراح
يا غاديا مني على متن ضامر
إذا مشى يسبق هبوب رياح
فحين وصولك للهلالي قل له
يا كامل المعروف والإصلاح
نسيت الصغيرة يا هلالي أبو على
ومعكم ترى ما فعلت قباح
ألا فاذكروا يوما أتونا أولادهم
إلى الغرب رادوهم برأي الفلاح
فأراد الزناتي أن يشيل رءوسهم
ويريد يخطف منهم الأرواح
تشفعت فيهم ثم راحوا نعمة
ولولاي كانوا غدوا شراح
فأنا ملكتكم بأرض تونس
وخنت أبوي ذاك مات وراح
فقال دياب آخذك حليلة
فأبيت أمره يا حسن وقباح
فأخذني دياب وجعلني في مذلة
وتضربني عبيد في مساء وصباح
وأحمل على ظهري الحطب
أحمل جوار الماء بالأتراح
واليوم أعصم حالتي ابن غانم
يعاملني بالشر كل صباح
رمتوني يا ابن سرحان يا أبا علي
فكيف تجاوزون المليح قباح
تقول فتاة الحي سعدى التي شكت
وفي القلب نيران وهب رياح»
وما إن تسلم السلطان الهلالي حسن بن سرحان خطابها، حتى أخذ من فوره أبا زيد، وركبا إلى دياب بن غانم، ليفاتحاه في أمر سعدى، وكيف أنها خطيبة الأمير مرعي، إلا أن دياب رفض التخلي عنها، مغيرا الموضوع إلى المصاعب الجمة، التي أصبحت تعترض قضية تقسيم المغرب العربي بتخوته السبع، وقلاعه الأربع عشرة حتى الأندلس.
ولم يطل خلافهم طويلا، حول كيفية إعادة تقسيم البلاد المفتوحة، حتى جاءت الأخبار صادمة.
ذلك أن الملك ناصر شقيق الزناتي، جمع تحت إمرته سلاطين التخوت السبع، وأخذ معه العلام بالحيلة والتهديد لمعرفته بمسالك طرقات تونس والمغارب ومكامن ضعف قوات التحالف الهلالي.
وهجموا بأسلوب مفاجئ على ابني أبي زيد ودياب صبره وموسى، ومن ولوهم من أمراء وقواد بني هلال، وعددهم ثمانية فقتلوهم، وأسروا صبره بن أبي زيد، وأخذوهم معهم في الأغلال رهينة.
حين حاول العلام التدخل لفك أسر الأمير صبره بن أبي زيد، عاجله أمير من عرب المغرب، وطعنه في صدره، فأماته بثأر الزناتي، واتهموا العلام بالتآمر لحساب الهلالية.
وكان أن تجددت الحرب هذه المرة ضارية، وتمكن الهلالية في الجولات الأولى للحرب من قتل العلام؛ لأنه كانت بينه وبين أبي زيد معاهدات
1
لم يحفظها، وحزن أبو زيد لموته.
وتقدم أبو زيد ببني الزحلان إلى قابس، ودياب ببني زغبة إلى كويج، وواصل أبو زيد ودياب زحفهما:
ملكنا من نجد إلى قاع تونس
بطعن يورث العدا عطيبها
فقتل دياب أحد أمراء عرب المغرب، واسمه الأمير «وائل»، واعتلى من فوره عرشه.
ثم قتل دياب الملك سليمان، وجلس على كرسي مملكته، وانتهى من تحرير القلاع السبع، وولى عليها وجوه بني زغبة من قبائله اليمنيين وعرب الإمارات.
وبدوره واصل أبو زيد زحفه لتحرير نصيبه في حكم المغرب العربي، فافتتح القيروان، واستقبله أهلها بالورود والرياحين والزينات ثم فتح مراكش، إلى أن وصل إلى مكان، تدعوه السيرة «بالأندلس».
2
وحين انتهى أبو زيد ودياب من الوصول بفتوحاتهما عبر المغرب العربي، وصولا إلى شبه جزيرة أيبريا - أو ما تدعوه السيرة بالأندلس - اجتمع أبو زيد ودياب في بلد تدعى «عين تورز»، وعادا إلى تونس للاجتماع بالسلطان حسن بن سرحان في نجوة بني هلال، وأعادوا من جديد تقسيم «الغرب» أو المغرب العربي بالسوية كما يذكر النص.
إلا أن دياب أصر على أن يأخذ كعهده تونس «عوضا عن موت الخضرا» فرسه التي قتلها الزناتي، خارج القسمة «بالسوية».
وأصبحت القيروان وتوابعها عاصمة للسلطان حسن، أما أبو زيد فاتخذ الأندلس عاصمة له.
مأساة سعدى ومرعي
وهكذا استتب الأمر للهلالية من عرب قحطانية وقيسية. أو نجدية حكم المغرب العربي وصولا إلى مداخل أوروبا الجنوبية دون مناوئ.
واتساقا مع ما هو متبع، فما إن هدأ صراع الحرب والنزال، حتى اندلعت حروب القصور، والمضاجع والحريم.
