أعجب لهؤلاء الشرقيين الذين لا ينسون الواجبات ولا يتنازلون عن المجاملات حتى في أشد الأوقات عسرا، وفي أقرب الساعات خطرا.
خرج شريف أفندي يشيع سيده الأمير، وعاد بعد قليل بصحبة رجل آخر جلس مكان الأمير وتناول النارجيلة، فشرع يدخن دون مقدمة ودون سلام وهو هادئ البال مطمئن، ثم نظر إلي نظر الجليس الأليف وقال يستأنف الحديث: هذا ما يقوله أعداؤنا يا أفندي، هذه هي التهم التي يتهمون بها زعماءنا كبار الاتحاديين. وطفق يدافع عن الحكومة الاتحادية وعن الجمعية، فقطع شريف أفندي الحديث عليه قائلا بصوت عال ليسمع الجاسوس في الخارج في ذلك المطعم: هي الحقيقة بعينها، وقد أصاب جواد بك، إي والله، أصاب كبد الحقيقة.
أدهشني وحيرني هذا الانقلاب في جلستنا، وما اهتديت إلى كلمة أقولها لشدة استغرابي بما رأيت وبما سمعت.
استطرد الرجل الكلام مدافعا عن الاتحاديين مطريا سياستهم وشريف أفندي يؤمن له: «إي والله، وتمام تمام» حتى ظهر في الباب ثلاثة رجال: شرطيان ورجل في ثوب مدني، دخل الرجل وبقي الشرطيان عند الباب، وكان جواد بك مستمرا في حديثه كأنه لم ير أحدا.
وعندما بادر شريف أفندي إلى استقبال الرجل وقف جواد بك ووقفت، فلم يكترث الداخل علينا، بل أجال في الغرفة الصغيرة نظره وسأل شريف أفندي قائلا: أين الأمير عز الدين؟
فقال شريف أفندي: أعرف الأمير عز الدين بالاسم، ولكني لم أره قط في حياتي.
البوليس السري: بل كان هنا منذ دقائق قليلة. - والنبي، ما كان هنا، وهؤلاء الأفاضل يشهدون على ما أقول. - عار على مثلك وهو قريب من يوم الحساب أن يقسم بالنبي كاذبا. - بل عار على مثلك أن يهين مثلي. اسمع يا أفندي، وثق بما أقول، لم يدخل الأمير عز الدين هذه المكتبة قط، وماذا عساه يريد هنا؟ ما الذي يجيء به إلى مثل هذا المكان الحقير بغلطا؟ لم أر الأمير. أقسم بالنبي ثانية وعساك أن تحترم يميني.
وفي تلك الآونة دخل الرجل الأنيق البزة البهي الطلعة الذي رآه شريف أفندي في المطعم المجاور لمكتبته وقال: أولا تعرفني أنا يا شريف أفندي؟ - ومن لا يعرف سموك يا مولاي؟ رأيتك مرة تجتاز بعربتك الجسر فسألت الله أن يعزك ويحميك وقلت في نفسي: هو ذا زين الأمراء، أما الآن فماذا عساني أقول وقد رأيتك في هذا المطعم تتناول الطعام مع الرعاع؟ فقد طار قلبي جزعا ... وقد تكون سمعت جواد بك يقص على الأفندي قصة أعداء الاتحاديين ويدحض حججهم مدافعا عن الحزب وعن الحكومة، ولا ريب أنك وقد سمعت ذلك تشهد أمام هذا الرجل ...
فقطع الأمير الحديث عليه قائلا: ظننت أني سمعت صوت أخي لا صوت سواه .
وخرج كما دخل دون أن يسلم على أحد، فتبعه البوليس السري والشرطيان.
Unknown page