Silsilat Al-Adab - Al-Munjid
سلسلة الآداب - المنجد
Genres
الحذر من المراء والجدال
ثم من الآداب المهمة في الحوار الحذر من الجدال، فإن اللدد والخصومة من الآفات القاتلة، فيصطبغ الحوار بصبغة التعنت والعناد، ولا يعود القصد هو الحق ولا الهدى، ويتحول الحوار إلى مراء وجدل، فما هو المراء والجدل بالباطل؟ المراء: أن تنكر الحق الذي ظهرت دلالته ظهورًا واضحًا وتتعصب للباطل، والتعصب للمذهب أو الشيخ أو الفئة يحول الحوار إلى مراء وجدال، وينتهي إلى خصومة وفرقة، وتمتلئ الصدور بالأحقاد وتشحن النفوس بالكراهية، والجدل آفة يصاب بها الإنسان غالبًا في المحاورات، والجدل من طبيعة الناس الفارغين، الذي عنده عمل وإنتاج لا يقع في الجدال في الغالب، الذي يقع في الجدال هم أهل الفراغ، ولذلك يهدرون أوقاتهم بالجدال، ومع الأسف فإن عددًا من الشباب يحولون المجالس العلمية، والمحاضن التربوية، والمجتمعات الدعوية إلى مراء وجدال تقضي على البذور الكريمة والفائدة والنفع، وقد قال النبي ﷺ محذرًا: (ما ضل قومًا بعد هدىً آتاهم إلا أوتوا الجدل) وقال: حسَّان بن عطية ﵀: إذا أراد الله بقومٍ شرًا ألقى بينهم الجدل وخزن العلم، فلا يكون علمًا وإنما يعطون الجدل.
لو قال قائل: إن من الجدال ما هو مفيد، ألم يقل الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل:١٢٥] فنقول: إنه تعالى ما قال: ﴿وجادلهم﴾ فقط، وإنما قال: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل:١٢٥] ومعنى ذلك أن الجدال أنواع، فما هي أنواع الجدال؟ الجدال محمودٌ ومذموم.
أولًا: فالجدال المذموم ما كان بغير حجة ولا دليل.
ثانيًا: الجدال لنصرة الباطل والشغب للتمويه على الحق، وكان الكفار يفعلونه كثيرًا، قال تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ﴾ [غافر:٥] وهؤلاء مهما نصحتهم لا يستفيدون، كما قال نوح لقومه: ﴿وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ [هود:٣٤].
ومن الجدال ما يكون محمودًا ومنه ما يكون مذمومًا.
قال إمام الحرمين الجويني ﵀: من الجدال ما يكون محمودًا مرضيًا، ومنه ما يكون مذمومًا محرمًا، فالمذموم منه ما كان لدفع الحق، أو تحقيق العناد، أو ليلبس الحق بالباطل، أو لما لا يطلب به تعرف ولا تقرب، أو للمماراة، أو لطلب الجاه، أو إظهار التفوق على الخصوم، أو أنه يعرف أن عنده لسانة وقدرة على الحوار، وأنه لا يتوقف ولا ينقطع، والله ﷾ ضرب أوجه الجدال المذمومة في قوله تعالى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف:٥٨].
أما الجدال المحمود: فهو الذي يحقق الحق ويكشف عن الباطل، ويهدف إلى الرشد، ويرجى به رجوع المبطل إلى الحق، وهذا المقصود بقوله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل:١٢٥] وقول الله تعالى: ﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة:١٩٧] فالمقصود به الجدال المذموم، أما لو تناقش بعض طلبة العلم في مسائل مثلًا في الحج ليستدلوا بها على السنة؛ كأن يتناقشوا في مكان الوقوف عند رمي الجمرات، وأين يضع الجمرة، فمثل هذا لا يكون جدالًا مضيعًا للوقت ولا منهيًا عنه في الحج؛ لأنه لمصلحة الحج، فإذًا هذا الجدال لمصلحة الحج، ويعظم به الأجر وتصاب السنة
5 / 20