ذلك أن دياب بن غانم ما إن عاد فاتحا منتصرا إلى حيث مقره تونس، وبالتحديد قرطاج عاصمة ملكه المترامي، ليعيش حياته المترفة داخل حريمه «بعدد شعر الرأس»، حتى بدأ صراعه مع أسيرته سعدى ابنة الزناتي خليفة التي تمكنت بدورها، من أن تصبح عينا مسلطة داخل حريم دياب لحساب الشق الثاني من التحالف، السلطان حسن وأبي زيد، فهربت من فورها المكاتبات والرسائل للسلطان حسن ومرعي تخبرهما بما أصبحت فيه من ذل وتجبر دياب وتنكيله بها إلى حد التهديد اليومي بالقتل والتشويه، وهي التي نسيها، وتخلى عنها الجميع.
لكن ما إن علم السلطان حسن بمدى ظلمها والخطر المحيط بها، حتى بادر من فوره إلى جمع خمسة آلاف فارس، وشدوا الرحال إلى الأندلس للاجتماع بأبي زيد الهلالي، وبلاغه بمعاناة سعدى وتسلط دياب.
وما إن أبلغ السلطان أبو زيد بما حل بسعدى، وهي خطيبة ابنه مرعي، الذي أصبح كالمجنون لا يعرف كيف يتصرف بإزاء جشع دياب وتسلطه، على الأميرة التي أبلت الكثير في مساعدة الهلالية، وترجيح كفة انتصاراتهم في مواجهة قومها وقبيلتها، وما تعرضت له من الامتهان.
بل هي ذاتها سعدى التي خاطرت مخترقة حصار أعداء بلادها، مشيرة عليهم بأهمية عودة دياب بن غانم، فهو وحده المقدر له قتل أبيها الزناتي وفتح تونس.
وهكذا تأهب السلطان حسن وأبو زيد للرحيل «وسارا حتى دخلا إلى تونس المغرب، فلما نظرهما دياب، لاقاهما بالترحيب والإكرام، وأدخلهما القصر، وذبح الذبائح وأقام بضيافتهما ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع قال لهم دياب: لقد شرفتونا بمنازلكم، وكان الواجب أرحل أنا لأول إليكم، وأقدم الواجب علي. فقال حسن: نحن ما أتينا إلا لأمر مهم. ثم أشار يقول:
يقول حسن الهلالي أبو علي
ولي قلب من جود الزمان كواه
ولي عين طول الليل لا تألف الكرا
ودمعي فوق خدي سجاه
يا دياب الخيل اسمع مقالتي
واصغي لقولي وافهم معناه
سعدى بقت عنده وديعة بينما
يروق منا البال نقيم هناه
طلبت منها أن تكون حليلتك
هذا فعال العيب لا ترضاه
وجعلتها عند الجوار لخدمتك
وتطحن لملحك والحطب مياه
عيب ترى هذه الفعال جميعها
وما هي مروءة الرجال تراه
سعدى مرادي أخذها لضعونا
وأزوجها مرعي بأحسن جاه
وهي يتيمة يا دياب بن غانم
أبوها قتلته أنت وسط فلاه
فلما فرغ حسن ودياب يسمع تضايق، لكنه أخفى الكمد، وقال إن سعدى باقية كما هي، وأما قولك: إني طلبت أن أتزوجها، فهذا كذب، فقال حسن: هذا كتاب سعدى اقرأ. فقرأ دياب واغتاظ أكثر من الأول وقال: يا حسن هذه سعدى بواقعة وحالته، فالتي تخون أبوها لا يكون فيها خير لأحد، فالواجب إذلالها. فقال: هذه خطيبة مرعي أطلبها.»
ويبدو أن السلطان ودياب قد وصلا في احتدامهما إلى حد الاشتباك، وذكر دياب للسلطان، كيف يهينه من أجل فتاة خانت والدها وقبيلتها ويحق بالتالي قتلها.
