عرفنا ذلك وعرفه غيرنا ممن شاهده وعاشره أو سمع به، ولما تم بنعمة الله نوره، وامتد صوته وصيته، وسار ذكره في الآفاق، واصطحبت بتحميده زمر الرفاق، وقد شخصت نحوه الأبصار، وامتدت إليه الآمال في كشف الغمة وهداية الأمة، وعلم هو تعين الفرض، وسعى من يقوم بنصرته إليه بالنص، والنهض من أكابر آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وعيون العلماء الأعلام فإنهم[23أ-أ] ملأوا مسامعه بالبعث والحث البليغ على تلافيه الدماء، وقيامه بأمر الدهماء، كالأمير الكبير المتوكل على الله الداعي إليه شمس الدين أبي محمد أحمد بن الإمام المنصور بالله، فإنه لخظه بمخايل النجاة، فصدقت مخيلته، ودعاه إلى القيام، والتصدي للأمر العام، وبذل ما يجب من نصرته، وكذلك الأمير الكبير شيخ العترة ذي الشرفين عماد الدين صنو أمير المؤمنين يحيى بن حمزة وجلة العلماء وهاماتهم دعوه إلى ذلك، وسلكوا بتوجيه الآمال فيه أوضح المسالك، وفي أثناء ذلك يظهر من كراماته وفضائله وبركاته والشفاء بنفثاته، وأدرك كثير من الناس حاجة وطره، على وقف النذر له ما جلبت القلوب معه على محبته، وتواطأت القلوب والألسنة على معرفة حقه، وهو بحر لا ساحل له، لو ذهب ذاهب يصف ما اتفق له من ذلك لاستوعب الطوامير، ثم قوى من خاطره إتيان ثلاء من البلاد الحمزية لحاجة عرضت ولبانة سنحت، فخرج من ذيبين وكان قد نزله وأقام فيه سنين، فتسامع به الناس فحفوا به واكتنفوا بركابه، حتى دخل ثلاء في خلق كثير، وحفل عظيم، وتحدث الناس عن لسان جاء الإمام جاء الإمام؛ لما كانو يرتقبونه ويؤملون، وتلقاه إذ ذاك المشائخ الأجلاء آل منصور بن جعفر ورئيسهم يومئذ الشيخ سيف الدين صدر العرب منصور بن محمد بالانصاف والإتحاف، وألقوا بنفوسهم منحطين بين يديه، باذلين له النصرة بالنفوس والحصون والأموال، فلم ير إلا القيام مستخيرا الله تعالى، واثقا به ومتوكلا عليه ومتبرئا من الحول والقوة إلا به، فقام داعيا إلى الله تعالى على سنن آبائه الأكرمين، متحليا بحلية الإمامة، ناهضا بأثقال الزعامة، مشمرا على نصف الساق، سائقا أعداء دين جده صلى الله عليه وآله وسلم أعنف مساق ، غير واه ولا وان، حتى أسمع الناس من قاص ودان، لم يصفه ريث المبطي ولا أناة المتلكي، حتى خفقت بنوده، ووقرت جنوده، وأرعدت له فرائص الكافرين، وزلزلت أقدام الجاحدين، ولما ولي هذا الأمر العام ازدادت خلال الفضل وخصال النبل فيه على الحك وضوحا وظهورا، واستطارت في الآفاق نورا، فصار له من سعة الصدر ولين الجانب، ودماثة الأخلاق، واحتمال السداد، والاضطلاع بالأعباء الثقال ما لا تشينه السآمة، ولا تزري به في الخاصة والعامة.
قال:
متبذل في القوم وهو مبجل .... متواضع في الحي وهو معظم
يعلو فيعلم أن ذلك حقه .... ويذل فيهم نفسه فيكرم
لا يحسب الإقلال عدما بل يرى .... أن المقل من المروءة معدم
ويفيض نداه على العفاة فيضا لا يتخونه التعقيب، ولايرهقه التضريب[23ب-أ].
تعود بسط الكف حتى لو أنه .... ثناها لقبض لم تطعه أنامله
عطاء لو اسطاع الذي يستميحه .... لأصبح من بين الورى وهو عاذله
Page 73