ثم إن دياب اقترح وضع سعدى في مكان بعيد في آخر الميدان المتصدر لقصره، الذي كان قبلا قصر أبيها الزناتي، ثم يركبون خيولهم بأول الميدان، ويطلقون الأعنة، ومن يصل إلى سعدى تكون ملكه ويأخذها. «فقال حسن رضيت. ودياب رضي أيضا، ثم اتفقوا على ذلك، وفي اليوم الثاني أحضروا سعدى إلى الميدان ، ووقفوها في آخره، ووقفوا هم في أوله، وأعطوا لبعضهم شارة، فخرجوا كأنهم نشاب، كان دياب راكبا الشهبا ابنة الخضرا، وكانت أحسن من أمها، فراحت أمام الجميع ومن خلفه الأسمر الآخر على الحصان، وكانت المسافة مقدار ساعة، فلما وصل إليها، قالت له سعدى: أنا أختك يا دياب. وكان الأسمر علمها أن تقول ذلك، فلما سمع كلامها، عرف المضمون، فشهر حسامه فجرحها جرحا بليغا، فصار به حسن، وقال: ماذا عملت هكذا يا دياب؟ قال: أنتم قلتم إن الذي يسبق إليها تكون ملكه، وهي صارت ملكي، فأتصرف كيف أشاء، وبما أنها خاينة لا أريد أن أبقيها عندي. ثم نزلوا إلى سعدى، فوجدوا فيها روح، فحملوها وساروا حتى دخلوا القيروان، واجتمعت البنات والنسوان لما عرفوا بقتل سعدى، وكذلك مرعي فإنه مزق ثيابه، ونتف شعره، وسار كالمجنون، وأما سعدى فإنها فتحت عينيها من حلاوة الروح، وأشارت تودع الدنيا بكلام يفتت الأكباد:
أنا كنت أسعد الناس كلها
شبيه القمر إن بان تحت غمام
مولعة بالعز والغنى والصبا
أنا وأبي في لذة وأنعام
فلما أتى أبو زيد للعرب ردها
ومعه أمارة خيرين كرام
علمت بهم من قبل أن يأتوا بلادنا
ضربت تحت الرمل والأفهام
جاءوا إلى سلطان قابوس الضحى
وأبو زيد من سهر الليالي نام
أتوهم عبيد السود وقفوا حولهم
وهم ساحبين خناجر وحسام
وشدوا أياديهم كتافا إلى ورا
وأخذوا صوارمهم مع الأغنام
وقد عرضوهم للزناتي خليفة
ملك ملوك الأرض كالضرغام
نهرهم وقال جيتم تزوروا بلادنا
فقالوا نحن شعار نقصد الإكرام
فقال شلحوهم يا عبيد ثيابهم
وامضوا بهم إلى المشنقات قوام
ونادى عليهم في شوارع تونس
ردلوا حبالا ما كنات برام
فطليت من شباك قصري أشوفهم
وأنا مثل بدر مستهل تمام
تعلقت في مرعي لما نظرته
سلب مهجتي والقلب منه هام
وقد أصلت نار الغرام بضامري
وقد هاج بليلي وزاد غرام
نهضت أنا من منزلي نحو والدي
وقلت يا أبي لا تكن ظلام
فما ذنب شعرا أمرت بقتلهم
مساكين فقراء كلهم أيتام
فقال جاءوا يزوروا بلادنا
لكي يملكوها في قنا وحسام
أشرت على أبويا شور أطاعني
ومن يأمن الأنثى يروح عدام
لبست من الصندوق ثوبا مذهبا
وأرخت من فوقه رفيع أكمام
وفي وسط قصري يا أمير وضعتهم
وأبو زيد قد راح يجيب أغنام
وقلت لهم لا تحملوهم والنبي
عليكم مني ألف ألف سلام
وجبت لهم من كل ما يشتهونه
من اللبس والشاشات والهندام
إذا لف مرعي الشاش من فوق
راحة فيقطع حبلى ما أطيق قيام
أشوف وجهه كالهلال إذا بدا
وجبهته تضوي كبدر تمام
مضى وما مضى إلا وأبو زيد عائدا
ومعه جموع مثل فيض غمام
وعدد تسعين ألف ومثلها
وتسعين في تسعين ألف همام
زرعوا أرض تونس والبساتين كلها
وابنوا بيوتا عالية وخيام
قتلتم أبويا ثم أخذتوا بلادنا
قتله الفتى الزغبي أبو غام
تملكتم تونس وقابس أرضنا
ولا تحفظوا لي يا كرام مقام
وما نلت من مرعي مناي وبغيتي
نسيني ولم يرعى إلي زمام
يا رب من كان السبب بفراقنا
يقتل وفوق الأرض دمه يعوم
قد أحرموني لذة العيش والهنا
وشملي تفرق ما بقي له لموم
فلا تلموني الصغيرة إذا بكت
أبكي على أهلي وكل غموم
زرعت جميلا قابلوني بضده
وكيف من زرع الجميل يضام
أيا أبا علي قد كان مني تحاكم
وملكتكم عشرين تخت تمام
فما عاد إلا الموت يا أمير أبو علي
سأرحل عن الدنيا بغير مرام
يا أبو علي هات لي مرعي أشوفه
وأودعه قبل أن أذوق حمام
يا ليت أبقى لمرعي خديمة
وأكبس لرجليه بوقت منام
فما فرغت سعدى من كلامها حتى شهقت وماتت، فقاموا عليها الصياح والنواح، ثم غسلوها ودفنوها، وصار حسن في قلبه من دياب نار، وأما دياب فإنه طغى في الحكم؛ لأنه ملك في آخر عمره، وكان يبغض على أهل العرب، وهم كلهم يبغضونه، وما عرف كيف يتصرف بالملك، فأفسد عليه أهل بني زغبة، وصاروا يوشون لهم حتى صاروا أكثرهم يبغضوه، ولكن ما حد منهم قدر أن يحكي كلمة؛ لأنهم يخافون من بأسه وسطوته، ودامت الأحقاد بين دياب وحسن وأبو زيد، ولكن في الظاهر كانوا يظهرون المحبة والمودة، ويخفوا ما في قلوبهم.»
خلافات بني هلال والهزائم
وعلى هذا النحو برزت الخلافات والأحقاد الدفينة بين قطبي التحالف الهلالي في مواجهة البلاد المفتوحة وأموالها وسباياها، وضاعف من حدة هذه الانقسامات المتفاقمة المهددة استثارة قبائل الزناتي، وعرب المغرب لها طلبا للثأر، مثلما حدث في حرب البسوس التي أذكت نيرانها لمدة أربعين عاما الكاهنة الملقبة بسعاد أو البسوس أخت التبع اليماني الذي اغتاله «كليب الفلسطيني» في دمشق.
وعليه استطاعت أخت الزناتي خليفة واسمها ست الغرب التنكر في زي شاعرة جوالة، أو بصفة شاعر لف، كما تدعوها السيرة، تمدح الأمراء إلى أن وصلت تونس، ودخلت على الأمير دياب بن غانم ديوانه فمدحته، وهنأته على قتله للخليفة الزناتي أعدى أعدائها. «وعزمته في ضياعها المخصبة الفواحة وقصرها بعين سلوان.»
وعندما راق للشاعرة المتنكرة بذور الحسد التي زرعتها فيما بينهم، واصلت تحريضهم لبقية القبائل.
وهكذا قال أبو زيد معرضا بدياب: «نحن ماسكين البقرة من رأسها، ودياب يحلبها من ذنبها.»
وهكذا تجمعت نوايا الحرب والعدوان بين دياب، والسلطان، وأبي زيد خاصة بعد أن أغار الأخيران على «بستان دياب المزهر، فحطموا شجره، وهدموا قصره، وردموا آباره.»
ونشبت الحرب لفترة محدودة بين السلطان حسن ودياب، إلى أن تمكن أبو زيد من عقد المصالحة بينهما في القيروان، إلا أن السلطان حسن دبر مكيدة لدياب تسوقها السيرة على النحو التالي:
وكان دياب لابس جبة من الحرير الأخضر، وشالح على كتفه برنس أحمر وعلى رأسه عمامة من البرفيل والأرجوان، ثم دخلوا على الأمير حسن، فترحب فيهم غاية الترحيب، وجلس دياب على كرسي من العاج كأنه الذهب الوهاج وقومه من حواليه، ثم أمر الأمير حسن بإحضار القهوة والكأس والشراب، وأحضر مائدة من الطعام مصحوبة بألف فارس ضرغام، أجلسوا على المائدة، وجدوا المناسف مغطاة، فرفع الأمير دياب الغطا عن المنسف، وجده فارغ من الطعام، وفيه قيود من الحديد، فقال الأمير دياب: «ما هذا يا حسن؟» فقالوا: «الواجب أن تتقيدوا إلى السلطان بالإطاعة، ولو ساعة.» فعندها وضع الأمير القيد برجله، وفعلت باقي الأمارة كفعله، وبينما هم كذلك إلا اندفعت فرسان دريد لداخل المكان، وبيدهم الخناجر والسيوف، ومن جرى من ذلك، فصار دياب كالملهوف، فعندها أمر الأمير حسن بنصب المشانق والحبال، وقال: «اشنق جميع هؤلاء الرجال.» فذبحوا ستين أمير، غانم ودياب والبقية أمر بشنقهم، أما الأمير غانم ودياب كاد تقفز مرارتهم من كثرة الحزن، ولكن ما طلع بيدهم شيء بحيث إنهم مأسورين وخاليين السلاح.
ولما وصل الخبر إلى أبو زيد أتى من الأندلس إلى حسن، فسلم عليه ورحب به غاية الترحيب، ثم سأله أبو زيد ما فعل؟ فقال له الأمير حسن: «ما عملت مع دياب إلا سجنه، فإن كنت قتلت أولاد عمه وأخواته، فإنه قتل أخي وخطيبة مرعي، وجرح مرعي، وجرح قلبي عليهما، فقابلته بمثل ما قابلني، وجرحت قلبه عليهم.» ثم إن الأمير حسن بعث ألف فارس إلى تونس، وأمرهم أن يحضروا له خزانة تونس وسلاح دياب وأثاث بيته، وكل ما في قصر الزناتي يحضروه، فحالا ذهبوا، وأحضروا ما أمرهم به الأمير حسن.
اغتيال دياب للسلطان وأبي زيد
وبسجن دياب وأسره بالقيروان عند السلطان حسن الهلالي، تحدث بضعة أحداث جانبية؛ منها مقتل الأمير يونس، وحزن بني هلال عليه طويلا، ومنها حكاية استطرادية تحدث لزوجة أبي زيد عليا، تستدعي منه العودة إلى الجزيرة العربية والوصول إلى نجد لفك أسر زوجته العالية بنت جابر.
أما دياب فحاول جاهدا التوسط لفك السلطان أسره دون جدوى:
تجازيني بالحبس يا سيد الملا
وقد صار لي بالحبس سبع أعوام
إلى أن تشفع له أبو زيد لدى السلطان، وساعدته نساء بني هلال في الإفراج عنه.
وهكذا أفرج عنه السلطان في موكب مهين لفارس كدياب على هذا النحو الذي تسوقه السيرة:
فناشدونه أولاد الأمارة والشبان الذين لم يسمعوا بذكر دياب إلا باللسان، فتشوقوا إلى مشاهدته ولو ساعة، فترجوا السلطان وساعدوهم الأمارة والنسوان، فقبل السلطان حسن رجاهم، وأمر أن يأتوا بدياب مكبلا بالقيود والحديد، وفي الحال أحضروه بالجنازير، وأمام السلطان أوقفوه، وإذا هو أصفر اللون بهيئة الموتى، فصاروا أولاد الأمارة يضحكوا عليه، فقال السلطان حسن: «كيف ترى أمورك الآن بالذل والهوان؟» فقال: «ما دمت راضيا علي.» وبعد مداولة طويلة أراد أن يرجعوه الأمارة إلى السجن، فقال دياب: «أنا شمسية تهزني، ولا قمح تكدني بغربالك، فإن كان الذئب يصفى للغنم أنت تصفا لي، وأنا أصفا لك.» فصاح حسن: «ويلكم، دياب أمسكوه وإلى السجن ودوه.» فعند ذلك أخذ دياب يرتجف مظهرا الخوف الشديد، فوقع على الأرض مغشيا عليه، كمن قارب الموت، فعند ذلك ترجوا الأمارة الأمير، وقالوا له: «إن دياب في حالة نزاع.» فأمر أن يدخلوه دار الحريم لعند أخته نوفلة، وما أتم كلامه إلا وحضرت الرجال، ورفعوا دياب بكل إكرام إلى بيت أخته، فلما نظرته على هذا الحال، وهو محمول على أيادي الرجال صرخت بالبكاء، وأنت واشتكت، ومزقت ثيابها، وأخذت تقول:
حرام لقد جاروا بالعداة وبغوا
علينا ونحن بالكروب نسير
لقد كنا في عزتنا بنعمة
وكنا برغد ما عليه عسير
فبينما نقاسي الهم والويل والضنا
وتجري الدموع على الخدود عزير
وقد كنت يا أمير الأمارة وسيدهم
كسبع الفلا بالماضيات تشير
إذا هاج سوق الحرب كنت أميره
تكري على الأعداء مثل الزير
وتحتك خضرا مثل فرخ نعامة
تدق الثرى في رجالها وتطير
فما كان ظني يا دياب بن غانم
أشوفك بهذا الحال والتأخير
تشال على أيدي الرجال كميت
وتبقى تقاسي الذل والتأخير «وأسرعت ومدت إلى أخيها فرش من ريش النعام، وأخذت ترش عليه من ماء الجذام، وهو ينتفض ويرتعش، وبقي على هذا الحال ثلاثة أيام، لا يذوق طعاما ولا يقابل مناما، وهو يستغنم الفرصة حتى تناصف ليل اليوم الثالث، فدخل على حسن وهو غارق في منامه، فعند ذلك استل الشفرة التي كانت معه في مدة حبسه، وهو يحضرها لمثل هذا الوقت، فانطرح على حسن وذبحه من الوريد، وتركه يتخبط بدمه، وسار يجد السير تحت ظلام الليل، إلى أن وصل إلى قومه وعشيرته، وعند الصباح فرحوا به كثيرا وانسروا لرؤيته، وأخذوا يسألونه عن قصته، وعن كيفية إطلاقه من سجن حسن، فأخذ يقص عليهم القصة، ويخبرهم كيف صار من البداية للنهاية إلى أن أخبرهم بقتله السلطان، فحزنوا وقالوا: أصبحنا عبرة عند العرب، فسوف يصير بنا كما صار مع جساس بن مرة والأمير كليب، ومن الآن أصبحت عداوة كبيرة بين عشائر بني هلال، وسوف يصلون إلينا، فلنرحل من هذا المكان قبل أن تدركنا جميع بني هلال. فلما سمعوا كلامه وفهموا مرامه، قالوا: إن هذا هو الأمر الأحسن لنا؛ لئلا تدركنا جيوش بني هلال.
فهدموا الأطناب، وأودعوهم ظهور الجمال، وأركبوا النساء والأطفال، وصاروا يجدون بقطع الروابي والبطاح، وما إن عم خبر اغتيال دياب للسلطان حسن بن سرحان، حتى عمت الأحزان القيسيين والعامريين، وما إن وصل الخبر مسامع أبي زيد حتى شق ثيابه، وألقى بشاله، ونتف لحيته، وأهال التراب مع النساء، وبكته أخته الجازية:
عمود ركبتي قد هبط يا نكبتي
طول المدى ما أنظر الأفراح
وبكينه:
يا مشبع الجوعان معزي الحزين
يا سيد المكروب يا مولى العرب
وما انتهت مراسم الجنازة وشعائر الدفن، ونحر الذبائح، حتى تنادوا في صيوان أبي زيد بالثأر ورفع العار، وبالطبع دقت طبول الحرب الثأرية الانتقامية من جديد، وساروا حتى دخلوا إلى حيث قصر دياب بتونس، فاستقبلهم التونسيون معزين، وأخبروا أبا زيد برحيل دياب وقومه إلى بلاد الأحباش.
فاستقر رأي القيسيين على تعقب دياب، إلا أنهم أجمعوا في النهاية على تنصيب أبي زيد الهلالي سلطانا على «تونس والمغارب».
بينما رحل دياب بقومه إلى الحبشة إلى أن كان يوم، تذكر فيه أبو زيد صباه وصداقته لدياب وحربهما جنبا إلى جنب، فأرسل يستعطف بخاطره طالبا منه العودة.
وحين علم دياب بعفو أبي زيد عنه استبشر وراسله، كاشفا له عن حاله، وما ألم به في الحبشة، فحتى نساؤها تحدث عنها دياب باستفاضة:
بنات البدو سود العيون قوامهم
إذا ما مشوا حسبتهم رمح ثقيف
ولكن نسوان الحبش كعجينة
الوجه منه كالحا ونشيف
ترى الواحدة كالفرق منه أشنعا
قبيحة وخيمة ما بها تنظيف
بأسنان صفر والعيون مفتخرة
لها معصم يابس كحبل الليف
ترخي كرادين لها فوق صدرها
وبالأكل مثل الكلب عند الجيف «وسار الأمير دياب إلى الملك جوهر، وودعه وركب بقومه ورجاله إلى أن دخلوا بلاد الغرب، فخرج الأمير أبو زيد ولاقاهم، وتصالحوا ورجعوا إلى الأوطان، وعمل أبو زيد وليمة فاخرة، وذبح الذبائح. وصار الأمير أبو زيد والأمير دياب في محبة زايدة، ولكن أبو زيد لم يرجع للأمير دياب ملكه، وبقي هو الحاكم، فما هان على دياب وسار يقول: متى ترجع لي البلاد التي أخذوها مني؟ وأبو زيد لواطي. فاغتاظ الأمير دياب، وكمن السر لأبو زيد، وقال في نفسه: أنا صنعت دبوس وسكين السين للأمير حسن، فخلصنا من واحد وبقي علينا الآخر. وصار من ذلك الوقت يحمل الدبوس، وكان بسبع فراشات من تحت العباية حتى لا يلحظ عليه أبو زيد، إلى أن كان ذات يوم خرجوا للصيد والقنص، وكان مع الأمير أبو زيد جماعة من قومه، ومع الأمير دياب جماعة من قومه، فوصلوا إلى البر، وخرجت الفهود والصقور، تفرق الفرسان تطارد الغزلان.» «وبقي الأمير دياب وأبو زيد في جهة، وصار الأمير دياب يطارد الشهبا، ويلعب كأنه في الميدان، فصار يعمل مثله أبو زيد، فدار نصف ساعة فصاح فيه، وقال خذها من يد دياب، فالتفت أبو زيد مرعوبا، فوجد في يد الأمير دياب سنبلة قمح، فضحك دياب وعمل هذا الأمر ثلاث مرات، ورابع مرة صاح دياب خذها من يد دياب، فما التفت أبو زيد، وظن أنها ضحكة مثل العادة عند ذلك، لكن الشهبا طلعت كالريح حتى قربت من أبو زيد وصار جنبيه، فسحب الدبوس، وضربه على رأسه، فطلع برز مخه فرأس الدبوس، فوقع أبو زيد على الأرض عميان، فوقع الأمير دياب، وقد أخذته الشفقة، فصار إليه يبكي ويلعن الحمق مدة من الزمان، فتح أبو زيد بعينه دياب واقف، فقال له: ما كان ظني فيك يا دياب. ثم تنفس منشدا:
قال أبو زيد الحزين الهايم
دمعي على خدي سجايم
أيا دياب الخيل يا ولد غانم
أيا صاحب الأفعال بين العوالم
ما كان ظني يا دياب الخيل تخونني
وتدعي صحبتك فوق الردايم
آلمتني يا دياب بضربتك
أيا حيفا كنا يا أسير لزايم
مقال الحزين ابن رزق سلامة
لقد سلمت روحي لرب العوالم
فلما فرغ أبو زيد من كلامه والأمير دياب يسمع نظامه دمعت عيناه ونزل إليه وضمه إلى صدره.»
وعلى عادة ما هو ملمح رئيسي بالنسبة لسيرنا وملاحمنا العربية، استرسل أبو زيد المغتال بيد دياب من مرثيته الذاتية، وما علق بها من تراكم ملحمي عبر العصور.
وهكذا تخلى عنه دياب مضرجا في دمه، بنفس ما فعله جساس بن مرة عقب اغتياله لكليب. «وصار دياب كالمذهول بقومه إلى تونس ودخل إلى سراية الأحكام ونادى باسمه، بل هو تجاسر معلنا قتله لأبي زيد الهلالي، وأنه الحاكم الوريث لتونس والمغارب.»
وبكت نساء هلال «القيسيات» ورجالها أبا زيد، وكترت فيه المراثي، فأنشدت الجازية، عقب دفنه إلى جوار أخيها السلطان حسن:
أبو زيد بالعربان ليس مثاله
بالجود والمعروف وحسن ثبات
حوى حكمة لقمان وجود حاتم
وصبر أيوب وكل صفات
وحاز خصال الخيرين جميعهم
أمير ابن أمير سيد السادات
أبو زيد انظر حالنا وما جرى لنا
وفينا دياب حاكم الأوقات
أصبح على تخت ابن سرحان جالسا
وحاش بيده المال والصهوات
وعادت خيوله غابرة نحو أرضنا
وله مقام يرفع الشدات
أحيف حط الباب من الجو للوطا
وعادت عصافير الشجر عاديات
عاد الضبع يا ناس للسبع طارده
وعادت عدانا بالهنا فارحات
ثم إن القيسيين أو عرب الشمال بزعامة الجازية تظاهروا بالخضوع لدياب، ووضعوا المناديل في رقابهم علامة الأمان، وخرجوا ينادون: «يا دياب، أنت ملكنا والحاكم علينا، ولا حد منا يعصي لك أمر.» لما نظروه وتقدموا وقبلوا أياديه ورجليه، وقالوا له: «أنت السلطان ومثلك يليق أن يكون سلطان.» «ثم دخل الأمير دياب وجلس على كرسي الأمير حسن، وصارت تأتي إليه الأمارة واحد بعد واحد يهنوه، ويدعون له بطول العمر، وأما الجازية والنافلة والحريم والأولاد فإنهم اختلفوا، وعند الليل ركبوا وساروا، وسبقتهم كثير من قومهم، وتسلطن دياب على كل بلاد الغرب، وأمر أن ينادى باسمه ، وأنه هو الملك حاكم بلاد الغرب، وصارت تأتيه الهدايا والتحف ورتب الحكام وعزل.» «ولما راق باله سأل عن أولاد حسن وأبي زيد، فأخبروه أن الجازية هربت فيهم مع بقية النسوان، وتبعهم ثلاثون ألف نفس من بني دريد وزحلان، فتكدر خاطره وقلوا حميت ظنوا السوء، وما آمنوا إلي، فأنا لا بد لي أن أذلهم وأقرهم؛ لأنه كان بفكري أن أرتب لهم معاش وأقوم بوصية الأمير أبو زيد، ثم ركب وتبعهم فما لحقهم، فرجع وهو متكدر.»
مصرع دياب وأبناء الشهداء
وما إن ساقت الجازية أبناء قتلى بني هلال وشهدائها، حتى أرضعتهم من حديد الثأر، وربتهم على القتال عند ملك يدعى شمعون، بلاده حارة يرجح أنها الحبشة.
والسيرة هنا في جزئها الأخير، إنما تؤرخ لجيل تال، أصبحت تطحنه بدوره الحروب القبلية أخذا للثأر، وتشفيا بالدم الواحد المراق، الذي أصبحت تغذيه الانقسامات القبلية والعشائرية.
بالإضافة إلى النداءات التحريضية للجازية وموثباتها في اتجاه الحرب، كمثل إيزيس حين خبأت ابنها المنتقم لأبيه حورس في أحراش الدلتا، إلى أن اشتد ساعده، فقتل عمه ومغتصب عرشه ست أو شنح، والذي هو في موقع دياب بن غانم، الذي كان قد تزوج بامرأة من قومه أو قبيلته اسمها «نسرين»، ذلك أن الحرب كانت قد التهمت كل أبنائه فيما عدا وطفة التي تسمى بها، لكنه أنجب من نسرين أميرا يدعى نصر الدين، وفي ذات الوقت الذي اعتنت فيه الجازية بتربية اليتامى وأهمهم الأمير بريقع ابن السلطان حسن مع أبناء أبي زيد.
والملفت أن عين دياب بدوره لم تغفل عن نمو الأمراء - الأيتام - وحاول جاهدا مطاردتهم والتنكيل بحلفائهم وحماتهم أينما كانوا، سواء في مراكش أو الحبشة أو الأندلس، أو حتى من اختبأ واحتمى منهم في نجد والحجاز.
حتى إن دياب تحايل باتجاه التودد لبعضهم لاغتيالهم بالمكيدة ذات عيد للحم أو الضحية بإحدى القلاع، على عادة مذابح القلاع الجماعية الخادعة.
فقال لهم: «إن الرأي عندي أن نعمل وليمة على العيد وعندما تجتمعوا أوهموهم واقتلوهم، ولا تدعوا من أكابرهم أحد.» «وكان ثاني يوم عيد الضحية، فعمل دياب الوليمة، ومد السماط، وكان شيء يدهش العقول، وعزم بني دريد وأكابرهم، فحضروا ودخل نصفهم، وجلسوا على الطعام، وبقي النصف الآخر على ظهور الخيل، وفي تلك الساعة ارتفع الصياح، وعلا من كل ناحية، ورفع الصوت في بني هلال، وارتجت الأرض من كل مكان، ووقعت الضحية الصحيحة، وإذا بالطبول دقت والرايات ظهرت وانتشرت، والرماح انعكفت، والأصوات ارتفعت، والنساء زغرطت، فعند ذلك سأل عن الخبر، فأخبروه بما جرى من اليتامى، وأنهم نهبوا البوش، وقتلوا الرعيان، وطافوا على البلد من كل مكان، فعند ذلك أرسل دياب إلى ابن أخته بريقع جوابا يهدده بالقتل وبعته مع تجاب، فأخذه وسار إلى بريقع، فأعطاه الكتاب، ففضه وقرأه، وعرف رموزه ومعناه، وقال: الله يعلم إن خالي خرفان، ومراده أن أرد له البوش، ونحن لا نرضى بالبوش ولا بغيره إلا أخذ روحه.»
وهكذا اشتد ساعد بريقع بن أبي زيد، بفضل حنكة الجارية أو الغازية إلى أن راسل خاله دياب بن غانم، وتهدده بالثأر وطالبه بالقتال.
وفي البداية نازلت الجازية ذاتها ديابا، متنكرة في ثياب فارس في الميدان، لحين استشهادها على هذا النحو الذي تسوقه السيرة:
فعند ذلك برز الأمير دياب إلى الميدان، وقال إلى الجازية: «من تكون أيها الفارس المفتخر على أبناء جنسه؟» فقالت له: «أنا ابن هذا الميدان، فمالك والسؤال؟» فقال لها: «لا أقاتل إلا من كان حسبه من حسبي، ونسبه من نسبي. فقالت له: «ما أكثر منك حسبا ونسبا، أنا الجازية أخت الأمير حسن وصديقة الأمير أبو زيد، وقد جئت لأخذ الثأر.» فضحك دياب حتى استلقى على قفاه، وقال لها: «متى تعلمت الفروسية؟ وأنا إن قتلتيني لا أقاتلك؛ لأنه عار أن أقتل امرأة مثلك؛ لأنه لا يليق بي هذا الأمر، وإذا قتلتك يقول الناس دياب عامر ملوك الأرض بالطول والعرض يبرز لحرب امرأة، روحي أرسلي الأمارة.» فقالت له: «ما أروح من هنا حتى أحاربك يا خائن يا غدار.» فقال: «يا جازية، بطلي كلامك الفشار، وارجعي إلى أولاد الأمارة أتنعم بآبائهم.» فقالت: «ما بالك ولهذا الكلام؟ انزل الميدان حتى أذيقك الموت؛ لأنك رديء خائن، وما جزاك إلا قطع رأسك.» فلما سمع دياب كلامها لعبت برأسه نخوة الرجال، فرفع رجله وضربها على جبينها بقوة عزمه، رفعها عن الحصان 8 أذرع، فوقعت على الأرض ميتة، فقال أولاد الأمارة: «موت عمتكم؛ لأنها قد تطاولت، فنالت جزاها.» رجع دياب محزون عليها وقال في باله: «الله يلعن الشيطان ما كان لازم هذا أمره.» وأما الأمارة أخذوا الجازية كفنوها، وعملوا عليها مناحة عظيمة. «وفي ثاني يوم برز بريقع إلى الميدان، فبرز إليه دياب والتقيا.
فلما نظرهم دياب ضحك وقال: والله مرادي أقاتلكم بلا درع وعلى كديشة عرجا. فمنعوه قومه، وقالوا له: أنت رجل كبير فما نسلم معك على ذلك. فبرز دياب بلا درع، وما معه إلا السيف والترس، فالتقاه الأمير بريقع، ووقع القتال، وانحدفوا اليتامى مرة واحدة، فالتقاهم وصاح فيهم صيحة ارتجت منها الجبال، وأراد أن يضرب بريقع بالسيف يقطعه قطعتين، فطرحه شيبان بالرمح من بعيد، وقع في جنبه دياب على الأرض من عظم الألم، فعند ذلك تقدموا الأمارة، وقال له بريقع: كيف حالك الآن؟ ثم تنفس دياب، وقال: أنا شبعت من الدنيا، وهذه مقدار كل موتة، ولها سبب، وأشكر الله الذي مت قتيل أولاد حسن وأبو زيد ولا قتلني أحد غريب. فلما فرغ دياب من كلامه، غاب عن الوجود مقدار ساعة، ثم أفاق وصار يودع الدنيا:
مقالات الزغبي دياب بن غانم
أيا موت قد زرتنا ثم دنوت» «وبعد أن مات قال بريقع: أحضروا السكين التي ذبح بها أبي، فأحضروها، فقطع بها رأس دياب، وفصله عن جسده وتركه ورجع، فأتوا قوم دياب فأخذوه، وكثروا عليه البكاء والعويل، ومزقوا ثيابهم وناحوا وصاحوا، وسرجوا الخيول سود، ورفعوا البيارق السود، ودقت طبول الحزن، واجتمعت الأمارة من كل ناحية، وعند ذلك دفنوه.» «وجلس بريقع ملك على بلاد الغرب، وراقت له الأحوال من نسرين زوجة دياب، فإنها لما قتل زوجها قالت لابنها: «لا بد من أن أولاد عمك يعملون حيلة عليك، ويقتلونك ويرتاحوا من دياب، ويخافون منك لئلا تأخذ ثأرك منهم، فهيا اركب الشهبا وسير عند أحد أصحاب أبوك.» فبينما يصير وقت مناسب لأخذ الثأر، فعند ذلك ركب نصر الدين على الشهبا، وأخذ أمه وراءه وبالطبع هربا.»
وما إن ينتقل بنا راوي
1
السيرة - المحايد - من جانب منتصر، مثل قتل بريقع المنتصر ابن أبي زيد الهلالي، لدياب بن غانم، حتى يعود ملاحقا - سلسال - جانب الصراع المقابل، وهو هذه المرة الأميرة الثاكلة - نسرين - زوجة دياب المغتال، التي بدورها خبأت ابنها نصر الدين في أحراش القبائل الحليفة بدءا باليمن، وانتهاء بالحبشة وغرب إفريقيا حتى الأندلس، لحين اشتداد ساعد نصر الدين بن دياب الطفل، ليكبر منتقما لأبيه، وهو ما تحقق حين نازل نصر الدين بريقع بن أبي زيد قاتل والده دياب، «فقسمه عن جواده أربع قطع»، فعندها دخل نصر الدين إلى تونس، ودخل قصر أبيه دياب وتسلط على كل الغرب، وهذا في نص السيرة.
Unknown page